دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > مناهل العرفان

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 شوال 1430هـ/17-10-2009م, 11:01 PM
الياسمين الياسمين غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Jul 2009
المشاركات: 30
افتراضي المبحث الخامس: في أسباب النزول

القرآن الكريم قسمان: قسم نزل من الله ابتداء غير مرتبط بسبب من الأسباب الخاصة إنما هو لمحض هداية الخلق إلى الحق. وهو كثير ظاهر لا يحتاج إلى بحث ولا بيان. وقسم نزل مرتبطا بسبب من الأسباب الخاصة.
وهو موضوع بحثنا الآن. غير أنا لا نريد أن نستعرض جميع الآيات التي جاءت على أسباب فذلك شأو بعيد. وقد انتدب له جماعة أفردوه بالتأليف منهم علي بن المديني شيخ البخاري ومنهم الواحدي والجعبري وابن حجر ومنهم السيوطي الذي وضع فيه كتابا حافلا محررا سماه لباب النقول في أسباب النزول.
إنما غرضنا في هذا المبحث أن يحيطك علما بأسباب النزول من أطرافه الأحد عشر وهي معنى سبب النزول وفوائد معرفة أسباب النزول وطريق هذه المعرفة والتعبيرات عن سبب النزول وحكم تعدد الأسباب والنازل واحد وتعدد النازل والسبب واحد والعموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه وتحقيق الخلاف في عموم اللفظ وخصوص سببه وأدلة الجمهور في ذلك وشبهات المخالفين وتفنيدها وشبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام.

معنى سبب النزول
...
معنى سبب النزول
سبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أن مبينة لحكمه أيام وقوعه. والمعنى أنه حادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو سؤال وجه إليه فنزلت الآية أو الآيات من الله تعالى ببيان ما يتصل بتلك الحادثة أو بجواب هذا السؤال.

سواء أكانت تلك الحادثة خصومة دبت كالخلاف الذي شجر بين جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج بدسيسة من أعداء الله اليهود حتى تنادوا: السلاح السلاح ونزل بسببه تلك الآيات الحكيمة في سورة آل عمران من أول قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} إلى آيات أخرى بعدها هي من أروع ما ينفر من الانقسام والشقاق ويرغب في المحبة والوحدة والاتفاق. أم كانت تلك الحادثة خطأ فاحشا ارتكب كذلك السكران الذي أم الناس في صلاته وهو في نشوته ثم قرأ السورة بعد الفاتحة فقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} "أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" وحذف لفظ "لا" من {لا أَعْبُدُ} فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} في سورة النساء.
أم كانت تلك الحادثة تمنيا من التمنيات ورغبة من الرغبات كموافقات عمر رضي الله عنه التي أفردها بعضهم بالتأليف. ومن أمثلتها ما أخرجه البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وقلت يا رسول الله: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب1.
واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيراً منكن" فنزلت كذلك ا هـ. وهذه في سورة التحريم.
__________
1 وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} من سورة الأحزاب.

وسواء أكان ذلك السؤال المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتصل بأمر مضى نحو قوله سبحانه في سورة الكهف: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} الخ. أم يتصل بحاضر نحو قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} أم يتصل بمستقبل نحو قوله جل ذكره في سورة النازعات: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} الخ.
والمراد بقولنا أيام وقوعه الظروف التي ينزل القرآن فيها متحدثا عن ذلك السبب سواء أوقع هذا النزول عقب سببه مباشرة أم تأخر عنه مدة لحكمة من الحكم كما حدث ذلك حين سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين. فقال: صلى الله عليه وسلم "غدا أخبركم" ولم يستثن أي لم يقل إلا أن شاء الله فأبطأ عليه الوحي خمسة عشر يوما على ما رواه ابن إسحاق وقيل ثلاثة أيام وقيل أربعين يوما حتى شق عليه ذلك. ثم نزلت أجوبة تلك المقترحات وفي طيها يرشد الله تعالى رسوله إلى أدب الاستثناء بالمشيئة ويقول له في سورة الكهف: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} .
ثم إن كلمة أيام وقوعه في تعريف سبب النزول قيد لا بد منه للاحتراز عن الآية أو الآيات التي تنزل ابتداء من غير سبب بينما هي تتحدث عن بعض الوقائع والأحوال الماضية أو المستقبلة كبعض قصص الأنبياء السابقين وأممهم وكالحديث عن الساعة وما يتصل بها وهو كثير في القرآن الكريم.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 28 شوال 1430هـ/17-10-2009م, 11:06 PM
الياسمين الياسمين غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Jul 2009
المشاركات: 30
افتراضي فوائد معرفة أسباب النزول

- فوائد معرفة أسباب النزول
زعم بعض الناس أنه لا فائدة للإلمام بأسباب النزول وأنها لا تعدو أن تكون تاريخا للنزول أو جارية مجرى التاريخ وقد أخطأ فيما زعم فإن لأسباب النزول فوائد متعددة لا فائدة واحدة:
الأولى: معرفة حكمة الله تعالى على التعيين فيما شرعه بالتنزيل وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيمانا على إيمانه ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام ومن أجلها جاء هذا التنزيل. وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفا حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان لا على الاستبداد والتحكم والطغيان خصوصا إذا لاحظ سير ذلك التشريع وتدرجه في موضوع واحد. وحسبك شاهدا على هذا تحريم الخمر وما نزل فيه وقد مر بك في البحث السابق فلا نعيده ولا تغفل.
الفائدة الثانية: الاستعانة على فهم الآية ودفع الإشكال عنها. حتى لقد قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالمسبب يورث العلم بالسبب ا هـ.
ولنبين لك ذلك بأمثلة ثلاثة: الأول قال الله تعالى في سورة البقرة: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فهذا اللفظ الكريم يدل بظاهره على أن للإنسان أن يصلي إلى أية جهة شاء ولا يجب عليه أن يولي وجهه شطر البيت الحرام لا في سفر ولا حضر. لكن إذا علم أن هذه الآية نازلة في نافلة السفر خاصة أو فيمن صلى باجتهاده ثم بان له خطؤه تبين له أن الظاهر غير مراد إنما المراد التخفيف على خصوص المسافر في صلاة النافلة أو على المجتهد

في القبلة إذا صلى وتبين له خطؤه. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وقيل: عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل في الآية غير ذلك ولكن ما ذكرناه يكفيك.
المثال الثاني: روي في الصحيح أن مروان بن الحكم أشكل عليه معنى قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من سورة آل عمران.
وقال: لئن كان كل امرىء فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. وبقي في إشكاله هذا حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه أي طلبوا منه أن يحمدهم على ما فعلوا. وهنالك زال الإشكال عنه وفهم مراد الله من كلامه هذا ووعيده.
المثال الثالث أشكل على عروة بن الزبير رضي الله عنه أن يفهم فرضية السعي بين الصفا والمروة مع قوله سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
وإشكاله نشأ من أن الآية الكريمة نفت الجناح ونفي الجناح لا يتفق والفرضية في رأيه وبقي في إشكاله هذا حتى سأل خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فأفهمته أن نفي الجناح هنا ليس نفيا للفرضية إنما هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين يومئذ من أن السعي بين الصفا والمروة من عمل الجاهلية نظرا إلى أن الصفا كان عليه صنم يقال له: إساف وكان على المروة صنم يقال له: نائلة. وكان المشركون إذا سعوا بينهما تمسحوا بهما. فلما ظهر الإسلام وكسر

الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت الآية. كذلك جاءت بعض الروايات.
لكن جاء في رواية صحيح البخاري ما نصه: فقال أي عروة لها أي لعائشة أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} : فو الله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئسما قلت يا ابن أختي إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه ألا يطوف بهما ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. قالت عائشة وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما انتهى ما أردنا نقله. ومعنى يهلون: يحجون. ومناة الطاغية: اسم صنم وكان صخرة نصبها عمرو بن لحي بجهة البحر فكانوا يعبدونها. والمشلل بضم الميم واللام الأولى مشددة مفتوحة: اسم موضع قريب من قديد من جهة البحر. وقديد بضم القاف: قرية بين مكة والمدينة. وكلمة سن معناها في هذا الحديث شرع أو فرض بدليل من السنة لا من الكتاب.
وهذه الرواية كما ترى تدل على أن عروة فهم من جملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أن الجناح منفي أيضا عن عدم الطواف بهما وعلى ذلك تنتفي الفرضية وكأنه اعتمد في فهمه هذا على أن نفي الجناح أكثر ما يستعمل في الأمر المباح. أما عائشة رضي الله عنها فقد فهمت أن فرضية السعي بين الصفا والمروة مستفادة من السنة وأن جملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .

لا تنافي تلك الفرضية كما فهم عروة إنما الذي ينفيها أن يقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما وإنما توجه نفي الحرج في الآية عن الطواف بين الصفا والمروة لأن هذا الحرج هو الذي كان واقرا في أذهان الأنصار كما يدل عليه سبب نزول الآية الذي ذكرته السيدة عائشة فتدبر.
الفائدة الثالثة: دفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر نحو قوله سبحانه في سورة الأنعام: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} . ذهب الشافعي إلى أن الحصر في هذه الآية غير مقصود واستعان على دفع توهمه بأنها نزلت بسبب أولئك الكفار الذين أبوا إلا أن يحرموا ما أحل الله ويحلوا ما حرم الله عنادا منهم ومحادة لله ورسوله فنزلت الآية بهذا الحصر الصوري مشاد لهم ومحادة من الله ورسوله لا قصدا إلى حقيقة الحصر.
نقل السبكي عن الشافعي أنه قال ما معناه: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم. فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه. نازلا منزلة من يقول لك: لا تأكل اليوم حلاوة فتقول لا آكل اليوم إلا حلاوة والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة. فكأنه تعالى قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ولم يقصد حل ما وراءه إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل ا هـ.
قال إمام الحرمين: وهذا في غاية الحسن ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية ا هـ.
الفائدة الرابعة: تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. فآيات الظهار في مفتتح سورة المجادلة- وقد تقدمت-

سببها أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت حكيم بن ثعلبة والحكم الذي تضمنته هذه الآيات خاص بهما وحدهما على هذا الرأي أما غيرهما فيعلم بدليل آخر قياسا أو سواه. وبدهي أنه لا يمكن معرفة المقصود بهذا الحكم ولا القياس عليه إلا إذا علم السبب وبدون معرفة السبب تصير الآية معطلة خالية من الفائدة.
الفائدة الخامسة: معرفة أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية إذا ورد مخصص لها. وذلك لقيام الإجماع على أن حكم السبب باق قطعا. فيكون التخصيص قاصرا على ما سواه. فلو لم يعرف سبب النزول لجاز أن يفهم أنه مما خرج بالتخصيص مع أنه لا يجوز إخراجه قطعا للإجماع المذكور. ولهذا يقول الغزالي في المستصفى: ولذلك يشير إلى امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد غلط أبو حنيفة رحمه الله في إخراج الأمة المستفرشة من قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" . والخبر إنما ورد في وليدة زمعة إذ قال عبد بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. فقال عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فأثبت للأمة فراشا وأبو حنيفة لم يبلغه السبب فأخرج الأمة من العموم ا هـ.
الفائدة السادسة: معرفة من نزلت فيه الآية على التعيين حتى لا يشتبه بغيره فيتهم البريء ويبرأ المريب مثلا. ولهذا ردت عائشة على مروان حين اتهم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر بأنه الذي نزلت فيه آية {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} الخ من سورة الأحقاف. وقالت: والله ما هو به ولو شئت أن أسميه لسميته إلى آخر تلك القصة.
الفائدة السابعة: تيسير الحفظ وتسهيل الفهم وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها. وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات والأحكام بالحوادث والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة. كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء وانتقاشها في الذهن وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر وذلك هو قانون تداعي المعاني المقرر في علم النفس.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 28 شوال 1430هـ/17-10-2009م, 11:09 PM
الياسمين الياسمين غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Jul 2009
المشاركات: 30
افتراضي طريق معرفة سبب النزول

3- طريق معرفة سبب النزول
لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا النقل الصحيح روى الواحدي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الحديث إلا ما علمتم فإنه من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار" . ومن هنا لا يحل القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها. ا هـ.
وعلى هذا فإن روي سبب النزول عن صحابي فهو مقبول وإن لم يعتضد أي لم يعزز برواية أخرى تقويه. وذلك لأن قول الصحابي فيما لا مجال للاجتهاد فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يبعد كل البعد أن يكون الصحابي قد قال ذلك من تلقاء نفسه على حين أنه خبر لا مرد له إلا السماع والنقل أو المشاهدة والرؤية.
أما إذا روي سبب النزول بحديث مرسل أي سقط من سنده الصحابي وانتهى إلى التابعي فحكمه أنه لا يقبل إلا إذا صح واعتضد بمرسل آخر وكان الراوي له من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير.

التعبير عن سبب النزول
...
4- التعبير عن سبب النزول
تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النزول. فتارة يصرح فيها بلفظ السبب فيقال: سبب نزول الآية كذا وهذه العبارة نص في السببية لا تحتمل غيرها.

وتارة لا يصرح بلفظ السبب ولكن يؤتى بفاء داخلة على مادة نزول الآية عقب سرد حادثة وهذه العبارة مثل تلك في الدلالة على السببية أيضا. ومثاله رواية جابر الآتية قريبا. ومرة يسأل الرسول فيوحى إليه ويجيب بما نزل عليه ولا يكون تعبير بلفظ سبب النزول ولا تعبير بتلك الفاء ولكن السببية تفهم قطعا من المقام كرواية ابن مسعود الآتية عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح. وحكم هذه أيضا حكم ما هو نص في السببية. ومرة أخرى لا يصرح بلفظ السبب ولا يؤتى بتلك الفاء ولا بذلك الجواب المبني على السؤال بل يقال: نزلت هذه الآية في كذا مثلا. وهذه العبارة ليست نصا في السببية بل تحتملها وتحتمل أمرا آخر هو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام. والقرائن وحدها هي التي تعين أحد هذين الاحتمالين أو ترجحه.
ومن هنا نعلم أنه إذا وردت عبارتان في موضوع واحد إحداهما نص في السببية لنزول آية أو آيات والثانية ليست نصا في السببية لنزول تلك الآية أو الآيات هنالك نأخذ في السببية بما هو نص ونحمل الأخرى على أنها بيان لمدلول الآية لأن النص أقوى في الدلالة من المحتمل.
مثال ذلك: ما أخرجه مسلم عن جابر قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} من سورة البقرة. وما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: أنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} في إتيان النساء في أدبارهن.
فالمعول عليه في بيان السبب هو رواية جابر الأولى لأنها صريحة في الدلالة على السبب. وأما رواية ابن عمر فتحمل على أنها بيان لحكم إتيان النساء في أدبارهن وهو التحريم. استنباطا منه.

أما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات ليس شيء منها نصا كأن يقول بعض المفسرين نزلت هذه الآية في كذا. ويقول الآخر: نزلت في كذا ثم يذكر شيئا آخر غير ما ذكره الأول وكان اللفظ يتناولهما ولا قرينة تصرف إحداهما إلى السببية فإن الروايتين كلتيهما تحملان على بيان ما يتناوله من المدلولات. ولا وجه لحملهما على السبب.
وأما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات كلها نص في السببية فهنا يتشعب الكلام. ولنفرده بعنوان.

تعدد الأسباب والنازل واحد
...
5- تعدد الأسباب والنازل واحد
إذا جاءت روايتان في نازل واحد من القرآن وذكرت كل من الروايتين سببا صريحا غير ما تذكره الأخرى نظر فيهما. فإما أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى غير صحيحة. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولكن لإحداهما مرجح دون الأخرى. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولا مرجح لإحداهما على الأخرى ولكن يمكن الأخذ بهما معا. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولا مرجح ولا يمكن الأخذ بهما معا. فتلك صور أربع لكل منها حكم خاص نسوقه إليك:
أما الصورة الأولى- وهي ما صحت فيه إحدى الروايتين دون الأخرى فحكمها الاعتماد على الصحيحة في بيان السبب. ورد الأخرى غير الصحيحة. مثال ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها وكانت

خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جروا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فدخل تحت السرير فمات فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال: "يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني" فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد1 لحيته وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة فأنزل الله: {وَالضُّحَى} إلى قوله {فَتَرْضَى} . فنحن بين هاتين الروايتين نقدم الرواية الأولى في بيان السبب لصحتها دون الثانية لأن في إسنادها من لا يعرف. قال ابن حجر: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية غريب وفي إسناده من لا يعرف فالمعتمد ما في الصحيح ا هـ.
وأما الصورة الثانية- وهي صحة الروايتين كلتيها ولإحداهما مرجح- فحكمها أن نأخذ في بيان السبب بالراجحة دون المرجوحة. والمرجح أن تكون إحداهما أصح من الأخرى أو أن يكون راوي إحداهما مشاهدا للقصة دون راوي الأخرى. مثال ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وهو يتوكأ على عسيب. فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم: لو سألتموه. فقالوا: حدثنا عن الروح. فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحي ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} . وما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل. فقالوا: اسألوه عن الروح فسألوه فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية.
__________
1 قال في القاموس: وقد رعد كنصر ومنع. وقال هامش القاموس: وقد استعمل رعد ثلاثيا أيضا مجهولا دائما, كجن. قالوا: رعد أي اصابته رعدة. قاله الخفاجي في شرح الشفاء ا هـ.

فهذا الخبر الثاني يدل على أنها بمكة وأن سبب نزولها سؤال قريش إياه. أما الأول فصريح في أنها نزلت بالمدينة بسبب سؤال اليهود إياه وهو أرجح من وجهين: أحدهما أنه رواية البخاري أما الثاني فإنه رواية الترمذي ومن المقرر أن ما رواه البخاري أصح مما رواه غيره. ثانيهما أن راوي الخبر الأول وهو ابن مسعود كان مشاهد القصة من أولها إلى آخرها كما تدل على ذلك الرواية الأولى بخلاف الخبر الثاني فإن رواية ابن عباس لا تدل الرواية على أنه كان حاضر القصة ولا ريب أن للمشاهدة قوة في التحمل وفي الأداء وفي الاستيثاق ليست لغير المشاهدة ومن هنا أعملنا الرواية الأولى وأهملنا الثانية.
وأما الصورة الثالثة- وهي ما استوت في الروايتان في الصحة ولا مرجح لإحداهما لكن يمكن الجمع بينهما بأن كلا من السببين حصل ونزلت الآية عقب حصولهما معا لتقارب زمنيهما فحكم هذه الصورة أن نحمل الأمر على تعدد السبب لأنه الظاهر ولا مانع يمنعه. قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب.
مثال ذلك: ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك" . فقال يا رسول الله إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة. وفي رواية أنه قال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} حتى بلغ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ا هـ وهذه الآيات من سورة النور.
وأخرج الشيخان واللفظ للبخاري عن سهل بن سعد أن عويمرا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع

امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله وفي رواية مسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فجاءه عويمر فقال يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبك" . فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها ا هـ. فهاتان الروايتان صحيحتان ولا مرجح لإحداهما على الأخرى ومن السهل أن نأخذ بكلتيهما لقرب زمانيهما على اعتبار أن أول من سأل هو هلال بن أمية ثم قفاه عويمر قبل إجابته فسأل بواسطة عاصم مرة وبنفسه مرة أخرى فأنزل الله الآية إجابة للحادثين معا. ولا ريب أن إعمال الروايتين بهذا الجمع أولى من إعمال إحداهما وإهمال الأخرى إذ لا مانع يمنع الأخذ بهما على ذلك الوجه. ثم لا جائز أن نردهما معا لأنهما صحيحتان ولا تعارض بينهما. ولا جائز أيضا أن نأخذ بواحدة ونرد الأخرى لأن ذلك ترجيح بلا مرجح. فتعين المصير إلى أن نأخذ بهما معا. وإليه جنح النووي وسبقه إليه الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد ا هـ.
ويمكن أن يفهم من الرواية الثانية أن آيات الملاعنة نزلت في هلال أولا ثم جاء عويمر فأفتاه الرسول بالآيات التي نزلت في هلال. قال ابن الصباغ: قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعويمر: "إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك" فمعناه ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع الناس.
وأما الصورة الرابعة- وهي استواء الروايتين في الصحة دون مرجح

لإحداهما ودون إمكان للأخذ بهما معا لبعد الزمان بين الأسباب فحكمها أن تحمل الأمر على تكرار نزول الآية بعدد أسباب النزول التي تحدثت عنها هاتان الروايتان أو تلك الروايات لأنه إعمال لكل رواية ولا مانع منه. قال الزركشي في البرهان: وقد ينزل الشيء تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه ا هـ.
مثال ذلك ما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال: "لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة وهن ثلاث آيات.
وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب قال" لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا به فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين أي لنزيدن عليهم.
فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية.
فالرواية الأولى تفيد أن الآية نزلت في غزوة أحد والثانية تفيد أنها نزلت يوم فتح مكة على حين أن بين غزوة أحد وغزوة الفتح الأعظم بضع سنين فبعد أن يكون نزول الآية كان مرة عقيبهما معا. وإذن لا مناص لنا من القول بتعدد نزولها مرة في أحد ومرة يوم الفتح. وقد ذهب البعض إلى أن سورة النحل كلها مكية.
وعليه فتكون خواتيمها المذكورة نزلت مرة بمكة قبل هاتين المرتين اللتين في المدينة وتكون عدة مرات نزولها ثلاثا. وبعضهم يقول إن سورة النحل مكية ما عدا خواتيمها تلك فإنها مدنية وعليه فعدة مرات نزولها اثنتان فقط.
شبهة وجوابها
وإذا استشكل على تكرار النزول بأنه عبث ما دامت الآية قد نزلت قبل ذلك السبب الجديد وحفظها الرسول صلى الله عليه وسلم واستظهرها الحفاظ من الصحابة ويمكن الرجوع إليها من غير حاجة إلى نزولها مرة أخرى.
فالجواب أن هناك حكمة عالية في هذا التكرار وهي تنبيه الله لعباده ولفت نظرهم إلى ما في طي تلك الآيات المكررة من الوصايا النافعة والفوائد الجمة التي هم في أشد الحاجة إليها. فخواتيم سورة النحل التي معنا مثلا نلاحظ أن الحكمة في تكرارها هي تنبيه الله لعباده أن يحرصوا على العمل بما احتوته من الإرشادات السامية في تحري العدالة وضبط النفس عند الغضب ومراقبة الخالق حتى في القصاص من الخلق والتدرع بالصبر والثبات. والاعتماد على الله والثقة بتأييده ونصره لكل من اتقاه وأحسن في عمله جعلنا الله منهم أجمعين آمين.
أضف إلى هذه الحكمة ما ذكره الزركشي آنفا من أن تكرار النزول تعظيم لشأن المكرر وتذكير به خوف نسيانه.

تعدد النازل والسبب واحد
...
6- تعدد النازل والسبب واحد
قد يكون أمر واحد سببا لنزول آيتين أو آيات متعددة على عكس ما سبق ولا مانع من ذلك لأنه لا ينافي الحكمة في إقناع الناس وهداية الخلق وبيان الحق عند الحاجة بل إنه قد يكون أبلغ في الإقناع وأظهر في البيان.
مثال السبب الواحد تنزل فيه آيتان ما أخرجه ابن جرير الطبري والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه" . فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك؟" فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز

عنهم. فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} من سورة التوبة.
وأخرج الحاكم وأحمد هذا الحديث بهذا اللفظ وقالا: فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} من سورة المجادلة ا هـ.
ومثال السبب الواحد ينزل فيه أكثر من آيتين ما أخرجه الحاكم والترمذي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} من سورة آل عمران ا هـ.
وأخرج الحاكم أيضا عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله: تذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ1} وأنزلت {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى2} .
__________
1 من سورة الأحزاب وتمامها: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} .
2 وهي من آية آل عمران السابقة.

وأخرج الحاكم أيضا أنها قالت تغزو الرجال ولا تغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث. فأنزل الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1 وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 2.
__________
1 من سورة النساء وتمامها قد تقدم.
2 من سورة الأحزاب، وتمامها قد تقدم أيضا قريبا.

العموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه
...
7- العموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه
هذا مبحث أفرده الأصوليون بالكلام لأن مهمتهم الاستدلال بألفاظ الشارع على الأحكام ونحن نلخص لك هنا ما يسمح به المقام لمناسبة أسباب النزول وما ينزل فيها مما يوافقها أو لا يوافقها في العموم والخصوص فنقول: اعلم أن لفظ الشارع الوارد جوابا لسؤال أو سبب قد يكون مستقلا أو مفيدا وحده بقطع النظر عن السبب أو السؤال الوارد فيه. وقد يكون غير مستقل بمعنى أنه لا يفيد إلا إذا لوحظ معه السبب أو السؤال.
ولكل من هذين النوعين حكمة:
فأما الجواب الذي ليس بمستقل: فحكمه أنه يساوي السؤال في عمومه باتفاق الأصوليين ويساويه أيضا في خصوصه على الرأي السائد عندهم.
فلو قال سائل: هل يجوز الوضوء بماء البحر فأجيب بلفظ بنعم أو لفظ يجوز كان المعنى: يجوز الوضوء بماء البحر لكل من أراد من الناس لا لخصوص هذا السائل وذلك لأن السؤال استفهام عن الجواز مطلقا من غير اعتبار خصوص المتكلم فكذلك جوابه لأنه غير مستقل.
ولو قال السائل: توضأت بماء البحر فأجيب بلفظ يجزئك كان معناه:

أن الوضوء بماء البحر يجزئ السائل وحده لأن السؤال خاص بالمتكلم فكذلك جوابه غير المستقل. أما غير المتكلم فلا يعلم حكمه من هذا الجواب بل يعلم من دليل آخر كالقياس أو كقوله صلى الله عليه وسلم: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" . ذلك كله في الجواب غير المستقل.
وأما الجواب المستقل: فتارة يكون مثل السبب في أن كلا منهما عام أو خاص. وحكمه إذن أنه يساويه. فاللفظ العام يتناول كل أفراد سببه العام في الحكم واللفظ الخاص مقصور على شخص سببه الخاص في الحكم. وهذا محل اتفاق بين العلماء لمكان التكافؤ والتساوي بين السبب وما نزل فيه. وأمثلة الأول- وهو العام فيهما- كثيرة. منها الآيات النازلة في غزوة بدر والآيات النازلة في غزوة أحد من سورة آل عمران.
ومثال الثاني- وهو الخاص فيهما- قوله سبحانه في سورة الليل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} .
قال الجلال المحلي: هذا نزل في الصديق رضي الله عنه لما اشترى بلالا المعذب على إيمانه وأعتقه. فقال للكفار: إنما فعل ذلك ليد كانت له عنده فنزلت: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} .
واعلم أن هذا التمثيل لا يستقيم إلا على اعتبار أن أل في لفظ {الْأَتْقَى} للعهد والمعهود هو الصديق رضي الله عنه.
وتارة يأتي الجواب المستقل غير متكافئ مع السبب في عمومه وخصوصه. وتحت ذلك صورتان: إحداهما عقلية محضة غير واقعة وهي أن يكون السبب عاما واللفظ خاصا. وإنما كانت عقلية محضة وفرضية غير واقعة لأن حكمة الشارع تجل عن أن تأتي بجواب قاصر لا يتناول جميع أفراد السبب. أضف إلى ذلك أنه يخل ببلاغة القرآن القائمة على رعاية مقتضيات الأحوال. وهل يعقل أن يسأل

سائل فيقول مثلا؟ هل يجوز لجماعة المسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم ويقاتلوا من قاتلهم فيأتي الجواب قائلا: لك أنت أن تدافع عن نفسك وتقاتل من قاتلك.
الصورة الثانية هي عموم اللفظ وخصوص سببه.

عموم اللفظ وخصوص سببه
...
8- عموم اللفظ وخصوص سببه
ومعناه أن يأتي الجواب أعم من السبب ويكون السبب أخص من لفظ الجواب. وذلك جائز عقلا وواقع فعلا لأنه لا محظور فيه ولا قصور بل إن عمومه مع خصوص سببه موف بالغاية ومؤد للمقصود وزيادة.
بيد أن العلماء اختلفوا في حكمه أعموم اللفظ هو المعتبر أم خصوص السبب؟.
ذهب الجمهور إلى أن الحكم يتناول كل أفراد اللفظ سواء منها أفراد السبب وغير أفراد السبب. ولنضرب لك مثلا: حادثة قذف هلال بن أمية لزوجته وقد نزل فيها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الخ نلاحظ فيها أن السبب خاص وهو قذف هلال هذا لكن جاءت الآية النازلة فيه بلفظ عام -كما ترى- وهو لفظ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} . وهو اسم موصول والموصول من صيغ العموم وقد جاء الحكم بالملاعنة في الآية محمولا عليه من غير تخصيص. فيتناول بعمومه أفراد القاذفين في أزواجهم ولم يجدوا شهداء إلا أنفسهم سواء منهم هلال بن أمية صاحب السبب وغيره ولا نحتاج في سحب هذا الحكم على غير هلال إلى دليل من قياس أو سواه بل هو ثابت بعموم هذا النص. ومعلوم أنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص. ذلك مذهب الجمهور.
وقال غير الجمهور: إن العبرة بخصوص السبب. ومعنى هذا أن لفظ الآية يكون مقصورا على الحادثة التي نزل هو لأجلها أما أشباهها فلا يعلم حكمها من نص الآية إنما يعلم بدليل مستأنف آخر هو القياس إذا استوفى شروطه أو قوله صلى الله عليه وسلم:

"حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" . فآية القذف السابقة النازلة بسبب حادثة هلال مع زوجه خاصة بهذه الحادثة وحدها على هذا الرأي. أما حكم غيرها مما يشبهها فإنما يعرف قياسا عليها أو عملا بالحديث المذكور.
ويجب أن نلاحظ أن هذا الخلاف القائم بين الجمهور وغيرهم محله إذا لم تقم قرينة على تخصيص لفظ الآية العام بسبب نزوله أما إذا قامت تلك القرينة فإن الحكم يكون مقصورا على سببه لا محالة بإجماع العلماء.
كما يجب أن نلاحظ أيضا أن حكم النص العام الوارد على سبب يتعدى عند هؤلاء وهؤلاء إلى أفراد غير السبب. بيد أن الجمهور يقولون إنه يتناولهم بهذا النص نفسه وغير الجمهور يقولون إنه لا يتناولهم إلا قياسا أو بنص آخر كالحديث المعروف: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة.
وإلى هذا المعنى يشير ابن تيمية بقوله: قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا كقولهم: إن الآية الظهار نزلت في امرأة قيس بن ثابت وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله وإن آية قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نزلت في بني قريظة والنضير ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من اليهود والنصارى أو في قوم من المؤمنين. فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه؟ لم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين. وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته ا هـ.

ولعل ثمرة هذا الخلاف ترجع إلى أمرين: أحدهما أن الحكم على أفراد غير السبب مدلول عليه بالنص النازل فيه عند الجمهور. وذلك النص قطعي المتن اتفاقا وقد يكون مع ذلك قطعي الدلالة. أما غير الجمهور فالحكم عندهم على غير أفراد السبب ليس مدللا عليه بذلك النص بل القياس أو الحديث المعروف وكلاهما غير قطعي.
الثاني أن أفراد غير السبب كلها يتناولها الحكم عند الجمهور ما دام اللفظ قد تناولها. أما غير الجمهور فلا يسحبون الحكم إلا على ما استوفى شروط القياس منها دون سواه إن أخذوا فيه بالقياس.

أدلة الجمهور
...
د - أدلة الجمهور
استدل الجمهور على مذهبهم بأدلة ثلاثة: الأول أننا نعلم أن لفظ الشارع وحده هو الحجة والدليل دون ما احتف به من سؤال أو سبب فلا وجه إذن لأن تخصص اللفظ بالسبب. وكيف يسوغ أن نجعل ما ليس حجة في الشرع متحكما بالتخصيص على ما هو الحجة في الشرع؟
والدليل على أن لفظ الشارع وحده هو الحجة أن الشارع قد يصرف النظر عن السؤال ويعدل بالجواب عن سنن السؤال لحكمة نحو قوله تعالى في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فإن ظاهر هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيان ما ينفقونه فجاء الجواب ببيان من ينفقون عليهم. وذلك من أسلوب الحكيم لأن معرفة مصارف النفقة والصدقة أهم من معرفة المصروف فيهما فإن إصلاح الجماعة البشرية لا يكون إلا عن طريق تنظيم النفقة والإحسان على أساس توجيههما إلى المستحقين دون سواهم. وهذا وجه في الآية نراه وجيها،

وإن كانت الآية قد أشارت إشارة خفيفة إلى بيان ما ينفقونه بقوله سبحانه {مِنْ خَيْرٍ} غير أنها إشارة إجمالية لا تشبع حاجة السؤال.
ويمكن أن تنظم من هذا دليلا منطقيا من باب القياس الاقتراني تقريره هكذا اللفظ العام الوارد على سبب خاص هو الحجة وحده عند الشارع وكل ما كان كذلك يعتبر عمومه فاللفظ العام الوارد على سبب خاص يعتبر عمومه. وهو المطلوب.
كما يمكن أن تنظم منه قياسا استثنائيا تقريره:
لو لم يكن اللفظ العام الوارد على سبب خاص معتبرا عمومه لما كان لفظ الشارع وحده هو الحجة لكن التالي باطل فبطل ما أدى إليه وهو المقدم وثبت نقيضه وهو أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص يعتبر عمومه وهذا هو المطلوب.
الدليل الثاني: أن الأصل هو حمل الألفاظ على معانيها المتبادرة منها عند الإطلاق أي عند عدم وجود صارف يصرف عن ذلك المتبادر ولا صارف للفظ هنا عن إرادة العموم فلا جرم يبقى على عمومه. أما ما يتوهمه المخالفون من أن خصوص السبب صارف عن إرادة العموم فمدفوع بأن مجرد خصوص السبب لا يستلزم إخراج غير السبب من تناول اللفظ العام إياه. فلا يصلح أن يكون قرينة مانعة من إرادة ما وضع له اللفظ العام. وهو العموم الشامل لجميع الأفراد.
ويمكن أن تنظم من هذا الدليل قياسا اقترانيا هكذا: اللفظ العام الوارد على سبب خاص يتبادر منه العموم عند الإطلاق وكل ما كان كذلك يبقى على عمومه. فاللفظ العام الوارد على سبب خاص يبقى على عمومه وهو المطلوب.
ويمكن أن تنظم من ذلك الدليل قياسا استثنائيا أيضا يقول: لو لم يكن اللفظ العام الوارد على سبب خاص باقيا على عمومه عند الإطلاق للزم استعمال اللفظ في غير ما وضع له بلا قرينة لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو أن اللفظ العام

الوارد على سبب خاص باق على عمومه عند الإطلاق. وذلك هو المطلوب.
الدليل الثالث: احتجاج الصحابة والمجتهدين في سائر الأعصار والأمصار بعموم تلك الألفاظ الواردة على أسباب خاصة في وقائع وحوادث كثيرة من غير حاجة إلى قياس أو استدلال بدليل آخر. وكيف ينكر هذا؟ وأكثر أصول الشرع خرجت على أسباب خاصة وبرغم خصوص تلك الأسباب قد فهموا من الألفاظ النازلة فيها حقيقة العموم ثم صاغوا من عموماتها كثيرا من الأصول. فاستدلوا بآية السرقة على وجوب قطع كل يد مع أنها نازلة في خصوص سرقة المجن أو رداء صفوان. واحتجوا بآيات الظهار على وجوب الكفارة المذكورة فيها والعمل بأحكامها على كل من ظاهر مع أنها نازلة في خصوص من عرفت قبل. وكذلك برهنوا بآيات اللعان على شمول حكمه لكل من قذف زوجته ولم يكن معه شهود على حين أنها نازلة في خصوص من ذكرنا سابقا.
ويمكن أن تنظم من هذا الدليل قياسا اقترانيا نصه: عموم اللفظ الوارد على سبب خاص قد اعتبره الصحابة والمجتهدون وكل ما كان كذلك فهو المعتبر. فعموم اللفظ الوارد على سبب خاص هو المعتبر. ويمكن أن تنظم منه دليلا استثنائيا نصه لو لم يكن عموم اللفظ الوارد على سبب خاص هو المعتبر لما اعتبره الصحابة والمجتهدون لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو المطلوب.
ملاحظة :
لا يبعد عليك أن تستدل للمقدمات الصغرى والكبرى في الأقيسة الاقترانية التي ذكرناها خصوصا بعد أن تنظر فيما نثرناه قبلها من عرض الأدلة بالأسلوب المألوف الخالي من القيود الشكلية في الاصطلاحات المنطقية.
وبمثل ذلك تستطيع أن تستدل للملازمات وبطلان التوالي فيما نظمناه بين يديك من الأقيسة الاستثنائية. فتأمل.


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 28 شوال 1430هـ/17-10-2009م, 11:20 PM
الياسمين الياسمين غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Jul 2009
المشاركات: 30
افتراضي شبهات المخالفين وتفنيدها

10- شبهات المخالفين وتفنيدها
استند مخالفو الجمهور إلى شبهات خمس لتأييد مذهبهم- وهو أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ- ولكنك سترى مصرع هذه الشبهات بين يديك:
الشبهة الأولى يقولون: إن الإجماع قد انعقد على عدم جواز إخراج السبب من حكم العام الوارد على سبب خاص إذا ورد مخصص. وذلك يستلزم أن العام مقصور على أفراد السبب لا يتناول غيرها لأنه لو لم يكن مقصورا عليها لتساوت هي وغيرها في جواز الإخراج عند المخصص. وذلك ممنوع للإجماع المذكور.
والجواب : أن الإجماع المذكور لا يستلزم قصر العام على إفراد الخاص كما يقولون بل هو واقف عند حدود معناه من أن أفراد السبب لا تخرج بالمخصص وذلك المعنى محقق لعدم التساوي بين أفراد السبب وغيرها في حالة الإخراج بالمخصص لكنه لا يمنع دخول غير أفراد السبب في حكم العام إذا تناوله اللفظ وذلك لأدلة الجمهور السابقة.
ويمكن أن تنظم في هذا قياسا استثنائيا يقول:
لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لجاز إخراج أفراد السبب إذا ورد مخصص لكن إخراج أفراد السبب عند وجود المخصص ممنوع لانعقاد الإجماع على امتناعه. فبطل ما أدى إليه وهو المقدم وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب. دليل التلازم أن العام تستوي أفراده فإذا أخذنا بعموم اللفظ ولم نخصصه بالسبب
تساوت أفراد السبب وغيرها مما اندرج تحت ذلك العام فإذا جاء مخصص جاز أن يخرج أفراد السبب.
ويجاب بإبطال الملازمة ومنع أن أفراد العام متساوية. وسند المنع أن الإجماع منعقد على أن أفراد السبب تمتاز عن غيرها بأنها لا تخرج بالتخصيص. فإن تساوت هي وأفراد غير السبب دخولا فلن يتساوى الجميع خروجا. وإذن يبقى العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب للأدلة السابقة.
الشبهة الثانية يقولون: إن الرواة نقلوا أسباب النزول واهتموا بها وبتدوينها. ولا فائدة لذلك إلا ما نذهب إليه من وجوب قصر العام على أفراد سببه الخاص. وهذا معنى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. والجواب: أنه لا وجه لكم في أن تجعلوا فائدة نقل الأسباب هي قصر العام على أفراد سببه فإن لأسباب النزول والإحاطة بها علما عن طريق نقل الرواة فوائد عدة ومزايا جمة وذكرناها في مطلع هذا المبحث
وهي غير ما ذكرتم فارجعوا إليها إن شئتم.
ويمكن أن ننظم من ذلك قياسا استثنائيا أيضا هكذا لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لما نقله الرواة واهتموا ببيانه وتدوينه لكن التالي باطل بالحس والمشاهدة فثبت نقيض المقدم وهو أن العبرة بخصوص السبب دليل الملازمة أنه لا يفهم لنقل الرواة وعنايتهم ببيان الأسباب فائدة غير التخصيص.
والجواب: أننا نمنع دليل الملازمة كيف؟ ولأسباب النزول فوائد متعددة قد قصصناها عليك أول هذا المبحث فحذار أن تنسى.
الشبهة الثالثة يقولون: إن تأخير البيان عن وقوع الواقعة وتوجيه السؤال في العام الوارد على سبب يدل على أن العبرة بخصوص السبب لأن تأخير لفظ الشارع إلى ما بعد حدوث سببه يفهم منه أن السبب هو الملحوظ وحده للشارع في الحكم عليه بهذا اللفظ العام النازل فيه وإلا لما ربطه بالسبب بل لأنزله قبله أو أخره عنه.

والجواب أنه يكفي في حكمة تأخير البيان إلى ما بعد السبب أن يكون اللفظ العام بيانا له ولو مع ما يشابهه من كل ما يندرج تحت اللفظ العام ولا يستلزم أن يكون بيانا له وحده كما ذكرتم.
ويمكن أن تصوغ في هذا قياسا هكذا لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لما أخر البيان إلى وقوع الواقعة أو توجيه السؤال. لكن التالي باطل فثبت نقيض المقدم وهو المطلوب. دليل الملازمة أن تأخير لفظ الشارع إلى ما بعد وقوع الواقعة وتوجيه السؤال لا يفهم منه إلا أنه بيان لهذا السبب وحده وذلك معنى أن العبرة بخصوصه.
والجواب : أننا نمنع دليل الملازمة أي نمنع أنه لا يفهم من تأخير البيان إلى ما بعد وقوع الواقعة وتوجيه السؤال إلا أن يكون اللفظ العام النازل بسببهما بيانا لهذا السبب وحده. كيف؟ والتأخير يفهم منه أن اللفظ العام جاء بيانا له مع أشباهه من كل ما ينتظم وإياه في سلك العام للأدلة السابقة.
الشبهة الرابعة يقولون: قد اتفقت كلمة الفقهاء على أنه إذا دعا رجل رجلا آخر إلى طعام الغداء وقال له: تغد عندي فرفض وقال: والله لا أتغدى ولم يقل عندك ثم تناول الغداء عند غير هذا الداعي فإنه لا يحنث.
وما ذاك إلا لأن هذا اللفظ العام قد تخصص بسببه وهو كلمة تغد عندي التي خص بها الداعي نفسه فكأن الحالف قال: لا أتغدى عندك وحدك ولذلك لا يحنث بغدائه عند غيره.
والجواب : أن حكم الفقهاء في هذا المثال ليس مبنيا على أن كل عام يتخصص بسببه كما فهمتم بل هو مبني على أن هذا المثال وأشباهه تخصص بقرينة خارجة وهي حكم العرف هنا بأن الحالف إنما يريد ترك الغداء عند داعيه فقط. وليس كلامنا فيما تخصص بقرينة خارجة سواء أكانت العرف أم سواه فذلك محل وفاق.

ونظيره أن يقال لك كلم فلانا في واقعة معينة فتقول والله لا أكلمه أبدا فإنك لا تحنث إذا كلمته في غير تلك الواقعة لأن العرف يحكم أيضا بأنك تريد عدم تكليمه في خصوص تلك الواقعة لا مطلقا.
ويمكن أن تنظم من هذا قياسا استثنائيا يقول:
لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لكان من قال والله لا أتغدى ولم يقل عندك في إجابة من قال له تغد عندي حانثا إذا تغدى عند غيره. لكن التالي باطل لنص الفقهاء على عدم حنثه حينئذ فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو المطلوب.
دليل الملازمة أن كلمة لا أتغدى شاملة للتغدي عند المخاطب وعند غيره لأن حذف المعمول يؤذن بالعموم.
وقد جاءت هذه الكلمة على سبب وهو دعوة المخاطب إياه للغداء. فلو أخذنا بعموم هذا اللفظ وأهملنا خصوص هذا السبب لكان يحنث بغدائه عند غيره لأنه فرد من أفراد ذلك العام.
والجواب : أن التخصيص بالسبب هنا لم يجيء من نفس السبب إنما جاء من قرينة خارجة هي حكم العرف بأن حالف مثل هذه اليمين إنما يقصد عدم التغدي عند من دعاه وحده. ولا كلام لنا في ذلك لأن التخصيص بالقرينة الخارجة محل وفاق كما تقدم.
الشبهة الخامسة يقولون: إن التطابق بين السؤال وجوابه واجب في نظر الحكمة وبحكم قانون البلاغة. وهذا التطابق لا يستقيم إلا بالتساوي بين لفظ العام وسببه الخاص. والتساوي لا يكون إلا إذا خصصنا اللفظ العام بسببه الخاص. لا سيما إذا وقع ذلك في كلام الشارع الحكيم وجاء في أرقى نصوص البلاغة وواحدها إعجازا وهو القرآن الكريم.

والجواب: أن طرد العام على عمومه لا يخل بمطابقته لسببه الخاص؟ لأن هذه المطابقة تحصل بكون اللفظ أعم من سببه كما تحصل بمساواته إياه فإن المقصود من المطابقة أن يكون اللفظ مبينا لحكم السبب وغير قاصر عن الوفاء به وهو إذا جاء أعم يكون قد وفى بالمراد وزاد.
ويمكن أن تسبك من هذا قياسا استثنائيا صيغته هكذا: لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لكان اللفظ غير مطابق للسبب. لكن التالي باطل فثبت نقيض المقدم. دليل الملازمة: أن الكلام هنا مفروض في سبب خاص ولفظ عام ولا شك أن العام لا يطابق الخاص. ودليل بطلان التالي: أن عدم المطابقة مناف للحكمة ومخل بالبلاغة.
والجواب: أننا نبطل تلك الملازمة ونمنع دليلها وهو أن العام لا يطابق الخاص. كيف؟ والمطابقة كما تحصل بمساواة اللفظ للسبب عموما وخصوصا تحصل بكون اللفظ أعم من السبب لأن المراد من الجواب أن يتحدث عن السبب ويبين حكمه وذلك حاصل مع كونه أعم منه ولا يتوقف على مساواته إياه.
ملاحظة : يمكنك بعد هذا البيان أن تحول تلك الأقيسة الاستثنائية إلى أقيسة اقترانية ثم تستدل على مقدماتها بسهولة ويسر على نمط ما فعلناه بأدلة الجمهور. فأمامك المجال ولا داعي لإطالة المقال.
كما أرجو أن يعذرني القارئ الكريم إذا شق عليه بعض الشيء أن يهضم تلك الصناعة الفنية في صياغة الأدلة بعض الأحيان فإن للوسط قضاء لا يرد وللصناعة حكما لا ينقض. ومن واجبي أن أشبع حاجة هؤلاء وهؤلاء لذلك تراني طورا هنا وطورا هناك. والله هو الفتاح العليم وهو الموفق والمعين.

شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام
...
11- شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام
نوه السيوطي في الإتقان وابن السبكي والمحلي في جمع الجوامع وشرحه بأن القرآن الكريم قد يرد فيه ما يشبه السبب الخاص مع اللفظ العام النازل فيه فيكون لهذا الشبه أثر صالح في تناول الآية العامة للمضمون الخاص في الآية التي معها تناولا ممتازا يجعله أسبق إلى الذهن من غيره وأبعد عن خروجه بالتخصيص إذا ورد مخصص لتلك الآية العامة. فكأنه قطعي الدخول. وكأنه مجمع على عدم خروجه بالمخصص كما أجمعوا على عدم خروج السبب الخاص من لفظ العام النازل فيه.
وهاك مثلا يوضح لك المقام: قال الله تعالى في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} إلى آخر الآيات الواردة في هذا الموضوع.
فأنت ترى أن هذه الآيات شنعت على الخيانة والخائنين من اليهود وتوعدتهم أفظع الوعيد ووبختهم أشد التوبيخ. وذلك في معنى النهي البالغ عن تلك الخيانة أي خيانتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث جعلوا المشركين أهدى سبيلا منهم. ومن المقرر أن النهي عن شيء أمر بضده فلا جرم تضمنت هذه الآيات أيضا أمر اليهود بالأمانة في الحكم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بالصفات الحقيقية. خصوصا أنهم قد مدحوا في كتابهم التوراة كما قال الله تعالى في سورة الأعراف: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الخ والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وكما قال في سورة الفتح بعد أن وصف النبي وأصحابه: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الخ.
ثم جاء عقيب تلك الآيات في الترتيب الوضعي قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
فكان التناسب بينهما رائعا والصلة وثيقة والانسجام جميلا لأن هذه الآية تأمر بالأمانة في عمومها كما ترى وتلك الآيات تأمر بأمانة خاصة كما علمت وما أحكم الصلة بين العام والخاص. فكان ذلك شبيها بالسبب الخاص ينزل فيه لفظ عام فإذا كان تناول العام لأفراد الخاص مجمعا عليه ولا يصح خروجه بمخصص فكذلك الأمانة الخاصة التي معنا تنتظم في سلك الأمانة العامة انتظاما ممتازا وتدخل فيها دخولا أوليا حتى لو قيل إنه لا يجمل إخراجها منها بمخصص لم يبعد وذلك ما حدا بابن السبكي أن يجعلها مرتبة دون السبب وفوق التجرد. وإنما لم تجعل في مرتبة السبب لأن الأولى ليست سببا في الثانية ولأن المقارنة بينهما ليست إلا في ترتيب آيات القرآن ووضع بعضها بإزاء بعض وليست مقارنة زمانية في النزول بل إن بينهما مدى بعيدا فالثانية تأخرت عن الأولى بنحو ست سنين ولا يضر ذلك لأن تقارب الزمان ليس شرطا في وضع آية لصق آية تناسبها إنما هو شرط في أسباب النزول مع ما ينزل فيها بحسب.
ولعل من تمام الفائدة أن نسوق إليك ما جاء في جمع الجوامع للإمام ابن السبكي وشارحه جلال الدين المحلي في هذه المناسبة ونصه: ويقرب منها أي من صورة السبب حتى يكون قطعي الدخول أو ظنيه خاص في القرآن تلاه في الرسم أي رسم القرآن بمعنى وضعه مواضعه وإن لم يتله في النزول عام للمناسبة بين التالي والمتلو كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الخ فإنه -كما قال أهل التفسير- إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر حرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم فسألوهم: من أهدى سبيلا محمد وأصحابه أم نحن؟ فقالوا: أنتم مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم المنطبق عليه وأخذ المواثيق عليهم ألا يكتموه فكان ذلك أمانة لازمة لهم ولم
يؤدوها حيث قالوا للكفار: أنتم أهدى سبيلا حسدا للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية مع هذا القول التوعد عليه المفيد للأمر بمقابله المشتمل على أداء الأمانة التي هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم بإفادة أنه الموصوف في كتابهم وذلك مناسب لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فهذا عام في كل أمانة وذلك خاص بأمانة هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم بالطريق السابق والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول بست سنين مدة ما بين بدر في رمضان من السنة الثانية والفتح في رمضان من السنة الثامنة وإنما قال: ويقرب منها كذا لأنه لم يرد العام بسببه بخلافها ا هـ والحمد لله أولا وآخرا.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 11 رجب 1433هـ/31-05-2012م, 12:27 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي


قال محمد عبد العظيم الزرقاني (ت: 1367هـ): (القرآن الكريم قسمان: قسم نزل من الله ابتداء غير مرتبط بسبب من الأسباب الخاصة إنما هو لمحض هداية الخلق إلى الحق. وهو كثير ظاهر لا يحتاج إلى بحث ولا بيان. وقسم نزل مرتبطا بسبب من الأسباب الخاصة.
وهو موضوع بحثنا الآن. غير أنا لا نريد أن نستعرض جميع الآيات التي جاءت على أسباب فذلك شأو بعيد. وقد انتدب له جماعة أفردوه بالتأليف منهم علي بن المديني شيخ البخاري ومنهم الواحدي والجعبري وابن حجر ومنهم السيوطي الذي وضع فيه كتابا حافلا محررا سماه لباب النقول في أسباب النزول.
إنما غرضنا في هذا المبحث أن يحيطك علما بأسباب النزول من أطرافه الأحد عشر وهي معنى سبب النزول وفوائد معرفة أسباب النزول وطريق هذه المعرفة والتعبيرات عن سبب النزول وحكم تعدد الأسباب والنازل واحد وتعدد النازل والسبب واحد والعموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه وتحقيق الخلاف في عموم اللفظ وخصوص سببه وأدلة الجمهور في ذلك وشبهات المخالفين وتفنيدها وشبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام.
معنى سبب النزول
سبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أن مبينة لحكمه أيام وقوعه. والمعنى أنه حادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو سؤال وجه إليه فنزلت الآية أو الآيات من الله تعالى ببيان ما يتصل بتلك الحادثة أو بجواب هذا السؤال.
سواء أكانت تلك الحادثة خصومة دبت كالخلاف الذي شجر بين جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج بدسيسة من أعداء الله اليهود حتى تنادوا: السلاح السلاح ونزل بسببه تلك الآيات الحكيمة في سورة آل عمران من أول قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} إلى آيات أخرى بعدها هي من أروع ما ينفر من الانقسام والشقاق ويرغب في المحبة والوحدة والاتفاق. أم كانت تلك الحادثة خطأ فاحشا ارتكب كذلك السكران الذي أم الناس في صلاته وهو في نشوته ثم قرأ السورة بعد الفاتحة فقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} "أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" وحذف لفظ "لا" من {لا أَعْبُدُ} فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} في سورة النساء.
أم كانت تلك الحادثة تمنيا من التمنيات ورغبة من الرغبات كموافقات عمر رضي الله عنه التي أفردها بعضهم بالتأليف. ومن أمثلتها ما أخرجه البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وقلت يا رسول الله: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب.
واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيراً منكن" فنزلت كذلك ا هـ. وهذه في سورة التحريم.
وسواء أكان ذلك السؤال المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتصل بأمر مضى نحو قوله سبحانه في سورة الكهف: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} الخ. أم يتصل بحاضر نحو قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} أم يتصل بمستقبل نحو قوله جل ذكره في سورة النازعات: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} الخ.
والمراد بقولنا أيام وقوعه الظروف التي ينزل القرآن فيها متحدثا عن ذلك السبب سواء أوقع هذا النزول عقب سببه مباشرة أم تأخر عنه مدة لحكمة من الحكم كما حدث ذلك حين سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين. فقال: صلى الله عليه وسلم "غدا أخبركم" ولم يستثن أي لم يقل إلا أن شاء الله فأبطأ عليه الوحي خمسة عشر يوما على ما رواه ابن إسحاق وقيل ثلاثة أيام وقيل أربعين يوما حتى شق عليه ذلك. ثم نزلت أجوبة تلك المقترحات وفي طيها يرشد الله تعالى رسوله إلى أدب الاستثناء بالمشيئة ويقول له في سورة الكهف: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} .
ثم إن كلمة أيام وقوعه في تعريف سبب النزول قيد لا بد منه للاحتراز عن الآية أو الآيات التي تنزل ابتداء من غير سبب بينما هي تتحدث عن بعض الوقائع والأحوال الماضية أو المستقبلة كبعض قصص الأنبياء السابقين وأممهم وكالحديث عن الساعة وما يتصل بها وهو كثير في القرآن الكريم.

- فوائد معرفة أسباب النزول
زعم بعض الناس أنه لا فائدة للإلمام بأسباب النزول وأنها لا تعدو أن تكون تاريخا للنزول أو جارية مجرى التاريخ وقد أخطأ فيما زعم فإن لأسباب النزول فوائد متعددة لا فائدة واحدة:
الأولى: معرفة حكمة الله تعالى على التعيين فيما شرعه بالتنزيل وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيمانا على إيمانه ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام ومن أجلها جاء هذا التنزيل. وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفا حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان لا على الاستبداد والتحكم والطغيان خصوصا إذا لاحظ سير ذلك التشريع وتدرجه في موضوع واحد. وحسبك شاهدا على هذا تحريم الخمر وما نزل فيه وقد مر بك في البحث السابق فلا نعيده ولا تغفل.
الفائدة الثانية: الاستعانة على فهم الآية ودفع الإشكال عنها. حتى لقد قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالمسبب يورث العلم بالسبب ا هـ.
ولنبين لك ذلك بأمثلة ثلاثة: الأول قال الله تعالى في سورة البقرة: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فهذا اللفظ الكريم يدل بظاهره على أن للإنسان أن يصلي إلى أية جهة شاء ولا يجب عليه أن يولي وجهه شطر البيت الحرام لا في سفر ولا حضر. لكن إذا علم أن هذه الآية نازلة في نافلة السفر خاصة أو فيمن صلى باجتهاده ثم بان له خطؤه تبين له أن الظاهر غير مراد إنما المراد التخفيف على خصوص المسافر في صلاة النافلة أو على المجتهد
في القبلة إذا صلى وتبين له خطؤه. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وقيل: عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل في الآية غير ذلك ولكن ما ذكرناه يكفيك.
المثال الثاني: روي في الصحيح أن مروان بن الحكم أشكل عليه معنى قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من سورة آل عمران.
وقال: لئن كان كل امرىء فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. وبقي في إشكاله هذا حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه أي طلبوا منه أن يحمدهم على ما فعلوا. وهنالك زال الإشكال عنه وفهم مراد الله من كلامه هذا ووعيده.
المثال الثالث أشكل على عروة بن الزبير رضي الله عنه أن يفهم فرضية السعي بين الصفا والمروة مع قوله سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
وإشكاله نشأ من أن الآية الكريمة نفت الجناح ونفي الجناح لا يتفق والفرضية في رأيه وبقي في إشكاله هذا حتى سأل خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فأفهمته أن نفي الجناح هنا ليس نفيا للفرضية إنما هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين يومئذ من أن السعي بين الصفا والمروة من عمل الجاهلية نظرا إلى أن الصفا كان عليه صنم يقال له: إساف وكان على المروة صنم يقال له: نائلة. وكان المشركون إذا سعوا بينهما تمسحوا بهما. فلما ظهر الإسلام وكسر الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت الآية. كذلك جاءت بعض الروايات.
لكن جاء في رواية صحيح البخاري ما نصه: فقال أي عروة لها أي لعائشة أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} : فو الله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئسما قلت يا ابن أختي إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه ألا يطوف بهما ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. قالت عائشة وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما انتهى ما أردنا نقله. ومعنى يهلون: يحجون. ومناة الطاغية: اسم صنم وكان صخرة نصبها عمرو بن لحي بجهة البحر فكانوا يعبدونها. والمشلل بضم الميم واللام الأولى مشددة مفتوحة: اسم موضع قريب من قديد من جهة البحر. وقديد بضم القاف: قرية بين مكة والمدينة. وكلمة سن معناها في هذا الحديث شرع أو فرض بدليل من السنة لا من الكتاب.
وهذه الرواية كما ترى تدل على أن عروة فهم من جملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أن الجناح منفي أيضا عن عدم الطواف بهما وعلى ذلك تنتفي الفرضية وكأنه اعتمد في فهمه هذا على أن نفي الجناح أكثر ما يستعمل في الأمر المباح. أما عائشة رضي الله عنها فقد فهمت أن فرضية السعي بين الصفا والمروة مستفادة من السنة وأن جملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
لا تنافي تلك الفرضية كما فهم عروة إنما الذي ينفيها أن يقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما وإنما توجه نفي الحرج في الآية عن الطواف بين الصفا والمروة لأن هذا الحرج هو الذي كان واقرا في أذهان الأنصار كما يدل عليه سبب نزول الآية الذي ذكرته السيدة عائشة فتدبر.
الفائدة الثالثة: دفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر نحو قوله سبحانه في سورة الأنعام: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} . ذهب الشافعي إلى أن الحصر في هذه الآية غير مقصود واستعان على دفع توهمه بأنها نزلت بسبب أولئك الكفار الذين أبوا إلا أن يحرموا ما أحل الله ويحلوا ما حرم الله عنادا منهم ومحادة لله ورسوله فنزلت الآية بهذا الحصر الصوري مشاد لهم ومحادة من الله ورسوله لا قصدا إلى حقيقة الحصر.
نقل السبكي عن الشافعي أنه قال ما معناه: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم. فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه. نازلا منزلة من يقول لك: لا تأكل اليوم حلاوة فتقول لا آكل اليوم إلا حلاوة والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة. فكأنه تعالى قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ولم يقصد حل ما وراءه إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل ا هـ.
قال إمام الحرمين: وهذا في غاية الحسن ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية ا هـ.
الفائدة الرابعة: تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. فآيات الظهار في مفتتح سورة المجادلة- وقد تقدمت- سببها أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت حكيم بن ثعلبة والحكم الذي تضمنته هذه الآيات خاص بهما وحدهما على هذا الرأي أما غيرهما فيعلم بدليل آخر قياسا أو سواه. وبدهي أنه لا يمكن معرفة المقصود بهذا الحكم ولا القياس عليه إلا إذا علم السبب وبدون معرفة السبب تصير الآية معطلة خالية من الفائدة.
الفائدة الخامسة: معرفة أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية إذا ورد مخصص لها. وذلك لقيام الإجماع على أن حكم السبب باق قطعا. فيكون التخصيص قاصرا على ما سواه. فلو لم يعرف سبب النزول لجاز أن يفهم أنه مما خرج بالتخصيص مع أنه لا يجوز إخراجه قطعا للإجماع المذكور. ولهذا يقول الغزالي في المستصفى: ولذلك يشير إلى امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد غلط أبو حنيفة رحمه الله في إخراج الأمة المستفرشة من قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" . والخبر إنما ورد في وليدة زمعة إذ قال عبد بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. فقال عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فأثبت للأمة فراشا وأبو حنيفة لم يبلغه السبب فأخرج الأمة من العموم ا هـ.
الفائدة السادسة: معرفة من نزلت فيه الآية على التعيين حتى لا يشتبه بغيره فيتهم البريء ويبرأ المريب مثلا. ولهذا ردت عائشة على مروان حين اتهم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر بأنه الذي نزلت فيه آية {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} الخ من سورة الأحقاف. وقالت: والله ما هو به ولو شئت أن أسميه لسميته إلى آخر تلك القصة.
الفائدة السابعة: تيسير الحفظ وتسهيل الفهم وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها. وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات والأحكام بالحوادث والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة. كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء وانتقاشها في الذهن وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر وذلك هو قانون تداعي المعاني المقرر في علم النفس.

3- طريق معرفة سبب النزول
لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا النقل الصحيح روى الواحدي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الحديث إلا ما علمتم فإنه من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار" . ومن هنا لا يحل القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها. ا هـ.
وعلى هذا فإن روي سبب النزول عن صحابي فهو مقبول وإن لم يعتضد أي لم يعزز برواية أخرى تقويه. وذلك لأن قول الصحابي فيما لا مجال للاجتهاد فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يبعد كل البعد أن يكون الصحابي قد قال ذلك من تلقاء نفسه على حين أنه خبر لا مرد له إلا السماع والنقل أو المشاهدة والرؤية.
أما إذا روي سبب النزول بحديث مرسل أي سقط من سنده الصحابي وانتهى إلى التابعي فحكمه أنه لا يقبل إلا إذا صح واعتضد بمرسل آخر وكان الراوي له من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير.

4- التعبير عن سبب النزول
تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النزول. فتارة يصرح فيها بلفظ السبب فيقال: سبب نزول الآية كذا وهذه العبارة نص في السببية لا تحتمل غيرها.
وتارة لا يصرح بلفظ السبب ولكن يؤتى بفاء داخلة على مادة نزول الآية عقب سرد حادثة وهذه العبارة مثل تلك في الدلالة على السببية أيضا. ومثاله رواية جابر الآتية قريبا. ومرة يسأل الرسول فيوحى إليه ويجيب بما نزل عليه ولا يكون تعبير بلفظ سبب النزول ولا تعبير بتلك الفاء ولكن السببية تفهم قطعا من المقام كرواية ابن مسعود الآتية عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح. وحكم هذه أيضا حكم ما هو نص في السببية. ومرة أخرى لا يصرح بلفظ السبب ولا يؤتى بتلك الفاء ولا بذلك الجواب المبني على السؤال بل يقال: نزلت هذه الآية في كذا مثلا. وهذه العبارة ليست نصا في السببية بل تحتملها وتحتمل أمرا آخر هو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام. والقرائن وحدها هي التي تعين أحد هذين الاحتمالين أو ترجحه.
ومن هنا نعلم أنه إذا وردت عبارتان في موضوع واحد إحداهما نص في السببية لنزول آية أو آيات والثانية ليست نصا في السببية لنزول تلك الآية أو الآيات هنالك نأخذ في السببية بما هو نص ونحمل الأخرى على أنها بيان لمدلول الآية لأن النص أقوى في الدلالة من المحتمل.
مثال ذلك: ما أخرجه مسلم عن جابر قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} من سورة البقرة. وما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: أنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} في إتيان النساء في أدبارهن.
فالمعول عليه في بيان السبب هو رواية جابر الأولى لأنها صريحة في الدلالة على السبب. وأما رواية ابن عمر فتحمل على أنها بيان لحكم إتيان النساء في أدبارهن وهو التحريم. استنباطا منه.
أما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات ليس شيء منها نصا كأن يقول بعض المفسرين نزلت هذه الآية في كذا. ويقول الآخر: نزلت في كذا ثم يذكر شيئا آخر غير ما ذكره الأول وكان اللفظ يتناولهما ولا قرينة تصرف إحداهما إلى السببية فإن الروايتين كلتيهما تحملان على بيان ما يتناوله من المدلولات. ولا وجه لحملهما على السبب.
وأما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات كلها نص في السببية فهنا يتشعب الكلام. ولنفرده بعنوان.

5- تعدد الأسباب والنازل واحد
إذا جاءت روايتان في نازل واحد من القرآن وذكرت كل من الروايتين سببا صريحا غير ما تذكره الأخرى نظر فيهما. فإما أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى غير صحيحة. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولكن لإحداهما مرجح دون الأخرى. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولا مرجح لإحداهما على الأخرى ولكن يمكن الأخذ بهما معا. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولا مرجح ولا يمكن الأخذ بهما معا. فتلك صور أربع لكل منها حكم خاص نسوقه إليك:
أما الصورة الأولى- وهي ما صحت فيه إحدى الروايتين دون الأخرى فحكمها الاعتماد على الصحيحة في بيان السبب. ورد الأخرى غير الصحيحة. مثال ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها وكانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جروا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فدخل تحت السرير فمات فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال: "يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني" فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة فأنزل الله: {وَالضُّحَى} إلى قوله {فَتَرْضَى} . فنحن بين هاتين الروايتين نقدم الرواية الأولى في بيان السبب لصحتها دون الثانية لأن في إسنادها من لا يعرف. قال ابن حجر: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية غريب وفي إسناده من لا يعرف فالمعتمد ما في الصحيح ا هـ.
وأما الصورة الثانية- وهي صحة الروايتين كلتيها ولإحداهما مرجح- فحكمها أن نأخذ في بيان السبب بالراجحة دون المرجوحة. والمرجح أن تكون إحداهما أصح من الأخرى أو أن يكون راوي إحداهما مشاهدا للقصة دون راوي الأخرى. مثال ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وهو يتوكأ على عسيب. فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم: لو سألتموه. فقالوا: حدثنا عن الروح. فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحي ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} . وما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل. فقالوا: اسألوه عن الروح فسألوه فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية.
فهذا الخبر الثاني يدل على أنها بمكة وأن سبب نزولها سؤال قريش إياه. أما الأول فصريح في أنها نزلت بالمدينة بسبب سؤال اليهود إياه وهو أرجح من وجهين: أحدهما أنه رواية البخاري أما الثاني فإنه رواية الترمذي ومن المقرر أن ما رواه البخاري أصح مما رواه غيره. ثانيهما أن راوي الخبر الأول وهو ابن مسعود كان مشاهد القصة من أولها إلى آخرها كما تدل على ذلك الرواية الأولى بخلاف الخبر الثاني فإن رواية ابن عباس لا تدل الرواية على أنه كان حاضر القصة ولا ريب أن للمشاهدة قوة في التحمل وفي الأداء وفي الاستيثاق ليست لغير المشاهدة ومن هنا أعملنا الرواية الأولى وأهملنا الثانية.
وأما الصورة الثالثة- وهي ما استوت في الروايتان في الصحة ولا مرجح لإحداهما لكن يمكن الجمع بينهما بأن كلا من السببين حصل ونزلت الآية عقب حصولهما معا لتقارب زمنيهما فحكم هذه الصورة أن نحمل الأمر على تعدد السبب لأنه الظاهر ولا مانع يمنعه. قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب.
مثال ذلك: ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك" . فقال يا رسول الله إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة. وفي رواية أنه قال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} حتى بلغ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ا هـ وهذه الآيات من سورة النور.
وأخرج الشيخان واللفظ للبخاري عن سهل بن سعد أن عويمرا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع
امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله وفي رواية مسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فجاءه عويمر فقال يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبك" . فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها ا هـ. فهاتان الروايتان صحيحتان ولا مرجح لإحداهما على الأخرى ومن السهل أن نأخذ بكلتيهما لقرب زمانيهما على اعتبار أن أول من سأل هو هلال بن أمية ثم قفاه عويمر قبل إجابته فسأل بواسطة عاصم مرة وبنفسه مرة أخرى فأنزل الله الآية إجابة للحادثين معا. ولا ريب أن إعمال الروايتين بهذا الجمع أولى من إعمال إحداهما وإهمال الأخرى إذ لا مانع يمنع الأخذ بهما على ذلك الوجه. ثم لا جائز أن نردهما معا لأنهما صحيحتان ولا تعارض بينهما. ولا جائز أيضا أن نأخذ بواحدة ونرد الأخرى لأن ذلك ترجيح بلا مرجح. فتعين المصير إلى أن نأخذ بهما معا. وإليه جنح النووي وسبقه إليه الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد ا هـ.
ويمكن أن يفهم من الرواية الثانية أن آيات الملاعنة نزلت في هلال أولا ثم جاء عويمر فأفتاه الرسول بالآيات التي نزلت في هلال. قال ابن الصباغ: قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعويمر: "إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك" فمعناه ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع الناس.
وأما الصورة الرابعة- وهي استواء الروايتين في الصحة دون مرجح
لإحداهما ودون إمكان للأخذ بهما معا لبعد الزمان بين الأسباب فحكمها أن تحمل الأمر على تكرار نزول الآية بعدد أسباب النزول التي تحدثت عنها هاتان الروايتان أو تلك الروايات لأنه إعمال لكل رواية ولا مانع منه. قال الزركشي في البرهان: وقد ينزل الشيء تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه ا هـ.
مثال ذلك ما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال: "لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة وهن ثلاث آيات.
وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب قال" لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا به فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين أي لنزيدن عليهم.
فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية.
فالرواية الأولى تفيد أن الآية نزلت في غزوة أحد والثانية تفيد أنها نزلت يوم فتح مكة على حين أن بين غزوة أحد وغزوة الفتح الأعظم بضع سنين فبعد أن يكون نزول الآية كان مرة عقيبهما معا. وإذن لا مناص لنا من القول بتعدد نزولها مرة في أحد ومرة يوم الفتح. وقد ذهب البعض إلى أن سورة النحل كلها مكية.
وعليه فتكون خواتيمها المذكورة نزلت مرة بمكة قبل هاتين المرتين اللتين في المدينة وتكون عدة مرات نزولها ثلاثا. وبعضهم يقول إن سورة النحل مكية ما عدا خواتيمها تلك فإنها مدنية وعليه فعدة مرات نزولها اثنتان فقط.

شبهة وجوابها
وإذا استشكل على تكرار النزول بأنه عبث ما دامت الآية قد نزلت قبل ذلك السبب الجديد وحفظها الرسول صلى الله عليه وسلم واستظهرها الحفاظ من الصحابة ويمكن الرجوع إليها من غير حاجة إلى نزولها مرة أخرى.
فالجواب أن هناك حكمة عالية في هذا التكرار وهي تنبيه الله لعباده ولفت نظرهم إلى ما في طي تلك الآيات المكررة من الوصايا النافعة والفوائد الجمة التي هم في أشد الحاجة إليها. فخواتيم سورة النحل التي معنا مثلا نلاحظ أن الحكمة في تكرارها هي تنبيه الله لعباده أن يحرصوا على العمل بما احتوته من الإرشادات السامية في تحري العدالة وضبط النفس عند الغضب ومراقبة الخالق حتى في القصاص من الخلق والتدرع بالصبر والثبات. والاعتماد على الله والثقة بتأييده ونصره لكل من اتقاه وأحسن في عمله جعلنا الله منهم أجمعين آمين.
أضف إلى هذه الحكمة ما ذكره الزركشي آنفا من أن تكرار النزول تعظيم لشأن المكرر وتذكير به خوف نسيانه.

6- تعدد النازل والسبب واحد
قد يكون أمر واحد سببا لنزول آيتين أو آيات متعددة على عكس ما سبق ولا مانع من ذلك لأنه لا ينافي الحكمة في إقناع الناس وهداية الخلق وبيان الحق عند الحاجة بل إنه قد يكون أبلغ في الإقناع وأظهر في البيان.
مثال السبب الواحد تنزل فيه آيتان ما أخرجه ابن جرير الطبري والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه" . فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك؟" فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز
عنهم. فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} من سورة التوبة.
وأخرج الحاكم وأحمد هذا الحديث بهذا اللفظ وقالا: فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} من سورة المجادلة ا هـ.
ومثال السبب الواحد ينزل فيه أكثر من آيتين ما أخرجه الحاكم والترمذي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} من سورة آل عمران ا هـ.
وأخرج الحاكم أيضا عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله: تذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} وأنزلت {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} .
وأخرج الحاكم أيضا أنها قالت تغزو الرجال ولا تغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث. فأنزل الله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1 وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 2.

7- العموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه
هذا مبحث أفرده الأصوليون بالكلام لأن مهمتهم الاستدلال بألفاظ الشارع على الأحكام ونحن نلخص لك هنا ما يسمح به المقام لمناسبة أسباب النزول وما ينزل فيها مما يوافقها أو لا يوافقها في العموم والخصوص فنقول: اعلم أن لفظ الشارع الوارد جوابا لسؤال أو سبب قد يكون مستقلا أو مفيدا وحده بقطع النظر عن السبب أو السؤال الوارد فيه. وقد يكون غير مستقل بمعنى أنه لا يفيد إلا إذا لوحظ معه السبب أو السؤال.
ولكل من هذين النوعين حكمة:
فأما الجواب الذي ليس بمستقل: فحكمه أنه يساوي السؤال في عمومه باتفاق الأصوليين ويساويه أيضا في خصوصه على الرأي السائد عندهم.
فلو قال سائل: هل يجوز الوضوء بماء البحر فأجيب بلفظ بنعم أو لفظ يجوز كان المعنى: يجوز الوضوء بماء البحر لكل من أراد من الناس لا لخصوص هذا السائل وذلك لأن السؤال استفهام عن الجواز مطلقا من غير اعتبار خصوص المتكلم فكذلك جوابه لأنه غير مستقل.
ولو قال السائل: توضأت بماء البحر فأجيب بلفظ يجزئك كان معناه:
أن الوضوء بماء البحر يجزئ السائل وحده لأن السؤال خاص بالمتكلم فكذلك جوابه غير المستقل. أما غير المتكلم فلا يعلم حكمه من هذا الجواب بل يعلم من دليل آخر كالقياس أو كقوله صلى الله عليه وسلم: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" . ذلك كله في الجواب غير المستقل.
وأما الجواب المستقل: فتارة يكون مثل السبب في أن كلا منهما عام أو خاص. وحكمه إذن أنه يساويه. فاللفظ العام يتناول كل أفراد سببه العام في الحكم واللفظ الخاص مقصور على شخص سببه الخاص في الحكم. وهذا محل اتفاق بين العلماء لمكان التكافؤ والتساوي بين السبب وما نزل فيه. وأمثلة الأول- وهو العام فيهما- كثيرة. منها الآيات النازلة في غزوة بدر والآيات النازلة في غزوة أحد من سورة آل عمران.
ومثال الثاني- وهو الخاص فيهما- قوله سبحانه في سورة الليل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} .
قال الجلال المحلي: هذا نزل في الصديق رضي الله عنه لما اشترى بلالا المعذب على إيمانه وأعتقه. فقال للكفار: إنما فعل ذلك ليد كانت له عنده فنزلت: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} .
واعلم أن هذا التمثيل لا يستقيم إلا على اعتبار أن أل في لفظ {الْأَتْقَى} للعهد والمعهود هو الصديق رضي الله عنه.
وتارة يأتي الجواب المستقل غير متكافئ مع السبب في عمومه وخصوصه. وتحت ذلك صورتان: إحداهما عقلية محضة غير واقعة وهي أن يكون السبب عاما واللفظ خاصا. وإنما كانت عقلية محضة وفرضية غير واقعة لأن حكمة الشارع تجل عن أن تأتي بجواب قاصر لا يتناول جميع أفراد السبب. أضف إلى ذلك أنه يخل ببلاغة القرآن القائمة على رعاية مقتضيات الأحوال. وهل يعقل أن يسأل
سائل فيقول مثلا؟ هل يجوز لجماعة المسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم ويقاتلوا من قاتلهم فيأتي الجواب قائلا: لك أنت أن تدافع عن نفسك وتقاتل من قاتلك.
الصورة الثانية هي عموم اللفظ وخصوص سببه.

8- عموم اللفظ وخصوص سببه
ومعناه أن يأتي الجواب أعم من السبب ويكون السبب أخص من لفظ الجواب. وذلك جائز عقلا وواقع فعلا لأنه لا محظور فيه ولا قصور بل إن عمومه مع خصوص سببه موف بالغاية ومؤد للمقصود وزيادة.
بيد أن العلماء اختلفوا في حكمه أعموم اللفظ هو المعتبر أم خصوص السبب؟.
ذهب الجمهور إلى أن الحكم يتناول كل أفراد اللفظ سواء منها أفراد السبب وغير أفراد السبب. ولنضرب لك مثلا: حادثة قذف هلال بن أمية لزوجته وقد نزل فيها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الخ نلاحظ فيها أن السبب خاص وهو قذف هلال هذا لكن جاءت الآية النازلة فيه بلفظ عام -كما ترى- وهو لفظ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} . وهو اسم موصول والموصول من صيغ العموم وقد جاء الحكم بالملاعنة في الآية محمولا عليه من غير تخصيص. فيتناول بعمومه أفراد القاذفين في أزواجهم ولم يجدوا شهداء إلا أنفسهم سواء منهم هلال بن أمية صاحب السبب وغيره ولا نحتاج في سحب هذا الحكم على غير هلال إلى دليل من قياس أو سواه بل هو ثابت بعموم هذا النص. ومعلوم أنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص. ذلك مذهب الجمهور.
وقال غير الجمهور: إن العبرة بخصوص السبب. ومعنى هذا أن لفظ الآية يكون مقصورا على الحادثة التي نزل هو لأجلها أما أشباهها فلا يعلم حكمها من نص الآية إنما يعلم بدليل مستأنف آخر هو القياس إذا استوفى شروطه أو قوله صلى الله عليه وسلم:
"حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" . فآية القذف السابقة النازلة بسبب حادثة هلال مع زوجه خاصة بهذه الحادثة وحدها على هذا الرأي. أما حكم غيرها مما يشبهها فإنما يعرف قياسا عليها أو عملا بالحديث المذكور.
ويجب أن نلاحظ أن هذا الخلاف القائم بين الجمهور وغيرهم محله إذا لم تقم قرينة على تخصيص لفظ الآية العام بسبب نزوله أما إذا قامت تلك القرينة فإن الحكم يكون مقصورا على سببه لا محالة بإجماع العلماء.
كما يجب أن نلاحظ أيضا أن حكم النص العام الوارد على سبب يتعدى عند هؤلاء وهؤلاء إلى أفراد غير السبب. بيد أن الجمهور يقولون إنه يتناولهم بهذا النص نفسه وغير الجمهور يقولون إنه لا يتناولهم إلا قياسا أو بنص آخر كالحديث المعروف: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة.
وإلى هذا المعنى يشير ابن تيمية بقوله: قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا كقولهم: إن الآية الظهار نزلت في امرأة قيس بن ثابت وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله وإن آية قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نزلت في بني قريظة والنضير ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من اليهود والنصارى أو في قوم من المؤمنين. فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه؟ لم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين. وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته ا هـ.
ولعل ثمرة هذا الخلاف ترجع إلى أمرين: أحدهما أن الحكم على أفراد غير السبب مدلول عليه بالنص النازل فيه عند الجمهور. وذلك النص قطعي المتن اتفاقا وقد يكون مع ذلك قطعي الدلالة. أما غير الجمهور فالحكم عندهم على غير أفراد السبب ليس مدللا عليه بذلك النص بل القياس أو الحديث المعروف وكلاهما غير قطعي.
الثاني أن أفراد غير السبب كلها يتناولها الحكم عند الجمهور ما دام اللفظ قد تناولها. أما غير الجمهور فلا يسحبون الحكم إلا على ما استوفى شروط القياس منها دون سواه إن أخذوا فيه بالقياس.

د - أدلة الجمهور
استدل الجمهور على مذهبهم بأدلة ثلاثة: الأول أننا نعلم أن لفظ الشارع وحده هو الحجة والدليل دون ما احتف به من سؤال أو سبب فلا وجه إذن لأن تخصص اللفظ بالسبب. وكيف يسوغ أن نجعل ما ليس حجة في الشرع متحكما بالتخصيص على ما هو الحجة في الشرع؟
والدليل على أن لفظ الشارع وحده هو الحجة أن الشارع قد يصرف النظر عن السؤال ويعدل بالجواب عن سنن السؤال لحكمة نحو قوله تعالى في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فإن ظاهر هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيان ما ينفقونه فجاء الجواب ببيان من ينفقون عليهم. وذلك من أسلوب الحكيم لأن معرفة مصارف النفقة والصدقة أهم من معرفة المصروف فيهما فإن إصلاح الجماعة البشرية لا يكون إلا عن طريق تنظيم النفقة والإحسان على أساس توجيههما إلى المستحقين دون سواهم. وهذا وجه في الآية نراه وجيها،
وإن كانت الآية قد أشارت إشارة خفيفة إلى بيان ما ينفقونه بقوله سبحانه {مِنْ خَيْرٍ} غير أنها إشارة إجمالية لا تشبع حاجة السؤال.
ويمكن أن تنظم من هذا دليلا منطقيا من باب القياس الاقتراني تقريره هكذا اللفظ العام الوارد على سبب خاص هو الحجة وحده عند الشارع وكل ما كان كذلك يعتبر عمومه فاللفظ العام الوارد على سبب خاص يعتبر عمومه. وهو المطلوب.
كما يمكن أن تنظم منه قياسا استثنائيا تقريره:
لو لم يكن اللفظ العام الوارد على سبب خاص معتبرا عمومه لما كان لفظ الشارع وحده هو الحجة لكن التالي باطل فبطل ما أدى إليه وهو المقدم وثبت نقيضه وهو أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص يعتبر عمومه وهذا هو المطلوب.
الدليل الثاني: أن الأصل هو حمل الألفاظ على معانيها المتبادرة منها عند الإطلاق أي عند عدم وجود صارف يصرف عن ذلك المتبادر ولا صارف للفظ هنا عن إرادة العموم فلا جرم يبقى على عمومه. أما ما يتوهمه المخالفون من أن خصوص السبب صارف عن إرادة العموم فمدفوع بأن مجرد خصوص السبب لا يستلزم إخراج غير السبب من تناول اللفظ العام إياه. فلا يصلح أن يكون قرينة مانعة من إرادة ما وضع له اللفظ العام. وهو العموم الشامل لجميع الأفراد.
ويمكن أن تنظم من هذا الدليل قياسا اقترانيا هكذا: اللفظ العام الوارد على سبب خاص يتبادر منه العموم عند الإطلاق وكل ما كان كذلك يبقى على عمومه. فاللفظ العام الوارد على سبب خاص يبقى على عمومه وهو المطلوب.
ويمكن أن تنظم من ذلك الدليل قياسا استثنائيا أيضا يقول: لو لم يكن اللفظ العام الوارد على سبب خاص باقيا على عمومه عند الإطلاق للزم استعمال اللفظ في غير ما وضع له بلا قرينة لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو أن اللفظ العام
الوارد على سبب خاص باق على عمومه عند الإطلاق. وذلك هو المطلوب.
الدليل الثالث: احتجاج الصحابة والمجتهدين في سائر الأعصار والأمصار بعموم تلك الألفاظ الواردة على أسباب خاصة في وقائع وحوادث كثيرة من غير حاجة إلى قياس أو استدلال بدليل آخر. وكيف ينكر هذا؟ وأكثر أصول الشرع خرجت على أسباب خاصة وبرغم خصوص تلك الأسباب قد فهموا من الألفاظ النازلة فيها حقيقة العموم ثم صاغوا من عموماتها كثيرا من الأصول. فاستدلوا بآية السرقة على وجوب قطع كل يد مع أنها نازلة في خصوص سرقة المجن أو رداء صفوان. واحتجوا بآيات الظهار على وجوب الكفارة المذكورة فيها والعمل بأحكامها على كل من ظاهر مع أنها نازلة في خصوص من عرفت قبل. وكذلك برهنوا بآيات اللعان على شمول حكمه لكل من قذف زوجته ولم يكن معه شهود على حين أنها نازلة في خصوص من ذكرنا سابقا.

ويمكن أن تنظم من هذا الدليل قياسا اقترانيا نصه: عموم اللفظ الوارد على سبب خاص قد اعتبره الصحابة والمجتهدون وكل ما كان كذلك فهو المعتبر. فعموم اللفظ الوارد على سبب خاص هو المعتبر. ويمكن أن تنظم منه دليلا استثنائيا نصه لو لم يكن عموم اللفظ الوارد على سبب خاص هو المعتبر لما اعتبره الصحابة والمجتهدون لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو المطلوب.
ملاحظة :
لا يبعد عليك أن تستدل للمقدمات الصغرى والكبرى في الأقيسة الاقترانية التي ذكرناها خصوصا بعد أن تنظر فيما نثرناه قبلها من عرض الأدلة بالأسلوب المألوف الخالي من القيود الشكلية في الاصطلاحات المنطقية.
وبمثل ذلك تستطيع أن تستدل للملازمات وبطلان التوالي فيما نظمناه بين يديك من الأقيسة الاستثنائية. فتأمل.

10- شبهات المخالفين وتفنيدها
استند مخالفو الجمهور إلى شبهات خمس لتأييد مذهبهم- وهو أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ- ولكنك سترى مصرع هذه الشبهات بين يديك:
الشبهة الأولى يقولون: إن الإجماع قد انعقد على عدم جواز إخراج السبب من حكم العام الوارد على سبب خاص إذا ورد مخصص. وذلك يستلزم أن العام مقصور على أفراد السبب لا يتناول غيرها لأنه لو لم يكن مقصورا عليها لتساوت هي وغيرها في جواز الإخراج عند المخصص. وذلك ممنوع للإجماع المذكور.
والجواب : أن الإجماع المذكور لا يستلزم قصر العام على إفراد الخاص كما يقولون بل هو واقف عند حدود معناه من أن أفراد السبب لا تخرج بالمخصص وذلك المعنى محقق لعدم التساوي بين أفراد السبب وغيرها في حالة الإخراج بالمخصص لكنه لا يمنع دخول غير أفراد السبب في حكم العام إذا تناوله اللفظ وذلك لأدلة الجمهور السابقة.
ويمكن أن تنظم في هذا قياسا استثنائيا يقول:
لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لجاز إخراج أفراد السبب إذا ورد مخصص لكن إخراج أفراد السبب عند وجود المخصص ممنوع لانعقاد الإجماع على امتناعه. فبطل ما أدى إليه وهو المقدم وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب. دليل التلازم أن العام تستوي أفراده فإذا أخذنا بعموم اللفظ ولم نخصصه بالسبب
تساوت أفراد السبب وغيرها مما اندرج تحت ذلك العام فإذا جاء مخصص جاز أن يخرج أفراد السبب.
ويجاب بإبطال الملازمة ومنع أن أفراد العام متساوية. وسند المنع أن الإجماع منعقد على أن أفراد السبب تمتاز عن غيرها بأنها لا تخرج بالتخصيص. فإن تساوت هي وأفراد غير السبب دخولا فلن يتساوى الجميع خروجا. وإذن يبقى العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب للأدلة السابقة.
الشبهة الثانية يقولون: إن الرواة نقلوا أسباب النزول واهتموا بها وبتدوينها. ولا فائدة لذلك إلا ما نذهب إليه من وجوب قصر العام على أفراد سببه الخاص. وهذا معنى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. والجواب: أنه لا وجه لكم في أن تجعلوا فائدة نقل الأسباب هي قصر العام على أفراد سببه فإن لأسباب النزول والإحاطة بها علما عن طريق نقل الرواة فوائد عدة ومزايا جمة وذكرناها في مطلع هذا المبحث
وهي غير ما ذكرتم فارجعوا إليها إن شئتم.
ويمكن أن ننظم من ذلك قياسا استثنائيا أيضا هكذا لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لما نقله الرواة واهتموا ببيانه وتدوينه لكن التالي باطل بالحس والمشاهدة فثبت نقيض المقدم وهو أن العبرة بخصوص السبب دليل الملازمة أنه لا يفهم لنقل الرواة وعنايتهم ببيان الأسباب فائدة غير التخصيص.
والجواب: أننا نمنع دليل الملازمة كيف؟ ولأسباب النزول فوائد متعددة قد قصصناها عليك أول هذا المبحث فحذار أن تنسى.
الشبهة الثالثة يقولون: إن تأخير البيان عن وقوع الواقعة وتوجيه السؤال في العام الوارد على سبب يدل على أن العبرة بخصوص السبب لأن تأخير لفظ الشارع إلى ما بعد حدوث سببه يفهم منه أن السبب هو الملحوظ وحده للشارع في الحكم عليه بهذا اللفظ العام النازل فيه وإلا لما ربطه بالسبب بل لأنزله قبله أو أخره عنه.
والجواب أنه يكفي في حكمة تأخير البيان إلى ما بعد السبب أن يكون اللفظ العام بيانا له ولو مع ما يشابهه من كل ما يندرج تحت اللفظ العام ولا يستلزم أن يكون بيانا له وحده كما ذكرتم.
ويمكن أن تصوغ في هذا قياسا هكذا لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لما أخر البيان إلى وقوع الواقعة أو توجيه السؤال. لكن التالي باطل فثبت نقيض المقدم وهو المطلوب. دليل الملازمة أن تأخير لفظ الشارع إلى ما بعد وقوع الواقعة وتوجيه السؤال لا يفهم منه إلا أنه بيان لهذا السبب وحده وذلك معنى أن العبرة بخصوصه.
والجواب : أننا نمنع دليل الملازمة أي نمنع أنه لا يفهم من تأخير البيان إلى ما بعد وقوع الواقعة وتوجيه السؤال إلا أن يكون اللفظ العام النازل بسببهما بيانا لهذا السبب وحده. كيف؟ والتأخير يفهم منه أن اللفظ العام جاء بيانا له مع أشباهه من كل ما ينتظم وإياه في سلك العام للأدلة السابقة.
الشبهة الرابعة يقولون: قد اتفقت كلمة الفقهاء على أنه إذا دعا رجل رجلا آخر إلى طعام الغداء وقال له: تغد عندي فرفض وقال: والله لا أتغدى ولم يقل عندك ثم تناول الغداء عند غير هذا الداعي فإنه لا يحنث.
وما ذاك إلا لأن هذا اللفظ العام قد تخصص بسببه وهو كلمة تغد عندي التي خص بها الداعي نفسه فكأن الحالف قال: لا أتغدى عندك وحدك ولذلك لا يحنث بغدائه عند غيره.
والجواب : أن حكم الفقهاء في هذا المثال ليس مبنيا على أن كل عام يتخصص بسببه كما فهمتم بل هو مبني على أن هذا المثال وأشباهه تخصص بقرينة خارجة وهي حكم العرف هنا بأن الحالف إنما يريد ترك الغداء عند داعيه فقط. وليس كلامنا فيما تخصص بقرينة خارجة سواء أكانت العرف أم سواه فذلك محل وفاق.
ونظيره أن يقال لك كلم فلانا في واقعة معينة فتقول والله لا أكلمه أبدا فإنك لا تحنث إذا كلمته في غير تلك الواقعة لأن العرف يحكم أيضا بأنك تريد عدم تكليمه في خصوص تلك الواقعة لا مطلقا.
ويمكن أن تنظم من هذا قياسا استثنائيا يقول:
لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لكان من قال والله لا أتغدى ولم يقل عندك في إجابة من قال له تغد عندي حانثا إذا تغدى عند غيره. لكن التالي باطل لنص الفقهاء على عدم حنثه حينئذ فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو المطلوب.
دليل الملازمة أن كلمة لا أتغدى شاملة للتغدي عند المخاطب وعند غيره لأن حذف المعمول يؤذن بالعموم.
وقد جاءت هذه الكلمة على سبب وهو دعوة المخاطب إياه للغداء. فلو أخذنا بعموم هذا اللفظ وأهملنا خصوص هذا السبب لكان يحنث بغدائه عند غيره لأنه فرد من أفراد ذلك العام.
والجواب : أن التخصيص بالسبب هنا لم يجيء من نفس السبب إنما جاء من قرينة خارجة هي حكم العرف بأن حالف مثل هذه اليمين إنما يقصد عدم التغدي عند من دعاه وحده. ولا كلام لنا في ذلك لأن التخصيص بالقرينة الخارجة محل وفاق كما تقدم.
الشبهة الخامسة يقولون: إن التطابق بين السؤال وجوابه واجب في نظر الحكمة وبحكم قانون البلاغة. وهذا التطابق لا يستقيم إلا بالتساوي بين لفظ العام وسببه الخاص. والتساوي لا يكون إلا إذا خصصنا اللفظ العام بسببه الخاص. لا سيما إذا وقع ذلك في كلام الشارع الحكيم وجاء في أرقى نصوص البلاغة وواحدها إعجازا وهو القرآن الكريم.
والجواب: أن طرد العام على عمومه لا يخل بمطابقته لسببه الخاص؟ لأن هذه المطابقة تحصل بكون اللفظ أعم من سببه كما تحصل بمساواته إياه فإن المقصود من المطابقة أن يكون اللفظ مبينا لحكم السبب وغير قاصر عن الوفاء به وهو إذا جاء أعم يكون قد وفى بالمراد وزاد.
ويمكن أن تسبك من هذا قياسا استثنائيا صيغته هكذا: لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لكان اللفظ غير مطابق للسبب. لكن التالي باطل فثبت نقيض المقدم. دليل الملازمة: أن الكلام هنا مفروض في سبب خاص ولفظ عام ولا شك أن العام لا يطابق الخاص. ودليل بطلان التالي: أن عدم المطابقة مناف للحكمة ومخل بالبلاغة.
والجواب: أننا نبطل تلك الملازمة ونمنع دليلها وهو أن العام لا يطابق الخاص. كيف؟ والمطابقة كما تحصل بمساواة اللفظ للسبب عموما وخصوصا تحصل بكون اللفظ أعم من السبب لأن المراد من الجواب أن يتحدث عن السبب ويبين حكمه وذلك حاصل مع كونه أعم منه ولا يتوقف على مساواته إياه.
ملاحظة : يمكنك بعد هذا البيان أن تحول تلك الأقيسة الاستثنائية إلى أقيسة اقترانية ثم تستدل على مقدماتها بسهولة ويسر على نمط ما فعلناه بأدلة الجمهور. فأمامك المجال ولا داعي لإطالة المقال.
كما أرجو أن يعذرني القارئ الكريم إذا شق عليه بعض الشيء أن يهضم تلك الصناعة الفنية في صياغة الأدلة بعض الأحيان فإن للوسط قضاء لا يرد وللصناعة حكما لا ينقض. ومن واجبي أن أشبع حاجة هؤلاء وهؤلاء لذلك تراني طورا هنا وطورا هناك. والله هو الفتاح العليم وهو الموفق والمعين.

11- شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام
نوه السيوطي في الإتقان وابن السبكي والمحلي في جمع الجوامع وشرحه بأن القرآن الكريم قد يرد فيه ما يشبه السبب الخاص مع اللفظ العام النازل فيه فيكون لهذا الشبه أثر صالح في تناول الآية العامة للمضمون الخاص في الآية التي معها تناولا ممتازا يجعله أسبق إلى الذهن من غيره وأبعد عن خروجه بالتخصيص إذا ورد مخصص لتلك الآية العامة. فكأنه قطعي الدخول. وكأنه مجمع على عدم خروجه بالمخصص كما أجمعوا على عدم خروج السبب الخاص من لفظ العام النازل فيه.

وهاك مثلا يوضح لك المقام: قال الله تعالى في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} إلى آخر الآيات الواردة في هذا الموضوع.
فأنت ترى أن هذه الآيات شنعت على الخيانة والخائنين من اليهود وتوعدتهم أفظع الوعيد ووبختهم أشد التوبيخ. وذلك في معنى النهي البالغ عن تلك الخيانة أي خيانتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث جعلوا المشركين أهدى سبيلا منهم. ومن المقرر أن النهي عن شيء أمر بضده فلا جرم تضمنت هذه الآيات أيضا أمر اليهود بالأمانة في الحكم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بالصفات الحقيقية. خصوصا أنهم قد مدحوا في كتابهم التوراة كما قال الله تعالى في سورة الأعراف: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الخ والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وكما قال في سورة الفتح بعد أن وصف النبي وأصحابه: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الخ.
ثم جاء عقيب تلك الآيات في الترتيب الوضعي قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
فكان التناسب بينهما رائعا والصلة وثيقة والانسجام جميلا لأن هذه الآية تأمر بالأمانة في عمومها كما ترى وتلك الآيات تأمر بأمانة خاصة كما علمت وما أحكم الصلة بين العام والخاص. فكان ذلك شبيها بالسبب الخاص ينزل فيه لفظ عام فإذا كان تناول العام لأفراد الخاص مجمعا عليه ولا يصح خروجه بمخصص فكذلك الأمانة الخاصة التي معنا تنتظم في سلك الأمانة العامة انتظاما ممتازا وتدخل فيها دخولا أوليا حتى لو قيل إنه لا يجمل إخراجها منها بمخصص لم يبعد وذلك ما حدا بابن السبكي أن يجعلها مرتبة دون السبب وفوق التجرد. وإنما لم تجعل في مرتبة السبب لأن الأولى ليست سببا في الثانية ولأن المقارنة بينهما ليست إلا في ترتيب آيات القرآن ووضع بعضها بإزاء بعض وليست مقارنة زمانية في النزول بل إن بينهما مدى بعيدا فالثانية تأخرت عن الأولى بنحو ست سنين ولا يضر ذلك لأن تقارب الزمان ليس شرطا في وضع آية لصق آية تناسبها إنما هو شرط في أسباب النزول مع ما ينزل فيها بحسب.
ولعل من تمام الفائدة أن نسوق إليك ما جاء في جمع الجوامع للإمام ابن السبكي وشارحه جلال الدين المحلي في هذه المناسبة ونصه: ويقرب منها أي من صورة السبب حتى يكون قطعي الدخول أو ظنيه خاص في القرآن تلاه في الرسم أي رسم القرآن بمعنى وضعه مواضعه وإن لم يتله في النزول عام للمناسبة بين التالي والمتلو كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الخ فإنه -كما قال أهل التفسير- إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر حرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم فسألوهم: من أهدى سبيلا محمد وأصحابه أم نحن؟ فقالوا: أنتم مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم المنطبق عليه وأخذ المواثيق عليهم ألا يكتموه فكان ذلك أمانة لازمة لهم ولم يؤدوها حيث قالوا للكفار: أنتم أهدى سبيلا حسدا للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية مع هذا القول التوعد عليه المفيد للأمر بمقابله المشتمل على أداء الأمانة التي هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم بإفادة أنه الموصوف في كتابهم وذلك مناسب لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فهذا عام في كل أمانة وذلك خاص بأمانة هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم بالطريق السابق والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول بست سنين مدة ما بين بدر في رمضان من السنة الثانية والفتح في رمضان من السنة الثامنة وإنما قال: ويقرب منها كذا لأنه لم يرد العام بسببه بخلافها ا هـ والحمد لله أولا وآخرا). [مناهل العرفان: --]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المبحث, الخامس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أسباب اندفاع شر الحاسد عن المحسود عبد العزيز الداخل المنتدى العام 7 6 شعبان 1433هـ/25-06-2012م 04:06 AM


الساعة الآن 04:05 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir