فصل
ومن صفات الله تعالى أنه الفعَّالُ لما يريدُ , لا يكونُ شيءٌ إلا بإرادته, ولا يخرجُ شيءٌ عن مشيئتِهِ .
بعد هذا انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إلى فصل آخر فقال : (( فصل . ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد ))
وهذا ربط من الشيخ رحمه الله تعالى لمسألة القدر بمسألة صفات الله سبحانه وتعالى, ونحن نعلم أن من توحيد الله تعالى في ربوبيته واسماءه وصفاته الإيمان بالقدر, والمقتضي للإيمان بعلم الله , وكمال مشيئته وإرادته , والإيمان بأن الله هو الخلاق العليم , وأنه خالق كل شيء بالإيمان بالقضاء والقدر, ومراتبه مرتبط أعظم ارتباط بالإيمان بالأسماء والصفات ,
ولهذا قال رحمه الله تعالى : (( فصل ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد , لا يكون شيء إلا بإرادته, ولا يخرج شيء عن مشيئته )) .
فمن صفات كماله تبارك وتعالى أنه الفعال لما يريد, ومن صفات كماله تبارك وتعالى انه عليم احاط عمله بكل شيء , فعلم وما كان وما لم يكن لو كان كيف يكون,علم سبحانه وتعالى كل شيء مما سبق ومما سيأتي , وهذه أولى مراتب القدر الأربع .
المرتبة الثانية : مرتبة الكتابة : أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى قيام الساعة, ولهذا ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لما خلق الله القلم قال له : اكتب , قال : ربي وما أكتب قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة )) (1) وفي الحديث الآخر الصحيح أيضاً : (( قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخسين ألف سنة, وكان عرشه على الماء)) (2) رواه مسلم .
فهذه دالة على أن الله كتب ما هو كائن, وفي القرآن العظيم أيضاً أدلة على أن الله سبحانه وتعالى كتب ذلك ؛ قال تعالى :(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) والأدلة على إثبات الكتابة كثيرة جداً .
المرتبة الثالثة : من مراتب القدر : مرتبة المشيئة والإرادة, أي أن مشيئة الله الكونية القدرية شاملة ومحيطة بكل شيء, فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, فهو الذي شاء وأراد كل ما هو موجود, فكل ما يقع من خير وشر فالله سبحانه وتعالى اراده وشاءه كوناً , وهذه أيضاً أدلتها كثيرة جداً , قال الله تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29) وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39).
فقول الشيخ رحمه الله تعالى : (( ومن صفاته انه الفعال لما يريد)) أي أنه سبحانه وتعالى كما وصف نفسه في القرآن )فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ( (البروج:16) فهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويختار, وليس لأحد من الخلق اختيار ولا مشيئة إلا ما كان منها داخلاً تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى , وهذه المشيئة الكونية هي المشيئة العامة النافذة .
وهنا احب أن انبه إلى أن قول الشيخ (( أنه الفعال لما يريد , لا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته )) هو لبيان أن الإرادة والمشيئة هنا بمعنى واحد, وقصد بالإرادة الإرادة الكونية ؛ وهناك فروق بينهما؛ حيث إن المشيئة لم ترد في كتاب الله تعالى إلا كونية, أما الإرادة , فقد وردت في كتاب الله تعالى وفي السنة على قسمين :
القسم الأول : الإرادة القدرية الكونية التي هي مرادفة للمشيئة, وهذه الإرادة الكونية الشاملة, وهي المقصودة هنا في كلام الشيخ .
القسم الثاني : الإرادة الدينية الشرعية , وهذه الإرادة الشرعية مختصة بما بحبه الله ويرضاه من أمور الشرع , ولهذا فإن الله تعالى يريد من الصلاة والتوحيد والعمل الصالح , ولا يريد منا ترك الصلاة ولا الشرك ولا العمل الطالح المخالف لأمره سبحانه وتعالى .
وهذه الإرادة الدينية هي التي نقول فيها : هذا يريده الله أي يريده شرعاً, وهذا لا يريده الله أي لا يريده شرعاً, لأنه من المعاصي , ودليل ذلك من كتاب الله تعالى قوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185) فهذه الإرادة في هذه الآية المقصود بها : الإرادة الشرعية ولا مدخل لها هنا في باب القضاء والقدر , وإنما لها علاقة من طريق سنعرض له فيما بعد إن شاء الله تعالى.
أما النوع الثاني من الإرادة وهي التي قصدها الشيخ هنا , فهي الإرادة المرادفة للمشيئة , وهي الإرادة الشاملة لكل شيء, فكل شيء يقع في هذا الوجود , من الكفار والمنافقين والمؤمنين, والمعاصي والطاعات وغير ذلك, كله هو بإرادة الله الكونية وبمشئته العامة, وسيوضح ذلك الشيخ إن شاء الله تعالى بعد قليل .
فهو سبحانه الفعال لما يريد , كما انه تعالى :(لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون) (الانبياء:23) فهو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما, وهو الذي خلقنا واوجدنا وكلفنا وأنزل علينا كتباً وأرسل إلينا رسلاً, وليس لنا إرادة في ذلك وإنما الإرادة الكاملة لله سبحانه وتعالى, فهو سبحانه وتعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهذا يدل على تفرده بالربوبية .
