دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > لمعة الاعتقاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 ذو القعدة 1429هـ/1-11-2008م, 12:16 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي الإيمان بالقضاء والقدر

فَصْلٌ
وَمِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وأنه لاَ يَكُونُ شَيْءٌ إِلاَّ بِإرَادَتِهِ ، وَلاَ يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ ، وَلَيْسَ في العَالَمِ شَيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِهِ وَلاَ يَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ تَدْبِيرِهِ ، وَلاَ مَحِيدَ لأحد عَنِ القَدَرِ المَقْدُورِ ، وَلاَ يُتَجَاوَزُ مَا خُطَّ له في اللَّوْحِ المَسْطُورِ.
أَرَادَ مَا العَالَمُ فَاعِلُوهُ ، وَلَوْ عَصَمَهُمْ لَما خَالَفُوهُ ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُطِيعُوهُ جَمِيعاً لأَطَاعُوهُ.
خَلَقَ الخَلْقَ وَأَفْعَالَهمْ، وَقَدَّرَ أَرْزَاقَهمْ وَآجَالَهُمْ.
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِحكْمَتِهِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ} [الأنبياء: 23]
وقَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2].
وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ من مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [الحديد: 22].
وقالَ تَعالَى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125].
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، ومَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخِرِ، والقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
فَقَالَ جِبْرِيلُ: صَدَقْتَ.
انفرد مسلم بإخراجه.
وَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((آمَنْتُ بِالقَدَرِ خَيْرهِ وشَرِّه وحُلوِهِ ومُرِّهِ)).
وفي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الَّذِي عَلَّمَهُ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَدْعُو بِهِ في قُنُوتِ الوِتْرِ: ((وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ)).


  #2  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:49 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن عثيمين

(1)

الْقَدَرُ:

مِنْ صِفَاتِ اللهِ تعالَى أَنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ،


كَمَا قالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[هُود: 107]، فلا يَخرُجُ شيءٌ عنْ إِرَادَتِهِ وسُلْطَانِهِ، ولا يَصْدُرُ شيءٌ إلاَّ بِتَقْدِيرِهِ وتَدْبِيرِهِ، بِيدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ والأرضِ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ برَحْمَتِهِ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بحِكْمَتِهِ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ؛ لكمالِ حِكْمَتِهِ وسُلْطَانِهِ، وهمْ يُسْأَلُونَ؛ لأنَّهُم مَرْبُوبُونَ مَحْكُومُونَ.

والإيمانُ بالقَدَرِ واجِبٌ،


وهوَ أَحَدُ أرْكَانِ الإيْمَانِ السِّتَّةِ؛ لقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، رواهُ مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ.

وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((آمَنْتُ بِالْقَدَرِ؛ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ))، فالخَيْرُ والشَّرُّ باعْتِبَارِ العَاقِبَةِ، والحَلاَوَةُ والمَرَارَةُ باعْتِبَارِهِ وَقْتَ إِصَابَتِهِ، وخَيْرُ القَدَرِ مَا كَانَ نَافِعًا، وشَرُّهُ مَا كَانَ ضَارًّا أوْ مُؤْذِيًا.

والخيرُ والشرُّ هوَ بالنِّسْبَةِ للْمَقْدُورِ وعاقِبَتِهِ، فإنَّ مِنْهُ ما يَكُونُ خَيْرًا كالطَّاعَاتِ والصِّحَّةِ والغِنَى، ومِنهُ ما يَكُونُ شَرًّا كالمعَاصِي والمَرَضِ والفَقْرِ.

أمَّا بالنِّسْبَةِ لفِعْلِ اللهِ






فلا يُقَالُ: إنَّهُ شَرٌّ؛ لقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ في دُعَاءِ القُنُوتِ الذي عَلَّمَهُ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ: ((وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ))، فَأَضَافَ الشَّرَّ إلى مَا قَضَاهُ، لا إلى قَضَائِهِ(1).

والإيمانُ بِالقَدَرِ لا يَتِمُّ إلاَّ بأربَعَةِ أُمُورٍ:

الأوَّلُ:




الإيمانُ بأنَّ اللهَ عالِمٌ كُلَّ مَا يكونُ جُمْلَةً وتَفْصِيلاً بعِلْمٍ سَابِقٍ؛ لقوْلِهِ تعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}[الحَج: 70].

الثاني:


أنَّ اللهَ كَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ؛ لقوْلِهِ تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد: 22]؛ أيْ: نَخْلُقَ الخَلِيقَةَ، ولِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))، رواهُ مسلمٌ.

الثالثُ:


أنَّهُ لاَ يكونُ شيءٌ في السماواتِ والأرضِ إلاَّ بإِرَادَةِ اللهِ ومَشِيئَتِهِ الدَّائِرَةِ بَينَ الرحْمَةِ والحِكْمَةِ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ برحْمَتِهِ، ويُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بحِكْمَتِهِ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لكَمَالِ حِكْمَتِهِ وسُلْطَانِهِ، وهُمْ يُسْأَلُونَ، ومَا وَقَعَ مِنْ ذلكَ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لعِلْمِهِ السابِقِ، ولِمَا كَتَبَهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ؛ لقولِهِ تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: 49]، {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام: 125]، فأَثْبَتَ وُقُوعَ الهِدَايَةِ والضلالِ بإِرَادَتِهِ.

الرابعُ:


أنَّ كُلَّ شَيْءٍ في السماواتِ والأرْضِ مَخْلُوقٌ للهِ تعَالَى، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ ربَّ سِوَاهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان: 2]، وقالَ على لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصَّافَّات: 96](2).
---------------------
حاشية الشيخ صالح العصيمي
(1) فأُضيف الشر إلى المفعول الذي هو المخلوق، ولم يضف إلى فعل الرب وهو الخلق، وبينهما فرق فالأول هو المقضي، والثاني هو القضاء. (2) فمراتب القدر أربع:

الأولى: العلم.

الثانية: الكتابة.

الثالثة: المشيئة.

الرابعة:الخلق.

وتنتظم في درجتين:

الأولى:تسبق ظهور المقدور وفيها العلم والكتابة.

والثانية: تقارن ظهوره، وفيها المشيئة والخلق.


  #3  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:50 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن جبرين

(1) (أرَادَ ما العالَمُ فاعِلُوهُ): يَعْنِي: جميعَ ما في الكَوْنِ، وما يَحْصُلُ مِن الكائِناتِ، فإنَّهُ مُرادٌ للهِ تعالى، ولكنَّ هذهِ الإرادةَ تُسَمَّى إرادةً كونيَّةً قَدَرِيَّةً؛ لأنَّها يَدْخُلُ فيها جميعُ الكائناتِ، فهيَ مُرَادَةٌ للهِ.
فجميعُ الأفعالِ الَّتي تَحْصُلُ والَّتي تَحْدُثُ كلُّها مُرَادَةٌ للهِ؛ الطَّاعاتُ، والمَعاصِي، والمصائبُ، والحوادثُ، والأرزاقُ، والآجالُ، كلُّها مرادةٌ للهِ تعالى، داخلةٌ في إِرادتِهِ، ولا تَخْرُجُ عنْ كَوْنِها مُرَادةً للهِ.
فطاعاتُ العِبادِ مرادةٌ، ومَعاصِيهم مرادةٌ، ولكنَّ إرادةَ المعاصِي الموجودةِ إرادةٌ كونيَّةٌ قدريَّةٌ.
وبهذا نَعْرِفُ أنَّ الإرادةَ تَنْقَسِمُ إلى قسمَيْنِ:

- إرادةٌ كونيَّةٌ.

-وإرادةٌ شرعيَّةٌ.


فالإرادةُ الكونيَّةُ


يَلْزَمُ وُقوعُ مُرَادِها، فكلُّ ما أَرَادَهُ اللهُ كونًا وقَدَرًا فإنَّهُ لا بُدَّ حاصلٌ وواقعٌ.

فالمعاصِي الموجودةُ قدْ أَرَادَها اللهُ كَوْنًا وقَدَرًا، والمصائبُ الحاصلةُ قدْ أَرادها اللهُ كَوْنًا وقَدَرًا، والأرزاقُ المَوْجودةُ، ولوْ كانَت حَرامًا، قدْ أَرَادَها اللهُ كَوْنًا وقَدَرًا، وكذلكَ الأولادُ ذُكورًا وإِناثًا، والأرزاقُ والمكاسِبُ، والحِرَفُ والصناعاتُ، والدِّراساتُ والعلومُ، وكلُّ ما يَجْرِي في هذا الكونِ كُلِّهِ قدْ أَرَادَهُ اللهُ كَوْنًا وقدَرًا؛ لأنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، فلا يَكونُ في الوجودِ إلاَّ ما يُرِيدُ.
ولوْ عَصَمَهم لَمَا عَصَوْهُ ولَمَا خالَفُوهُ، فهوَ الَّذي يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَضْلاً منهُ ورحمةً، ويُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَدْلاً منهُ وحِكْمةً.
فمَنْ عَلِمَ اللهُ فيهِ خيرًا وعَلِمَ مِنْ قلبِهِ إقبالاً وتَقَبُّلاً لِلخيرِ هَداهُ اللهُ وأَنَارَ قلبَهُ.
ومَنْ عَلِمَ اللهُ أنَّهُ شِرِّيرٌ، وعَلِمَ أنَّهُ مِنْ أهلِ الشَّرِّ، وأنَّهُ لا خيرَ فيهِ حَرَمَهُ الهِدايَةَ، وحالَ بينَهُ وبينَ الإيمانِ وقَسَّى قلبَهُ، وصَدَّهُ عن الخيرِ، {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف: 49].
فمَنْ هَداهُ اللهُ فهوَ فَضْلٌ منهُ، ومَنْ أَضَلَّهُ فهوَ عَدْلٌ منهُ، ولا أحدَ يَقْدِرُ أنْ يُغَيِّرَ ما وَقَعَ؛ لِقولِهِ تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}[الزُّمَر: 36 - 37].
وكذلكَ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثِ خُطْبَةِ الْحَاجَةِ: ((مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ)).
فهوَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، ويُضِلُّ مَنْ يَشاءُ.
ولكنَّهُ سبحانَهُ خَلَقَ الخَلْقَ، وقَسَّمَهم إلى أهلِ طاعةٍ وأهلِ مَعْصِيَةٍ، وعَلِمَ أهلَ الخيرِ مِنْ أهلِ الشَّرِّ، وعَلِمَ مَنْ يَكونُ قابلاً للخيرِ أهلاً لهُ، ومَنْ يَكونُ قابلاً للشَّرِّ أهلاً لهُ، فجَعَلَ هؤلاءِ أَشْقِياءَ، وهؤلاءِ سُعَداءَ، وللَّهِ الحُجَّةُ البالغةُ، يقولُ تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام: 149]، {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشُّعراء: 4]؛ يَعْنِي: لوْ شاءَ اللهُ لأَنْزَلَ عليهم آيَةً فاهْتَدَوْا بها كُلُّهم، ولكنْ عَلِمَ اللهُ مَنْ هوَ أهلٌ لِلْهِدَايَةِ، ومَنْ هوَ أهلٌ للشَّقاوةِ.
ويقولُ اللهُ تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام: 125].
فإذا هَدَى اللهُ تعالى هؤلاءِ، فلا بُدَّ أنْ نَعْتَقِدَ أنَّ ذلكَ فَضْلٌ منهُ، وإذا أَضَلَّ هؤلاءِ فذلكَ عَدْلٌ منهُ، وأنَّهُ لوْ شَاءَ لَهَدَى النَّاسَ كُلَّهم، فلا مَحِيدَ لأحدٍ عن القَضاءِ الَّذي قَضَاهُ، ولا مَخْرَجَ لهُ عمَّا حَتَّمَهُ عليهِ.
وفي حديثِ القَدَرِ يَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ))؛ أيْ: أنَّ ما تَكْرَهُ مِن الأمورِ المُقَدَّرةِ فإنَّها عنْ حِكْمةٍ حصَلَتْ، وأنَّ الَّذي قَدَّرَها حكِيمٌ يَفْعَلُ ما يَشاءُ قَضاءً وقَدَرًا، وحِكْمةً وشَرْعًا، لا مَحِيدَ لأحدٍ عن القَضاءِ المَحْتومِ الَّذي قَدَّرَهُ.
وهذا كُلُّهُ لا يُنافِي العَمَلَ، ولا يُنافِي فِعْلَ الأسبابِ؛ فإنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا أَخْبَرَ صَحابَتَهُ بأنَّهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ كُتِبَ مِنَ النَّارِ))، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسولَ اللهِ، أَفَلاَ نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ))، فأَمَرَ بأنْ يَعْمَلَ، وأَخْبَرَ بأنَّ الإنسانَ يَصِيرُ إلى ما قَدَّرَهُ اللهُ، فلا بُدَّ وأنْ يَسِيرَ إليهِ، فمَنْ كَتَبَهُ اللهُ سَعِيدًا فلا بُدَّ أنْ يَعْمَلَ بعَمَلِ أهلِ السعادةِ، ولوْ في آخِرِ لحظةٍ في حَياتِهِ، وكذلكَ مَنْ كتَبَهُ شَقِيًّا.
ففي حديثِ القَدَرِ: عن ابنِ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا)).


فالأعْمَالُ بِالخَواتِيمِ، واللهُ تعالى يُوَفِّقُ كلَّ إنسانٍ بأنْ يَخْتِمَ لهُ مِن العملِ بما هوَ أهلُهُ وما كتَبَهُ لهُ، ولِهذا كانَ كثيرٌ مِن السَّلفِ ومِن العُلَمَاءِ يُكْثِرُونَ مِن الدُّعاءِ بِحُسْنِ الخاتِمةِ؛ لأنَّ الأعمالَ بِخَواتيِمِها. (2) بعضُ هذهِ الآياتِ في القَدَرِ الَّذي هوَ العِلْمُ السَّابقُ، وبعضُها في القَدَرِ الَّذي هوَ قُدْرةُ اللهِ على كلِّ شيءٍ.

فقولُهُ تعالى:


{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، هذهِ في العِلْمِ السَّابقِ، ومَعناهُ: أنَّ كلَّ شيءٍ لهُ زَمانٌ، ولهُ وَقْتٌ لا يَتَجاوَزُهُ ولا يَتَعَدَّاهُ، ولا يَتَغَيَّرُ عنْ ما هوَ عليهِ.

فإذا قَدَّرَ اللهُ تعالى أنَّ هذا الإنسانَ يُولَدُ لهُ كَذا، فلا بُدَّ أنْ يَتَحَقَّقَ ذلكَ الَّذي قَدَّرَهُ اللهُ وأَرَادَهُ ولوْ حَصَلَ ما حَصَلَ من العَوائقِ.
وكذلكَ إذا قَدَّرَ اللهُ أنَّ هذا لا يُولَدُ لهُ، فإنَّهُ لا يُولَدُ لهُ ولوْ فَعَلَ ما فَعَلَ.
وإذا قدَّرَ اللهُ أنَّ هذا لا يُولَدُ لهُ حتَّى يَفْعَلَ السَّبَبَ الفُلانيَّ، فإنَّهُ يَتَوَقَّفُ أنْ يُولَدَ لهُ على فِعلِهِ ذلكَ السَّببَ، وقدْ عَلِمَ اللهُ أنَّهُ يَفْعَلُهُ في آخِرِ الأمْرِ، أوْ نحوُ ذلكَ.
وهكذا إذا قدَّرَ اللهُ مَثَلاً أنَّ هذهِ الأرْضَ تُنْبِتُ كذا وكذا شجرةً، فلا بُدَّ أنْ تُنْبِتَهُ في الزَّمنِ الَّذي حَدَّدَ، وأنَّ هذهِ الشَّجرةَ أوْ هذهِ النَّبْتةَ تَنْبُتُ في اليومِ الفلانيِّ، وتَفْنَى في اليومِ الفلانيِّ، وتُثْمِرُ كذا وكذا، وعَلِمَ عددَ أوراقِها، كما في قولِهِ تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا}[الأنعام: 59]، فَعِلْمُ ذلكَ وحُدودُهُ داخِلٌ في هذهِ الآيَةِ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: 49]؛ أيْ: بمقدارٍ وزمانٍ، مُحَدَّدٌ أوَّلُهُ وآخِرُهُ.
كذلكَ قولُهُ تعالى:


{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان: 2]؛ أيْ: قَدَّرَ زمانَ الَّذي خَلَقَهُ، خَلَقَ الذَّرارِيَّ وقَدَّرَ أعمالَهم وآجالَهم، فإذا حَمَلَت المرأةُ أَرْسَلَ اللهُ الْمَلَكَ فيَكْتُبُ أَجَلَهُ، وعَمَلَهُ، وشَقيٌّ أمْ سَعيدٌ، ورِزقَهُ حَلالٌ أوْ حَرامٌ، وَهُوَ في بَطْنِ أُمِّهِ، ولكنْ هذهِ كِتابةٌ خاصَّةٌ.

وكذلكَ أيضًا جميعُ ما يَحْدُثُ داخلٌ في هذهِ الآيَةِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}؛ أيْ: حَدَّدَهُ وحَدَّدَ قُدْرَتَهُ وقوَّتَهُ ومَبْدَأَهُ ومُنْتَهَاهُ وما يَصِيرُ إليهِ.
وأمَّا قولُهُ تعالى:


{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء: 23].

فهذا القَضاءُ الَّذِي هوَ العِلْمُ السَّابقُ، وكذلكَ القدرةُ على الأفعالِ؛ لأنَّهُ يَفْعَلُ الأشياءَ ولا يُسْأَلُ عن الحِكْمةِ فيها.
فمِنْ عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّهم يُسَلِّمُونَ لأمرِ اللهِ، ولوْ لمْ يَظْهَرْ لهُمْ فيهِ حِكْمةٌ،


فلا يَجُوزُ أنْ تَقولَ: ما فائدةُ خَلْقِ هذهِ الأشياءِ؟ أوْ هذهِ الأشياءُ فيها ضَرَرٌ، لَيْتَها لمْ تُخْلَقْ.

كلُّ هذا لا يَجوزُ؛ لأنَّ في هذا اعْتِراضًا على تَصَرُّفِ الخالقِ، فهوَ الَّذي خَلَقَ الأقدارَ، حتَّى إنَّهُ أَرادَ التَّعَرُّفَ إلى خلْقِهِ بإيجادِ الضِدَّيْنِ، فخَلَقَ الخيرَ والشَّرَّ، وخَلَقَ الحياةَ والموتَ، وخلَقَ المُسْلِمَ والكافِرَ، وكذلكَ بَقِيَّةَ الأضْدَادِ.
فلا يَجوزُ أن تَقولَ: لماذا خَلَقَ اللهُ البَرْدَ والحَرَّ؟ ولماذا خَلَقَ اللهُ السُّمومَ القاتلِةَ؟ لماذا خَلَقَ اللهُ السِّباعَ؟ لماذا خَلَقَ اللهُ ذَوَاتِ السُّمومِ كَالْحَيَّاتِ والعَقاربِ؟
فخَلْقُ كلِّ الأشياءِ لا بُدَّ أنْ تَكونَ فيها حِكمةٌ، ولوْ لمْ تَكُنْ مَعْلومةً لنا، فلا يَجوزُ أنْ يُعْتَرَضَ على اللهِ تعالى في خَلْقِهِ؛ فإنَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ، قالَ تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء: 23].
يَدْخُلُ في هذهِ الآيَةِ جميعُ ما أَوْجَدَهُ، سَواءٌ مِن المخلوقاتِ ذَوَاتِ الأرواحِ، أوْ مِن النباتاتِ، أوْ مِن الأفعالِ، ولا يُقَالُ: لماذا أَمَرَ اللهُ بِكَذا؟ ولماذا حَرَّمَ كَذا؟ ولماذا أَوْجَبَ كذا؟ كُلُّ هذا لا يَجوزُ: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
أمَّا قولُهُ تعالى:


{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام: 125] فهذهِ الآيَةُ في الإرادةِ الكونيَّةِ، فإنَّ الإرادةَ كما ذَكَرْنَا نوعانِ:

-إرادةٌ كونيَّةٌ.

-وإرادةٌ شرعيَّةٌ.


فالمعنى:


أنَّ مَنْ أَرادَ اللهُ كَوْنًا وقَدَرًا أنْ يَهْدِيَهُ فَإِنَّهُ يَشْرَحُ صدرَهُ للإسلامِ، ويَكونُ قلبُهُ مُنْبَسِطًا إليهِ، رَاغِبًا فيهِ، مُحِبًّا لهُ، مُقْبِلاً عليهِ، مُتَقَبِّلاً لهُ، يَرْغَبُ فيهِ ويُحِبُّهُ ويَأْلَفُهُ، ويَسْتَحْسِنُ أفعالَهُ وشرائعَهُ، ويَرَى كلَّ ما فيهِ حقًّا ومُطابِقًا وصِدْقًا، ليسَ فيهِ شيءٌ لا فائدةَ فيهِ ولا أهمِّيَّةَ لهُ، فيُقْبِلُ على الإسلامِ ويَتَقَبَّلُهُ، فهذا الَّذي أَرادَ اللهُ بهِ خيرًا.

قالَ اللهُ تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}[الزُّمَر: 22]، أَخْبَرَ بذلكَ عنْ نَبِيِّهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشَّرح: 1].
والشَّرحُ هنا ليسَ هوَ الشَّقَّ، ولكنَّهُ شَرْحُ الانْبِساطِ، بمعنى: أنَّ قلبَهُ يَصِيرُ مُقْبِلاً على الإسلامِ، ويَصِيرُ صَدْرُهُ مُتَّسِعًا لتعاليمِ الإسلامِ، كأنَّ صدْرَهُ واسعٌ غايَةَ السَّعَةِ؛ لأجْلِ ما مَنَّ اللهُ عليهِ بهذهِ الهِدايَةِ.
ثمَّ قالَ تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}[الأنعام: 125]؛ أيْ: مَنْ أَرَادَ اللهُ إِضْلالَهُ، وحالَ بينَهُ وبينَ الهدايَةِ، فإنَّهُ يَجْعَلُ صدرَهُ ضَيِّقًا.
وليسَ المُرَادُ الضِّيقَ الْحِسِّيَّ،


فإنَّكَ إذا رَأَيْتَ اثنَيْنِ؛ أحدُهما أَرَادَ اللهُ أنْ يَشْرَحَ صدرَهُ، والآخَرُ لمْ يُرِدْ بهِ خيرًا، بلْ أَرَادَ اللهُ أنْ يُضِلَّهُ، لا تُفَرِّقُ بينَهما ظاهرًا، فضِيقُ الصَّدرِ هنا ضِيقٌ مَعْنَوِيٌّ، بمعنى أنَّهُ لا يَتَّسِعُ صدرُهُ للتعاليمِ الدِّينيَّةِ، ولا يُحِبُّها، ولا يَتَقَبَّلُها، ولا يَرْكَنُ إليها، إذا أُخْبِرَ بها ضاقَ بها ذَرْعًا وأَبْغَضَها ومَقَتَها واحْتَقَرَها وابْتَعَدَ عنها، واسْتَثْقَلَها كأنَّها جِبالٌ تُحْمَلُ عليهِ، هذا مِنْ قَضَاءِ اللهِ الَّذي قَدَّرَ عليهِ، كذا جَعْلُ صَدْرِهِ ضيِّقًا حَرَجًا، والحَرَجُ هوَ الشِّدَّةُ والألمُ.

{كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} كأنَّ قلبَهُ يَصَّعَّدُ؛ أيْ: يُطَارُ بهِ، ويُحالُ بينَهُ وبينَ أسبابِ الفَرَحِ. لا شكَّ أنَّ هذا أمرُ اللهِ تعالى، فهوَ الَّذي هَدَى هذا وأَضَلَّ هذا.
وقدْ ذَكَرْنَا أنَّ هِدايتَهُ لِمَنْ يَهْدِيهِ فَضْلٌ منهُ، وإِضْلالَهُ لِمَنْ يُضِلُّهُ عَدْلٌ منهُ.


ما لِلْعِبَادِ عليهِ حقٌّ واجِبٌ كـلاَّ ولا سـَعـْيٌ لـَدَيـْهِ ضائِعُ

إنْ عـُذِّبُوا فَبِعـَدْلِهِ أوْ نـُعِّمُوا فبفَضْلِهِ وهوَ الكريمُ الواسعُ


هذهِ الآياتُ ونحْوُها فيما يَتَعَلَّقُ بالقضاءِ والقَدَرِ.
وقدْ ذَكَرْنَا أنَّ الإرادةَ نوعانِ:


-إرادةٌ كونيَّةٌ.

-وإرادةٌ دينيَّةٌ شرعيَّةٌ.


فالإرادةُ الكونيَّةُ


يَلْزَمُ وقوعُ مُرَادِها، والإرادةُ الشرعيَّةُ لا يَلْزَمُ وُقُوعُ مُرَادِها.

فَوُجُودُ هذهِ المخلوقاتِ مُرَادٌ إرادةً كونيَّةً، نَقولُ مثلاً: إنَّ اللهَ أَرَادَ كَوْنًا وقَدَرًا وُجُودَ هذا الاجتماعِ، وخَلْقَ هؤلاءِ الأشخاصِ، ونحوَ ذلكَ، كُلُّ هذا مُرَادٌ كَوْنًا وقَدَرًا.
كذلكَ أَرَاد كَوْنًا وقَدَرًا وجودَ الْمُبْتَدِعَةِ والكَفَرةِ والفَجَرةِ والعُصاةِ ونحوِهِم، ولوْ شاءَ ما وُجِدُوا.
فهذهِ إرادةٌ كونيَّةٌ قدريَّةٌ أزليَّةٌ سابقةٌ معلومةٌ للهِ قبلَ وُجُودِها، ولا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ مُرَادِ اللهِ الَّذي أَرَادَهُ في الكونِ والقَدَرِ.
أمَّا الإرادةُ الشرعيَّةُ؛


فإنَّهُ لا يَلْزَمُ وُجُودُ مُرَادِها، ولكنَّ مُرادَها مَحْبوبٌ للهِ تعالى.

فاللهُ تعالى أَرَادَ مِن العبادِ كُلِّهِم أنْ يُؤْمِنوا بهِ دِينًا وشَرْعًا، وأنْ يَعْمَلوا الصَّالحاتِ، وأنْ يُصَدِّقوا الرسلَ، وأَرَادَ منهم أنْ يَتْرُكوا المحرَّماتِ، ولكنْ هلْ وُجِدَ هذا المُرَادُ كلُّهُ أوْ وُجِدَ بعضُهُ؟
أَرَادَ منهم أنْ يُؤْمِنوا، فمنهم مَنْ آمَنْ ومنهم مَنْ كَفَرَ، فالَّذينَ آمَنُوا اجْتَمَعَتْ فيهم الإِرادَتَانِ: إيمانُهم الَّذي حَصَلَ مُرَادٌ كَوْنًا وقَدَرًا؛ لأنَّهُ مَكْتوبٌ، ومُرَادٌ شرعًا ودِينًا؛ لأنَّهُ محبوبٌ.
كذلكَ أعمالُهم الصَّالحةُ الَّتي عَمِلُوها؛ كالصَّلاةِ والصَّدَقَةِ والجهادِ والأَذْكَارِ والتِّلاوةِ، مُرَادةٌ دِينًا وشرعًا، كما أنَّها مُرَادةٌ كَوْنًا وقَدَرًا؛ لأنَّ اللهَ قَدَّرَ أنَّ هؤلاءِ يُؤْمِنونَ ويَعْمَلونَ الصَّالحاتِ في الأزَلِ، ويُكْثِرونَ من العباداتِ، ويَتَعَلَّمُونَ العلومَ النافعةَ، ويَعْتَقِدُونَ العقائدَ الصَّالحةَ، أرادَ ذلكَ كَوْنًا وقَدَرًا فَوُجِدَ، وأرادَهُ دِينًا وشرعًا فَوُجِدَ فيهم.
والإرادةُ الشرعيَّةُ


مذكورةٌ في قولِهِ تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185].

وفي قولِهِ تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النِّساء: 26]، {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا}[النِّساء: 27]، {يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}[النِّساء: 28].
كُلُّ هذهِ إرادةٌ شرعيَّةٌ، يَعْنِي: يُرِيدُ شَرْعًا وقَدَرًا أنْ يُخَفِّفَ عنْكُم، يُرِيدُ شَرْعًا وقَدَرًا أنْ يَتُوبَ عليكم، فمَنْ تابَ اللهُ عليهِ ووَفَّقَهُ كانَ هذا مُرادًا شَرْعًا ودِينًا، وكوْنًا وقَدَرًا، ومَنْ لمْ يَتُبْ لمْ يُوافِق الإرادةَ الشرعيَّةَ؛ حيثُ إنَّهُ أُرِيدَ منهُ التَّوبةُ فلمْ يَتُبْ، فتَجْتَمِعُ الإِرادتانِ في إِيمانِ المُؤْمِنِينَ؛ لأنَّهم حَقَّقُوا الإرادةَ الشرعيَّةَ، ووَقَعَتْ منهم الإرادةُ الكونيَّةُ، فاجْتَمَعَتْ فيهم الإرادتانِ؛ الكونيَّةُ والشرعيَّةُ.
وتَنْفَرِدُ الإرادةُ الكونيَّةُ في كُفْرِ الكافرينَ؛ لأنَّ اللهَ أَرَادَ منهم شرعًا ودِينًا أنْ يُؤْمِنوا، فلمْ يُؤْمِنوا، وأرادَ منهم كَوْنًا وقَدَرًا أنْ يَكْفُروا فكَفَروا.
وهذا مُعْتَقَدُ أهلِ السُّنَّةِ؛ أنَّ اللهَ تعالى أَرَادَ جميعَ الكائناتِ، فلا تَخْرُجُ عنْ إرادتِهِ ولا عنْ تَكْوِينِهِ، وأنَّ جميعَ الكائناتِ حاصلةٌ بِقَضائِهِ وقدَرِهِ، وأنَّهُ عالِمٌ بها.
أمَّا قولُهُ تعالى:


{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}[الحديد: 22]، هذهِ الآيَةُ تَتَعَلَّقُ بنوعٍ مِن القَدَرِ، هذا النَّوعُ هوَ عِلْمُ اللهِ السَّابقُ؛ أنَّهُ بكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ، وأنَّهُ عالِمٌ بِالأشياءِ قبلَ وُجُودِها.

وبهذا نَعْرِفُ أنَّ القدَرَ أرْبَعةُ مَراتِبَ:
المَرْتَبةُ الأُولَى:


العِلْمُ، وهُوَ العِلْمُ السَّابقُ قبلَ وُجُودِ الموجوداتِ، عَلِمَها قبلَ وُجُودِها، فكلُّ شيءٍ يُوجَدُ فإنَّهُ مَعلومٌ للهِ.

المرتبةُ الثَّانيَةُ:


الكتابةُ، كَتَبَها في اللوحِ المْحَفْوظِ، فكُلُّ شَيْءٍ يَحْدُثُ فإنَّهُ مَكْتوبٌ.

المرتبةُ الثَّالثةُ:


الإرادةُ، فإنَّ اللهَ أَرَادَها وشَاءَها، ولا بُدَّ مِنْ وُقوعِ ما شَاءَهُ اللهُ.

المرتبةُ الرَّابعةُ:


أنَّ اللهَ أَوْجَدَها وخلَقَها وحَقَّقَ وجودَها.

إذا آمَنَ العَبْدُ بِذلكَ كُلِّهِ صَدَقَ عليهِ أنَّهُ آمَنَ بِالقَدَرِ.
والمرتبةُ الأولى؛ وهيَ العِلْمُ، ذَكَرُوا أنَّها أربعةُ أَقْسامٍ:
الأوَّلُ:


التَّقديرُ العامُّ؛ الَّذي هوَ العِلمُ بالموجوداتِ كلِّها مِنْ أوَّلِ ما خُلِقَتْ إلى ما لا نهايَةَ لهُ.

التَّقديرُ الثَّاني:


التَّقديرُ العُمُرِيُّ، وهُوَ ما يُكْتَبُ لِلإنسانِ وهُوَ في بَطْنِ أُمِّهِ.

التَّقديرُ الثَّالثُ:


التَّقديرُ السَّنويُّ، وهُوَ أنَّهُ في ليلةِ القَدْرِ يُقَدِّرُ اللهُ ما يَكونُ في تلكَ السَّنةِ إلى مِثلِها ممَّا يَكونُ على وَجْهِ الأرْضِ، يُكْتَبُ في تلكَ الليلةِ ما سوفَ يُوجَدُ، وما سوفَ يَحْصُلُ، ويَقولُ اللهُ تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا}[الدُّخَان: 4 - 5]، يَعْنِي: في ليلةِ القدْرِ، وذلكَ بعدَ قولِهِ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدُّخان: 3 - 4].

أمَّا التَّقديرُ الرَّابعُ: فهوَ التَّقديرُ اليَوْمِيُّ؛ وهُوَ وقوعُ ما يَحْصُلُ في كلِّ يومٍ، وهوَ المذكورُ في قولِهِ تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرَّحمن: 29].
(3) هذهِ أَدِلَّةٌ على الإيمانِ بالقَدَرِ، فحديثُ ابنِ عُمَرَ في (صحيحِ مُسْلِم) هوَ أوَّلُ حديثٍ في كتابِ الإيمانِ، وهُوَ حديثُ عُمَرَ المشهورُ، وأوَّلُهُ: عنْ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ قالَ: (كَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِالْقَدَرِ في العراقِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فانْطَلَقْتُ أنا وَحُمَيدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ الْحِمْيَرِيُّ حاجَّيْنِ أوْ مُعْتَمِرَيْنِ، فقُلْنَا: لوْ لَقِينَا أحدًا مِنْ أصحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْناهُ عمَّا يَقولُ هؤلاءِ في القَدَرِ، فوَفَّقَ اللهُ تعالى لَنا عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ داخلاً المسجدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أنا وصاحِبِي، وظَنَنْتُ أنَّ صاحِبِي سَيَكِلُ الكلامَ إِلَيَّ، فقُلْتُ: يا أبا عبدِ الرَّحمنِ، إنَّهُ قدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا أُناسٌ يَقْرَءُونَ القرآنَ ويَتَقَفَّرونَ العِلْمَ، وذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وأنَّهم يَزْعُمُونَ أنْ لا قَدَرَ، وأنَّ الأمرَ أُنُفٌ، فقالَ: إذا لَقِيتَ أُولَئِكَ فأخْبِرْهُم أنِّي بَرِيءٌ منهم، وأنَّهم بَرَاءٌ منِّي، والَّذي نفسِي بيدِهِ؛ لوْ أَنْفَقَ أحدُهم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما قَبِلَهُ اللهُ منهم حتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ …).
ثمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ بهذا الحديثِ، حديثِ عُمَرَ المشهورِ، إلى قولِهِ: (قالَ: أَخْبِرْنِي عَن الإِيمَانِ، قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، قَالَ: صَدَقْتَ …) الحديثَ.
فهذا دليلٌ على نوعٍ مِنْ أنواعِ القَدَرِ، وهُوَ العِلْمُ السَّابقُ الَّذي ذَكَرْنا أنَّهُ العلمُ الَّذي عَلِمَهُ اللهُ قبلَ وُجُودِ المخلوقاتِ، وهُوَ الَّذي أَنْكَرَهُ مَعْبَدٌ الجُهَنيُّ، وادَّعَى أنَّ الأمرَ (أُنُفٌ)، يَعْنِي: مُسْتَأَنَفٌ، بمعنى أنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ الأشياءَ حتَّى تَحْدُثَ، لا يَعْلَمُ ما سوفَ يُولَدُ لِهَذَا، ولا مَنْ سوفَ يَسْكُنُ هذهِ البَلْدةَ، ولا متى تَعْمُرُ هذهِ البُقْعَةُ، ولا متى تَنْبُتُ هذهِ الشَّجرةُ، ولا متى تُثْمِرُ حتَّى تُخْرِجَ ثِمارَها، وهذا بلا شَكٍّ تَنَقُّصٌ لِعِلْمِ اللهِ الَّذي وَصَفَ بهِ نفسَهُ بأنَّهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ.
ولكنَّ الحديثَ، وهُوَ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، يَدْخُلُ فيهِ أيضًا القَدَرُ الَّذي هوَ الحَوَادِثُ، وهُوَ أنْ تُؤْمِنَ بأنَّها مُقَدَّرةٌ، وأنَّ ما أًصابَكَ لمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وما أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ.
ووَرَدَ مِنْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولُهُ: ((لَوِ اجْتَمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)).
أمَّا دَلالةُ حديثِ القُنوتِ


الَّذي أَوَّلُهُ: ((اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ)) إلى قولِهِ: ((وَقِنِي بِرَحْمَتِكَ شَرَّ مَا قَضَيْتَ؛ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ))، فقدْ دَلَّ على أنَّ اللهَ يَقِيهِ مِن الشَّرِّ.

والدُّعاءُ ليسَ يُغَيِّرُ القَدَرَ، ولكنَّ الدُّعاءَ مِن القدرِ، والدُّعاءُ نفسُهُ مُقَدَّرٌ، وقدْ جَعَلَهُ اللهُ سببًا لِوُقُوعِ هذا القَدَرِ، فدُعَاؤُنا بقولِنا: ((وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ))؛ أيْ: شَرَّ ما تُقَدِّرُهُ؛ أيْ: ما قدْ كُتِبَ، وممَّا قَدَّرَهُ اللهُ تعالى وكَتَبَهُ أنَّ العبدَ سَيَدْعُو بهذا الدُّعاءِ، ويكونُ سببًا في كَشْفِ الشَّرِّ عنهُ.
فدَلَّ على أنَّ المكتوبَ لا بُدَّ مِنْ وقوعِهِ، ولا بُدَّ مِنْ حُصولِهِ، فما قَدَّرَ اللهُ فلنْ يُخْطِئَ العبدَ، لا رَادَّ لِقضاءِ اللهِ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.


  #4  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:51 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ صالح آل الشيخ

القارئ:
(فَصْلٌ
وَمِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وأنه لاَ يَكُونُ شَيْءٌ إِلاَّ بِإرَادَتِهِ، وَلاَ يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ في العَالَمِ شَيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِهِ وَلاَ يَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ تَدْبِيرِهِ، وَلاَ مَحِيدَ لأحد عَنِ القَدَرِ المَقْدُورِ، وَلاَ يُتَجَاوَزُ مَا خُطَّ له في اللَّوْحِ المَسْطُورِ.
أَرَادَ مَا العَالَمُ فَاعِلُوهُ، وَلَوْ عَصَمَهُمْ لَما خَالَفُوهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُطِيعُوهُ جَمِيعاً لأَطَاعُوهُ.
خَلَقَ الخَلْقَ وَأَفْعَالَهمْ، وَقَدَّرَ أَرْزَاقَهمْ وَآجَالَهُمْ.
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِحكْمَتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:
{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ}[الأنبياء: 23].
وقَالَ اللهُ تَعَالَى:
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: 49].
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}[الفرقان: 2].
وَقَالَ تَعَالَى:
{مَا أَصَابَ من مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}[الحديد: 22].
وقالَ تَعالَى:
{فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام: 125].
وَرَوَى
ابْنُ عُمَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، ومَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخِرِ، والقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
فَقَالَ
جِبْرِيلُ: صَدَقْتَ، انفرد مسلم بإخراجه.
وَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((آمَنْتُ بِالقَدَرِ خَيْرهِ وشَرِّه وحُلوِهِ ومُرِّهِ)).
وفي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الَّذِي عَلَّمَهُ
الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَدْعُو بِهِ في قُنُوتِ الوِتْرِ: ((وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ)) ).

الشيخ:
الرُّكنُ السَّادسُ من أركانِ الإيمانِ: هو الإيمانُ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ من اللهِ تعالى.

والقضاءُ والقدرُ
لفظان يكثرُ ورودُهُما، فهل بينهما فرقٌ؟

من أهلِ العلمِ من قالَ:
إنَّهُ لا فرقَ بين القضاءِ والقدرِ، فالقضاءُ هو القدرُ، والقدرُ هو القضاءُ.

وفرّق طائفةٌ من أهلِ العلم
بين القضاءِ والقدرِ، بأنَّ القدرَ: هو ما يسبقُ وقوعَ المقدّر.
فإذا وقع المقدّرُ وانقضى سمّي
قضاءً.
فما قبل وقوعِ المقدّر مشاهداً معلوماً به يُسمَّى قدراً، وإذا وقع ومضى سُمِّيَ قضاءً مع كونِهِ يُسَمَّى قدراً، يعني: باعتبارِ ما مضى.

وهذا التَّفريقُ حسنٌ وظاهرٌ،
وذلكَ لأنَّ مادَّةَ القضاءِ تختلفُ عن مادَّةِ القدرِ في اللغةِ، فقولُهُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- ((وقِنِي شرَّ ما قضيْتَ)) هذا باعتبارِ أنَّ ما قدَّرَ اللهُ -جلَّ وعلا- هو قضاءٌ، يعني: أنَّهُ كائنٌ لا محالةَ، فيسألُ اللهَ -جلّ وعلا- أن يدفعَ عنه شرَّ ما قدَّرَ وما قضى.
وكثيرٌ من أهل العلمِ ومنهم
ابنُ القيِّمِ -رحمه اللهُ- وغيرُهُ يقولون: (لا فرقَ بين القضاءِ والقدرِ، فالقضاءُ هو القدرُ والقدرُ هو القضاءُ؛ فيتواردان).

الإيمانُ بالقدرِ على مرتبتين:
يعني: كيفَ يكونُ إيمانُ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ بالقدرِ؟
على مرتبتين:
المرتبة الأولى:
ما يسبقُ حصولَ المقدّرِ، ما يسبقه في الزمانِ، يعني: ما كان في الماضي.

والمرتبةُ الثَّانيةُ:
هي ما يكونُ حالَ وقوعِ المقدّرِ.
أمَّا المرتبةُ الأولى فتضمُّ مرتبتينِ أيضاً:

الأولى: هي العلمُ

والثَّانيةُ: هي الكتابةُ.
وهذه سابقةٌ، فاللهُ -جلَّ وعلا- علمَ ما الخلقُ عاملون إلى يومِ القيامةِ، وكتب -جلَّ وعلا- مقاديرَ الخلائقِ إلى قيامِ السَّاعةِ قبل أن يخلقَ السَّماواتِ والأرضَ بخمسين ألفَ سنةٍ، وكان عرشُهُ على الماءِ.
-فإذاً: السَّابقُ من مراتبِ القدرِ: أنَّنا نؤمنُ بأنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- علمَ ما الخلقُ عاملون من خيرٍ وشرٍّ، ومن أحوالِهِم وسكناتِهِم، وعلمُهُ بهذا لم يزل أوَّلاً؛ لأنَّهُ -جلَّ وعلا- عالمٌ بهذا، ولم يتطرَّقْ إليه -جلّ وعلا- عدم علمِ بهذا.

الثَّاني:
أنَّهُ -جلَّ وعلا- كتبَ هذا في اللوحِ المحفوظِ، يعني ما الخلقُ عاملون، وما هم سائرون فيه، ومن سيُهدى منهم، ومن سيضلُّ، وكُفرُ الكافرِ، ومعصيةُ العاصي، وطاعةُ المطيعِ، وكلُّ الحركاتِ والسَّكناتِ هي مكتوبةٌ في اللوحِ المحفوظِ.
قالَ -جلّ وعلا-:
{ألمْ تعلَمْ أنَّ اللهَ يعلمُ ما في السَّماءِ والأرضِ إنَّ ذلك في كتابٍ إنَّ ذلك على اللهِ يسيرٌ} فذكرَ في آيةِ الحجِّ هذهِ مرتبتين، التي هي: المرحلةُ الأولى والمرتبة الأولى -السابقة-: وهما العلمُ، والكتابةُ

فنوقِنُ بأنَّ اللهَ -جلّ وعلا- لم يحدثْ له علمٌ بشيءٍ، وليسَ الأمرُ أُنُفٌ، بل اللهُ -جلَّ وعلا- عالمٌ بكلِّ شيءٍ قبل أن يكونَ أيُّ شيءٍ، وبعد ذلك كتبَ اللهُ -جلَّ وعلا- في اللوحِ المحفوظِ مقاديرَ الخلائقِ إلى قيامِ السَّاعةِ، فلا يتعدَّونَ ما كتبَ لهم.
المرتبةُ الثَّانيةُ:
ما يواكبُ المقدورَ، فأهلُ السّنَّةِ والجماعةِ يجعلون المرتبةَ الثَّالثةَ من مراتبِ القدرِ وهي في المرحلةِ الثَّانيةِ، المرحلةُ الأولى: علمٌ وكتابةٌ، المرحلةُ الثَّانيةُ: ما يوافقُ المقدَّرَ، وهي:

أوَّلاً:
أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- مشيئتُهُ نافذةٌ في عبادِهِ، فما شاء كان وما لم يشأْ لم يكنْ، فلا يحدثُ في ملكِهِ وملكوتِهِ شيءٌ إلا وقد أذِنَ اللهُ -جلَّ وعلا- به كوناً، فطاعةُ المطيعِ: أذن اللهُ بها -جلَّ وعلا- كوناً، ومعصيةُ العاصي: أذنَ اللهُ -جلَّ وعلا- بها كوناً، وكُفْرُ الكافرِ: أذن اللهُ -جلَّ وعلا- بها كوناً، والمصائبُ التي تصيبُ العبادَ: أذنَ اللهُ -جلَّ وعلا- بها كوناً، فـ{ما تَشَاءونَ إلا أن يشاء اللهُ}.
فما يشاءُ العبدُ داخلٌ في مشيئةِ اللهِ، ماشاءَ اللهُ كان ومالمْ يشأْ لم يكن؛ كما قال -جلَّ وعلا-:
{وما تشاءونَ إلا أن يشاءَ الله إن اللهَ كانَ عليماً حكيماً} فجعلَ مشيئةَ العبدِ تبعاً لمشيئة الله جلَّ وعلا، وأنَّ العبدَ إذا شاءَ شيئاً لا يكونُ استقلالاً، بل إذا شاءَ اللهُ -جلَّ وعلا- أن يكونَ كان.

الثانية في هذه المرحلة
-وهي الرَّابعةُ من مراتب القدرِ-: أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- لا يكونُ في ملكِهِ شيءٌ إلا وهو خالقُهُ، فاللهُ -جلّ وعلا- خالقُ كلِّ شيءٍ؛ كما قالَ -جلَّ وعلا-: {اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ وهو على كلِّ شيءٍ وكيلٌ} فـجلّ وعلا خلقَ كلَّ شيءٍ، من ذلك طاعةُ المطيعِ ومعصيةُ العاصي، من ذلك أفعالُ العبادِ، من ذلك المصائبُ، كلُّ ما يحدُثُ في ملكوتِ اللهِ هو -جلَّ وعلا- خالقٌ له.

هاتان المرتبتان -أو المرحلة الثَّانيةُ هذه- تُواقعُ المقدورَ،
يعني: إذا حصلَ المقدَّرُ، وشاءَ اللهُ وقوعَهُ؛ مما هو مكتوبٌ في اللوحِ المحفوظِ؛ وسبقَ به علمُ اللهِ -جلَّ وعلا- لا يكونُ إلا بمشيئةِ اللهِ جلّ وعلا، وإذا كانَ فاللهُ -جلَّ وعلا- هو الَّذي خلقَهُ.
هذا الأمرُ بمراتبِهِ الأربعةِ هو ما يعتقدُهُ أهلُ السّنَّةِ والجماعةِ، فعندهم
القدرُ هو: علمُ اللهِ -جلّ وعلا- الأزليُّ بالأشياءِ قبل وقوعِهَا، وكتابتُهُ لها في اللوحِ المحفوظِ قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ بخمسين ألفَ سنةٍ، ثمَّ مشيئتُهُ -جلَّ وعلا- لها، وخلقُهُ -جلَّ وعلا- للأشياءِ جميعاً، هذا تعريفُ القدرِ عند أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ.

فشملَ هذا التَّعريفُ الأربعَ مراتب:
-
العلمَ.

-
والكتابةَ.

-
المشيئةَ العامَّةَ.

-
الخلقَ لكلِّ شيءٍ، فاللهُ -جلَّ وعلا- خالقُ كلِّ شيءٍ.

خالفَ بعضُ أهلُ البدعِ
فقالوا: إنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- لا يخلقُ فعلَ العبدِ، بل العبدُ يخلقُ فعلَ نفسِهِ، وهذا هو قولُ القدريَّةِ، يعني: نفاةَ القدَرِ.

والجوابُ:
أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- قالَ: {واللهُ خلقَكُمْ وما تعمَلُونَ} فخلقَ -جلَّ وعلا- العبادَ وأعمالَهُمْ، فعملُ العبدِ من الطَّاعاتِ والمعاصي مخلوقٌ للهِ جلَّ وعلا، لكنَّهُ واقعٌ بمشيئَتِهِ، وهو الَّذي خلقَهُ، وإذا كانَ معصيةً فإنَّما أذنَ بها كوناً ولم يرضَ بها شرعاً وديناً، أرادها كوناً ولم يُردْهَا شرعاً، فهو -جلّ وعلا- لا يكونُ في ملكِهِ إلا ما يريدُ، ولا يكونُ في ملكِهِ شيءٌ إلا وهو خالقُهُ، وهو الَّذي أنشأه وصوَّرَهُ وبرأَهُ وخلقَهُ، ويجامعُ هذا في معصيةِ العاصي وكفرِ الكافرِ أنَّهُ لا يرضى بتعدِّي الشَّرعِ.

نفاةُ القدرِ قسمان:
قدريَّةٌ غلاةٌ:
وهؤلاءِ هم نفاةُ العلمِ، وهؤلاءِ فرقةٌ انقرضَتْ، وهي الَّتي قالَ فيها أئمَّةُ السَّلفِ: (ناظروا القدريَّةَ بالعلمِ، فإنْ هم أقرُّوا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا).

الطَّائفةُ الثَّانيةُ:
القدريَّةُ الَّذين ينفون خلقَ اللهِ -جلَّ وعلا- لأفعالِ العبادِ، وينفون القدرَ، ويقولون: (إنَّ العبدَ هو الَّذي يخلقُ فعلَ نفسهِ).
ويقابلُهُم الجبريَّةُ،
والجبريةُ قسمان:

جبريَّةٌ غلاةٌ:
وهم الَّذين يقولون: إنَّ المرءَ ليس له اختيارٌ بتاتاً، بل هو كالرِّيشةِ في مهبِّ الرِّيحِ، وهذا اعتقادُ الجهميَّةِ وطوائفَ من الصُّوفيَّةِ الغلاةِ، موجودون اليومَ.

والطَّائفةُ الثَّانيةُ:
الجبريَّةُ غيرُ الغلاةِ، وهؤلاء هم الأشاعرةُ، فإنَّ الأشاعرةَ يقولون بالجبرِ، لكنَّهُ جبرٌ مؤدَّبٌ، يعني: جبرٌ في الباطنِ دون الظَّاهرِ.
يقولون: (ظَاهرُ المكلّفِ أنَّه مختارٌ ولكنَّهُ في الباطنِ مجبَرٌ) ولهذا اخترعوا لفظَ الكسبِ، فاخترعَ
أبو الحسنِ الأشعريُّ لفظَ الكسبِ، وقال: (إنَّ الأعمالَ كسبٌ للعبادِ).
ما تفسيرُ الكسبِ؟
اختلفَ حذاقهم في تفسير الكسب إلى نحوٍ من اثني عشر قولاً، ولا يهمُّنَا ذكرُ هذه الأقوالِ الآنَ، لكنَّه خلاصةُ الأمرِ أنَّهُ لا معنى للكسبِ عندهم، ولهذا قالَ بعضُ أهلِ العلمِ:

ممَّا
يــقــالُ ولا حــقــــيــــقــــةَ تحــته مـــعـــقـــولــةٌتــدنــو لــــذي الأفهامِ
الكسبُ عند الأشعري والحالُ عنـ د الــبــهــشــمــيِّ،
وطـفـرةُ الـــنَّظَّامِ

هذه ثلاث لا حقيقةَ لها.
فالكسبُ إذا أردت أن تفسِّرَه، أو تستفسرَ من الأشعريِّ ما معناه؟ لا يكادُ يجتمعُ منهم جماعة على تفسيرِهِ بتفسيرٍ صحيحٍ، ولهذا ذكرَ بعضُ شُرّاحِ
(الجوهرةِ) - من متونِ الأشاعرةِ المعروفةِ (جوهرةُ التَّوحيدِ) -: أنَّهُ لا بدَّ من الاعترافِ بأنَّنا جبريَّةٌ، ولكنَّنَا جبريَّةٌ في الباطنِ دون الظَّاهرِ، فلسنا كالجبريَّة الذين يقولون: (الإنسانُ مُجْبَرٌ مطلقاً) لا، ولكنه هو مختارٌ ظاهراً، ولكنَّه مجبَرٌ باطناً، طيب، كيف تفسِّرون الأفعالَ الَّتي تحصل من العبدِ؟ قال: (هو كالآلةِ الَّتي يقوم الفعلُ بها، فإمرارُ السِّكِّينِ، لا نقول: إنَّ السِّكِّين هي التي أحدثت القطعَ، ولكن نقول: حدث القطعُ عند الإمرارِ، كذلك العبدُ نقول: هو أُجبِرَ على الصَّلاةِ لمَّا قام، هو عصى وأُجبِرَ على المعصيةِ لما أتى) فيجعلونه كالآلةِ وكالمحل الَّذي يقومُ بها إجبارُ الله -جلَّ وعلا- عليه، وينفذُ فيه حكمُ اللهِ جلّ وعلا.

وهذا غايةٌ في المخالفةِ لما دلَّتْ عليه النُّصوصُ،
فالأشاعرةُ طائفةٌ من الجبريَّةِ، والمعتزلةُ طائفةٌ من القدريَّةِ.
والجبريَّة الغلاة والقدريَّةُ الغلاة قد مرّ بك تفصيلُ الكلامِ على اعتقادِهِم.
وبهذا يتبيَّنُ لك خلاصةُ ما يتعلَّقُ بالقدرِ، وأنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- مقدِّرٌ للأشياءَ قبل وقوعِهَا.

ومعنى ذلك:
أنَّهُ علم ذلك وكتبَهُ في اللوحِ المحفوظِ، وأنَّ قضاءَهُ نافذٌ في عبادِهِ، لا يخرجون عمَّا قدّر ولا عمَّا قضى، وأنَّ ذلك لا يعني إجبارَ العبدِ، بل هو يفعلُ باختيارِهِ ويجُازَى على أفعالِهِ.

  #5  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:52 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ:صالح الفوزان .حفظه الله (مفرغ)


المتن:
من صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد.

الشرح:
قال تعالى: { إن الله يفعل ما يريد } ,قال سبحانه وتعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } ,قال سبحانه في سورة البروج: { فعال لما يريد } ,فإذا أراد شيئاً سبحانه وتعالى فعله وأوجده ,لا يمتنع عليه شيء , أما المخلوق فقد يريد شيئاً لكن لا يستطيع أن يفعله ,أما الله جل وعلا فإنه فعال لما يريد، وهذا عام في كل ما في هذا الكون أنه بإرادة الله، وأنه فعل الله جل وعلا ,{ الله خالق كل شيء }.

المتن:
لا يكون شيء إلا بإرادته , ولا يخرج شيء عن مشيئته , وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره , ولا يصدر إلا عن تدبيره , ولا محيد عن القدر المقدور , ولا يتجاوز ما خُط في اللوح المسطور.

الشرح:
كل مخلوق فإنه لا بد أن يقع ما قدره الله عليه من خير أو شر , من صلاح أو فساد، من كفروإيمان ,من طاعة ومعصية، هذا في الأفعال , وكذلك الأقدار التي تجري عليهم بغير اختيارهم ,مثل: المرض والصحة والغنى والفقر، هذه بغير مشيئتهم وغير إرادتهم ,وإنما هي من الله سبحانه وتعالى ,أما أفعالهم فإنها بمشيئتهم وإرادتهم ,هم يفعلونها وهم يتركونها ,وهم يحبونها ,وهم يبغضونها ,وهم يريدونها ,فهي بإرادتهم ومشيئتهم وأفعالهم واختيارهم ,ولا يمنع أن يكون هذا خلق الله جل وعلا ,فالله خلقهم وخلق قدرتهم ,وخلق مشيئتهم , وخلق إرادتهم سبحانه وتعالى.

المتن:
أراد ما العالم فاعلوه.

الشرح:
الله جل وعلا أراد ما العالم فاعلون ,لا يخرج شيء عن إرادته سبحانه ,هذا في الإرادة الكونية، الإرادة الكونية عامة لكل شيء ,الخير والشر والكفر والإيمان، والطاعة والمعصية، أما الإرادة الشرعية فإنها إنما تختص بالطاعات فقط، تختص بالطاعات ,الإرادة الشرعية تختص بالطاعات، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ,{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً }.

فإلارادة نوعان:
- إرادة كونية: وهذه يدخل فيها كل شيء؛الخير والشر ,والطاعة والمعصية، والكفر والإيمان، كل ذلك أراده الله كوناً.
- وأما النوع الثاني: وهو الإرادة الدينية الشرعية، فهذه إنما تكون للطاعات والأعمال الصالحة , وتكون للخير، خير العباد ومصالح العباد ,وقد تقع وقد لا تقع ,الإرادة الدينية قد تقع وقد لا تقع، فالله أراد من الكافر أن يسلم لكنه لم يسلم ,فالله أراد الإيمان من جميع الناس ,لكن المؤمن أطاع والكافر عصى، فالإرادة الكونية لا بد من وقوعها، وأما الإرادة الدينية فقد تقع وقد لا تقع , حسب مشيئة الله سبحانه وتعالى وحكمته.

المتن:
(أراد ما العالم فاعلوه ,ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه).

الشرح:
{ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة }، { ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } ,{ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } فلو شاء الله أن يؤمن جميع العالم لآمن جميع العالم , ولكنه لحكمته سبحانه وتعالى جعل هذا راجعاً إلى اختيار الناس، فالمؤمن يؤمن بإرادته ومشيئته ,والكافر يكفر بمشيئته وإرادته واختياره ,ومن أجل أن يحصل في هذا الجهاد في سبيل الله , وتظهر أسماء الله وصفاته من الإنعام والانتقام والرحمة والغضب، ولو كان الناس كلهم صالحين ما صار أحد من أهل النار، ولو صار الناس كلهم كفارا ما صار أحد من أهل الجنة، فمن حكمته جل وعلا أنه قدر الإيمان والكفر ,وأمر الناس ونهاهم اختباراً وابتلاء ,فمن أطاع صار من أهل الجنة ,ومن عصى صار من أهل النار بأفعاله واختياره هو لنفسه.

المتن:
(خلق الخلق وأفعالهم).

الشرح:
{ والله خلقكم وما تعملون } ,{ الله خالق كل شيء }.

المتن:
(قدر أرزاقهم وآجالهم).

الشرح:
قدر أرزاقهم وآجالهم ومرضهم وشفاءهم وموتهم وحياتهم، وهذا ليس لهم فيه تصرف، إنما هذا يجري عليهم من غير إرادتهم ,ولو كانوا يكرهون هذا الشيء ولا يريدونه , يجري عليهم المرض والموت ,ويجري عليهم من المكاره والمسرات , هذه تجري عليهم بقضاء الله وقدره.

المتن:
(يهدي من يشاء بحكمته).

الشرح:
يهدي من يشاء ويضل من يشاء لحكمة، فهو لا يهدي إلا من يستحق الهداية، ويعلم { وهو أعلم بالمهتدين }، ويضل من يشاء بحكمته سبحانه وتعالى وعدله ,وهو أعلم بمن لا يصلح للهداية، { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية عمه أبي طالب ,ولما مات قال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فنهاه الله عن الاستغفار: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } وأنزل في أبي طالب: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين }.
فهو يعلم سبحانه من يستحق الهداية ,ويصلح لها ,فيوفقه لها ,ويعلم من لا يستحق الهداية فيحرمه منها؛ عقوبة له , وهو أعلم سبحانه وتعالى , فالهداية بيد الله سبحانه وتعالى: { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } ,الرسول ما عليه إلا البلاغ ,أما الهداية فهي بيد الله سبحانه وتعالى ,الرسول يهدي بمعنى أنه يبلغ ويرشد، { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } يعني: تدل وترشد ,وأما الهداية التي هي هداية القلوب فهذه بيد الله جل وعلا ,ليست بيد الرسول صلى الله عليه وسلم ,ولو حرص الرسول ما حصلت الهداية إلا لمن شاء الله سبحانه وتعالى.

المتن:
قال الله تعالى: { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }.

الشرح:
هذا في حق الله جل وعلا { لا يسأل عما يفعل } سبحانه؛ لأنه يفعل ما يشاء لحكمة ,لا يفعل شيئاً إلا لحكمة سبحانه وتعالى ,ويضع الأمور في مواضعها ,فيضع الهداية فيمن يصلح لها ,ويضع الغواية فيمن يصلح لها، ويوفق للجنة من يصلح لها ,ويوفق للنار من يصلح لها، فهو أعلم بخلقه سبحانه وتعالى ,وهذا مما يوجب على المسلم أن يلجأ إلى الله , وأن يدعو الله بالهداية والتوفيق ,وألا يعجب بنفسه وبعمله، بل يفوض الأمر إلى الله جل وعلا , ويخشى من الله جل وعلا ,يخشى أن يضله الله وأن يزيغ قلبه.

ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء يقول: (اللهم مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك)، فتقول له عائشة في ذلك , فيقول: (وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ,إذا شاء أن يقلب قلب عبد قلبه) قال تعالى: { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } فليست الهداية بأيديكم ولا الإيمان بأيديكم { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } فالهداية بيد الله سبحانه وتعالى.

المتن:
(وقال الله تعالى: { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ).

الشرح:
هذا إثبات القدر ,أن كل المخلوقات وجدت بقضاء الله وقدره، { إنا كل شيء } لا يخرج عن هذا شيء، { خلقناه } هذا لا يخرج شيء عن خلق الله جل وعلا , { بقدر } أن كل شيء مقدر، فهذه الآية عامة شاملة حاسمة في هذا الموضوع.

المتن:
(وقال تعالى: { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } ).

الشرح:
{ خلق كل شيء } هذا فيه أن كل شيء فهو خلق الله سبحانه وتعالى ,وأن الله قدره تقديراً , فليس شيئاً مستأنفاً , إنما هو سابق في قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى.


الشريط السابع

المتن:
و قال الله تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها }.

الشرح:
قال المؤلف رحمه الله في سياق وجوب الإيمان بالقضاء والقدر: وقوله تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } هذا إخبار من الله - سبحانه وتعالى – أنه ما ينزل من مصيبة بالعباد في أنفسهم من الأمراض والموت وسائر الآفات البدنية التي تصيب الناس، { في الأرض } ما يصيب الأرض من القحط , وانحباس الأمطار، والجوائح في الثمار، والأمراض التي تكون في الأشجار تنقص المحاصيل , وتتعرض للحبوب والثمار بالإصابة، كذلك ما يصيب البحار من الحوادث التي تذهب فيها الأموال الطائلة , أن كل هذه المصائب الأرضية والمصائب البدنية كلها بقضاء الله وقدره , لا يحدث منها شيء إلا وقد قضاه الله وقدره على عباده لحكمة منه سبحانه وتعالى.
ثم أخبر سبحانه وتعالى أن هذه المصائب مكتوبة في كتاب وهو اللوح المحفوظ , فهذا فيه دليل على درجة الكتابة كتابة المقادير في اللوح المحفوظ: { من قبل أن نبرأها } أي: أنها مكتوبة قبل أن تنزل وقبل أن تحدث , مكتوبة في اللوح المحفوظ , ليست اعتباطاً , وإنما هي شيء ثابت مقدر , علمه الله وكتبه في اللوح المحفوظ: { من قبل أن نبرأها } أي: أن نخلقها ونحدثها ,

فدلت هذه الآية على إثبات مرتبتين من مراتب القضاء والقدر:

المرتبة الأولى: مرتبة الكتابة في اللوح المحفوظ،
والمرتبة الثانية: مرتبة الخلق والإيجاد: { أن نبرأها } أي: نخلقها , على أن كل شيء يحدث فإنه خلق الله - سبحانه وتعالى – { الله خالق كل شيء } من الخير والشر والمحبوبات والمكاره، لا يحدث شيء إلا والله خالقه ومدبره وموجده - سبحانه وتعالى –.

المتن:
وقال تعالى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً }.

الشرح:
وهذه الآية فيها إثبات الإرادة الكونية , فمن أراد الله هدايته وقبوله للحق؛ فإنه يجعل فيه أهلية لذلك , بأن يشرح صدره للإسلام , يعني: يشرح صدره فيتقبل الحق ويطمئن إليه ويرتاح له , فالله جعل فيه قابلية لذلك , وجعل فيه أهلية لذلك لعلمه - سبحانه – أنه يصلح لذلك , وأنه يقبل الهداية، فيجعل الله في نفسه القابلية والإقبال والرغبة في الخير، { يشرح صدره للإسلام }.
ومن يرد قضاءً وقدراً أن يضله بعدله – سبحانه - لعلمه أنه لا يصلح للهداية؛ فإنه لا يجعل فيه قابلية للهداية , يجعل صدره ضيقاً , بدل أن يشرح صدره ويوسعه يجعله ضيقاً لا يقبل شيئاً , { يجعل صدره ضيقاً حرَجاً } , وفي قراءة: { حرِجا } { صدره ضيقاً حرِجاً } يعني: أنه لا يقبل الحق ولا يطمئن إلى الحق , بل يضيق صدره , إذا سمع الحق ضاق صدره وانقبض وأعرض كما قال تعالى: { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون }.
فهذا الصنف من الناس يفرح بالباطل , وينقبض عن الحق؛ لأن الله لم يجعل فيه قابلية لذلك لعلمه جل وعلا أنه لا يصلح للهداية.
والله - جل وعلا - حكيم يضع الأمور في مواضعها , فيضع الهداية فيمن يستحقها ويقبلها ويرتاح لها، ويجعل الضلال فيمن لا يقبل الحق ولا يرتاح له , وهذا ظاهر في الناس , فمن الناس من ينقبض إذا سمع الحق , أو سمع القرآن أو سمع الذكر أو سمع المواعظ ينقبض ويضيق صدره , ومن الناس من يرغب في الخير ويرغب في سماع الحق , فدل على أن للهداية والضلال أسباباً من قبل العبد، فالذي يقبل على الحق ويرغب فيه يوفقه الله - جل وعلا – للحق , والذي يبغض الحق وأهل الحق يحرمه الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله حكيم لا يضع الهداية فيمن ليس أهلاً لها , ولا يضع الإضلال فيمن ليس أهلاً له، بل هو يضع الأمور في مواضعها - سبحانه وتعالى – وذلك حسب إرادته الكونية: { يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء }.
يستحيل عليه الإيمان كما يستحيل عليه الصعود إلى السماء؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يصعد إلى السماء , لا يستطيع أن يطير إلى السماء بنفسه , وإنما يطير بواسطة الآلات , أما هو بنفسه فمستحيل أن يطير إلى السماء؛ لأن الله لم يخلقه طائراً , وإنما خلقه دابة تدب على وجه الأرض , ولم يخلقه طائراً يطير بجناحيه , فيستحيل عليه الإيمان وقبول الحق , كما يستحيل عليه الطيران إلى الجو: { كذلك يجعل الله الرجس } بيان الحكمة { على الذين لا يؤمنون } هذا سبب عدم إيمانهم , أن الله عاقبهم وحرمهم من قبول الحق؛ لأنهم ليس فيهم أهلية ولا يرغبون ولا يرتاحون له , وينفرون منه.

المتن:
وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله , وملائكته , وكتبه , ورسله , واليوم الآخر , والقدر خير وشره). فقال جبريل: صدقت. رواه مسلم.

الشرح:
لما ذكر الأدلة من القرآن على القضاء والقدر ذكر الأدلة من السنة , فذكر حديث جبريل.. حديث ابن عمر أو حديث عمر - رضي الله عنه - لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل شديد بياض الثياب , شديد سواد الشعر , لا يرى عليه أثر السفر , ولا يعرفه أحد من الحاضرين , هذا الرجل فيه غرابة عظيمة , لا هو من أهل البلد فيعرفونه , ولا هو من أهل السفر , ليست عليه علامات السفر؛ فلذلك استغربه الصحابة.
جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم , وكان جبريل في الغالب يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بصورة رجل؛ لأن الملائكة لا تأتي إلى بني آدم في الصورة الملكية؛ لأنهم لا يطيقون رؤيتهم , وإنما تأتي بصورة رجال أعطاهم الله القدرة على التصور بصورة الرجال، فجاءه على صورة رجل , جلس بين يديه , سأله عن الإسلام , فقال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة , وتصوم رمضان , وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ), قال: صدقت وهذه عجيبة ثانية، كيف يسأل ويقول: صدقت؟ العادة أن السائل جاهل , وهذا يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: صدقت. فدل على أنه عالم بذلك , قال أخبرني عن الإيمان، قال: (الإيمان أن تؤمن بالله , وملائكته , وكتبه , ورسله , واليوم الآخر , وتؤمن بالقدر خيره وشره). قال: صدقت.
سأله أولاً عن الإسلام وهو الأعمال الظاهرة، ثم سأله عن الإيمان وهو الأعمال الباطنة , ولابد من الأمرين من الإسلام والإيمان , الدين أعمال ظاهرة وأعمال باطنة , لابد منهما , لا يكفي إسلام بدون إيمان , ولا يكفي إيمان بدون إسلام , بل لابد منهما معاً.
موضع الاستدلال قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره). فجعل الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة، فدل على أن من لم يؤمن بالقدر لم يصح إيمانه، لأنه نقص ركناً من أركان الإيمان , هذا هو الشاهد من الحديث.

المتن:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره).

الشرح:
هذا ذكره المصنف ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره , حلوه ومره).
المعنى الصحيح: أن الإيمان بالقدر أمر لابد منه , (خيره وشره)، الخير: كل الأمور المحبوبة والمرغوبة والمفيدة، والشر: كل الأمور الضارة والأمور المكروهة كله شر، الطاعات خير , والمعاصي شر , وكلها بقضاء الله وقدره (حلوه ومره) القدر فيه حلو وهو ما يلائم النفوس من الملذات والمسرات , وفيه مر وهو ما لا يلائم النفوس من المصائب والآلام والهموم والأحزان , هذا مر , لكنه قضاء وقدر , لا بد منه، لا بد من الإيمان به , أما الذي لا يؤمن إلا بحلو القضاء فهذا يتبع هواه ويتبع شهوته، لكن الميزة للذي يؤمن بحلوه ومره جميعا، هذا هو المؤمن الصحيح , أما الذي لا يؤمن إلا بما يلائم نفسه فهذا ليس بمؤمن بالقضاء والقدر , وإنما يؤمن بما يتلذذ به فقط.
لكن الميزة لمن يؤمن بمر القضاء والقدر فيصبر على المصائب , ويعلم أنها بقضاء الله وقدره: { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون }. هؤلاء هم الصابرون: { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } يعلمون أن المصيبة من عند الله , وأنها لابد منها، وأنها ما وقعت إلا وهي مقدرة , لابد من وقوعها , فيصبرون ولا يجزعون ولا يتسخطون , ويحاسبون أنفسهم، تكون هذه المصيبة عقوبة على ذنب أو على خطيئة أو على مخالفة، فيحاسبون أنفسهم ويتوبون إلى الله كما قال تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }.
فبدل أن يجزع ويتسخط يصبر ويتوب إلى الله جل وعلا , ويعلم أن ما أصابه شيء إلا بسبب ذنوبه , ويتوب إلى الله عز وجل , فيكون ذلك خيراً له، تكون هذه المصيبة في النهاية خيراً له، وعاقبة حسنة له، فتكون في مصلحته , أما الذي يجزع ويتسخط؛ فإنه لا يسلم من المصيبة , ولا يؤجر عليها , بل يأثم بتسخطه وجزعه , فلا هو الذي سلم من المصيبة , ولا هو الذي حصل على الأجر , نسأل الله العافية.

المتن:
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت).

الشرح:
النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنهما - ابن بنته فاطمة رضي الله عنها , قال له دعاء يدعو به في قنوته , يعني: القنوت الذي في الوتر بعد الركوع، يقول: (اللهم اهدني فيمن هديت , وعافني فيمن عافيت , وتولني فيمن توليت , وقني شر ما قضيت , إنك تقضي ولا يقضى عليك). الشاهد فيه قوله: (وقني شر ما قضيت).
حيث أضاف الشر إلى القضاء والقدر , الشر وهو المكروه الذي يصيب الإنسان أو يقع من الإنسان من المكاره , أنه مقضي ومقدر، أمر النبي صلى الله عليه وسلم سبطه الحسن بن علي أن يدعو , أن يقيه شر ما قضى , أن يجعل قضاءه خيراً له , ولا يكون من الذين يصيبهم القضاء والقدر فيجزعون ويتسخطون , فيحصلون على الإثم، فهو دعا بأن يقيه شر القضاء والقدر , بأن يعينه على الصبر والتحمل والرضى بقضاء الله وقدره , فيكون ذلك خيراً له نهايةً ومآلاً؛ لأن الله لا يقضي ويقدر على المؤمن إلا ما هو خير له: (إن أصابته سراء شكر عليها فكان ذلك خيراً له , وإن أصابته ضراء صبر عليها فكان ذلك خيراً له وليس ذلك إلا للمؤمن).

الشاهد من الحديث: (شر ما قضيت) دل على أن الشر داخل في القضاء والقدر , ودل على أنه يستحب ويشرع للإنسان أن يدعو الله بأن يقيه شر القضاء والقدر , وألا يجعله سبباً لإضلاله، وجزعه، وتسخطه وتكرهه لقضاء الله وقدره , فيجعله سبباً لشقاوته , لايجعله سبباً لسعادته.


  #6  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:53 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post تيسير لمعة الاعتقاد للشيخ :عبد الرحمن بن صالح المحمود .حفظه الله ( مفرغ )

فصل

ومن صفات الله تعالى أنه الفعَّالُ لما يريدُ , لا يكونُ شيءٌ إلا بإرادته, ولا يخرجُ شيءٌ عن مشيئتِهِ .

بعد هذا انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إلى فصل آخر فقال : (( فصل . ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد ))
وهذا ربط من الشيخ رحمه الله تعالى لمسألة القدر بمسألة صفات الله سبحانه وتعالى, ونحن نعلم أن من توحيد الله تعالى في ربوبيته واسماءه وصفاته الإيمان بالقدر, والمقتضي للإيمان بعلم الله , وكمال مشيئته وإرادته , والإيمان بأن الله هو الخلاق العليم , وأنه خالق كل شيء بالإيمان بالقضاء والقدر, ومراتبه مرتبط أعظم ارتباط بالإيمان بالأسماء والصفات ,

ولهذا قال رحمه الله تعالى : (( فصل ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد , لا يكون شيء إلا بإرادته, ولا يخرج شيء عن مشيئته )) .

فمن صفات كماله تبارك وتعالى أنه الفعال لما يريد, ومن صفات كماله تبارك وتعالى انه عليم احاط عمله بكل شيء , فعلم وما كان وما لم يكن لو كان كيف يكون,علم سبحانه وتعالى كل شيء مما سبق ومما سيأتي , وهذه أولى مراتب القدر الأربع .
المرتبة الثانية : مرتبة الكتابة : أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى قيام الساعة, ولهذا ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لما خلق الله القلم قال له : اكتب , قال : ربي وما أكتب قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة )) (1) وفي الحديث الآخر الصحيح أيضاً : (( قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخسين ألف سنة, وكان عرشه على الماء)) (2) رواه مسلم .

فهذه دالة على أن الله كتب ما هو كائن, وفي القرآن العظيم أيضاً أدلة على أن الله سبحانه وتعالى كتب ذلك ؛ قال تعالى :(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) والأدلة على إثبات الكتابة كثيرة جداً .
المرتبة الثالثة : من مراتب القدر : مرتبة المشيئة والإرادة, أي أن مشيئة الله الكونية القدرية شاملة ومحيطة بكل شيء, فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, فهو الذي شاء وأراد كل ما هو موجود, فكل ما يقع من خير وشر فالله سبحانه وتعالى اراده وشاءه كوناً , وهذه أيضاً أدلتها كثيرة جداً , قال الله تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29) وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39).

فقول الشيخ رحمه الله تعالى : (( ومن صفاته انه الفعال لما يريد)) أي أنه سبحانه وتعالى كما وصف نفسه في القرآن )فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ( (البروج:16) فهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويختار, وليس لأحد من الخلق اختيار ولا مشيئة إلا ما كان منها داخلاً تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى , وهذه المشيئة الكونية هي المشيئة العامة النافذة .

وهنا احب أن انبه إلى أن قول الشيخ (( أنه الفعال لما يريد , لا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته )) هو لبيان أن الإرادة والمشيئة هنا بمعنى واحد, وقصد بالإرادة الإرادة الكونية ؛ وهناك فروق بينهما؛ حيث إن المشيئة لم ترد في كتاب الله تعالى إلا كونية, أما الإرادة , فقد وردت في كتاب الله تعالى وفي السنة على قسمين :
القسم الأول : الإرادة القدرية الكونية التي هي مرادفة للمشيئة, وهذه الإرادة الكونية الشاملة, وهي المقصودة هنا في كلام الشيخ .
القسم الثاني : الإرادة الدينية الشرعية , وهذه الإرادة الشرعية مختصة بما بحبه الله ويرضاه من أمور الشرع , ولهذا فإن الله تعالى يريد من الصلاة والتوحيد والعمل الصالح , ولا يريد منا ترك الصلاة ولا الشرك ولا العمل الطالح المخالف لأمره سبحانه وتعالى .

وهذه الإرادة الدينية هي التي نقول فيها : هذا يريده الله أي يريده شرعاً, وهذا لا يريده الله أي لا يريده شرعاً, لأنه من المعاصي , ودليل ذلك من كتاب الله تعالى قوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185) فهذه الإرادة في هذه الآية المقصود بها : الإرادة الشرعية ولا مدخل لها هنا في باب القضاء والقدر , وإنما لها علاقة من طريق سنعرض له فيما بعد إن شاء الله تعالى.

أما النوع الثاني من الإرادة وهي التي قصدها الشيخ هنا , فهي الإرادة المرادفة للمشيئة , وهي الإرادة الشاملة لكل شيء, فكل شيء يقع في هذا الوجود , من الكفار والمنافقين والمؤمنين, والمعاصي والطاعات وغير ذلك, كله هو بإرادة الله الكونية وبمشئته العامة, وسيوضح ذلك الشيخ إن شاء الله تعالى بعد قليل .

فهو سبحانه الفعال لما يريد , كما انه تعالى :(لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون) (الانبياء:23) فهو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما, وهو الذي خلقنا واوجدنا وكلفنا وأنزل علينا كتباً وأرسل إلينا رسلاً, وليس لنا إرادة في ذلك وإنما الإرادة الكاملة لله سبحانه وتعالى, فهو سبحانه وتعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهذا يدل على تفرده بالربوبية .
فتفردُه تعالى بالخلق والإرادة والتدبير, هو مقتض لربوبيته سبحانه وتعالى , وأنه وحده الرب الخالق المنعم المتفضل, ولهذا قال الشيخ هنا : (( لا يكون شيء إلا بإرادته )) أي إرادته الكونية, (( ولا يخرج شيء من مشيئته )) كما قال تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير:28) .
فالإنسان لـه مشيئة لكنه لا يستطيع أن يخرج عن مشيئة الله القدرية النافذة , ولهذا قال : (( ولا خرج شيء عن مشيئته )) .
وقوله هنا رحمه الله تعالى : ((شيء)) لبيان العموم , حتى يدخل في ذلك المكلَّفون من البشر, وغير المكلفين من الحيوانات, أو من الجمادات أو غير ذلك, حيث لا يخرج شيء عن مشيئته, ولما خلق الله سبحانه وتعالى السموات والأرض قال لهما : (ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت: من الآية11) فالكل لا يخرج عن ربوبيته وتقديره ؛ ولهذا نجد الكفار وغير الكفار على حدٍّ سواء في خضوعهم لهذه المشيئة القدرية, فهم جميعاً يوجدون , ويخلقون ويعيشون, وهم في أشكالهم ألوان أبدانهم , وطولهم وقصرهم وحياتهم وموتهم وارزاقهم ومعايشهم وامراضهم وشفائهم وغيرها من أحوال حياتهم لا يملكون منها شيئاً , والذي يتصرف فيهم كما يشاء, ولا يخرج أحد منهم عن مشيئته وإرادته هو الله سبحانه وتعالى الخلاق العليم .

ثم قال الشيخ رحمه الله : (( وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره))
فتقديره سبحانه وتعالى الكوني لا يخرج عنه احد, فكل ما جرى , وكل ما هو جارٍ الآن , وكل ما سيجري فهو بتقدير الله سبحانه وتعالى , ومن ثم فإن الإيمان بالقضاء والقدر أساس إيمان العبد بربه تبارك وتعالى .
قال الشيخ : (( ولا يصدر إِلا عن تدبيره )) فهو المدبر لك شيء يجري؛ أما ما يزعمه بعضهم من أن الملائكة, أو بعض الخلق, ومن ولي أو رسول أو نجم أو غير ذلك, لـه تدبير فكل ذلك باطل , بل التدبير لله سبحانه وتعالى وحده .
وما دخل الشرك في عبادة النجوم والكواكب وعبادة الأولياء والقبور وغيرها إلا حينما ظن البعض وتوهم أن بعض هؤلاء يملك من تدبير الأمور شيئاً, حيث تجد بعض الناس في حال فقره أو مرضه أوة إصابته بضرر في نفسه أو بدنه أو أهل ه أو هجوم عدو عليه أو على بلده يظن أن هناك من المخلوقات من يملك شيئاً, فيتعلق بساحر, أو بكاهن, أو بولي, أو بصاحب قبر, وبعضهم يتعلق بالنجوم ومنازلها ؛ فمن كان مولده في نجم الثور أو نجمه نجم العقرب يتعلق بذلك وينظر ماذا يقول المنجم عن أحواله, وسروره وأحزانه في أثناء فصول السنة .
والتعلق بالنجوم وعبادتها هو مذهب الفلاسفة الدهرية , الذين يقولون: إن الله ليس متصفاً بصفات , ولا يعلم ما الخلق عاملون , وليست لـه إرادة ولا تدبير , والله سبحانه وتعالى كما يزعمون بعيد عن الخلق, لا يعلم ماذا يصنعون, ومن ثم فلا جزاء ولا حساب ثم زعم هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أن التدبير للعقول والأفلاك والنجوم, فتعلقت نفوسهم بها وزينوا عبادتها من دون الله تعالى, وقلدهم بعض المسلمين وتعلقت نفوسهم بهذه النجوم والأفلاك , وهذا من الشرك بالله وهو شرك في باب العبودية والربوبية .
أما من أخلص لله بالتوحيد من المؤمنين , فإنهم يوقنون أن الله هو المدبر كماقال تعالى عن نفسه : (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29) فهو سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن فيغفر ذنباً ويقبل توبة ويشفي مريضاً, ويعين ضعيفاً, وينصر مظلوماً, ويزيل ملكاً, ويقيم آخر, يفعل ما يشاء ويختار, ويدبر في خلقه كما يشاء وهو العليم الخبير, وهو بكل شيء محيط . فهذا هو الإيمان بالقضاء والقدر المقتضي لكمال الإيمان بالربوبية المقتضي لكمال تحقيق الألوهية والبعد عن الشرك بجميع أنواعه .
أما التعلق بغير الله تعالى فمنشؤه اعتقاد أن هذه المخلوقات من نجم او ولي او غيرها , إما أن له علماً بالغيب , أو أن له تدبيراً , وكل ذلك كفر بالله سبحانه وتعالى.
ومن هنا كان اعتصام المؤمن بعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر يعصمه من أمور كثيرة, على رأسها أمران :
أحدهما : عصمته في باب توحيد الربوبية الذي هو أساس وعمدة توحيد الألوهية.
والثاني : عصمته في مسيرته في الحياة , بألا يقع عنده تعارض بين القضاء والقدر والأمر والشرع , كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى .

ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : (( ولا محيد لأحد عن القدر المقدور ))
فإن الجميع لا محيد لهم عما حُدّ وخُطَّ لهم في القدر المقدور , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وهو يوصيه : (( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك , ولو اجتمعوا على أن يضروك بشي لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف)) وقال عبادة بن الصامت الصحابي الجليل رضي الله عنه لابنه في مرض الموت : (( واعلم يابني انك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما اصابك لم يكن ليخطئك , وان ما اخطأك لم يكن ليصيبك )) .
فلا يكون المؤمن شاكراً صابراً إلا إذا رضي بالقضاء والقدر, فإن أصابته سراء شكر, لأنه علم أن هذا من الله أن الشكر يثبت النعم ويديمها ويرفع الدرجات, وان أصابته الضراء علم انه قضاء وقدر فيصبر فيؤجر على ذلك, وليس ذلك إلا للمؤمن كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم (3) فالفلاسفة ضلوا في باب القضاء والقدر كله, ومنه ضلالهم في الإرادة والمشيئة حيث زعموا أن العالم وجد دون إرادة الله تبارك وتعالى , حيث زعموا أن الله علة موجبة لا إرادة له ولا اختيار .
والذي عليه أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- أن الله سبحانه خلق هذا العالم واوجده بإرادته ومشيئته, وانه تبارك وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء , وكل ما سواه فهو مخلوق كائن بعد أن لم يكن .
وهذه هي القضية الأولى في باب العقيدة هي مرتبطة بصفتين أساسيتين لله سبحانه وتعالى يثبتهما أهل السنة على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى وكماله وعظمته
الأولى: أن الله عالم متصف بصفة العلم (قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: من الآية12) فهو علم أزلاً ما الخلق عاملون, وهو سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما سيكون , كما أنه تعالى يعلم ما لم يكن لوكان كيف يكون, كما قال تعالى عن الكفار في يوم القيامة انهم يطلبون الرجعة ويقولو: لو ارجعتنا إلى الدنيا لآمنا ولا هتدينا , قال تعالى عنهم :( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) (الأنعام: من الآية28) وليس هذا من باب التقدير وإنما هو من باب العلم اليقيني لله سبحانه وتعالى ؛ فلو أنه تعالى رد هؤلاء إلى الدنيا مرة أخرى لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والشرك مع رؤيتهم وييقينهم باليوم الآخر, لأنهم شاهدوه مشاهدة عيان , فهذا من باب العلم الإلهي الكامل ؛ أنه يعلم ما كان وما لم يكن , ويعلم سبحانه وتعالى ما لم يكن لو كان كيف يكون .
والثانية : صفة المشيئة والإرادة , فهو سبحانه وتعالى ما شاء كان وما لم
يشأ لم يكن .
ومن ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى - كما سبق - : (( ومن صفاته أنه الفعال لما يريد )) والفعال لما يريد هو الذي ليس لقدرته حد فهو على كل شيء قدير كما أن مشيئته وحده هي النافذة , فهو يفعل ما يشاء ويختار .

ومن ذلك أنه سبحانه وتعالى خلق هذا العالم وأوجد الناس على هذه الصفة وهذه الحالة التي أرادها تعالى, وابتلاهم واختبرهم , فهو سبحانه وتعالى الذي خلق آدم كما قال : (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (البقرة: من الآية30) وهو سبحانه وتعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: من الآية2).
فوجود هذا العالم على هذه الصفة , ووجودنا نحن البشر على هذه الصفة بإرادته سبحانه وتعالى, ولو أنه تبارك وتعالى أراد غير ذلك لكان, فلو أراد سبحانه وتعالى أن يجعل الناس كلهم مهتدين مستقيمين مؤمنين لا يعصون الله أبداً لوقع ذلك , كما قال تبارك وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَأهلينَ) (الأنعام: من الآية35) ، وقال تعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ) (هود: من الآية118) .

فوجود الخلق على هذه الصفة وهذا الابتلاء والامتحان من حيث اختلاف أعمارهم , واختلاف أرزاقهم , واختلاف الوانهم , واختلاف أديانهم , كل ذلك بإرادة الله سبحانه وتعالى وهذه هي قضية القدر الأولى؛ أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراد أن يوجد الناس على هذه الحالة ولو شاء لما وجدوا, ولو شاء لأوجدهم على حال غير هذه الحال ولو شاء لجعلهم كلهم مؤمنين مهتدين.

إذن وجود الخير وا لشر , والطاعات والمعاصي , والمؤمنين والكفار هو بإرادة الله سبحانه وتعالى , وهو سبحانه وتعالى خلق ذلك وقدره لحكم عظيمة .

ولهذا يقول الشيخ هنا : (( لا يكون شي إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته )) .
فكل ما يقع ويجري فهو بإرادة الله سبحانه وتعالى الكونية ومشيئته , كما قال سبحانه وتعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (هود: من الآية 118) .
وقال تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29) ، وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39) ، وقال : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: من الآية125), وهذه هي الإرادة الكونية.

وكذلك أيضاً ما وراء ذلك من وجود المخلوقات وإحيائها وموتها وأرزاقها , وكذلك وجود هذه الدنيا وهذه الأكوان, والبعث بعد والموت , كل ذلك بإرادة الله , ليس لمخلوق فيها إرادة أبداً , وهذه القضية الكونية يسلم بها الجميع, وقلما يوجد إنسان ينكرها , حتى من الكفار .
ولقد كان مشركو الجاهلية يؤمنون بالقدر, ويصدقون بأن هناك أقداراً , وكذلك أيضاً يعلم كثير من الكفار اليوم أن هذه الأمور مقدرة قدرها الله سبحانه وتعالى, وأكبر دليل على ذلك أنهم قطعوا الأمل في أشياء , علموا أن الله سبحانه وتعالى قدرها وكتبها على الجميع, فمن ذلك الموت الذي كتبه الله على الجميع , حيث إن الخلق مهما بلغ طبُّهم وتقدمهم العلمي فقد يئسوا من محاولة أن يبقى الإنسان مخلداً فلا يموت, أو يبقى زمناً طويلا يختلف عن الزمن العادي يالنسبة لأعمار الناس , فهذا دليل على اليقين بأن هذا الأمر كتبه الله سبحانه وتعالى على الجميع فلا فكاك منه, ومن ثم صاروا يفكرون في أمور أخرى تتعلق بالصحة أو الرفاهية مما هو من جملة الأسباب الموجودة .

ولذا قال الشيخ رحمه الله : (( وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره)) فلا يخرج في هذا العالم شيء إلا وقد قدره الله سبحانه وتعالى ؛ وجود السموات , والكواكب , ووجود هذه الأرض ببحارها, وجبالها وحيواناتها وأشجارها ووحوشها ورياحاها, بساكنيها من البشر وغيرهم إلى آخره , كل ذلك بتقدير الله سبحانه وتعالى , ولا يخرج شيء عن تقديره تبارك وتعالى التقدير الكوني السابق الذي لايخرج عنه أحد , فلا يصدر شيء في هذا الكون إلا عن تدبيره سبحانه وتعالى .
والإنسان وإن كان يفعل ويتحرك ويريد, وله إرادة ومشيئة وقدرة إلا أنه لا يخرج في مجموع ذلك عن تدبير الله سبحانه وتعالى وإرادته وقدرته,
ولهذا قال : (( ولا محيد عن القدر المقدور )) أي : أن كل إنسان لا يستطيع أن يحيد عما قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه عليه, وهذا يعلمه كل إنسان من حياته, فكم من أمور أراد الإنسان أن يمنعها فما استطاع لأن الله سبحانه وتعالى كتبها عليه وقدرها وكم من أمور أراد إيجادها فلم يستطع ؛لأن الله لم يردها , وهذا الأمر يتساوى فيه الجميع ؛ المؤمنون والكفار .
ثم قال الشيخ مبيناً المرتبة الثالثة من مراتب القدر وهي الكتابة : (( ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور ))
فقد ثبت أن الله سبحانه وتعالى لما خلق القلم أمره أن يكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة , فكل ما يقع من أفعال العباد مكتوب عند الله سبحانه وتعالى, بل كل ما يجري من حركات الجمادات وغيرها فإنه مكتوب في اللوح المحفوظ, حتى الشجرة إذا سقطت منها ورقة بسبب الريح أو بسبب يبسها أو غير ذلك فسقوطها في كتاب مبين , كما قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59) أي أية حبة, وأي رطب, أو يابس من أي شيء كان , وأي ورقة تسقط فهو في كتاب مبين, فكيف بأفعال العباد , وأقوالهم, وحركاتهم , ومجيئهم , وذهابهم إلى غير ذلك؟ ذلك كله مكتوب مسطر , وهذه هي المرتبة الثالثة التي هي مرتبة الكتابة.

ثم قال رحمه الله تعالى : (( أراد ما العباد فاعلوه, ولو عصمهم لما خالفوه , ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه ))
هذه قضية مسلمة , حيث إن كل ما يعمله العباد فالله أراده كوناً , والإرادة هنا في قوله : (( أراد ما العباد فاعلوه)) هي الإرادة الكونية, فكل ما يعمله العباد ووقع منهم فإن الله سبحانه وتعالى أراده وقدره كوناً وشاءه , فأفعال العباد الواقعة منهم هي مرادة لله سبحانه وتعالى إرادة كوينة .

ولو عصمهم الله أي لو أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعصمهم عن العصيان والمخالفة لما خالفوه , والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة وجعلهم : (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: من الآية6) .
فصاروا كما اراد الله لهم, (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) فهم يطيعونه ليلاً ونهاراً ولا يعصونه أبداً؛ لأن الله أراد منهم ذلك , فلو أراد الله سبحانه وتعالى من البشر كوناً أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه , ولم يبق منهم عاص, كما قال سبحانه وتعالى في الآية التي ذكرناها قبل قليل : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهلينَ) (الأنعام: من الآية35), لكنه سبحانه خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً .

ثم قال الشيخ مبيناً المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهي مرتبة الخلق : (( خلق الخلق وأفعالهم)) .
أي أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء , كما قال تعالى في أكثر من آية : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الرعد: من الآية16) فالله سبحانه وتعالى خالق جميع هذه المخلوقات لا شريك لـه سبحانه وتعالى في خلقه, ويدخل في ذلك العباد , وأفعالهم .
والشيخ يقرر بذلك مذهب أهل السنة والجماعة , ويرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الله خالق , لكن يستثنون من خلقه أفعال العباد فيقولون : العباد هم الذين يخلقون أفعالهم , والله لا يخلق أفعال العباد, وهذا أحد جوانب ضلال المعتزلة في باب القدر حين أنكروا مرتبة الخلق بالنسبة لأفعال العباد, والجانب الثاني الذي ضلوا فيه أنهم أنكروا مرتبة الإرادة والمشيئة حيث جعلوا للعبد إرادة مستقلة عن إرادة الله حتى قالوا : إذا اختلفت إرادة الله وإرادة العبد فالذي يقع هو إرادة العبد .

فقول الشيخ هنا : (( خلق الخلق وأفعالهم ))
هو مذهب أهل السنة والجماعة كما قال تعالى :(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون) (الصافات:96) وقال تعالى : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء) (الزمر: من الآية62) فيدخل في ذلك أفعال العباد .
فصاروا كما اراد الله لهم, (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) فهم يطيعونه ليلاً ونهاراً ولا يعصونه أبداً؛ لأن الله أراد منهم ذلك , فلو أراد الله سبحانه وتعالى من البشر كوناً أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه , ولم يبق منهم عاص, كما قال سبحانه وتعالى في الآية التي ذكرناها قبل قليل : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهلينَ) (الأنعام: من الآية35), لكنه سبحانه خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً .

ثم قال الشيخ مبيناً المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهي مرتبة الخلق : (( خلق الخلق وأفعالهم))
أي أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء , كما قال تعالى في أكثر من آية : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (الرعد: من الآية16) فالله سبحانه وتعالى خالق جميع هذه المخلوقات لا شريك لـه سبحانه وتعالى في خلقه, ويدخل في ذلك العباد , وأفعالهم .
والشيخ يقرر بذلك مذهب أهل السنة والجماعة , ويرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الله خالق , لكن يستثنون من خلقه أفعال العباد فيقولون : العباد هم الذين يخلقون أفعالهم , والله لا يخلق أفعال العباد, وهذا أحد جوانب ضلال المعتزلة في باب القدر حين أنكروا مرتبة الخلق بالنسبة لأفعال العباد, والجانب الثاني الذي ضلوا فيه أنهم أنكروا مرتبة الإرادة والمشيئة حيث جعلوا للعبد إرادة مستقلة عن إرادة الله حتى قالوا : إذا اختلفت إرادة الله وإرادة العبد فالذي يقع هو إرادة العبد .

فقول الشيخ هنا : (( خلق الخلق وأفعالهم )) هو مذهب أهل السنة والجماعة كما قال تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون) (الصافات:96) وقال تعالى : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء) (الزمر: من الآية62) فيدخل في ذلك أفعال العباد .
وبهذا يكون الشيخ رحمه الله أشار إلى مراتب القدر الأربع التي عليها مدار القدر, وكلها مرتبطة بقضية الربوبية :
فالمرتبة الأولى : مرتبة العلم الأزلي المحيط بكل شيء .
والمرتبة الثانية :مرتبة المشيئة النافذة التي لا يخرج عنها أحد .
والمرتبة الثالثة: مرتبة الكتابة لك شيء في اللوح المحفوظ .
والمرتبة الرابعة : مرتبة الخلق وأنه تعالى خالق كل شيء , ويدخل في ذلك العبادة وأفعالهم .
ومجموع هذه المراتب هو الذي يؤمن به أهل السنة والجماعة ويقررونه ويقولون : إن الإيمان بالقضاء والقدر الذي هو من أركان الإيمان, والذي نصَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حيث جبريل حيث قال : (( وتؤمن بالقدر خيره وشره)) مقتضٍ للإيمان بهذه المراتب الأربع , وإثباتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته .

ثم قال رحمه الله : (( وقدر أرزاقهم وآجالهم )) , فالله سبحانه وتعالى كتب رزق كل عبد وأجله , كما في حديث ابن مسعود الصحيح؛ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : (( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نظفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضعة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك , ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه, وأجله , وعمله, وشقي أو سعيد)). (4)

فقوله : (( بكتب رزقه)) أي فلا يأخذ الأنسان في هذه الدنيا إلا ما كتب له من الرزق ولن يموت عبد حتى يستكمل رزقه,
وقوله : (( وأجله)) أي أن أجله إذا جاء لا يتقدم عنه ولا يتأخر كما قال تعالى :(فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (لأعراف: من الآية34) ولن يموت أحد حتى يستكمل أجله المقرر لـه.
فلكل إنسان أجل محدد , حتى الذي قتل ظلماً وعدواناً قد انتهى أجله خلافاً للمعتزلة الذين يقولون : إن المقتول لو لم يقتل لعاش, وأهل السنة يخالفونهم ويقولون : المقتول مات بأجله , ويقولون: الأسباب مختلفة , هذا أجله ينتهي وهوعلى فراشه, وذاك أجله ينتهي بالمرض , وهذا أجله ينتهي بالكبر, وهذا أجله ينتهي بالسقوط من علو , وهذا أجله ينتهي بأن يعتدي عليه معتد فيقتله , ولكل واحد منهم أجل محدد لا يتأخر عنه ولا يتقدم .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : ((يهدي من يشاء برحمته, ويضل من يشاء بحكمته , (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) ))
وهذا لبيان قضية مهمة جداً متعلقة بالقدر ألا وهي أن الله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم العباد, ولا بدّ للعبد أن يستيقن ذلك؛ لأن الظنون والشكوك قد تهجم أحياناً على ذهن العبد وتثير عنده الشبهات, ومن ذلك مثلاً ما قد يخطر على البال من شبهة أنه إذا كان لك ما يفعله العباد جميعاً مكتوباً ومسطراً قبل أن يفعلوه فلماذا يعذب هؤلاء وينعم هؤلاء ؟
فنقول كما قال ابن قدامة رحمه الله (( يهدي من يشاء برحمته)) فهو الذي يمن على عباده ويتفضل عليهم , فمن هداه الله ووفقه للهداية فهذه منة من الله , وقد يمن الله سبحانه وتعالى بما هو أخص من ذلك, مثل مَنِّه سبحانه وتعالى على الرسل بإرسالهم .

قال تعالى :(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء:54) فهو سبحانه وتعالى الذي اختار هؤلاء الرسل, واصطفاهم برسالاته , فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى على رسوله بالرسالة فلا يجوز لإنسان أن يعترض ويقول : لماذا اخترت محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم واصطفيته للرسالة ولم تختر فلاناً أو فلاناً .
كما قال بعض المشركين : (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31) فرد الله عليهم بقوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّك) (الزخرف: من الآية32).
فاصطفاء الله لرسله منةً مِنهُ عليهم وفضل ونعمة, ومن ثم يجب عليهم أن يشكروه وأن يعترفوا له بهذه المنة, وكذلك يجب على الخلق أن يشكروا ربهم على منته عليهم بإرسال الرسل إليهم, ونحن اليوم ينبغي لنا أن نحمد الله سبحانه وتعالى أن جعلنا مسلمين واصطفانا بالإسلام على أمم الأرض جميعاً , من يهود ونصارى وملاحدة ووثنيين ومجوس , مع أن أعداد هؤلاء تفوق أعداد المسلمين مرات عديدة , ولكن الله عز وجل (( يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته)), فالله سبحانه وتعالى هدى أهل طاعته إلى صراطه المستقيم برحمته, وأضل أهل معصيته بحكمته , وهو سبحانه وتعالى لا يظلم أحدا كما قال سبحانه : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف: من الآية49) .
حيث إن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على عباده , فأعطاهم الاختيار والإرادة والمشيئة والقدرة , وأقام عليهم الحجة الرسالية , فمنهم من استخدم هذه النعم فيما ينبغي أن تستخدم فيه , فقاده ذلك إلى الإيمان بالله واتباع رسله , ومنهم من أجاب داعي الهوى والنس والشيطان وعطل هذه النعم فاستحق أن يكون من الهالكين .
فمما يجب أن يُقطع به أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلم أحداً ؛ لأنه ليس بحاجة إلى الخلق بل هو الغني عنهم الغنى التام كما دلت على ذلك الأدلة الكثيرة , وهذا أحد مقتضيات تنزيهه عن الظلم في جميع الأحوال والمقامات ,حتى في مقام إضلاله من يشاء, فإن ذلك ليس ظلماً لهؤلاء , بل هو سبحانه أضلهم بعدله, وشاء أن يوجد أهل الضلال وأهل الإيمان ولو شاء لجمعهم على الهدى, ولكن حكمته اقتضت أن يكونوا منقسمين, فمنهم شقي ومنهم سعيد .
وليس من الضروري أن تكون هذه الحكمة معلومة لنا, فقد تكون احياناً سراً من الأسرار لم يطلع الله سبحانه وتعالى عليه احداً, فهو سبحانه لـه الربوبية التامة كما أن له الإرادة المطلقة , (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الانبياء:23) وقد نتلمس في بعض الأحيان شيئاً من حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك ,مثل أن يقال : إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق واوجدهم على هذه الحالة لتظهر آثار العبودية وآثار الطاعة , وأيضاً لتمييز عباد الله المؤمنين من غيرهم , ونحن نجزم بأن الله سبحانه وتعالى لا يخلق شراً محضاً لا خير فيه, وإنما الذي يخلقه الله سبحانه وتعالى هو الشر النسبي الذي كون شراً لبعض الناس لكن هو خير لبعضهم الآخر .
فهذا إبليس مثلاً, معروف بأنه شر ومع ذلك خلقه الله عز وجل لحكمة أرادها, وخلقه أيضاً ليبتلي به عباده وليميز المطيع من العاصي, فلو لم يخلق إبليس لما كان هناك إغواء وابتلاء , ولما كان هناك فضل للطائعين والعابدين والمستغفرين بالأسحار والتائبين النادمين, فلما خلق الله إبليس واعطاه قدرة على الإغواء والتزيين, فأطاعه قوم وعصاه اخرون , دل ذلك على إمكانية عصيان داعي الشيطان وإلا لما استطاع هؤلاء الأبرار أن يعصوه ويطيعوا ربهم, ودل ذلك أيضاً على استحقاق هؤلاء الذين أطاعوا إبليس للعذاب واستحقاق اولئك للنعيم .

وهناك من مخلوقات الله تبارك وتعالى ما قد تخفى حكم خلقها على بعض الناس كالعقارب والأفاعي, فربما لا يظن انه لا خير في خلق هذه المخلوقات ولا حكمة فيها, ولكن المؤمن لا يرى ذلك بل يسلم بأن كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى إنما هو لحكمة بالغة وإن كان لا يعلمها, ونحن قد نلمس الحكمة من خلق هذه الحيوانات , فقد يكون فيها شيء من الأدوية والشفاء من بعض الأمراض, وقد تكون سبباً في موت إنسان ليكون شهيداً فقد ورد في اللديغ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أصناف الشهداء فقال : (( واللديغ شهيد )) (5) وهكذا .
فما يوجد شيء خلقه الله سبحانه وتعالى إلا وله فيه حكمة .
ومما يحضرني في ذلك أن أحد الوعاظ دخل على أحد خلفاء بني العباس, فلما دخل عند تسلط ذباب على الخليفة, وارد هذا الذباب يقع على أنف الخليفة,فيطرده ,ثم يرجع مرة ثانية ويطرده وهكذا حتى ضاق منه, فقال لهذا الواعظ : لماذا خلق الله الذباب؟- يعني ما هي الحكمة من خلق الذباب؟- فاستحضر هذا الواعظ إجابة لطيفة فقال لـه : خلقه الله ليذل أو يرغم به أنوف الجبابرة , والله سبحانه وتعالى ذكر شيئاً من الحكمة في خلق الذباب فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج:73) فهذا بنص القرآن من حكم خلق الذباب , حيث إن الله سبحانه وتعالى جعله مثلاً يضرب به على بطلان عبودية غير الله, حيث تحداهم بعجزهم عن خلق الذباب بل وبعجزهم أن يأخذوا حقاً لهم سلبه منهم الذباب, وهكذا الأمر في بقية ما خلقه الله سبحانه وتعالى, فهو سبحانه وتعالى يضل من يشاء عدلاً منه لكنه لا يجبر العباد .
ثم قال المؤلف : ((قال الله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) )) .
فذكر بعض الأدلة من القرآن على القضاء والقدر, فهو سبحانه وتعالى , يخلق المخلوقات ويوجدها حسب تقديره سبحانه وتعالى فهو الذي قدرها سابقاً بعلمه , ثم بما كتب سبحانه وتعالى في اللوح المحفظ,ثم إنها تقع بشيئته وتوجد حسبما قدره تبارك وتعالى .

(( وقال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ))
أي أنه خلق الأشياء كلها , وقدرها تقديراً, فجرت المقادير على ما قدر وخلق, وهذا أحد التفسيرين في الآية, ومن أجله أورد ابن قدامة هذه الآية في القدر .

والمعنى الثاني فيها : أن الله خلق كل شيء فسواه وهيأه دون خلل أو تفاوت, وهذا أمر
مشاهد فيما يخلقه الله سبحانته وتعالى ويقدره من آياته في الكون والأنفس والآفاق, وإذا نظرنا إلى كلام الأطباء مثلاً في خلق الإنسان وفي خلق كل جزئية من جزئياته رأينا عجباً, وإذا نظرنا إلى كلام الفلكيين في هذه الأكوان وبعدها ومسافاتها وضوئها إلى آخره رأينا عجباً, وإذا نظرنا إلى هذه الأرض وتربتها وما يتعلق بالزراعة ووسائل الحياة فيها وجدنا عجباً, وإذا نرنا إلى البحار , والجبال , والشمس , والقمر , والليل , والنهار رأينا عجباً, فالله سبحانه وتعالى خلق كل شيء فقدره تقديراً؛ ولذا فالعباد لا يملكون من الأمر شيئاً (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (فاطر: من الآية41) .
فهل يملك البشر مع هذا التقدم العلمي العظيم في كل مجالات الحياة ,شيئاً من امر تدبير هذا الكون؟ إنهم لا يملكون شيئاً بل إن أموراً تجري على خلاف ما يشتهون ومع ذلك لا يستطيعون وفقها أو تأجيلها, مع انهم يرصدون لها كل الإمكانات بالوسائل التقنية الحديثة التي تعمل على كشف كنهها, ولكنهم مع ذلك كله لا يستطيعون تغيير شيء من نظام هذه المخلوقات المقدر من الخالق الواحد تعالى .
ومن الأمثلة على ذلك الزلازل التي وضعوا لها شتى الأجهزة المتطورة الحديث, ومع ذلك يفجأون بالزلزال يقلب عليهم بيوتهم وجسورهم ونحو ذلك .
فهذا الكون يجري بتقدير الله سبحانه وتعالى كما قال سبحانه وتعالى : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (الحديد : 22) فما من شيء يحدث في الأرض ولا في السماء , في البر او البحر او الجو في كتاب وهذا يجعل الإنسان المؤمن يسلم ويرضى بالقضاء والقدر, فما من مصيبة كالأمراض والجوائح والموت والزلازل والعواصف والبراكين وغير ذلك إلا وقد كتبها لله سبحانه وتعالى من قبل خلق الإنسان, وهذا يدل على أن الإيمان بالقضاء والقدر يقتضي الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى قدر هذه الأشياء قبل أن توجد, والإيمان بهذا يعطي الإنسان راحة نفسية تامة؛ لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه , وما أخطأه لم يكن ليصيبه, وأن الأمة لو اجتمعت على دفع شيء مما قدره الله سبحانه وتعالى عليه ما استطاعت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما : (( يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك , إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله , واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك , رفعت الأقلام وجفت الصحف )). (6)ونحن نحزن ونتألم ونتأثر بحدوث كثير من الأمور التي تجري علينا وهي من قضاء الله سبحانه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل, بل إن الإنسان قد يتأثر للأمور اليسيرة ويزداد حزن الإنسان وتأثره إذا تعلق الأمر برزقه أو وظيفته , أو أولاده , ونحو ذلك .
ولكن العاقل هو الذي يسلم ويرضى بقضاء الله وقدره , ويعلم أن ما وقع من حوادث او أمراض أو فقد محبوب هو من الأمور التي أرادَّها الله سبحانه وقدرها والتي لا راد لها , فإذا علم ذلك اطمأن قلبه وارتاح فؤاده , فلا يأسف على ما فات ؛ لأنه لو جَمَع الدنيا كلها واجتمع الخلق كلهم على أن يغيروا هذا الأمر ولو كان صغيراً لم يستطيعوا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراده وقدره .

ثم قال المؤلف رحمه الله : (( وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) وهذه هي الإرادة الكونية الشاملة التي هي بمعنى المشيئة , فتشمل الخير والشر (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) ))
أي : ييسره لـه وينشطه ويفتح على قلبه, فإذا شرح الله صدره للإسلام استجاب وآمن واهتدى .
(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) وجعل الصدر ضيقاً حرجاً - شديد الضيق - وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى ولا يخلص إليه شيء مما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه, إنما يكون بذنب العبد كإعراضه عن قبول الحق أو تكبره عليه كما قال تعالى عن الكفار : (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: من الآية5) وقال :(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (لأنفال:23) .
فالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلم العبد, لكنه سبحانه وتعالى يمنع عنه الهدى لظلم العبد نفسه, وهذا عدل منه تبارك وتعالى, ولو أنه تعالى أراد هداية الجميع لما وجد كافر أصلاً ولا عاص أبداً, لكنه لحكمة أرادها سبحانه وتعالى جعل الناس فريقين كما قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (الملك: من الآية2).

ثم قال المؤلف رحمه الله : (( وروى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ , قال : (( أن تؤمن بالله , وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)) فقال جبريل : صدقت . انفرد مسلم بإخراجه .)) (7) .

وهذا دليل الإيمان بالقضاء والقدر من السنة النبوية , فإنه جعل الإيمان بالقضاء والقدر ركناً من أركان الإيمان ؛ ولذا لا يستقيم إيمان عبد إلا بأن يؤمن بالقضاء والقدر , كما قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في صحيح مسلم : (( والذي يحلف به عبدالله بنعمر لا يؤمن أحدهم حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه )) (8) أي يؤمن بالقضاء والقدر , وأن كل ما جرى له فهو بقضاء الله وقدره .

وكذلك أيضاً قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه في مرض موته وهو يوصي ولده :(( يابني : إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وأن ما أخطاك لم يكن ليصيبك )) .
فالإيمان لايتحقق إلا بالإيمان بالقضاء والقدر والتصديق به وأن الله سبحانه وتعالى لـه الربوبية التامة, وأن ربوبيته مقتضية لأن يكون هو المدبر , الخالق , الرازق , ماشاء كان وما لم يشأ لم يكن .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الطبراني وغيره : (( آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره )) (9) فكل ما يجري فهو بقضاء الله وقدره سواء كان مما يحبه الإنسان أو مما يبغضه , خيراً كان أو شراً حلواً, كان أو مراً أراده الإنسان أم لم يرده, فمشيئة الله نافذة , وقدره لا مَرَدَّله .

ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : (( ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر : (( وقني شر ما قضيت)) )) (10)

هذا الحديث الصحيح يدل على أن كل ما قضاه الله سبحانه وتعالى فهو بقدر سواء كان خيراً أم شراً ومن ثمّ شرع للعبد أن يقول ((اللهم قني شر ما قضيت)).

_____________
(1) اخرجه احمد في المسند(5/317) ، والترمذي رقم (2155) كتاب القدر ، وقال : غريب ، وابو داود رقم ( 4700) كتاب السنة
(2) اخرجه مسلم رقم (2653) كتاب القدر .
(3) اخرجه مسلم رقم(2999) كتاب الزهد .
(4) اخرجه البخاري رقم (6594) كتاب القدر ، ومسلم رقم(264) كتاب القدر .
(5) اخرجه الطبراني في الكبرى (11/210) رقم (11686) وذكره الهيثمي في المجمع (5/303) وقال : فيه عمرو بن عطية بن الحارث الوادعي وهو ضعيف .
(6) اخرجه الترمذي رقم (2516 كتاب القيامة ، واحمد في المسند (1/293,303,307) ، وقال الترمذي : حسن صحيح
(7) اخرجه مسلم رقم (8) كتاب الإيمان
(8) اخرجه مسلم رقم (8) كتاب الإيمان
(9) اخرجه ابن ماجه رقم (87) في المقدمة بنحوه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم : (( تشهد أن لا إله إلا الله واني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها )) .
(10) اخرجه الترمذي رقم ( 464) كتاب الصلاة ، وابو داود رقم (1425,1426) كتاب الصلاة ، واحمد في المسند (1/199,200) وصححه ابو الأشبال الشيخ أحمد محمد شاكر في حشيته على سنن الترمذي (2/329)


  #7  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 12:50 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
افتراضي شرح لمعة الاعتقاد,الشيخ الغفيص



تعتبر مسألة القدر من المسائل التي كثر النزاع فيها بين أهل القبلة، وكان موقف أهل السنة في هذه المسألة موقفاً وسطاً بين القائلين بأن للعباد مشيئة مستقلة عن مشيئة الله تعالى، وهم القدرية، وبين القائلين بأن العباد لا مشيئة لهم ولا إرادة، وهم الجبرية.


عقيدة أهل السنة في القضاء والقدر


قال الموفق رحمه الله: [ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2]، وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام:125] ] .

هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله لتقرير أصل خاص من أصول الدين، وهو:
قدر الله سبحانه وتعالى ،
والإيمان بقدر الرب سبحانه وتعالى
أصل من أصول الإيمان، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، وقال ابن عباس : (القدر نظام التوحيد).
والقدر هو: فعل الله سبحانه وتعالى وقضاؤه وإرادته ومشيئته في سائر ما يقع في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؛ فلا يقع شيء إلا بإرادته ومشيئته، وهذا الأصل مجمع عليه بين المسلمين، ولم يقع النزاع فيه من جهة أصله، بل حتى عامة الكفار الذين يقرون بالربوبية يقرون بهذا القدر من حيث الجملة.
وأما عند التحقيق فإنه لا يحقق جانب توحيد الربوبية فعلاً إلا مسلم مؤمن بالله عز وجل
وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وفرق بين الإيمان بالربوبية المجمل عند المشركين، وبين الإيمان المفصل بالربوبية عند المسلمين.
تعتبر مسألة القدر من المسائل التي كثر النزاع فيها بين أهل القبلة، وهل أفعال العباد من قيام وقعود وطاعة ومعصية داخلة في قدر الله وقضائه؟ أم أنها مختصة بالعباد؟ بمعنى هل يقال: إن هذه الأفعال بإرادة الله ومشيئته وخلقه، أم أن العباد يستقلون بها؟ أم يقال: إن العباد قد أجبروا على أفعالهم ولا إرادة لهم ولا مشيئة أمام إرادة الله ومشيئته؟ ......

تقرير أصول مذهب أهل السنة في باب القدر

اشتهر في كلام جملة من متأخري أهل السنة أن مراتب القدر أربعة:
المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه وتعالى بأفعال العباد.
المرتبة الثانية: كتابته لها.
المرتبة الثالثة: إرادته ومشيئته عز وجل.
المرتبة الرابعة: خلقه لأفعال العباد.

وهذا ترتيب صحيح، ولكن إذا أردنا الكمال في تقرير مسألة القدر فإن الأولى أن يقال: إن هذه المسألة محصلة بأصول سبعة عند السلف.
وممن نص على هذه الأصول الإمام ابن تيمية رحمه الله ، وهي كما يلي:
الأصل الأول: الإيمان بعموم علمه سبحانه وتعالى بكل شيء في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؛ فعلم ما كان وما سيكون، وقد دخل في عموم علمه: علمه سبحانه وتعالى بأفعال العباد قبل كونها، فيعلم ما هم فاعلون، وما تصير إليه أمورهم وأحوالهم، وهذا أصل شرعي عقلي فطري من أنكره فإنه زنديق كافر، وهو مما لم ينكره أحد من المسلمين، حتى أن القدرية المعتزلة أقروا بهذا الأصل إجمالاً.
فإن قيل: إن غلاة القدرية أنكروا هذا الأصل. قيل: إن المراد بالغلاة هم من ينكر علم الرب بما يكون من أفعال العباد، ويقولون: إنه لا يعلمها إلا عند وقوعها، وهؤلاء ليسوا مسلمين، بل زنادقة منافقون، وإن زعموا الانتساب للإسلام، وكفرهم أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ لأن في قولهم هذا إبطال لمقام الربوبية والألوهية؛ لأن الإله المعبود لابد أن يكون هو الرب المتفرد بالملكوت والتدبير والعلم والإرادة.
فإن قيل: هذا القول ما منشؤه؟ قيل: هذا قول قوم من غلاة الفلاسفة الملاحدة نقل إلى من يزعم الانتساب إلى الإسلام، وأما حكم القائلين به فهو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "منافقون نفاقاً علمياً في انتسابهم للإسلام، وإلا فهم قوم زنادقة" وقد أجمع السلف على تكفيرهم بأعيانهم، ولا يلزم أن تقام عليهم الحجة؛ لأن الحجة قائمة عليهم ضرورة، فإن هذه المسألة لا يمكن أن يحصل فيها اشتباه لكونها مستقرة بالفطرة والعقل والشرع.

الأصل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى كتب في الذكر (اللوح المحفوظ) كل شيء، وقد دخل في عموم كتابته سبحانه وتعالى كتابته لأفعال العباد، وفي حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
مسألة: هل الكتابة لأفعال العباد أصل عرفناه بالعقل والشرع أم بالشرع فحسب؟ الجواب: بالشرع، وإن كان العقل بعد خبر الله بها لا ينفي شيئاً من ذلك؛ فإن العقل لا يعارض النقل. وهذا الأصل أقر به سواد المسلمين، ولم ينكره إلا قوم من غلاة القدرية، وهو دون الأصل الأول في المقام.

الأصل الثالث: الإيمان بعموم إرادة الله تعالى ومشيئته النافذة، فلا يقع شيء في ملكوت السماوات والأرض إلا وقد أراد الله سبحانه وتعالى وقوعه بمشيئته، وقد دخل في عموم إرادته ومشيئته إرادته لأفعال العباد طاعة أو معصية، خيراً أو شراً، عبادة أو عادة.

الأصل الرابع: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وقد دخل في عموم خلقه سبحانه وتعالى خلقه لأفعال العباد؛ لأن الشيء إما أن يكون خالقاً وإما أن يكون مخلوقاً، ولا شك أن الخالق هو الله وحده وما سواه مخلوق. وهذا من طرق جدل المعتزلة والقدرية المنكرين لخلق أفعال العباد، أن يقال لهم: ما من شيء موجود إلا وهو أحد أمرين: إما أن يكون خالقاً، وإما أن يكون مخلوقاً، فإذا كان لا يوصف بأنه خالق إلا الله تعالى لزم أن يكون كل ما سواه مخلوق، والعباد ليسوا خالقين، وإنما هم أهل فعل كما وصفهم الله بأنهم فاعلون مصلون مزكون صائمون إلى أمثال ذلك من الأفعال. وقد أنكرت القدرية من المعتزلة وغيرهم الأصل الثالث والرابع، وهذه هي البدعة التي اشتهرت عند طائفة من أهل القبلة، وهي: القول بأن أفعال العباد لم يردها الله، ولم يشأها، ولم يخلقها.

الأصل الخامس: الإيمان بأن للعباد مشيئة وإرادة في أفعالهم لكنها تابعة لمشيئة الله وإرادته، والإيمان بأن هذه الإرادة والمشيئة على الحقيقة وليست على المجاز كما يقول بعض الأشاعرة، فإن الله أثبت إرادة العباد في مثل قوله: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، فذكر أن إرادتهم متنوعة ومتعددة، وذكر أن أصحاب الآخرة بإرادتهم، وأصحاب الدنيا بإرادتهم، وهذا المقام -أعني: مشيئة العباد- ينكره الجبرية القائلون: إن العباد مجبورون على أفعالهم، وكذا ما يقوله أهل الكسب من الأشاعرة.
وأما قول السلف فيها فهو قول وسط بين طائفتين:
الطائفة الأولى: القدرية تقول: إن للعباد مشيئة مستقلة عن مشيئة الله وإرادته.
الطائفة الثانية: الجبرية تقول: إن العباد لا مشيئة لهم ولا إرادة.
وأهل السنة يقولون على قوله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]: إن للعباد مشيئة وإرادة ولكنها تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته.

الأصل السادس: الإيمان بعموم حكمته سبحانه وتعالى ، وأن سائر أفعاله لحكمة، فعذاب المعذبين وثواب المصلين الطائعين المؤمنين، وما يقع في الكون من الحوادث وإن ظهر لبعض الناس أنها شر فإن الشر لا يضاف إليه سبحانه وتعالى ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)؛ فكل ما يقع في هذا العالم من الحوادث فإنها لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى ، ولا يكون في ملكه وملكوته سبحانه شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، أو لا يستلزم خيراً؛ فإن سائر ما يقع إما أن يكون خيراً محضاً، وإما أن يكون متضمناً أو مستلزماً للخير.
مثال ذلك: قتال الكفار للمسلمين، فأصل فعل الكفار شر، لكنه استلزم خيراً وهو مجاهدة المسلمين لهم، وإقامة ذكر الله، وإعلاء كلمته، إلى أمثال ذلك.
وهنا يقال: إن كل ما يقع في هذا العالم فإما أن يكون خيراً محضاً كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكون متضمناً للخيركالولد، ولهذا جعلهم الله نعمة وجعلهم فتنة، وإما أن يكون مستلزماً للخير وإن كان في مبدئه أو في ظاهره شيء من الشر، ولهذا لما طعن على عائشة رضي الله عنها ، ورماها المنافقون بالزنا، وكان في ظاهره ومبدئه شر وتعدٍ نزهها الله في كتابه، فقال: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]؛ لأن به حصل شيء من المنافع لهم، منها: امتياز المؤمنين عن غيرهم، ومنها: تبرئة أم المؤمنين وتفضيلها وتقديمها.
وهذا ظاهر، وهذا هو معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك)، وهذه الكلمة تكلف بعض الشراح حتى أهل السنة المتأخرين في شرحها، وهي من البينات والهدى الذي لا إشكال فيه؛ فالله سبحانه وتعالى منزه عن الشر، ولا يضاف إليه الشر بحال من الأحوال، وكل ما يقع في هذا العالم مما ظاهره الشر ففيه مصلحة وخير من وجه آخر.

الأصل السابع: الإيمان بأن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، ولا حجة لأحد من الخلق على الله، بل لله الحجة البالغة على خلقه.
وهذا المقام هو ما يسمى بمقام الجمع بين الشرع -أمر الله ونهيه- وبين القدر، وأن القدر ليس حجة على إسقاط الأمر والنهي، وهذه المسألة -أعني: مسألة الاحتجاج بالقدر على المعصية- يأتي الكلام فيها إن شاء الله.

هذه هي الأصول السبعة الجامعة لمسألة أفعال العباد ومقامها في قدر الله وقضائه، وهي أصول أجمع عليها السلف، ومنها يظهر لنا أن السلف خالفوا بها غلاة القدرية في الأصل الأول والثاني، وخالفوا مجمل القدرية من المعتزلة وغيرهم في الأصل الثالث والرابع، وخالفوا الجبرية والقدرية وبعض الأشاعرة في الأصل الخامس، وخالفوا الجبرية الذين ينفون الحكمة في أفعال الله في الأصل السادس، وخالفوا المنحرفة من الصوفية الذين لم يحققوا الجمع بين الشرع والقدر في الأصل السابع، فهذه الأصول هي امتياز أهل السنة عن سائر طوائف أهل البدع في مسألة أفعال العباد ومقامها في قدر الرب سبحانه وتعالى. ......

الخير والشر بالنسبة للمقدور وعاقبته

قال الموفق رحمه الله: [وروى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت) رواه مسلم ] .

هذه الرواية من حديث ابن عمر حدث بها عن أبيه عمر رضي الله عنهما، وهذا هو حديث جبريل المعروف، وقد اتفق العلماء على قبول هذا الحديث وصحته، وفيه ذكر أصول الديانة.
فإن الإيمان والإسلام والإحسان، ولما ذكر الإيمان ذكر جملة من الأصول التي يقع بها التصديق، ويقع بها اعتبار القلب، ولما ذكر الإسلام ذكر فيه أصول الشرائع الظاهرة، وهي: الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ولما ذكر الإحسان ذكره على مقام تحقيق العبادة والديانة؛ ولهذا يقال: إن هذا الحديث جامع لمسائل أصول الدين، فقد ذكر فيه الأصول القلبية الباطنة والأصول العملية الظاهرة، وكذا ذكر العبادة ومنهجها الشرعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه)، فهذا الحديث جامع لسائر مسائل أصول الدين.
ويريد المصنف بذكره له هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أصول الإيمان ، الإيمان بالقدر خيره وشره، ولا يراد من ذلك أن في أفعال الرب سبحانه وتعالى شر محض، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)، وهذا الشر باعتبار حال الفعل، وباعتبار حال الفاعل، فإن الفعل في نفسه يسمى شراً، ومعلوم بإجماع أهل السنة أن الخالق لأفعال العباد هو الله، إلا أنه ليس معناه أن الله هو الفاعل لها، تعالى الله عن ذلك، بل الفاعل للفعل هو العبد، والمصلي والصائم والمزكي والمجاهد، وفي المقابل: السارق والزاني وشارب الخمر هم العباد، فأفعال العباد هي أفعالهم، وإن كان الله سبحانه وتعالى خالق لها، فثمة فرق بين مقام الخلق لأفعال العباد، وبين مقام أن العباد فاعلون لأفعالهم، ولذلك ما عبر به بعض الشراح من أن أهل السنة يقولون: إن الله هو خالق أفعال العباد، وأنه الفاعل لها، فهذا ليس صحيحاً، فإن كلمة الفعل لم تستعمل عند السلف إنما يستعملون كلمة الخلق؛ لأنها الكلمة الشاملة في القرآن، أن الله هو الخالق لكل شيء، وأما كلمة الفعل فإنها معلقة بالإرادة في قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، ولهذا فالفعل من جهة أفعال العباد هو أفعال العباد، ولهذا وصفهم الله بأنهم: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ [التوبة:112]. إذاً: ليس في أفعال الله سبحانه ولا في خلقه ما هو من الشر المحض بل هو من جنس قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]، فإنه وإن رميت عائشة رضي الله عنها بالزنا إلا أنه من الإفك والباطل والشر، ولهذا قال الله في كتابه: (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ) ، فهو مضاف، مما يدل على أن أوجه الإضافة تتعدد، فالفعل باعتبار ما وقع من بعض الإضافات يكون شراً، وباعتبار حال سواد المسلمين ليس شراً، ولهذا لم يقل: (لا تحسبوه شراً) وإنما قال: (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ) فهذه إضافة تبين المقصود بذلك.
ثم إن كلمة (الشر) في استعمال أهل اللغة، واستعمال صاحب الشريعة محمد صلى الله عليه وسلم أعم من كلمة (الشر) الذي يراد بها الفجور والفسوق، كما جاء في حديث ابن مسعود : أنهم أدركوا حية بمنى وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فابتدرها القوم ليقتلوها، فذهبت فلم يدركوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقاها الله شركم كما وقاكم شرها) فقوله: (وقاها الله شركم) مع أن قتلهم إياها لم يكن شراً على معنى الفسوق أو الفجور أو ما إلى ذلك.

قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره)، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت) ] .

هذا الدعاء رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن علي رضي الله عنهما ذلك، وفي جملة هذا التعليم من النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (وقني شر ما قضيت)، وهذا يرجع إلى القاعدة السابقة في تفسير معنى الشر، وأن الله سبحانه لا يضاف إليه الشر، وإنما الشر يكون باعتبار الفعل، أو باعتبار الفاعل، ولذلك ما من أمر هو شر باعتبار الفعل إلا ويمكن إضافته بوجه آخر يكون خيراً، وهذا هو الذي جاء ذكره في القرآن والسنة. ......


  #8  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 12:52 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post العناصر


العناصر
الإيمان بالقضاء والقدر


- أدلة إثبات القدر
- هل هناك فرق بين القضاء والقدر؟
- تعريف الإيمان بالقدر عند أهل السنة والجماعة
- شرح تعريف القدر عند أهل السنة
- وجوب الإيمان بالقضاء والقدر
- مراتب الإيمان بالقضاء والقدر
- أنواع التقديرات
- الكلام على مرتبتي العلم والكتابة
- الكلام على مرتبتي الخلق والمشيئة
- الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية
- الخير والشر بقضاء وقدر
- الإيمان بالقدر لا يقتضي ترك العمل
تفسير قول الله تعالى: ( إنا كل شيء خلقناه بقدر)
تفسير قول الله تعالى: ( وخلق كل شيء فقدره تقديراً)
تفسير قول الله تعالى: ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)
تفسير قول الله تعالى: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ...)الآية
شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( ... وبالقدر خيره وشره)
شرح حديث: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره)
شرح حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: ( وقني شر ما قضيت)
شرح قول المؤلف: (ومن صفاته تعالى أنه الفعال لما يريد)
شرح قوله: (لا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته...)
شرح قوله: ( أراد ما العالم فاعلوه)
شرح قوله: ( ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه)
شرح قوله: ( خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم)
شرح قوله: (يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته)
الطوائف المخالفة لأهل السنة في القدر
الرد على القدرية
الرد على الجبرية

  #9  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 12:54 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Question الأسئلة

الأسئلة
س1: اذكر ما يدل على إثبات القدر من القرآن الكريم.
س2: اذكر ما يدل على إثبات القدر من السنة النبوية.
س3: ما موقف الصحابة من نفاة القدر؟
س4: اذكر الدليل على أن الخير والشر بقضاء وقدر.
س5: بين مع الاستدلال مراتب القدر.
س6: اذكر مع الاستدلال أنواع التقديرات.
س7: عرف القدر عند أهل السنة.
س8: اذكر تفسيراً مختصراً للآيات الآتي ذكرها:
أ) قول الله تعالى:
{إنا كل شيء خلقناه بقدر}.
ب) قول الله تعالى:
{وخلق كل شيء فقدره تقديرا}.
ج) قول الله تعالى:
{لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}.
د) قول الله تعالى:
{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} الآية.
هـ) قول الله تعالى:
{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب...} الآية.
س9: هل هناك فرق بين القضاء والقدر؟
س10: اذكر الطوائف المخالفة لأهل السنة في القدر، وكيف ترد عليهم؟

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الإيمان, بالقضاء

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:37 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir