دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الواسطية

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #8  
قديم 9 ذو الحجة 1429هـ/7-12-2008م, 01:37 PM
فاطمة فاطمة غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 758
افتراضي التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد


وقَوْلُهُ تَعَالى: ( وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ )، وقَوْلُهُ: ( وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ ).( 43)
وقَوْلُه سُبْحَانَهُ: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ ).(44)
وقَوْلُهُ: ( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ …( 45)
يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ ).( 46)


(43) قولـُه: (وَلَوْلاَ): أي وهلاَّ، قولُه: (إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) أي هلاَّ قلتَ حين دخلتَ بُستانـَك. قولُه: (مَا شَاءَ اللهُ): ((ما)) موصولةٌ، أي: الأمرُ ما شاءَ اللهُ إقرارًا بمشيئتِه، أي أنَّه إنْ شاءَ أبقاها، وإنْ شاءَ أفناها، واعترافًا بالعجزِ وأنَّ القدرةَ للهِ سُبْحَانَهُ.
قالَ بعضُ السَّلفِ: من أعجبهُ شيءٌ فليقلْ: ما شاءَ اللهُ لا قوَّةَ إلا باللهِ، وفي هذه الآيةِ وصفُه -سُبْحَانَهُ- بالقوَّةِ وإثباتُ المشيئَةِ له الشَّاملةِ العامَّةِ، فما وقعَ من شيءٍ فقد شاءه وأرادَهُ، لا رَادَّ لأمرِهِ ولا مُعَقِّبَ لِحُكمِه.
قولُه: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ): أي لو شاءَ -سُبْحَانَهُ- عدَمَ اقتتالِهم لم يَقتتِلوا، إذ لا يَجْري في مُلكِه إلا ما شاءَ سُبْحَانَهُ، فهذه الآيةُ فيها إثباتُ المشيئَةِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، وأنَّ ما شاءَه لا بُدَّ من وقوعِه، فكلُّ ما وجِدَ فهو بمشيئتِه -سُبْحَانَهُ- لا رادَّ لأمرِه ولا مُعَقِّبَ لحكمِه، وهذا يُبْطِلُ قولَ المعتزلةِ، لأنَّه أخبرَ أنَّه لو شاءَ أَنْ لا يَقتتِلوا لم يقْتتِلوا، وهم يقولونَ شاءَ أَنْ لا يقتتِلوا فاقتَتلوا، والأدلَّةُ على بُطلانِ قولِ المعتزلةِ كثيرةٌ جدًّا، ومَن أضلُّ سبيلاً وأكفرُ ممَّن يزعمُ أَنَّ اللهَ شاءَ الإيمانَ من الكافرِ، والكافِرَ شَاءَ الكُفرَ، فغلبتْ مشيئَةُ الكافِرِ مشيئَةَ اللهِ: (تعالى اللهُ عن قولِهم) وفيها إثباتُ الفعلِ حقيقةً للهِ، كما يليقُ بجلالِه، وأَنَّ القدرةَ عليه صفةُ كمالٍ، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- لم يزلْ فَعَّالاً لِما يريدُ ولم يزلْ ولا يزالُ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، والفعلُ من لوازمِ الحياةِ، والرَّبُّ لم يزلْ حيًّا فلم يزلْ فعَّالاً، وأفعالُه -سُبْحَانَهُ- كصفاتِه قائمةٌ به، ولولا ذلك لم يكنْ فَعَّالاً ولا موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، فأفعالُه -سُبْحَانَهُ- نوعانِ: لازمةٌ، ومتعدِّيةٌ كما دلَّت على ذلك النُّصوصُ الَّتي لا تُحصى وهي أفعالٌ حقيقةً وليستْ مجازًا، وليستْ كأفعالِ خلقِه، فصفاتُه تليقُ به سُبْحَانَهُ، انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ باختصارٍ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: قولُه: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ): دليلٌ على أمورٍ. أحدِها: أنَّه -سُبْحَانَهُ- يفعلُ بإرادتِهِ ومشيئتِه. الثَّاني: أنَّه لم يزلْ كذلك، لأنَّه ساقَ ذلك في مَعْرِضِ المدحِ والثَّناءِ على نفسِه، وأَنَّ ذلك مِن كمالِه، فلا يجوزُ في وقتٍ من الأوقاتِ أَنْ يكونَ عادمًا لهذا الكمالِ، وما كانَ من أوصافِ كمالِه ونعوتِ جلالِه لم يكنْ حادِثًا بعد أَنْ لم يكن. الثَّالثِ: أنَّه إذا أرادَ شيئًا فعلَهُ، فإنَّ ((ما)) موصولةٌ عامَّةٌ، أي يفعلُ كلَّ ما يريدُ أنْ يفعلَه، وهذا في إرادتِه المتعلِّقةِ بفعلِه، وأمَّا إرادتُه المتعلِّقةُ بفعلِ العبدِ فلها شأنٌ آخرُ، فإنَّ هنا إرادتيْنِ: إرادةَ أَنْ يفعلَ العبدُ، وإرادةَ أنْ يجعلَهُ الرَّبُّ فاعلاً، وليستا مُتلازمتَينِ، وإنْ لزمَ مِن الثَّانيةِ الأولى مِن غيرِ عكسٍ. الرَّابعِ: أنَّ إرادتَه وفعلَه متلازمتانِ، فما أرادَ أنْ يفعلَهُ فعلَه، وما فعلَه فقد أرادَهُ، بخلافِ المخلوقِ، فما ثَمَّ فعَّالٌ لما يريدُ إلا اللهَُ.
الخامسِ: إثباتُ إراداتٍ متعدِّدةٍ بحسَبِ الأفعالِ، وأَنَّ كلَّ فعلٍ له إرادةٌ تخُصُّه، هذا هو المعقولُ في الفِطَرِ.
السَّادسِ: أنَّ كلَّ ما صَلَحَ أَنْ تتعلَّقَ به إرادتُه جازَ فعلُه.

(44) قولـُه: (أُحِلَّتْ) أي أُبيحتْ.
قولُه: (بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ): أي الإبلُ والبقرُ والغنمُ سُمَّيت بهيمةً؛ لأنَّها لا تتكلَّمُ وأمَّا النَّعمُ فهي الإبلُ خاصَّةً.
قولُه: (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ): أي إلا ما يُتلى عليكم تحريمُه في قولِه سُبْحَانَهُ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) الآيةَ.
قولُه: ((غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ): غيرَ نصبٌ على الحالِ، ومعنى الآيةِ: أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ كلُّها إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنَّه صيدٌ لا يَحِلُّ لكم في حالِ الإحرامِ.
قولُه: (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ): أي يحكُمُ ما يريدُ من التَّحليلِ والتَّحريمِ، لا اعتراضَ عليهِ، فهو الحَكَمُ -سُبْحَانَهُ- الحكيمُ لا حاكمَ غيرُهُ، فكلُّ حُكمٍ سوى حكمِه فهو باطلٌ ومردودٌ، وكلُّ حاكِمٍ بغير حُكْمِهِ وحُكْمِ رسولهِ فهو طاغوتٌ كافِرٌ باللهِ، قال تعالى: (وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وهذا عامٌّ شامِلٌ فما من قضيَّةٍ إلا وللهِ فيها حُكمٌ: (مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) ولا شكَّ أنَّ مَنْ أعرضَ عن كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولهِ واعتاضَ عنها بالقوانينِ الوضعيَّةِ أنَّه كافرٌ باللهِ.
وكذلك منْ زَعَمَ أنَّه يسعُهُ الخروجُ عن شريعةِ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كما وَسِعَ الخَضِرَ الخروجُ عن شريعةِ موسى، أو زَعَمَ أنَّ هَديَ غيرِ محمَّدٍ أفضلُ من هديهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أو أحسنُ، أو زعمَ أنَّه لا يسعُ النَّاسَ في مثلِ هذه العصورِ إلا الخروجُ عن الشَّريعةِ وأنَّها كانتْ كافيةً في الزَّمانِ الأوَّلِ فقط، وأَمَّا في هذه الأزمنةِ فالشَّريعةُ لا تُسايرُ الزَّمنَ ولا بُدَّ من تنظيمِ قوانينَ بما يناسبُ الزَّمنَ، لا شكَّ إن اعتقدَ هذا الاعتقادَ أنَّه قد استهانَ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ، وتَنَقَّصَهما فلا شكَّ في كُفرِه وخروجِه عن الدِّينِ، وكذلك مَنْ زعمَ أنَّه محتاجٌ للشَّريعةِ في علمِ الظَّاهرِ دونَ علمِ الباطنِ، أو في علمِ الشَّريعةِ دونَ علمِ الحقيقةِ، أو أنَّ الإنسانَ حُرٌّ في التَّديُّنِ في أيِّ دينٍ شاءَ من يهوديَّةٍ أو نصرانيَّةٍ أو غيِرِ ذلك، أو أنَّ هذه الشَّرائعَ غيرُ منسوخةٍ بدينِ محمَّدٍ، أو استهانَ بدينِ الإسلامِ أو تَنَقَّصَهُ أو هزلَ به أو بشيءٍ من شرائعِه أو بمَن جاءَ به، وكذلك ألحقَ بعضُ العُلماءِ الاستهانةَ بحَمَلَتِه لأجلِ حملِهِ، فهذه الأمورُ كلُّها كفرٌ، قال تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) الآيةَ.
قولُه: (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ): فيها إثباتُ صفةِ الحكمِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، وقد تقدَّمَ أنَّ حُكمَهُ ينقسمُ إلى قِسمين. كونيٍّ، كما في قولِه: (أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي)، وشرعيٍّ: كما في هذه الآيةِ.
قولُه: (مَا يُرِيدُ): فيه إثباتُ الإرادةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه، وأنَّه لم يزلْ مُريدًا بإراداتٍ متعاقِبةٍ، فنوعُ الإرادةِ قديمٌ، وأمَّا إرادةُ الشَّيءِ المعيَّنِ إنَّما يريدُه في وقتِه، فالإرادةُ مِن صفاتِ الفاعلِ، وهي تنقسمُ إلى قِسمين: إرادةٍ كونيَّةٍ قدريَّةٍ، وهذه مُرادِفَةٌ للمشيئةِ، وما أرادَه -سُبْحَانَهُ- كونًا وقدرًا فلابُدَّ مِن وقوعِهِ، فهذه الإرادةُ هي المتعلِّقةُ بالخلقِ وهو أنَّه يريدُ -سُبْحَانَهُ- أنْ يفعلَ هو. الثَّاني: إرادةٌ شرعيَّةٌ دينيَّةٌ، وهذه الإرادةُ المتعلِّقةُ بالأمرِ، وهي أنْ يُريدَ مِن عبدِه أنْ يفعلَ، وهذه مرادفةٌ للمحبَّةِ والرِّضا، فتجتمعُ الإرادتانِ في حقِّ المُخلصِ المُطيعِ، وتنفردُ الإرادةُ الكونيَّةُ في حقِّ العاصي، ومَن لم يُفرِّقْ بين النَّوعين فقدْ ضَلَّ كالجهميَّةِ والقدريَّةِ، فالإرادةُ الكونيَّةُ كقولِه: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ)، والدينيَّةُ كقولِهِ: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ) الآيةَ، فالمحبَّةُ والرِّضا أَخَصُّ مِن الإرادةِ، خلافًا للمعتزلةِ، وأكثرِ الأشاعرةِ القائلين: إنَّ المحبَّةَ والرِّضا والإرادةَ سواءٌ، فأهلُ السُّنَّةِ يقولونَ: إنَّ اللهَ لا يُحبُّ الكفرَ والفسوقَ ولا يَرْضاه، وإنْ كانَ قد أرادَهُ كونًا وقدرًا، كما دخلَتْ سائرُ المخلوقاتِ لِما في ذلك من الحكمةِ، وهو وإنْ كانَ شرًّا بالنَّسبةِ إلى الفاعلِ فليسَ كلُّ ما كان شرًّا بالنِّسبةِ إلى شخصٍ يكونُ عديمَ الحكمةِ، بل للهِ في بعضِ المخلوقاتِ حِكَمٌ قد يعلمُها بعضُ النَّاسِ وقد لا يعلَمُها. انتهى. مِن كلامِ الشـَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ، بتصرُّفٍ.


(45) قولُه: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ): أي مَن شاءَ -سُبْحَانَهُ- أن يَدُلَّهُ ويرشدَهُ ويوفـِّقَهُ ويجعلَ قلبَهُ قابِلاً للخيِر هداهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ووفَّقه، فهدايةُ القلوبِ إليه -سُبْحَانَهُ- يهدي مَن يشاءُ بفضلِه، ويُضلُّ مَنْ يشاءُ بعدلِه، فلا تُطلبُ الهدايةُ إلا منه -سُبْحَانَهُ- فهو الهادِي كما قال: (مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ) وفي الحديثِ: ((كَلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ)) وليستْ هذه الآيةُ معارِضةً لحديثِ عياضِ بن حِمارٍ، عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ اللهُ: ((خَلَقْتُ عِبَادِيَ حُنَفَاءَ _ وفي روايةٍ – مُسْلِمينَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّياطِينُ)) – فإنَّ اللهَ خلقَ بني آدمَ وفطرَهُمْ على قبولِ الإسلامِ والميلِ إليه دونَ غيرهِ، والتَّهيُّؤِ لذلك والاستعدادِ له بالقوَّةِ، لكنْ لا بُدَّ للعبدِ من تعلُّمِ الإسلامِ بالفعلِ، فإنَّه قَبلَ التَّعليمِ جاهلٌ لا يعرفُ شيئًا، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مَّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا) الآيةَ، فإنْ هداهُ اللهُ سبَّبَ له مَن يعلِّمُهُ الإسلامَ فصارَ مهديًّا بالفِعلِ، بعدَ أَنْ كانَ مهديًّا بالقوَّةِ، وإِنْ خَذَلَهُ قَيَّضَ له ما يغيِّرُ له فطرتَه، كما قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) الحديثَ.

(46) قولـُه: (يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ): أي يُوسِّعْ قلبَهُ للإيمانِ، بأَنْ يقذفَ في قلبِه نورًا فينفسحَ له، ويَقْبلَه.
قوله: (ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا): أي ومَنْ شاءَ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يُضلَّهُ عنِ الهُدى يجعلْ صدرَهُ ضيِّقا، أي عن قبولِ الإيمانِ، وحرجًا، أي شديدَ الضِّيقِ، فلا يَبقى فيه منفذٌ للخيرِ، ومكانٌ حَرِجٌ، أي ضيِّقٌ، كثيرُ الشَّجرِ، لا تصِلُ إليه الرَّاعيةُ، والحرجُ أيضا: الإثمُ.
قولُه: (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ): أي إذا كُلِّفَ الإيمانَ كأنَّما يَصَّعدُ في السَّماءِ لشدَّتهِ عليه.
قولُه: (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) يقولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: كما يجعلُ صدرَ مَن أرادَ إضلالَهُ ضيِّقًا كذلك يُسلِّطُ عليه الشَّيطانَ وعلى أمثالِه ممَّن أبَى الإيمانَ باللهِ ورسولِه، فيغُويه ويُصَدُّه عن سبيلِ اللهِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: الرِّجسُ: الشَّيطانُ، وقال مجاهدٌ: الرِّجسُ كلُّ ما لا خيَر فيهِ، وقيلَ: العذابُ، ففي هذه الآيةِ أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيدِ اللهِ، وفيها أنَّ العبدَ مُفتقِرٌ إلى ربِّه في كلِّ شيءٍ، وأنَّ العبادَ لا يملكونَ لأنفسهِم نفعًا ولا ضرًّا، وأنَّ مَن تفرَّدَ بخلقِ العبدِ ورزقِه هو المستحِقُّ أَنْ يُفرَدَ بالألوهيَّةِ والعبادةِ والسُّؤالِ، وأنَّه ليسَ عندَ أحدٍ من هدايةِ القلوبِ وتفريجِ الكروبِ شيءٌ من ذلك، لا الأنبياءُ ولا الملائكةُ ولا غيرُهم، ففيه الرَّدُّ على مَن زعمَ ذلك للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فَضْلا عن غيرِه. ا هـ.
وفي هذه الآيةِ كغيرِها دليلٌ على إثباتِ العلَّةِ والحكمةِ في أفعالِ اللهِ، إذ لا يعقلُ مريدٌ إلا إذا كان المُريدُ قد فعلَ لحكمةٍ يقصدُها بالفعلِ، وإثباتُ الحكمةِ في أفعالِه -سُبْحَانَهُ- هو قولُ السَّلفِ، وجمهورِ المُسلمين، وجمهورِ العُقلاءِ، وقالتْ طائفةٌ كَجَهْمٍ وأتباعِه: إنَّه لم يَخلقْ شيئًا لشيءٍ، ووافقَهُ أبو الحسنِ الأشعريُّ ومَن اتَّبعه، وهم يُثبتُون أنَّه مُريدٌ، ويُنكرونَ أنَّ له حِكمةً يريدُها، وهذا تناقَضٌ، انتهى. مِن كلامِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ بتصرُّفٍ.
وفي هذهِ الآيةِ – كسوابِقها - إثباتُ الإرادةِ للهِ، كما يليقُ بجلالِه، وعُلِمَ ممَّا تقدَّم أنَّ الإرادةَ تنقسمُ إلى قِسمين، وأنَّ المشيئةَ لا تنقسمُ، وأنَّها مرادِفةٌ للإرادةِ الكونيَّةِ، كما عُلِمَ أنَّ المحبَّةَ والرِّضا أخصُّ مِن مطلقِ الإرادةِ، وأنَّ الأدلَّةَ دلَّتْ على الفرقِ بين المشيئةِ والمحبَّةِ والرِّضا، وأنَّ مَنْ جمعَ بينهما فقد ضلَّ ضلالاً مُبينًا، وصادمَ أدلَّةَ الكتابِ والسُّنَّةِ، وجمعَ بيَن ما فَرَّقَ اللهُ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: فالإرادةُ الكونيَّةُ: هي المشيئةُ لما خلقَهُ، وجميعُ المخلوقاتِ داخلةٌ في مشيئتِه وإرادتِه الكونيَّةِ، والإرادةُ الدِّينيَّةُ الشَّرعيَّةُ: هي المتضمِّنةُ للمحبَّةِ والرِّضا، المتناولةُ لجميعِ ما أمرَ به، وجعلَهُ شرعًا ودِينًا، وهذه مختصَّةٌ بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، قال: ومنشأُ ضَلالِ مَن ضَلَّ: هو من التَّسويةِ بينَ المشيئةِ والإرادةِ، وبين المحبَّةِ والرِّضا، فَسوَّى بينهما الجبريَّةُ والقدريَّةُ، فقالت الجبريَّةُ: الكونُ كلُّه بقضائِه وقدرِه، فيكونُ محبوبًا مرضيًّا، وقالتِ القدريَّةُ النُّفاةُ: ليستِ المعاصِي محبوبةً له ولا مرضيَّةً، فليسَتْ مُقدَّرةً ولا مقضيةً، فهي خارجةٌ عن مشيئتِه وخلقِه.
وقد دَلَّ على الفرقِ بيَن المشيئةِ والمحبَّةِ: الكتابُ والسُّنَّةُ والفطرةُ الصَّحيحةُ، أمَّا نصوصُ المشيئةِ والإرادةِ فكقولِه سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا …)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ) وأمَّا نصوصُ المحبَّةِ والرِّضا فكقولِه: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)، وقولِه: (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) الآيةَ. انتهى.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في ((المدارجِ)): ومرادُهُ -سُبْحَانَهُ- نوعانِِ: مُرادٌ يُحبُّه ويرضَاه ويمدحُ فاعِلَه ويوالِيه، فموافقتُه في هذا المُرادِ هي عينُ محبَّتِه، وإرادةُ خلافِه رعونةٌ ومعارضةٌ واعتراضٌ، ومُرادٌ يبغضُه ويكرهُه ويمقتُ فاعلَهُ، فموافقتُه في هذا المُرادِ عينُ مُشاقَّتِه ومعاداتِه، فهذا الموضِعُ موضعُ فُرقانٍ، فالموافقةُ كلُّ الموافقةِ في معارضةِ هذا المُرادِ، واعتراضِه بالدَّفعِ والرَّدِّ. انتهى.
وفي الآيةِ إثباتُ الهدايةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنَّه الهادي لا سِواه، ومِن أسمائِه -سُبْحَانَهُ- الهادي، وهو الَّذي بصَّرَ عبادَهُ وعرَّفهم طريقَ معرفتِه، وهدى كلَّ مخلوقٍ إلى ما لابُدَّ له منه، وتنقسمُ الهدايةُ إلى قِسمين:
الأوَّلِ: هدايةٌ خاصَّةٌ باللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- لا هاديَ غيرُه ولاتُطلبُ إلا منه، وهي هدايةُ التَّوفيقِ والقبولِ والإلهامِ، وهي المُستلزمةُ للاهتداءِ، وهي المذكورةُ في قولِه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ).
الثَّاني: الهدايةُ العامَّةُ، وهي هدايةُ الدَّلالةِ والإرشادِ والبيانِ، وهي المذكورةُ في قولِه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالنـَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو المُبَيِّنُ عن اللهِ، والدَّالُّ على دينِهِ وشرْعِه، وكذلك الأنبياءُ، وأتباعُهم، وهذه الهدايةُ لا تستلزمُ الاهتداءَ، ولهذا ينتفي معها الهُدى، كما في قولِه تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) أي بَيَّنا لثمودَ وأرشدْنَاهم فلم يَهتدُوا.
فالهدايةُ المنفيَّةُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وغيرِه هي: هدايةُ التَّوفيقِ والقبولِ، وأمَّا المثبتةُ له كغيرِه من الأنبياءِ والمُرسلين وأتباعِهم فهي هدايةُ الدَّلالةِ والإرشادِ.
وفي الآيةِ المتقدِّمةِ إثباتُ الصِّفاتِ الفعليَّةِ، وأنَّها تنقسمُ إلى قِسمين: مُتَعَدِّيَةٍ، ولازمةٍ. فالمتعدِّيةُ: ما تعدَّى إلى مفعولٍ، مثلِ خلقَ ورزقَ وهَدَى وأضلَّ. واللازمةُ كقولِه: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ) (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) إلى غيرِ ذلِك ممَّا لا يُحْصى من النَّوعينِ، ذكرَ ذلك الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ، وابنُ القيِّمِ رحمهما اللهُ.
ذكرَ المصنِّفُ - رحمهُ اللهُ تعالى - الآياتِ في إثباتِ المشيئةِ والإرادةِ، ثمَّ ذكرَ الآياتِ في إثباتِ المحبَّةِ والرِّضا، إشارةً إلى الرَّدِّ على مَنْ زعمَ التَّسويةَ بين ما ذُكِرَ، وأنَّ المحبَّةَ والرِّضا والمشيئةَ متلازمان، ولا شكَّ في بُطلانِ هذا القولِ وفسادِه، فالأدلَّةُ الكثيرةُ دلَّتْ على الفرقِ بين محبَّتِهِ ورضاه وإرادتِه.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ في ((المنهاجِ)): فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يقولون: إنَّ اللهَ يُحِبُّ ويَرْضى، كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسُّنَّةُ، ويقولون: إنَّ المحبَّةَ والرِّضا أخصُّ من الإرادةِ، فيقولون: إنَّ اللهَ لا يحبُّ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، ولا يَرضاه، وإنْ كانَ داخلاً في مُرادِه، كما دخلتْ سائرُ المخلوقاتِ، لِما في ذلك من الحكمةِ. انتهى.

 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الإيمان, بصفة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:58 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir