105- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي لاَ أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلاَ جُنُبٍ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
درجةُ الحديثِ: الحديثُ حَسَنٌ:
في سَنَدِه أَفْلَتُ بنُ خَلِيفَةَ، مجهولُ الحالِ، لكن صَحَّحَه ابنُ خُزَيْمَةَ، وحَسَّنَه ابنُ القَطَّانِ، وكذلك حَسَّنَه الزَّيْلَعِيُّ في نصبِ الرايةِ، وسَكَتَ عنه أَبُو دَاوُدَ فهو عندَه صالحٌ، وقالَ ابنُ سَيِّدِ الناسِ: إنَّ التحسينَ أقلُّ مَرَاتِبِه؛ لِثِقَةِ رُوَاتِه ووجودِ الشواهدِ له من خارِجٍ.
مُفرداتُ الحديثِ:
- لاَ أُحِلُّ المَسْجِدَ: مِن الحلالِ ضِدِّ الحرامِ، والمرادُ: لا أُرَخِّصُ للحائضِ والجُنُبِ أنْ يَمْكُثَا في المَسْجِدِ.
- حَائِضٌ: جَمْعُها حُيَّضٌ، ويَكْفِي ولو بدونِ تاءِ التأنيثِ؛ لأنَّ الحَيْضَ وَصْفٌ مُخْتَصٌّ بالمرأةِ، فلا تَحْتَاجُ للفرقِ بينَها وبينَ الرجلِ إلى التاءِ، بخلافِ الوصفِ المشترَكِ، كـ (قائمٍ) للذَّكَرِ؛ فإنه يقالُ للمرأةِ: (قائِمَةٌ)
- جُنُبٍ: بضمتيْنِ، مَن أصَابَتْه الجَنَابَةُ، يَسْتَوِي فيه المُذَكَّرُ والمؤنَّثُ، والمثنَّى والجمعُ، قالَ تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- تحريمُ المُكْثِ في المسجدِ للحائضِ، ومِثْلُها النُّفَسَاءُ، سواءٌ خُشِيَ مِنها تَلْوِيثُه أو لا، وهو مذهَبُ جُمهورِ العلماءِ.
2- تحريمُ لُبْثِ الجُنُبِ في المسجدِ، أما المرورُ في المسجدِ للجُنُبِ والحائِضِ: فقدْ أجازَهُ أكثرُ العلماءِ؛ لقولِه تعالى: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. والمعنى: اجْتَنِبُوا مواضِعَ الصلاةِ، وهي المساجِدُ، وأنتم جُنُبٌ، إلاَّ عابِرِي طريقٍ.
3- قولُه: ((لاَ أُحِلُّ الْمَسْجِدَ)) المسجِدُ: ذاتٌ وعينٌ، وليسَ معنًى؛ ولذا فإنَّ التحريمَ المفهومَ مِن النهيِ لا يُمْكِنُ أنْ يَنْصَبَّ على تلكَ الذاتِ، وإنما المرادُ منافِعُه مِن المُكْثِ والنومِ ونحوِ ذلكَ، كما قالَ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23]. فليسَ المرادُ الأمَّ ذاتَها، وإنما المرادُ نِكَاحُها.
4- قالَ في المُغْنِي: ويَجُوزُ العبورُ للحاجةِ؛ مِن أخذِ شيءٍ أو تَرْكِه، أو كَوْنِ الطريقِ فيه، وهو مَذْهَبُ مالكٍ والشَّافِعِيِّ، ورُوِيَتِ الرُّخْصَةُ عن ابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عَبَّاسٍ وابنِ المُسَيِّبِ وابنِ جُبَيْرٍ والحَسَنِ.
ودليلُ جَوَازِهِ: الآيةُ الكريمةُ، وحديثُ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لعَائِشَةَ: ((نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ)). قالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ؟ قالَ: ((إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ (298).
