1: معنى الربّانيّ في قوله تعالى: {ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.
*مراجع البحث:
بالعودة إلى جمهرة التفاسير:
-[تفسير عبد الرزاق: 1/125]
-[تفسير الثوري: 78]
-[سنن سعيد بن منصور: 3/1061]
-[جزء تفسير عطاء الخراساني: 101]
-[جامع البيان: 5/526-531]
-[تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم: 2/690-693]
-[تفسير مجاهد: 130]
-[مجاز القرآن: 1/97]
-[غريب القرآن وتفسيره: 107]
-[معاني القرآن للزجاج: 1/435-436]
-[معاني القرآن للنحاس: 1/428-429]
-[تفسير المشكل من غريب القرآن: 50]
-[المحرر الوجيز: 2/265-270]
بالعودة إلى الموسوعة الشاملة:
-[صحيح البخاري: كتاب العلم: باب العلم قبل القول والعمل, دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي), الطبعة: الأولى، 1422هـ]
-[سنن الدارمي: المقدمة: باب في فضل العلم والعالم, دار البشائر (بيروت), الطبعة: الأولى، 1434هـ]
-[شعب البيهقي, مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند, الطبعة: الأولى، 1423 هـ]
-[جامع بيان العلم وفضله للقرطبي, دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية, الطبعة: الأولى، 1414 ه]
*استخلاص الأقوال وتصنيفها ونسبتها مع التخريج:
في الاختلاف الوارد في معنى قوله: " ربانيين" وجدت أقوالا اختلفت في اللفظ, ولكنها كانت قريبة جدا في المعنى, وبعضها يذكر المعنى, وبعضها يفسره ببعض لوازمه, وقد وضعت الأقوال التي تدور في فلك واحد تحت قول واحد, ولم أسرد من الأقوال إلا ما كان الاختلاف فيه واضحا أو فريدا يستحق أن يذكر كقول مستقل, وقد حاولت تصنيف الأقوال بطريقتي الخاصة, ولم أتبع في ذلك طرق المفسرين التي اختاروها, وذلك باستخلاص مدار القول وإن اختلفت عبارات أصحابه:
-القول الأول: مداره العلم والفقه والتعليم بما يلازم ذلك من حكمة وحلم ونحوهما. قال به أبو رزين, ورواه عبدالرزاق, والنهدي, وسعيد بن منصور, والطبري, وقال به عطاء الخراساني, ورواه الرملي, وقال به الحسن ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس ويحيى بن عقيل والضحاك, مما ورواه الطبري, وابن أبي حاتم, وقال به سعيد بن جبير, ورواه الدارمي.
+تخريج الأقوال:
قول أبو رزين: رواه عبدالرزاق في تفسيره, والنهدي في تفسير الثوري, وسعيد بن منصورفي سننه, والطبري في تفسيره, عن معمر عن منصور بن المعتمر عن أبي رزين, وذكروا قوله.
قول عطاء الخراساني: رواه الرملي في تفسير عطاء عن يوسف بن عديٍّ، قال: ثنا رشدين بن سعدٍ، عن يونس بن يزيد، عن عطاءٍ الخراساني, وذكر قوله.
قول الحسن: رواه الطبري في تفسيره عن يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن عوفٍ، عن الحسن، وذكر قوله.
ورواه الدارمي في سننه عن هارون بن معاوية عن حفص عن أشعث بن سوار عن الحسن, وذكر قوله.
قول مجاهد: رواه الطبري في تفسيره بعدة طرق:
-عن محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، وذكر قوله.
-عن المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله..
-عن القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني القاسم، عن مجاهدٍ, وذكر قوله.
قول قتادة: رواه الطبري في تفسيره عن بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، وذكر قوله.
قول السدي: رواه الطبري في تفسيره عن محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، وذكر قوله.
قول ابن عباس: رواه الطبري في تفسيره عن محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ, وذكر قوله.
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن يونس بن حبيبٍ، ثنا أبو داود، ثنا سليمان بن معاذٍ عن سماكٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ, وذكر قوله.
قول يحيى بن عقيل: رواه الطبري في تفسيره, قال: حدّثت عن المنجاب، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي حمزة الثّماليّ، عن يحيى بن عقيلٍ, وذكر قوله.
قول الضحاك: رواه الطبري في تفسيره عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضّحّاك، وذكر قوله.
ورواه الدارمي في سننه والقرطبي في جامع بيان العلم وفضله عن عن أبي عبد الله الخراساني عن الضحاك , وذكرا قوله.
قول سعيد بن جبير: رواه الدارمي في سننه والبيهقي في شعب الإيمان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير, وذكرا قوله.
-القول الثاني: مداره التقوى والعبودية بما يلازم ذلك من حكمة ونحوه. قال به سعيد بن جبير, ورواه الطبري, وأشار إليه الحسن, ورواه ابن أبي حاتم.
+تخريج الأقوال:
قول سعيد بن جبير: رواه الطبري في تفسيره عن يحيى بن طلحة اليربوعيّ، قال: حدّثنا فضيل بن عياضٍ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، وذكر قوله.
قول الحسن: رواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن الحسن بن أحمد، ثنا موسى بن محكمٍ، ثنا أبو بكرٍ الحنفيّ، ثنا عبّاد بن مصور قال: سألت الحسن..إلخ, وذكر قوله.
-القول الثالث: مداره ولاية أمور الناس وتربيتهم وتعليمهم. قال به ابن زيد, ورواه الطبري, وأشار إليه ابن عباس في رواية للطبري.
+تخريج الأقوال:
قول ابن زيد: رواه الطبري في تفسيره عن يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سمعت ابن زيدٍ، وذكر قوله.
قول ابن عباس: رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن الفضل العسقلانيّ، ثنا عليّ بن الحسن المروزيّ، ثنا إبراهيم بن رستم عن قيسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ, وذكر قوله.
*قول اللغة في معنى "ربانيين":
ولأن القرآن نزل باللغة العربية, ولأنها أحد المراجع المهمة في فهم آياته وتفسيرها, فإنني لم أشأ إغفال هذا الجانب, لما له من أثر في محاولة الترجيح ومعرفة القول الأصح, وسأستعرض رأي اللغة وقولها في معنى هذه المفردة في هذه الفقرة بإذن الله.
أولا: لفت نظري بالعودة إلى معناها اللغوي في التفاسير اللغوية القديمة أنها لم ترد كثيرا, ففي معاني القرآن للفراء لم يرد ذكرها, أما معمر بن المثنى في مجاز القرآن فقال صراحة :"لم يعرفوا ربانيين", كما أن بعض تفسيرات أهل اللغة المتأخرة فسرتها بأقوال السلف, ولم تتعرض لمعناها اللغوي, مما جعلني أقلل في بداية الأمر من أهمية بنائها اللغوي حتى عثرت على تفسيرات متينة مبنية على أصل المفردة وجذرها, والتي مالت بكفة بعض أقوال أهل التفسير وزادت من نسبة صحتها, وقد وقعت على خلاف طويل مفاده أن المفردة ليست بعربية بل سريانية, وقد آثرت عدم عرضه لضعف القول به, وذلك لوجود جذور عربية للكلمة كما سيتبين, ولكثرة الأقوال الواردة في تفسير اللفظة من قبل علماء لغويين مما يقطع الشك بأصول المفردة أنها عربية, ولكني أوردت لك هذا القول من باب الشمولية بعرض الأقوال والفائدة.
ثانيا: نسبة المفردة:
-قيل: أنها منسوبة إلى الرب من حيث هو العالم ما علمه، العامل بطاعته، المعلم للناس ما أمر به، وزيدت الألف والنون مبالغة كما قالوا، لحياني وشعراني في النسبة إلى اللحية والشعر. ذكره ابن عطية.
-وقيل: منسوبة إلى الربان وهو معلم الناس، وعالمهم السائس لأمرهم، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى، وزيدت فيه هذه النون كما زيدت في غضبان وعطشان، ثم نسب إليه رباني, ومنه قول علقمة بن عبدة:
وكنت امرأً أفضت إليك ربابتي = وقبلك ربّتني فضعت ربوب. ذكره الطبري وابن عطية.
ثالثا: تفسير علماء اللغة للمفردة:
-قال ابن المبارك اليزيدي في غريب القرآن وتفسيره: الربانيون: العلماء والحلماء.
-وقال الزجاج في معاني القرآن: الربانيون أرباب العلم والبيان، أي: كونوا أصحاب علم، وإنما زيدت الألف والنون للمبالغة في النسب، كما قالوا للكبير اللحية لحياني ولذي الجمة الوافرة جماني.
-وقال النحاس في معاني القرآن: معنى الرباني: العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم.
-وقال مكي بن أبي طالب في تفسير المشكل من غريب القرآن: (الربانيون) واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون.
*نقد الأقوال ودراستها وبيان الراجح منها:
-أولا: ضع في بالك أن الأقوال ليس فيما بينها أي تعارض أو تناقض, وإنما جاء بعضها مفسرا للكلمة, والبعض الآخر جاء بذكر لوازمها, ومحاولة الترجيح هنا ليست محاولة انتقاء واختيار بين متناقضين, بقدر ما هي محاولة جمع للأقوال, وتوضيح للتلازم بينها, ومحاولة لصياغة تفسير يجمع بين المعاني ويعطي المفردة حقها من المعاني التي تحملها.
-ثانيا: فيما يخص أقوال السلف فإن القول الثاني فيما يبدو لي ليس هو المراد بالآية بقدر ما إنه ملازم لمعناها, ومما يؤكد ذلك أن القائلين به قالوا كذلك بالقول الأول في روايات أخر, مما يؤكد لك أن ذكرهم لهذا القول كان على سبيل ذكر صفات "الرباني" لا محاولة حصر المعنى في ذلك القول.
-ثالثا: نأتي للقول الأول والذي يبدو لي أنه نال الشريحة الأكبر والأوسع من أقوال السلف, والذي هو بلا شك صحيح ومقصود بحد ذاته, وليس لدينا اعتراض عليه, إلا أن القول الثالث أجده أقرب في تحقيق معنى الرباني, والتي هي مفردة مبنية للمبالغة كما يتضح لنا من أقوال أهل اللغة, وكما يتبين لنا كذلك من نسبة الكلمة, والتي ذكروا أنها منسوبة إما للرب بالعلم به وتعليم الناس ما أمر به, أو الربان والذي هو سائس الناس ومعلمهم, وفي كلا الحالتين يتضح لك التأكيد على التعليم والتربية وقيادة الناس في ذلك, وأن مدار المفردة ليس فقط العلم والتعليم, وإنما أن يبلغ من علمه وفقهه والذي هو أساس "ربانيته" إلى هذه المرتبة الشريفة عبر تولي أمور الناس وتعليمهم, وأن يكونوا قدوة عملية لهم, ولذا نجد ابن زيد حينما قرأ: {لولا ينهاهم الرّبّانيّون والأحبار} قال: "الرّبّانيّون: الولاة، والأحبار: العلماء", ونجد البخاري يقول: " الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره"و قال مجاهدٌ عن الربانيين: "وهم فوق الأحبار، لأنّ الأحبار هم العلماء", وننقل عن الزجاج قولا له في ذلك, قال: "جاء في التفسير {كونوا ربّانيّين} أي: علماء فقهاء ليس معناه كما تعلمون فقط، ولكن ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدى العلماء والحكماء، لأن العالم إنما ينبغي أن يقال له عالم إذا عمل بعلمه، وإلا فليس بعالم، قال اللّه: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}", وهم بذلك يؤكدون على الفرق بين العالم والرباني الذي هو فوقه مرتبة, ولا شك عندي في هذا القول, لأن الله عز وجل سبق وأن ذكر العلم والعلماء, فلا يعقل أن يذكر الرباني ويكون مقصوده العالم فقط دون تمييز وزيادة تميزه عن العالم, هذا وكتابه البليغ المعجز, والبلاغة تقتضي التفريق بين المفردات وإحسان استعمالها فيما يناسبها, ولذا كذلك نجد الله قال بعدها :"بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون", فكأن الخطاب هو للعالم أصلا, وهو هنا يأمره بالترقي لمرتبة أعلى, وهي مرتبة "الربانية", وذلك بما اقتضاه علم العالم ودراسته, , فنقول:
-جماع القول وختامه:
ليس بين الأقوال التي ذكرناها تعارض, وإنما هي علاقة شمول وتوصيف, ويبدو لنا أن القول الثاني كان من باب ذكر لوازم الرباني, أما الأول فكان صفته الأساسية, والثالث كان الأدق في تحرير العبارة وتوضيح مفهوم "الرباني" وتضييقه لئلا يشمل كل عالم, ونجد أننا كلما تأخرنا تاريخيا, فإن أقوال المفسرين تزداد دقة وتحريرا في معنى "الرباني", وسنذكر تعريفا استسغناه وملنا إليه في تفسير هذا المفهوم وشرحه, قاله الطبري وأشار إلى مثله ابن عطية, ونختاره في ختام هذا المبحث في توضيح معنى الرباني, بعد أن ذكرنا أقوال السلف ووضحناها وذكرنا القول فيها:
" الرّبّانيّون هم عماد النّاس في الفقه والعلم وأمور الدّين والدّنيا، والرّبّانيّ: هو الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسّياسة والتّدبير والقيام بأمور الرّعيّة، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم".
والحمدلله رب العالمين..