دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > البرهان في علوم القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 05:50 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي النوع الخامس والأربعون: في أقسام معنى الكلام

النوع الخامس والأربعون: في أقسام معنى الكلام
زعم قوم أن معاني القرآن لا تنحصر ولم يتعرضوا لحصرها وحكاية ابن السيد عن أكثر البصريين في زمانه.
وقيل: قسمان: خبر وغير خبر.
وقيل: عشرة: نداء ومسألة وأمر وتشفع وتعجب وقسم وشرط ووضع وشك واستفهام.
وقيل: تسعة وأسقطوا الاستفهام لدخوله في المسألة.
وقيل: ثمانية وأسقطوا التشفع لدخوله في المسأل.
وقيل: سبعة وأسقطوا الشك لأنه في قسم الخبر.
وكان أبو الحسن الأخفش يرى أنها ستة أيضا وهي عنده الخبر والاستخبار والأمر والنهي .
والنداء والتمني وقيل: خمسة الخبر والأمر والتصريح والطلب والنداء وقيل: غير ذلك.
الأول: الخبر والقصد به إفادة المخاطب وقد يشرب مع ذلك معاني أخر.
منها: التعجب قال ابن فارس: وهو تفضيل الشيء على أضرابه بوصف.
وقال ابن الضائع: استعظام صفة خرج بها المتعجب منه عن نظائره نحو: ما أحسن زيدا! وأحسن به! استعظمت حسنه على حسن غيره.
وقال الزمخشري في تفسير سورة الصف: معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله.
وقال الرماني: المطلوب في التعجب الإبهام لأن من شأن الناس أن يتعجبوا مما لا يعرف سببه وكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن قال وأصل التعجب إنما هو للمعنى الخفي سببه والصيغة الدالة عليه تسمى تعجبا يعني مجازا قال: ومن أجل الإبهام لم تعمل نعم إلا في الجنس من أجل التفخيم ليقع التفسير على نحو التفخيم بالإضمار قبل الذكر.
ثم قد وضعوا للتعجب صيغا من لفظه وهي: "ما أَفعَلَه" و"أَفْعِلْ بِهِ وصيغا من غير لفظه نحو: "كَبُر" في نحو: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} {كَيْفَ تَكْفُرُونَ }
واحتج الثمانيني على أنه خبر بقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} تقديره: ما أسمعهم وأبصرهم! والله سبحانه لم يتعجب بهم ولكن دل المكلفين على أن هؤلاء قد نزلوا منزلة من يتعجب منه
وهنا مسألتان:
الأولى: قيل لا يتعجب من فعل الله فلا يقال: ما أعظم الله! لأنه يؤول إلى: شيء عظم الله كما في غيره من صيغ التعجب وصفات الله تعالى قديمة وقيل: بجوازه باعتبار أنه يجب تعظيم الله بشيء من صفاته فهو يرجع لاعتقاد العباد عظمته وقدرته وقد قال الشاعر:

ما أَقْدَرَ اللهَ أن يُدْنَى على شَحَطٍ
مَنْ دَارُهُ الحُزْنُ مِمَنْ دَارُهُ صُولُ

والأولون قالوا: هذا أعرابي جاهل بصفات الله وقال بعض المحققين: التعجب إنما يقال لتعظيم الأمر المتعجب منه ولا يخطر بالبال أن شيئا صيره كذلك وخفي علينا فلا يمتنع حينئذ التعجب من فعل الله.
والثانية: هل يجوز إطلاق التعجب في حق الله تعالى فقيل: بالمنع لأن التعجب استعظام.
ويصحبه الجهل والله سبحانه منزه عن ذلك وبه جزم ابن عصفور في المقرب قال: فإن ورد ما ظاهره ذلك صرف إلى المخاطب كقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي: هؤلاء يجب أن يتعجب منهم وقيل: بالجواز لقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} إن قلنا: "ما" تعجبيه لا استفهامية وقوله: {بَلْ عَجِبْتُ} في قراءة بعضهم بالضم.
والمختار الأول وما وقع منه أول بالنظر إلى المخاطب أي: علمت أسباب ما يتعجب منه العباد فسمي العلم بالعجب عجبا.
وأصل الخلاف في هذه المسألة يلتف على خلاف آخر وهو أن حقيقة التعجب هل يشترط فيه خفاء سببه فيتحيز فيه المتعجب منه أولا؟
ولم يقع في القرآن صيغة التعجب إلا قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} وقوله : {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} و{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا أَغَرَّكَ} في قراءة من زاد الهمزة.
ثم قال المحققون: التعجب مصروف إلى المخاطب ولهذا تلطف الزمخشري فيعبر عنه بالتعجب ومجيء التعجب من الله كمجيء الدعاء منه والترجي وإنما هذا بالنظر إلى ما تفهمه العرب أي هؤلاء عندكم ممن يجب أن تقولوا لهم هذه وكذلك تفسير سيبويه.
قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} قال: المعنى: اذهبا على رجائكما وطمعكما قال ابن الضائع: وهو حسن جدا.
قلت: وذكر سيبويه أيضا قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فقال: لا ينبغي أن تقول إنه دعاء ها هنا لأن الكلام بذلك واللفظ به قبيح ولكن العباد إنما كلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون فكأنه -والله أعلم- قيل لهم: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} و{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي: هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة فقيل: هؤلاء ممن دخل في الهلكة ووجب لهم هذا انتهى
ومنها: الأمر كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} {الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} فإن السياق يدل على أن الله تعالى أمر بذلك لا أنه خبر وإلا لزم الخلف في الخبر وسبق في المجاز.
ومنها: النهي كقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.
ومنها: الوعد كقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ}.
ومنها: الوعيد كقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
ومنها: الإنكار والتبكيت نحو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.
ومنها: الدعاء كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي : أعنا على عبادتك.
وربما كان اللفظ خبرا والمعنى شرطا وجزاء كقوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فظاهره خبر والمعنى: إنا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا.
ومنه قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} من طلق امرأته مرتين فليمسكها بعدهما بمعروف أو يسرحها بإحسان.
ومنها: التمني وكلمته الموضوعة له "ليت" وقد تستعمل ثلاثة أحرف.
أحدها: "هل" كقوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} حملت هل على إفادة التمني لعدم التصديق بوجود شفيع في ذلك المقام فيتولد التمني بمعونة قرينة الحال.
والثاني: "لو" سواء كانت مع "وَدَّ " كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوا} بالنصب أو لم تكن كقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} وقوله: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} {وْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ}.
والثالث: "لعل" كقوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} في قراءة النصب واختلف: هل التمني خبر ومعناه النفي أو ليس بخبر ولهذا لا يدخله التصديق والتكذيب؟ قولان عن أهل العربية حكاهما ابن فارس في كتاب فقه العربية.
والزمخشري بنى كلامه على أنه ليس بخبر واستشكل دخول التكذيب في جوابه وفي قوله تعالى: { لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ} إلى قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وأجاب بتضمنه معنى العدة فدخله التكذيب.
وقال ابن الضائع: التمني حقيقة لا يصح فيه الكذب وإنما يرد الكذب في التمني الذي يترجح عند صاحبه وقوعه فهو إذن وارد على ذلك الاعتقاد الذي هو ظن وهو خبر صحيح
قال: وليس المعنى في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أن ما تمنوا ليس بواقع لأنه ورد في معرض الذم لهم وليس في ذلك المعنى ذم بل التكذيب ورد على إخبارهم عن أنفسهم أنهم لا يكذبون وأنهم يؤمنون.
ومنها: الترجي والفرق بينه وبين التمني أن الترجي لا يكون إلا في الممكنات والتمني يدخل المستحيلات.
ومنها: النداء وهو طلب إقبال المدعو على الداعي بحرف مخصوص وإنما يصحب في الأكثر الأمر والنهي كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ}.
وربما تقدمت جملة الأمر جملة النداء كقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}
وإذا جاءت جملة الخبر بعد النداء تتبعها جملة الأمر كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}.
وقد تجيء معه الجمل الاستفهامية والخبرية كقوله تعالى في الخبر: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} وفي الاستفهام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}.
وهنا فائدتان:
إحداهما: قال الزمخشري رحمه الله: كل نداء في كتاب الله يعقبه فهم في الدين إما من ناحية الأوامر والنواهي التي عقدت بها سعادة الدارين وإما مواعظ وزواجر وقصص لهذا المعنى كل ذلك راجع إلى الدين الذي خلق الخلق لأجله وقامت السموات والأرض به فكان حق هذه أن تدرك بهذه الصيغة البليغة.
الثانية: النداء إنما يكون للبعيد حقيقة أو حكما وفي قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً}.
لطيفة : فإنه تعالى بين أنه كما ناداه ناجاه أيضا والنداء مخاطبة الأبعد والمناجاة مخاطبة الأقرب ولأجل هذه اللطيفة أخبر سبحانه عن مخاطبته لآدم وحواء بقوله: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}.
وفي موضع: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ} ثم لما حكى عنهما ملابسة المخالفة قال في وصف خطابه لهما: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} فأشعر هذا اللفظ بالبعد لأجل المخالفة كما أشعر اللفظ الأول بالقرب عند السلامة منها.
وقد يستعمل النداء في غير معناه مجازا في مواضع:
الأول: الإغراء والتحذير وقد اجتمعا في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} والإغراء أمر معناه الترغيب والتحريض ولهذا خصوا به المخاطب.
الثاني: الاختصاص وهوكالنداء إلا أنه لا حرف فيه.
الثالث: التنبيه نحو: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} لأن حرف النداء يختص بالأسماء.
وقال النحاس في قوله تعالى: {يَا وَيْلَتَى} نداء مضاف والفائدة فيه أن معناه: هذا وقت حضور الويل وقال الفارسي في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} معناه: أنه لو كانت الحسرة مما يصح نداه لكان هذا وقتها.
وقد اختلف في أن النداء خبر أم لا قال أبو البقاء في شرح الإيضاح: ذهب الجميع إلى أن قولك: يا زيد ليس بخبر محتمل للتصديق والتكذيب إنما هو بمنزلة الإشارة والتصويت
واختلفوا في قولك: يا فاسق فالأكثرون على أنه ليس بخبر أيضا قال أبو علي الفارسي: خبر لأنه تضمن نسبته للفسق.
ومنها: الدعاء نحو: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}.
قال سيبويه: هذا دعاء وأنكره ابن الطراوة لاستحالته هنا وجوابه أنه مصروف للخلق وإعلامهم بأنهم أهل لأن يدعى عليهم كما في الرجاء وغيره مما سبق.

فائدة:
ذكر الزمخشري أن الاستعطاف نحو تالله هل قام زيد قسم والصحيح أنه ليس بقسم لكونه خبرا.
الاستخبار وهو الاستفهام.
الثاني: الاستخبار وهو طلب خبر ما ليس عندك وهو بمعنى الاستفهام أي: طلب الفهم ومنهم من فرق بينهما بأن الاستخبار ما سبق أولا ولم يفهم حق الفهم فإذا سألت عنه ثانيا كان استفهاما حكاه ابن فارس في فقه العربية.
ولكون الاستفهام طلب ما في الخارج أو تحصيله في الذهن لزم ألا يكون حقيقة.
إلا إذا صدر من شاك مصدق بإمكان الإعلام فإن غير الشاك إذا استفهم يلزم تحصيل الحاصل وإذا لم يصدق بإمكان الإعلام انتفت فائدة الاستفهام.

وفي الاستفهام فوائد:
الأولى: قال بعض الأئمة: ما جاء على لفظ الاستفهام في القرآن فإنما يقع في خطاب الله تعالى على معنى أن المخاطب عنده علم ذلك الإثبات أو النفي حاصل فيستفهم عنه نفسه تخبره به إذ قد وضعه الله عندها فالإثبات كقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} والنفي كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ومعنى ذلك: أنه قد حصل لكم العلم بذلك تجدونه عندكم إذا استفهمتم أنفسكم عنه فإن الرب تعالى لا يستفهم خلقه عن شيء وإنما يستفهمهم ليقررهم ويذكرهم أنهم قد علموا حق ذلك الشيء فهذا أسلوب بديع انفرد به خطاب القرآن وهو في كلام البشر مختلف.
الثانية: الاستفهام إذا بني عليه أمر قبل ذكر الجواب فهم ترتب ذلك الأمر على جوابه أي جواب كان لأن سبقه على الجواب يشعر بأن ذلك حال من يذكر في الجواب لئلا يكون إيراده قبله عبثا فيفيد حينئذ تعميما نحو: "من جاءك فأكرمَه" بالنصب فإنه لما قال قبل ذكر جواب الاستفهام "أكرمه" علم أنه يكرم من يقول المجيب: إنه جاء أي جاء كان وكذا حكم "من ذا جاءك أكرمْه" بالجزم.
الثالثة: قد يخرج الاستفهام عن حقيقته بأن يقع ممن يعلم ويستغني عن طلب الإفهام.

أقسام الاستفهام:
وهو قسمان: بمعنى الخبر وبمعنى الإنشاء.
الاستفهام بمعنى الخبر.
الأول: بمعنى الخبر وهو ضربان:
أحدهما: نفي والثاني: إثبات فالوارد للنفي يسمى استفهام إنكار والوارد للإثبات يسمى استفهام تقرير لأنه يطلب بالأول إنكار المخاطب وبالثاني إقراره به.

استفهام الإنكار:
فالأول: المعنى فيه على أن ما بعد الأداة منفي ولذلك تصحبه "إلا" كقوله تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} وقوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}.
ويعطف عليه المنفي كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي: لا يهدي وهو كثير.
ومنه: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} أي: لست تنقذ من في النار.
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً}.
وكقوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي: لا نؤمن.
وقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} أي: لا يكون هذا.
وقوله تعالى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أي: ما أنزل.
وقوله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أي: ما شهدوا ذلك.
وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي: ليس ذلك إليك كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}.
وقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} أي: لم نعي به.
وهنا أمران:
أحدهما: أن الإنكار قد يجيء لتعريف المخاطب أن ذلك المدعي ممتنع عليه وليس من قدرته كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} لأن إسماع الصم لا يدعيه أحد بل المعنى أن إسماعهم لا يمكن لأنهم بمنزلة الصم والعمي وإنما قدم الاسم في الآية ولم يقل: "أتسمع الصم" إشارة إلى إنكار موجه عن تقدير ظن منه عليه السلام أنه يختص بإسماع من به صمم وأنه ادعى القدرة على ذلك وهذا أبلغ من إنكار الفعل وفيه دخول الاستفهام على المضارع فإذا قلت أتفعل أو أأنت تفعل احتمل وجهين:
أحدهما: إنكار وجود الفعل كقوله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} والمعنى: لسنا بمثابة من يقع منه هذا الإلزام وإن عبرنا بفعل ذلك جل الله تعالى عن ذلك بل المعنى إنكار أصل الإلزام.
والثاني: قولك لمن يركب الخطر: أتذهب في غير طريق؟ انظر لنفسك واستبصر فإذا قدمت المفعول توجه الإنكار إلى كونه بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل كقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} وقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} المعنى: أغير الله بمثابة من يتخذ وليا.
ومنه: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} لأنهم بنوا كفرهم على أنه ليس بمثابة من يتبع صيغة المستقبل إما أن يكون للحال نحو: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا} أو للاستقبال نحو: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}.
الثاني: قد يصحب الإنكار التكذيب للتعريض بأن المخاطب ادعاه وقصد تكذيبه كقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} وسواء كان زعمهم له صريحا مثل: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} أو التزاما مثل: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} فإنهم لما جزموا بذلك جزم من يشاهد خلق الملائكة كانوا كمن زعم أنه شهد خلقهم وتسمية هذا استفهام إنكار من أنكر إذا جحد وهو إما بمعنى: "لم يكن" كقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} أو بمعنى: "لا يكون" نحو: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}.
والحاصل أن الإنكار قسمان إبطالي وحقيقي:
فالإبطالي: أن يكون ما بعدها غير واقع ومدعيه كاذب كما ذكرنا والحقيقي: يكون ما بعدها واقع وأن فاعله ملوم نحو: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} {أَإِفْكاً آلِهَةً} {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً}.
استفهام التقرير:
وأما الثاني: فهو استفهام التقرير والتقرير: حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده قال أبو الفتح في الخاطريات: ولا يستعمل ذلك بـ "هل" وقال في قوله:
*جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط*
و"هل" لا تقع تقريرا كما يقع غيرها مما هو للاستفهام.
وقال الكندي: ذهب كثير من العلماء في قوله تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} إلى أن "هل" تشارك الهمزة في معنى التقرير والتوبيخ إلا أني رأيت أبا علي أبى ذلك وهو معذور فإن ذلك من قبيل الإنكار ونقل الشيخ أبو حيان عن سيبويه أن استفهام التقرير لا يكون بـ "هل" إنما تستعمل فيه الهمزة ثم نقل عن بعضهم أن "هل" تأتي تقريرا في قوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}.
والكلام مع التقرير موجب ولذلك يعطف عليه صريح الموجب ويعطف على صريح الموجب فالأول: كقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}.
والثاني: كقوله: {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً} على ما قرره الجرجاني في النظم حيث جعلها مثل قوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}.
ويجب أن يلي الأداة الشيء الذي تقرر بها فتقول في تقرير الفعل: "أضربت زيدا" والفاعل نحو: "أأنت ضربت" أو المفعول "أزيدا ضربت" كما يجب في الاستفهام الحقيقي
وقوله تعالى: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ} يحتمل الاستفهام الحقيقي بأن يكونوا لم يعلموا أنه الفاعل والتقرير بأن يكونوا علموا ولا يكون استفهاما عن الفعل ولا تقريرا له لأنه لم يله ولأنه أجاب بالفاعل بقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}.
وجعل الزمخشري منه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقيل: أراد التقرير بما بعد النفي لا التقرير بالنفي والأولى أن يجعل على الإنكار أي: ألم تعلم أيها المنكر للنسخ!
وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار والإنكار نفي وقد دخل على المنفي ونفي المنفي إثبات والذي يقرر عندك أن معنى التقرير الإثبات قول ابن السراج: فإذا أدخلت على "ليس" ألف الاستفهام كانت تقريرا ودخلها معنى الإيجاب فلم يحسن معها "أحد" لأن أحدا إنما يجوز مع حقيقة النفي لا تقول: أليس أحد في الدار لأن المعنى يؤول إلى قولك: أحد في الدار وأحد لا تستعمل في الواجب.
وأمثلته كثيرة كقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أي: أنا ربكم.
وقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}.
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}.
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ}.
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أينقص الرطب إذا جف" وقوله جرير:
*ألستم خير من ركب المطايا*
واعلم أن في جعلهم الآية الأولى من هذا النوع إشكالا لأنه لو خرج الكلام عن النفي لجاز أن يجاب بنعم وقد قيل: أنهم لو قالوا: "نعم" كفروا ولما حسن دخول الباء في الخبر ولو لم تفد لفظة الهمزة استفهاما لما استحق الجواب إذ لا سؤال حينئذ.
والجواب يتوقف على مقدمه وهي أن الاستفهام إذا دخل على النفي يدخل بأحد وجهين:
إما أن يكون الاستفهام عن النفي هل وجد أم لا؟ فيبقى النفي على ما كان عليه أو للتقرير كقوله: ألم أحسن إليك وقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً}.
فإن كان بالمعنى الأول لم يجز دخول نعم في جوابه إذا أردت إيجابه بل تدخل عليه بلى وإن كان بالمعنى الثاني وهو التقرير فللكلام حينئذ لفظ ومعنى فلفظه نفي داخل عليه الاستفهام ومعناه الإثبات فبالنظر إلى لفظه تجيبه ببلى وبالنظر إلى معناه وهو كونه إثباتا تجيبه بنعم
وقد أنكر عبد القاهر كون الهمزة للإيجاب لأن الاستفهام يخالف الواجب وقال: إنها إذا دخلت على "ما" أو "ليس" يكون تقريرا وتحقيقا فالتقرير: كقوله تعالى: {أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} {أَأَنْتَ فَعَلْتَ} واعلم أن هذا النوع يأتي على وجوه:
الأول: مجرد الإثبات كما ذكرنا.
الثاني: الإثبات مع الافتخار كقوله تعالى عن فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ}.
الثالث: الإثبات مع التوبيخ كقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} أي: هي واسعة فهلا هاجرتم فيها.
الرابع: مع العتاب كقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين وما ألطف ما عاتب الله به خير خلقه بقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ولم يتأدب الزمخشري بأدب الله تعالى في هذه الآية.
الخامس: التبكيت كقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} هو تبكيت للنصارى فيما ادعوه كذا جعل السكاكي وغيره هذه الآية من نوع التقرير وفيه نظر لأن ذلك لم يقع منه السادس: التسوية وهي الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها كقوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} أي: سواء عليهم الإنذار وعدمه مجردة للتسوية مضمحلا عنها معنى الاستفهام.
ومعنى الاستواء فيه استواؤهما في علم المستفهم لأنه قد علم أنه أحد الأمرين كائن.
إما الإنذار وإما عدمه ولكن لا يعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين.
فإن قيل: الاستواء يعلم من لفظه سواء لا من الهمزة مع أنه لو علم منه لزم التكرار.
قيل: هذا الاستواء غير ذلك الاستواء المستفاد من لفظة سواء وحاصله أنه كان الاستفهام عن مستويين فجرد عن الاستفهام وبقي الحديث عن المستويين ولا يكون ضرر في إدخال سواء عليه لتغايرهما لأن المعنى أن المستويين في العلم يستويان في عدم الإيمان وهذا -أعنى حذف مقدر واستعماله فيما بقي -كثير في كلام العرب كما في النداء فإنه لتخصيص المنادى وطلب إقباله فيحذف قيد الطلب ويستعمل في مطلق الاختصاص نحو: "اللهم اغفر لنا أيتها العصابة" فإنه ينسلخ عن معنى الكلمة لأن معناه مخصوص من بين سائر العصائب.
ومنه قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا}.
وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}.
{أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}.
وتارة تكون التسوية مصرحا بها كما ذكرناه وتارة لا تكون كقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ}.
السابع : التعظيم كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}.
الثامن: التهويل نحو: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}.
وقوله: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} تفخيم للعذاب الذي يستعجلونه.
التاسع: التسهيل والتخفيف كقوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ}.
العاشر: التفجع نحو: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}.
الحادي عشر: التكثير نحو: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}.
الثاني عشر: الاسترشاد نحو: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} والظاهر أنهم استفهموا.
مسترشدين وإنما فرق بين العبارتين أدبا وقيلك هي هنا للتعجب.

الاستفهام بمعنى الإنشاء.
القسم الثاني : الاستفهام المراد به الإنشاء وهو على ضروب:
الأول: مجرد الطلب وهو الأمر كقوله تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي: اذكروا.
وقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} أي: أسلموا.
وقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي: أحبوا.
وقوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: قاتلوا.
وقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}.
وقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} انتهوا ولهذا قال عمر رضي الله عنه: "انتهينا".
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى: {أَتَصْبِرُونَ} وقال ابن عطية والزمخشري: المعنى أتصبرون أم لا تصبرون؟ والجرجاني في النظم على حذف مضاف أي: لنعلم أتصبرون.
الثاني : النهي كقوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: لا يغرك.
وقوله في سورة التوبة: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} بدليل قوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ}.
الثالث: التحذير كقوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} أي: قدرنا عليهم فنقدر عليكم.
الرابع: التذكير كقوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}.
وجعل بعضهم منه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}.
الخامس: التنبيه وهو من أقسام الأمر كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} والمعنى في كل ذلك: انظر بفكرك في هذه الأمور وتنبه.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} حكاه صاحب "الكافي" عن الخليل ولذلك رفع الفعل ولم ينصبه.
وجعل منه بعضهم: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} للتنبيه على الضلال.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}.
السادس: الترغيب كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ}.
السابع: التمني كقوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ}
{أََنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} قال العزيزي في تفسيره: أي كيف وما أعجب معاينة الإحياء!
الثامن: الدعاء وهو كالنهي إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى كقوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} وقوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} وهم لم يستفهموا لأن الله قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وقيل: المعنى إنك ستجعل وشبهه أبو عبيدة بقول الرجل لغلامه وهو يضربه: ألست الفاعل كذا وقيل: بل هو تعجب وضُعِّف.
وقال النحاس: الأولى ما قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ولا مخالف لهما:
أن الله تعالى لما قال: {نِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قالوا: وما ذاك الخليفة! يكون له ذرية يفسدون ويقتل بعضهم بعضا!
وقيل: المعنى أتجعلهم فيها أم تجعلنا وقيل: المعنى تجعلهم وحالنا هذه أم يتغير.
التاسع والعاشر: العرض والتحضيض والفرق بينهما: الأول طلب برفق والثاني بشق فالأول: كقوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ} والثاني: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}
ومن الثاني: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} المعنى: ائتهم وأمرهم بالاتقاء
الحادي عشر: الاستبطاء كقوله: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بدليل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}.
ومنه ما قال صاحب الإيضاح البياني: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}
وقال الجرجاني: في الآية تقديم وتأخير أي: "حتى يقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب.
والذين آمنوا: متى نصر الله" وهو حسن.
الثاني عشر: الإياس {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}.
الثالث عشر: الإيناس نحو: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}.
وقال ابن فارس: المراد به الإفهام فإن الله تعالى قد علم أن لها أمرا قد خفي على موسى عليه السلام فأعلم من حالها ما لم يعلم.
وقيل: هو للتقرير فيعرف ما في يده حتى لا ينفر إذا انقلبت حية.
الرابع عشر: التهكم والاستهزاء {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} {أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ}.
الخامس عشر: التحقير كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} ومنه ما حكى صاحب الكتاب: من أنت زيدا ؟على معنى من أنت تذكر زيدا!
السادس عشر: التعجب نحو: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ}.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ}.
ومنهم من جعله للتنبيه.
السابع عشر: الاستبعاد كقوله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} أي: يستبعد ذلك منهم بعد أن جاءهم الرسول ثم تولوا.
الثامن عشر: التوبيخ كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}.
{لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}.
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ} ولا تدخل همزة التوبيخ إلا على فعل قبيح أو ما يترتب عليه فعل قبيح.
الفائدة الرابعة: قد يجتمع الاستفهام الواحد للإنكار والتقرير كقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ } أي: ليس الكفار آمنين والذين آمنوا أحق بالآمن ولما كان أكثر مواقع التقرير دون الإنكار قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}.
وقد يحتملهما كقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}.
ويحتمل أنه استفهام تقرير وأنه طلب منهم أن يقروا بما عندهم تقرير ذلك ولهذا قال مجاهد: التقدير "لا" فإنهم لما استفهموا استفهام تقرير بما لا جواب له إلا أن يقولوا "لا" جعلوا كأنهم قالوا وهو قول الفارسي والزمخشري.
ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التوبيخ على محبتهم لأكل لحم أخيهم فيكون ميتة.
والمراد محبتهم له غيبته على سبيل المجاز و{فَكَرِهْتُمُوهُ} بمعنى الأمر أي اكرهوه.
ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التكذيب أنهم لما كانت حالهم حال من يدعي محبة أكل لحم أخيه نسب ذلك إليهم وكذبوا فيه فيكون فكرهتموه.
الخامسة: إذا خرج الاستفهام عن حقيقته فإن أريد التقرير ونحوه لم يحتج إلى معادل كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإن معناه التقرير.
وقال ابن عطية: ظاهره الاستفهام المحض والمعادل على قول جماعة أم يريدون وقيل أم منقطعة فالمعادل عندهم محذوف أي أم علمتم وهذا كله على أن القصد مخاطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخاطبة أمته وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير وكلا القولين مروي انتهى.
وما قاله غير ظاهر والاستفهام هنا للتقرير فيستغنى عن المعادل أما إذا كان على حقيقته فلا بد من تقدير المعادل كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: كمن ينعم في الجنة؟
وقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} أي: كمن هداه الله بدليل قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} التقدير: ذهبت نفسك عليهم حسرات بدليل: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.
وقد جاء في التنزيل موضع صرح فيه بهذا الخبر وحذف المبتدأ على العكس مما نحن فيه وهو قوله تعالى: {أَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} أي: أكمن هو خالد في الجنة يسقى من هذه الأنهار كمن هو خالد في النار على أحد الأوجه.
وجاء مصرحا بهما على الأصل في قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}.
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}.
السادسة: استفهام الإنكار لا يكون إلا على ماض وخالف في ذلك صاحب الأقصى القريب وقال: قد يكون عن مستقبل كقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} قال: أنكر أن حكم الجاهلية مما يبغى لحقارته وأنكر عليهم سلب العزة عن الله تعالى وهو منكر في الماضي والحال والاستقبال.
وهذا الذي قاله مخالف لإجماع البيانيين ولا دليل فيما ذكره بل الاستفهام في الآيتين عن ماض ودخله الاستقبال تغليبا لعدم اختصاص المنكر بزمان ولا يشهد له قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} لأن الاستبدال وهو طلب البدل وقع ماضيا ولا: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} وإن كانت أن تخلص المضارع للاستقبال لأنه كلام ملموح به جانب المعنى وقد ذكر ابن جني في التنبيه أن الإعراب قد يرد على خلاف ما عليه المعنى.
السابعة: هذه الأنواع من خروج الاستفهام عن حقيقته في النفي هل تقول: إن معنى الاستفهام فيه موجود وانضم إليه معنى أخر أو تجرد عن الاستفهام بالكلية؟ لا ينبغي أن يطلق أحد الأمرين بل منه ما تجرد كما في التسوية ومنه ما يبقى ومنه ما يحتمل ويحتمل ويعرف ذلك بالتأمل وكذلك الأنواع المذكورة في الإثبات وهل المراد بالتقرير الحكم بثبوته فيكون خبرا محضا أو أن المراد طلب إقرار المخاطب به مع كون السائل يعلم فهو استفهام تقرير المخاطب أي يطلب أن يكون مقررا به وفي كلام النحاة والبيانيين كل من القولين وقد سبق الإشارة إليه.
الثامنة: الحروف الموضوعة للاستفهام ثلاثة: الهمزة وهل وأم وأما غيرها مما يستفهم به كمن وما ومتى وأين وأنى وكيف وكم وأيان فأسماء استفهام استفهم بها نيابة عن الهمزة وهي تنقسم إلى ما يختص بطلب التصديق باعتبار الواقع كهل وأم المنقطعة وما يختص بطلب التصور كأم المتصلة وما لا يختص كالهمزة.

