ومِن ضميرِ الرفعِ ما يَسْتَتِرُ =كافْعَلْ أُوَافِقْ نَغْتَبِطْ إِذْ تَشْكُرُ(1)
يَنْقَسِمُ الضميرُ إلى مُسْتَتِرٍ وبَارِزٍ (2) والمُسْتَتِرُ إلى واجبِ الاستتارِ وجائِزِه، والمرادُ بواجبِ الاستتارِ: ما لا يَحِلُّ مَحَلَّه الظاهرُ، والمرادُ بجائزِ الاستتارِ: ما يَحِلُّ مَحَلَّهُ الظاهِرُ.
وذكَرَ المصنِّفُ في هذا البيتِ مِن المواضعِ التي يَجِبُ فيها الاستتارُ أربعةً:
الأوَّلُ: فِعْلُ الأمرِ للواحدِ المخاطَبِ، كافْعَلْ، التقديرُ: أنتَ، وهذا الضميرُ لا يَجُوزُ إبرازُه؛ لأنَّه لا يَحِلُّ مَحَلَّهُ الظاهِرُ، فلا تَقُولُ: افْعَلْ زَيْدٌ، فأَمَّا (افْعَلْ أَنْتَ) فأنتَ تأكيدٌ للضميرِ المُسْتَتِرِ في (افْعَلْ)، وليسَ بفاعلٍ لافْعَلْ؛ لِصِحَّةِ الاستغناءِ عنه، فتقولُ: افْعَلْ، فإنْ كانَ الأمرُ لواحدةٍ أو لاثنيْنِ أو لجماعةٍ بَرَزَ الضميرُ، نحوُ: اضْرِبِي واضْرِبَا واضْرِبُوا واضْرِبْنَ.
الثاني: الفعلُ المضارِعُ الذي في أوَّلِهِ الهمزةُ، نحوُ: (أُوَافِقُ)، والتقديرُ: أنا، فإنْ قُلْتَ (أُوَافِقُ أنا) كانَ (أنا) تأكيداً للضميرِ المُستتِرِ.
الثالثُ: الفعلُ المضارِعُ الذي في أوَّلِه النونُ، نحوُ: (نَغْتَبِطُ)؛ أي: نحنُ.
الرابِعُ: الفِعْلُ المضارِعُ الذي في أوَّلِه التاءُ لخِطَابِ الواحدِ، نحوُ: (تَشْكُرُ)؛ أي: أنتَ، فإنْ كانَ الخِطَابُ لواحدةٍ أو لاثنيْنِ أو لجماعةٍ بَرَزَ الضميرُ، نحوُ: أنتِ تَفْعَلِينَ، وأنتما تَفْعَلاَنِ، وأنتم تَفْعَلُونَ، وأَنْتُنَّ تَفْعَلْنَ.
هذا (3) ما ذَكَرَه المُصَنِّفُ مِن المواضعِ التي يجبُ فيها استتارُ الضميرِ، ومثالُ جائزِ الاستتارِ: زيدٌ يقومُ؛ أي: هو، وهذا الضميرُ جائزُ الاستتارِ؛ لأنَّه يَحِلُّ مَحَلَّه الظاهرُ، فتقولُ: زَيْدٌ يَقُومُ أبوه، وكذلك كلُّ فِعْلٍ أُسْنِدَ إلى غائبٍ أو غائبةٍ، نحوُ: هِنْدٌ تَقُومُ، وما كانَ بمعناه؛ نحوُ: زيدٌ قائمٌ؛ أي: هو.
([1]) (مِن ضَمِيرِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، وضميرِ مضافٌ، و(الرَّفْعِ) مضافٌ إليه، (مَا) اسمٌ موصولٌ مبتدأٌ مؤخَّرٌ، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعٍ، (يَسْتَتِرُ) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى ما، والجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ صِلَةُ ما، (كافْعَل) الكافُ جارَّةٌ لقولٍ محذوفٍ، والجارُّ والمجرورُ يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ خبرٍ لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: وذلكَ كائنٌ كقولِكَ. وافْعَلْ: فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُه أنتَ، (أُوَافِقْ) فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ في جوابِ الأمرِ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه أنا، (نَغْتَبِطْ) بَدَلٌ مِن أُوَافِقْ، (إذ) ظرفٌ وُضِعَ للزمنِ الماضِي، ويُسْتَعْمَلُ مجازاً في المستقبَلِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بقولِه: (نَغْتَبِطْ) مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبٍ، (تَشْكُرُ) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه أنتَ، والجملةُ في محلِّ جرٍّ بإضافةِ إذ إليها.
([2]) المنقسِمُ هو الضميرُ المتَّصِلُ، لا مُطْلَقُ الضميرِ، والمرادُ بالضميرِ البارِزِ ما له صُورةٌ في اللفظِ حقيقةً، نحوُ: التاءِ والهاءِ في أَكْرَمْتُهُ، والياءِ في ابْنِي، أو حُكماً؛ كالضميرِ المتَّصِلِ المحذوفِ مِن اللفظِ جوازاً في نحوِ قولِكَ: جاءَ الذي ضَرَبْتُ؛ فإنَّ التقديرَ: جاءَ الذي ضَرَبْتُهُ، فحُذِفَتِ الهاءُ من اللفظِ وهي مَنْوِيَّةٌ؛ لأنَّ الصلةَ لا بُدَّ لها من عائدٍ يَرْبُطُها بالموصولِ، ومِن هنا تَعْلَمُ أنَّ البارزَ يَنْقَسِمُ إلى قِسميْنِ: الأوَّلُ: المذكورُ, والثاني: المحذوفُ.
والفرقُ بينَ المحذوفِ والمُسْتَتِرِ من وجهيْنِ:
الأوَّلُ: أن المحذوفَ يُمْكِنُ النطقُ به، وأمَّا المُسْتَتِرُ فلا يُمْكِنُ النطقُ به أصلاً، وإنَّما يَسْتَعِيرُونَ له الضميرَ المنفصِلَ ـ حِينَ يقولون: مُسْتَتِرٌ جوازاً تقديرُه هو، أو يقولون: مُسْتَتِرٌ وجوباً تقديرُه أنا أو أنتَ ـ وذلكَ لقصدِ التقريبِ على المتعلِّمينَ، وليسَ هذا هو نفسَ الضميرِ المُسْتَتِرِ على التحقيقِ.
والوجهُ الثاني: أنَّ الاستتارَ يَخْتَصُّ بالفاعلِ الذي هو عُمْدَةٌ في الكلامِ، وأمَّا الحذفُ فكثيراً ما يَقَعُ في الفَضَلاَتِ، كما في المفعولِ به في المثالِ السابقِ، وقد يَقَعُ في العُمَدِ في غيرِ الفاعلِ؛ كما في المبتدأِ، وذلك كثيرٌ في العربيَّةِ، ومِنه قولُ سُوَيْدِ بنِ أبي كاهِلٍ اليَشْكُرِيِّ، في وصفِ امرئٍ يُضْمِرُ بُغْضَه:
مُسْتَسِرُّ الشَّنْءِ لَوْ يَفْقِدُنِي لَبَدَا مِنْهُ ذُبَابٌ فَنَبَعْ
يريدُ: هو مُسْتَسِرُّ البُغْضِ، فحَذَفَ الضميرَ؛ لأنَّه معروفٌ يَنْسَاقُ إلى الذِّهْنِ، ومثلُ ذلكَ أكثرُ مِن أنْ يُحْصَى في كلامِ العربِ.
([3]) وبَقِيَتْ مواضِعُ أُخْرَى يَجِبُ فيها استتارُ الضميرِ:
الأوَّلُ: اسمُ فِعْلِ الأمرِ، نحوُ: صَهْ، ونَزَالِ. ذَكَرَه في (التسهيلِ).
والثاني: اسمُ فعلِ المضارِعِ، نحوُ: أُفٍّ وأَوْهِ. ذَكَرَه أبو حَيَّانَ.
والثالثُ: فِعْلُ التعجُّبِ، نحوُ: ما أَحْسَنَ مُحَمَّداً.
والرابعُ: أَفْعَلُ التفضيلِ، نحوُ: مُحَمَّدٌ أفضلُ مِن عَلِيٍّ.
والخامسُ: أفعالُ الاستثناءِ، نحوُ: قَامُوا ما خَلا عَلِيًّا، أو ما عَدَا بكراً، أو لا يكونُ مُحَمَّداً. زادَهَا ابنُ هِشامٍ في (التوضيحِ) تَبَعاً لابنِ مالكٍ في بابِ الاستثناءِ مِن التسهيلِ، وهو حقٌّ.
السادسُ: المصدرُ النائبُ عن فعلِ الأمرِ، نحوُ قولِ اللهِ تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، وأمَّا مرفوعُ الصفةِ الجاريَةِ على مَن هي له فجائزُ الاستتارِ قطعاً، وذلكَ نحوُ: (زيدٌ قائمٌ) ألا تَرَى أنَّكَ تقولُ في تركيبٍ آخرَ: (زيدٌ قائمٌ أَبُوه) وقد ذَكَرَه الشارحُ في جائزِ الاستتارِ، وهو صحيحٌ، وكذلكَ مرفوعُ نِعْمَ وبِئْسَ، نحوُ: (نِعْمَ رَجُلاً أبو بَكْرٍ، وبِئْسَتِ امرأةً هِنْدٌ) وذلكَ لأنكَ تقولُ في تركيبٍ آخرَ: (نِعْمَ الرجلُ زيدٌ، وبِئْسَتِ المرأةُ هِنْدٌ).