بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
مُقَدِّمَةٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ
لِمَاذَا نَطْلُبُ علْمَ الْحَدِيثِ؟
نَطْلُبُ علْمَ الْحَدِيث:
1-لأنه أَشْرَفُ العُلومِ.
2-ولأنَّ أَهْلَه هُم الذين أَصْبَحُوا مَصابيحَ الدُّجَى، فلو نَظَرْنَا إلى الأَئِمَّةِ الأربعةِ نَجِدُ أنَّ ثلاثةً مِنهم مِمَّنِ اشْتَهَروا بالْحَدِيثِ.
فالإمامُ مالِكٌ كتابُه (الْمُوَطَّأُ) مَليءٌ بالأحاديثِ.
والإمامُ الشافعيُّ كِتابُه (الأُمُّ) مَليءٌ بالأحاديثِ التي يَسُوقُها بسَنَدِهِ، وهكذا كتابُه (الرِّسالةُ)، وقامَ أحَدُ تَلاميذِهِ، فألَّفَ مُسْنَداً للشافعيِّ استَخْلَصَه مِن الأحاديثِ التي يَرْوِيهَا في كُتُبِه، وأَصْبَحَ الكتابُ مَشهوراً بمسْنَدِ الشافعيِّ، وهذا كتابُ (السُّنَنِ).
وأمَّا الإمامُ أحمدُ فَهُوَ قِمَّةُ أهْلِ الْحَدِيثِ، ولا يُعْرَفُ أنَّ الإمامَ أحمدَ كَتَبَ حَرْفاً واحداً في الفِقْهِ، مع العلْمِ أنه مَحسوبٌ في عِدَادِ الفُقهاءِ، وكان يَنْهَى تَلاميذَه عن كِتابةِ الرَّأْيِ، ويَحُثُّهُم على كِتابةِ الْحَدِيثِ.
فضْلُ أهلِ الْحَدِيثِ:
هُمُ الذينَ جَهَّزُوا الْجِهازَ، وأَعَدُّوا الْعُدَّةَ لكُلِّ مَن أَرادَ أنْ يَخْدُمَ عُلومَ الإسلامِ على شَتَّى صُنُوفِها؛ فالْمُفَسِّرُ لا يَسْتَغْني عن الْحَدِيثِ، والفقيهُ لا يَستغنِي عن الْحَدِيثِ، والأُصُولِيُّ لا يَستغنِي عن الْحَدِيثِ، والمؤَرِّخُ لا يَستغنِي عن الْحَدِيثِ.
بل لا يَستغنونَ عن مُصطَلَحِ الْحَدِيثِ؛ فالمفَسِّرُ يُفَسِّرُ القرآنَ:
-بكتابِ اللهِ، وبسُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
- ثم بأقوالِ الصحابةِ.
- ثم بأقوالِ التابعينَ.
فلو نَظَرْنَا إلى ما جاءَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما جاءَ عن الصَّحابةِ، وإذا به لا بُدَّ أن يكونَ مَرْوِيًّا بالسنَدِ، وهكذا السنَدُ إمَّا أنْ يَصِحَّ، وإمَّا أن لا يَصِحَّ؛ فإنْ صَحَّ السنَدُ فلا يُمْكِنُ الحكْمُ على الْحَدِيثِ، أو الأَثَرِ بالصِّحَّةِ؛ إلا مِن إجراءِ علْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.
ولو مُيِّزَتِ الأحاديثُ والآثارُ صحيحُها مِن سَقِيمِها، لتَقَلَّصَتْ دائرةُ الخِلافِ إلى حَدٍّ كبيرٍ جِدًّا؛ لأنَّ ما لا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو إلى أصحابِه، أو إلى تابِعِيٍّ، هو الذي يُشَكِّلُ كَثيراً مِن الخِلافِ دائماً.
بدايةُ التأليفِ في عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ:
1-الإمامُ مسلِمٌ في (مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ) وهي مِن أوائلِ ما كُتِبَ في علْمِ مصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، لكنها لم تَشْمَلْ جميعَ الجوانِبِ، وإنما شَمِلَتْ جوانبَ عَديدةً، وهي بصِفَةِ النقْلِ بالسنَدِ عن الأَئِمَّةِ لبَعْضِ قَواعدِ الْمُصْطَلَحِ؛ فمَثلاً عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ في مناقَشَتِهِ للطَّالقَانِيِّ في الْحَدِيثِ الذي ذُكِرَ في الصدَقَةِ، والصيامِ وغيرِ ذلك:
قالَ له عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ: يا أبا إسحاقَ، عَمَّنْ هذا؟
قالَ: قلتُ له: هذا مِن حديثِ شِهابِ بنِْ خِرَاشٍ.
فقالَ: ثِقَةٌ: عَمَّنْ؟
قالَ: قلتُ: عن الْحَجَّاجِ بنِ دِينارٍ.
قالَ: ثِقَةٌ: عمَّنْ؟
قالَ: قلتُ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: يا أبا إسحاقَ، إنَّ بينَ الْحَجَّاجِ وبينَ دِينارٍ وبينَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَفَاوِزَ تُقْطَعُ فيها أعناقُ الْمَطِيِّ.
ولكن ليس في الصَّدَقَةِ اختلافٌ؛ فهو يُبَيِّنُ في هذا الأَثَرِ ضَرورةَ اتِّصالِ السنَدِ.
وذلك كلامُه في عَبَّادِ بنِ كثيرٍ، وذلك أنَّ عبدَ اللهِ بنَ المبارَكِ قالَ: قلتُ لسُفيانَ الثَّوْرِيِّ: إنَّ عبَّادَ بنَ كثيرٍ مَن تَعْرِفُ حالَه، وإذا حَدَّثَ جاءَ بأَمْرٍ عظيمٍ، فتَرَى أن أقولَ للناسِ: لا تَأْخُذُوا عنه؟
قالَ سُفيانُ: بلى.
قالَ عبدُ اللهِ: فكنتُ إذا كنتُ في مَجْلِسٍ ذُكِرَ فيه عَبَّادٌ أَثْنَيْتُ عليه في دِينِهِ، وأقولُ: لا تَأْخُذُوا عنه. (مسلم 1/17).
2-الإمامُ التِّرْمِذِيُّ، سواءٌ في كتابِه (العِلَلُ) ، أو في تَعقيباتِه على بعضِ الأحاديثِ، كلُّ ذلك يُعتَبَرُ مِن القواعِدِ في الاصْطِلاَحِ.
ومِن أَمْثِلَةِ ذلك:وَصْفُهُ الْحَدِيثَ الحسَنَ في آخِرِ كتابِه (الجامعُ) بقولِه: والحسَنُ عندَنا: كلُّ حديثٍ يُرْوَى لا يكونُ في إسنادِه مَن يُتَّهَمُ بالكَذِبِ، ولا يكونُ الْحَدِيثُ شاذًّا، ويُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ.(تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ 10/519).
3-عبدُ الرحمنِ بنُ خَلاَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ، وهو أوَّلُ مَن أَفْرَد علْمَ المصْطَلَحِ بالتصنيفِ في كتابِه (الْمُحَدِّثُ الفاصِلُ بينَ الرَّاوِي والوَاعِي) ، الْمُتَوَفَّى سنةَ 360هـ.
4-أبو عبدِ اللهِ الحاكمُ، في كتابِه (مَعْرِفَةُ علومِ الْحَدِيثِ) ، وقد بَسَطَ الأمورَ أكثرَ مِن الرَّامَهُرْمُزِيِّ.
5-أبو نُعيمٍ الأَصْبَهَانِيُّ، فقد عَمِلَ مُسْتَخْرَجاً على كتابِ الحاكِمِ.
6-الخطيبُ الْبَغْدَادِيُّ،وهو الذي خَدَمَ علْمَ المصطَلَحِ خِدْمَةً لا مَثيلَ لها، وقَلَّ أنْ يكونَ بابٌ في الْمُصْطَلَحِ؛ إلا وللخطيبِ البَغْدَادِيِّ فيه تَصنيفٌ مُسْتَقِلٌّ.
7-ابنُ الصَّلاَحِ،وقد أَلَّفَ كِتاباً مَشهوراً عُرِفَ (بِمُقَدِّمَةِ ابنِ الصلاحِ) وهو الذي أَصْبَحَ عُمدةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَه؛ لأنه جَمَعَ أنواعَ عُلومِ الْحَدِيثِ وجَعَلَها على أنواعٍ، وتَكَلَّمَ على كلِّ نَوْعٍ، فكلُّ مَن جاءَ بعدَه فهو: إمَّا مُخْتَصِرٌ، أو ناظِمٌ، أو شارِحٌ لنَظْمٍ، أو شارحٌ لاختصارٍ.
فمَثلاً النَّوَوِيُّ -رَحِمَه اللهُ- اختَصَرَ (مُقَدِّمَةَ ابنِ الصلاحِ) في كتابِه (التقريبُ)، ثم جاءَ بعدَه السُّيُوطِيُّ فشَرَحَ التقريبَ في (تَدْرِيبُ الرَّاوِي) .
والعراقيُّ-رَحِمَه اللهُ- نَظَمَ مَنْظُومَةً في (مُقَدِّمَةِ ابنِ الصلاحِ) المعروفةََ (بأَلْفِيَّةِ العراقيِّ) ، ثم شَرَحَ هذه الْمَنظومةَ في كتابِه (فَتْحُ الْمُغِيثِ) .
وللعراقيِّ تَقْيِيداتٌ على ابنِ الصلاحِ في كتابٍ سَمَّاهُ (التقييدُ والإيضاحُ) .
ثم جاءَ بعدَه ابنُ حَجَرٍ؛ فوَجَدَ أنَّ هنالِكَ بعضَ الاِسْتِدْرَاكَاتِ على ابنِ الصلاحِ وعلى شَيْخِه العراقيِّ؛ فأَلَّفَ كتابَه (النُّكَتُ) .
كتابُ (نُخْبَةِ الفِكَرِ) للحافظِ ابنِ حَجَرٍ: هذا الكتابُ على تَبْوِيبِ ابنِ الصلاحِ مع التقديمِ، والتأخيرِ الذي عَمِلَهُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ اجتهاداً منه، وهي تُشَكِّلُ عُصَارَةَ ذِهْنِ الحافظِ ابنِ حَجَرٍ في اختيارِه الراجِحَِ مِن الأقوالِ في مَسائلِ المصطَلَحِ، حتى ولو كان فيها شيءٌ مِن الخِلافِ.
-وشَرَحَ هذه النُّخْبَةَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في كتابِه (نُزْهَةُ النَّظَرِ) ، وهو شرْحٌ مُوجَزٌ جَيِّدٌ، ومِن أفْضَلِ الطَّبْعَاتِ التي طُبِعَ بها الكتابُ ما حَقَّقَها الشيخُ عليُّ بنُ حسنِ بنِ عبدِ الحميدِ، وتَتَمَيَّزُ هذه الطبعةُ بضَبْطِها.
(1)قولُه: (الْحَمْدُ للهِ) وذلك لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَفْتَتِحُ خُطَبَه وكلامَه دائماً بقولِه:
((إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ... إلخ))، فهذا يَدُلُّ على مَشروعِيَّةِ الافتتاحِ بالحمْدِ.
(2)قَوْلُه: (أَمَّا بعدُ: فإنَّ التصانيفَ في اصطلاحِ أهْلِ الْحَدِيثِ قد كَثُرَتْ وبُسِطَتْ واخْتُصِرَتْ) يَقْصِدُ -رَحِمَه اللهُ- ما أُلِّفَ مِن الكُتُبِ الْمُتقدِّمَةِ التي سَبَقَ الكلامُ عنها.
(3)قَـْولُه: (فَسَأَلَنِي بعضُ الإِخوانِ أنْ أُلَخِّصَ له الْمُهِمَّ مِن ذلك، فأَجَبْتُهُ إلى سؤالِه؛ رَجاءَ الاِندراجِ في تلك الْمَسَالِكِ) فمِن جُملةِ مَن سَأَلَ الحافظَ ابنَ حَجَرٍ: الزَّرْكَشِيُّ، وهو أحَدُ تلاميذِه.
(4)قولُه: (فأقولُ: الْخَبَرُ).
تعريفاتٌ:
أ-تعريفُ الْحَدِيثِ: ما رُوِيَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن قولٍ، أو فعْلٍ، أو تَقريرٍ، أو صِفةٍ خَلْقِيَّةٍ أو خُلُقِيَّةٍ، أو سِيرةٍ.
ب -تعريفُ الخبرِ: له ثلاثُةُ تَعريفاتٍ:
1-مِن العُلماءِ مَن قالَ: إِنَّ الخبَرَ مُرَادِفٌ للحديثِ؛ أيْ: أنَّ الخبَرَ: ما يُرْوَى عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مِن قَوْلٍ، أو فِعْلٍ، أو تَقريرٍ، أو صِفَةٍ خَلْقِيَّةٍ أو خُلُقِيَّةٍ، أو سِيرةٍ.
2-ومِن العُلماءِ مَن قالَ: الخبَرُ أعَمُّ مِن الْحَدِيثِ؛فالْحَدِيثُ: ما جاءَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والخبَرُ: ما جاءَ عنه وعن غَيْرِه، وعليه فكلُّ حديثٍ خَبَرٌ، وليس كلُّ خَبَرٍ حَديثاً.
3-مِن العُلماءِ مَن قالَ: الْحَدِيثُ ما يُرْوَى عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
والخبرُ:ما يُرْوَى عن غيرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعلى هذا فهو مُغَايِرٌ للحديثِ.
ج -تعريفُ الأثَرِ: له تَعريفانِ:
1-مِن العُلماءِ مَن قالَ: إنه مُرَادِفٌ للحديثِ.
2-مِن العُلماءِ مَن قالَ: الأثَرُ هو ما يُرْوَى عن الصَّحَابِيِّ والتابعيِّ فَقَطْ.
(5)قولُه: (إمَّا أن يكونَ له طُرُقٌ) المرادُ بالطرُقِ:
الأسانيدُ.
تعريفُ الإسنادِ:ذَكَرَ العُلماءُ له تَعريفينِ:
1-ما ذَكَرَهُ الحافظُ في (شَرْحِ النُّخْبَةِ) : هو حِكايةُ طريقِ الْمَتْنِ.
بمعنى: عَزْوُ الْحَدِيثِ إلى قائلِه مُسْنَداً، (إلى قائلِهِ) يعني: النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
2-الإسنادُ هو: سِلسلةُ رِجالِ الإسنادِ الْمُوصِلَةُ إلى الْمَتْنِ.
وبهذا التعريفِ يكونُ تعريفُ الإسنادِ والسَّنَدِ بمعنًى واحدٍ.
فالسنَدُ:هو سِلسلةُ رِجالِ الإسنادِ الْمُوصِلَةُ إلى الْمَتْنِ.
تعريفُ الْمَتْنِ:هو ما يَنْتَهِي إليه السنَدُ مِن الكلامِ.
والخبرُ أَيًّا كانَ سواءٌ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو عمَّنْ قَبْلَه، أو عن الصَّحَابَةِ، أو عن التابعينَ- إمَّا أنْ يَرِدَنَا بإسنادٍ، أو بلا إسنادٍ.
وإذا كان ليس له إسنادٌ؛ فهذا لا يَهْتَمُّ به الْمُحَدِّثُونَ.
وإذا كان له إسنادٌ، فإمَّا أنْ يكونَ له إسنادٌ واحدٌ، أو إسنادانِ، أو له أكثَرُ مِن إِسْنَادَيْنِ؛ ثلاثةٌ فأَكْثَرَ، وهذه الكَثرةُإمَّا أن تكونَ مَحصورةً بعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، أو ليستْ مَحصورةً بعَدَدٍ مُعَيَّنٍ.