أحكام اختصت بها همزة الاستفهام:
ولكون الهمزة أم الباب اختصت بأحكام لفظية ومعنوية.
فمنها: كون الهمزة لا يستفهم بها حتى يهجس في النفس إثبات ما يستفهم عنه بخلاف "هل" فإنه لا ترجح عنده بنفي ولا إثبات حكاه الشيخ أبو حيان عن بعضهم
ومنها: اختصاصها باستفهام التقرير وقد سبق عن سيبويه وغيره أن التقرير لا يكون بـ "هل" والخلاف فيه.
وقال الشيخ أبو حيان: إن طلب بالاستفهام تقرير أو توبيخ أو إنكار أو تعجب كان بالهمزة دون "هل" وإن أريد الجحد كان بهل ولا يكون بالهمزة.
ومنها: أنها تستعمل لإنكار إثبات ما يقع بعدها كقولك: أتضرب زيدا وهو أخوك قال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ولا تقع "هل" هذا الموقع وأما قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} فليس منه لأن هذا نفي له من أصله والممنوع من إنكار إثبات ما وقع بعدها قاله ابن الحاجب.
ومنها: أنها يقع الاسم منصوبا بعدها بتقدير ناصب أو مرفوعا بتقدير رافع يفسره ما بعده كقولك: أزيدا ضرب وأزيد قام ولا تقول: هل زيدا ضربت ولا هل زيد قام إلا على ضعف
وإن شئت فقل: ليس في أدوات الاستفهام ما إذا اجتمع بعده الاسم والفعل بليه الاسم في فصيح الكلام إلا الهمزة فتقول: أزيد قام ولا تقول: هل زيد قام إلا في ضرورة بل الفصيح هل قام زيد ومنها أنها تقع مع أم المتصلة ولا تقع مع هل وأما المنقطعة فتقع فيهما جميعا فإذا قلت: أزيد عندك أم عمرو فهذا الموضع لا تقع فيه هل ما لم تقصد إلى المنقطعة ذكره ابن الحاجب.
ومنها: أنها تدخل على الشرط تقول: أإن أكرمتني أكرمتك وأإن تخرج أخرج معك أإن تضرب أضرب؟ ولا تقول: هل إن تخرج أخرج معك؟
ومنها: جواز حذفها كقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} وقوله تعالى: {هَذَا رَبِّي} في أحد الأقوال وقراءة ابن محيصن: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ}.
ومنها: زعم ابن الطراوة أنها لا تكون أبدا إلا معادلة أو في حكمها بخلاف غيرها فتقول: أقام زيد أم قعد؟ ويجوز ألا يذكر المعادل لأنه معلوم من ذكر الضد.
ورد عليه الصفار وقال: لا فرق بينها وبين غيرها فإنك إذا قلت: هل قام زيد؟ فالمعنى هل قام أم لم يقم؟ لأن السائل إنما يطلب اليقين وذلك مطرد في جميع أدوات الاستفهام قال: وأما قوله: إنه عزيز في كلامهم لا يأتون لها بمعادل فخطأ بل هو أكثر من أن يحصر قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا} وهو كثير جدا.
ومنها: تقديمها على الواو وغيرها من حروف العطف فتقول: أفلم أكرمك؟ أولم أحسن إليك؟ قال الله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} وقال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً} وقال تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} فتقدم الهمزة على حروف العطف الواو والفاء وثم وكان القياس تأخيرها عن العاطف فيقال: فألم أكرمك؟ وألم أحسن إليك؟ كما تقدم على سائر أدوات الاستفهام نحو قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} وقوله تعالى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} فلا يجوز أن يؤخر العاطف عن شيء من هذه الأدوات لأن أدوات الاستفهام جزء من جملة الاستفهام والعاطف لا يقدم عليه جزء من المعطوف وإنما خولف هذا في الهمزة لأنها أصل أدوات الاستفهام فأرادوا تقديمها تنبيها على أنها الأصل في الاستفهام لأن الاستفهام له صدر الكلام.
والزمخشري اضطرب كلامه فتارة يجعل الهمزة في مثل هذا داخله على محذوف عطف عليه الجملة التي بعدها فيقدر بينهما فعلا محذوفا تعطف الفاء عليه ما بعدها وتارة يجعلها متقدمة على العاطف كما ذكرناه وهو الأولى.
وقد رد عليه في الأول بأن ثم مواضع لا يمكن فيها تقدير فعل قبلها كقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ}.
وقال ابن خطيب زَمَلُكا: الأوجه أن يقدر محذوف بعد الهمزة قبل الفاء تكون الفاء عاطفة عليه ففي مثل قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ } لو صرح به لقيل: "أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملك أنبيائهم بعد موتهم"؟ وهذا مذهب الزمخشري.

فائدة:
زعم ابن سيده في كلامه على إثبات الجمل أن كل فعل يستفهم عنه ولا يكون إلا مستقبلا
ورد عليه الأعلم وقال: هذا باطل ولم يمنع أحد: هل قام زيد أمس؟ وهل أنت قائم أمس؟ وقد قال تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} فهذا كله ماض غير آت.

الشرط:
الثالث: الشرط ويتعلق به قواعد.
القاعدة الأولى : المجازاة إنما تنعقد بين جملتين:
أولاهما: فعلية لتلائم الشرط مثل قوله تعالى: {يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ} {استقر اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} {رِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} {يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً}.
وثانيهما: قد تكون اسمية وقد تكون فعلية جازمة وغير جازمة أو ظرفية أو شرطية كما يقال: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} {شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} {فَأْتِ بِآيَةٍ} {فَسَوْفَ تَرَانِي} {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ}.
فإذا جمع بينهما وبين الشرط اتحدتا جملة واحدة نحو قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وقوله سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} وقوله: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} وقوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} وقوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} فالأولى من جملة المجازاة تسمى شرطا والثانية تسمى جزاء ويسمي المناطقة الأول مقدما والثاني تاليا فإذا انحل الرباط الواصل بين طرفي المجازاة عادة الكلام جملتين كما كان.
فإن قيل: فمن أي أنواع الكلام تكون هذه الجملة المنتظمة من الجملتين.
قلنا: قال صاحب المستوفى: العبرة في هذا بالتالي إن كان التالي قبل الانتظام جازما كان هذه الشرطية جازمة -أعني خبرا محضا- ولذلك جاز أن توصل بها الموصولات كما في قوله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} وإن لم يكن جازما لم تكن جازمة بل إن كان التالي أمرا فهي في عداد الأمر كقوله تعالى: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وإن كانت رجاء فهي في عداد الرجاء كقوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أي: فهذا التسويف بالنسبة إلى المخاطب فإن جعلت سوف بمعنى أمكن كان الكلام خبرا صرفا فأما الفاء التي تلحق التالي معقبة فللاحتياج إليها حيث لا يمكن أن يرتبط التالي بذاته ارتباطا وذلك إن كان افتتح بغير الفعل كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقوله سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} لأن الاسم لا يدل على الزمان فيجازى به.
وكذلك الحرف إن كان مفتتحا بالأمر كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} لأن الأمر لا يناسب معناه الشرط فإن كان مفتتحا بفعل ماض أو مستقبل ارتبط بذاته نحو قولك: إن جئتني أكرمتك ونحو قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} وكذا قوله: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} لأن هذه كالجزء من الفعل وتخطاها العامل وليست كـ "إن" في قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}.
فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}.
قلنا الأظهر أن يكون كل واحد منهما محمولا على الاسم كما أن التقدير "فأنتما قد صغت قلوبكما" و"فهو ينتقم الله منه" يدلك على هذا أن صغت لو جعل نفسه الجزاء للزم أن يكتسب من الشرط معنى الاستقبال وهذا غير مسوغ هنا ولو جاز لجاز أن تقول: أنتما إن تتوبا إلى الله صغت أو فصغت قلوبكما لكن المعنى: إن تتوبا فبعد صغو من قلوبكما ليتصور فيه معنى الاستقبال مع بقاء دلالة الفعل على الممكن وأن ينتقم لو جعل وحده جزاء لم يدل على تكرار الفعل كما هو الآن والله أعلم بما أراد.
الثانية: أصل الشرط والجزاء أن يتوقف الثاني على الأول بمعنى أن الشرط إنما يستحق جوابه بوقوعه هو في نفسه كقولك: إن زرتني أحسنت إليك فالإحسان إنما استحق بالزيارة وقولك: إن شكرتني زرتك فالزيارة إنما استحقت بالشكر هذا هو القاعدة.
وقد أورد على هذا آيات كريمات:
منها قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وهم عباده عذبهم أو رحمهم.
وقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وهو العزيز الحكيم غفر لهم أو لم يغفر لهم وقوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وصغو القلوب هنا لأمر قد وقع فليس بمتوقف على ثبوته.
والجواب أن هذه في الحقيقة ليست أجوبة وإنما جاءت عن الأجوبة المحذوفة لكونها أسبابا لها
فقوله: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الجواب في الحقيقة: فتحكم فيمن يحق لك التحكم فيه وذكر العبودية التي هي سبب القدرة.
وقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ} فالجواب: فأنت متفضل عليهم بألا تجازيهم بذنوبهم فكمالك غي مفتقر إلى شيء فإنك أنت العزيز الحكيم.
وقال صاحب المستوفى: اعلم أن المجازاة لا يجب فيها أن يكون الجزاء موقوفا على الشرط أبدا ولا أن يكون الشرط موقوفا على الجزاء أبدا بحيث يمكن وجوده ولا أن تكون نسبة الشرط دائما إلى الجزاء نسبة السبب إلى المسبب بل الواجب فيها أن يكون الشرط بحيث إذا فرض حاصلا لزم مع حصوله حصول الجزاء سواء كان الجزاء قد يقع لا من جهة وقوع الشرط كقول الطبيب من استحم بالماء البارد احتقنت الحرارة باطن حسده لأن احتقان الحرارة قد يكون لا عن ذلك أو لم يكن كذلك كقولك: إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا
وسواء كان الشرط ممكنا في نفسه كالأمثلة السابقة أو مستحيلا كما في قوله تعالى:
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}.
وسواء كان الشرط سببا في الجزاء ووصلة إليه كقوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أو كان الأمر بالعكس كقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أو كان لا هذا ولا ذاك فلا يقع إلا مجرد الدلالة على اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} إذ لا يجوز أن تكون الدعوة سببا للضلال ومفضية إليه ولا أن يكون الضلال مفضيا إلى الدعوة وقد يمكن أن يحمل على هذا قوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} وعلى هذا ما يكون من باب قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} فإن التأويل: إن يمسسكم قرح فمع اعتبار قرح قد مسهم قبل والله أعلم بمراده.
الثالثة: أنه لا يتعلق إلا بمستقبل فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى كقولك إن مت على اإسلام دخلت الجنة ثم للنحاة فيه تقديران:
أحدهما: أن الفعل يغير لفظا لا معنى فكأن الأصل إن تمت مسلما تدخل الجنة فغير لفظ المضارع إلى الماضي تنزيلا له منزلة المحقق.
والثاني: أنه تغير معنى وإن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال وبقي لفظه على حاله.
والأول أسهل لأن تغيير اللفظ أسهل من تغيير المعنى.
وذهب المبرد إلى أن فعل الشرط إذا كان لفظ كان بقي على حاله من المضي لأن كان جردت عنده للدلالة على الزمن الماضي فلم تغيرها أدوات الشرط وقال إن كان مخالفة في هذا الحكم لسائر الأفعال وجعل منه قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} والجمهور على المنع وتأولوا ذلك ثم اختلفوا.
فقال ابن عصفور والشلوبين وغيرهما: إن حرف الشرط دخل على فعل مستقبل محذوف أي إن أكن كنت قلته أي إن أكن فيما يستقبل موصوفا بأني كنت قلته فقد علمته ففعل الشرط محذوف مع هذا وليست "كان" المذكورة بعدها هي فعل الشرط.
قال ابن الضائع: وهذا تكلف لا يحتاج إليه بل {كُنْتُ} بعد {إِنْ} مقلوبة المعنى إلى الاستقبال ومعنى: {إِنْ كُنْتُ} إن أكن فهذه التي بعدها هي التي يراد بها الاستقبال لا أخرى محذوفة وأبطلوا مذهب المبرد بأن كان بعد أداة الشرط في غير هذا الموضع قد جاءت مرادا بها الاستقبال كقوله تعالى: {وإن وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}.
وقد نبه في "التسهيل" في باب الجوازم على أن فعل الشرط لا يكون إلا مستقبل المعنى واختار في كان مذهب الجمهور إذ قال ولا يكون الشرط غير مستقبل المعنى بلفظ كان أو غيرها إلا مؤولا واستدرك عليه "لو" و"لما" الشرطيتين فإن الفعل بعدهما لا يكون إلا ماضيا فتعين استثناؤه من قوله: لا يكون إلا مستقبل المعنى.
وأما قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى {إِنْ وَهَبَتْ} فوقع فيها "أحللنا" المنطوق به أو المقدر على القولين جواب الشرط مع كون الإحلال قديما فهو ماض وجوابه أن المراد: "إن وهبت فقد حلت" فجواب الشرط حقيقة الحل المفهوم من الإحلال لا الإحلال نفسه وهذا كما أن الظرف من قولك: "قم غدا" ليس هو لفعل الأمر بل للقيام المفهوم منه
وقال البيانيون: يجيء فعل الشرط ماضي اللفظ لأسباب.
منها: إيهام جعل غير الحاصل كالحاصل كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً}.
ومنها: إظهار الرغبة من المتكلم في وقوعه كقولهم: إن ظفرت بحسن العاقبة فذاك وعليه قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أي: امتناعا من الزنا جيء بلفظ الماضي ولم يقل يردن إظهارا لتوفير رضا الله ورغبة في إرادتهن التحصين.
ومنها: التعريض بأن يخاطب واحدا ومراده غيره كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.
الرابعة: جواب الشرط أصله الفعل المستقبل وقد يقع ماضيا لا على أنه جواب في الحقيقة نحو: إن أكرمتك فقد أكرمتني اكتفاء بالموجود عن المعدوم.
ومثله قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} ومس القرح قد وقع بهم والمعنى: إن يؤلمكم ما نزل بكم فيؤلمهم ما وقع فالمقصود ذكر الألم الواقع لجميعهم فوقع الشرط والجزاء على الألم وأما قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فعلى وقوع الماضي موقع المستقبل فيهما دليله قوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} تكن قد علمته وهو عدول إلى الجواب إلى ما هو أبدع منه كما سبق.
وأما قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} فالمعنى- والله أعلم-: ما أنت بمصدق لنا ولو ظهرت لك براءتنا بتفضيلك إياه علينا وقد أتوه بدلائل كاذبة ولم يصدقهم وقرّعوه بقولهم: {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وإجماعهم على إرادة قتله ثم رميهم له في الجب أكبر من قولهم: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} عندك.
الخامسة: أدوات الشرط: حروف وهي إن وأسماء مضمّنة معناها ثم منها ما ليس بظرف كمن وما وأي ومهما وأسماء هي ظروف أين وأينما ومتى وحيثما وإذ ما وأقواها دلالة على الشرط دلالة "إن" لبساطتها ولهذا كانت أم الباب.
وما سواها فمركب من معنى "إن" وزيادة معه فمن معناه كل في حكم إن وما معناه كل شيء إن وأينما وحيثما يدلان على المكان وعلى إن وإذ ما ومتى يدلان على الشرط والزمان
وقد تدخل "ما" على "إن" وهي أبلغ في الشرط من "إن" ولذلك تتلقى بالنون المبني عليها المضارع نحو: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ} وقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا}.
ومما ضمن معنى الشرط "إذا" وهي كـ "إن" ويفترقان في أن "إن" تستعمل في المحتمل المشكوك فيه ولهذا يقبح: إن احْمَرّ البسر كان كذا وإن انتصف النهار آتك وتكون "إذا" للجزم فوقوعه إما تحقيقا نحو: إذا أطلعت الشمس كان كذا أو اعتبارا كنا سنذكره
قال ابن الضائع: ولذلك إذا قيل: "إذا احمر البسر فأنتِ طالق" وقع الطلاق في الحال عند مالك لأنه شيء لابد منه وإنما يتوقف على السبب الذي قد يكون وقد لا يكون وهذا هو الأصل فيهما.
وقد تستعمل "إن" في مقام الجزم لأسباب:
منها: أن تأتي على طريقة وضع الشرطي المتصل الذي يوضع شرطه تقديرا لتبيين مشروطه تحقيقا كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ} وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ}.
ومنها: أن تأتي على طريق تبيين الحال على وجه يأنس به المخاطب وإظهارا للتناصف في الكلام كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي}
ومنها: تصوير أن المقام لا يصلح إلا بمجرد فرض الشرط كفرض الشيء المستحيل كقوله تعالى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} والضمير للأصنام ويحتمل منه ما سبق فيه قوله تعالى: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ}.
ومنها: لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب مدلول الشرط وانه واجب الانتفاء حقيق ألا يكون كقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} فيمن يكسر "إِنَّ" فاستعملت "إن" في مقام الجزم بكونهم "مسرفين" لتصور أن الإسراف ينبغي أن يكون منتفيا فأجراه لذلك مجرى المحتمل المشكوك.
ومنها: تنبيه المخاطب وتهييجه كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} والمعنى: عبادتكم لله تستلزم شكركم له فإن كنتم ملتزمين عبادته فكلوا من رزقه واشكروه وهذا كثيرا ما يورد في الحجاج والإلزام تقول: "إن كان لقاء الله حقا فاستعد له".
وكذا قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ}.
ومنها: التغليب كقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} فاستعمل "إن" مع تحقق الارتياب منهم لأن الكل لم يكونوا مرتابين فغلب غير المرتابين منهم على المرتابين لأن صدور الارتياب من غير الارتياب مشكوك في كونه فلذلك استعمل "إن" على حد قوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ }.
واعلم أن "إن" لأجل أنها لا تستعمل إلا في المعاني المحتملة كان جوابها معلقا على ما يحتمل أن يكون وألا يكون فيختار فيه أن يكون بلفظ المضارع المحتمل للوقوع وعدمه ليطابق اللفظ والمعنى فإن عدل عن المضارع إلى الماضي لم يعدل إلا لنكتة كقوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} فأتى الجواب مضارعا وهو "يكونوا" وما عطف عليه وهو "يبسطوا" مضارعا أيضا وأنه قد عطف عليه "ودوا" بلفظ الماضي وكان قياسه المضارع لأن المعطوف على الجواب جواب ولكنه لما لم يحتمل ودادتهم لكفرهم من الشك فيها ما يحتمله أنهم إذا ثقفوهم صاروا لهم أعداء وبسطوا أيديهم إليهم بالقتل وألسنتهم بالشتم أتى فيه بلفظ الماضي لأن ودادتهم في ذلك مقطوع بها وكونهم أعداء وباسطي الأيدي والألسن بالسوء مشكوك لاحتمال أن يعرض ما يصدهم عنه فلم يتحقق وقوعه.
وأما "إذا" فلما كانت في المعاني المحققة غلب لفظ الماضي معها لكونه أدل على الوقوع باعتبار لفظه في المضارع قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} بلفظ الماضي مع "إذا" في جواب الحسنة حيث أريد مطلق الحسنة لا نوع منها ولهذا عرفت تعريف العهد ولم تنكر كما نكر المراد به نوع منها في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وكما نكر الفعل حيث أريد به نوع في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} وبلفظ المضارع مع إن في جانب السيئة وتنكيرها بقصد النوع.
وقال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} لفظ الماضي مع "إذا" والمضارع مع "إن" إلا أنه نكرت الرحمة ليطابق معنى الإذاقة بقصد نوع منها والسيئة بقصد النوع أيضا.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} أتى بـ "إذا" لما كان مس الضر لهم في البحر محققا بخلاف قوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} فإنه لم يقيد مس الشر ها هنا بل أطلقه.
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الضر له فكان الإتيان بإذا أدل على المقصود من إن بخلاف قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} فإنه لقلة صبره وضعف احتماله في موقع الشر أعرض والحال في الدعاء فإذا تحقق وقوعه كان يئوسا وأما قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} مع أن الهلاك محقق لكن جهل وقته فلذلك جيء بإن.
ومثله قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} فأتى بإن المقتضية للشك والموت أمر محقق ولكن وقته معلوم فأورد مورد المشكوك فيه المتردد بين الموت والقتل.
وأما قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} مع أن مشيئة الله محققة فجاء على تعليم الناس كيف يقولون وهم يقولون في كل شيء على جهة الاتباع لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فيقول الرجل في كل شيء: إن شاء الله على مخبر به مقطوعا أو غير مقطوع وذلك سنة متبعة.
ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" ويحتمل أن تكون للإبهام في وقت اللحوق متى يكون.
تنبيه: سكت البيانيون عما عدا "إذا" و"إن" وألحق صاحب البسيط وابن الحاجب "متى" بأن قال: لا تقول: متى طلعت الشمس؟ مما علم أنه كائن بل تقول: متى تخرج أخرج وقال الزمخشري في الفصل بين "متى" و"إذ": إن متى للوقت المبهم وإذا للمعين لأنهما ظرفا زمان ولإبهام متى جزم بها دون إذا.
السادسة: قد يعلق الشرط بفعل محال يستلزمه محال آخر وتصدق الشرطية دون مفرديها أما صدقها فلاستلزام المحال وأما كذب مفرديها فلاستحالتهما.
وعليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}.
وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.
وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} الآية.
وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران:
أحدهما: بيان استلزام إحدى القضيتين للأخرى والثاني: أن اللازم منتف فالملزوم كذلك.
وقد تبين بهذا أن الشرط يعلق به المحقق الثبوت والممتنع الثبوت والممكن الثبوت.
السابعة: الاستفهام إذا دخل على الشرط كقوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} وقوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ونظائره فالهمزة في موضعها ودخولها على أداة الشرط والفعل الثاني الذي هو جزاء الشرط ليس جزاء للشرط وإنما هو المستفهم عنه والهمزة داخلة عليه تقديرا فينوى به التقديم وحينئذ فلا يكون جوابا بل الجواب محذوف والتقدير عنده: "أأنقلبتم على أعقابكم إن مات محمد"؟ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته
ويقول يونس: قال كثير من النحويين إنهم يقولون: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها لأن الغرض إنما هو: "أتنقلبون إن مات محمد"
وقال أبو البقاء: قال يونس: الهمزة في مثل هذا أحقها أن تدخل على جواب الشرط تقديره: "أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد" لأن الغرض التنبيه أو التوبيخ على هذا الفعل المشروط ومذهب سيبويه الحق لوجهين: أحدهما أنك لو قدمت الجواب لم يكن للفاء وجه إذ لا يصح أن تقول: أتزورني فإن زرتك ومنه قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} والثاني : أن الهمزة لها صدر الكلام وإن لها صدر الكلام فقد وقعا في موضعهما والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجواب لأنهما كالشيء الواحد انتهى.
وقد رد النحويون على يونس بقوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} لا يجوز في {فَهُمُ}أ ن ينوى به التقديم لأنه يصير التقدير: أفهم الخالدون فإن مت؟ وذلك لا يجوز لئلا يبقى الشرط بلا جواب إذ لا يتصور أن يكون الجواب محذوفا يدل عليه ما قبله لأن الفاء المتصلة بإن تمنعه من ذلك ولهذا يقولون: أنت ظالم إن فعلت ولا يقولون: أنت ظالم فإن فعلت فدل ذلك على أن أدوات الاستفهام إنما دخلت لفظا وتقديرا على جملة الشرط والجواب.
الثامنة: إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء ثم ذكر فعل الشرط ولم يذكر له جواب نحو: أقوم إن قمت وأنت طالق إن دخلت الدار فلا تقدير عند الكوفيين بل المقدم هو جواب وعند البصريين دليل الجواب.
والصحيح هو الأول لأن الفاء لا تدخل عليه ولو كان جوابا لدخلت ولأنه لو كان مقدما من تأخير لما افترق المعنيان وهما مفترقان ففي التقدم بني الكلام على الخبر ثم طرأ التوقف وفي التأخير بني الكلام من أوله على الشرط كذا قاله ابن السراج وتابعه ابن مالك وغيره ونوزعا في ذلك بل مع التقديم الكلام مبني على الشرط كما لو قال: له عليَّ عشرة إلا درهما فإنه لم يقر بالعشرة ثم أنكر منها درهما ولو كان كذلك لم ينفعه الاستثناء ثم زعم ابن السراج أن ذلك لا يقع إلا في الضرورة وهو مردود بوقوعه في القرآن كقوله: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
التاسعة: إذا دخل على أداة الشرط واو الحال لم يحتج إلى جواب نحو: أحسن إلى زيد وإن كفرك واشكره وإن أساء إليك أي أحسن إليه كافرا لك واشكره مسيئا إليك.
فإن أجيب الشرط كانت الواو عاطفة لا للحال نحو: أحسن إليه وإن كفرك فلا تدع الإحسان إليه واشكره وان أساء إليك فأقم على شكره ولو كانت الواو هنا للحال لم يكن هناك جواب.
قال ابن جني: وإنما كان كذلك لأن الحال فضلة وأصل وضع الفضلة أن تكون مفردا كالظرف والمصدر والمفعول به فلما كان كذلك لم يجب الشرط إذا وقع موقع الحال لأنه لو أجيب لصار جملة والحال إنما هي فضلة فالمفرد أولى بها من الجملة والشرط وإن كان جملة فإنه يجري عندهم مجرى الآحاد من حيث كان محتاجا إلى جوابه احتياج المبتدأ إلى الخبر
العاشرة: الشرط والجزاء لابد أن يتغاير لفظا وقد يتحدان فيحتاج إلى التأويل كقوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} والآية التي تليها: {مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً} ثم قال: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} فقيل على حذف الفعل أي من أراد التوبة فإن التوبة معرضة له لا يحول بينه بينها حائل ومثله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي: أردت ويدل لهذا تأكيد التوبة بالمصدر.
وأما قوله تعالى: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} فقال الزمخشري: يجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره على أقامة الظاهر مقام المضمر والأصل جزاؤه من وجد في رحلة فهو هو فوضع الجزاء موضع هو.
وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} قدره ابن عباس: "من يرد الله هدايته" فلا يتحد الشرط والجزاء ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقد سبق فيها أقوال كثيرة
وقد يتقاربان في المعنى كقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} وقوله: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}.
والنكتة في ذلك كله تفخيم الجزاء والمعنى أن الجزاء هو الكامل البالغ النهاية يعني من يبخل في أداء ربع العشر فقد بالغ في البخل وكان هو البخيل في الحقيقة.
الحادية عشرة: في اعتراض الشرط على الشرط وقد عدوا من ذلك آيات شريفة بعضها مستقيم وبعضها بخلافه.
الآية الأولى: قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} الآية.
قال الفارسي: قد اجتمع هنا شرطان وجواب واحد فليس يخلو إما أن يكون جوابا لأما أو لإن ولا يجوز أن يكون جواب لهما لأنا لم نر شرطين لهما جواب واحد ولو كان هذا لجاز شرط واحد له جوابان ولا يجوز أن يكون جوابا لـ "إن" دون "أما" لأن "أما" لم تستعمل بغير جواب فجعل جوابا لأما فتجعل أما وما بعدها جوابا لإن.
وتابعه ابن مالك في كون الجواب لأما.
وقد سبقهما إليه إمام الصناعة سيبويه ونازع بعض المتأخرين في عد هذه الآية من هذا قال: وليس من الاعتراض أن يقرن الثاني بفاء الجواب لفظا نحو إن تكلم زيد فإن أجاد فأحسن إليه لأن الشرط الثاني وجوابه جواب الأول أو يقرن بفاء الجواب تقديرا كهذه الآية الشريفة لأن الأصل عند النجاة مهما يكن من شيء فإن كان المتوفى من المقربين فجزاؤه روح فحذف مهما وجملة شرطها وأنيب عنها "أما".
فصار "أما فإن كان" مفردا من ذلك لوجهين :
أحدهما: أن الجواب لا يلي أداة الشرط بغير فاصل وثانيهما : أن الفاء في الأصل للعطف فحقها أن تقع بين سببين وهما المتعاطفان فلما أخرجوها من باب العطف حفظوا عليها المعنى الآخر وهو التوسط فوجب أن يقدم شيء مما في حيزها عليها إصلاحا للفظ فقدمت جملة الشرط الثاني لأنها كالجزاء الواحد كما قدم المفعول في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} فصار {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ} فحذفت الفاء التي في جواب إن لئلا يلتقي فاءان فتخلص أن جواب أما ليس محذوفا بل مقدما بعضه على الفاء فلا اعتراض.
الآية الثانية: قوله تعالى عن نوح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وإنما يكون من هذا لو كان {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} مؤخرا بعد الشرطين أو لازما أن يقدر كذلك وكلا الأمرين منتف.
أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} جملة تامة أما على مذهب الكوفيين فمن شرط مؤخر وجزاء مقدم وأما على مذهب البصريين فالمقدم دليل الجزاء والمدلول عليه محذوف فيقدر بعد شرطه فلم يقع الشرط الثاني معترضا لأن المراد بالمعترض ما اعترض بين الشرط وجوابه وهنا ليس كذلك فإن على مذهب الكوفيين لا حذف والجواب مقدم وعلى قول البصريين الحذف بين الشرطين.
وهنا فائدة وهي أنه لِمَ عدل عن "إن نصحت" إلى {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ} ؟ وكأنه -والله أعلم- أدب مع الله تعالى حيث أراد الإغواء.
وقد أحسن الزمخشري فلم يأت بلفظ الاعتراض في الآية بل سماه مرادفا هو صحيح وقال: إن قوله تعالى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} جزاؤه ما دل عليه قوله: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي}
وجعل ابن مالك تقدير الآية: إن أردت أنصح لكم مرادا ذلك منكم لا ينفعكم نصحي وهو يجعله من باب الاعتراض وفيه ما ذكرنا.
الآية الثالثة : قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية وهي كالتي قبلها لتقدم الجزاء أو دليله على الشرطين فالاحتمال فيها كما قدمنا.
وقال الزمخشري: شرط في الإحلال هبتها نفسها وفي الهبة إرادة الاستنكاح كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت نفسها لك وأنت تريد أن تنكحها لأن إرادته هي قبول الهبة وما به تتم.
وحاصله أن الشرط الثاني مقيد للأول.
ويحتمل أن يكون من الاعتراض كأنه قال: إن وهبت نفسها إن أراد النبي أحللناها فيكون جوابا للأول ويقدر جواب الثاني محذوفا.
الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُسْلِمِينَ} وغلط من جعلها من الاعتراض لأن الشرط الأول اقترن بجوابه ثم أتى بالثاني بعد ذلك وإذا ذكر جواب الثاني تاليا له فأي اعتراض هنا لهذا قال المجوزون لهذه المسألة: إن الجواب المذكور للأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه والتقدير في الآية: "إن كنتم مسلمين فإن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا" فحذف الجواب لدلالة السابق عليه
الآية الخامسة: قوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ. إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} وكلام ابن مالك يقتضي أنها من الاعتراض وليس كذلك بل عطف هل الشرط على فعل آخر.
الآية السادسة : قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {لَعَذَّبْنَا} وهذه الآية هي العمدة في هذا الباب فالشرطان وهما "لولا" و"لو" قد اعترضا وليس معهما إلا جواب واحد وهو متأخر عنهما وهو {لَعَذَّبْنَا}.
الآية السابعة: قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} وهذه تأتي على مذهب الأخفش فإنه يزعم أن قوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ} على تقدير الفاء أي: فالوصية فعلى هذا يكون مما نحن فيه فأما إذا رفعت {الْوَصِيَّةُ} بـ {كُتِبَ} فهي كالآيات السابقة في حذف الجوابين.
تنبيه في ضابط اعتراض الشرط على الشرط:
ذكر بعضهم ضابطا في هذه المسألة فقال: إذا دخل الشرط على الشرط فإن كان الثاني بالفاء فالجواب المذكور جوابه وهو وجوابه جواب الشرط الأول كقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}.
وإن كان بغير الفاء فإن كان الثاني متأخرا في الوجود عن الأول كان مقدر بالفاء وتكون الفاء جواب الأول والجواب المذكور جواب الثاني نحو: إن دخلت المسجد إن صليت فيه فلك أجر تقديره: فإن صليت فيه فحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها.
وإن كان الثاني متقدما في الوجود على الأول فهو في نية التقديم وما قبله جوابه والفاء مقدرة فيه كقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} تقديره: إن أراد الله أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي.
وأما إن لم يكن أحدهما متقدما في الوجود وكان كل واحد منهما صالحا لأن يكون هو المتقدم والآخر متأخرا كقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ} كان الحكم راجعا إلى التقدير والنية فأيهما قدرته الشرط كان الآخر جوابا له.
وإن كان مقدرا بالفاء كان المتقدم في اللفظ أو المتأخر فإن قدرنا الهبة شرطا كانت الإرادة جوابا له ويكون التقدير: إن وهبت نفسها للنبي فإن أراد النبي أن يستنكحها وإن قدرنا الإرادة شرطا كانت الهبة جزاء وكان التقدير: إن أراد النبي أن يستنكحها فإن وهبت نفسها للنبي وعلى كلا التقديرين فجواب الشرط الذي هو الجواب محذوف والتقدير: فهي حلال لك وقس عليه ما يرد عليك من هذا الباب.

فائدة: قد يسمى الشرط يمينا.
قال ابن حني في كتاب "القد": يجوز أن يسمى الشرط يمينا لأن كل واحد منهما مذكور لما بعده وهو جملة مضمومة إلى أخرى وقد جرت الجملتان مجرى الجملة الواحدة فمن هنا يجوز أن يسمى الشرط يمينا ألا ترى أن كل واحد منهما مذكور لما بعده!

القسم وجوابه:
وهما جملتان بمنزلة الشرط وجوابه وسنتكلم عليه في الأساليب إن شاء الله تعالى في باب التأكيد والقسم لفظه لفظ الخبر ومعناه الإنشاء والالتزام بفعل المحلوف عليه أو تركه وليس بإخبار عن شيء وقع أو لا يقع وإن كان لفظه المضي أو الاستقبال وفائدته تحقق الجواب عند السامع وتأكده ليزول عنه التردد فيه.

الأمر:
الأمر حيث وقع في القرآن كان بغير الحرف كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} {اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ}.
وجاء بالحرف في مواضع يسيرة على قراءة بعضهم: {فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} ووجهه أنه من باب حمل المخاطب على الغائب إلى الخطاب فكأنه لا غائب ولا حاضر وذلك لأن قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} فيه خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع المؤمنين وخطاب الله تعالى مع النبي للمؤمنين كخطاب الله تعالى لهم فكأنهما اتحدا في الحكم ووجود الاستماع والاتباع فصار المؤمنون كأنهم مخاطبون في المعنى فأتى باللام كأنه يأمر قوما غيبا وبالتاء للخطاب كأنه يأمر حضورا ويؤيد هذا قوله تعالى في أول الآية: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية فصار المؤمنون مخاطبين ثم قال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} فبذلك ينبغي أن يكون فرحهم فصاروا مخاطبين من وجه دون وجه.
ونظيره: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} إلا أن ذلك جعل في كلمتين وحالتين وهذا في كلمة واحدة.
ومنها قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
ومنها قوله تعالى: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}.

النفي:
هو شطر الكلام كله لأن الكلام إما إثبات أو نفي وفيه قواعد:
الأولى: في الفرق بينه وبين الجحد قال ابن الشجري: إن كان النافي صادقا فيما قاله سمي كلامه نفيا وإن كان يعلم كذب ما نفاه كان جحدا فالنفي أعم لأن كل جحد نفي من غير عكس فيجوز أن يسمى الجحد نفيا لأن النفي أعم ولا يجوز أن يسمى النفي جحدا
فمن النفي: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}.
ومن الجحد نفي فرعون وقومه آيات موسى عليه السلام قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي: وهم يعلمون أنها من عند الله.
وكذلك إخبار الله عمن كفر من أهل الكتاب: { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} فأكذبهم الله بقوله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}.
وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} فأكذبهم الله بقوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}.
قال: ومن العلماء من لا يفرق بينهما والأصل ما ذكرته.
الثانية: زعم بعضهم أن من شرط صحة النفي عن الشيء صحة اتصاف المنفي عنه بذلك
الشيء ومن ثم قال بعض الحنفية إن النهي عن الشيء يقتضي الصحة وذلك باطل بقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} ونظائره.
والصواب أن انتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا وقد يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه فنفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه.
الثالثة: المنفي ما ولي حرف النفي فإذا قلت: ما ضربت زيدا كنت نافيا للفعل الذي هو ضربك إياه وإذا قلت: ما أنا ضربته كنت نافيا لفاعليتك للضرب فإن قلت: الصورتان دلتا على نفي الضرب فما الفرق بينهما؟
قلت: من وجهين:
أحدهما: أن الأولى نفت ضربا خاص وهو ضربك إياه ولم تدل على وقوع ضرب غيرك ولا عدمه إذاً نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ولا ثبوته والثانية نفت كونك ضربته ودلت على أن غيرك ضربه بالمفهوم.
الثاني: أن الأولى دلت على نفي ضربك له بغير واسطة والثانية دلت على نفيه بواسطة وأما قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}.
الرابعة: إذا كان الكلام عاما ونفيته فإن تقدم حرف النفي أداة العموم كان نفيا للعموم وهو لا ينافي الإثبات الخاص فإذا قلت: لم أفعل كل ذا بل بعضه استقام وإن تقدم صيغة العموم على النفي فقلت: كل ذا لم أفعله كان النفي عاما ويناقضه الإثبات الخاص.
وحكى الإمام في "نهاية الإيجاز" عن الشيخ عبد القاهر أن نفي العموم يقتضي خصوص الإثبات فقوله: لم أفعل كله يقتضي أنه فعل بعضه قال: وليس كذلك إلا عند من يقول بدليل الخطاب بل الحق أن نفي العموم كما لا يقتضي عموم النفي لا يقتضي خصوص الإثبات
الخامسة: أدواته كثيرة قال الخويي: وأصلها "لا" و"ما" لأن النفي إما في الماضي وإما في المستقبل والاستقبال أكثر من الماضي أبدا و"لا" أخف من "ما" فوضعوا الأخف للأكثر
ثم إن النفي في الماضي إما أن يكون نفيا واحدا مستمرا وإما أن يكون نفيا فيه أحكام متعددة وكذلك النفي في المستقبل فصار النفي على أربعة أقسام واختاروا له أربع كلمات: ما، لم، لن، لا.
وأما "إن" و"لما" فليسا بأصليين.
فـ "ما" و"لا" في الماضي والمستقبل متقابلان و"لم "و "لن" في الماضي والمستقبل متقابلان و"لم" كأنه مأخوذ من "لا" و"ما" لأن "لم" نفي للاستقبال لفظا فأخذ اللام من "لا" التي هي لنفي الأمر في المستقبل والميم من "ما" التي هي لنفي الأمر في الماضي وجمع بينهما إشارة إلى أن في "لم" المستقبل والماضي وقدم اللام على الميم إشارة إلى أن لا هو أصل النفي ولهذا ينفى بها في أثناء الكلام فيقال: لم يفعل زيد ولا عمرو ولن أضرب زيدا ولا عمرا
أما "لما" فتركيب بعد تركيب كأنه قال: "لم" و"ما" لتوكيد معنى النفي في الماضي وتفيد الاستقبال أيضا ولهذا تفيد لما الاستمرار كما قال الزمخشري: إذا قلت ندم زيد ولم ينفعه الندم أي حال الندم لم ينفعه وإذا قلت: ندم زيد ولما ينفعه الندم أي حال الندم واستمر عدم نفعه
قلت: وقال الفارسي: إذا نفي بها الفعل اختصت بنفي الحال ويجوز أن يتسع فيها فينفى بها الحاضر نحو: ما قام وما قعد.
قال الخويي: والفرق بين النفي بلم وما أن النفي بما كقولك: ما قام زيد معناه أن وقت الإخبار هذا الوقت وهو إلى الآن ما فعل فيكون النفي في الماضي وأن النفي بلم كقولك: لم يقم تجعل المخبر نفسه بالعرض متكلما في الأزمنة الماضية ولأنه يقول في كل زمان في تلك الأزمنة أنا أخبرك بأنه لم يقم وعلى هذا فتأمل السر في قوله تعالى: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} وفي موضع آخر: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} لأن الأول في مقام طلب الذكر والتشريف به للثواب والثاني في مقام التعليم وهو لا يفيد إلا بالنفي عن جميع الأزمنة.
وكذلك قوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} وقوله: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} فإن مريم كأنها قالت: إني تفكرت في أزمنة وجودي ومثلتها في عيني: "لم أك بغيا" فهو أبلغ في التنزيه فلا يظن ظان أنها تنفي نفيا كليا مع أنها نسيت بعض أزمنة وجودها وأما هم لما قالوا: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} ما كان يمكنهم أن يقولوا نحن تصورنا كل زمان من أزمنة وجود أمك وننفي عن كل واحد منها كونها بغيا لأن أحد لا يلازم غيره فيعلم كل زمان من أزمنة وجوده وإنما قالوا لها إن أمك اشتهرت عند الكل حتى حكموا عليها حكما واحدا عاما أنها ما بغت في شيء من أزمنة وجودها وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} فإنه سبحانه لما قال: {بِظُلْمٍ} كان سبب حسن الهلاك قائما وأما الظلم فكان يتوقع في كل زمن الهلاك سواء كانوا غافلين أم لا لكن الله برحمته يمسك عنهم في كل زمان وافقته غفلتهم وأما قوله: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وإن جد الظلم لكن لم يبق سببا مع الإصلاح فبقي النفي العام بعدم تحقيق المقتضى في كل زمان.
وكذلك قوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} لأنه لما لم يذكر الظلم لم يتوقع الهلاك فلم يبق متكررا في كل زمان.
وكذلك قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} ذكر عند ذكر النعمة لم يكن إشارة إلى الحكم في كل زمان تذكيرا بالنعمة قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} نفيا واحدا عاما عند ذكر العذاب لئلا يتكرر ذكر العذاب ويتكرر ذكر النعمة لا للمنة بل للتنبيه على سعة الرحمة.
وكذلك قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} وقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} وقال تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} وقال تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} في جميع مواضع ما حصل المذكور أمورا لا يتوقع تجددها وفي جميع المواضع لم يحصل توقع تجدد المذكور.
فاستمسك بما ذكرنا واجعله أصلا فإنه من المواهب الربانية.

[ البرهان في علوم القرآن ( 2 / 316 ـ 381 ) ]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الخامس, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:10 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir