الدرس الثالث: دلالة مقاصد الآيات
عناصر الدرس:
- أهمية معرفة مقاصد الآيات.
- أنواع مقاصد الآيات
- أمثلة من أقوال العلماء في استخراج مقاصد الآيات
- تطبيقات
أهمية معرفة مقاصد الآيات:
إدراك مقاصد الآيات من أخصّ أبواب فهم القرآن، وهو مدخل مهمّ لاستخراج الأحكام والفوائد القرآنية، ولبيان علل بعض الأقوال الخاطئة والمرجوحة في التفسير، وقد كان بعض حذاق المفسرين ينبّهون على خطأ بعض الأقوال بمخالفتها لمقصد الآية، كما قال بعضهم في تفسير قول الله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم} قال: غرّه كرمه.
- قال ابن القيم رحمه الله: (كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: {يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم} فيقول: كرمه، وقد يقول بعضهم: إنه لقَّن المغترَّ حجته!!
وهذا جهل قبيح، وإنما غرَّه بربه الغَرور، وهو الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء وجهله وهواه، وأتى سبحانه بلفظ الكريم وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه؛ فوضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به) ا. هـ.
- وقال ابن كثير رحمه الله: (وقوله: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}: هذا تهديد، لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب؛ حيث قال: "الْكَرِيمِ" حتى يقول قائلهم: "غرَّهُ كرمه".
بل المعنى في هذه الآية: ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم-أي: العظيم-حتى أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث: "يقول الله يوم القيامة: ابنَ آدم! ما غرك بي؟ ابنَ آدم! ماذا أجبتَ المرسلين؟ ").
ولذلك ينبغي أن يكون نظر المفسّر إلى فقه مقاصد الآيات لأنه إذا حصلت له المعرفة الحسنة بمقصد الآية سهل عليه معرفة سائر مسائلها، وتنبّه لبعض علل الأقوال الخاطئة، وأدرك معاني أقوال أئمة المفسرين في تفسيرها ، لأن من شأن بعض مفسر السلف التنبيه على مقصد الآيات بعبارة وجيزة فيها إشارة لمقصد الآية، وقد يكون في بعض أقوالهم في تفسيرها غرابة يستنكرها الناظر فيها في أوّل الأمر فإذا أدرك مقصد الآية عرف مرادهم وتبيّنت له وجاهة أقوالهم.
أنواع مقاصد الآيات
مقاصد الآيات على نوعين:
النوع الأول: مقاصد ظاهرة؛ تُعرف بدلالة منطوق الآية أو مفهومها، أو معرفة سبب نزولها، كما في قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}.
مقصودها ظاهر وهو ما دلّ عليه منطوقها من أمر المؤمنين بالتقوى وأن يكونوا مع أهل الصدق في أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم.
وما دلّ عليه مفهومها من النهي عن الفسوق والكذب وأن يحذروا أن يكونوا مع الكاذبين في أقوالهم أو أعمالهم أو أحوالهم.
وفي قول الله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلّى} المقصود ظاهرٌ وهوالإنكار والتشنيع على أبي جهل في نهيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والتقرّب إلى الله تعالى الذي هو الإله المعبود المستحقّ لأن تؤدّى له العبادة وأن لا يُحال بين أحد من عباده وبين التقرّب إليه جلّ وعلا، وهذا التشنيع لازم لكلّ من عمل مثل عمل أبي جهل.
والنوع الثاني: المقاصد التي تُستخرج بالاستنباط من تدبّر ما وراء دلالة منطوق الآية ومفهومها، كما استنبط ابن عباس مقصد نزول سورة النصر بأنّه إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب أجله؛ لأنّ رسالته تكون قد تمّت بذلك الفتح، وبنصرِه الله على القوم الذين كذّبوه كما نصر الرسل من قبله على من كذبهم ثمّ قبضهم إليه بعد ما أتمّوا بلاغ رسالة ربّهم.
وكما دلّت سورة الفيل على التنبيه على أنّ الذي حفظ البيت وردّ كيد من أراد به سُوءاً لن يخذلَ رسوله الذي أرسله، وأنه سيحفظه ويردّ عنه كيد من أراد به سوءاً.وكما دلّ صدر سورة الفجر على قريب من هذا المعنى، وقد قال الله فيها: {هل في ذلك قسم لذي حجر}.
وهذا النوع من المقاصد يتفاضل العلماء في إدراكه تفاضلاً كبيراً، وينبغي لطالب علم التفسير أن يجتهد في التمرّن على معرفة تلك المقاصد مما نصّ عليه المفسّرون ومما يمكنه استخراج نظائره بما يستطيع من الأدوات العلمية ويتدرّب على ذلك حتى يكتسبَ مَلَكَةً علمية حسنة في هذا الباب.
ومما يُستعان به على معرفة المقاصد تدبر لوازم دلالتي المنطوق والمفهوم، والتفقّه في معاني أساليب القرآن وتراكيب ألفاظه، والنظر في السياق، وتدبّر المعنى الإجمالي للآية، والتفكّر في تناسب الآية مع المقاصد العامّة للقرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك:
أ: معرفة معنى الاستفهام في الآية إذا كان في الآية استفهام؛ فإنّ ذلك مما يعين على معرفة المقصد؛ كما في قول الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم..}فالاستفهام في الآية للإنكار والتوبيخ؛ فيستفاد من ذلك معرفة مقصد الآية، وأنّها في توبيخ من لا يعمل بعلمه والإنكار عليه.
ب: وقول الله تعالى: {أليس الله بكافٍ عبده..}الاستفهام فيه للتقرير، ومقصد الآية ظاهر في الحث على التوكّل على الله تعالى.
ج: وقد تتضمّن الآية مثلاً من الأمثال التي مَن عَقلها تبيّن له مقصد الآية؛ كما في قوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتعوا له..}الآية
فمن عقل هذا المثل عرف أن المقصد هو الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وأمثال القرآن وقصصه مَن عرف مقاصدها استفاد علماً كثيراً مباركاً.
أمثلة على استخراج مقاصد الآيات من أقوال العلماء:
هذه أمثلة من أقوال العلماء في استخراج مقاصد الآيات، بعضها مختصر، وبعضها مطوّل لغرض تحرير المقصود.
1: قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)}
قال ابن عطية: (مقصد الآية الفرق بين ما يحلّ بهم وبين رزايا الدنيا، فإن الإنسان لا يتوقع أمرا من خطوب الدنيا إلا وله طمع في أن يتأخر عنه وفي أن يجيئه في أخف ما يتوهم برجائه، وكذلك متى حل به كان طامعا في أن يخف، وقد يقع ذلك في خطوب الدنيا كثيرا، فأخبر الله تعالى أن عذاب الآخرة إذا عاينه الكافر لا طماعية فيه بتخفيف ولا بتأخير).
2: قال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (مقصود الآية إنا لا نهلكهم إلا بذنوبهم، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) }
فإذا أردنا إهلاكهم لم نهلكهم إلا بذنب بل يلهمهم فجورهم فيستحقون بذلك العذاب؛ فقد تبيَّن في نفس الآية أنه لم يرِدْ أمرَ التكليف والتشريع الذي أرسل به الرسل؛ فإنه لا يأمر أحداً بفسق ولا معصية، وقد دلَّ القرآنُ في غير موضع على أنه إنما يأمر بالأعمال الحسنة، لا يأمر بالشرّ، بل ينهى عن أنواع الشرّ وما يسمى فسقاً، ويذمّ ذلك ويتوعّد عليه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}...).
3: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}
- قال ابن جزيء الكلبي: (ومقصود الآية: التسوية بين الناس، والمنع مما كانت العرب تفعله من التفاخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، فبين الله أن الكرم والشرف عند الله ليس بالحسب والنسب إنما هو بالتقوى).
4: قال الله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
- قال ابن جُزيء الكلبي: (ومقصود الآية الاستدلال بالخلقة الأولى على البعث).
5: قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُمِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) }
- قال ابن القيّم: (الآية سيقت لبيان أن أشجار الأرض لو كانت أقلاما والبحار مدادا فكتبت بها كلمات الله لنفدت البحار والأقلام ولم تنفد كلمات الله فالآية سيقت لبيان الملازمة بين عدم نفاد كلماته وبين كون الأشجار أقلاما والبحار مدادا يكتب بها فإذا كانت الملازمة ثابتة على هذا التقدير الذي هو أبلغ تقدير يكون في نفاد المكتوب فثبوتها على غيره من التقادير أولى ونوضح هذا بضرب مثل يرتقى منه إلى فهم مقصود الآية إذا قلت لرجل لا يعطي أحدا شيئا لو أن لك الدنيا بأسرها ما أعطيت أحدا منها شيئا فإنك إذا قصدت أن عدم إعطائه ثابت على أعظم التقادير التي تقتضي الإعطاء فلازمت بين عدم إعطائه أسباب الإعطاء وهو كثرة ما يملكه فدل هذا على أن عدم إعطائه ثابت على ما هو دون هذا التقدير وأن عدم الإعطاء لازم لكل تقدير فافهم نظير هذا المعنى في الآية وهو عدم نفاد كلمات الله تعالى على تقدير أن الأشجار أقلام والبحار مداد يكتب بها فإذا لم تنفد على هذا التقدير كان عدم نفادها لازما له فكيف بما دونه من التقديرات فافهم هذه النكتة التي لا يسمح بمثلها كل وقت ولا تكاد تجدها في الكتب وإنما هي من فتح الله وفضله فله الحمد والمنة ونسأله المزيد من فضله.
فانظر كيف اتفقت القاعدة العقلية مع القاعدة النحوية وجاءت النصوص بمقتضاهما معا من غير خروج عن موجب عقل ولا لغة ولا تحريف لنص ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذه الفائدة لساوت رحلة فكيف وقد تضمن من غرر الفوائد ما لا يتفق إلا على تجارة وأما من ليس هناك فإنه يظن الجوهرة زجاجة والزجاجة المستديرة المثقوبة جوهرة ويزري على الجوهري ويزعم أنه لا يفرق بينهما والله المعين)ا.هـ.
6: قال الله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}
- قال ابن القيم رحمه الله: (حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا ولا تروى غليلاً، ومعناها أجلّ وأعظم مما فسروها به، ولم يتفطنوا لوجه الإضراب ببل، ولا للأمر الذى بدا لهم وكانوا يخفونه، وطنوا أن الذى بدا لهم العذاب؛ فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله: {مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قدَّروا مضافاً محذوفاً، وهو خبر {ما كانوا يخفون من قبل} فدخل عليهم أمرٌ آخرُ لا جواب لهم عنه، وهو أنَّ القوم لم يكونوا يُخفون شركهم وكفرهم، بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه، ولما علموا أنَّ هذا وارد عليهم قالوا: إنَّ القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه و{قالوا والله ربنا ما كنا مشركين}؛ فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه.
قال الواحدي: وعلى هذا أهل التفسير.
ولم يصنع أرباب هذا القول شيئاً؛ فإنَّ السياق والإضراب ببل والإخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذى ذكروه فتأمَّله.
وقالت طائفة منهم الزجاج: بل بدا للأتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، وفيه من التكلف ما ليس بخاف.
وأجود من هذا ما فهمه المبرّد من الآية، قال: " كأن كفرهم لم يكن باديا لهم إذْ خفيت عليهم مضرَّته ".
ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرَّة عاقبته ووباله؛ فكأنه كان خفياً عنهم لم تظهر لهم حقيقته؛ فلما عاينوا العذابَ ظهرت لهم حقيقته وشرّه.
قال: "وهذا كما تقول لمن كنت حدَّثته في أمر قبل: قد ظهر لك الآن ما كنتُ قلت لك، وقد كان ظاهراً له قبل هذا".
ولا يسهل أن يعبَّر عن كفرهم وشركهم الذي كانوا ينادون به على رؤوس الأشهاد، ويدعون إليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم، ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد وقَتْلَ النفوس والسعيَ في الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه.
فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وُقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون إلى الدنيا؛ فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله؛ فأخبر سبحانه أنَّ الأمر ليس كذلك، وأنهم ليس في طبائعهم وسجاياهم الإيمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب، وأنهم لو رُدّوا لكانوا بعد الردّ كما كانوا قبله، وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم أنهم لو رُدّوا لآمنوا وصدقوا.
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبيَّن معنى الإضراب ببل، وتبيَّن معنى الذي بدا لهم، والذى كانوا يخفونه، والحامل لهم على قولهم: " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا".
فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا في الدنيا على باطل، وأنَّ الرسلَ صَدَقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه، ولكنهم أخفوه ولم يُظهِروه بينَهم، بل تواصوا بكتمانه؛ فلم يكن الحامل لهم على تمني الرجوع والإيمان معرفةُ ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل؛ فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه، وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل، وأنَّ الرسلَ على الحق فعاينوا ذلك عياناً بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه؛ فلو رُدّوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان ولعادوا إلى الكفر والتكذيب؛ فإنهم لم يتمنوا الإيمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل، وإنما تمنّوا لما عاينوا العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله، وهذا كمن كان يُخفي محبة شخصٍ ومعاشرته وهو يعلم أنَّ حبَّه باطل وأنَّ الرشد في عدوله عنه؛ فقيل له: إنِ اطَّلع عليه وليُّه عاقبك، وهو يعلم ذلك ويكابر، ويقول بل محبته ومعاشرته هي الصواب؛ فلما أخذه وليّه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنَّى أن يُعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك، وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة العقوبة، بل بعد أن مسّته وأنهكته؛ فظهر له عند العقوبة ما كان يُخفي من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه، ولو رُدَّ لعاد لما نُهى عنه.
وتأمَّل مطابقةَ الإضراب لهذا المعنى، وهو نفيُ قولهم إنا لو رددنا لآمنَّا وصدَّقنا؛ لأنه ظهر لنا الآن أنَّ ما قاله الرسل هو الحق، أي ليس كذلك، بل كُنتم تعلمون ذلك وتعرفونه، وكنتم تخفونه؛ فلم يظهر لكم شيٌ لتكونوا عالمين به لتعذروا، بل ظهر لكم ما كان معلوماً وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه، والله أعلم.
ولا تستطلْ هذا الفصلَ المعترض في أثناء هذه المسألة فلعله أهمّ منها وأنفع، وبالله التوفيق).
7: قال الله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُم كَافِرُونَ}
- قال ابن القيم رحمه الله في كتابه "إغاثة اللهفان": (ولم يصب من قال: إن الآية على التقديم والتأخير، كالجرجانى، حيث قال: ينتظم قوله {في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بعد فصل آخر ليس بموضعه، على تأويل {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} في الحياة الدنيا{إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا}.
وهذا القول يروى عن ابن عباس رضى الله عنهما، وهو منقطع، واختاره قتادة وجماعة، وكأنهم لما أشكل عليهم وجه تعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا، وأن سرورهم ولذتهم ونعيمهم بذلك، فرّوا إلى التقديم والتأخير.
وأما الذين رأوا أن الآية على وجهها ونظمها فاختلفوا في هذا التعذيب، فقال الحسن البصري: يعذبهم بأخذ الزكاة منها والإنفاق في الجهاد، واختاره ابن جرير، وأوضحه؛ فقال: "العذاب بها إلزامهم بما أوجب الله عليهم فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يؤخذ منه ذلك، وهو غير طيب النفس، ولا راج من الله جزاء، ولا من الآخذ منه حمدا ولا شكرا، بل على صغار منه وكره".
وهذا أيضا عدول عن المراد بتعذيبهم في الدنيا بها، وذهاب عن مقصود الآية.
وقالت طائفة: تعذيبهم بها أنهم يتعرَّضون بكفرهم لغنيمة أموالهم، وسبي أولادهم فإن هذا حكم الكافر، وهم في الباطن كذلك.
وهذا أيضا من جنس ما قبله فإن الله سبحانه أقرَّ المنافقين، وعصم أموالهم وأولادهم بالإسلام الظاهر وتولى سرائرهم، فلو كان المراد ما ذكره هؤلاء لوقع مراده سبحانه من غنيمة أموالهم وسبى أولادهم، فإن الإرادة هاهنا كونية بمعنى المشيئة، وما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن.
والصواب، والله أعلم، أن يقال: تعذيبهم بها هو الأمر المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا ومحبيها ومؤثريها على الآخرة: بالحرص على تحصيلها، والتعب العظيم في جمعها ومقاساة أنواع المشاقّ في ذلك، فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه، وهو حريص بجهده على تحصيلها.
والعذاب هنا هو الألم والمشقة والتعب، كقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (( السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ)) وقوله: (( إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ )).
أي يتألم ويتوجع، لا أنه يعاقب بأعمالهم.
وهكذا من كانت الدنيا كلّ همه أو أكبر همه كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الحديث الذى رواه الترمذي وغيره من حديث أنس رضى الله عنه: (( مَنْ كانتِ الآخرَةُ همَّهُ جَعلَ اللهُ غِنَاهُ في قلبِهِ، وَجَمعَ لهُ شَمْلَهُ، وأَتتهُ الدنيا وهي راغمةٌ، ومَنْ كانتِ الدنيا هَمَّهُ جَعلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْن عَيْنيه، وفرَّق عليهِ شَمْلَهُ، ولمْ يأتهِ مِنَ الدنيا إِلا ما قُدِّرَ له)).
ومن أبلغ العذاب في الدنيا: تشتيت الشمل وتفرق القلوب، وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه، ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب، على أنَّ أكثرهم لا يزال يشكو أو يصرخ منه)ا.هـ.
التطبيقات:
استخرج مقاصد الآيات التاليات:
1: قول الله تعالى: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
2: قول الله تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) }
3: قول الله تعالى: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)}
4: قول الله تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
5: قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}