تَناقُضُ أهْلِ التفويضِ
قولُه : وهؤلاءِ الذين يَنْفُون التأويلَ مُطْلَقًا ، ويَحتَجُّون بقولِه تعالى : }وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ{ قد يَظُنُّونَ أنَّا خُوطِبْنَا في القرآنِ بما لا يَفْهَمُه أحَدٌ, أو بما لا مَعْنَى له ، أو بما لا يُفْهَمُ منه شيءٌ ، وهذا مع أنه باطِلٌ فهو مُتَناقِضٌ؛ لأنَّا إذا لم نَفْهَمْ شيئًا لم يَجُزْ أن نقولَ : له تأويلٌ يُخالِفُ الظاهِرَ, ولا يُوافِقُه لإمكانِ أن يكونَ له معنًى صحيحٌ ، وذلك أنَّ المعنى الصحيحَ لا يُخالِفُ الظاهِرَ المعلومَ لنا فإنه لا ظاهِرَ له على قولِهم ، فلا تكونُ دَلالتُه على ذلك المعنى دَلالةً على خِلافِ الظاهِرِ فلا يكونُ تأويلاً ، ولا يَجوزُ دَلالتُه على مَعانٍ لا نَعْرِفُها على هذا التقديرِ ، فإنَّ تلك المعانِيَ التي دَلَّ عليها قد لا نكونُ عارفينَ بها, ولأنَّا إذا لم نَفْهَم اللفظَ ومدلولَه المرادَ فلأنْ لا نَعْرِفَ المعانِيَ التي لم يَدُلُّ عليها اللفظُ أَوْلَى ؛ لأنَّ إشعارَ اللفظِ بما يُرادُ به أَقْوَى من إشعارِه بما لا يُرادُ به ، فإذا كان اللفظُ لا إشعارَ له بمعنًى من المعاني ، ولا يُفْهَمُ منه معنًى أصْلاً لم يكنْ مُشْعِرًا بما أُريدَ به ، فلأنْ لا يكونَ مُشْعِرًا بما لم يُرَدْ به أَوْلَى فلا يَجوزُ أن يُقالَ : إنَّ هذا اللفظَ مُؤَوَّلٌ ، بمعنى أنه مَصروفٌ عن الاحتمالِ الراجِحِ إلى الاحتمالِ المرجوحِ ، فَضْلاً عن أن يقالَ : إنَّ هذا التأويلَ لا يَعْلَمُه إلا اللهُ ، اللَّهُمَّ إلا أن يُرادَ بالتأويلِ ما يخالِفُ الظاهِرَ الْمُخْتَصَّ بالخلْقِ ، فلا ريبَ أنَّ مَن أرادَ بالظاهِرِ هذا لا بدَّ وأن يكونَ له تأويلٌ يُخالِفُ ظاهِرَه ).
التوضيحُ
ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ هنا بُطلانَ قولِ الْمُفَوِّضَةِ: إنَّ في القرآنِ ما لا يَفْهَمُه إلا اللهُ, أو ما لا معنَى له ، وقد سَبَقَ ذلك في أوَّلِ القاعدةِ عندَ ذِكْرِ الأَدِلَّة الدالَّةِ على فَهْمِنا للمعنى, وإنما المقصودُ هنا بيانُ شيءٍ من تَناقُضِهم .
وقد سَبَقَ في الفِقرةِ السابقةِ بيانُ وجهٍ من تَناقُضِهم ، فأَخَّرْتُه هنا حتى يَلْحَقَ بنظائرِه ، ويَظْهَرَ تَناقُضُهم من وجوهٍ :
الوجهُ الأوَّلُ : في الفِقرةِ السابقةِ وهو أنَّ الآيةَ أَثْبَتَتْ تأويلاً يَعْلَمُه اللهُ, وهم يقولون: التأويلُ باطلٌ ، فَيَحْتَجُّونَ بالآيةِ التي أَثْبَتَت التأويلَ على بُطلانِ التأويلِ مُطْلَقًا, والوجوهُ الأخرى فيها شيءٌ من التَّدَاخُلِ, فأَجْتَهِدُ في ترتيبِها كما يَلِي :
الوجهُ الثاني : عندَ قولِه : " لأننا إذا لم نَفْهَمْ منه شيئًا .."
أي أننا إذا لم نَفْهَمْ من هذه النصوصِ أيَّ معنًى لم يَجُزْ أن نقولَ : إنَّ لها تأويلاً يُخالِفُ الظاهِرَ أو يُوافِقُه؛ لأنه قد يكونُ الظاهِرُ هو معناها الصحيحَ ، فنَفْيُ العلْمِ بالمعنى مع نَفْيِ الظاهِرِ تَناقُضٌ .
الوجهُ الثالثُ : عندَ قولِه: ( فإنه لا ظاهِرَ له على قولِهم ...)
أي: أنَّ ما لا يُفْهَمُ منه شيءٌ فالمفروضُ أنه لا ظاهِرَ له أَصْلاً؛ لأنه لا معنَى له, والظاهِرُ والمؤَوَّلُ إنما هما فَرْعَانِ عن المعنى ، فإن لم يكنْ له ظاهِرٌ كان المعنى الذي نُثْبِتُهُ غيرَ مخالِفٍ للظاهِرِ, فلا يكونُ تأويلاً أصلاً .
الوجهُ الرابعُ : أننا إذا لم نَفْهَم اللفظَ ومدلولَه المرادَ فمِن بابِ أَوْلى ألاَّ نَعْرِفَ المعانِيَ التي لم يَدُلَّ عليها اللفظُ ؛ لأنَّ دَلالةَ اللفظِ بما يُرادُ به أَوْلَى من دَلالتِه على ما لا يُرادُ به ، فإذا كان اللفظُ لا دَلالةَ له على معنًى من المعاني, ولا يُفهَمُ منه معنًى أَصْلاً لم يكنْ مُشْعِرًا بما أُرِيدَ به, فعَدَمُ إشعارِه بما لم يُرَدْ به أَوْلَى ، فلا يَجوزُ أن يُقالَ : هذا اللفظُ مُتَأَوَّلٌ, أي: مصروفٌ عن ظاهِرِه فَضْلاً عن أن يُقالَ: إنَّ تأويلَه لا يَعْلَمُه إلا اللهُ ، إلا إن أَرادَ أنَّ ظاهِرَه التمثيلُ فإنه لا بدَّ أن يكونَ له تأويلٌ يخالِفُ ظاهِرَه ، و إن كُنَّا لا نَعتقدُ أنَّ ظاهِرَ النصوصِ التمثيلُ كما سَبَقَ في القاعدةِ الثالثةِ .
خُلاصَةُ هذا الإلزامِ : إنه لا يَجوزُ له أن يقولَ : إنَّ هذا اللفظَ بعينِه غيرُ مُرادٍ أو لا يَعْلَمُ تأويلَه إلا اللهُ ، لعَدَمِ الدليلِ المعيَّنِ عليه ولعَدَمِ دَلالةِ اللفظِ على قولِه هذا ، واللهُ أَعْلَمُ .
خُلاصَةُ إلزامِ أهْلِ التفويضِ
قولُه : ( لكن إذا قالَ هؤلاءِ : إنه ليس لها تأويلٌ يُخالِفُ الظاهِرَ ، أو إنها تَجْرِي على المعاني الظاهِرةِ منها : كانوا متَناقِضِينَ ، وإن أَرَادُوا بالظاهِرِ هنا معنًى, وهناك معنًى في سياقٍ واحدٍ من غيرِ بيانٍ كان تَلْبِيسًا ، و إن أرادوا بالظاهِرِ مُجَرَّدَ اللفظِ الذي يَظْهَرُ من غيرِ فَهْمٍ لمعناه كان إبطالُهم للتأويلِ أو إثباتُه تَناقُضًا ؛ لأنَّ مَن أَثْبَتَ تأويلاً أو نَفَاهُ فقد فَهِمَ معنًى من المعاني .
وبهذا التقسيمِ يَتَبَيَّنُ تَناقُضُ كثيرٍ من الناسِ من نُفَاةِ الصِّفاتِ ومُثْبِتِيهَا في هذا البابِ) .
التوضيحُ
وهؤلاءِ المفَوِّضَةُ لا يَخْلُو حالُهم من ثلاثةِ احتمالاتٍ :
إذا قالوا: ليس لها تأويلٌ يُخالِفُ الظاهِرَ أو تَجْرِي على ظاهِرِها وَقَعُوا في التَناقُضِ الواضحِ ؛ لأنَّ قولَهم تَجْرِي على ظاهِرِها يعني: أنه مُرادٌ ، ثم قولُهم السابقُ إنَّ لها تأويلاً لا يَعْلَمُه إلا اللهُ يعني أنه غيرُ مُرادٍ ، وهذا التَّناقُضُ خاصٌّ بالطائفةِ الثانيةِ من الْمُفَوِّضَةِ .
وإن أَرَادُوا بالظاهِرِ في قولِهم: تَجْرِي على ظاهِرِها معنًى, وهو ( ما يَلِيقُ باللهِ ), و في قولِهم بِنَفْيِ الظاهِرِ, أي: ( التمثيلِ بالمخلوقينَ ) كان قولُهم هذا تَلْبِيسًا؛ لأنهم اسْتَخْدَموا الظاهِرَ مَرَّةً بمعنى اللائقِ باللهِ ، ومَرَّةً بمعنى التمثيلِ دونَ بيانٍ للمقصودِ ، وهذا إن كان القائلُ واحدًا ، وهذا ما عليه غالِبُ الأشاعرةِ فإنهم يقولون في نصوصِ الصِّفاتِ السبْعِ تَجْرِي على ظاهِرِها وفي غيرِها كالنصوصِ الدالَّةِ على صِفةِ الوجْهِ واليدينِ يقولون: الظاهِرُ غيرُ مُرادٍ .
وإن أَرَادُوا بالظاهِرِ مُجَرَّدَ اللفظِ من غيرِ معنًى كان إبطالُهم للتأويلِ أو إثباتُه تَناقُضًا ؛ لأنَّ إثباتَ التأويلِ أو نَفْيَه فَرْعٌ عن فَهْمِ المعنى كما سَبَقَ ، واللهُ أَعْلَمُ .
و من خِلالِ هذه القاعدةِ وبيانِ التأويلِ وأقسامِه يَظْهَرُ تَناقُضُ كثيرٍ من الطوائفِ كنُفاةِ الصِّفاتِ من الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ ومُثْبِتِي بعضِها كالأشاعرةِ والْمَاتُرِيدِيَّةِ في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ .
خُلاصَةُ القاعدةِ الخامسةِ
نَعْلَمُ ما أَخْبَرَنا اللهُ به من جِهةِ المعنى, ونَجْهَلُه من جِهةِ الكيفيَّةِ .
لا يَعْلَمُ حقيقةَ المُتَشَابِهِ إلا اللهُ, وإن كان أهْلُ العلْمِ يَعْلَمون معناه .
للتأويلِ ثلاثةُ معانٍ :
الأوَّلُ : التفسيرُ والبيانُ .
الثاني: حقيقةُ الشيءِ .
الثالثُ: صَرْفُ اللفظِ عن ظاهِرِه لدليلٍ يَقْتَرِنُ به .
أهلُ الشريعةِ أَعْلَمُ بتأويلِ النصوصِ من أهْلِ اللغةِ .
فائدةُ الاتِّفاقِ في المعنى العامِّ بينَ الغائبِ والشاهِدِ فَهْمُ الْخِطابِ .
أَسماءُ اللهِ تعالى ليست مَحصورةً بعَدَدٍ .
أسماءُ اللهِ تعالى مُترادِفَةٌ في دَلالتِها على الذاتِ, مُتَبَايِنَةٌ في دَلالتِها على الصِّفاتِ .
الإحكامُ العامُّ في القرآنِ بمعنى الإتقانِ ، والتَّشَابُهُ العامُّ بمعنى تصديقِ بعضِه ببعضٍ, وهما مُتلازِمانِ .
الإحكامُ الخَاصُّ ضِدُّ التَّشَابُهِ الخَاصِّ, وهما أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ .
عامَّةُ ما وَقَعَ من الضَّلالِ من جِهةِ المُتَشَابِهِ .
طريقُ الهدايةِ الجمْعُ بينَ المُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ .
مَذْهَبُ أهلِ التفويضِ مَذْهَبٌ باطِلٌ متَناقِضٌ مُخالِفٌ لطريقةِ السلَفِ .
المُنَاقَشَةُ
اشْرَحْ مضمونَ القاعدةِ الخامسةِ ؟
اذْكُر الأَدِلَّةَ الْمُؤَيِّدَةَ للقاعدةِ ؟
على مَن يُرَدُّ بهذه القاعدةِ ؟
اذْكُر الخِلافَ في تأويلِ المُتَشَابِهِ ؟
اذْكُرْ معاني التأويلِ ، مع التمثيلِ لكلِّ نوعٍ ؟
ما شُروطُ التأويلِ الصحيحِ ؟
ما فائدةُ الاتِّفاقِ بينَ معاني الغائبِ مع معاني الشاهِدِ ؟
هل أسماءُ اللهِ تعالى مَحصورةٌ بعَدَدٍ أمْ لا ؟
هل أسماءُ اللهِ مُترادِفَةٌ أَمْ مُتَبَايِنَةٌ ؟
عَرِّفْ كُلًّا من المُحْكَمِ العامِّ والخَاصِّ . والمُتَشَابِهِ العامِّ والخَاصِّ ؟
اذْكُرْ أمْثِلَةً لطوائفَ ضَلَّتْ من جِهةِ المُتَشَابِهِ ؟
اذْكُرْ مَذْهَبَ أَهْلِ وَحْدَةِ الوُجودِ ، وأَمْثِلَةً لأقوالِهم ؟
عَرِّفْ ما يَلِي : الْحُلولَ – الاتِّحادَ – وَحْدَةَ الوُجودِ ، مع بيانِ أنواعِها ؟
ما الفَرْقُ بينَ المشترَكِ الكلِّيِّ والمشترَكِ اللفظيِّ ؟
ما أسبابُ ذَمِّ السلَفِ لتأويلاتِ الجَهْمِيَّةِ ؟
اذكُرْ أسماءً لبعضِ كُتُبِ السلَفِ في الرَّدِّ على الجَهْمِيَّةِ ؟
اذْكُرْ حقيقةَ مَذْهَبِ أَهْلِ التفويضِ وَجِهَةَ الغَلَطِ عندَهم, وشيئًا من تَناقُضِهم, وخُلاصَةَ إلزامِهم ؟