وعن جابرٍ قالَ: كانَ أَحَدُنا يَمُرُّ في المسجدِ جُنُباً مُجْتازاً. رَوَاهُ سعيدُ بنُ منصورٍ (645).
وعن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ قالَ: كانَ الرجلُ مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكونُ جُنُباً فَيَتَوَضَّأُ ثمَّ يَدْخُلُ المَسْجِدَ فيَتَحَدَّثُ فيه.
106 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ، مِنَ الْجَنَابَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ: وَتَلْتَقِي أَيْدِينَا.
مُفرداتُ الحديثِ:
- تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ: اخْتَلَفَ الشيئانِ: لم يَتَّفِقَا، ومعنى اختلافِ أَيْدِيهِما في الإناءِ يعني: مِن الإدخالِ فيه والإخراجِ منه؛ وذلك أنْ يُدْخِلَ كلُّ واحدٍ منهما يَدَهُ وتَغْرِفَ من الإناءِ بعدَ يدِ الآخَرِ؛ ولعله لِضِيقِ فَمِ الإناءِ.
وجاءَ في بعضِ رواياتِ البُخَارِيِّ: مِن إناءٍ واحدٍ مِن قَدَحٍ يقالُ له: الفَرَقُ.
والفَرَقُ بفتحتيْنِ قالَ النوويُّ: هو الأَفْصَحُ. قالَ ابنُ الأَثِيرِ: يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلاً.
وجُمْلَةُ "تَخْتَلِفُ" محلُّها النصبُ؛ لأنها حالٌ من قولِه: "مِن إناءٍ واحدٍ"، والجملُ بعدَ المعارفِ أحوالٌ، وبعدَ النَّكِرَاتِ صفاتٌ.
- تَلْتَقِي: تَجْتَمِعَانِ أثناءَ الأخذِ والغَرْفِ من الإناءِ.
- مِنَ الجَنَابَةِ: مُتَعَلِّقٌ بـ "أَغْتَسِلُ"، وفي "مِن" معنى السببيَّةِ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- وُجُوبُ الاغتسالِ مِن الجَنابةِ على الرجلِ والمرأةِ.
2- أنَّ اغتسالَ المرأةِ والرجلِ مِن إناءٍ واحدٍ لا يُؤَثِّرُ في طهارةِ الماءِ بالإجماعِ.
3- أنَّ وَضْعَ الجُنُبِ يَدَهُ في الإناءِ الذي فيه الماءُ لا يَسْلُبُه الطُّهُورِيَّةَ، بل هو باقٍ على طُهُورِيَّتِه.
4- جوازُ أنْ يَرَى كلُّ واحدٍ من الزوجيْنِ بَدَنَ الآخَرِ وعَوْرَتَه، وهو داخلٌ تحتَ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5، 6].
5- استحبابُ التقليلِ من ماءِ الوُضوءِ والغُسْلِ؛ فهذا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وعَائِشَةُ يَغْتَسِلانِ ويَغْتَرِفَانِ مِن إناءٍ واحدٍ.
جاءَ في بعضِ رواياتِ البُخَارِيِّ (250): "مِنْ قَدَحٍ يُقالُ له: الفَرَقُ". والقدحُ: إناءُ شُرْبٍ.
قالَ الباجِيُّ: الصوابُ: أنه صاعانِ أو ثلاثةُ آصُعٍ، كما عليه الجماهيرُ.
6- في الحديثِ حُسْنُ عِشْرَةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهلِه، ومُشارَكَتُه لهم في أحوالِهم وأعمالِهم؛ تَطْيِيباً للقلبِ وإزالةً للكُلْفَةِ.
7- فيه فضلُ أزواجِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا سِيَّما الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصدِّيقِ، فكم نَقَلْنَ للأمَّةِ مِن الأحكامِ الشرعيَّةِ، لا سيَّما الأعمالُ المَنْزِلِيَّةُ التي لا يَطَّلِعُ عليها إلاَّ المُعاشِرُ في المنزلِ.