فتفردُه تعالى بالخلق والإرادة والتدبير, هو مقتض لربوبيته سبحانه وتعالى , وأنه وحده الرب الخالق المنعم المتفضل, ولهذا قال الشيخ هنا : (( لا يكون شيء إلا بإرادته )) أي إرادته الكونية, (( ولا يخرج شيء من مشيئته )) كما قال تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير:28) .
فالإنسان لـه مشيئة لكنه لا يستطيع أن يخرج عن مشيئة الله القدرية النافذة , ولهذا قال : (( ولا خرج شيء عن مشيئته )) .
وقوله هنا رحمه الله تعالى : ((شيء)) لبيان العموم , حتى يدخل في ذلك المكلَّفون من البشر, وغير المكلفين من الحيوانات, أو من الجمادات أو غير ذلك, حيث لا يخرج شيء عن مشيئته, ولما خلق الله سبحانه وتعالى السموات والأرض قال لهما : (ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت: من الآية11) فالكل لا يخرج عن ربوبيته وتقديره ؛ ولهذا نجد الكفار وغير الكفار على حدٍّ سواء في خضوعهم لهذه المشيئة القدرية, فهم جميعاً يوجدون , ويخلقون ويعيشون, وهم في أشكالهم ألوان أبدانهم , وطولهم وقصرهم وحياتهم وموتهم وارزاقهم ومعايشهم وامراضهم وشفائهم وغيرها من أحوال حياتهم لا يملكون منها شيئاً , والذي يتصرف فيهم كما يشاء, ولا يخرج أحد منهم عن مشيئته وإرادته هو الله سبحانه وتعالى الخلاق العليم .
ثم قال الشيخ رحمه الله : (( وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره))
فتقديره سبحانه وتعالى الكوني لا يخرج عنه احد, فكل ما جرى , وكل ما هو جارٍ الآن , وكل ما سيجري فهو بتقدير الله سبحانه وتعالى , ومن ثم فإن الإيمان بالقضاء والقدر أساس إيمان العبد بربه تبارك وتعالى .
قال الشيخ : (( ولا يصدر إِلا عن تدبيره )) فهو المدبر لك شيء يجري؛ أما ما يزعمه بعضهم من أن الملائكة, أو بعض الخلق, ومن ولي أو رسول أو نجم أو غير ذلك, لـه تدبير فكل ذلك باطل , بل التدبير لله سبحانه وتعالى وحده .
وما دخل الشرك في عبادة النجوم والكواكب وعبادة الأولياء والقبور وغيرها إلا حينما ظن البعض وتوهم أن بعض هؤلاء يملك من تدبير الأمور شيئاً, حيث تجد بعض الناس في حال فقره أو مرضه أوة إصابته بضرر في نفسه أو بدنه أو أهل ه أو هجوم عدو عليه أو على بلده يظن أن هناك من المخلوقات من يملك شيئاً, فيتعلق بساحر, أو بكاهن, أو بولي, أو بصاحب قبر, وبعضهم يتعلق بالنجوم ومنازلها ؛ فمن كان مولده في نجم الثور أو نجمه نجم العقرب يتعلق بذلك وينظر ماذا يقول المنجم عن أحواله, وسروره وأحزانه في أثناء فصول السنة .
والتعلق بالنجوم وعبادتها هو مذهب الفلاسفة الدهرية , الذين يقولون: إن الله ليس متصفاً بصفات , ولا يعلم ما الخلق عاملون , وليست لـه إرادة ولا تدبير , والله سبحانه وتعالى كما يزعمون بعيد عن الخلق, لا يعلم ماذا يصنعون, ومن ثم فلا جزاء ولا حساب ثم زعم هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أن التدبير للعقول والأفلاك والنجوم, فتعلقت نفوسهم بها وزينوا عبادتها من دون الله تعالى, وقلدهم بعض المسلمين وتعلقت نفوسهم بهذه النجوم والأفلاك , وهذا من الشرك بالله وهو شرك في باب العبودية والربوبية .
أما من أخلص لله بالتوحيد من المؤمنين , فإنهم يوقنون أن الله هو المدبر كماقال تعالى عن نفسه : (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29) فهو سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن فيغفر ذنباً ويقبل توبة ويشفي مريضاً, ويعين ضعيفاً, وينصر مظلوماً, ويزيل ملكاً, ويقيم آخر, يفعل ما يشاء ويختار, ويدبر في خلقه كما يشاء وهو العليم الخبير, وهو بكل شيء محيط . فهذا هو الإيمان بالقضاء والقدر المقتضي لكمال الإيمان بالربوبية المقتضي لكمال تحقيق الألوهية والبعد عن الشرك بجميع أنواعه .
أما التعلق بغير الله تعالى فمنشؤه اعتقاد أن هذه المخلوقات من نجم او ولي او غيرها , إما أن له علماً بالغيب , أو أن له تدبيراً , وكل ذلك كفر بالله سبحانه وتعالى.
ومن هنا كان اعتصام المؤمن بعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر يعصمه من أمور كثيرة, على رأسها أمران :
أحدهما : عصمته في باب توحيد الربوبية الذي هو أساس وعمدة توحيد الألوهية.
والثاني : عصمته في مسيرته في الحياة , بألا يقع عنده تعارض بين القضاء والقدر والأمر والشرع , كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : (( ولا محيد لأحد عن القدر المقدور ))
فإن الجميع لا محيد لهم عما حُدّ وخُطَّ لهم في القدر المقدور , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وهو يوصيه : (( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك , ولو اجتمعوا على أن يضروك بشي لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف)) وقال عبادة بن الصامت الصحابي الجليل رضي الله عنه لابنه في مرض الموت : (( واعلم يابني انك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما اصابك لم يكن ليخطئك , وان ما اخطأك لم يكن ليصيبك )) .
فلا يكون المؤمن شاكراً صابراً إلا إذا رضي بالقضاء والقدر, فإن أصابته سراء شكر, لأنه علم أن هذا من الله أن الشكر يثبت النعم ويديمها ويرفع الدرجات, وان أصابته الضراء علم انه قضاء وقدر فيصبر فيؤجر على ذلك, وليس ذلك إلا للمؤمن كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم (3) فالفلاسفة ضلوا في باب القضاء والقدر كله, ومنه ضلالهم في الإرادة والمشيئة حيث زعموا أن العالم وجد دون إرادة الله تبارك وتعالى , حيث زعموا أن الله علة موجبة لا إرادة له ولا اختيار .
والذي عليه أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- أن الله سبحانه خلق هذا العالم واوجده بإرادته ومشيئته, وانه تبارك وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء , وكل ما سواه فهو مخلوق كائن بعد أن لم يكن .
وهذه هي القضية الأولى في باب العقيدة هي مرتبطة بصفتين أساسيتين لله سبحانه وتعالى يثبتهما أهل السنة على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى وكماله وعظمته
الأولى: أن الله عالم متصف بصفة العلم (قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: من الآية12) فهو علم أزلاً ما الخلق عاملون, وهو سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما سيكون , كما أنه تعالى يعلم ما لم يكن لوكان كيف يكون, كما قال تعالى عن الكفار في يوم القيامة انهم يطلبون الرجعة ويقولو: لو ارجعتنا إلى الدنيا لآمنا ولا هتدينا , قال تعالى عنهم :( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) (الأنعام: من الآية28) وليس هذا من باب التقدير وإنما هو من باب العلم اليقيني لله سبحانه وتعالى ؛ فلو أنه تعالى رد هؤلاء إلى الدنيا مرة أخرى لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والشرك مع رؤيتهم وييقينهم باليوم الآخر, لأنهم شاهدوه مشاهدة عيان , فهذا من باب العلم الإلهي الكامل ؛ أنه يعلم ما كان وما لم يكن , ويعلم سبحانه وتعالى ما لم يكن لو كان كيف يكون .
والثانية : صفة المشيئة والإرادة , فهو سبحانه وتعالى ما شاء كان وما لم
يشأ لم يكن .
ومن ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى - كما سبق - : (( ومن صفاته أنه الفعال لما يريد )) والفعال لما يريد هو الذي ليس لقدرته حد فهو على كل شيء قدير كما أن مشيئته وحده هي النافذة , فهو يفعل ما يشاء ويختار .
ومن ذلك أنه سبحانه وتعالى خلق هذا العالم وأوجد الناس على هذه الصفة وهذه الحالة التي أرادها تعالى, وابتلاهم واختبرهم , فهو سبحانه وتعالى الذي خلق آدم كما قال : (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (البقرة: من الآية30) وهو سبحانه وتعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: من الآية2).
فوجود هذا العالم على هذه الصفة , ووجودنا نحن البشر على هذه الصفة بإرادته سبحانه وتعالى, ولو أنه تبارك وتعالى أراد غير ذلك لكان, فلو أراد سبحانه وتعالى أن يجعل الناس كلهم مهتدين مستقيمين مؤمنين لا يعصون الله أبداً لوقع ذلك , كما قال تبارك وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَأهلينَ) (الأنعام: من الآية35) ، وقال تعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ) (هود: من الآية118) .
فوجود الخلق على هذه الصفة وهذا الابتلاء والامتحان من حيث اختلاف أعمارهم , واختلاف أرزاقهم , واختلاف الوانهم , واختلاف أديانهم , كل ذلك بإرادة الله سبحانه وتعالى وهذه هي قضية القدر الأولى؛ أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراد أن يوجد الناس على هذه الحالة ولو شاء لما وجدوا, ولو شاء لأوجدهم على حال غير هذه الحال ولو شاء لجعلهم كلهم مؤمنين مهتدين.
إذن وجود الخير وا لشر , والطاعات والمعاصي , والمؤمنين والكفار هو بإرادة الله سبحانه وتعالى , وهو سبحانه وتعالى خلق ذلك وقدره لحكم عظيمة .
ولهذا يقول الشيخ هنا : (( لا يكون شي إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته )) .
فكل ما يقع ويجري فهو بإرادة الله سبحانه وتعالى الكونية ومشيئته , كما قال سبحانه وتعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (هود: من الآية 118) .
وقال تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29) ، وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39) ، وقال : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: من الآية125), وهذه هي الإرادة الكونية.
وكذلك أيضاً ما وراء ذلك من وجود المخلوقات وإحيائها وموتها وأرزاقها , وكذلك وجود هذه الدنيا وهذه الأكوان, والبعث بعد والموت , كل ذلك بإرادة الله , ليس لمخلوق فيها إرادة أبداً , وهذه القضية الكونية يسلم بها الجميع, وقلما يوجد إنسان ينكرها , حتى من الكفار .
ولقد كان مشركو الجاهلية يؤمنون بالقدر, ويصدقون بأن هناك أقداراً , وكذلك أيضاً يعلم كثير من الكفار اليوم أن هذه الأمور مقدرة قدرها الله سبحانه وتعالى, وأكبر دليل على ذلك أنهم قطعوا الأمل في أشياء , علموا أن الله سبحانه وتعالى قدرها وكتبها على الجميع, فمن ذلك الموت الذي كتبه الله على الجميع , حيث إن الخلق مهما بلغ طبُّهم وتقدمهم العلمي فقد يئسوا من محاولة أن يبقى الإنسان مخلداً فلا يموت, أو يبقى زمناً طويلا يختلف عن الزمن العادي يالنسبة لأعمار الناس , فهذا دليل على اليقين بأن هذا الأمر كتبه الله سبحانه وتعالى على الجميع فلا فكاك منه, ومن ثم صاروا يفكرون في أمور أخرى تتعلق بالصحة أو الرفاهية مما هو من جملة الأسباب الموجودة .
ولذا قال الشيخ رحمه الله : (( وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره)) فلا يخرج في هذا العالم شيء إلا وقد قدره الله سبحانه وتعالى ؛ وجود السموات , والكواكب , ووجود هذه الأرض ببحارها, وجبالها وحيواناتها وأشجارها ووحوشها ورياحاها, بساكنيها من البشر وغيرهم إلى آخره , كل ذلك بتقدير الله سبحانه وتعالى , ولا يخرج شيء عن تقديره تبارك وتعالى التقدير الكوني السابق الذي لايخرج عنه أحد , فلا يصدر شيء في هذا الكون إلا عن تدبيره سبحانه وتعالى .
والإنسان وإن كان يفعل ويتحرك ويريد, وله إرادة ومشيئة وقدرة إلا أنه لا يخرج في مجموع ذلك عن تدبير الله سبحانه وتعالى وإرادته وقدرته,
ولهذا قال : (( ولا محيد عن القدر المقدور )) أي : أن كل إنسان لا يستطيع أن يحيد عما قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه عليه, وهذا يعلمه كل إنسان من حياته, فكم من أمور أراد الإنسان أن يمنعها فما استطاع لأن الله سبحانه وتعالى كتبها عليه وقدرها وكم من أمور أراد إيجادها فلم يستطع ؛لأن الله لم يردها , وهذا الأمر يتساوى فيه الجميع ؛ المؤمنون والكفار .
ثم قال الشيخ مبيناً المرتبة الثالثة من مراتب القدر وهي الكتابة : (( ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور ))
فقد ثبت أن الله سبحانه وتعالى لما خلق القلم أمره أن يكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة , فكل ما يقع من أفعال العباد مكتوب عند الله سبحانه وتعالى, بل كل ما يجري من حركات الجمادات وغيرها فإنه مكتوب في اللوح المحفوظ, حتى الشجرة إذا سقطت منها ورقة بسبب الريح أو بسبب يبسها أو غير ذلك فسقوطها في كتاب مبين , كما قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59) أي أية حبة, وأي رطب, أو يابس من أي شيء كان , وأي ورقة تسقط فهو في كتاب مبين, فكيف بأفعال العباد , وأقوالهم, وحركاتهم , ومجيئهم , وذهابهم إلى غير ذلك؟ ذلك كله مكتوب مسطر , وهذه هي المرتبة الثالثة التي هي مرتبة الكتابة.
ثم قال رحمه الله تعالى : (( أراد ما العباد فاعلوه, ولو عصمهم لما خالفوه , ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه ))
هذه قضية مسلمة , حيث إن كل ما يعمله العباد فالله أراده كوناً , والإرادة هنا في قوله : (( أراد ما العباد فاعلوه)) هي الإرادة الكونية, فكل ما يعمله العباد ووقع منهم فإن الله سبحانه وتعالى أراده وقدره كوناً وشاءه , فأفعال العباد الواقعة منهم هي مرادة لله سبحانه وتعالى إرادة كوينة .
ولو عصمهم الله أي لو أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعصمهم عن العصيان والمخالفة لما خالفوه , والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة وجعلهم : (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: من الآية6) .
فصاروا كما اراد الله لهم, (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) فهم يطيعونه ليلاً ونهاراً ولا يعصونه أبداً؛ لأن الله أراد منهم ذلك , فلو أراد الله سبحانه وتعالى من البشر كوناً أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه , ولم يبق منهم عاص, كما قال سبحانه وتعالى في الآية التي ذكرناها قبل قليل : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهلينَ) (الأنعام: من الآية35), لكنه سبحانه خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً .
ثم قال الشيخ مبيناً المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهي مرتبة الخلق : (( خلق الخلق وأفعالهم)) .
أي أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء , كما قال تعالى في أكثر من آية : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الرعد: من الآية16) فالله سبحانه وتعالى خالق جميع هذه المخلوقات لا شريك لـه سبحانه وتعالى في خلقه, ويدخل في ذلك العباد , وأفعالهم .
والشيخ يقرر بذلك مذهب أهل السنة والجماعة , ويرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الله خالق , لكن يستثنون من خلقه أفعال العباد فيقولون : العباد هم الذين يخلقون أفعالهم , والله لا يخلق أفعال العباد, وهذا أحد جوانب ضلال المعتزلة في باب القدر حين أنكروا مرتبة الخلق بالنسبة لأفعال العباد, والجانب الثاني الذي ضلوا فيه أنهم أنكروا مرتبة الإرادة والمشيئة حيث جعلوا للعبد إرادة مستقلة عن إرادة الله حتى قالوا : إذا اختلفت إرادة الله وإرادة العبد فالذي يقع هو إرادة العبد .
فقول الشيخ هنا : (( خلق الخلق وأفعالهم ))
هو مذهب أهل السنة والجماعة كما قال تعالى :(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون) (الصافات:96) وقال تعالى : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء) (الزمر: من الآية62) فيدخل في ذلك أفعال العباد .
فصاروا كما اراد الله لهم, (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) فهم يطيعونه ليلاً ونهاراً ولا يعصونه أبداً؛ لأن الله أراد منهم ذلك , فلو أراد الله سبحانه وتعالى من البشر كوناً أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه , ولم يبق منهم عاص, كما قال سبحانه وتعالى في الآية التي ذكرناها قبل قليل : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهلينَ) (الأنعام: من الآية35), لكنه سبحانه خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً .
ثم قال الشيخ مبيناً المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهي مرتبة الخلق : (( خلق الخلق وأفعالهم))
أي أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء , كما قال تعالى في أكثر من آية : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (الرعد: من الآية16) فالله سبحانه وتعالى خالق جميع هذه المخلوقات لا شريك لـه سبحانه وتعالى في خلقه, ويدخل في ذلك العباد , وأفعالهم .
والشيخ يقرر بذلك مذهب أهل السنة والجماعة , ويرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الله خالق , لكن يستثنون من خلقه أفعال العباد فيقولون : العباد هم الذين يخلقون أفعالهم , والله لا يخلق أفعال العباد, وهذا أحد جوانب ضلال المعتزلة في باب القدر حين أنكروا مرتبة الخلق بالنسبة لأفعال العباد, والجانب الثاني الذي ضلوا فيه أنهم أنكروا مرتبة الإرادة والمشيئة حيث جعلوا للعبد إرادة مستقلة عن إرادة الله حتى قالوا : إذا اختلفت إرادة الله وإرادة العبد فالذي يقع هو إرادة العبد .
فقول الشيخ هنا : (( خلق الخلق وأفعالهم )) هو مذهب أهل السنة والجماعة كما قال تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون) (الصافات:96) وقال تعالى : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء) (الزمر: من الآية62) فيدخل في ذلك أفعال العباد .
وبهذا يكون الشيخ رحمه الله أشار إلى مراتب القدر الأربع التي عليها مدار القدر, وكلها مرتبطة بقضية الربوبية :
فالمرتبة الأولى : مرتبة العلم الأزلي المحيط بكل شيء .
والمرتبة الثانية :مرتبة المشيئة النافذة التي لا يخرج عنها أحد .
والمرتبة الثالثة: مرتبة الكتابة لك شيء في اللوح المحفوظ .
والمرتبة الرابعة : مرتبة الخلق وأنه تعالى خالق كل شيء , ويدخل في ذلك العبادة وأفعالهم .
ومجموع هذه المراتب هو الذي يؤمن به أهل السنة والجماعة ويقررونه ويقولون : إن الإيمان بالقضاء والقدر الذي هو من أركان الإيمان, والذي نصَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حيث جبريل حيث قال : (( وتؤمن بالقدر خيره وشره)) مقتضٍ للإيمان بهذه المراتب الأربع , وإثباتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته .
ثم قال رحمه الله : (( وقدر أرزاقهم وآجالهم )) , فالله سبحانه وتعالى كتب رزق كل عبد وأجله , كما في حديث ابن مسعود الصحيح؛ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : (( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نظفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضعة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك , ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه, وأجله , وعمله, وشقي أو سعيد)). (4)
فقوله : (( بكتب رزقه)) أي فلا يأخذ الأنسان في هذه الدنيا إلا ما كتب له من الرزق ولن يموت عبد حتى يستكمل رزقه,
وقوله : (( وأجله)) أي أن أجله إذا جاء لا يتقدم عنه ولا يتأخر كما قال تعالى :(فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (لأعراف: من الآية34) ولن يموت أحد حتى يستكمل أجله المقرر لـه.
فلكل إنسان أجل محدد , حتى الذي قتل ظلماً وعدواناً قد انتهى أجله خلافاً للمعتزلة الذين يقولون : إن المقتول لو لم يقتل لعاش, وأهل السنة يخالفونهم ويقولون : المقتول مات بأجله , ويقولون: الأسباب مختلفة , هذا أجله ينتهي وهوعلى فراشه, وذاك أجله ينتهي بالمرض , وهذا أجله ينتهي بالكبر, وهذا أجله ينتهي بالسقوط من علو , وهذا أجله ينتهي بأن يعتدي عليه معتد فيقتله , ولكل واحد منهم أجل محدد لا يتأخر عنه ولا يتقدم .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : ((يهدي من يشاء برحمته, ويضل من يشاء بحكمته , (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) ))
وهذا لبيان قضية مهمة جداً متعلقة بالقدر ألا وهي أن الله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم العباد, ولا بدّ للعبد أن يستيقن ذلك؛ لأن الظنون والشكوك قد تهجم أحياناً على ذهن العبد وتثير عنده الشبهات, ومن ذلك مثلاً ما قد يخطر على البال من شبهة أنه إذا كان لك ما يفعله العباد جميعاً مكتوباً ومسطراً قبل أن يفعلوه فلماذا يعذب هؤلاء وينعم هؤلاء ؟
فنقول كما قال ابن قدامة رحمه الله (( يهدي من يشاء برحمته)) فهو الذي يمن على عباده ويتفضل عليهم , فمن هداه الله ووفقه للهداية فهذه منة من الله , وقد يمن الله سبحانه وتعالى بما هو أخص من ذلك, مثل مَنِّه سبحانه وتعالى على الرسل بإرسالهم .
قال تعالى :(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء:54) فهو سبحانه وتعالى الذي اختار هؤلاء الرسل, واصطفاهم برسالاته , فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى على رسوله بالرسالة فلا يجوز لإنسان أن يعترض ويقول : لماذا اخترت محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم واصطفيته للرسالة ولم تختر فلاناً أو فلاناً .
كما قال بعض المشركين : (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31) فرد الله عليهم بقوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّك) (الزخرف: من الآية32).
فاصطفاء الله لرسله منةً مِنهُ عليهم وفضل ونعمة, ومن ثم يجب عليهم أن يشكروه وأن يعترفوا له بهذه المنة, وكذلك يجب على الخلق أن يشكروا ربهم على منته عليهم بإرسال الرسل إليهم, ونحن اليوم ينبغي لنا أن نحمد الله سبحانه وتعالى أن جعلنا مسلمين واصطفانا بالإسلام على أمم الأرض جميعاً , من يهود ونصارى وملاحدة ووثنيين ومجوس , مع أن أعداد هؤلاء تفوق أعداد المسلمين مرات عديدة , ولكن الله عز وجل (( يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته)), فالله سبحانه وتعالى هدى أهل طاعته إلى صراطه المستقيم برحمته, وأضل أهل معصيته بحكمته , وهو سبحانه وتعالى لا يظلم أحدا كما قال سبحانه : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف: من الآية49) .
حيث إن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على عباده , فأعطاهم الاختيار والإرادة والمشيئة والقدرة , وأقام عليهم الحجة الرسالية , فمنهم من استخدم هذه النعم فيما ينبغي أن تستخدم فيه , فقاده ذلك إلى الإيمان بالله واتباع رسله , ومنهم من أجاب داعي الهوى والنس والشيطان وعطل هذه النعم فاستحق أن يكون من الهالكين .
فمما يجب أن يُقطع به أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلم أحداً ؛ لأنه ليس بحاجة إلى الخلق بل هو الغني عنهم الغنى التام كما دلت على ذلك الأدلة الكثيرة , وهذا أحد مقتضيات تنزيهه عن الظلم في جميع الأحوال والمقامات ,حتى في مقام إضلاله من يشاء, فإن ذلك ليس ظلماً لهؤلاء , بل هو سبحانه أضلهم بعدله, وشاء أن يوجد أهل الضلال وأهل الإيمان ولو شاء لجمعهم على الهدى, ولكن حكمته اقتضت أن يكونوا منقسمين, فمنهم شقي ومنهم سعيد .
وليس من الضروري أن تكون هذه الحكمة معلومة لنا, فقد تكون احياناً سراً من الأسرار لم يطلع الله سبحانه وتعالى عليه احداً, فهو سبحانه لـه الربوبية التامة كما أن له الإرادة المطلقة , (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الانبياء:23) وقد نتلمس في بعض الأحيان شيئاً من حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك ,مثل أن يقال : إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق واوجدهم على هذه الحالة لتظهر آثار العبودية وآثار الطاعة , وأيضاً لتمييز عباد الله المؤمنين من غيرهم , ونحن نجزم بأن الله سبحانه وتعالى لا يخلق شراً محضاً لا خير فيه, وإنما الذي يخلقه الله سبحانه وتعالى هو الشر النسبي الذي كون شراً لبعض الناس لكن هو خير لبعضهم الآخر .
فهذا إبليس مثلاً, معروف بأنه شر ومع ذلك خلقه الله عز وجل لحكمة أرادها, وخلقه أيضاً ليبتلي به عباده وليميز المطيع من العاصي, فلو لم يخلق إبليس لما كان هناك إغواء وابتلاء , ولما كان هناك فضل للطائعين والعابدين والمستغفرين بالأسحار والتائبين النادمين, فلما خلق الله إبليس واعطاه قدرة على الإغواء والتزيين, فأطاعه قوم وعصاه اخرون , دل ذلك على إمكانية عصيان داعي الشيطان وإلا لما استطاع هؤلاء الأبرار أن يعصوه ويطيعوا ربهم, ودل ذلك أيضاً على استحقاق هؤلاء الذين أطاعوا إبليس للعذاب واستحقاق اولئك للنعيم .
وهناك من مخلوقات الله تبارك وتعالى ما قد تخفى حكم خلقها على بعض الناس كالعقارب والأفاعي, فربما لا يظن انه لا خير في خلق هذه المخلوقات ولا حكمة فيها, ولكن المؤمن لا يرى ذلك بل يسلم بأن كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى إنما هو لحكمة بالغة وإن كان لا يعلمها, ونحن قد نلمس الحكمة من خلق هذه الحيوانات , فقد يكون فيها شيء من الأدوية والشفاء من بعض الأمراض, وقد تكون سبباً في موت إنسان ليكون شهيداً فقد ورد في اللديغ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أصناف الشهداء فقال : (( واللديغ شهيد )) (5) وهكذا .
فما يوجد شيء خلقه الله سبحانه وتعالى إلا وله فيه حكمة .
ومما يحضرني في ذلك أن أحد الوعاظ دخل على أحد خلفاء بني العباس, فلما دخل عند تسلط ذباب على الخليفة, وارد هذا الذباب يقع على أنف الخليفة,فيطرده ,ثم يرجع مرة ثانية ويطرده وهكذا حتى ضاق منه, فقال لهذا الواعظ : لماذا خلق الله الذباب؟- يعني ما هي الحكمة من خلق الذباب؟- فاستحضر هذا الواعظ إجابة لطيفة فقال لـه : خلقه الله ليذل أو يرغم به أنوف الجبابرة , والله سبحانه وتعالى ذكر شيئاً من الحكمة في خلق الذباب فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج:73) فهذا بنص القرآن من حكم خلق الذباب , حيث إن الله سبحانه وتعالى جعله مثلاً يضرب به على بطلان عبودية غير الله, حيث تحداهم بعجزهم عن خلق الذباب بل وبعجزهم أن يأخذوا حقاً لهم سلبه منهم الذباب, وهكذا الأمر في بقية ما خلقه الله سبحانه وتعالى, فهو سبحانه وتعالى يضل من يشاء عدلاً منه لكنه لا يجبر العباد .
ثم قال المؤلف : ((قال الله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) )) .
فذكر بعض الأدلة من القرآن على القضاء والقدر, فهو سبحانه وتعالى , يخلق المخلوقات ويوجدها حسب تقديره سبحانه وتعالى فهو الذي قدرها سابقاً بعلمه , ثم بما كتب سبحانه وتعالى في اللوح المحفظ,ثم إنها تقع بشيئته وتوجد حسبما قدره تبارك وتعالى .
(( وقال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ))
أي أنه خلق الأشياء كلها , وقدرها تقديراً, فجرت المقادير على ما قدر وخلق, وهذا أحد التفسيرين في الآية, ومن أجله أورد ابن قدامة هذه الآية في القدر .
والمعنى الثاني فيها : أن الله خلق كل شيء فسواه وهيأه دون خلل أو تفاوت, وهذا أمر
مشاهد فيما يخلقه الله سبحانته وتعالى ويقدره من آياته في الكون والأنفس والآفاق, وإذا نظرنا إلى كلام الأطباء مثلاً في خلق الإنسان وفي خلق كل جزئية من جزئياته رأينا عجباً, وإذا نظرنا إلى كلام الفلكيين في هذه الأكوان وبعدها ومسافاتها وضوئها إلى آخره رأينا عجباً, وإذا نظرنا إلى هذه الأرض وتربتها وما يتعلق بالزراعة ووسائل الحياة فيها وجدنا عجباً, وإذا نرنا إلى البحار , والجبال , والشمس , والقمر , والليل , والنهار رأينا عجباً, فالله سبحانه وتعالى خلق كل شيء فقدره تقديراً؛ ولذا فالعباد لا يملكون من الأمر شيئاً (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (فاطر: من الآية41) .
فهل يملك البشر مع هذا التقدم العلمي العظيم في كل مجالات الحياة ,شيئاً من امر تدبير هذا الكون؟ إنهم لا يملكون شيئاً بل إن أموراً تجري على خلاف ما يشتهون ومع ذلك لا يستطيعون وفقها أو تأجيلها, مع انهم يرصدون لها كل الإمكانات بالوسائل التقنية الحديثة التي تعمل على كشف كنهها, ولكنهم مع ذلك كله لا يستطيعون تغيير شيء من نظام هذه المخلوقات المقدر من الخالق الواحد تعالى .
ومن الأمثلة على ذلك الزلازل التي وضعوا لها شتى الأجهزة المتطورة الحديث, ومع ذلك يفجأون بالزلزال يقلب عليهم بيوتهم وجسورهم ونحو ذلك .
فهذا الكون يجري بتقدير الله سبحانه وتعالى كما قال سبحانه وتعالى : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (الحديد : 22) فما من شيء يحدث في الأرض ولا في السماء , في البر او البحر او الجو في كتاب وهذا يجعل الإنسان المؤمن يسلم ويرضى بالقضاء والقدر, فما من مصيبة كالأمراض والجوائح والموت والزلازل والعواصف والبراكين وغير ذلك إلا وقد كتبها لله سبحانه وتعالى من قبل خلق الإنسان, وهذا يدل على أن الإيمان بالقضاء والقدر يقتضي الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى قدر هذه الأشياء قبل أن توجد, والإيمان بهذا يعطي الإنسان راحة نفسية تامة؛ لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه , وما أخطأه لم يكن ليصيبه, وأن الأمة لو اجتمعت على دفع شيء مما قدره الله سبحانه وتعالى عليه ما استطاعت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما : (( يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك , إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله , واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك , رفعت الأقلام وجفت الصحف )). (6)ونحن نحزن ونتألم ونتأثر بحدوث كثير من الأمور التي تجري علينا وهي من قضاء الله سبحانه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل, بل إن الإنسان قد يتأثر للأمور اليسيرة ويزداد حزن الإنسان وتأثره إذا تعلق الأمر برزقه أو وظيفته , أو أولاده , ونحو ذلك .
ولكن العاقل هو الذي يسلم ويرضى بقضاء الله وقدره , ويعلم أن ما وقع من حوادث او أمراض أو فقد محبوب هو من الأمور التي أرادَّها الله سبحانه وقدرها والتي لا راد لها , فإذا علم ذلك اطمأن قلبه وارتاح فؤاده , فلا يأسف على ما فات ؛ لأنه لو جَمَع الدنيا كلها واجتمع الخلق كلهم على أن يغيروا هذا الأمر ولو كان صغيراً لم يستطيعوا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراده وقدره .
ثم قال المؤلف رحمه الله : (( وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) وهذه هي الإرادة الكونية الشاملة التي هي بمعنى المشيئة , فتشمل الخير والشر (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) ))
أي : ييسره لـه وينشطه ويفتح على قلبه, فإذا شرح الله صدره للإسلام استجاب وآمن واهتدى .
(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) وجعل الصدر ضيقاً حرجاً - شديد الضيق - وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى ولا يخلص إليه شيء مما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه, إنما يكون بذنب العبد كإعراضه عن قبول الحق أو تكبره عليه كما قال تعالى عن الكفار : (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: من الآية5) وقال :(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (لأنفال:23) .
فالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلم العبد, لكنه سبحانه وتعالى يمنع عنه الهدى لظلم العبد نفسه, وهذا عدل منه تبارك وتعالى, ولو أنه تعالى أراد هداية الجميع لما وجد كافر أصلاً ولا عاص أبداً, لكنه لحكمة أرادها سبحانه وتعالى جعل الناس فريقين كما قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (الملك: من الآية2).
ثم قال المؤلف رحمه الله : (( وروى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ , قال : (( أن تؤمن بالله , وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)) فقال جبريل : صدقت . انفرد مسلم بإخراجه .)) (7) .
وهذا دليل الإيمان بالقضاء والقدر من السنة النبوية , فإنه جعل الإيمان بالقضاء والقدر ركناً من أركان الإيمان ؛ ولذا لا يستقيم إيمان عبد إلا بأن يؤمن بالقضاء والقدر , كما قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في صحيح مسلم : (( والذي يحلف به عبدالله بنعمر لا يؤمن أحدهم حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه )) (8) أي يؤمن بالقضاء والقدر , وأن كل ما جرى له فهو بقضاء الله وقدره .
وكذلك أيضاً قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه في مرض موته وهو يوصي ولده :(( يابني : إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وأن ما أخطاك لم يكن ليصيبك )) .
فالإيمان لايتحقق إلا بالإيمان بالقضاء والقدر والتصديق به وأن الله سبحانه وتعالى لـه الربوبية التامة, وأن ربوبيته مقتضية لأن يكون هو المدبر , الخالق , الرازق , ماشاء كان وما لم يشأ لم يكن .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الطبراني وغيره : (( آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره )) (9) فكل ما يجري فهو بقضاء الله وقدره سواء كان مما يحبه الإنسان أو مما يبغضه , خيراً كان أو شراً حلواً, كان أو مراً أراده الإنسان أم لم يرده, فمشيئة الله نافذة , وقدره لا مَرَدَّله .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : (( ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر : (( وقني شر ما قضيت)) )) (10)
هذا الحديث الصحيح يدل على أن كل ما قضاه الله سبحانه وتعالى فهو بقدر سواء كان خيراً أم شراً ومن ثمّ شرع للعبد أن يقول ((اللهم قني شر ما قضيت)).
_____________
(1) اخرجه احمد في المسند(5/317) ، والترمذي رقم (2155) كتاب القدر ، وقال : غريب ، وابو داود رقم ( 4700) كتاب السنة
(2) اخرجه مسلم رقم (2653) كتاب القدر .
(3) اخرجه مسلم رقم(2999) كتاب الزهد .
(4) اخرجه البخاري رقم (6594) كتاب القدر ، ومسلم رقم(264) كتاب القدر .
(5) اخرجه الطبراني في الكبرى (11/210) رقم (11686) وذكره الهيثمي في المجمع (5/303) وقال : فيه عمرو بن عطية بن الحارث الوادعي وهو ضعيف .
(6) اخرجه الترمذي رقم (2516 كتاب القيامة ، واحمد في المسند (1/293,303,307) ، وقال الترمذي : حسن صحيح
(7) اخرجه مسلم رقم (8) كتاب الإيمان
(8) اخرجه مسلم رقم (8) كتاب الإيمان
(9) اخرجه ابن ماجه رقم (87) في المقدمة بنحوه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم : (( تشهد أن لا إله إلا الله واني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها )) .
(10) اخرجه الترمذي رقم ( 464) كتاب الصلاة ، وابو داود رقم (1425,1426) كتاب الصلاة ، واحمد في المسند (1/199,200) وصححه ابو الأشبال الشيخ أحمد محمد شاكر في حشيته على سنن الترمذي (2/329)