دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > ألفية العراقي

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #4  
قديم 26 ذو الحجة 1429هـ/24-12-2008م, 05:51 PM
مسلمة 12 مسلمة 12 غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,159
افتراضي فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي

بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ

مَعرِفةُ مَنْ تُقبلُ رِوايتُهُ ومَنْ تُرَدُّ
أَجْمَعَ جُمهورُ أَئِمَّةِ الأَثَرْ والفِقْهِ في قَبولِ ناقِلِ الخبَرْ
بأنْ يكونَ ضابِطاً مُعَدَّلا أيْ يَقِظاً ولم يَكنْ مُغَفَّلا
يَحْفَظُ إنْ حَدَّثَ حِفْظاً يَحْوِي كِتَابُهُ إنْ كانَ منهُ يَرْوِي
يَعلَمُ ما في اللفْظِ مِن إِحَالَهْ إنْ يَرْوِ بالمعنَى وفي العَدَالَهْ
بأنْ يكونَ مُسْلِماً ذا عَقْلِ قد بَلَغَ الْحُلْمَ سَليمَ الفِعْلِ
مِن فِسْقٍ اوْ خَرْمِ مُروءةٍ ومَنْ زَكَّاهُ عَدلانِ فعَدْلٌ مُؤْتَمَنْ

(مَعرفةُ) صفةِ (مَنْ تُقبلُ رِوايَتُهُ) مِنْ نَقَلَةِ الأخبارِ (ومَنْ تُرَدُّ)، وما التَحَقَ بذلكَ سِوى ما تَقَدَّمَ مِنْ قَبولِ الضعيفِ إذا اعتُضِدَ، والْمُدَلِّسِ إذا صَرَّحَ، وما سيأتِي مِنْ قَبولِ الْمُتَحَمِّلِ في حالِ كُفْرِهِ أوْ فِسْقِهِ، والأعمَى ونحوِهِ، والمختَلِطِ قَبْلَ اختلاطِهِ، وغيرِ ذلكَ.
وذِكْرُهُ بعدَ مَباحثِ الْمَتْنِ وما التَحَقَ بهِ مُناسِبٌ، وفيهِ فُصولٌ:
الأوَّلُ: (أجْمَعَ جُمهورُ أئمَّةِ الأَثَرْ)؛ أي: الحديثِ، (والفقْهِ) والأُصولِ، (في)؛ أيْ: على، (قَبولِ ناقلِ الخبرْ)؛ أي: الحديثِ المُحْتَجِّ بهِ بانفرادِهِ؛ ليَخْرُجَ الحسَنُ لغيرِهِ، بشرْطِ (أنْ يكونَ ضابطاً مُعَدَّلاً، أَيْ)، ولكلٍّ منهما شروطٌ:
فأمَّا شروطُ أَوَّلِهما الذي تَنكيرُهُ شَمِلَ التامَّ والقاصرَ، فهيَ أنْ يكونَ الرَّاوِي (يَقِظاً) بضمِّ القافِ وكسْرِها، (وَ) ذلكَ بأنْ (لم يَكُنْ مُغَفَّلاً) لا يُمَيِّزُ الصوابَ مِن الخطأِ؛ كالنائمِ والساهِي؛ إذ الْمُتَّصِفُ بها لا يَحْصُلُ الركونُ إليهِ، ولا تَميلُ النفْسُ إلى الاعتمادِ عليهِ، وأنْ يكونَ (يَحفظُ)؛ أيْ: يُثْبِتُ ما سَمِعَهُ في حِفْظِهِ بحيثُ يَبْعُدُ زوالُهُ عن القُوَّةِ الحافظةِ، ويَتمكَّنُ مِن استحضارِهِ متى شاءَ.
(إنْ حدَّث حِفْظاً)؛ أيْ: مِنْ حفْظِهِ، (ويَحوِي كتابُهُ)؛ أيْ: يَحتوِي عليهِ، ويَصُونُهُ عنْ تَطَرُّقِ التزويرِ والتغييرِ إليهِ، مِنْ حينِ سَمِعَ فيهِ إلى أنْ يُؤَدِّيَ، (إنْ كانَ منهُ يَروِي)، وأنْ يكونَ (يَعلمُ مَا في اللفظِ مِنْ إحالَهْ)، بحيثُ يُؤمَنُ مِنْ تَغييرِ ما يَرويهِ، (إنْ يَرْوِ بالمعنَى) ولم يُؤَدِّ الحديثَ كما سَمِعَهُ بحروفِهِ، على ما سيأتي بيانُهُ في بابِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ.
وهذه الشروطُ مَوجودةٌ في كلامِ الشافعيِّ في الرسالةِ صريحاً، إلاَّ الأوَّلَ، فيُؤخذُ مِنْ قولِهِ: " أنْ يكونَ عاقلاً لِمَا يُحَدِّثُ بهِ "، لقولِ ابنِ حِبَّانَ: " هوَ أنْ يَعْقِلَ مِنْ صناعةِ الحديثِ ما لا يَرفعُ مَوقوفاً، ولا يَصِلُ مُرْسَلاً، أوْ يُصَحِّفُ اسماً، فهذا كِنايَةٌ عن اليَقَظةِ".
وقدْ ضَبَطَ ابنُ الأثيرِ الضبْطَ في مُقَدِّمَةِ جامِعِهِ بما لم يَتقيَّدُوا بهِ، فقالَ: " هوَ عبارةٌ عن احتياطٍ في بابِ العلْمِ، ولهُ طَرفانِ: العلْمُ عندَ السماعِ، والحفْظُ بعدَ العلْمِ عندَ التكَلُّمِ، حتَّى إذا سَمِعَ ولم يَعْلَمْ لم يَكُنْ مُعْتَبَراً، كما لوْ سَمِعَ صِياحاً لا معنى لهُ، وإذا لم يَفهم اللفظَ بمعناهُ لم يَكُنْ ضَبْطاً، وإذا شكَّ في حِفظِهِ بعدَ العلْمِ والسماعِ لم يكنْ ضَبطاً ".
قالَ: " ثمَّ الضبطُ نَوعانِ: ظاهرٌ وباطنٌ، فالظاهرُ ضَبْطُ معناهُ مِنْ حيثُ اللغةُ، والباطنُ ضَبْطُ معناهُ مِنْ حيثُ تَعَلُّقُ الحكْمِ الشرعِيِّ بهِ، وهوَ الفقهُ، ومُطْلَقُ الضبطِ الذي هوَ شرْطٌ في الراوي هوَ الضبْطُ ظاهراً عندَ الأكثرِ؛ لأنَّهُ يَجوزُ نقْلُ الخبرِ بالمعنى، فيَلْحَقُهُ تُهمةُ تَبديلِ المعنى بروايتِهِ قبلَ الحفْظِ، أوْ قبلَ العلْمِ حينَ سَمِعَ، ولهذا المعنى قُلْتُ: الروايَةُ عنْ أكثرِ الصحابةِ؛ لتَعَذُّرِ هذا المعنى ". قالَ: " وهذا الشرْطُ وإنْ كانَ على ما بَيَّنَّا، فإنَّ أصحابَ الحديثِ قَلَّمَا يَعتبِرُونَهُ في حقِّ الطفلِ دُونَ الْمُغَفَّلِ؛ فإنَّهُ مَتَّى صَحَّ عندَهم سماعُ الطفْلِ أوْ حُضورُهُ أَجَازُوا رِوايتَهُ. والأوَّلُ أَحْوَطُ للدِّينِ وأَوْلَى " انتهى.
وحاصِلُهُ اشتراطُ كونِ سَماعِهِ عندَ التحمُّلِ تامًّا، فيَخرجُ مَنْ سَمِعَ صوتَ غُفْلٍ، وكونِهِ حينَ التأديَةِ عارفاً بِمَدلولاتِ الألفاظِ، ولا انحصارَ لهُ في الثاني عندَ الجمهورِ؛ لاكتفائِهم بضَبْطِ كتابِهِ، ولا في الأوَّلِ عندَ المُتَأَخِّرينَ خاصَّةً؛ لاعتدادِهم بسماعِ مَنْ لا يَفهمُ العربيَّ أصْلاً كما سيأتي كلُّ ذلكَ.
وقولُهُ: " لِتَعَذُّرِ هذا المعنى "؛ أيْ: عندَ ذاكَ الصحابِيِّ نفْسِهِ؛ لخوفِهِ مِنْ عدَمِ حفْظِهِ وعدَمِ تَمَكُّنِهِ في الإتيانِ بكلِّ المعنى، وهذا منهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَوَرُّعٌ واحتياطٌ، ولقدْ كانَ بعضُهم تَأخذُهُ الرِّعدةُ إذا رَوَى، ويقولُ: ونَحْوٌ أوْ قَريبٌ مِنْ ذَا، وما أَشْبَهَ ذلكَ.
(وَ) أمَّا الشروطُ (في العدالةِ) الْمُتَّصِفِ بها الْمُعَدَّلُ، وضابطُها إجمالاً أنَّها مَلَكَةٌ تَحمِلُ على مُلازَمَةِ التقوى والْمُروءةِ، والمرادُ بالتقوى اجتنابُ الأعمالِ السَّيِّئَةِ مِنْ شِرْكٍ أوْ فِسقٍ أوْ بِدعةٍ، فهيَ خَمسةٌ، (بِأَنْ)؛ أيْ: أنْ، (يكونَ مُسلِماً) بالإجماعِ (ذا عَقْلِ)، فلا يكونُ مَجنوناً، سواءٌ المُطْبِقُ والمُتَقَطِّعُ إذا أَثَّرَ في الإفاقةِ.
(قدْ بَلَغَ الْحُلْمَ) بضمِّ المُهمَلةِ وسكونِ اللامِ؛ أي: الإنزالَ في النومِ، والمرادُ البلوغُ بهِ أوْ بنحوِهِ كالْحَيْضِ، أوْ باستكمالِ خمسَ عشرةَ سنةً؛ إذْ هوَ مَناطُ التكليفِ، (سليمَ الفِعْلِ مِنْ فِسقٍ)، وهوَ ارتكابُ كبيرةٍ أوْ إصرارٍ على صغيرةٍ، (أوْ)؛ أيْ: وسليمَ الفعْلِ مِنْ (خَرْمِ مُروءةٍ)، على أنَّهُ قد اعْتُرِضَ على ابنِ الصَّلاحِ في إدراجِهِ آخِرِها في الْمُتَّفَقِ عليهِ، وقيلَ: إنَّهُ لم يَشْرِطْها، فيما ذكَرَ الخطيبُ وغيرُهُ، سِوَى الشافعيِّ وأصحابِهِ، لكنَّهُ مَردودٌ بأنَّ العدالةَ لا تَتِمُّ عندَ كلِّ مَنْ شَرَطَها - وهم أكثرُ العُلماءِ - بِدُونِها، بلْ مَنْ لم يَشرِطْ مَزيداً على الإسلامِ، واكتفَى بعدَمِ ثُبُوتِ ما يُنافِي العدالةَ، وأنَّ مَنْ ظَهَرَ منهُ ما يُنافِيهَا لم تُقبلْ شَهادتُهُ ولا رِوايتُهُ، قدْ لا يُنَافِيهِ.
نعمْ قدْ حَقَّقَ المَاوَرْدِيُّ أنَّ الذي تَجَنُّبُهُ منها شَرْطٌ في العدالةِ، وارتكابُهُ مُفْضٍ إلى الفِسقِ: ما سَخُفَ مِن الكلامِ الْمُؤذي والضَّحِكِ، وما قَبُحَ مِن الفعلِ الذي يَلْهُو بهِ ويُسْتَقْبَحُ بِمَعَرَّتِهِ، كَنَتْفِ اللحيَةِ وخِضابِها بالسوادِ، وكذا البولُ قائماً، يعني في الطريقِ، وبحيثُ يَراهُ الناسُ، وفي الماءِ الراكدِ، وكَشْفُ العَورةِ إذا خَلا، والتحَدُّثُ بمساوِئِ الناسِ.
وأمَّا ما ليسَ بشرْطٍ فكعَدمِ الإفضالِ بالماءِ والطعامِ، والمساعدةِ بالنَّفْسِ والجَاهِ، وكذا الأَكْلُ في الطريقِ، وكَشْفُ الرأسِ بينَ الناسِ، والمشْيُ حَافِياً، ويُمكنُ أنْ يكونَ هذا مَنشأَ الاختلافِ، ولكِنْ في بعضِ ما ذَكَرَهُ مِن الشِّقَّيْنِ نَظَرٌ.
وما أحسَنَ قولَ الزِّنجانيِّ في شرْحِ (الوجيزِ): " الْمُروءةُ يُرجَعُ في مَعرِفَتِها إلى العُرْفِ، فلا تَتعلَّقُ بِمُجَرَّدِ الشرْعِ، وأنتَ تَعلمُ أنَّ الأمورَ العُرفيَّةَ قَلَّمَا تُضبَطُ، بلْ هيَ تَختلفُ باختلافِ الأشخاصِ والبُلدانِ، فَكَمْ مِنْ بلَدٍ جَرَتْ عادةُ أهلِهِ بِمُباشَرَةِ أُمُورٍ لوْ باشَرَها غيرُهم لَعُدَّ خَرْماً للمُروءةِ.
وفي الجُمْلَةِ رِعايَةُ مَناهجِ الشرْعِ وآدابِهِ، والاهتداءُ بالسَّلَفِ، والاقتداءُ بهم أَمْرٌ واجبُ الرعايَةِ ".
قالَ الزَّركشيُّ: " وكأنَّهُ يُشيرُ بذلكَ إلى أنَّهُ ليسَ المُرادُ سِيرةَ مُطلَقِ الناسِ، بل الذينَ يُقْتَدَى بهم "، وهوَ كما قالَ، ثمَّ إنَّ اشتراطَ البُلوغِ مِن الذي عليهِ الجمهورُ، وإلاَّ فقدْ قَبِلَ بعضُهم رِوايَةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الموثوقِ بهِ، ولِذَا كانَ في المسألةِ لأَصحابِنا وَجْهَانِ، قَيَّدَهُما الرافعيُّ وتَبِعَهُ النوويُّ بالْمُراهِقِ، معَ وَصْفِ النوويِّ لِلقَبُولِ بالشذوذِ.
وقالَ الرافعيُّ في مَوضعٍ آخَرَ: " وفي الصَّبِيِّ بعدَ التمييزِ وَجْهَانِ كما في روايَةِ أخبارِ الرسولِ، واختَصَرَهُ النوويُّ بالصبيِّ الْمُمَيِّزِ، ولا تَناقُضَ، فَمَنْ قَيَّدَ بالمراهِقِ عَنَى المُمِيِّزَ، والصحيحُ عدَمُ قَبولِ غيرِ البالغِ، وهوَ الذي حَكاهُ النَّوَوِيُّ عن الأَكثرينَ.
وحكى في (شرْحِ المُهَذَّبِ) تَبَعاً للمُتَوَلِّي عن الجمهورِ قَبولَ أخبارِ الصبيِّ المميِّزِ فيما طَريقُهُ المشاهَدَةُ، بخِلافِ ما طريقُهُ النقلُ؛ كالإِفْتَاءِ وروايَةِ الأخبارِ ونحوِهِ، وإليهِ أشارَ شيخُنا بقولِهِ: " وقَبِلَ الجمهورُ أخبارَهم إذا انْضَمَّتْ إليها قَرينةٌ " انتهى.
أمَّا غيرُ الْمُمَيِّزِ فلا يُقبلُ قَطْعاً، وكذا لم يَشترِطُوا في عدْلِ الروايَةِ الْحُرِّيَّةَ، بلْ أَجْمَعوا - كما حَكَاهُ الخطيبُ - على قَبولِ روايَةِ العبدِ بالشروطِ المذكورةِ، وأجازَ شَهادتَهُ جماعةٌ مِن السلَفِ، ولكنَّ الجمهورَ في الشهادةِ على خِلافِهِ، وهوَ ممَّا افْتَرَقَا فيهِ كما افْتَرَقَا في مسألةِ التزكيَةِ الآتيَةِ بعدُ، وقدْ نَظَمَ ذلكَ شيخُنا فقالَ:
العدْلُ مِنْ شَرْطِهِ الْمُروءةُ والْـ إسلامُ والعقلُ والبلوغُ مَعَا
يُجانِبُ الفسْقَ رَاوياً ومَتَى يَشهدُ فحُرِّيَّةٌ تُضَفْ تَبَعَا
ولا الذُّكُورةُ، خِلافاً لِمَا نَقَلَهُ الماورديُّ في (الحاوِي) عنْ أبي حَنيفةَ قالَ: واسْتَثْنَى أخبارَ عائشةَ وأُمِّ سَلَمَةَ، وأَما مَنْ شرَطَ في الروايَةِ العددَ كالشهادةِ، فهوَ قولٌ شاذٌّ مُخالِفٌ لِمَا عليهِ الْجُمهورُ، وكما أَسْلَفْتُهُ في مَراتِبِ الصحيحِ، بلْ تُقْبَلُ روايَةُ الواحدِ إذا جَمَعَ أوصافَ القَبولِ، وأدِلَّةُ ذلكَ كثيرةٌ شَهيرةٌ.
أو كَوْنُ الراوي فَقيهاً عالِماً كأبي حَنيفةَ؛ حيثُ شَرَطَ فِقْهَ الراوِي إنْ خالَفَ القياسَ وغيرَهُ، حيثُ قَصَرَهُ على الغريبِ.
فَكُلُّهُ خِلافُ ما عليهِ الجمهورُ، وحُجَّتُهم قولُ اللَّهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآيَةَ، فمُقتضاهُ أنْ لا يُتَثَبَّتَ في غيرِ خبرِ الفاسقِ ولوْ لم يَكُنْ عالِماً.
وفي قولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا)) الحديثَ، أَقْوَى دليلٍ على ذلكَ؛ لأنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لم يُفَرِّقْ، بلْ صَرَّحَ بقولِهِ: ((فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)).
وكذا مَنْ شَرَطَ عدَمَ عَمَاهُ، أوْ كونَهُ مَشهوراً بسماعِ الحديثِ، أوْ معروفَ النَّسَبِ، أوْ أنْ لا يُنكِرَ راوي الأصلِ رِوايَةَ الفرْعِ عنهُ على وَجْهِ النِّسيانِ أَيْضاً.
الثاني: فيما تُعرفُ بهِ العدالةُ مِنْ تَزكيَةٍ وغيرِها، (ومَنْ زَكَّاهُ)؛ أيْ: عَدَّلَهُ في رِوايتِهِ، (عَدلانِ فهوَ عَدْلٌ مُؤْتَمَنٌ) بفَتْحِ الميمِ؛ أي: اتِّفاقاً.
وصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ بالواحِدِ جَرحاً وتَعديلاً خِلافَ الشاهِدِ
وصَحَّحُوا استغناءَ ذِي الشُّهْرَةِ عَنْ تَزْكِيَةٍ كمالِكٍ نَجْمِ السُّنَنْ
ولابْنِ عبدِ الْبَرِّ كُلُّ مَن عُنِي بِحَمْلِهِ العلْمَ ولم يُوَهَّنَا
فإنَّهُ عدْلٌ بِقَوْلِ الْمُصْطَفَى "يَحْمِلُ هذا العلْمَ" لَكِنْ خُولِفَا
(وصُحِّحَ اكتفاؤُهم)؛ أيْ: أئمَّةُ الأثَرِ فيها، (بـ)ـقَوْلِ العدْلِ (الواحدِ جَرْحاً وتَعديلاً)؛ أيْ: مِنْ جِهةِ الجرْحِ والتعديلِ (خِلافَ)؛ أيْ: بخِلافِ، (الشاهِدِ)، فالصحيحُ عدَمُ الاكتفاءِ بهِ فيهِ بدُونِ اثنَيْنِ؛ لأنَّهُ إنْ كانَ الْمُزَكِّي للراوِي ناقلاً عنْ غيرِهِ فهوَ مِنْ جُملةِ الأخبارِ، أوْ كانَ اجتهاداً مِنْ قِبَلِ نفْسِهِ فهوَ بمنزلةِ الحاكمِ، وفي الحالَيْنِ لا يُشترَطُ العددُ، والفَرْقُ بينَهما ضِيقُ الأمرِ في الشهادةِ؛ لِكَوْنِها في الحقوقِ الخاصَّةِ التي يُمْكِنُ الترافُعُ فيها، وهيَ مَحَلُّ الأغْرَاضِ بخِلافِ الروايَةِ؛ فإنَّها في شيءٍ عامٍّ للناسِ غالباً لا تَرافُعَ فيهِ.
ونَحْوُهُ قولُ ابنِ عبدِ السلامِ: " الغالبُ مِن المسلمينَ مَهابةُ الكذِبِ على النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، بخِلافِ شَهادةِ الزُّورِ "، ولأنَّهُ قدْ يَنفرِدُ بالحديثِ واحدٌ، فَلَوْ لم يُقْبَلْ لفاتَت الْمَصلَحَةُ، بخِلافِ فَواتِ حَقٍّ واحدٍ في المُحاكَماتِ؛ ولأنَّ بينَ الناسِ إِحَناً وعَداواتٍ تَحْمِلُهم على شَهادةِ الزُّورِ بخِلافِ الروايَةِ.
والقولُ الثاني: اشتراطُ اثنَيْنِ في الروايَةِ أيضاً، حكاهُ القاضي أبو بكرٍ الباقِلاَّنيُّ عنْ أكثرِ الفُقهاءِ مِنْ أهلِ المدينةِ وغيرِهم؛ لأنَّ التزكيَةَ صِفةٌ، فتَحتاجُ في ثُبوتِها إلى عَدْلَيْنِ كالرُّشْدِ والكفاءةِ وغيرِهما، وقِياساً على الشاهدِ بالنِّسْبَةِ لِمَا هوَ الْمُرَجَّحُ فيها عندَ الشافعيَّةِ والمالِكِيَّةِ، بلْ هوَ قولُ محمَّدِ بنِ الحسَنِ، واختارَهُ الطَّحَاويُّ، وإلاَّ فَأَبُو عُبيدٍ لا يَقبلُ في التزكيَةِ فيها أقَلَّ مِنْ ثلاثةٍ متَمَسِّكاً بحديثِ قَبِيصَةَ فِيمَنْ تَحِلُّ لهُ الْمَسألةُ: ((حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى فَيَشْهَدُونَ لَهُ)). قالَ: وإذا كانَ هذا في حَقِّ الحاجةِ فغَيْرُها أَوْلَى، ولكنَّ المُعْتَمَدَ الأوَّلُ، والحديثُ فمَحْمُولٌ على الاستحبابِ فيمَنْ عُرِفَ لهُ مَالٌ قبلُ.
وممَّنْ رَجَّحَ الحُكْمَ كذلكَ في البابَيْنِ الفخرُ الرازيُّ، والسيفُ الآمِدِيُّ، ونَقَلَهُ هوَ وابنُ الحاجبِ عن الأكثرينَ، ولا تُنافِيهِ الحكايَةُ الماضيَةُ للتسويَةِ عن الأكثرينَ؛ لِتَقْييدِها هناكَ بالفُقهاءِ.
وممَّن اختارَ التَّفرقةَ أيضاً الخطيبُ وغيرُهُ، وكذا اختارَ القاضي أبو بكرٍ بعدَ حكايَةِ ما تَقَدَّمَ الاكتفاءَ بواحدٍ، لكنْ في البابَيْنِ معاً، كما نُقِلَ عنْ أبي حَنيفةَ وأبي يُوسُفَ في الشاهِدِ خاصَّةً، وعبارتُهُ: والذي يُوجِبُهُ القياسُ وُجوبُ قَبولِ تَزكيَةِ كلِّ عدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى، حُرٍّ أوْ عبْدٍ، لِشَاهِدٍ ومُخْبِرٍ؛ أيْ: عارفٍ بما يَجِبُ أنْ يكونَ عليهِ العدْلُ، وما بهِ يَحْصُلُ الْجَرْحُ، كما اقتضاهُ أوَّلُ كلامِهِ الذي حَكاهُ الخطيبُ عنهُ، وهوَ ظاهِرٌ، واستثنَى تَزكيَةَ المرأةِ في الحُكْمِ الذي لا تُقْبَلُ شَهادتُها فيهِ، كُلُّ ذلكَ بعدَ حِكايتِهِ عنْ أكثرِ الفقهاءِ مِنْ أهلِ المدينةِ وغيرِهم عدَمَ قَبولِ تَزكيَةِ النساءِ مُطْلَقاً في البابَيْنِ.
وكذا أَشارَ لِتَخصيصِ تَزكيَةِ العبدِ بالروايَةِ لِقَبُولِهِ فيها دُونَ الشهادةِ، ولكنَّ التعميمَ في قَبولِ تَزكيَةِ كلِّ عدْلٍ؛ لأنَّها - كما قالَ الطحاويُّ - خبرٌ ولَيْسَتْ شَهادةً، صَرَّحَ بهِ أيضاً صاحبُ (المحصولِ) وغيرُهُ مِنْ تَقييدٍ.
وقالَ النوويُّ في (التقريبِ): يُقبلُ - أيْ: في الروايَةِ - تَعديلُ العبْدِ والمرأةِ الْعَارِفَيْنِ، ولم يَحْكِ غيرَهُ.
قالَ الخطيبُ في (الكِفايَةِ): الأصلُ في هذا البابِ سؤالُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ في قِصَّةِ الإفكِ بَرِيرَةَ عنْ حالِ عائشةَ أُمِّ المؤمنينَ رَضِيَ اللَّهُ عنها، وجوابُها لهُ، يعني الذي تَرْجَمَ عليهِ البخاريُّ في صحيحِهِ: تَعديلَ النساءِ بَعْضِهِنَّ بعضاً.
ولا تُقبلُ تَزكيَةُ الصبِيِّ المراهِقِ، ولا الغلامِ الضابطِ جَزْماً، وإن اختُلِفَ في رِوايَتِهما؛ لأنَّ الغلامَ وإنْ كانتْ حالُهُ ضَبْطَ ما سَمِعَهُ، والتعبيرَ عنهُ على وَجهِهِ، فهوَ غيرُ عارِفٍ بأحكامِ أفعالِ الْمُكَلَّفِينَ، وما بهِ منها يكونُ العدْلُ عَدْلاً، والفاسقُ فاسقاً، فذلكَ إنَّما يَكْمُلُ لهُ الْمُكَلَّفُ، وأيضاً فَلِكَوْنِهِ غيرَ مُكَلَّفٍ لا يُؤْمَنُ منهُ تَفسيقُ العدْلِ وتعديلُ الفاسقِ، ولا كذلكَ المرأةُ والعبدُ، فافترَقَ الأمرُ فيهما، قالَهُ الخطيبُ.
(وصَحَّحُوا) كما هوَ مَذهبُ الشافعيِّ، وعليهِ الاعتمادُ في أصولِ الفِقهِ، ومَشَى عليهِ الخطيبُ، ممَّا تَثْبُتُ بهِ العدالةُ أيضاً، (استغناءَ ذِي الشُّهرةِ) ونَباهةِ الذِّكْرِ بالاستقامةِ والصِّدْقِ، معَ البصيرةِ والفهْمِ، وهوَ الاستقامةُ.
(عنْ تَزكيَةٍ) صريحةٍ (كمالِكٍ)، هوَ ابنُ أنَسٍ، (نَجْمِ السُّنَنْ) كما وَصَفَهُ بهِ إمامُنا الشافعيُّ رحِمَهما اللَّهُ، وكَشُعْبَةَ ووَكيعٍ وأحمدَ وابنِ مَعينٍ، ومَنْ جَرَى مَجراهُم، فهؤلاءِ وأمثالُهم كما قالَ الخطيبُ - وقدْ عَقَدَ باباً لذلكَ في كِفايتِهِ - لا يُسْأَلُ عنْ عَدالَتِهم، وإنَّما يُسألُ عنْ عَدالةِ مَنْ كانَ في عِدادِ المجهولينَ، أوْ أَشكَلَ أمْرُهُ على الطَّالِبِينَ.
وساقَ بسَنَدِهِ أنَّ الإمامَ أحمدَ سُئلَ عنْ إسحاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ، فقالَ: مِثلُ إسحاقَ يُسْأَلُ عنهُ؟ إسحاقُ عندَنا إمامٌ مِنْ أئمَّةِ المسلمينَ. وأنَّ ابنَ مَعينٍ سُئلَ عنْ أبي عُبيدٍ، فقالَ: مِثلِي يُسألُ عنهُ؟ هوَ يُسألُ عن الناسِ. وعن ابنِ جابرٍ أنَّهُ قالَ: لا يُؤخذُ العلْمُ إلاَّ ممَّنْ شُهِدَ لهُ بالطلَبِ، وفي روايَةٍ عن ابنِ مِسْهَرٍ: إلاَّ عنْ جَليسِ العالِمِ؛ فإنَّ ذلكَ طَلَبُهُ.
قالَ الخطيبُ: أرادَ أنَّ مَنْ عُرِفَتْ مُجالَسَتُهُ للعُلماءِ أوْ أَخْذُهُ عنهم أَغْنَى ظُهورُ ذلكَ عنْ أَمْرِهِ عنْ أنْ يُسألَ عنْ حالِهِ. وعن القاضِي أبي بكرِ بنِ الباقِلاَّنيِّ أنَّهُ قالَ: الشاهدُ والمُخْبِرُ إنَّما يَحتاجانِ إلى التزكيَةِ متَى لم يَكُونَا مَشهورَيْنِ بالعدالةِ والرِّضَى، وكان أَمْرُهما مُشْكِلاً مُلْتَبِساً، ومُجَوَّزاً فيهِ العدالةُ وغيرُها.
قالَ: والدليلُ على ذلكَ أنَّ العلْمَ بظُهورِ سِتْرِهما؛ أي: المَسْتُورِ مِنْ أمْرِهما، واشتهارِ عدالَتِهما أَقْوَى في النفوسِ مِنْ تَعديلِ واحدٍ أو اثنَيْنِ يَجوزُ عليهما الكَذِبُ والمُحَابَاةُ في تَعديلِهِ، وأغراضٌ داعيَةٌ لهما إلى وَصْفِهِ بغيرِ صِفتِهِ، وبالرجوعِ إلى النفوسِ يُعْلَمُ أنَّ ظُهورَ ذلكَ مِنْ حالِهِ أَقْوَى في النفْسِ مِنْ تَزكيَةِ المُعَدِّلِ لهما، فصَحَّ بذلكَ ما قُلْنَاهُ، قالَ: ويَدُلُّ على ذلكَ أيضاً أنَّ نِهايَةَ حالةِ تَزكيَةِ الْمُعَدِّلِ أنْ تَبْلُغَ مَبلغَ ظُهورِ سِتْرِهِ، وهيَ لا تَبْلُغُ ذلكَ أبداً، فإذا ظَهَرَ ذلكَ فما الحاجةُ إلى التعديلِ؟ انتهى.
ومِنْ هنا لَمَّا شَهِدَ أبو إبراهيمَ الْمُزَنِيُّ صاحبُ الشافعيِّ عندَ القاضي بَكَّارِ بنِ قُتيبةَ، رَحِمَهم اللَّهُ، وقيلَ لهُ: إنَّهُ أبو إبراهيمَ، ولم يَكُنْ يَعْرِفُهُ قَبْلَها، فقالَ: تُقامُ البَيِّنَةُ عندِي بذلكَ فقطْ.
وكذا يَثْبُتُ الْجَرْحُ بالاستفاضةِ أيضاً، وذَهَبَ بعضُهم إلى أنَّ ممَّا يَثْبُتُ بهِ العدالةُ رِوايَةُ جماعةٍ مِن الْجُلَّةِ عن الراوِي، وهذهِ طريقةُ البزَّارِ في مُسنَدِهِ، وجَنَحَ إليها ابنُ القَطَّانِ في الكلامِ على حديثِ قَطْعِ السِّدْرِ مِنْ كتابِهِ: (الوَهْمِ والإِبْهَامِ)، ونحْوُهُ قولُ الذهبيِّ في تَرجمةِ مالِكِ بنِ الْحَسيرِ الزِّيَاديِّ مِنْ مِيزانِهِ.
وقدْ نُقِلَ عن ابنِ القَطَّانِ أنَّهُ ممَّنْ لم يُثْبِتْ عَدالتَهُ، يُريدُ أنَّهُ ما نَصَّ أحَدٌ على أنَّهُ ثِقةٌ، قالَ: وفي رُواةِ الصحيحَيْنِ عددٌ كثيرٌ ما عَلِمْنَا أنَّ أحَداً نَصَّ على تَوثيقِهم، والجمهورُ على أنَّ مَنْ كانَ مِن الْمَشايِخِ قدْ رَوَى عنهُ جماعةٌ، ولم يَأْتِ بما يُنكَرُ عليهِ، أنَّ حديثَهُ صحيحٌ، لَكِنْ قدْ تَعَقَّبَهُ شيخُنا بقولِهِ ما نَسَبَهُ للجمهورِ: لم يُصَرِّحْ بهِ أحَدٌ مِنْ أئمَّةِ النقْدِ إلاَّ ابنُ حِبَّانَ. نَعَمْ، هوَ حَقٌّ فيمَنْ كانَ مَشهوراً بطلَبِ الحديثِ والانتسابِ إليهِ، كما قَرَّرْتُهُ في علومِ الحديثِ.
وأَغْرَبُ منهُ ما حَكَاهُ ابنُ الصَّلاحِ في طَبقاتِهِ عن ابنِ عَبْدَانَ أنَّهُ حكَى في كتابِهِ (شَرائطِ الأحكامِ) عنْ بعضِ أصحابِنا أنَّهُ لم يُعْتَبَرْ في ناقلِ الخبرِ ما يُعْتَبَرُ في الدماءِ والفُرُوجِ مِن التزكيَةِ، بلْ إذا كانَ ظاهِرُهُ الدينَ والصدْقَ قُبِلَ خَبَرُهُ. واستغرَبَهُ ابنُ الصلاحِ، (ولابنِ عبدِ الْبَرِّ) قولٌ فيهِ تَوسُّعٌ أيضاً، وهوَ (كُلُّ مَنْ عُنِي) بضَمِّ أوِّلِهِ (بحملِهِ العلْمَ). زادَ الناظمُ: (ولم يُوَهَّنَا) بتَشديدِ الهاءِ المفتوحةِ؛ أيْ: لم يُضَعَّفْ، (فإنَّهُ عدْلٌ بقولِ المصطفَى) صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ:
((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ) مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ))؛ أي: المُتَجَاوِزِينَ الحدَّ، ((وَانْتِحَالَ))؛ أي: ادِّعاءَ ((الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ))، (لكنْ) قدْ (خُولِفَا) ابنُ عبدِ البَرِّ، لكونِ الحديثِ معَ كثرةِ طُرقِهِ ضَعيفاً، بحيثُ قالَ الشارحُ: إنَّهُ لا يَثْبُتُ منها شيءٌ، بلْ قالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ نفْسُهُ: أسانيدُهُ كلُّها مُضطربةٌ غيرُ مُستقيمةٍ.
وقالَ الدَّارقُطنيُّ: إنَّهُ لا يَصِحُّ مَرفوعاً، يَعْنِي: مُسنَداً، وقالَ شيخُنا: وأَوْرَدَهُ ابنُ عَدِيٍّ مِنْ طُرُقٍ كثيرةٍ كلُّها ضَعيفةٌ، وحَكَمَ غيرُهُ عليهِ بالوَضْعِ، وإنْ قالَ العَلائيُّ في حديثِ أُسَامَةَ منها: إنَّهُ حسَنٌ غَريبٌ.
وصَحَّحَ الحديثَ الإمامُ أحمدُ، وكذا نقَلَ العَسكريُّ في الأمثالِ عنْ أبي مُوسَى عيسى بنِ صُبَيْحٍ تَصحيحَهُ، فأَبُو مُوسَى هذا ليسَ بعُمدةٍ، وهوَ مِنْ كِبارِ الْمُعتزِلَةِ.
وأحمدُ فقَدْ تَعَقَّبَ ابنُ القَطَّانِ كلامَهُ، وحديثُ أسامةَ بخصوصِهِ قالَ فيهِ أبو نُعَيْمٍ: إنَّهُ لا يَثْبُتُ.
وقالَ ابنُ كثيرٍ: في صِحَّتِهِ نظَرٌ قَوِيٌّ، والأغلَبُ عدَمُ صِحَّتِهِ، ولوْ صَحَّ لكانَ ما ذهَبَ إليهِ قَوِيًّا. انتهى.
وسَأُحَقِّقُ الأمرَ فيهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى؛ فإنَّهُ عِندِي مِنْ غيرِ مُرْسَلِ إبراهيمَ العُذْرِيِّ عنْ أسامةَ بنِ زَيدٍ وجابرِ بنِ سَمُرَةَ وابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ وابنِ عمرٍو وابنِ مَسعودٍ وعَلِيٍّ ومعاذٍ وأبي أُمامةَ وأبي هُريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهم.
وعلى كلِّ حالٍ مِنْ صَلاحِيَتِهِ للحُجَّةِ أوْ ضَعْفِهِ، فإنَّما يَصِحُّ الاستدلالُ بهِ أنْ لوْ كانَ خَبَراً، لا يَصِحُّ حَمْلُهُ على الخبرِ لِوُجودِ مَنْ يَحملُ العلْمَ، وهوَ غيرُ عَدْلٍ وغيرُ ثِقةٍ، وكيفَ يكونُ خَبَراً وابنُ عبدِ الْبَرِّ نفْسُهُ يقولُ: فهوَ عَدْلٌ محمولٌ في أمْرِهِ على العدالةِ حتَّى يَتبيَّنَ جَرْحُهُ، فلم يَبْقَ لهُ مَحْمَلٌ إلاَّ على الأَمْرِ، ومعناهُ أنَّهُ أَمَرَ الثقاتِ بِحَمْلِ العلْمِ؛ لأنَّ العلْمَ إنَّما يُقبلُ عن الثِّقاتِ.
ويَتَأَيَّدُ بأنَّهُ في بعضِ طُرُقِهِ: " لِيَحْمِلْ " بلامِ الأمرِ، على أنَّهُ لا مانِعَ مِنْ إرادةِ الأمرِ أنْ يكونَ بلفْظِ الخبرِ.
وحينئذٍ سَوَاءٌ رُوِيَ بالرَّفْعِ على الْخَبريَّةِ، أوْ بالجَزْمِ على إرادةِ لامِ الأمرِ، فمَعْنَاهُمَا واحدٌ، بلْ لا مانِعَ أيضاً مِنْ كونِهِ خَبَراً على ظاهِرِهِ، ويُحْمَلُ على الغالبِ، والقصْدُ أنَّهُ مَظِنَّةٌ لذلكَ.
وقدْ قالَ النوويُّ في أوَّلِ تَهذيبِهِ عندَ ذكْرِ هذا الحديثِ: وهذا إخبارٌ منهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بصِيانةِ العلْمِ وحِفْظِهِ، وعدالةِ ناقِلِيهِ، وأنَّ اللَّهَ تعالى يُوَفِّقُ لهُ في كلِّ عصْرٍ خَلَفاً مِن العُدُولِ يَحمِلُونَهُ، ويَنْفُونَ عنهُ التحريفَ فلا يَضيعُ، وهذا تصريحٌ بعدالةِ حامِلِيهِ في كُلِّ عصْرٍ، وهكذا وَقَعَ وللَّهِ الحمْدُ، وهذا مِنْ أَعلامِ النُّبُوَّةِ، ولا يَضُرُّ معَ هذا كَوْنُ بَعْضِ الفُسَّاقِ يَعرِفُ شيئاً مِن العلْمِ؛ فإنَّ الحديثَ إنَّما هوَ إخبارٌ بأنَّ العدولَ يَحمِلُونَهُ، لا أنَّ غيرَهم لا يَعرِفُ شيئاً منهُ. انتهى.
على أنَّهُ يُقالُ: ما يَعرِفُهُ الفُسَّاقُ مِن العلْمِ ليسَ بعِلْمٍ حقيقةً؛ لعَدَمِ عِلْمِهم بهِ، كما أَشارَ إليهِ التَّفتازانيُّ في تقريرِ قولِ التلخيصِ: وقدْ يُنَزَّلُ العالِمُ مَنزلةَ الجاهِلِ.
وصَرَّحَ بهِ الشافعيُّ في قولِهِ:
ولا العِلْمُ إلاَّ معَ التُّقى ولا العقْلُ إلاَّ معَ الأَدَبِ
ومِن الغريبِ في ضَبْطِهِ ما حكاهُ الشارحُ في نُكَتِهِ عنْ فوائدِ رِحلةِ ابنِ الصَّلاحِ ممَّا عَزَاهُ لأبي عمرٍو مُحَمَّدِ بنِ أحمدَ التَّميميِّ: " يُحْمَلُ " بضَمِّ التحتانيَّةِ على البناءِ للمفعولِ، ورَفْعِ مِيمِ العِلْمِ، وبفَتْحِ العينِ واللامِ مِنْ عَدُولَةٌ، معَ إبدالِ الهاءِ تاءً مُنَوَّنَةً.
ومعناهُ أنَّ الْخَلَفَ هوَ العَدُولَةُ بمعنى أنَّهُ عَادِلٌ، كما يُقالُ: شَكورٌ بمعنى شاكرٍ، وتَكونُ الهاءُ للمبالَغَةِ، كما يُقَالُ: رجُلٌ صَرُورَةٌ، فكأنَّهُ قالَ: إنَّ العلْمَ يُحمَلُ عنْ كلِّ خَلَفٍ كاملٍ في عَدالتِهِ.
لكنْ يَتأيَّدُ بما حَكَاهُ العَسكريُّ عنْ بعضِهم أنَّهُ قالَ عَقِبَ الحديثِ: فسَبيلُ العلْمِ أنْ يُحمَلَ عمَّنْ هذهِ سبيلُهُ ووَصْفُهُ.
ونحْوُهُ ما يُرْوَى مَرفوعاً: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ دِينَكَ. ومعَ هذهِ الاحتمالاتِ فلا يَسُوغُ الاحتجاجُ بهِ.
وَقَوَّى قَوْلَ ابنِ الصلاحِ: إنَّهُ تَوَسُّعٌ غيرُ مَرضِيٍّ، ووافَقَهُ ابنُ أبي الدَّمِ قالَ: إنَّهُ قريبُ الاستمدادِ مِنْ مَذْهَبِ أبي حَنيفةَ في أنَّ ظاهرَ المسلمينَ العدالةُ، وقَبولُ شَهادةِ كلِّ مُسلِمٍ مجهولِ الحالِ إلى أنْ يَثْبُتَ جَرْحُهُ.
قالَ: وهوَ غيرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَنا؛ لخروجِهِ عن الاحتياطِ. ويَقْرُبُ منهُ ما ذهَبَ إليهِ مالكٌ مِنْ قَبولِ شَهادةِ الْمُتَوَسِّمِينَ مِنْ أهلِ القافلةِ اعتماداً على ظاهرِ أحوالِهم المُسْتَدَلِّ بها على العدالةِ والصِّدْقِ فيما يَشهدونَ بهِ.
على أنَّ ابنَ عبدِ الْبَرِّ قدْ سَبَقَ بذلكَ، فَرُوِّينَا في (شَرَفِ أصحابِ الحديثِ) للخَطيبِ مِنْ طريقِ محمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ يَعقوبَ بنِ شَيْبَةَ قالَ: رَأَيْتُ رجُلاً قَدَّمَ آخَرَ إلى إسماعيلَ بنِ إسحاقَ القاضي، فادَّعَى عليهِ بشيءٍ، فأنكَرَ، فقالَ لِلْمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قالَ: نَعَم، فلانٌ وفلانٌ، أمَّا فُلانٌ فَمِنْ شُهودِي، وأمَّا فُلانٌ فليسَ مِنْ شُهودِي، قالَ: فيَعْرِفُهُ القاضي؟ قالَ: نعمْ، قالَ: بِمَاذَا؟ قالَ: أَعْرِفُهُ بِكَتْبِ الحديثِ، قالَ: فكيفَ تَعْرِفُهُ في كَتْبَتِهِ الحديثَ؟ قالَ: ما عَلِمْتُ إلاَّ خيراً، قالَ: فإنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ))، ومَنْ عَدَّلَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ أَوْلَى ممن عَدَّلْتَهُ أنتَ، قالَ: فَقُمْ فَهَاتِهِ، فقدْ قَبِلْتُ شَهادتَهُ.
ونَحْوُهُ قولُ ابنِ الْمَوَّاقِ مِن المتأخِّرينَ: أهْلُ العلْمِ مَحمولونَ على العدالةِ، حتَّى يَظهرَ مِنهم خِلافُ ذلكَ. وقالَ ابنُ الْجَزَرِيِّ: إنَّ ما ذَهَبَ إليهِ ابنُ عبدِ الْبَرِّ هوَ الصوابُ وإنْ رَدَّهُ بعضُهم، وَسَبَقَهُ الْمِزِّيُّ فقالَ: هوَ في زَمَانِنا مَرْضِيٌّ، بلْ رُبَّما يَتعيَّنُ.
ونَحْوُهُ قولُ ابنِ سَيِّدِ الناسِ: لَسْتُ أَراهُ إلاَّ مَرْضِيًّا، وكذا قالَ الذَّهَبِيُّ: إنَّهُ حَقٌّ، قالَ: ولا يَدْخُلُ في ذلكَ الْمَسْتُورُ؛ فإنَّهُ غيرُ مَشهورٍ بالعِنايَةِ بالعِلْمِ، فَكُلُّ مَن اشْتُهِرَ بينَ الْحُفَّاظِ بأنَّهُ مِنْ أصحابِ الحديثِ، وأنَّهُ مَعروفٌ بالعنايَةِ بهذا الشأنِ، ثمَّ كَشَفُوا عنْ أخبارِهِ فما وَجَدُوا فيهِ تَلْيِيناً، ولا اتَّفَقَ لَهُمْ علْمٌ بأنَّ أحَداً وَثَّقَهُ، فهذا الذي عَنَاهُ الحافظُ، وأنَّهُ يكونُ مَقبولَ الحديثِ إلى أنْ يَلُوحَ فيهِ جَرْحٌ.
قالَ: ومِنْ ذلكَ إخراجُ البخاريِّ ومسلِمٍ لجماعةٍ ما اطَّلَعْنَا فيهم على جَرْحٍ ولا تَوثيقٍ، فهؤلاءِ يُحْتَجُّ بهم؛ لأنَّ الشَّيْخَيْنِ احْتَجَّا بهم؛ ولأنَّ الدَّهْمَاءَ أَطْبَقَتْ على تَسميَةِ الكتابَيْنِ بالصحيحَيْنِ.
قُلْتُ: بلْ أَفادَ التَّقِيُّ ابنُ دَقيقِ العيدِ أنَّ إطباقَ جُمهورِ الأُمَّةِ أوْ كُلِّهم على كتابَيْهِما يَستلزِمُ إِطْبَاقَهم أوْ أَكْثَرِهم على تَعديلِ الرُّواةِ الْمُحْتَجِّ بهم فِيهِمَا اجتماعاً وانفراداً، قالَ: معَ أنَّهُ قدْ وُجِدَ فيهم مَنْ تُكُلِّمَ فيهِ.
ولكنْ كانَ الحافظُ أبو الحسَنِ بنُ الْمُفَضَّلِ شيخُ شُيُوخِنا يقولُ فيهم: إنَّهُم جَازُوا القَنْطَرَةَ، يَعني أنَّهُ لا يُلتَفَتُ إلى ما قِيلَ فيهم.
قالَ التَّقِيُّ: وهكذا نَعتقدُ، وبهِ نقولُ، ولا نَخرجُ عنهُ إلاَّ ببيانٍ شَافٍ وحُجَّةٍ ظاهرةٍ تَزيدُ في غَلَبَةِ الظَّنِّ على ما قَدَّمْناهُ مِن استلزامِ الاتِّفاقِ.
ووافَقَهُ شَيْخُنا، بلْ صَرَّحَ بعضُهم باستلزامِ القولِ بالقَطْعِ بصِحَّةِ ما لم يُنْتَقَدْ مِنْ أَحَادِيثِهما القَطْعَ بعدالةِ رُوَاتِهما، يَعنِي فيما لم يُنْتَقَدْ. ثمَّ قالَ التَّقِيُّ: نَعَمْ، يُمكنُ أنْ يكونَ للترجيحِ مَدخلٌ عندَ تَعارُضِ الرواياتِ، فيكونُ مَنْ لم يُتَكَلَّمْ فيهِ أَصْلاً راجحاً على مَنْ قدْ تُكُلِّمَ فيهِ وإن اشْتَرَكا في كونِهما مِنْ رجالِ الصحيحِ. انتهى.
ويُسْتَأْنَسُ لِمَا ذَهَبَ إليهِ ابنُ عبدِ الْبَرِّ بما جاءَ بسَندٍ جَيِّدٍ أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ كَتَبَ إلى أبي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عنهما: (الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلاَّ مَجلُوداً في حَدِّ، أوْ مُجَرَّباً عليهِ شَهادَةُ زُورٍ، أوْ ظَنِيناً في وَلاءٍ أوْ نَسَبٍ.
قالَ البُلْقِينِيُّ: وهذا يُقَوِّيهِ، لكنَّ ذاكَ مخصوصٌ بحَمَلَةِ العلْمِ. قُلْتُ: وكذا ممَّا يُقَوِّيهِ أيضاً كلامُ الخطيبِ الماضِي قبلَ حِكايَةِ هذهِ المسألةِ.
ومَنْ يُوَافِقْ غالِباً ذا الضَّبْطِ فضابِطٌ أو نادراً فمُخْطِي
وصَحَّحُوا قَبولَ تعديلٍ بِلا ذِكْرٍ لأسبابٍ لَهُ أنْ تَثْقُلا
ولم يَرَوْا قَبولَ جَرْحٍ أُبْهِمَا للخُلْفِ في أسبابِهِ ورُبَّمَا
استُفْسِرَ الْجَرْحُ فلم يَقْدَحْ كما فَسَّرَهُ شُعبةُ بالرَّكْضِ فَمَا
هذا الَّذِي عليهِ حُفَّاظُ الأَثَرْ كشَيْخَيِ الصحيحِ معْ أَهْلِ النظَرْ
الثالثُ: فيما يُعْرَفُ بهِ الضبْطُ، وتأخيرُهُ عمَّا قبلَهُ مُناسِبٌ وإنْ كانَ تَقديمُهُ أنْسَبَ؛ لتَعَلُّقِ ما بعدَهُ بما قَبْلَهُ، لا سِيَّما وهوَ سابقٌ أوَّلَ البابِ في الوضْعِ، (وَمَنْ يُوافِقْ غالِباً) في اللفْظِ، ولوْ أَتَى بأَنقصَ لا يَتغيَّرُ بهِ المعنى، أوْ في المعنى، (ذا الضبْطِ فـَ)ـهوَ (ضابِطٌ) مُحْتَجٌّ بحديثِهِ، (أَوْ) يُوافِقُهُ (نادراً)، ويُكْثِرُ مِنْ مُخالَفَتِهِ والزيادةِ عليهِ فيما أَتَى بهِ، (فـ)ـهوَ (مُخْطِي) بدُونِ هَمْزٍ للوزنِ، عديمُ الضبْطِ، فلا يُحتَجُّ بحديثِهِ. وإلى ذلكَ أشارَ الشافعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ تَقُومُ بهِ الْحُجَّةُ، فقالَ: "ويكونُ إذا شَرَكَ أهْلَ الحفْظِ في حديثٍ وافَقَ حديثَهم".
قالَ: "ومَنْ كَثُرَ غَلَطُهُ مِن الْمُحَدِّثينَ ولم يَكُنْ لهُ أصْلُ كتابٍ صحيحٍ لم يُقْبَلْ حديثُهُ، كما يكونُ مَنْ أَكْثَرَ التخليطَ في الشهادةِ لم تُقبلُ شَهادتُهُ"، وقالَ فيما يَعْتَضِدُ بهِ المُرْسَلُ كما تقدَّمَ: "ويكونُ إذا شَرَكَ أحداً مِن الْحُفَّاظِ في حديثٍ لم يُخالِفْهُ، فإنْ خالَفَهُ وَوُجِدَ حديثُهُ أَنقصَ كانتْ في هذهِ دلائلُ على صِحَّةِ مَخْرَجِ حديثِهِ".
ويُعرفُ الضبْطُ أيضاً بالامتحانِ كما تَقَدَّمَ في المَقْلُوبِ، معَ تحقيقِ الأمرِ فيهِ.
فإنْ يُقَلْ قَلَّ بَيَانُ مَن جَرَحْ كذا إذا قَالُوا لِمَتْنٍ لم يَصِحّ
وأَبْهَمُوا فالشَّيْخُ قد أَجَابَا أنْ يَجِبُ الوَقْفُ إذا اسْتَرَابَا
حتى يُبِينَ بَحْثُهُ قَبُولَهُ كمَنْ أُولُو الصحيحِ خَرَّجُوا لَهُ
ففي البخارِيِّ احْتِجَاجاً عِكْرِمَهْ مع ابنِ مَرْزُوقٍ وغَيْرُ تَرْجَمَهْ
واحتَجَّ مُسْلِمٌ بِمَنْ قدْ ضُعِّفَا نَحْوُ سُوَيْدٍ إذْ بِجَرْحٍ ما اكْتَفَى
قُلْتُ وقدْ قالَ أبو الْمَعَالِي واختارَهُ تِلميذُهُ الغَزالِي
وابنُ الْخَطيبِ الْحَقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا أَطْلَقَهُ العالِمْ بأَسْبَابِهِمَا

والرابعُ: في بيانِ سببِ الْجَرحِ والتعديلِ، وكانَ إردافُهُ الثانيَ كما تَقَدَّمَ أَنسبَ، (وصَحَّحُوا)؛ أي: الجمهورُ مِن الْمُحَدِّثينَ وغيرِهم كما هوَ المشهورُ.
(قَبولَ تَعديلٍ بلا ذِكْرٍ لأسبابٍ لَهُ)؛ خَشيَةَ (أنْ تَثْقُلا)؛ لأنَّها كثيرةٌ، ومتى كُلِّفَ المعَدِّلُ لسرْدِ جميعِها احتاجَ أنْ يقولَ: يَفعلُ كذا وكذا عادًّا ما يَجبُ عليهِ فِعْلُهُ، وليسَ يَفعلُ كذا وكذا، عَادًّا ما يَجِبُ عليهِ تَرْكُهُ، وفيهِ طُولٌ. (ولم يَرَوْا)؛ أي: الجمهورُ أيضاً.
(قَبولَ جَرْحٍ أُبْهِمَا) ذِكْرُ سَبَبِهِ مِن الْمُجَرِّحِ؛ لزوالِ الخشيَةِ المُشَارِ إليها؛ فإنَّ الجرْحَ يَحصلُ بأمْرٍ واحدٍ، و(لِلْخُلْفِ) بينَ الناسِ (في أسبابِهِ) ومُوجِبِهِ.
(رُبَّما اسْتُفْسِرَ الجرْحُ) ببيانِ سببِهِ مِن الجارِحِ، (فَـ) يَذكُرُ ما (لم يَقْدَحْ) معَ إطلاقِهِ الجرْحَ بهِ؛ لِتَمَسُّكِهِ بما يَعتقدُ أنَّهُ يَقتَضِيهِ، أوْ لشِدَّةِ تَعَنُّتِهِ، وليسَ كذلكَ عندَ غيرِهِ.
(كما فَسَّرَهُ شُعبةُ) ابنُ الحَجَّاجِ مَرَّةً (بالرَّكْضِ)، وهوَ اسْتِحْثَاثُ الدابَّةِ بالرِّجْلِ لِتَعْدُوَ، حيثُ قِيلَ لهُ: لِمَ تَرَكْتَ حديثَ فُلانٍ؟ قالَ: رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ على بِرْذُوْنٍ، بكسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وذالٍ مُعجمَةٍ، الجَافِي الْخِلقةِ، الْجَلْدُ على السيرِ في الشِّعَابِ، والوَعْرُ مِن الخيلِ غيرِ العَرَبِيَّةِ، وأكثرُ ما يُجْلَبُ مِن الرُّومِ، وحينئذٍ (فَمَا) ذا يَلْزَمُ مِنْ رَكْضِهِ، اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يكونَ في مَوْضِعٍ، أوْ على وَجْهٍ لا يَلِيقُ، ولا ضَرورةَ تَدعُو لذلكَ، لا سِيَّما وقدْ وَرَدَ عنْ جماعةٍ مِن الصحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم مَرفوعاً: ((سُرْعَةُ الْمَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ الْمُؤْمِنِ)).
ونَحْوُهُ ما رُوِيَ عنْ شُعبةَ أيضاً أنَّهُ جاءَ إلى الْمِنهالِ بنِ عمرٍو، فسَمِعَ مِنْ دارِهِ صوتاً فتَرَكَهُ، قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: إنَّهُ سَمِعَ قراءةً بالتطريبِ. ونَحْوُهُ قَوْلُ أَبِيهِ أبي حاتمٍ كما قالَهُ الشارحُ: إنَّهُ سَمِعَ قراءةَ ألحانٍ، فكَرِهَ السماعَ منهُ.
وقولُ وَهْبِ بنِ جَريرٍ عنْ شُعبةَ: أَتيتُ مَنزلَ الْمِنهالِ، فسَمِعْتُ منهُ صوتَ الطُّنْبُورِ، فرَجَعْتُ ولم أَسألْهُ. قالَ وهْبٌ: فقُلْتُ لهُ: فَهَلاَّ سَأَلْتَهُ، عَسَى كانَ لا يَعْلَمُ؟ قالَ شيخُنا: وهذا اعتراضٌ صحيحٌ؛ فإنَّ هذا لا يُوجِبُ قدْحاً في الْمِنهالِ، بلْ ولا يُجَرَّحُ الثقةُ بِمِثلِ قَوْلِ المغيرةِ في الْمِنهالِ: إنَّهُ كانَ حَسَنَ الصوتِ لهُ لَحنٌ يُقالُ لهُ: وَزْنُ سَبعةٍ.
ولِذَا قالَ ابنُ القَطَّانِ عَقِبَ كلامِ ابنِ أبي حاتمٍ ما نَصُّهُ: هذا ليسَ بجَرْحِهِ إلى أنْ يَتجاوزَ إلى حَدٍّ يَحرُمُ، ولم يَصِحَّ ذاكَ عنهُ. انتهى.
وجَرْحُهُ بهذا تَعَسُّفٌ ظاهرٌ، وقدْ وَثَّقَهُ ابنُ مَعينٍ والعِجْلِيُّ وغيرُهما؛ كالنَّسائيِّ وابنِ حِبَّانَ، وقالَ الدارقُطنيُّ: إنَّهُ صَدوقٌ.
واحتَجَّ بهِ البخاريُّ في صحيحِهِ، بلْ وعَلَّقَهُ مِنْ روايَةِ شُعبةَ نفْسِهِ عنهُ، فقالَ في بابِ ما يُكرَهُ مِن الْمُثْلَةِ مِن الذَّبَائحِ: تَابَعَهُ سليمانُ عنْ شُعبةَ عن الْمِنهالِ، يَعني ابنَ عمرٍو، عنْ سعيدٍ، هوَ ابنُ جُبيرٍ، عن ابنِ عُمَرَ قالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مَنْ مَثَّلَ بِالحيوانِ. ووَصَلَهُ البَيهقيُّ.
وفيهِ دليلٌ على أنَّ شُعبةَ لم يَتْرُكِ الروايَةَ عنهُ، وذلكَ إمَّا بما لعلَّهُ سَمِعَهُ منهُ قبلَ ذلكَ، أوْ لزَوالِ المانِعِ منهُ عندَهُ.
وقدْ حَكَى ابنُ أبي حاتمٍ عنْ أبيهِ أنَّ السماعَ يُكرَهُ ممَّنْ يَقرأُ بالألحانِ، ونَصَّ الإمامُ مالكٌ في الْمُدَوَّنَةِ على أنَّ القراءةَ بالألحانِ الموضوعةِ والترجيعِ تُرَدُّ بهِ الشهادةُ.
والحقُّ في هذهِ المسألةِ أنَّهُ إنْ خَرَجَ بالتلحينِ لفْظُ القرآنِ عنْ صِيغتِهِ بإدخالِ حركاتٍ فيهِ أوْ إخراجِ حَركاتٍ منهُ، أوْ قَصْرِ ممدودٍ أوْ مَدِّ مَقصورٍ، أوْ تَمطيطٍ يَخفَى بهِ اللفْظُ ويُلَبَّسُ بهِ المعنَى، فالقارئُ فاسقٌ، والمستَمِعُ آثِمٌ، وإنْ لم يُخْرِجْهُ اللحْنُ عنْ لَفظِهِ وقِراءتِهِ على تَرتيلِهِ، فلا كراهةَ؛ لأنَّهُ زادَ بألحانِهِ في تَحسينِهِ.
وكذا استفسَرَ غيرُ شُعبةَ، فذَكَرَ ما الجَرْحُ بهِ غيرُ مُتَّفَقٍ عليهِ، فقالَ شُعبةُ: قُلْتُ للحَكَمِ بنِ عُتيبةَ: لِمَ لَمْ تَحْمِلْ عنْ زَاذَانَ؟ قالَ: كانَ كثيرَ الكلامِ.
ولعَلَّهُ استنَدَ إلى ما يُروَى عنهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ))، وكذا لِمَا وَرَدَ في ذَمِّ مَنْ تَكلَّمَ فِيمَا لا يَعْنِيهِ.
وممَّنْ تَكَلَّمَ في زَاذانَ الحاكمُ أبو أحمدَ، فقالَ: إنَّهُ ليسَ بالْمَتينِ عندَهم. وقالَ ابنُ حِبَّانَ: كانَ يُخطئُ كثيراً، لَكِنْ قدْ وَثَّقَهُ غيرُ واحدٍ، وأخرَجَ لهُ مسلِمٌ.
وقالَ جَريرُ بنُ عبدِ الحميدِ: أَتَيْتُ سِمَاكَ بنَ حربٍ، فرَأَيْتُهُ يَبولُ قائماً، فلم أَسْأَلْهُ عنْ حَرْفٍ. قُلتُ: قدْ خَرِفَ، ولعلَّهُ كانَ بحيثُ يَرى الناسُ عَورتَهُ.
وقدْ عَقَدَ الخطيبُ في (الكِفايَةِ) لهذا باباً، وممَّا ذَكَرَ فيهِ ممَّا تَبِعَهُ ابنُ الصلاحِ في إيرادِهِ: أنَّ مسلمَ بنَ إبراهيمَ سُئلَ عنْ حديثٍ لصالحٍ الْمُرِّيِّ، فقالَ: ما تَصنعُ بصَالحٍ؟ ذَكَروهُ يوماً عندَ حَمَّادِ بنِ سلمةَ، فَامْتَخَطَ حَمَّادٌ.
وإِدْخَالُ مثلِ هذا في هذا البابِ غيرُ جَيِّدٍ، فصالحٌ ضعيفٌ عندَهم، ولِذَا حذَفَهُ المصنِّفُ، بلْ قدْ بَانَ في جميعِ ما ذُكِرَ عدَمُ تَحَتُّمِ الْجَرحِ بهِ. (هذَا)؛ أي: القولُ بالتفصيلِ، هوَ (الَّذِي عليْهِ) الأئمَّةُ (حُفَّاظُ الأَثَرْ)؛ أي: الحديثِ ونُقَّادُهُ.
(كَـ) البخاريِّ ومسلِمٍ (شَيْخَيِ الصحيحِ) اللَّذَيْنِ كَانَا أوَّلَ مَنْ صَنَّفَ فيهِ، وغيرِهما مِن الْحُفَّاظِ، (معَ أهلِ النظَرِ) كالشافعيِّ، فقدْ نَصَّ عليهِ، وقالَ ابنُ الصلاحِ: إنَّهُ ظاهرٌ مقَرَّرٌ في الفقهِ وأصولِهِ، وقالَ الخطيبُ: إنَّهُ الصوابُ عندَنا.
والقولُ الثاني عكْسُهُ، فيُشترطُ تفسيرُ التعديلِ دونَ الْجَرْحِ؛ لأنَّ أسبابَ العدالةِ يَكثرُ التصَنُّعُ فيها، فيَتسارعُ الناسُ إلى الثناءِ على الظاهِرِ، [فَـ] بهذا الإمامُ مالكٌ معَ شِدَّةِ نقْلِهِ وتَحَرِّيهِ قِيلَ لهُ في الروايَةِ عنْ عبدِ الكريمِ بنِ أبي الْمُخارِقِ، فقالَ: غَرَّنِي بكَثْرَةِ جُلوسِهِ في المسجِدِ، يعني لِمَا وَرَدَ مِنْ كونِهِ بَيْتَ كُلِّ تَقِيٍّ.
ونحْوُهُ قولُ أحمدَ بنِ يُونسَ لِمَنْ قالَ لهُ: عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ بنِ حفصِ بنِ عاصمِ بنِ عمرَ بنِ الخطَّابِ العُمَرِيُّ ضعيفٌ: إنَّما يُضَعِّفُهُ رَافِضِيٌّ مُبْغِضٌ لآبائِهِ، لوْ رَأَيْتَ لِحيتَهُ وخِضابَهُ وهَيئتَهُ لعَرَفْتَ أنَّهُ ثِقةٌ. فاستدَلَّ لثِقتِهِ بما ليسَ بحُجَّةٍ؛ لأنَّ حُسنَ الهيئةِ يَشترِكُ فيهِ العدْلُ وغيرُهُ، وهوَ ظاهرٌ، وإنْ أَمْكَنَ أنْ يُقالَ: لعلَّهُ أرادَ أنَّ تَوَسُّمَهُ يَقضِي بعدالتِهِ فَضلاً عنْ دِينِهِ ومُروءتِهِ وضَبْطِهِ، لكنْ يَندفعُ هذا في العُمَرِيِّ بخصوصِهِ بأنَّ الجمهورَ على ضَعْفِهِ، وكثيراً ما يُوجَدُ مَدْحُ المرءِ بأنَّكَ إذا رَأَيْتَ سَمْتَهُ علِمْتَ أنَّهُ يَخشَى اللَّهَ.
والثالثُ: أنَّهُ لا بُدَّ مِنْ سبَبِهما معاً لِلْمَعْنَيَيْنِ السابقَيْنِ، فكما يُجَرَّحُ الجارحُ بما لا يَقْدَحُ، كذلكَ يُوَثِّقُ الْمُعَدِّلُ بما لا يَقتضِي العدالةَ كما بَيَّنَّا.
والرابعُ عكْسُهُ، إذا صَدَرَ الْجَرْحُ أو التعديلُ مِنْ عالمٍ بَصيرٍ بهِ كما سيأتي قَريباً معَ الْخَدْشِ في كونِهِ قَوْلاً مُستَقِلاًّ، (فإنْ يُقَلْ) على القولِ الأوَّلِ: قدْ (قَلَّ) فيما يُحكَى عن الأئمَّةِ في الكُتُبِ الْمُعَوَّلِ عليها في الرجالِ (بيانُ) سببِ جَرْحِ (مَنْ جَرَحْ)، بل اقْتَصَروا فيها غالباً على مُجَرَّدِ الحكْمِ بأنَّ فُلاناً ضَعيفٌ، أوْ ليسَ بشيءٍ، أوْ نحوُ ذلكَ.
(وَكَذَا) قَلَّ بيانُهم لسببِ ضَعْفِ الحديثِ، (إذا قَالُوا) في كُتُبِ الْمُتونِ ونَحْوِها (لِمَتْنٍ): إنَّهُ لم يَصِحَّ، بل اقْتَصَروا أيضاً غالباً على مُجَرَّدِ الحُكْمِ بضَعْفِ هذا الحديثِ، أوْ عَدَمِ ثُبوتِهِ، أوْ نحوِ ذلكَ، (وأَبْهَمُوا) بيانَ السببِ في الْمَوْضِعَيْنِ، واشتراطُ البيانِ يُفْضِي إلى تَعطيلِ ذلكَ، وسَدِّ بابِ الْجَرْحِ في الأغلَبِ الأكثرِ.
(فالشيخُ) ابنُ الصلاحِ (قدْ أَجَابَا) عنْ هذا السؤالِ بِـ(ـأَنْ يَجِبُ الوقْفُ) مِن الواقفِ عليهِ، كذلكَ عن الاحتجاجِ بالرَّاوِي أوْ بالحديثِ (إذِ اسْتَرَابَا)؛ أيْ: لأجلِ حُصولِ الرِّيبَةِ القوِيَّةِ بذلكَ، ويَستمِرُّ واقِفاً (حتَّى يُبِينَ) بضَمِّ أوَّلِهِ، مِنْ أَبَانَ؛ أيْ: يُظهِرُ، (بحثُهُ) وفَحْصُهُ عنْ حالِ ذاكَ الراوي أو الحديثِ (قَبولَهُ) مُطْلَقاً، أوْ في بعضِ حديثِهِ. والثقةُ بعدالتِهِ وعدَمِ تأثيرِ ما وُقِفَ عليهِ فيهِ مِن الجَرْحِ المُجَرَّدِ (كمَنْ)؛ أيْ: كالَّذِي مِن الرواةِ، (أُولُو)؛ أيْ: أصحابُ، (الصحيحِ): البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما، (خَرَّجُوا) فيهِ (لَهُ) معَ كونِهِ ممَّنْ مُسَّ مِنْ غيرِهم بجَرْحٍ مُبْهَمٍ، وقالَ: فَافْهَمْ ذلكَ؛ فإنَّهُ مَخْلَصٌ حَسَنٌ.
(ففِي البخاريِّ احْتِجَاجاً عِكْرِمَهْ)؛ أيْ: فعِكرمةُ التابِعِيُّ مَوْلَى ابنِ عباسٍ مُخَرَّجٌ لهُ في صحيحِ البخاريِّ على وجهِ الاحتجاجِ بهِ، فَضْلاً عن المُتَابَعَاتِ ونحوِها، معَ ما فيهِ مِن الكلامِ؛ لكونِهِ لهُ عنهُ أَتَمُّ مَخْلَصٍ، حتَّى إِنَّ جماعةً صَنَّفُوا في الذَّبِّ عنْ عِكرمةَ؛ كأبي جعفرِ بنِ جَريرٍ الطبَرِيِّ، ومحمَّدِ بنِ نَصرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وأبي عبدِ اللَّهِ بنِ مَنْدَهْ، وابنِ حِبَّانَ، وابنِ عبدِ الْبَرِّ.
وحَقَّقَ ذلكَ شيخُنا في مُقَدِّمَتِهِ بما لا نُطيلُ بهِ، (معَ ابنِ مَرزوقٍ) عمرٍو الباهِلِيِّ البَصْرِيِّ، لَكِنْ مُتابَعةً لا احتجاجاً، (وغَيْرُ تَرْجَمَهْ)؛ أيْ: راوٍ على وَجْهِ الاحتجاجِ، وغيرُهُ ممَّنْ سَبَقَ مِنْ غيرِهِ التضعيفُ لهم يُعرَفُ تَعيينُهم، والمُخَرَّجُ لهم منهم في الأصولِ ممَّنْ في المُتَابَعَاتِ، معَ الْحُجَّةِ في التخريجِ لهم، مِن الْمُقَدَّمَةِ أيضاً.
وكذا (احْتَجَّ مسْلمٌ بمَنْ قدْ ضُعِّفَا) مِنْ غيرِهِ، (نَحْوُ سُوَيْدٍ) هوَ ابنُ سعيدٍ، وجماعةٍ غيرِهِ، (إذْ بِجَرْحٍ) مُطْلَقٍ (ما اكْتَفَى) كُلٌّ مِن البخاريِّ ومسلِمٍ لتحقيقِهما نَفْيَهُ، بلْ أَكثرُ مَنْ فَسَّرَ الْجَرْحَ في سُوَيْدٍ ذَكَرَ أنَّها لَمَّا عَمِيَ رُبَّمَا تَلَقَّنَ الشيءَ، وهذا وإنْ كانَ قادِحاً فإنَّما يَقدحُ فيما حَدَّثَ بهِ بعدَ العَمَى، لا فيما قَبْلَهُ. والظاهرُ أنَّ مُسلِماً عَرَفَ أنَّ ما خَرَّجَهُ عنهُ مِنْ صحيحِ حديثِهِ، أوْ مِمَّا لم يَنفرِدْ بهِ طَلَباً للعُلُوِّ.
قالَ إبراهيمُ بنُ أبي طالبٍ: قُلْتُ لمُسلِمٍ: كيفَ استَجَزْتَ الروايَةَ عنْ سُويدٍ في الصحيحِ؟ فقالَ: ومِنْ أَيْنَ كُنْتُ آتِي بنُسخةِ حَفْصِ بنِ مَيْسَرَةَ، وذلكَ أنَّ مُسْلِماً لم يَرْوِ في صحيحِهِ عنْ أحَدٍ ممَّنْ سَمِعَ حَفْصاً سِوَاهُ، ورَوَى فيهِ عنْ واحدٍ عن ابنِ وَهْبٍ عنْ حفْصٍ. (قُلْتُ وقدْ قالَ) في أصْلِ المسألةِ إمامُ الْحَرَمَيْنِ (أبو الْمَعالِي) الْجُوَيْنِيُّ في كتابِهِ (البُرْهَانِ).
(واختارَهُ تِلميذُهُ) حُجَّةُ الإسلامِ أبو حامدٍ (الغزالِي وَ) كذا الإمامُ فخْرُ الدينِ (ابنُ الخطيبِ) الرازِيُّ (الْحَقُّ أنْ يُحْكَمْ) مُسَكَّنُ الميمِ؛ أيْ: يُقْضَى (بِمَا أَطْلَقَهُ العَالِمْ) مسَكَّنُ الميمِ أيضاً، البصيرُ، (بأسبابِهما)؛ أي: الجرْحِ والتعديلِ، مِنْ غيرِ بيانٍ لسببٍ واحدٍ منهما.
واختارَهُ القاضي أبو بكرٍ الباقِلاَّنيُّ ونَقَلَهُ عن الجمهورِ، فقالَ: قالَ الجمهورُ مِنْ أهْلِ العلْمِ: " إذا جَرَّحَ مَنْ لا يَعْرِفُ الجرْحَ يَجِبُ الكشْفُ عنْ ذلكَ، ولم يُوجِبُوا ذلكَ على أهلِ العلْمِ بهذا الشأنِ ".
قالَ: " والذي يُقَوِّي عندَنا ترْكَ الكشْفِ عنْ ذلكَ إذا كانَ الجارِحُ عالِماً، كما لا يَجبُ استفسارُ المُعَدِّلِ عمَّا بهِ صارَ عندَهُ المُزَكَّى عَدْلاً ".
وممَّنْ حكاهُ عن القاضي أبي بكرٍ الغزاليِّ في (الْمُسْتَصْفَى)، لكنَّهُ حكَى عنهُ أيضاً في (الْمَنْخُولِ) خِلافَهُ، وما ذَكَرَهُ عنهُ في (الْمُستصْفَى) هوَ الذي حَكَاهُ صاحبُ (المحصولِ)، والآمِدِيُّ، وهوَ المعروفُ عن القاضي، كما رواهُ الخطيبُ عنهُ في (الكفايَةِ) بإسنادِهِ الصحيحِ، واختارَهُ الخطيبُ أيضاً، وذلكَ أنَّهُ بعدَ تَقريرِ القَوْلِ الأوَّلِ الذي صَوَّبَهُ قالَ: " عَلَى أَنَّا نَقولُ أيضاً: إنْ كانَ الذي يُرجَعُ إليهِ في الْجَرْحِ عَدْلاً مَرضِيًّا في اعتقادِهِ وأفعالِهِ، عارِفاً بصفةِ العدالةِ والْجَرْحِ وأسبابِهما، عالِماً باختلافِ الفقهاءِ في أحكامِ ذلكَ، قُبِلَ قولُهُ فِيمَنْ جَرَّحَهُ مُجْمَلاً، ولا يُسألُ عنْ سببِهِ "، انتهى.
وقريبٌ منهُ اعتمادُ قولِ الفقيهِ المُوَافِقِ بِتَنْجِيسِ الماءِ دونَ مَقبولِ الروايَةِ غيرِ الفقيهِ؛ فإنَّهُ لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ السببَ.
وبالجُمْلَةِ فهذا خِلافُ ما اختارَهُ ابنُ الصلاحِ في كَوْنِ الْجَرْحِ الْمُبْهَمِ لا يُقبَلُ، وهوَ عينُ القولِ الرابعِ المُشَارِ إليهِ أوَّلاً، ولكنْ قدْ قالَ ابنُ جماعةٍ: " إنَّهُ ليسَ بقَولٍ مُستَقِلٍّ، بلْ هوَ تَحقيقٌ لِمَحَلِّ النِّزاعِ، وتحريرٌ لهُ؛ إذْ مَنْ لا يكونُ عالِماً بالأسبابِ لا يُقبَلُ منهُ جَرْحٌ ولا تَعديلٌ لا بإطلاقٍ ولا بِتَقييدٍ، فالحكْمُ بالشيءِ فَرْعٌ عن العلْمِ التَّصَوُّرِيِّ بهِ ". وسَبَقَهُ لنحوِهِ التَّاجُ السُّبْكِيُّ، قالَ: إنَّهُ لا تَعديلَ وجَرْحَ إلاَّ مِن العَالِمِ.
وكذا قَيَّدَ في تَرجمةِ أحمدَ بنِ صالحٍ القولَ باستفسارِ الْمُجَرِّحِ بما إذا كانَ الْجَرْحُ في حَقِّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدالتُهُ. وَسَبَقَهُ البَيهقيُّ فتَرْجَمَ: " بابُ لا يُقْبَلُ الجَرْحُ فيمَنْ ثَبَتَتْ عَدالتُهُ إلاَّ بِأَنْ نَقِفَ على ما يُجَرَّحُ بهِ ".
وكذا قالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ: " مَنْ صَحَّتْ عَدالتُهُ، وثَبَتَتْ في العلْمِ إمامتُهُ، وبانَتْ هِمَّتُهُ فيهِ وعِنايتُهُ، لم يُلْتَفَتْ فيهِ إلى قولِ أحَدٍ، إلاَّ أنْ يَأتيَ الجارحُ في جَرْحِهِ ببَيِّنَةٍ عادلةٍ يَصِحُّ بها جَرْحُهُ على طريقِ الشهاداتِ والعملِ بما فيها مِن الْمُشاهَدَةِ لذلكَ بما يُوجِبُ قَبولَهُ "، انتهى.
وليسَ المُرَادُ إقامةَ بَيِّنَةٍ على جَرْحِهِ، بل المعنى أنَّهُ يَسْتَنِدُ في جَرْحِهِ لِمَا يَستنِدُ إليهِ الشاهِدُ في شَهادتِهِ، وهوَ الْمُشاهدَةُ ونَحْوُها.
وأَوْضَحُ منهُ في المرادِ ما سَبَقَهُ بهِ محمَّدُ بنُ نَصرٍ الْمَرْوَزِيُّ؛ فإنَّهُ قالَ: " وكُلُّ رَجُلٍ ثَبَتَتْ عَدالتُهُ لم يُقْبَلْ فيهِ تَجريحُ أحَدٍ حتَّى يُبَيِّنَ ذلكَ بأَمْرٍ لا يُحتمَلُ أنْ يكونَ غيرَ جَرْحِهِ ".
وَلِذَا كُلِّهِ كأنَّ المختارَ عندَ شيخِنا أنَّهُ إنْ خَلا المجروحُ عنْ تَعديلٍ قُبِلَ الجَرْحُ فيهِ مُجْمَلاً، غَيْرَ مُبَيِّنٍ السببَ إذا صَدَرَ مِنْ عارِفٍ، قالَ: " لأنَّهُ إذا لم يَكُنْ فيهِ تَعديلٌ فهوَ في حَيِّزِ المجهولِ، وإعمالُ قَوْلِ الْمُجَرِّحِ أَوْلَى مِنْ إعمالِهِ "، قالَ: " ومالَ ابنُ الصلاحِ في مِثلِ هذا إلى التَّوَقُّفِ " انتهى.
وقَيَّدَ بعضُ الْمُتَأَخِّرينَ قَبولَ الْجَرْحِ المُفَسَّرِ فيمَنْ عُدِّلَ أيضاً، بما إذا لم تَكُنْ هناكَ قَرينةٌ يَشْهَدُ العقْلُ بأنَّ مِثلَها يُحملُ على الوَقيعةِ مِنْ تَعَصُّبٍ مَذهبيٍّ، أوْ مُنافَسَةٍ دُنيويَّةٍ، وهوَ كذلكَ كما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ معَ مَزيدٍ في مَعرِفةِ الثقاتِ والضعفاءِ.
وقَدَّمُوا الْجَرْحَ وقِيلَ إنْ ظَهَرْ مَنْ عَدَّلَ الأَكْثَرَ فَهْوَ الْمُعْتَبَرْ
الخامسُ: في تَعارُضِ الْجَرحِ والتعديلِ في راوٍ واحدٍ، (وقَدَّمُوا)؛ أيْ: جُمهورُ العلماءِ أيضاً، (الْجَرْحَ) على التعديلِ مطْلَقاً، اسْتَوَى الطرفانِ في العددِ أمْ لا.
قالَ ابنُ الصلاحِ: إنَّهُ الصحيحُ، وكذا صَحَّحَهُ الأُصُولِيُّونَ كالفخْرِ والآمديِّ، بلْ حَكَى الخطيبُ اتِّفاقَ أهْلِ العلْمِ عليهِ إذا استَوَى العدَدَانِ، وصَنيعُ ابنِ الصلاحِ مُشعِرٌ بذلكَ.
وعليهِ يُحْمَلُ قولُ ابنِ عساكرَ: " أَجمعَ أهلُ العلْمِ على تَقديمِ قولِ مَنْ جَرَّحَ راوياً على قولِ مَنْ عَدَّلَهُ، واقتَضَتْ حكايَةُ الاتِّفاقِ في التساوِي كونَ ذلكَ أَوْلَى فيما إذا زادَ عددُ الجارحينَ ".
قالَ الخطيبُ: (والعِلَّةُ في ذلكَ أنَّ الجارِحَ يُخْبِرُ عنْ أَمْرٍ بَاطِنِيٍّ قدْ عَلِمَهُ، ويُصَدِّقُ المُعَدِّلَ ويَقُولُ لهُ: قدْ عَلِمْتَ مِنْ حالِهِ الظاهرِ ما عَلِمْتُهُ، وتَفَرَّدْتُ بعِلْمِ لم تَعلَمْهُ مِن اختبارِ أمْرِهِ)، يعني: فمَعَهُ زيادةُ علْمٍ.
قالَ: وإخبارُ الْمُعَدِّلِ عن العدالةِ الظاهرةِ لا يَنْفِي صِدْقَ قولِ الجارحِ فيما أَخْبَرَ بهِ، فوَجَبَ لذلكَ أنَّهُ يكونُ الْجَرحُ أَوْلَى مِن التعديلِ، وغايَةُ قولِ المُعَدِّلِ كما قالَ العَضَدُ: (إنَّهُ لم يَعْلَمْ فِسقاً ولم يَظُنَّهُ فَظَنَّ عدالتَهُ؛ إذ العلْمُ بالعدَمِ لا يُتصوَّرُ، والجارِحُ يقولُ: أنا عَلِمْتُ فِسقَهُ، فلوْ حَكَمْنَا بعدَمِ فِسقِهِ كانَ الجارحُ كَاذِباً، ولوْ حَكَمْنَا بفِسقِهِ كَانَا صادِقَيْنِ فيما أَخْبَرَا بهِ، والجمْعُ أَوْلَى ما أَمْكَنَ؛ لأنَّ تكذيبَ العدْلِ خِلافُ الظاهرِ) انتهى.
وإلى ذلكَ أشارَ الخطيبُ بما حاصِلُهُ: أنَّ العملَ بقولِ الجارحِ غيرُ مُتَضَمِّنٍ لِتُهْمَةِ الْمُزَكِّي بخِلافِ مُقابِلِهِ.
قالَ: ولأَجْلِ هذا وَجَبَ إذا شَهِدَ شاهدانِ على رَجُلٍ بحَقٍّ، وشَهِدَ لهُ آخَرَانِ أنَّهُ قدْ خَرَجَ منهُ، أنْ يكونَ العملُ بشَهادةِ مَنْ شَهِدَ بالقضاءِ أَوْلَى؛ لأنَّ شَاهِدَيِ القضاءِ يُصَدِّقَانِ الآخَرَيْنِ، ويقولانِ: عَلِمْنَا خُروجَهُ مِن الحقِّ الذي كانَ عليهِ، وأَنْتُمَا لم تَعْلَمَا ذلكَ، ولوْ قالَ شاهِدَا ثُبوتِ الحقِّ: نَشْهَدُ أنَّهُ لم يَخْرُجْ مِن الحقِّ، لكانتَ شهادةً باطلةً.
لكنْ يَنبغِي تَقييدُ الحُكْمِ بتقديمِ الْجَرْحِ بما إذا فُسِّرَ، وما تَقدَّمَ قريباً يُسَاعِدُهُ، وعليهِ يُحمَلُ قولُ مَنْ قَدَّمَ التعديلَ؛ كالقاضي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وغيرِهِ، أمَّا إذا تَعَارَضَا مِنْ غيرِ تفسيرٍ فالتعديلُ كما قالَهُ الْمِزِّيُّ وغيرُهُ.
وقالَ ابنُ دَقيقِ العِيدِ: (إنَّ الأَقْوَى حينئذٍ أنْ يُطلَبَ الترجيحُ؛ لأنَّ كُلاًّ مِنهما يَنفِي قولَ الآخَرِ)، وتَعليلُهُ يُخْدَشُ فيهِ بما تَقَدَّمَ. وكذا قَيَّدَهُ الفُقهاءُ بما إذا أُطْلِقَ التعديلُ، أمَّا إذا قالَ الْمُعَدِّلُ: عَرَفْتُ السببَ الذي ذَكَرَهُ الجارحُ، لكنَّهُ تَابَ منهُ وحَسُنَتْ تَوبتُهُ؛ فإنَّهُ يُقَدَّمُ المُعَدِّلُ ما لم يَكُنْ في الكذِبِ على النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، كما سَيَأْتِي في مَحَلِّهِ.
وكذا لوْ نَفَاهُ بطريقٍ مُعْتَبَرٍ، كأنْ يقولَ المعدِّلُ عندَ التجريحِ بقَتلِهِ لفُلانٍ في يَوْمِ كذا: إنَّ فُلاناً المُشَارَ إليهِ قدْ رَأَيْتُهُ بعدَ هذا اليومِ وهوَ حَيٌّ؛ فإنَّهُ حينئذٍ يَقعُ التعارُضُ؛ لعَدَمِ إمكانِ الجمْعِ، ويُصارُ إلى الترجيحِ، ولِذَا قالَ ابنُ الحاجبِ: (أمَّا عندَ إثباتِ مُعَيَّنٍ ونَفْيِهِ باليَقِينِ فالترجيحُ).
(وقِيلَ: إنْ ظَهَرْ مَنْ عَدَّلَ الأكثرَ) بالنصبِ حالاً باعتقادِ تَنكيرِهِ، يعني: إنْ كانَ الْمُعَدِّلُونَ أكثرَ عَدداً، (فهُوَ)؛ أي: التعديلُ، (المُعْتَبَرْ).
حكاهُ الخطيبُ عنْ طائفةٍ، وصاحبُ (المحصولِ)؛ لأنَّ الكثرةَ تُقَوِّي الظَّنَّ، والعملُ بأقوَى الظَّنَّيْنِ واجبٌ كما في تَعارُضِ الحدِيثَيْنِ.
قالَ الخطيبُ: (وهذا خَطأٌ وبُعْدٌ مِمَّنْ تَوَهَّمَهُ؛ لأنَّ الْمُعَدِّلِينَ وإنْ كَثُرُوا لَيْسُوا يُخْبِرونَ عنْ عَدَمِ ما أَخبرَ بهِ الجارحونَ، ولوْ أَخْبَرُوا بذلكَ وقَالُوا: نَشهدُ أنَّ هذا لم يَقعْ منهُ، لَخَرَجُوا بذلكَ عنْ أنْ يَكُونُوا أهلَ تَعديلٍ أوْ جَرْحٍ؛ لأنَّها شَهادةٌ باطلةٌ على نَفيِ ما يَصِحُّ ويَجوزُ وُقوعُهُ، وإنْ لم يَعْلَمُوهُ فثَبَتَ ما ذَكَرْنَاهُ).
وإنَّ تقديمَ الجرْحِ إنَّما هوَ لِتَضَمُّنِهِ زيادةً خَفِيَتْ على الْمُعَدِّلِ، وذلكَ موجودٌ معَ زِيادةِ عدَدِ الْمُعَدِّلِ ونَقْصِهِ ومُسَاوَاتِهِ، فَلَوْ جَرَّحَهُ واحدٌ وعَدَّلَهُ مائةٌ، قُدِّمَ الواحدُ لِذَلِكَ.
وقيلَ: إنَّهُما حينئذٍ يَتعارضانِ فلا يُرَجَّحُ أحَدُهما إلاَّ بِمُرَجِّحٍ، حَكَاهُ ابنُ الحاجبِ، ووَجهُهُ أنَّ معَ الْمُعَدِّلِ زيادةَ قُوَّةٍ بالكثرةِ، ومعَ الجارحِ زيادةَ قُوَّةٍ بالاطِّلاعِ على الباطنِ، وبالجَمْعِ المُمْكِنِ.
وقيلَ: يُقَدَّمُ الأحفَظُ.
ثمَّ إنَّ كُلَّ ما تَقدَّمَ فيما إذا صَدَرَا مِنْ قَائِلَيْنِ، أمَّا إذا كَانَا مِنْ قائلٍ واحدٍ كما يَتَّفِقُ لابنِ مَعِينٍ وغيرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْدِ، فهذا قدْ لا يكونُ تَناقُضاً، بلْ نِسبِيًّا في أحَدِهما، أوْ ناشئاً عنْ تَغَيُّرِ اجتهادٍ، وحينئذٍ فلا يَنْضَبِطُ بأَمْرٍ كُلِّيٍّ، وإنْ قالَ بعضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ الظاهرَ أنَّ المعمولَ بهِ المُتَأَخِّرُ منهما إنْ عُلِمَ، وإلاَّ وَجَبَ التَّوَقُّفُ.
ومُبْهَمُ التعديلِ ليسَ يَكْتَفِي به الْخَطيبُ والفقيهُ الصَّيْرَفِي
وقيلَ يَكْفِي نَحْوُ أنْ يُقَالا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ بلْ لَوْ قَالا
جَميعُ أَشْيَاخِي ثِقاتٌ لَوْ لَمْ أُسَمِّ لا يُقْبَلُ مَنْ قَدْ أَبْهَمْ
وَبَعْضُ مَن حَقَّقَ لم يَرُدَّهُ مِنْ عالِمٍ في حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ
ولم يَرَوْا فُتْيَاهُ أو عَمَلَهُ على وِفاقِ الْمَتْنِ تَصحيحاً لَهُ
وليسَ تَعديلاً على الصحيحِ روايةُ العَدْلِ على التصريحِ
السادسُ: في التعديلِ الْمُبْهَمُ، ومُجَرَّدِ الروايَةِ عن الْمُعَيَّنِ بدُونِ تعديلٍ، وغيرِ ذلكَ.
(ومُبْهَمُ التعديلِ)؛ أيْ: تَعْدِيلُ الْمُبْهَمِ، (ليسَ يَكتفِي بِهِ) الحافظُ أبو بكرٍ (الخطيبُ)، وعَصْرِيُّهُ أبو نَصْرِ بنُ الصَّبَّاغِ، (وَ) مِنْ قَبْلِهما (الفقيهُ) أبو بكرٍ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ (الصَّيْرَفِي) شارِحُ الرسالةِ، وغيرُهم مِن الشافعيَّةِ؛ كالماوَرْدِيِّ والرُّويَانِيِّ، سواءٌ في ذلكَ الْمُقَلِّدُ وغيرُهُ.
(وقيلَ: يَكْفِي) كما لوْ عَيَّنَهُ؛ لأنَّهُ مَأْمُونٌ في الحالتَيْنِ معاً، نَقَلَهُ ابنُ الصَّبَّاغِ أيضاً في (الْعُدَّةِ) عنْ أبي حَنيفةَ، وهوَ مَاشٍ على قولِ مَنْ يَحْتَجُّ بالمُرْسَلِ، مِنْ أجْلِ أنَّ المُرْسِلَ لوْ لم يَحْتَجَّ بالمحذوفِ لَمَا حَذَفَهُ، فكأنَّهُ عَدَّلَهُ، بلْ هوَ في مسألتِنا أَوْلَى بالقَبولِ؛ لتصريحِهِ فيها بالتعديلِ.
ولكنَّ الصحيحَ الأوَّلُ؛ لأنَّهُ لا يَلزَمُ مِنْ تَعديلِهِ أنْ يكونَ عندَ غيرِهِ كذلكَ، فَلَعَلَّهُ إذا سَمَّاهُ يُعرَفُ بخِلافِها، ورُبَّما يكونُ قد انْفَرَدَ بتوثيقِهِ كما وَقَعَ للشافعيِّ في إبراهيمَ بنِ أَبِي يَحْيَى، فقدْ قالَ النوويُّ: إنَّهُ لم يُوَثِّقْهُ غيرُهُ، وهوَ ضعيفٌ باتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، بلْ إضرابُ الْمُحَدِّثِينَ عنْ تَسميتِهِ رِيبةٌ تَقعُ تَرَدُّداً في القلْبِ.
قالَ ابنُ أبي الدَّمِ: وهذا مأخوذٌ مِنْ شاهدِ الأصْلِ إذا شَهِدَ عليهِ شاهِدُ فَرْعٍ، فلا بُدَّ مِنْ تَسميتِهِ للحاكمِ المشهودِ عندَهُ بالاتِّفاقِ عندَ الشافعيِّ وأصحابِهِ، فإذا قالَ شاهدُ الفرْعِ: أَشْهَدَنِي شاهدُ أصْلٍ أَشْهَدُ بعدالتِهِ وَثَّقْتُهُ أنَّهُ يَشهدُ بِكَذَا، لم يُسْمَعْ ذلكَ وِفاقاً حتَّى يُعَيِّنَهُ للحاكمِ، ثمَّ الحاكمُ إنْ عَلِمَ عدالةَ شاهدِ الأصْلِ عَمِلَ بمُوجَبِ الشهادةِ، وإنْ جَهِلَ حالَهُ استَزْكَاهُ. انتهى.
وصُورتُهُ: (نَحْوُ أنْ يُقَالا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ) أو الضابطُ أو العَدْلُ مِنْ غيرِ تَسميَةٍ، (بَلْ) صَرَّحَ الخطيبُ بأنَّهُ (لَوْ قَالا) أَيْضاً: (جَمِيعُ أشياخِي) الذينَ رَوَيْتُ عنهم (ثِقاتٌ).
و(لوْ لَمْ أُسَمِّ)، ثمَّ رَوَى عنْ واحدٍ أَبْهَمَ اسْمَهُ (لا يُقْبَلُ) أيضاً (مَنْ قدْ أَبْهَمْ)؛ للعِلَّةِ المذكورةِ، هذا معَ كونِهِ في هذهِ الصورةِ أَعلَى ممَّا تَقدَّمَ؛ فإنَّهُ كما نَقَلَ عن الْمُصَنِّفِ إذا قالَ: حَدَّثَني الثِّقَةُ، يُحْتَمَلُ أنَّهُ يَرْوِي عنْ ضعيفٍ، يَعْنِي عندَ غيرِهِ، وإذا قالَ: جَمْعُ أشياخِي ثِقاتٌ، عَلِمَ أنَّهُ لا يَروِي إلاَّ عنْ ثِقةٍ، فهيَ أَرفعُ بهذا الاعتبارِ، وفيهِ نَظَرٌ؛ إذِ احتمالُ الضَّعْفِ عندَ غيرِهِ قدْ طَرَقَهما معاً.
بلْ تَمتازُ الصُّورةُ الثانيَةُ باحتمالِ الذُّهُولِ عنْ قَاعِدَتِهِ، أوْ كَوْنِهِ لم يَسْلُكْ ذلكَ إلاَّ في آخِرِ أمْرِهِ، كما رُوِيَ أنَّ ابنَ مَهدِيٍّ كانَ يَتَسَاهَلُ أوَّلاً في الروايَةِ عنْ غيرِ واحدٍ بحيثُ كانَ يَروِي عنْ جابرٍ الْجُعْفِيِّ، ثمَّ شَدَّدَ. نعمْ، جَزَمَ الخطيبُ بأنَّ العالِمَ إذا قالَ: كُلُّ مَنْ أَرْوِي لَكُمْ عنهُ وأُسَمِّيهِ فهوَ عدْلٌ رَضِيٌّ، كانَ تَعديلاً منهُ لِكُلِّ مَنْ رَوَى عنهُ وسَمَّاهُ، يَعنِي بحيثُ يَسوغُ لنا إضافةُ تَعديلِهِ لهُ، قالَ: وقدْ يُوجَدُ فيهم الضعيفُ؛ لِخَفاءِ حالِهِ على القائلِ.
قُلْتُ: أوْ لكَوْنِ عَمَلِهِ بقولِهِ هذا ممَّا طَرَأَ كما قَدَّمْتُهُ، (وبعضُ مَنْ حَقَّقَ) كما حَكَاهُ ابنُ الصلاحِ ولم يُسَمِّهِ، ولَعَلَّهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَصَّلَ حَيْثُ (لم يَرُدَّهُ)؛ أي: التعديلَ لِمَنْ أُبْهِمَ إذا صَدَرَ (مِنْ عالِمٍ)؛ كمالِكٍ والشافعيِّ ونحوِهما مِن المُجْتَهِدِينَ الْمُقَلِّدِينَ، (في حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ) في مَذهبِهِ، فكثيراً ما يَقعُ للأئمَّةِ ذلكَ، فحيثُ رَوَى مالكٌ عن الثِّقَةِ عنْ بُكَيْرِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الأَشَجِّ، فالثِّقَةُ مَخْرَمَةُ وَلَدُهُ، أوْ عن الثِّقَةِ عنْ عمرِو بنِ شُعيبٍ، فقيلَ: إنَّهُ عبدُ اللَّهِ بنُ وَهْبٍ، أو الزُّهْرِيُّ، أو ابنُ لَهيعةَ، أوْ عمَّنْ لا يُتَّهَمُ مِنْ أهلِ العلْمِ، فهوَ اللَّيْثُ.
وجميعُ ما يَقولُ: بَلَغَنِي عنْ عَلِيٍّ، سَمِعَهُ مِنْ عبدِ اللَّهِ بنِ إدريسَ الأَوْدِيِّ. وحيثُ رَوَى الشافعيُّ عن الثقةِ عن ابنِ أبي ذِيبٍ، فهوَ ابنُ أبي فَدِيكٍ، أوْ عن الثقةِ عن الليثِ بنِ سعْدٍ، فهوَ يَحْيَى بنُ حَسَّانَ، أوْ عن الثقةِ عن الوليدِ بنِ كثيرٍ، فهوَ أبو أُسَامَةَ، أوْ عن الثقةِ عن الأَوزاعيِّ، فهوَ عمرُو بنُ أبي سَلَمةَ، أوْ عن الثقةِ عن ابنِ جُريجٍ، فهوَ مُسْلِمُ بنُ خالدٍ، أوْ عن الثِّقَةِ عنْ صالحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، فهوَ إبراهيمُ بنُ أبي يَحْيَى، أوْ عن الثِّقَةِ وذَكَرَ أحَداً مِن العِراقِيِّينَ فهوَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ.
وما رُوِيَ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ أنَّهُ قالَ: كُلُّ شيءٍ في كتابِ الشافعيِّ " أَنَا الثَّقَةُ " فهوَ أَبِي، يُمكِنُ أنْ يُحْمَلَ على هذا. نَعَمْ، في مُسْنَدِ الشافعيِّ، وَسَاقَهُ البَيهقيُّ في مَناقِبِهِ عن الربيعِ أنَّ الشافعيَّ إذا قالَ: " أَخْبَرَني الثقةُ " فهوَ يحيى بنُ حَسَّانَ، أوْ " مَنْ لا أَتَّهِمُ " فهوَ إبراهمُ بنُ أبي يحيى، أوْ " بَعْضُ الناسِ " فَيُرِيدُ بهِ أهلَ العراقِ، أوْ " بَعْضُ أصحابِنا " فأهلُ الحجازِ.
وقالَ شيخُنا: إنَّهُ يُوجدُ في كلامِ الشافعيِّ، أخْبَرَني الثقةُ عنْ يحيى بنِ أبي كثيرٍ، والشافعيُّ لم يَأْخُذْ عنْ أحَدٍ ممَّنْ أَدْرَكَ يحيى، فيُحْمَلُ على أنَّهُ أَرادَ بِسَنَدِهِ إلى يَحْيَى، بخِلافِ مَنْ لم يُقلِّدْ كابنِ إسحاقَ؛ حيثُ يقولُ: أَخْبَرَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ عنْ مِقْسَمٍ، فذلكَ لا يكونُ حُجةً لغيرِهِ، لا سِيَّما وقدْ فُسِّرَ بالحسَنِ بنِ عِمارةَ المعروفِ بالضعفِ، وكسِيبَوَيْهِ؛ فإنَّ أبا زيدٍ قالَ: إذا قالَ: سِيبويهِ حدَّثَنِي، فإنَّما يَعْنِينِي.
وعلى هذا القولِ يَدُلُّ كلامُ ابنِ الصَّبَّاغِ في (العُدَّةِ)؛ فإنَّهُ قالَ: إنَّ الشافعيَّ لم يُورِدْ ذلكَ احتجاجاً بالخَبَرِ على غيرِهِ، وإنَّما ذَكَرَ لأصحابِهِ قِيامَ الْحُجَّةِ عندَهُ على الحكَمِ، وقدْ عَرَفَ هُوَ مَنْ رَوَى عنهُ ذلكَ، لَكِنْ قدْ تَوَقَّفَ شَيْخُنا في هذا القولِ، وقالَ: إنَّهُ ليسَ مِن الْمَبْحَثِ؛ لأنَّ الْمُقَلِّدَ يَتْبَعُ إمامَهُ، ذَكَرَ دَلِيلَهُ أمْ لا.
تَنبيهٌ: أَلْحَقَ ابنُ السُّبْكِيِّ يُحَدِّثُني الثِّقَةُ مِنْ مِثْلِ الشافعيِّ دُونَ غيرِهِ، حَدَّثَني مَنْ لا أَتَّهِمُ في مُطْلَقِ القَبولِ، لا في الْمَرتبةِ. وفرَّقَ بَيْنَهما الذَّهَبِيُّ وقالَ: إنَّ قولَ الشافعيِّ: أَخْبَرَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ، ليسَ بحُجَّةٍ؛ لأنَّ مَنْ أَنْزَلَهُ مِنْ رُتْبَةِ الثِّقَةِ إلى أنَّهُ غيرُ مُتَّهَمٍ فهوَ لَيِّنٌ عندَهُ، وضعيفٌ عندَ غيرِهِ؛ لأنَّهُ عندَنا مَجهولٌ، ولا حُجَّةَ في مجهولٍ.
ونَفْيُ الشافعيِّ التُّهْمَةَ عمَّن حَدَّثَهُ لا يَستلزِمُ نَفْيَ الضعْفِ؛ فإنَّ ابنَ لَهيعةَ ووالِدَ عَلِيِّ بنِ الْمَدِينِيِّ وعبدَ الرحمنِ بنَ زيادٍ الأفريقيَّ وأمثالَهم لَيْسُوا ممَّنْ نَتَّهِمُهم على السُّنَنِ، وهم ضُعفاءُ لا نَقْبَلُ حديثَهم للاحتجاجِ بهِ.
قالَ ابنُ السُّبْكِيِّ: وهوَ صحيحٌ، إلاَّ أنْ يكونَ قولُ الشافعيِّ ذلكَ حينَ احتجاجِهِ بهِ، فإنَّهُ هوَ والتوثيقُ حينئذٍ سواءٌ في أصْلِ الْحُجَّةِ، وإنْ كانَ مَدْلُولُ اللفظِ لا يَزِيدُ على ما ذَكَرَهُ الذهبيُّ.
(ولم يَرَوْا)؛ أي: الجمهورُ، كما هوَ قَضِيَّةُ كلامِ ابنِ الصلاحِ، (فُتياهُ) أوْ فَتواهُ كما هيَ بخَطِّ الناظمِ؛ أي: العالِمِ مُجْتَهِداً كانَ أوْ مُقَلِّداً، (أو عَمَلَهُ) في الأَقْضِيَةِ وغيرِها.
(على وِفاقِ الْمَتْنِ)؛ أي: الحديثِ الواردِ في ذلكَ المعنى، حيثُ لم يَظهرْ أنَّ ذلكَ بِمُفْرَدِهِ مُسْتَنَدُهُ، (تَصحيحاً لَهُ)؛ أيْ: للمَتْنِ، ولا تَعديلاً لرَاويهِ؛ لإمكانِ أنْ يكونَ لِدَلِيلٍ آخَرَ وافَقَ ذلكَ المَتْنَ مِنْ مَتْنٍ غيرِهِ، أوْ إجماعٍ أوْ قياسٍ، أوْ يكونَ ذلكَ منهُ احتياطاً، أوْ لكونِهِ ممَّنْ يَرَى العمَلَ بالضعيفِ وتقديمَهُ على القِياسِ، كما تَقَدَّمَ عنْ أحمدَ وأبي داودَ، ويكونُ اقتصارُهُ على هذا الْمَتْنِ أنَّ ذِكْرَهُ إمَّا لكونِهِ أَوْضَحَ في المُرَادِ، أوْ لأَرْجَحِيَّتِهِ على غيرِهِ، أوْ بغيرِ ذلكَ.
قالَ ابنُ الصلاحِ: وكذلكَ مُخَالَفَتُهُ للحديثِ لَيْسَتْ قَدْحاً منهُ في صِحَّتِهِ، ولا في راوِيهِ، قالَ الخطيبُ: لأنَّهُ قدْ يكونُ عَدَلَ عنهُ لِمُعَارِضٍ أَرجحَ عندَهُ منهُ مِنْ نَسْخٍ وغيرِهِ معَ اعتقادِ صِحَّتِهِ، وبهِ قَطَعَ ابنُ كثيرٍ. وممَّن صَرَّحَ بأنَّ العملَ بخَبرٍ انفرَدَ بهِ راوٍ لأجلِهِ، يعني: جَزْماً، يكونُ تَعديلاً لهُ، الخطيبُ وغيرُهُ؛ لأنَّهُ لم يَعْمَلْ بخبرِهِ إلاَّ وهوَ رَضِيٌّ عندَهُ، فكانَ ذلكَ قائماً مقامَ التصريحِ بتعديلِهِ.
ونَحْوُهُ قولُ ابنِ الحاجبِ: إنَّ حُكْمَ الحاكمِ المشتَرِطِ العدالةَ بالشهادةِ تعديلٌ باتِّفَاقٍ، وعَمَلَ العالِمِ مِثْلُهُ.
(وَ) كَذَا (ليسَ تَعديلاً) مُطْلَقاً (على) القولِ (الصحيحِ) الذي قالَ بهِ أكثرُ العلماءِ مِن الْمُحَدِّثِينَ وغيرِهم، (روايَةُ العَدْلِ) الحافظِ الضابطِ، فضْلاً عنْ غيرِهِ، عن الراوي (عَلَى) وجهِ (التصريحِ) باسْمِهِ؛ لأنَّهُ يَجوزُ أنْ يَرويَ عمَّنْ لا يُعرَفُ عدالتُهُ، بلْ وعنْ غيرِ عدْلٍ، فلا تَتضمَّنُ روايتُهُ عنهُ تَعديلَهُ ولا خَبَراً عنْ صِدْقِهِ، كما إذا شَهِدَ شاهدُ فَرْعٍ على شاهدِ أَصْلٍ لا يكونُ مُجَرَّدُ أدائِهِ الشهادةَ على شَهادتِهِ تَعديلاً منهُ لهُ بالاتِّفاقِ، وكذا إذا أَشْهَدَ الحاكمُ على نفْسِهِ رجُلاً بما ثَبَتَ عندَهُ لا يكونُ تعديلاً لهُ على الأَصَحِّ.
وقدْ تَرْجَمَ البَيهقيُّ في (الْمَدْخَلِ) على هذهِ المسألةِ: " لا تَسْتَدِلَّ بمعرفةِ صِدْقِ مَنْ حَدَّثَنا على صِدْقِ مَنْ فَوْقَهُ "، بلْ صَرَّحَ الخطيبُ بأنَّهُ لا يَثْبُتُ للراوِي حُكْمُ العدالةِ بِمُجَرَّدِ روايَةِ اثنَيْنِ مَشهورَيْنِ عنهُ.
والثاني: أنَّهُ تَعديلٌ مُطْلَقاً؛ إذ الظاهرُ أنَّهُ لا يَرْوِي إلاَّ عنْ عَدْلٍ؛ إذْ لوْ عَلِمَ فيهِ جَرْحاً لذَكَرَهُ؛ لِئَلاَّ يكونَ غَاشًّا في الدِّينِ، حكَاهُ جماعةٌ منهم الخطيبُ.
وكذا قالَ ابنُ الْمُنيرِ في (الكَفيلِ): للتَّعْدِيلِ قِسمانِ: صَرِيحِيٌّ وغيرُ صَريحيٍّ، فالصَّرِيحيُّ وَاضِحٌ، وغيرُ الصَّرِيحيِّ، وهوَ الضِّمْنِيُّ، كَرِوَايَةِ العدْلِ وعَمَلِ العالِمِ.
ورَدَّهُ الخطيبُ بأنَّهُ قدْ لا يُعْلَمُ عدالتُهُ ولا جَرحُهُ، كيفَ وقدْ وُجِدَ جماعةٌ مِن العُدولِ الثِّقاتِ رَوَوْا عنْ قَوْمٍ أحاديثَ أَمْسَكُوا في بعضِها عنْ ذِكْرِ أحوالِهم معَ عِلْمِهم بأنَّهُم غَيْرُ مَرْضِيِّينَ، وفي بَعْضِها شَهِدُوا عليهم بالكذِبِ.
وكذا خَطَّأَهُ الفَقيهُ أبو بكرٍ الصَّيْرَفِيُّ وقالَ: " لأنَّ الروايَةَ تَعريفٌ؛ أَيْ: مُطْلَقُ تعريفٍ، يَزولُ جَهالةُ العَينِ بها بشَرْطِهِ، والعدالةُ بالْخِبرةِ، والروايَةُ لا تَدُلُّ على الْخِبرةِ ".
وقدْ قالَ سُفيانُ الثوريُّ: إِنِّي لأَرْوِي الحديثَ على ثلاثةِ أَوْجُهٍ، فَلِلْحُجَّةِ مِنْ رَجُلٍ، وللتَّوَقُّفِ فيهِ مِنْ آخَرَ، ولِمَحَبَّةِ مَعرفةِ مَذهبِ مَنْ لا أَعْتَدُّ بحديثِهِ، لَكِنْ قدْ عابَ شُعبةُ عليهِ ذلكَ. وَقِيلَ لأبي حَاتِمٍ الرازيِّ: أهلُ الحديثِ رُبَّما رَوَوْا حديثاً لا أصْلَ لهُ ولا يَصِحُّ، فقالَ: عُلماؤُهم يَعْرِفُونَ الصحيحَ مِن السَّقِيمِ، فَرِوَايَتُهم الحديثَ الواهِيَ للمعرفةِ؛ لِيَتبيَّنَ لِمَنْ بعدَهم أنَّهُم مَيَّزُوا الآثارَ وحَفِظُوها.
قالَ البَيهقيُّ: فعلى هذا الوجهِ كانتْ روايَةُ مَنْ رَوَى مِن الأئمَّةِ عن الضُّعفاءِ.
والثالثُ: التفصيلُ، فَإِنْ عُلِمَ أنَّهُ لا يَرْوِي إلاَّ عنْ عَدْلٍ كانتْ رِوَايَتُهُ عن الرَّاوِي تَعديلاً لهُ، وإلاَّ فلا، وهذا هوَ الصحيحُ عندَ الأُصُولِيِّينَ؛ كالسَّيْفِ الآمِدِيِّ وابنِ الحاجبِ وغيرِهما، بلْ وذَهَبَ إليهِ جَمْعٌ مِن الْمُحَدِّثِينَ، وإليهِ مَيْلُ الشَّيْخَيْنِ وابنِ خُزيمةَ في صِحَاحِهم، والحاكمِ في مُسْتَدْرَكِهِ، ونَحْوُهُ قولُ الشافعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فيما يَتَقَوَّى بهِ المُرْسَلُ: أنْ يكونَ المُرْسِلُ إذا سَمَّى مَنْ رَوَى عنهُ لم يُسَمِّ مَجهولاً ولا مَرْغُوباً عن الروايَةِ عنهُ. انتهى.
وأمَّا رِوايَةُ غَيْرِ العدْلِ فلا يكونُ تَعديلاً باتِّفاقٍ.
تَتِمَّةٌ: ممَّنْ كانَ لا يَروِي إلاَّ عنْ ثِقةٍ إلاَّ في النَّادِرِ: الإمامُ أحمدُ، وبَقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ، وحَرِيزُ بنُ عثمانَ، وسُليمانُ بن حرْبٍ، وشُعبةُ، وعبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ، ومالكٌ، ويحيى بنُ سعيدٍ القَطَّانُ، وذلكَ في شُعبةَ على المشهورِ، فإنَّهُ كانَ يَتَعَنَّتُ في الرجالِ ولا يَروِي إلاَّ عنْ ثَبْتٍ، وإلاَّ فقدْ قالَ عِصَامُ بنُ عَلِيٍّ: سَمِعْتُ شُعبةَ يقولُ: لوْ لم أُحَدِّثْكم إلاَّ عنْ ثِقةٍ لم أُحَدِّثْكم عنْ ثلاثةٍ. وفي نُسخةٍ: ثلاثينَ. وذلكَ اعْتِرَافٌ منهُ بأنَّهُ يَرْوِي عن الثقةِ وغيرِهِ، فيُنْظَرُ. وعلى كلِّ حالٍ فهوَ لا يَرْوِي عنْ مَتروكٍ، ولا عنْ مَنْ أُجْمِعَ على ضَعْفِهِ.
وأمَّا سُفيانُ الثوريُّ فكانَ يَترخَّصُ معَ سَعَةِ علْمِهِ وشِدَّةِ وَرَعِهِ ويَرْوِي عن الضُّعفاءِ، حتَّى قالَ فيهِ صَاحِبُهُ شُعبةُ: لا تَحْمِلُوا عن الثوريِّ إلاَّ عنْ مَنْ تَعرِفونَ؛ فإنَّهُ لا يُبالِي عمَّنْ حَمَلَ.
وقالَ الفَلاَّسُ: قالَ لي يحيى بنُ سعيدٍ: لا تَكْتُبْ عنْ مُعْتَمِرٍ إلاَّ عمَّنْ تَعْرِفْ؛ فإنَّهُ يُحَدِّثُ عنْ كُلٍّ.
واعلَمْ أنَّ ما وَقَعَ في هذا الفَصْلِ مِن التَّوَسُّطِ بينَ مَسْأَلَتَيْهِ بِمُوافقةِ حديثٍ+ لِمَا أَفْتَى بهِ العَالِمُ أوْ عَمِلَ بهِ، ظَاهِرٌ في المناسَبَةِ معَ القولِ الثالثِ الْمُفَصَّلِ في الأوَّلِ، وإنْ خالَفَ ابنُ الصَّلاحِ هذا الصَّنِيعَ.
واخْتَلَفُوا هل يُقْبَلُ الْمَجهولُ وهْوَ على ثلاثةٍ مَجْعُولُ
مجهولُ عَيْنٍ مَن لَهُ راوٍ فَقَطْ ورَدَّهُ الأَكْثَرُ والقِسْمُ الوَسَطْ
مجهولُ حَالٍ باطِنٍ وظاهِرِ وحُكْمُهُ الرَّدُّ لَدَى الْجَمَاهِرِ
والثالثُ المجهولُ للعَدَالَهْ في باطِنٍ فَقَطْ فقدْ رَأَى لَهْ
حُجِّيَّةً في الحُكْمِ بعضُ مَن مَنَعْ ما قَبْلَهُ منهم سُلَيْمٌ فقَطَعْ
بهِ وقالَ الشيخُ إنَّ العَمَلا يُشْبِهُ أنَّهُ على ذَا جُعِلا
في كُتُبٍ مِنَ الحديثِ اشْتَهَرَتْ خِبْرَةُ بَعْضِ مَن بِهَا تَعَذَّرَتْ
في باطِنِ الأَمْرِ وبعْضٌ يَشْهَرُ ذا القِسْمَ مَستوراً وفيهِ نَظَرُ
السابعُ: (واخْتَلَفُوا)؛ أي: العلماءُ، (هلْ يُقْبَلُ) الراوي (المجهولُ) معَ كونِهِ مُسَمًّى، (وهوَ على ثلاثةٍ) مِن الأقسامِ (مَجْعُولُ). الأوَّلُ: (مجهولُ عَيْنٍ)، وهوَ كما قالَهُ غيرُ واحدٍ: (مَنْ لهُ رَاوٍ) واحدٌ (فقَطْ)؛ كجَبَّارٍ -بالجيمِ ومُوَحَّدَةٍ وزنِ شَدَّادٍ، الطَّائِيِّ، وسعيدِ بنِ ذِي حُدَّانَ، وعبدِ اللَّهِ أوْ مالكِ بنِ أعَزَّ، بِمُهْمَلَةٍ ثمَّ مُعْجَمَةٍ، وعمرٍو المُلَقَّبِ ذِي مُرٍّ الْهَمْدَانيِّ، وقيسِ بنِ كُرْكُمَ الأحدَبِ؛ فإنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ هؤلاءِ لم يَرْوِ عنهُ سِوَى أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ، وكجُرَيِّ بنِ كُلَيْبٍ السَّدُوسِيِّ البَصْريِّ، وحَلاَّمِ بنِ جَزْلٍ، وسَمعانَ بنِ مُشَنَّجٍ أوْ مُشَمْرَجٍ، وعبدِ اللَّهِ بنِ سَعْدٍ التَّيْمِيِّ، وعبدِ الرحمنِ بنِ نَمِرٍ اليَحْصُبِيِّ، وعُمَيْرِ بنِ إسحاقَ القُرشيِّ، ومحمَّدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ المَخْزُوميِّ الْمَدنيِّ، ومحمَّدِ بنِ عُثمانَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ مَوْهِبٍ، وأبي يَحْيَى مولَى أبي جَعْدَةَ؛ حيثُ لم يَرْوِ عن الأوَّلِ إلاَّ قَتادةُ.
وعن الثاني إلاَّ أبو الطُّفَيْلِ الصحابيُّ، وعن الثالثِ إلاَّ الشَّعْبِيُّ، وعن الرابعِ إلاَّ بُكيرُ بنُ الأَشَجِّ، وعن الخامسِ إلاَّ الوليدُ بنُ مسلِمٍ، وعن السادسِ إلاَّ عبدُ اللَّهِ بنُ عَونٍ، وعن السابعِ إلاَّ الزُّهْرِيُّ، وعن الثامنِ إلاَّ شُعبةُ، وعن التاسعِ إلاَّ الأَعْمَشُ، هذا معَ تَخريجِ الشيخَيْنِ لابنِ مَوْهِبٍ لكنْ مَقروناً، والبخاريِّ لابنِ نَمِرٍ في المُتابَعَةِ، وللمخزوميِّ تَعليقاً، وللتَّيْمِيِّ في الأدَبِ المُفْرَدِ، ومسلِمٍ لأبي يَحْيَى في المتابَعَةِ، في أشباهٍ لذلكَ تُؤخذُ مِنْ جُزءِ الوُحْدَانِ لمسلِمٍ كما سَأُنَبِّهُ عليهِ فيمَنْ لم يَرْوِ عنهُ إلاَّ واحدٌ إنْ شاءَ اللَّهُ.
(وَ) لكنْ قدْ (رَدَّهُ)؛ أيْ: مجهولَ العينِ، (الأكثرُ) مِن العلماءِ مُطْلَقاً. وعِبارةُ الخطيبِ: " أَقَلُّ ما يَرْتَفِعُ بهِ الْجَهالةُ؛ أي: العَيْنِيَّةُ عن الراوي، أنْ يَرويَ عنهُ اثنانِ فصاعداً مِن المشهورينَ بالعلْمِ "، بلْ ظاهِرُ كلامِ ابنِ كثيرٍ الاتِّفاقُ عليهِ، حيثُ قالَ: " الْمُبْهَمُ الذي لم يُسَمَّ، أوْ مَنْ سُمِّيَ ولا تُعرَفُ عَينُهُ، لا يَقْبَلُ رِوايتَهُ أحَدٌ عَلِمْنَاهُ. نعمْ، قالَ: إنَّهُ إذا كانَ في عصْرِ التابعينَ والقُرونِ المشهودِ لأهلِها بالْخَيريَّةِ فإنَّهُ يُستأنَسُ برِوايتِهِ، ويُستضاءُ بها في مَواطنَ، كما أَسلَفْتُ حِكايتَهُ في آخِرِ رَدِّ الاحتجاجِ بالمُرْسَلِ.
وكأنَّهُ سَلَفَ ابنَ السُّبْكِيِّ في حكايَةِ الإجماعِ على الردِّ ونحوِهِ قولُ ابنِ الْمَوَّاقِ: " لا خِلافَ أعْلَمُهُ بينَ أئمَّةِ الحديثِ في رَدِّ المجهولِ الذي لم يَرْوِ عنهُ إلاَّ واحدٌ، وإنَّما يُحكَى الْخِلافُ عن الْحَنفيَّةِ "، يعني كما تَقَدَّمَ.
وقدْ قَبِلَ أهلُ هذا القِسْمِ مُطلَقاً مِن العُلماءِ مَنْ لم يَشترِطْ في الراوي مَزِيداً على الإسلامِ، وعَزاهُ ابنُ الْمَوَّاقِ للحَنفيَّةِ؛ حيثُ قالَ: إنَّهُم لم يَفْصِلُوا بينَ مَنْ رَوَى عنهُ واحدٌ وبينَ مَنْ رَوَى عنهُ أكثرُ مِنْ واحدٍ، بلْ قَبِلُوا رِوايَةَ المجهولِ على الإطلاقِ. انتهى.
وهوَ لازمُ كُلِّ مَنْ ذهَبَ إلى أنَّ رِوايَةَ العدْلِ بِمُجَرَّدِها عن الراوي تَعديلٌ لهُ، بلْ عَزَا النوويُّ في مُقَدِّمَةِ شَرْحِ مسلِمٍ لكثيرينَ مِن الْمُحَقِّقِينَ الاحتجاجَ بهِ.
وكذا ذَهَبَ ابنُ خُزيمةَ إلى أنَّ جَهالةَ العَينِ تَرتفعُ بروايَةِ واحدٍ مشهورٍ. وإليهِ يُومِئُ قولُ تِلميذِهِ ابنِ حِبَّانَ: العدْلُ مَنْ لم يُعرَفْ فيهِ الْجَرْحُ؛ إذ التجريحُ ضِدُّ التعديلِ، فمَنْ لم يُجَرَّحْ فهوَ عدْلٌ حتَّى يَتبيَّنَ جَرْحُهُ، إذْ لم يُكَلَّف الناسُ ما غابَ عنهم. وقالَ في ضابطِ الحديثِ الذي يُحْتَجُّ بهِ ما مُحَصِّلُهُ: إنَّهُ هوَ الذي تَعَرَّى رَاوِيهِ مِنْ أنْ يكونَ مَجروحاً، أوْ فوقَهُ مَجْرُوحٌ، أوْ دونَهُ مَجروحٌ، أوْ كانَ سنَدُهُ مُرسَلاً أوْ مُنْقَطِعاً، أوْ كانَ الْمَتنُ مُنْكَراً، فهذا مُشعِرٌ بعدالةِ مَنْ لم يُجَرَّحْ ممَّنْ لم يَرْوِ عنهُ إلاَّ واحدٌ.
ويَتأيَّدُ بقولِهِ في ثِقاتِهِ: أيُّوبُ الأنصاريُّ عنْ سعيدِ بنِ جُبيرٍ وعنهُ مَهديُّ بنُ ميمونٍ: لا أَدْرِي مَنْ هوَ، ولا ابنَ مَنْ هوَ؟ فإنَّ هذا منهُ يُؤَيِّدُ أنَّهُ يَذكُرُ في الثقاتِ كلَّ مَجهولٍ رَوَى عنهُ ثِقةٌ ولم يُجَرَّحْ، ولم يَكُن الحديثُ الذي يَرويهِ مُنكَراً، وقدْ سلَفَت الإشارةُ لذلكَ في الصحيحِ الزائدِ على الصحيحَيْنِ.
وقَيَّدَ بعضُهم القَبولَ بما إذا كانَ المُنْفَرِدُ بالروايَةِ عنهُ لا يَرْوِي إلاَّ عنْ عدْلٍ؛ كابنِ مَهدِيٍّ وغيرِهِ ممَّنْ سَلَفَ ذِكْرُ جماعةٍ منهم حيثُ اكْتَفَيْنَا في التعديلِ بواحدٍ على المُعْتَمَدِ كما تَقدَّمَ، وهوَ مَخْدُوشٌ بما بُيِّنَ قَريباً، وكذا خَصَّهُ ابنُ عبدِ الْبَرِّ بِمَنْ يكونُ مَشهوراً، أيْ بالاستفاضةِ ونحوِها في غيرِ العلْمِ بالزُّهْدِ كشُهرةِ مالكِ بنِ دِينارٍ بهِ، أوْ بالنَّجْدَةِ كعمرِو بنِ مَعْدِي كَرِبَ، أوْ بالأدَبِ والصناعةِ ونحوِها.
فأمَّا الشُّهْرَةُ بالعلْمِ والثِّقَةِ والأمانةِ فهيَ كافِيَةٌ مِنْ بابِ أَوْلَى، كما تَقدَّمَ في الفصْلِ الثاني، بلْ نَقَلَهُ الخطيبُ في الكفايَةِ هنا أيضاً عنْ أصحابِ الحديثِ؛ فإنَّهُ قالَ: المجهولُ عندَ أصحابِ الحديثِ هوَ مَنْ لم يَشْتَهِرْ بطَلبِ العلْمِ في نفْسِهِ، ولا عرَفَهُ العلماءُ بهِ، ومَنْ لم يُعرَفْ حديثُهُ إلاَّ مِنْ جِهةِ راوٍ واحدٍ، يَعني حيثُ لم يَشْتَهِرْ. ونحْوُهُ ما نَقَلَهُ ابنُ الصلاحِ عنهُ أيضاً أنَّهُ قالَ في أَجْوِبَةِ مسائلَ سُئلَ عنها: المجهولُ عندَ أصحابِ الحديثِ هوَ كُلُّ مَنْ لم يَعرفْهُ العلماءُ، ومَنْ لم يُعْرَفْ حديثُهُ إلاَّ مِنْ جِهةِ راوٍ واحدٍ.
ولِذا قالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ: الذي أقولُهُ أنَّ مَنْ عُرِفَ بالثقةِ والأمانةِ والعدالةِ لا يَضُرُّهُ إذا لم يَرْوِ عنهُ إلاَّ واحدٌ. ونحْوُهُ قولُ أبي مسعودٍ الدِّمَشْقِيِّ الحافظِ: إنَّهُ بروايَةِ الواحدِ لا تَرتفعُ عن الراوي اسمُ الجهالةِ، إلاَّ أنْ يكونَ مَعروفاً في قَبيلتِهِ، أوْ يَروِيَ عنهُ آخَرُ.
ويَقْرُبُ مِنْ ذلكَ انفرادُ الواحدِ عمَّن يَرْوِي عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ حيثُ جزَمَ المؤلِّفُ بأنَّ الحقَّ أنَّهُ إنْ كانَ الْمُضِيفُ إلى النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ معروفاً بذِكْرِهِ في الغَزواتِ، أوْ فيمَنْ وفَدَ عليهِ، أوْ نحْوِ ذلكَ؛ فإنَّهُ ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ بذلكَ معَ كونِهِ لم يَرْوِ عنهُ إلاَّ واحدٌ.
وخَصَّ بعضُهم القَبولَ بِمَنْ يُزَكِّيهِ معَ روايَةِ الواحدِ أحَدٌ مِنْ أئمَّةِ الجرْحِ والتعديلِ، واختارَهُ ابنُ القَطَّانِ في (بيانِ الوهْمِ والإيهامِ)، وصحَّحَهُ شيخُنا، وعليهِ يَتَمَشَّى تخريجُ الشيخَيْنِ في صَحِيحَيْهِما لجماعةٍ أَفْرَدَهم المُؤَلِّفُ بالتأليفِ.
فمِنهم مِمَّن اتُّفِقَ عليهِ حُصينُ بنُ محمَّدٍ الأنصاريُّ الْمَدنيُّ، وممَّن انْفَرَدَ بهِ البخاريُّ جُوَيْرِيَةُ أوْ جاريَةُ بنُ قُدامةَ، وزيدُ بنُ رَباحٍ الْمَدَنِيُّ، وعبدُ اللَّهِ بنُ وَديعةَ الأنصاريُّ، وعُمَرُ بنُ محمَّدِ بنِ جُبيرِ بنِ مُطعِمٍ، والوليدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الجَارُودِيُّ، وممَّن انفَرَدَ بهِ مسلِمٌ جابرُ بنُ إسماعيلَ الْحَضرميُّ، وخَبَّابٌ الْمَدَنِيُّ صاحبُ المقصورةِ؛ حيثُ تَفرَّدَ عن الأوَّلِ الزُّهْرِيُّ، وعن الثاني أبو جَمْرَةَ نصرُ بنُ عِمرانَ الضَّبَعِيُّ، وعن الثالثِ مالكٌ، وعن الرابعِ أبو سعيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، وعن الخامسِ الزُّهْرِيُّ، وعن السادسِ ابنُهُ الْمُنْذِرُ، وعن السابعِ ابنُ وَهْبٍ، وعن الثامنِ عامرُ بنُ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ؛ فإنَّهُم معَ ذلكَ مُوَثَّقُونَ لم يَتعرَّضْ أحَدٌ مِنْ أئمَّةِ الجرْحِ والتعديلِ لأحَدٍ منهم بتَجهيلٍ.
نَعَمْ، جَهَّلَ أبو حاتمٍ مُحمَّدَ بنَ الحكَمِ الْمَرْوَزِيَّ الأحولَ أحَدَ شيوخِ البخاريِّ في صحيحِهِ، والمُنْفَرِدَ عنهُ بالروايَةِ؛ لكونِهِ لم يَعْرِفْهُ.
ولكِنْ نَقولُ: معرفةُ البخاريِّ بهِ التي اقْتَضَتْ لهُ روايتَهُ عنهُ ولَو انفرَدَ بهما كافيَةٌ في تَوثيقِهِ، فضْلاً عنْ أنَّ غيرَهُ قدْ عَرَفَهُ أيضاً، ولِذَا صَرَّحَ ابنُ رَشيدٍ كما سيَأْتِي بأنَّهُ لوْ عُدَّ لهُ المنفَرِدُ عنهُ كَفَى.
وصَحَّحَهُ شيخُنا أيضاً إذا كانَ مُتَأَهِّلاً لذلكَ، ومِنْ هُنا ثَبَتَتْ صُحبةُ الصحابِيِّ بروايَةِ الواحدِ الْمُصَرَّحِ بصُحبتِهِ عنهُ.
على أنَّ قولَ أبي حاتمٍ في الرَّجُلِ: إنَّهُ مجهولٌ، لا يُريدُ بهِ أنَّهُ لم يَرْوِ عنهُ سِوَى واحدٍ، بدليلِ أنَّهُ قالَ في داودَ بنِ يَزيدَ الثقفيِّ: مجهولٌ، معَ أنَّهُ قدْ روَى عنهُ جماعةٌ، ولِذَا قالَ الذهبيُّ عَقِبَهُ: هذا القولُ يُوَضِّحُ لكَ أنَّ الرجُلَ قدْ يكونُ مَجهولاً عندَ أبي حاتمٍ ولوْ رَوَى عنهُ جماعةٌ ثِقاتٌ، يعني أنَّهُ مجهولُ الحالِ، وقدْ قالَ في عبدِ الرَّحيمِ بنِ كَرْدَمٍ بعدَ أنْ عَرَّفَهُ بروايَةِ جماعةٍ عنهُ: إنَّهُ مَجهولٌ.
ونَحْوُهُ قولُهُ في زيادِ بنِ جاريَةَ التميميِّ الدِّمَشْقيِّ معَ أنَّهُ قيلَ في زيادٍ هذا: إنَّهُ صَحَابِيٌّ. وبما تَقرَّرَ ظَهَرَ أنَّ قولَ ابنِ الصلاحِ في بعضِ مَنْ خَرَّجَ لهم صَاحِبَا الصحيحِ ممَّنْ لم يَرْوِ عنهم إلاَّ واحدٌ ما نَصُّهُ: " وذلكَ مُصَيَّرٌ منْهُما إلى أنَّ الراويَ قدْ يَخرُجُ عنْ كونِهِ مَجهولاً مَرْدُوداً بروايَةِ واحدٍ عنهُ "، ليسَ على إطلاقِهِ.
وممَّنْ أَثْنَى على مَن اعْتُرِفَ لهُ بأنَّهُ لم يَرْوِ عنهُ إلاَّ واحدٌ أبو داودَ، فقالَ في عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ غانِمٍ الرُّعَيْنِيِّ قاضي إفريقيَّةَ: أحَادِيثُهُ مُستقيمةٌ، ما أعلَمُ حدَّثَ عنهُ غيرُ القَعْنَبِيِّ وابنِ الْمَدينيِّ، فقالَ في جَوْنِ بنِ قَتادةَ: إنَّهُ معروفٌ لم يَرْوِ عنهُ غيرُ الحسنِ البَصريِّ.
وإنَّما أَورَدْتُ كلامَهُ لبيانِ مَذهبِهِ، وإلاَّ فَجَوْنٌ قدْ رَوَى عنهُ غيرُ الحسَنِ، على أنَّ ابنَ الْمَدينيِّ نفْسَهُ قالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّهُ مِن المَجْهُولِينَ مَنْ شُيُوخِ الحسَنِ.
وبالجُمْلَةِ فرِوايَةُ إمامٍ ناقلٍ للشريعةِ لرَجُلٍ ممَّن لم يَرْوِ عنهُ سِوَى واحدٍ في مقامِ الاحتجاجِ كافيَةٌ في تَعريفِهِ وتَعديلِهِ.
ووراءَ هذا كلِّهِ مُخالَفَةُ ابنِ رَشيدٍ في تَسميتِهِ مَنْ لم يَرْوِ عنهُ إلاَّ واحدٌ مجهولَ العَيْنِ، معَ مُوافقتِهِ على عدَمِ قَبولِهِ؛ فإنَّهُ قالَ: لا شَكَّ أنَّ روايَةَ الواحدِ الثِّقةِ تَخرجُ عنْ جَهالةِ العينِ إذا سَمَّاهُ ونَسَبَهُ.
وقَسَّمَ بعضُهم المجهولَ فقالَ: مجهولُ العَينِ والحالِ معاً؛ كَعَنْ رجُلٍ، والعينِ فقطْ؛ كَعَن الثِّقَةِ، يعني على القولِ بالاكتفاءِ بهِ، أوْ عنْ رجُلٍ مِن الصحابةِ، والحالِ فقطْ؛ كمَنْ روَى عنهُ اثنانِ فصاعِداً ولم يُوَثَّقْ، فأمَّا جَهَالةُ التعيينِ فخارجةٌ عنْ هذا كُلِّهِ؛ كأنْ يقولَ: أَخْبَرَنِي فُلانٌ أوْ فُلانٌ ويُسَمِّيَهُمَا، وهما عَدْلانِ، فالْحُجَّةُ قائمةٌ بذلكَ، فإنْ جُهِلَتْ عدالةُ أحَدِهما معَ التصريحِ باسمِهِ أوْ إبهامِهِ فلا. [انتهى، ويُنْظَرُ في إلحاقِ مسألةِ البابِ بأيِّ أقسامِهِ].
(والقِسْمُ الوَسَطْ)؛ أي: الثاني، (مجهولُ حالٍ باطنٍ) وحالٍ (ظاهرِ) مِن العدالةِ وضِدِّها، معَ عِرفانِ عينِهِ بروايَةِ عَدْلَيْنِ عنهُ، (وحُكْمُهُ الردُّ) وعدَمُ القَبولِ (لَدَى)؛ أيْ: عندَ، (الْجَماهِرِ) مِن الأئمَّةِ. وَعَزَاهُ ابنُ الْمَوَّاقِ للمُحَقِّقِينَ، ومنهم أَبُو حاتمٍ الرازيُّ، وما حَكَيْنَاهُ مِنْ صَنيعِهِ فيما تَقدَّمَ يَشْهَدُ لهُ.
وكذا قالَ الخَطِيبُ: لا يَثْبُتُ للرَّاوِي حُكْمُ العدالةِ برِوايَةِ الاثنَيْنِ عنهُ.
وقالَ ابنُ رَشيدٍ: لا فَرْقَ في جَهالةِ الحالِ بينَ روايَةِ واحدٍ واثنَيْنِ ما لم يُصَرِّح الواحدُ أوْ غيرُهُ بعَدالتِهِ. نَعَمْ، كَثرةُ رِوايَةِ الثقاتِ عن الشخصِ تُقَوِّي حُسْنَ الظنِّ بهِ.
وأمَّا الْمَجاهيلُ الذينَ لم يَرْوِ عنهم إلاَّ الضُّعفاءُ فهم مَتْرُوكُونَ، كما قالَ ابنُ حِبَّانَ، على الأحوالِ كلِّها.
وتوجيهُ هذا القولِ أنَّ مُجَرَّدَ الروايَةِ عن الراوي لا تكونُ تَعديلاً لهُ على الصحيحِ كما تَقَدَّمَ. وقيلَ: تُقْبَلُ مُطْلَقاً، وهوَ لازمُ مَنْ جَعَلَ مُجرَّدَ روايَةِ العدْلِ عن الراوي تَعديلاً لهُ كما تَقَدَّمَ مِثلُهُ في القِسمِ الأوَّلِ، وأَوْلَى، بلْ نَسَبَهُ ابنُ الْمَوَّاقِ لأكثرِ أهلِ الحديثِ كالبَزَّارِ والدَّارقُطنيِّ.
وعبارةُ الدارقُطنيِّ: " مَنْ روَى عنهُ ثِقَتَانِ فقد ارتَفعتْ جَهالتُهُ، وثَبتتْ عدالتُهُ. وقالَ أيضاً في الدِّيَاتِ نَحْوَهُ، وكذا اكتَفَى بِمُجَرَّدِ رِوايتِهما ابنُ حِبَّانَ، بلْ تَوَسَّعَ كما تَقدَّمَ في مَجهولِ العَينِ. وقيلَ: يُفَصَّلُ، فإنْ كانَ لا يَرْوِيَانِ إلاَّ عنْ عدْلٍ قُبِلَ، وإلاَّ فلا.
(وَ) القِسمُ (الثالثُ المجهولُ للعَدَالَهْ)؛ أيْ: مجهولُ العدالةِ، (في باطنٍ فقَطْ) معَ كونِهِ عَدْلاً في الظاهرِ، (فَـ)ـهذا (قدْ رَأَى لهْ حُجِّيَّةً)؛ أي: احتجاجاً بهِ، (في الحُكْمِ بعضُ مَنْ مَنَعْ) مِن الشافعيَّةِ (ما قَبْلَهُ) مِن القِسمَيْنِ، (منهم) الفقيهُ (سُلَيْمٌ) بضَمِّ أَوَّلِهِ مُصَغَّراً، ابنُ أيُّوبَ الرازيُّ. وزادَ: (فقَطَعْ)؛ أيْ: جَزَمَ (بِهِ)؛ لأنَّ الأخبارَ تُبْنَى على حُسْنِ الظنِّ بالراوِي، وأيضاً فلْتَعْسُر الْخِبرةُ الباطنةُ على الناقدِ.
وبهذا فارَقَ الراوي الشاهدَ؛ فإنَّ الشَّهادةَ تكونُ عندَ الْحُكَّامِ، وهم لا تَتَعَسَّرُ عليهم، لا سِيَّما معَ اجتهادِ الأَخْصَامِ في الفَحْصِ عنها، بلْ عَزَى الاحتجاجَ بأهلِ هذا القِسمِ كالقِسمِ الأوَّلِ لكَثِيرِينَ مِن الْمُحَقِّقِينَ النوويُّ في مُقدِّمَةِ شرْحِ مسلِمٍ.
قُلْتُ: ومنهم أبو بكرِ بنُ فُورَكٍ، وكذا قَبْلَهُ أبو حنيفةَ خِلافاً للشافعيِّ، ومَنْ عَزَاهُ إليهِ فَقَدْ وَهِمَ. (وقالَ الشيخُ) ابنُ الصَّلاحِ (إنَّ العَمَلا يُشبُهُ أنَّهُ على ذَا) القولِ الذي قَطَعَ بهِ سُليمٌ (جُعِلا في كُتُبٍ) كثيرةٍ (مِن الحديثِ اشْتَهَرَتْ)، وتَدَاوَلَها الأئمَّةُ فمَنْ دُونَهم، حيثُ خَرَّجَ فيها لِرُوَاةٍ (خِبرةُ بَعْضِ مَنْ) خَرَّجَ لهُ منهم (بِهَا)؛ أيْ: بالكتُبِ؛ لِتَقادُمِ العهْدِ بهم.
(تَعذَّرَتْ في باطنِ الأمْرِ)، فاقْتَصَرُوا في البعضِ على العدالةِ الظاهرةِ. وفيهِ نظَرٌ بالنسبةِ للصحيحَيْنِ؛ فإنَّ جَهالةَ الحالِ مُنْدَفِعَةٌ عنْ جميعِ مَنْ خَرَّجَا لهُ في الأصولِ، بحيثُ لا نَجِدُ أحَداً ممَّنْ خَرَّجَا لهُ كذلكَ يَسُوغُ إطلاقُ اسمِ الْجَهالةِ عليهِ أصْلاً، كما حَقَّقَهُ شَيْخُنا في مُقَدِّمَتِهِ. وأمَّا بالنظَرِ لِمَنْ عدَاهُما لا سِيَّما مَنْ لم يَشترِط الصحيحَ، فما قالَهُ مُمْكِنٌ، وكأنَّ الحاملَ لهم على هذا الْمَسْلَكِ غلَبةُ العدالةِ على الناسِ في تلكَ القُرونِ الفاضلةِ.
ولذا قالَ بعضُ الْحَنَفِيَّةِ: المستورُ في زمانِنا لا يُقْبَلُ لكثرةِ الفسادِ وقِلَّةِ الرَّشادِ، وإنَّما كانَ مَقبولاً في زَمَنِ السلَفِ الصالحِ، هذا معَ احتمالِ اطِّلاعِهم على ما لم نَطَّلِعْ عليهِ نحنُ مِنْ أمْرِهم. (وبعضٌ) مِن الأئمَّةِ، وهوَ البَغَويُّ في تَهذيبِهِ، (يَشْهَرُ) بفتْحِ أوَّلِهِ وثالثِهِ؛ يعني: يُسَمِّي، (ذا القسْمَ مَستوراً)، وتَبِعَهُ عليهِ الرافعيُّ ثمَّ النوويُّ، فقالَ في النكاحِ مِنْ (الرَّوْضَةِ): إنَّ المستورَ مَنْ عُرِفَتْ عَدالتُهُ ظاهراً لا باطناً. وقالَ إمامُ الْحَرميْنِ: المستورُ مَنْ لم يَظْهَرْ منهُ نَقيضُ العدالةِ، ولم يَتَّفِق البحثُ في الباطنِ عنْ عَدالتِهِ.
قالَ: وقدْ تَرَدَّدَ الْمُحَدِّثونَ في قَبولِ رِوايتِهِ، والذي صارَ إليهِ الْمُعْتَبِرونَ مِن الأُصُولِيِّينَ أنَّها لا تُقبلُ، قالَ: وهوَ المقطوعُ بهِ عندَنا. وصحَّحَ النوويُّ في (شرْحِ الْمُهَذَّبِ) القَبولَ، وحَكَى الرافعيُّ في الصومِ وَجهَيْنِ مِنْ غيرِ تَرجيحٍ.
قيلَ: والْخِلافُ مَبْنِيٌّ على شرْطِ قَبولِ الروايَةِ، أَهُوَ العلْمُ بالعدالةِ، أوْ عدَمُ العلْمِ بالْمُفَسِّقِ؟ إنْ قُلْنَا بالأوَّلِ لم يُقْبَل المستورُ، وإلاَّ قَبِلْنَاهُ.
وأمَّا شيخُنا فإنَّهُ بعدَ أنْ قالَ: وإنْ روَى عنهُ اثنانِ فصاعِداً ولم يُوَثَّقْ فهوَ مجهولُ الحالِ، وهوَ المستورُ.
وقدْ قَبِلَ روايتَهُ جماعةٌ بغيرِ قَيْدٍ، يعني بِعَصْرٍ دونَ آخَرَ، ورَدَّها الْجُمهورُ، قالَ: والتَّحْقِيقُ أنَّ روايَةَ المستورِ ونَحْوِهِ ممَّا فيهِ الاحتمالُ لا يُطْلَقُ القولُ برَدِّها ولا بقَبولِها، بلْ يُقالُ: هيَ مَوقوفةٌ إلى استبانةِ حالِهِ، كما جَزَمَ بهِ إمامُ الْحَرَمَيْنِ، ورأَى أنَّا إذا كُنَّا نَعتقدُ على شيءٍ، يَعني ممَّا لا دليلَ فيهِ بخصوصِهِ، بلْ للجَريِ على الإباحةِ الأصليَّةِ، فرَوَى لنا مَستورٌ تَحريمَهُ، أنَّهُ يَجبُ الانْكِفَافُ عمَّا كُنَّا نَسْتَحِلُّهُ إلى تَمامِ البحْثِ عنْ حالِ الراوي.
قالَ: وهذا هوَ المعروفُ مِنْ عادَتِهم وشِيَمِهم، وليسَ ذلكَ حُكْماً منهم بالحَظْرِ الْمُرَتَّبِ على الروايَةِ، وإنَّما هوَ تَوَقُّفٌ في الأمرِ، فالتَّوَقُّفُ عن الإباحةِ يَتَضَمَّنُ الانْحِجَازَ، وهوَ في مَعْنَى الحَظْرِ، وذلكَ مأخوذٌ مِنْ قاعدةٍ في الشريعةِ مُمَهِّدَةٍ، وهوَ التَّوَقُّفُ عندَ بَدْءِ وظُهُورِ الأمورِ إلى استبانتِها، فإذا ثَبَتَت العدالةُ فالحُكْمُ بالروايَةِ إذْ ذَاكَ، ولوْ فَرَضَ فارضٌ التباسَ حالِ الراوي واليَأْسَ عن البحْثِ عنها، بأنْ يَروِيَ مجهولٌ ثمَّ يَدخُلَ في غِمارِ الناسِ، ويَعِزَّ العثورُ عليهِ، فهذهِ مسألةٌ اجتهاديَّةٌ عندِي.
والظاهرُ أنَّ الأمرَ إذا انتهى إلى اليأسِ لم يَجِب الانكفافُ، وانقلَبَت الإباحةُ كَراهيَةً. قالَ شيخُنا: ونَحْوُهُ؛ أي: القولِ بالوقْفِ، قولُ ابنِ الصلاحِ فيمَنْ جُرِّحَ بجَرْحٍ غيرِ مُفَسَّرٍ. انتهى، ويُنظرُ في: " وانْقَلَبَت الإباحةُ كَرَاهَةً ".
ووراءَ هذا أنَّ قَوْلَهُ بالوقْفِ لا يُنافِيهِ ما حَكَيْنَاهُ أوَّلاً مِنْ جَزْمِهِ بعَدَمِ قَبولِهِ، فالمُرْسَلُ معَ كونِهِ ضَعيفاً صرَّحَ ابنُ السُّبْكِيِّ بأنَّ الأظهَرَ وُجوبُ الانكفافِ إذا دَلَّ على مَحظورٍ ولم يُوجَدْ سِواهُ، بلْ قِيلَ عن الشافعيِّ احتجاجُهُ بهِ إذا لم يَجِدْ سِواهُ كما أَوْضَحْتُ ذلكَ في بابِهِ، ونَحْوُهُ ما أَسْلَفْتُهُ في أثناءِ الحسَنِ عنْ أحمدَ أنَّهُ لا يُخالِفُ ما يَضْعُفُ إلاَّ إنْ وُجِدَ ما يَدفعُهُ. فثَبَتَ بهذا كُلِّهِ أنَّ الاحتياطَ لأجْلِ رِوَايَةِ راوٍ لا يُنافِيهِ عدَمُ قَبولِهِ، ولكنَّ الذي مشَى عليهِ النوويُّ كما في آخِرِ الموضوعِ استحبابُ التَّنَزُّهِ إذا وُجِدَ ضَعيفٌ لكراهةِ بعضِ البُيوعِ والأَنْكِحَةِ احتياطاً.
ثمَّ إنَّهُ مِمَّنْ وافَقَ البَغَوِيَّ ومَنْ تابَعَهُ في تَسميَةِ مَنْ لم تُعرفْ عدالتُهُ الباطنةُ مستوراً ابنُ الصلاحِ، (وفيهِ نَظَرُ)؛ إذْ في عبارةِ الإمامِ الشافعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في (اختلافِ الحديثِ) ما يَدُلُّ على أنَّ الشَّهادةَ التي يَحْكُمُ الحاكمُ بها هيَ العدالةُ الظاهرةُ؛ فإنَّهُ قالَ في جوابِ سؤالٍ أَوْرَدَهُ: فلا يَجُوزُ أنْ يُتركَ الحُكْمُ بشهادتِهما إذا كَانَا عَدْلَيْنِ في الظاهرِ، وحينئذٍ فلا يَحْسُنُ تعريفُ المستورِ بهذا؛ فإنَّ الحاكمَ لا يَسُوغُ لهُ الحُكْمُ بالمستورِ، وأيضاً يكونُ خادِشاً بظاهرِهِ في قولِ الرافعيِّ في الصومِ ممَّا أشارَ الشارحُ لتأييدِ ابنِ الصلاحِ بهِ: العدالةُ الباطنةُ هيَ التي يُرْجَعُ فيها إلى أقوالِ الْمُزَكِّينَ، يعني ثَبَتَتْ عندَ الحاكمِ أمْ لا، كما حَمَلَهُ عليهِ بعضُ الْمُتَأَخِّرينَ.
ولكنَّ الظاهرَ أنَّ الشافعيَّ إنَّما أرادَ الاحْتِرَازَ عن الباطنِ الذي هوَ ما في نَفْسِ الأمرِ لِخَفَائِهِ عنْ كلِّ واحدٍ، وكلامُهُ في أوَّلِ (اختلافِ الحديثِ) يُرشِدُ لذلكَ؛ فإنَّهُ قَرَّرَ أنَّا إنَّما كَلَّفْنَا العدْلَ بالنَّظَرِ لِمَا يَظهرُ لنا؛ لأنَّا لا نَعلمُ مَغِيبَ غَيْرِنا، ولذا لَمَّا نَقَلَ الزَّركشيُّ ما أَسْلَفْتُ حكايتَهُ عن الرافعيِّ في العدالةِ الباطنةِ ذَكَرَ أنَّ نصَّ الشافعيِّ في (اختلافِ الحديثِ) يُؤَيِّدُهُ على أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ لِمَنْ تَمسَّكَ بظاهرِ كلامِ الشافعيِّ بشهادَتِهما لِمَا انْضَمَّ إلى العدالةِ الظاهرةِ مِنْ سُكُوتِ الخصْمِ عنْ إبداءِ قَادِحٍ فيهما معَ توفُّرِ الداعيَةِ على الفحْصِ فافْتَرَقَا، ولكنْ يُمْكِنُ المُنازَعَةُ في هذا بأنَّ الْخَصْمَ قدْ يَتْرُكُ حقَّهُ في الفحْصِ بخلافِ غيرِهِ مِن الأحكامِ، فمَحَلُّهُ التَّشَدُّدُ.
وأمَّا النزاعُ في كلامِ ابنِ الصلاحِ بما نَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ في (البحْرِ) عنْ نصِّ الشافعيِّ في (الأُمِّ) ممَّا ظاهرُهُ أنَّ المستورَ مَنْ لم يُعْلَمْ سوى إسلامِهِ، فإنَّهُ قالَ: لوْ حَضَرَ العَقدَ رجُلانِ مسلِمانِ ولا يُعْرَفُ حالُهما مِن الفِسْقِ والعدالةِ انعقَدَ النكاحُ بهما في الظاهرِ، قالَ: لأنَّ الظاهرَ مِن المسلمينَ العدالةُ، فيُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لا يُمْنَعُ شُمُولُ المستورِ لكلٍّ مِنْ هذا، وما قالَهُ البَغويُّ كما هوَ مُقتضَى التسميَةِ.
ومِنْ ثَمَّ جَعَلَ بعضُ الْمُتَأَخِّرينَ أقسامَ المجهولِ كُلَّها فيهِ، وشَيْخُنا ما عدَا الأوَّلَ، وهوَ أَشْبَهُ، بلْ فَسَّرَ بعضُهم ممَّا صَحَّحَهُ السُّبكيُّ المستورَ بِمَنْ ثَبَتَتْ عَدالتُهُ، وانقَطَعَ خَبرُهُ مُدَّةً يُحتمَلُ طُروقُ نَقِيضِها.
ثمَّ إنَّ الشافعيَّ إنَّما اكتَفَى بحُضُورِهما العَقْدَ معَ رَدِّهِ المستورَ؛ لأنَّ النِّكاحَ مَبْنَاهُ على التَّرَاضِي، بخِلافِ غيرِهِ مِن الأحكامِ، فمَحَلُّهُ التَّشَدُّدُ، وأيضاً فذاكَ عندَ التَّحَمُّلِ، ولهذا لوْ رُفِعَ العقْدُ بهما إلى حاكمٍ لم يَحْكُمْ بصِحَّتِهِ كما نَقَلَهُ في (الرَّوضةِ) عن الشيخِ أبي حامدٍ وغيرِهِ.
ويَتأيَّدُ بأنَّ الشافعيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَطْلَقَ في (اختلافِ الحديثِ) لهُ عدَمَ احتجاجِهِ بالمجهولِ، ونَحْوُهُ حكايَةُ البَيهقيِّ في (الْمَدخلِ) عنهُ أنَّهُ لا يُحتَجُّ بأحاديثِ المَجْهُولِينَ على أنَّ البَدْرَ الزَّركشيَّ نَقَلَ عنْ كلامِ الأُصُولِيِّينَ ممَّا قدْ يَتَّفِقُ معَ كلامِ الرافعيِّ الماضِي، أنَّ المرادَ بالعدالةِ الباطنةِ الاستقامةُ بِلِزُومِهِ أداءَ أوامرِ اللَّهِ وتَجَنُّبِ مَناهيهِ وما يَثْلِمُ مُروءتَهُ، سواءٌ ثَبَتَ عندَ الحاكمِ أمْ لا.
إذا عُلِمَ هذا فالْحُجَّةُ في عَدَمِ قَبولِ المجهولِ أُمُورٌ:
أحَدُها: الإجماعُ على عَدَمِ قَبولِ غيرِ العدلِ، والمجهولُ ليسَ في معْنَى العدْلِ في حُصُولِ الثقةِ بقولِهِ لِيُلْحَقَ بهِ.
الثاني: أنَّ الفِسْقَ مانعٌ مِن القَبولِ، كما أنَّ الصبيَّ والكُفْرَ مانِعَانِ منهُ، فيكونُ الشَّكُّ فيهِ أيضاً مانعاً مِن القَبولِ، كما أنَّ الشكَّ فيهِما مانعٌ منهُ.
الثالثُ: أنَّ شَكَّ المُقَلِّدِ في بُلُوغِ الْمُفْتِي مَرتبةَ الاجتهادِ، أوْ في عدالتِهِ، مانعٌ مِنْ تَقليدِهِ، فكذلكَ الشَّكُّ في عَدالةِ الراوي يكونُ مانعاً مِنْ قَبولِ خَبَرِهِ؛ إذْ لا فَرْقَ بينَ حِكايتِهِ عنْ نفْسِهِ اجتهادَهُ، وبينَ حِكايتِهِ خَبراً عنْ غيرِهِ.
والْحُجَّةُ لِمُقابَلَةِ قولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}، فأوْجَبَ التَّثَبُّتَ عندَ وُجودِ الفِسقِ، فعندَ عَدَمِ الفِسقِ لا يَجِبُ التَّثَبُّتُ، فيَجبُ العملُ بقولِهِ، وهوَ المطلوبُ.
وبِأَنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قَبِلَ شَهادةَ الأعرابيِّ برُؤيَةِ الْهِلالِ، ولم يَعْرِفْ منهُ سِوَى الإسلامِ، بدليلِ أنَّهُ قالَ: ((أَتَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟)) قالَ: نعمْ، قالَ: ((أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ؟)) قالَ: نعمْ، قالَ: ((يَا بِلالُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَداً)). أخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ. فَرَتَّبَ العملَ بقولِهِ على العلْمِ بإسلامِهِ، وإذا جازَ ذلكَ في الشهادةِ جازَ في الروايَةِ بطريقِ الأَوْلَى.
وأُجيبَ عن الأوَّلِ بأنَّا إذا عَلِمْنَا زَوالَ الفِسقِ ثَبَتَت العَدالةُ؛ لأنَّهُما لا ثالثَ لهما، فمَتَى عُلِمَ نَفيُ أحَدِهما ثَبَتَ الآخَرُ، وعن الثاني بأنَّ القَضيَّةَ مُحْتَمَلَةٌ مِنْ حيثُ اللفظُ، وليسَ في الحديثِ دَلالةٌ لعَدمِ مَعرفةِ عدالتِهِ بعدَ ذلكَ، وأيضاً فقَضَايَا الأعْيَانِ تَتَنَزَّلُ على القواعدِ، وقاعدةُ الشهادةِ العدالةُ، فيَكُونُ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قَبِلَ خبرَهُ لأنَّهُ عَلِمَ حالَهُ، إمَّا بوَحْيٍ أوْ بغيرِ ذلكَ.
والْخُلْفُ في مُبْتَدِعٍ ما كُفِّرَا قِيلَ يُرَدُّ مُطْلَقاً واسْتُنْكِرَا
وقِيلَ بلْ إذا اسْتَحَلَّ الكَذِبَا نُصْرَةَ مَذْهَبٍ لَهُ وَنُسِبَا
للشافعِيِّ إذْ يقولُ أَقْبَلُ مِن غيرِ خَطَّابِيَّةٍ ما نَقَلُوا
والأكثرونَ ورَآهُ الأَعْدَلا رَدُّوا دُعاتَهمْ فقطْ ونَقَلا
فيهِ ابنُ حِبَّانَ اتِّفاقاً ورَوَوْا عن أَهْلِ بِدْعٍ في الصحيحِ ما دَعَوْا
الثامنُ: في الْمُبْتَدِعِ. والبِدعةُ هيَ ما أُحْدِثَ على غيرِ مِثالٍ مُتقَدِّمٍ، فيَشملُ المحمودَ والمذمومَ، ولذا قَسَّمَها العِزُّ بنُ عبدِ السلامِ، كما أُشِيرُ إليهِ إنْ شاءَ اللَّهُ عندَ التسميعِ بقراءةِ اللُّحَّانِ، إلى الأحكامِ الخمسةِ، وهوَ واضحٌ، ولكنَّها خُصَّتْ شَرْعاً بالمذمومِ ممَّا هوَ خِلافُ المعروفِ عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فالمُبْتَدِعُ مَن اعتقَدَ ذلكَ لا بِمُعانَدَةٍ بلْ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ.
(والْخُلْفُ)؛ أي: الاختلافُ واقعٌ بينَ الأئمَّةِ، (فِي) قَبولِ رِوايَةِ (مُبتَدِعٍ) معروفٍ بالتَّحَرُّزِ مِن الكَذِبِ، وبالتثَبُّتِ في الأخْذِ والأداءِ معَ باقي شروطِ القَبولِ، (ما كُفِّرَا)؛ أيْ: لم يُكَفَّرْ ببِدعتِهِ تَكفيراً مَقبولاً؛ كبِدَعِ الخوارجِ والرَّوافضِ الَّذِينَ لا يَغْلُونَ ذاكَ الغُلُوَّ، وغيرِ هؤلاءِ مِن الطَّوَائفِ المُخالِفينَ لأُصُولِ السُّنَّةِ خِلافاً ظاهراً، لكنَّهُ مُستَنِدٌ إلى تأويلٍ ظاهرٍ سائغٍ.
(قِيلَ يُرَدُّ مُطْلَقاً) الداعيَةُ وغيرُهُ؛ لاتِّفاقِهم على رَدِّ الفاسقِ بغيرِ تأويلٍ، فيَلْحَقُ بهِ الْمُتَأَوِّلُ، فليسَ ذلكَ بعُذْرٍ، بلْ هوَ فاسقٌ بقولِهِ وبتأويلِهِ، فيُضاعَفُ فِسْقُهُ، كما استَوَى الكافرُ الْمُتَأَوِّلُ والمُعَانِدُ بغيرِ تأويلٍ.
قالَ غيرُ واحدٍ، منهم ابنُ سِيرينَ: " إنَّ هذا العلْمَ دِينٌ، فانْظُرْ عمَّنْ تَأخذُ دِينَكَ "، بلْ رُوِيَ مَرفوعاً مِنْ حديثِ أنَسٍ وأبي هُريرةَ.
وكذا رُوِيَ عن ابنِ عُمرَ، أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ لهُ: ((يَا ابْنَ عُمَرَ، دِينَكَ دِينَكَ، إِنَّمَا هُوَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ، خُذْ عَنِ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا، وَلا تَأْخُذْ عَنِ الَّذِينَ مَالُوا))، ولا يَصِحُّ. وقالَ عَلِيُّ بنُ حرْبٍ: مَنْ قَدَرَ أنْ لا يَكْتُبَ الحديثَ إلاَّ عنْ صاحبِ سُنَّةٍ؛ فإنَّهُم لا يَكْذِبونَ، كُلُّ صاحبِ هَوًى يَكذِبُ ولا يُبَالِي. وهذا القولُ، كما قالَ الخطيبُ في (الكِفايَةِ)، مَرْوِيٌّ عنْ طائفةٍ مِن السَّلَفِ، منهم مالكٌ، وكذا نقَلَهُ الحاكمُ عنهُ، ونَصُّهُ في (الْمُدَوَّنَةِ) في غيرِ مَوْضِعٍ يَشهدُ لهُ، وَتَبِعَهُ أصحابُهُ، وكذا جاءَ عن القاضي أبي بكرٍ البَاقِلاَّنيِّ وأتباعِهِ، بلْ نَقَلَهُ الآمِدِيُّ عن الأكثرينَ، وجَزَمَ بهِ ابنُ الحاجبِ.
(وَاسْتُنْكِرَا)؛ أيْ: أَنْكَرَ هذا القولَ ابنُ الصلاحِ؛ فإنَّهُ قالَ: إنَّهُ بَعِيدٌ مُبَاعِدٌ للشائعِ عنْ أئمَّةِ الحديثِ؛ فإنَّ كُتُبَهم طافِحَةٌ بالروايَةِ عن المُبْتَدِعَةِ غيرِ الدُّعاةِ، كما سيأتي آخِرَ هذهِ الْمَقالةِ، وكذا قالَ شيخُنا: إنَّهُ بَعيدٌ.
قالَ: وأكثرُ ما عُلِّلَ بهِ أنَّ في الروايَةِ عنهُ تَرويجاً لأمْرِهِ، وتَنويهاً بذِكْرِهِ، وعلى هذا يَنبغِي أنْ لا يُرْوَى عنْ مُبتَدِعٍ شيءٌ يُشارِكُهُ فيهِ غيرُ مُبْتَدِعٍ.
قُلْتُ: وإلى هذا التفصيلِ مالَ ابنُ دَقيقِ العيدِ؛ حيثُ قالَ: إنْ وافَقَهُ غيرُهُ فلا يُلتَفَتُ إليهِ هوَ؛ إِخْمَاداً لبِدعتِهِ، وإطفاءً لنارِهِ، يعني لأنَّهُ كانَ يُقالُ كما قالَ رافعُ بنُ أَشْرَسَ: مِنْ عُقوبةِ الفاسقِ الْمُبتَدِعِ ألاَّ تُذْكَرَ مَحَاسِنُهُ. وإنْ لم يُوَافِقْهُ أحَدٌ، ولم يُوجَدْ ذلكَ الحديثُ إلاَّ عندَهُ، معَ ما وَصَفْنَا مِنْ صِدْقِهِ، وتَحَرُّزِهِ عن الكَذِبِ، واشتهارِهِ بالتَّدَيُّنِ، وعَدَمِ تَعلُّقِ ذلكَ الحديثِ ببِدعتِهِ، فيَنبغِي أنْ تُقَدَّمَ مَصلحةُ تَحصيلِ ذلكَ الحديثِ ونَشْرِ تلكَ السُّنَّةِ على مَصلحةِ إهانتِهِ وإطفاءِ بِدعتِهِ.
(وقِيلَ): إنَّهُ لا يُرَدُّ الْمُبْتَدِعُ مطْلَقاً، (بلْ إذا استَحَلَّ الكَذِبَا) في الروايَةِ أو الشَّهادةِ (نُصْرَةَ)؛ أيْ: لِنُصْرةِ، (مَذهبٍ لَهُ) أوْ لغيرِهِ ممَّنْ هوَ مُتابِعٌ لهُ، كما كانَ مُحْرِزٌ أبو رَجاءٍ يَفعلُ حَسْماً، حكاهُ عنْ نفْسِهِ بعدَ أنْ تابَ مِنْ بِدعتِهِ؛ فإنَّهُ كانَ يَضَعُ الأحاديثَ يُدْخِلُ بها الناسَ في القَدَرِ، وكما حكَى ابنُ لَهيعةَ عنْ بعضِ الخوارجِ ممَّنْ تابَ أنَّهُم كانُوا إذا هَوَوْا أمْراً صَيَّرُوهُ حديثاً، فمَنْ لم يَسْتَحِلَّ الكَذِبَ كانَ مَقبولاً؛ لأنَّ اعتقادَ حُرمةِ الكَذِبِ يَمنعُ مِن الإقدامِ عليهِ، فيَحْصُلُ صِدْقُهُ.
(وَنُسِبَا) هذا القولُ فيما نَقَلَهُ الخطيبُ في (الكفايَةِ) (للشافعيِّ) رَحِمَهُ اللَّهُ؛ (إذْ يَقولُ)؛ أيْ: لقولِهِ، (أَقْبَلُ مِنْ غيرِ خَطَّابِيَّةٍ) بالمُعْجَمَةِ ثمَّ المُهْمَلَةِ المشَدَّدَةِ، طائفةٌ مِن الرافضةِ، شَرَحْتُ شيئاً مِنْ حالِهم في الموضوعِ، (ما نَقَلُوا)؛ لأنَّهُم يَرَوْنَ الشَّهادةَ بالزُّورِ لِمُوَافِقِيهم، ونَصَّ عليهِ في (الأُمِّ) و(المُخْتَصَرِ)، قالَ: لأنَّهُم يَرَوْنَ شَهادةَ أحَدِهم لصاحبِهِ إذا سَمِعَهُ يَقُولُ: لي علَى فُلانٍ كذا، فيُصَدِّقُهُ بيَمينِهِ أوْ غَيْرِها، ويَشْهَدُ لهُ اعتماداً على أنَّهُ لا يَكْذِبُ.
ونحْوُهُ قَوْلُ بعضِهم عنهم: كانَ إذا جَاءَ الرجُلُ للواحدِ منهم فزَعَمَ أنَّ لهُ على فُلانٍ كذا أوْ أَقْسَمَ، بحَقِّ الإمامِ على ذلكَ يَشْهَدُ لهُ بِمُجَرَّدِ قولِهِ وقَسَمِهِ، بلْ قالَ الشافعيُّ فيما رواهُ البَيهقيُّ في (الْمَدخَلِ)، والخطيبُ في (الكفايَةِ): ما في أهْلِ الأهواءِ قَومٌ أَشهَدُ بالزُّورِ مِن الرافضةِ، فإمَّا أنْ يكونَ أطْلَقَ الكُلَّ وأرادَ البعضَ، أوْ أطلَقَ في اللفْظِ الأوَّلِ البعضَ لكونِهم أَسوأَ كَذِبَا وأرادَ الكلَّ.
وكذا قالَ أبو يُوسُفَ القاضي: أُجِيزُ شَهادةَ أصحابِ الأهواءِ أهلِ الصدْقِ منهم، إلاَّ الْخَطَّابِيَّةَ والقَدَرِيَّةَ، الذينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لا يَعلمُ الشيءَ حتَّى يكونَ. رواهُ الخطيبُ في (الكِفايَةِ)، على أنَّ بعضَهم ادَّعَى أنَّ الْخَطَّابِيَّةَ لا يَشهدونَ بالزُّورِ؛ فإنَّهُم لا يُجَوِّزُونَ الكَذِبَ، بلْ مَنْ كَذَبَ عندَهم فهوَ مَجروحٌ مَقدوحٌ فيهِ، خارجٌ عنْ دَرجةِ الاعتبارِ روايَةً وشَهادةً، فإنَّهُ خَرَجَ بذلكَ عنْ مَذهبِهم، فإذا سَمِعَ بعضُهم بعضاً قالَ شيئاً عَرَفَ أنَّهُ ممَّن لا يُجَوِّزُ الكذِبَ، فاعتمَدَ قولَهُ لذلكَ، وشَهِدَ بشهادتِهِ، فلا يكونُ شَهِدَ بالزُّورِ لِمَعرِفَتِهِ أنَّهُ مُحِقٌّ.
ونازَعَهُ البُلْقِينِيُّ بأنَّ ما بَنَى عليهِ شَهادتَهُ أصْلٌ باطلٌ، فوَجَبَ رَدُّ شهادتِهِ لاعتمادِهِ أصْلاً باطلاً، وإنْ زَعمَ أنَّهُ حَقٌّ، وتَبِعَهُ ابنُ جماعةَ. ومِنْ هُنا نَشَأَ الاختلافُ فِيمَا لوْ شَهِدَ خَطَّابِيٌّ وذَكَرَ في شَهادتِهِ ما يَقْطَعُ احتمالَ الاعتمادِ فيها على قولِ الْمُدَّعِي، بأنْ قالَ: سَمِعْتُ فُلاناً يُقِرُّ بكذا لِفُلانٍ، أوْ رَأَيْتُهُ أَقْرَضَهُ، في القَبولِ والرَّدِّ.
وعن الربيعِ، سَمِعْتُ الشافعيَّ يقولُ: كانَ إبراهيمُ بنُ أبي يحيى قَدَرِيًّا، قيلَ للرَّبِيعِ: فما حَمَلَ الشافعيَّ على أنْ رَوَى عنهُ؟ قالَ: كانَ يَقولُ: لأنْ يَخِرَّ إبراهيمُ مِنْ بُعْدٍ أَحَبُّ إليهِ مِنْ أنْ يَكْذِبَ، وكان ثِقةً في الحديثِ.
ولذا قيلَ كما قالَهُ الخليليُّ في (الإرشادِ): إنَّ الشافعيَّ كانَ يقولُ: حَدَّثَنا الثِّقَةُ في حديثِهِ، الْمُتَّهَمُ في دِينِهِ.
قالَ الخَطِيبُ: وحُكِيَ أيضاً أنَّ هذا مَذهبُ ابنِ أبي لَيْلَى وسفيانَ الثوريِّ. ونَحْوُهُ عنْ أبي حَنيفةَ، بلْ حكاهُ الحاكمُ في (الْمَدخلِ) عنْ أكثرِ أئمَّةِ الحديثِ.
وقالَ الفخرُ الرازيُّ في (المحصولِ): إنَّهُ الْحَقُّ. ورَجَّحَهُ ابنُ دَقيقِ العيدِ. وقيلَ: يُقبلُ مُطْلَقاً، سواءٌ الداعيَةُ وغيرُهُ كما سَيَأْتِي؛ لأنَّ تَدَيُّنَهُ وصِدْقَ لَهجتِهِ يَحْجِزُهُ عن الكذِبِ، وخَصَّهُ بعضُهم بما إذا كانَ الْمَرْوِيُّ يَشتمِلُ على ما تُرَدُّ بهِ بِدْعَتُهُ؛ لبُعدِهِ حينئذٍ عن التُّهمةِ جَزْماً، وكذا خَصَّهُ بعضُهم بالبِدْعَةِ الصُّغرى؛ كالتَّشَيُّعِ سِوى الغُلاةِ فيهِ وغيرِهم؛ فإنَّهُ كَثُرَ في التابعينَ وأتباعِهم، فلَوْ رُدَّ حديثُهم لذَهَبَ جُملةٌ مِن الآثارِ النَّبَوِيَّةِ، وفي ذلكَ مَفسدةٌ بَيِّنَةٌ.
أمَّا البِدعةُ الكُبرى؛ كالرفْضِ الكاملِ والغُلُوِّ فيهِ، والْحَطِّ على الشيخَيْنِ أبي بكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهُما، فلا ولا كَرَامَةَ، لا سِيَّمَا ولَسْتُ أَسْتَحْضِرُ الآنَ مِنْ هذا الضَّرْبِ رجُلاً صادِقاً ولا مَأْمُوناً، بل الكذِبُ شعارُهم، والنِّفَاقُ والتَّقِيَّةُ دِثَارُهم، فكَيْفَ يُقبَلُ مَنْ هذا حَالُهُ، حَاشَا وَكَلاَّ، قالَهُ الذَّهَبِيُّ.
قالَ: والشِّيعِيُّ والغَالِي في زَمَنِ السلَفِ وعُرْفِهم مَنْ تَكلَّمَ في عثمانَ والزُّبَيْرِ وطلحةَ وطائفةٍ ممَّن حارَبَ عَلِيًّا، وتَعرَّضَ لسَبِّهِم. والغَالِي في زَمَنِنا وعُرْفِنا هوَ الذي كَفَّرَ هؤلاءِ السادةَ وتَبَرَّأَ مِن الشيخَيْنِ أيضاً، فهذا ضَالٌّ مُفْتَرٍ. ونَحْوُهُ قولُ شيخِنا في أَبَانَ بنِ تَغْلِبَ مِنْ تَهذيبِهِ: التَّشَيُّعُ في عُرْفِ الْمُتَقَدِّمينَ هوَ اعتقادُ تَفضيلِ عَلِيٍّ على عُثمانَ، وأنَّ عَلِيًّا كانَ مُصِيباً في حُروبِهِ، وأنَّ مُخالِفَهُ مُخطئٌ، معَ تَقديمِ الشيخَيْنِ وتَفضيلِهما، ورُبَّما اعْتَقَدَ بعضُهم أنَّ عَلِيًّا أفْضَلُ الخلْقِ بعدَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فإذا كانَ مُعْتَقِدُ ذلكَ وَرِعاً دَيِّناً صادِقاً مُجْتَهِداً فلا تُرَدُّ رِوايتُهُ بهذا، لا سِيَّما إنْ كانَ غيرَ داعيَةٍ. وأمَّا التَّشيُّعُ في عُرْفِ المُتَأَخِّرينَ فهوَ الرَّفْضُ الْمَحْضُ، فلا يُقبَلُ روايَةُ الرافِضِيِّ الغالِي ولا كَرَامةَ.
(والأَكْثَرُونَ) مِن العُلماءِ، (وَرَآهُ) ابنُ الصلاحِ (الأَعْدَلا) والأَوْلَى مِن الأقوالِ، (رَدُّوا دُعاتَهمْ فقَطْ). قالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ: قُلْتُ لأَبِي: لِمَ رَوَيْتَ عنْ أبي مُعاويَةَ الضَّريرِ وكانَ مُرْجِئاً، ولم تَرْوِ عنْ شَبَابَةَ بنِ سِوَارٍ وكانَ قَدَرِيًّا؟ قالَ: لأنَّ أبا مُعاويَةَ لم يَكُنْ يَدعو إلى الإِرْجَاءِ، وشَبابةَ كانَ يَدعو إلى القَدَرِ.
وحَكَى الخطيبُ هذا القولَ، لَكِنْ عنْ كَثيرينَ، وتَردَّدَ ابنُ الصلاحِ في عَزْوِهِ بينَ الكثيرِ أو الأَكثرِ. نَعَمْ، حكاهُ بعضُهم عن الشافعيَّةِ كُلِّهم، بلْ (ونَقَلا فيهِ ابنُ حِبَّانَ اتِّفاقاً)؛ حيثُ قالَ في تَرجمةِ جَعفرِ بنِ سُليمانَ الضَّبْعِيِّ مِنْ ثِقاتِهِ: وليسَ بَيْنَ أهلِ الحديثِ مِنْ أَئِمَّتِنا خِلافٌ أنَّ الصَّدُوقَ الْمُتْقِنَ إذا كانتْ فيهِ بِدعةٌ ولم يَكُنْ يَدعو إليها أنَّ الاحتجاجَ بأخبارِهِ جائزٌ، فإذا دَعَا إليها سقَطَ الاحتجاجُ بأخبارِهِ.
وليسَ صَرِيحاً في الاتِّفَاقِ لا مُطْلَقاً ولا بخُصُوصِ الشافعيَّةِ، ولكنَّ الذي اقتَصَرَ ابنُ الصلاحِ عليهِ في العَزْوِ لهُ الشِّقُّ الثاني، فقالَ: قالَ ابنُ حِبَّانَ: " الداعيَةُ إلى البِدَعِ لا يَجوزُ الاحتجاجُ بهِ عندَ أئِمَّتِنَا قاطبةً، لا أَعلَمُ بينَهم فيهِ اختلافاً "، على أنَّهُ مُحْتَمِلٌ أيضاً لإرادةِ الشافعيَّةِ أوْ مُطلَقاً.
وعلى الثَّانِي فالْمَحْكِيُّ عنْ مالِكٍ وغيرِهِ يَخْدِشُ فيهِ، على أنَّ القاضيَ عبدَ الوَهَّابِ في (الْمُلَخَّصِ) فَهِمَ مِنْ قولِ مالِكٍ: " لا تَأْخُذ الحديثَ عنْ صاحبِ هَوًى يَدعُو إلى هَواهُ " التفصيلَ، ونازَعَهُ القاضي عِياضٌ؛ فإنَّ المعروفَ عنهُ الرَّدُّ مُطْلَقاً، يعني كما تَقَدَّمَ، وإنْ كَانَتْ هذهِ العبارةُ مُحتَمِلَةً، وبالجُمْلَةِ فقدْ قالَ شَيْخُنا: إنَّ ابنَ حِبَّانَ أَغْرَبَ في حكايَةِ الاتِّفاقِ، ولكنْ يَشترِطُ معَ هَذَيْنِ، أَعْنِي كونَهُ صَدُوقاً غَيْرَ داعيَةٍ، أنْ لا يكونَ الحديثُ الذي يُحَدِّثُ بهِ ممَّا يُعَضِّدُ بِدعتَهُ ويَشُدُّها ويُزَيِّنُها؛ فإنَّا لا نَأْمَنُ حينئذٍ عليهِ غَلبةَ الهَوَى، أفادَهُ شيخُنا.
وإليهِ يُومِئُ كلامُ ابنِ دقيقِ العيدِ الماضي، بلْ قالَ شيخُنا: إنَّهُ قدْ نَصَّ على هذا القَيْدِ في المسألةِ الحافظُ أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ يعقوبَ الْجَوْزَجانيُّ شيخُ النَّسائيِّ، فقالَ في مُقدِّمَةِ كتابِهِ في الْجَرحِ والتعديلِ: ومِنهم زَائِغٌ عن الحقِّ، صَدُوقُ اللَّهجةِ، قدْ جَرَى في الناسِ حديثُهُ، لكنَّهُ مَخذولٌ في بِدعتِهِ، مأمونٌ في روايتِهِ، فهؤلاءِ ليسَ فيهم حِيلةٌ إلاَّ أنْ يُؤخذَ مِنْ حديثِهم ما يُعرفُ وليسَ بِمُنكَرٍ، إذا لَمْ تَقْوَ بهِ بِدْعَتُهم فيُتَّهَمُونَ بذلكَ.
(وَ) قدْ (رَوَوْا)؛ أي: الأئمَّةُ النقَّادُ كالبخاريِّ ومسلِمٍ، أحاديثَ (عَنْ) جماعةٍ (أهلِ بِدْعٍ) بسُكُونِ الدالِ (في الصحيحِ) على وجهِ الاحتجاجِ؛ لأنَّهُم (ما دَعَوْا) إلى بِدَعِهم، ولا اسْتَمَالُوا الناسَ إليها، منهم خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، وعُبيدُ اللَّهِ بنُ موسى العَبسيُّ، وهما ممَّن اتُّهِمَ بالغُلُوِّ في التشيُّعِ، وعبدُ الرَّزَّاقِ بنُ هَمَّامٍ، وعمرُو بنُ دِينارٍ، وهما بِمُجَرَّدِ التَّشَيُّعِ، وسعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ، وسَلاَّمُ بنُ مِسكينٍ، وعبدُ اللَّهِ بنُ أبي نُجَيْحٍ المَكِّيُّ، وعبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ، وهشامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، وهم ممَّن رُمِيَ بالقدَرِ، وعَلقمةُ بنُ مَرْثَدٍ، وعمرُو بنُ مُرَّةَ، ومُحمَّدُ بنُ خازِمٍ أبو مُعاويَةَ الضَّرِيرُ، ومِسْعَرُ بنُ كِدَامٍ، وهم ممَّنْ رُمِيَ بالإرجاءِ.
وكالبخاريِّ وَحدَهُ لعكرمةَ موْلَى ابنِ عَبَّاسٍ، وهوَ ممَّنْ نُسِبَ إلى الإباضيَّةِ مِنْ آراءِ الخوارجِ، وكمُسلِمٍ وَحدَهُ لأبي حَسَّانَ الأعرَجِ، ويُقَالُ إنَّهُ كانَ يَرَى رَأْيَ الخوارجِ.
وكذا أَخْرَجَا لجماعةٍ في المتابَعاتِ كداودَ بنِ الْحُصينِ، وكانَ مُتَّهَماً برَأْيِ الخوارجِ، والبخاريِّ وحْدَهُ فيها لجماعةٍ، كسيفِ بنِ سليمانَ وشِبْلِ بنِ عَبَّادٍ، معَ أنَّهُما كانَا ممَّنْ يَرى القدَرَ في آخَرِينَ عندَهُما اجتماعاً، وانْفِرَاداً في الأصولِ والمُتابَعاتِ، يَطولُ سَرْدُهم، بلْ في ترجمةِ محمَّدِ بنِ يَعقوبَ بنِ الأَخرَمِ مِنْ (تَأْرِيخِ نَيْسَابورَ) للحاكمِ مِنْ قولِهِ: إنَّ كِتَابَ مُسْلِمٍ مَلآنُ مِن الشِّيعةِ، معَ ما اشْتَهَرَ مِنْ قَبولِ الصحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم أَخْبَارَ الخوارجِ وشَهاداتِهم، ومَنْ جَرَى مَجراهُم مِن الفُسَّاقِ بالتأويلِ، ثمَّ استمرارِ عمَلِ التابعينَ والخَالِفِينَ، فصارَ ذلكَ - كما قالَ الخطيبُ - كالإجماعِ منهم، وهوَ أكبرُ الْحُجَجِ في هذا البابِ، وبهِ يَقْوَى الظَّنُّ في مُقارَبَةِ الصوابِ.
ورُبَّمَا تَبَرَّأَ بعضُهم ممَّا نُسِبَ إليهِ، أوْ لم يَثْبُتْ عنهُ، أوْ رَجَعَ وتابَ.
فإنْ قِيلَ: قدْ خَرَّجَ البُخاريُّ لعِمرانَ بنِ حِطَّانَ السَّدُوسِيِّ الشاعرِ الَّذِي قالَ فيهِ أَبُو العَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: إنَّهُ كانَ رَأْسَ العِقْدِ مِن الصَّفَرِيَّةِ وفَقِيهَهم وخطيبَهم وشاعرَهم، معَ كونِهِ كانَ داعيَةً إلى مَذهبِهِ، فقدْ مَدَحَ عبدَ الرحمنِ بنَ مُلْجَمٍ قَاتِلَ عَلِيٍّ، وذلكَ مِنْ أَكبرِ الدعوةِ إلى البِدعةِ.
وأيضاً فالقَعْدِيَّةُ قَوْمٌ مِن الخوارجِ كَانُوا يقولونَ بقولِهم ولا يَرَوْنَ بالخروجِ، بلْ يَدْعُونَ إلى آرائِهم ويُزَيِّنُونَ معَ ذلكَ الخروجَ ويُحَسِّنُونَهُ، وكذا لِعَبْدِ الْحَميدِ بنِ عبدِ الرحمنِ الْحُمَانِيِّ، معَ قولِ أبي داودَ فيهِ: إنَّهُ كانَ داعيَةً إلى الإرجاءِ. فقدْ أُجِيبَ عن التخريجِ لأَوَّلِهما بأَجْوِبَةٍ:
أحَدُها: أنَّهُ إنَّما خَرَّجَ لهُ ما حُمِلَ عنهُ قبلَ ابتداعِهِ.
ثانيها: أنَّهُ رَجَعَ في آخِرِ عُمرِهِ عنْ هذا الرَّأْيِ. وكذا أُجِيبَ بهذا عنْ تَخريجِ الشَّيْخَيْنِ معاً لشَبابةَ بنِ سِوارٍ معَ كونِهِ دَاعيَةً.
ثالثُها: وهوَ المُعْتَمَدُ الْمُعَوَّلُ عليهِ، أنَّهُ لم يُخَرِّجْ لهُ سِوَى حديثٍ واحدٍ معَ كونِهِ في المُتابَعَاتِ، ولا يَضُرُّ فيها التخريجُ لِمِثْلِهِ.
وأجابَ شَيْخُنا عن التخريجِ لثانِيهِمَا بأنَّ البُخاريَّ لم يُخَرِّجْ لهُ سِوى حديثٍ واحدٍ قدْ رَوَاهُ مسلِمٌ مِنْ غيرِ طريقِ الْحُمَانِيِّ، فبَانَ أنَّهُ لم يُخَرِّجْ لهُ إلاَّ ما لهُ أَصْلٌ.
هذا كُلُّهُ في البِدعةِ غيرِ الْمُكَفِّرَةِ، أمَّا الْمُكَفِّرَةُ وفي بَعْضِها ما لا شَكَّ في التَّكْفِيرِ بهِ كَمُنكِرِي العلْمِ بالمعدومِ، القَائِلِينَ ما يَعْلَمُ الأشياءَ حتَّى يَخْلُقَها، أوْ بالجُزْئِيَّاتِ، والْمُجَسِّمينَ تَجسيماً صريحاً، والقائلينَ بحُلولِ الإلهيَّةِ في عَلِيٍّ أوْ غيرِهِ.
وفي بعضِها ما اختُلِفَ فيهِ، كالقولِ بخَلْقِ القرآنِ والنَّافِينَ للرؤيَةِ، فلم يَتعرَّض ابنُ الصلاحِ للتَّنْصِيصِ على حكايَةِ خِلافٍ فيها.
وكذا أطْلَقَ القاضِي عبدُ الوَهَّابِ في (الْمُلَخَّصِ)، وابنُ بُرهانٍ في (الأوسَطِ) عَدَمَ القَبولِ، وقَالا: لا خِلافَ فيهِ. نَعَمْ، حَكَى الخطيبُ في (الكِفايَةِ) عنْ جماعةٍ مِنْ أهلِ النَّقْلِ والْمُتَكَلِّمينَ أنَّ أخبارَ أهلِ الأهواءِ كُلَّها مَقبولةٌ، وإنْ كَانُوا كُفَّاراً أوْ فُسَّاقاً بالتأويلِ.
وقالَ صاحبُ (المَحْصُولِ): الحقُّ أنَّهُ إن اعتَقَدَ حُرمةَ الكَذِبِ قَبِلْنَا رِوايتَهُ؛ لأنَّ اعتقادَهُ - كما قَدَّمْتُ - يَمنعُهُ مِن الكَذِبِ، وإلاَّ فلا.
قالَ شيخُنا: والتحقيقُ أنَّهُ لا يُرَدُّ كلُّ مُكَفَّرٍ ببِدعةٍ؛ لأنَّ كلَّ طائفةٍ تَدَّعِي أنَّ مُخَالِفِيهَا مُبتَدِعَةٌ، وقدْ تُبالِغُ فتُكَفِّرُها، فَلَوْ أُخِذَ ذلكَ على الإطلاقِ لاسْتَلْزَمَ تكفيرَ جميعِ الطوائفِ.
فالمُعْتَمَدُ أنَّ الذي تُرَدُّ رِوايتُهُ مَنْ أَنكَرَ أمْراً مُتواتراً مِن الشرْعِ، معلوماً مِن الدِّينِ بالضرورةِ؛ أيْ: إثباتاً ونَفْياً، فأمَّا مَنْ لم يَكُنْ بهذهِ الصفةِ، وانضَمَّ إلى ذلكَ ضَبْطُهُ لِمَا يَرْوِيهِ معَ وَرَعِهِ وتَقواهُ، فلا مانِعَ مِنْ قَبولِهِ.
وقالَ أيضاً: والذي يَظهَرُ أنَّ الذي يُحْكَمُ عليهِ بالكفْرِ مَنْ كانَ الكفْرُ صَريحَ قولِهِ، وكذا مَنْ كانَ لازِمَ قولِهِ، وعُرِضَ عليهِ فالْتَزَمَهُ، أمَّا مَنْ لم يَلْتَزِمْهُ وناضَلَ عنهُ؛ فإنَّهُ لا يكونُ كافراً، ولوْ كانَ اللازمُ كُفْراً، ويَنبغِي حَمْلُهُ على غيرِ القَطعيِّ؛ ليُوافِقَ كلامَهُ الأوَّلَ.
وسَبَقَهُ ابنُ دَقيقِ العيدِ فقالَ: الذي تَقرَّرَ عندَنا أنَّهُ لا تُعتبرُ الْمَذاهبُ في الروايَةِ؛ إذْ لا نُكَفِّرُ أحَداً مِنْ أهلِ القِبلةِ إلاَّ بإنكارٍ قَطعيٍّ مِن الشريعةِ، فإذا اعْتَبَرْنَا ذلكَ انضَمَّ إليهِ الورَعُ والتَّقْوَى فقدْ حصَلَ مُعْتَمَدُ الروايَةِ، وهذا مَذهبُ الشافعيِّ حيثُ يَقبلُ شَهادةَ أهلِ الأهواءِ، قالَ: وأعراضُ المسلمينَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النارِ، وَقَفَ على شَفِيرِها طَائِفَتَانِ مِن الناسِ: الْمُحَدِّثونَ والْحُكَّامُ، فأَشارَ بذلكَ إلى أنَّهُم مِنْ أهلِ القِبلةِ فَتُقْبَلُ رِوايتُهم، كما نَرِثُهم ونُوَرِّثُهم، وتُجْرَى عليهم أحكامُ الإسلامِ.
ومِمَّنْ صَرَّحَ بذلكَ النوويُّ، فقالَ في الشَّهاداتِ مِنْ (الرَّوْضَةِ): جمهورُ الفُقهاءِ مِنْ أصحابِنا وغيرُهم لا يُكَفِّرُونَ أحَداً مِنْ أهلِ القِبلةِ.
وقالَ في شُروطِ الأئمَّةِ منها: ولم يَزَل السلَفُ والخلَفُ على الصلاةِ خلْفَ الْمُعتزِلةِ وغيرِهم، ومُنَاكَحَتِهم، وإجراءِ أحكامِ الإسلامِ عليهم.
وقدْ قالَ الشافعيُّ في (الأُمِّ): ذَهَبَ الناسُ في تأويلِ القرآنِ والأحاديثِ إلى أُمُورٍ تَبايَنُوا فيها تَبايُناً شَديداً، واستَحَلَّ بعضُهم مِنْ بعضٍ بما تَطُولُ حِكايتُهُ، وكانَ ذلكَ مُتَقَادِماً منهُ ما كانَ في عَهْدِ السَّلَفِ وإلى اليومِ، فلم نَعْلَمْ مِنْ سلَفِ الأئمَّةِ مَنْ يُقْتَدَى بهِ، ولا مَنْ بَعْدَهم مِن التابعينَ رَدَّ شهادةِ أحَدٍ بتأويلٍ، وإنْ خَطَّأَهُ وضَلَّلَهُ ورَآهُ استَحَلَّ ما حَرَّمَ اللَّهُ عليهِ فلا يَرُدُّ شَهادةَ أحَدٍ بشيءٍ مِن التأويلِ كانَ لهُ وَجْهٌ يُحتملُ، وإنْ بَلَغَ فيهِ استحلالَ المالِ والدَّمِ، انتهى.
وقدْ قالَ عمرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ فيما رُوِّينَاهُ عنهُ: " لا تَظُنَّنَّ بكلمةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِي امرِئٍ مسلِمٍ شَرًّا وأنتَ تَجِدُ لها في الخيرِ مَحْمَلاً ".
وللْحُمَيْدِي والإمامِ أَحْمَدَا بأنَّ مَن لِكَذِبٍ تَعَمَّدَا
أيْ في الحديثِ لم نَعُدْ نَقْبَلُهُ وإنْ يَتُبْ والصَّيْرَفِيِّ مِثْلُهُ
وأَطْلَقَ الكِذْبَ وزادَ أنَّ مَنْ ضُعِّفَ نَقْلاً لم يُقَوَّ بعْدَ أنْ
وليسَ كالشاهِدِ والسَّمْعانِي أَبُو الْمُظَفَّرِ يَرَى في الْجَانِي
بِكَذِبٍ في خَبَرٍ إسقاطَ مَا لَهُ مِن الحديثِ قد تَقَدَّمَا


التاسعُ: في تَوبةِ الكاذبِ.
(وللحُمَيْدِي)، صاحبِ الشافعيِّ وشيخِ البخاريِّ، أبي بكرٍ عبدِ اللَّهِ بنِ الزُّبيرِ، (والإمامِ أحمدَا بِأَنَّ مَنَ)؛ أيْ: أنَّ الذي (لِكَذِبٍ تَعَمَّدَا)؛ أيْ: في الحديثِ النَّبَوِيِّ مُطْلَقاً، الأحكامِ والفضائلِ وغيرِهما، بأنْ وَضَعَ، أوْ ركَّبَ سنَداً صَحيحاً لِمَتْنٍ ضعيفٍ، أوْ نَحْوِ ذلكَ، ولوْ مَرَّةً واحدةً، وبأنَّ العمْدَ بإقرارِهِ أوْ نَحْوِهِ، بحيثُ انْتَفَى أنْ يكونَ أَخطأَ أوْ نَسِيَ.
(لم نَعُدْ نَقْبَلُهُ) أبداً في شيءٍ مُطلَقاً، سواءٌ المكذوبُ فيهِ وغيرُهُ، ولا نَكْتُبُ عنهُ شيئاً، ويَتحتَّمُ جَرْحُهُ دائماً، (وإنْ يَتُبْ) وتَحسُنْ تَوبتُهُ تَغليظاً لِمَا يَنشأُ عنْ صَنيعِهِ مِنْ مَفسَدَةٍ عَظيمةٍ، وهيَ تَصييرُ ذلكَ شَرْعاً. نَعمْ، تَوبتُهُ كما صَرَّحَ بهِ الإمامُ أحمدُ فيما بَيْنَهُ وبَينَ اللَّهِ.
ويَلتحِقُ بالعَمْدِ مَنْ أَخطأَ وصَمَّمَ بعدَ بيانِ ذلكَ لهُ مِمَّنْ يَثِقُ بعِلْمِهِ مُجَرَّدَ عِنادٍ كما سيأتي في الفَصْلِ الثانيَ عشرَ، وأمَّا مَنْ كَذَبَ عليهِ في فضائلِ الأعمالِ مُعتقِداً أنَّ هذا لا يَضُرُّ، ثمَّ عَرَفَ ضَررَهُ فتَابَ، فالظاهِرُ - كما قالَ بعضُ الْمُتأخِّرينَ - قَبولُ رِواياتِهِ.
وكذا مَنْ كَذَبَ دَفْعاً لضَرَرٍ يَلحقُهُ مِنْ عَدُوٍّ، ورَجَعَ عنهُ.
ثمَّ إنَّ أحمدَ والْحُمَيْدِيَّ لم يَنفَرِدَا بهذا الحُكْمِ، بلْ نَقَلَهُ كُلٌّ مِن الخطيبِ في (الكِفايَةِ)، والحازميِّ في (شُروطِ السِّتَّةِ) عنْ جماعةٍ، والذهبيُّ عنْ روايَةِ ابنِ مَعِينٍ وغيرِهِ، واعتَمَدُوهُ، (وَ) كذا للإمامِ أبي بكرٍ (الصَّيْرَفِيِّ) شارحِ الرسالةِ، وأحَدِ أصحابِ الوُجوهِ في الْمَذهَبِ، (مِثلُهُ)؛ حيثُ قالَ: كُلُّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ مِنْ أهلِ النقْلِ بكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عليهِ لم نَعُدْ لِقَبُولِهِ بتوبةٍ تَظهرُ.
(وأَطلَقَ الكِذْبَ) بكسْرِ الكافِ وسكونِ المعجَمَةِ عنْ إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ كما تَرَى، ولم يُصَرِّحْ بتَقييدِهِ بالحديثِ النبويِّ. ونَحْوُهُ حكايَةُ القاضي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ عنهُ؛ فإنَّهُ قالَ: إذا رَوَى المحدِّثُ خَبَراً ثمَّ رَجَعَ عنهُ، وقالَ: كُنْتُ أَخْطَأْتُ فيهِ، وَجَبَ قَبولُ قولِهِ؛ لأنَّ الظاهِرَ مِنْ حَالِ العَدْلِ الثقةِ الصدْقُ في خَبَرِهِ، فوَجَبَ أنْ يُقْبَلَ رُجوعُهُ عنهُ كما تُقْبَلُ رِوايتُهُ، وإنْ قالَ: كُنْتُ تَعمَّدْتُ الكَذِبَ فيهِ فقدْ ذكَرَ أبو بكرٍ الصَّيْرَفِيُّ في كتابِ (الأُصُولِ): إنَّهُ لا يُعملُ بذلكَ الخبَرِ، ولا بغيرِهِ مِنْ رِوايتِهِ.
وقالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّ الظاهرَ أنَّ الصَّيْرَفِيَّ إنَّما أرادَ الكذِبَ في الحديثِ النبويِّ خاصَّةً، يعني فلا يَشملُ الكذِبَ في غيرِهِ مِنْ حديثِ سائرِ الناسِ؛ فإنَّ ذلكَ كغيرِهِ مِن الْمُفَسِّقاتِ تُقبلُ روايَةُ التائبِ منهُ، لا سِيَّما وقولُهُ كما قَالَهُ الْمُصنِّفُ: " مِنْ أهلِ النقْلِ " قَرينةٌ في التقييدِ.
بلْ قالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: وليسَ يَطْعَنُ على الْمُحَدِّثِ إلاَّ أنْ يقولَ: تَعمَّدْتُ الكَذِبَ، فهوَ كاذبٌ في الأوَّلِ؛ أَيْ: في الخبرِ الذي رَوَاهُ واعترَفَ بالكَذِبِ فيهِ، ولا يُقْبَلُ خبرُهُ بعدَ ذلكَ؛ أيْ: مُؤَاخَذَةً لهُ بإقرارِهِ، على ما قُرِّرَ في الموضوعِ.
(وَزَادَ)؛ أي: الصَّيْرَفِيُّ، على الإمامِ أحمدَ والْحُمَيْدِيِّ (أنَّ مَنْ ضُعِّفَ نَقْلاً)؛ أيْ: مِنْ جِهةِ نَقلِهِ، يعني لوَهْمٍ وقِلَّةِ إتقانٍ ونحوِهما، وحَكَمْنَا بضَعفِهِ وإسقاطِ خَبَرِهِ، (لم يُقَوَّ) أبداً (بعدَ أنْ) حُكِمَ بضَعْفِهِ، هكذا أَطْلَقَ. وَوِزَانُ ما تَقدَّمَ عَدَمُ قَبولِهِ، ولوْ رَجَعَ إلى التَّحَرِّي والإتقانِ، ولكِنْ قدْ حَمَلَهُ الذَّهَبِيُّ على مَنْ يَمُوتُ على ضَعْفِهِ، فكأنَّهُ لِيَكُونَ مُوافِقاً لغيرِهِ، وهوَ الظاهرُ.
ثمَّ إنَّ في تَوجيهِ إرادةِ التَّقْيِيدِ بما تَقدَّمَ نَظَراً؛ إذْ أهْلُ النَّقْلِ هم أهلُ الرواياتِ والأخبارِ كيفَ ما كانَتْ مِنْ غيرِ اختصاصٍ، وكذا الوَصْفُ بالمُحَدِّثِ أعَمُّ مِنْ أنْ يكونَ يُخبِرُ عنهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أوْ عنْ غيرِهِ، بلْ يَدُلُّ لإرادةِ التعميمِ تَنْكِيرُهُ الكَذِبَ.
وكذا يُستأنَسُ لهُ بقَوْلِ ابنِ حَزْمٍ في إحكامِهِ: مَنْ أَسْقَطْنا حديثَهُ لم نَعُدْ لقَبولِهِ أَبَداً، ومَن احتَجَجْنَا بهِ لم نُسقِطْ رِوايتَهُ أبَداً؛ فإنَّهُ ظاهِرٌ في التعميمِ.
ونَحْوُهُ قولُ ابنِ حِبَّانَ في آخَرِينَ، بلْ كلامُ الْحُمَيْدِيِّ المَقْرُونِ معَ أحمدَ أوَّلَ المسألةِ قدْ يُشيرُ لذلكَ؛ فإنَّهُ قالَ: فإنْ قالَ قائلٌ: فما الَّذِي لا يُقْبَلُ بهِ حديثُ الرجُلِ أَبَداً؟ قُلْتُ: هوَ أنْ يُحَدِّثَ عنْ رَجُلٍ أنَّهُ سَمِعَهُ ولم يُدْرِكْهُ، أوْ عنْ رجُلٍ أَدْرَكَهُ ثمَّ وُجِدَ عليهِ أنَّهُ لم يَسْمَعْ منهُ، أوْ بِأَمْرٍ يَتبيَّنُ عليهِ في ذلكَ كَذِبٌ، فلا يَجوزُ حديثُهُ أبداً لِمَا أُدْرِكَ عليهِ مِن الكذِبِ فيما حَدَّثَ بهِ.
وبذلكَ جَزَمَ ابنُ كثيرٍ فقالَ: التائبُ مِن الكَذِبِ في حديثِ الناسِ تُقبلُ رِوايتُهُ خِلافاً للصَّيْرَفِيِّ، قالَ الصَّيْرَفِيُّ: (وليْسَ) الراوي في ذلكَ (كالشَّاهدِ)، يعني فإنَّ الشاهدَ تُقبلُ تَوبتُهُ بشَرْطِها، وأيضاً فالشاهدُ إذا حَدَثَ فِسقُهُ بالكَذِبِ أوْ غيرِهِ لا تَسقطُ شَهاداتُهُ السالفةُ قبلَ ذلكَ، ولا يُنْقَضُ الحكْمُ بها.
(وَ) الإمامُ (السَّمْعَانِي أبو الْمُظَفَّرِ يَرَى في) الرَّاوِي (الجانِي بِكَذِبٍ في خَبَرٍ) نَبَوِيٍّ (إِسْقَاطَ ما لهُ مِن الحديثِ قدْ تَقَدَّمَا)، وكذا وُجوبَ نقْضِ ما عُمِلَ بهِ منها، كما صَرَّحَ بهِ الْمَاورديُّ والرُّويَانِيُّ، وقالا: فإنَّ الحديثَ حُجَّةٌ لازمةٌ لجميعِ المسلمينَ وفي جميعِ الأمصارِ، فكانَ حُكْمُهُ أغْلَظَ، يعني: وتَغليظُ العقوبةِ فيهِ أَشَدُّ، مُبَالَغةً في الزجْرِ عنهُ؛ عمَلاً بقولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ كَذِباً عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ)).
وقدْ قالَ عبدُ الرزَّاقِ: أنا مَعْمَرٌ عنْ رجُلٍ عنْ سعيدِ بنِ جُبيرٍ، أنَّ رَجُلاً كَذَبَ على النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فبَعَثَ عليًّا والزُّبيرَ فقالَ: ((اذْهَبَا، فَإِنْ أَدْرَكْتُمَاهُ فَاقْتُلاهُ)).
ولهذا حَكَى إمامُ الحرمَيْنِ عنْ أبيهِ، أنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الكذِبَ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يَكْفُرُ، وإنْ لم يُوَافِقْهُ وَلَدُهُ وغيرُهُ مِن الأئمَّةِ على ذلكَ.
والحقُّ أنَّهُ فاحشةٌ عظيمةٌ، ومُوبِقَةٌ كبيرةٌ، ولكنْ لا يَكْفُرُ بها إلاَّ إن استَحَلَّهُ.
قالَ ابنُ الصلاحِ: وما ذَكَرَهُ ابنُ السَّمْعَانِيِّ يُضاهِي مِنْ حيثُ المَعْنَى ما قالَهُ ابنُ الصَّيْرَفِيِّ، يَعني لكَوْنِ رَدِّهِ لِحَديثِهِ المُسْتَقْبَلِ إنَّما هوَ لاحتمالِ كَذِبِهِ، وذلكَ جَارٍ في حديثِهِ الماضي بعدَ العلْمِ بكَذِبِهِ، وقد افتَرَقَت الروايَةُ والشهادةُ في أشياءَ، فتَكونُ مَسألتُنا منها، على أنَّهُ قدْ حُكِيَ عنْ مالكٍ في شاهدِ الزُّورِ أنَّهُ لا تُقبَلُ لهُ شَهادةٌ بَعْدَها.
وعنْ أبي حَنيفةَ في قاذِفِ الْمُحْصَنِ: لا تُقبلُ شَهادتُهُ أبَداً، فاستوَيَا في الرَّدِّ لِمَا بَعْدُ، لكنَّ المعتمَدَ في الشَّهادةِ عندَنا ما تَقدَّمَ. نَعَمْ، سِوى القاضي أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ الْمُظَفَّرِ بنِ بَكرانَ الْحَمَوِيُّ الشاميُّ مِنْ أصحابِنا، بَيْنَهُمَا، حيثُ قالَ في الراوي: إنَّهُ لا يُقْبَلُ في المَرْدُودِ خاصَّةً، ويُقْبَلُ في غيرِهِ. بلْ نُسِبَ إلى الدَّامغانيِّ مِن الْحَنفيَّةِ قَبولَهُ في الْمَردودِ وغيرِهِ، يعني إذا رَوَاهُ بعدَ تَوْبَتِهِ، وهوَ عَجيبٌ، والأصَحُّ الأوَّلُ، لكِنْ قالَ النوويُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شرْحِ مُقدِّمَةِ مسلِمٍ: لَمْ أَرَ لهُ؛ أيْ: للقولِ، في أصْلِ المسألةِ دَليلاً، ويَجوزُ أنْ يُوَجَّهَ بأنَّ ذلكَ جُعِلَ تَغليظاً وزَجْراً بليغاً عن الكَذِبِ عليهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ لعِظَمِ مَفسدتِهِ؛ فإنَّهُ يَصِيرُ شَرْعاً مُستَمِرًّا إلى يومِ القِيامةِ، بخِلافِ الكذِبِ على غيرِهِ والشهادةِ؛ فإنَّ مَفْسَدَتَهما قاصرةٌ لَيْسَتْ عامَّةً.
ثمَّ قالَ: وهذا الذي ذَكَرَهُ هؤلاءِ الأئمَّةُ ضَعيفٌ مُخالِفٌ للقواعدِ الشرعيَّةِ، والمُخْتَارُ القطْعُ بصِحَّةِ تَوبتِهِ في هذا، أي: الكَذِبِ عليهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وقَبولِ رواياتِهِ بعدَها إذا صَحَّتْ تَوبتُهُ بشُروطِها المعروفةِ.
قالَ: فهذا هوَ الجارِي على قواعدِ الشرْعِ، وقدْ أَجْمَعُوا على صِحَّةِ روايَةِ مَنْ كانَ كافراً فأسلَمَ، قالَ: وأَجْمَعُوا على قَبولِ شَهادتِهِ، ولا فَرْقَ بينَ الشهادةِ والروايَةِ في هذا.
وكذا قالَ في (الإرشادِ): هذا مُخالِفٌ لقاعدةِ مَذْهَبِنا ومَذهبِ غيرِنا. انتهى.
ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ فيما إذا كانَ كَذِبُهُ في وَضْعِ حديثٍ، وحُمِلَ عنهُ ودُوِّنَ: إنَّ الإثمَ غيرُ مُنْفَكٍّ عنهُ، بلْ هوَ لاحِقٌ لهُ أَبَداً، فإنَّ مَنْ سَنَّ سَيِّئَةً عليهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ، والتوبةُ حينئذٍ مُتعَذِّرَةٌ ظاهراً، وإنْ وُجِدَ مُجَرَّدُ اسْمِها، ولا يُستَشْكَلُ بقَبُولِها ممَّنْ لم يُمْكِنْهُ التدارُكُ برَدٍّ أوْ مَحالةٍ، فالأموالُ الضائعةُ لها مَرَدٌّ، وهوَ بيتُ المالِ، والأعراضُ قد انقَطَعَ تَجَدُّدُ الإثمِ بسببِها فافْتَرَقَا.
وأيضاً فعَدَمُ قَبولِ تَوبةِ الظالمِ رُبَّما يكونُ بَاعِثاً لهُ على الاسْتِرْسَالِ والتمادِي في غَيِّهِ، فيَزدادُ الضَّرَرُ بهِ، بخِلافِ الراوي؛ فإنَّهُ لو اتَّفَقَ اسْتِرْسَالُهُ أيضاً وَسْمُهُ بالكذِبِ مانعٌ مِنْ قَبولِ مُتجَدِّدَاتِهِ، بلْ قالَ الذهبيُّ: إنَّ مَنْ عُرِفَ بالكذِبِ على الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لا يَحصُلُ لنا ثِقةٌ بقَولِهِ: إنِّي تُبْتُ، يعني كما قِيلَ بِمِثلِهِ في المُعْتَرِفِ بالوَضْعِ.
ومَنْ رَوَى عنْ ثِقَةٍ فكَذَّبَهْ فقدْ تَعَارَضَا ولكنْ كَذِبَهْ
لا تُثْبِتَنْ بقَوْلِ شَيْخِهِ فقَدْ كَذَّبَهُ الآخَرُ وارْدُدْ ما جَحَدْ
وإنْ يَرُدَّهُ بـ"لا أَذْكُرُ" أَوْ ما يَقتضِي نِسْيَانَهُ فقد رَأَوْا
الحُكْمَ للذاكِرِ عندَ الْمُعْظَمِ وحُكِيَ الإسقاطُ عنْ بَعْضِهِمِ
كقِصَّةِ الشاهِدِ واليمينِ إِذْ نَسِيَهُ سُهَيْلٌ الذي أُخِذْ
عنهُ فكانَ بَعْدُ عن رَبِيعَهْ عن نفْسِهِ يَرْوِيهِ لَنْ يُضِيعَهْ
والشافعِي نَهَى ابنَ عبدِ الْحَكَمِ يَرْوِي عن الحَيِّ لِخَوْفِ التُّهَمِ
العاشرُ: في إنكارِ الأصْلِ تَحديثَ الفرْعِ بالتكذيبِ أوْ غيرِهِ.
(ومَنْ رَوَى) مِن الثقاتِ (عن) شيخٍ (ثِقَةٍ) أيضاً حَديثاً، (فكَذَّبَهُ) الْمَرويُّ عنهُ صَريحاً، كقولِهِ: كَذَبَ عَلَيَّ، (فقدْ تَعَارَضَا) في قولِهما؛ كالْبَيِّنَتَيْنِ إذا تَكاذَبَتَا؛ فإنَّهُما يَتعارضانِ؛ إذ الشيخُ قَطَعَ بكَذِبِ الراوِي، والراوِي قَطَعَ بالنقْلِ، ولكلٍّ منهما جِهةُ تَرجيحٍ، أمَّا الراوي فلكونِهِ مُثْبِتاً، وأمَّا الشيخُ فلكَوْنِهِ نَفَى ما يَتعلَّقُ بهِ في أمْرٍ يَقْرُبُ مِن المحصورِ غالباً.
(ولَكِنْ كَذِبَهْ)؛ أي: الراوِي، (لا تُثْبِتَنْ) بنونِ التأكيدِ الخفيفةِ مِنْ أَثْبَتَ، (بقولِ شيخِهِ) هذا، بحيثُ يكونُ جَرْحاً؛ فإنَّ الْجَرحَ كذلكَ لا يَثْبُتُ بغيرِ مُرَجِّحٍ، وأيضاً (فقدْ كَذَّبَهُ الآخَرُ)؛ أيْ: كَذَّبَ الراوي الشيخَ بالتصريحِ إنْ فُرِضَ أنَّهُ قالَ: كَذَبَ، بلْ سَمِعْتُهُ منهُ، أوْ بما يَقومُ مَقامَ التصريحِ، وهوَ جَزْمُهُ بكونِ الشيخِ حَدَّثَهُ بهِ؛ لأنَّ ذلكَ قدْ يَستلزِمُ تَكذيبَهُ في دَعواهُ أنَّهُ كَذَبَ عليهِ، وليسَ قَبولُ قَولِ أحَدِهما بأَوْلَى مِن الآخَرِ.
وأيضاً فكما قالَ التاجُ السُبْكِيُّ: عدالةُ كلِّ واحدٍ منهما مُتَيَقَّنَةٌ، وكَذِبُهُ مشكوكٌ فيهِ، واليقينُ لا يُرفعُ بالشَّكِّ، فتَساقَطَا، كرَجُلٍ قالَ لامرأتِهِ: إنْ كانَ هذا الطَّائِرُ غُراباً فأنتِ طالقٌ، وعَكَسَ آخَرُ، ولم يُعْرَف الطائرُ؛ فإنَّهُ لا يُمنَعُ واحدٌ منهما مِنْ غَشَيَانِ امرأتِهِ معَ أنَّ إِحْدَى المَرْأَتَيْنِ طَالِقٌ، وهذا بخِلافِ الشاهدِ؛ فإنَّ الماورديَّ قالَ: إنَّ تَكْذِيبَ الأصْلِ جَرْحٌ للفرْعِ، والفَرْقُ غِلَظُ بابِ الشهادةِ وضِيقُهُ، وكأنَّهُ أَرادَ في خُصوصِ تلكَ الشهادةِ لِيُوافِقَ غيرَهُ.
(وَ) إذا تَسَاقَطَا في مَسْأَلَتِنا (فَارْدُدْ) أيُّها الواقفُ عليهِ (ما جَحَدْ) الشيخُ مِن الْمَرْوِيِّ خاصَّةً؛ لكَذِبِ واحدٍ منهما لا بِعَيْنِهِ، ولكنْ لوْ حَدَّثَ بهِ الشيخُ نفْسُهُ أوْ ثِقةٌ غيرُ الأوَّلِ عنهُ، ولم يُنكِرْهُ عليهِ، فهوَ مَقبولٌ، كُلُّ هذا إذا صَرَّحَ بالتكذيبِ، فإنْ جَزَمَ بالرَّدِّ بدونِ تصريحٍ كقولِهِ: ما رَوَيْتُ هذا، أوْ ما حَدَّثْتُ بهِ قَطُّ، أوْ أنا عَالِمٌ أنَّنِي ما حَدَّثْتُكَ، أوْ لم أُحَدِّثْكَ، فَقَدْ سَوَّى ابنُ الصلاحِ تَبَعاً للخطيبِ وغيرِهِ بينَهما أيضاً، وهوَ الذي مَشَى عليهِ شيخُنا في توضيحِ النُّخْبَةِ.
لكنَّهُ قالَ في (الفَتْحِ): إنَّ الراجحَ عندَهم؛ أي: الْمُحَدِّثِينَ، القَبولُ.
وتَمَسَّكَ بصَنيعِ مُسلِمٍ؛ حيثُ أَخْرَجَ حديثَ عمرِو بنِ دِينارٍ عنْ أبي مَعْبَدٍ عن ابنِ عباسٍ: " ما كُنَّا نَعرِفُ انقضاءَ صلاةِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ إلاَّ بالتكبيرِ "، معَ قولِ أبي مَعبدٍ لعمرٍو: لم أُحَدِّثْكَ بهِ؛ فإنَّهُ دَلَّ على أَنَّ مُسلِماً كانَ يَرَى صِحَّةَ الحديثِ، ولوْ أَنكَرَهُ رَاوِيهِ إذا كانَ الناقلُ عنهُ عَدْلاً.
وكذا صَحَّحَ الحديثَ البخاريُّ وغيرُهُ، وكأنَّهُم حَمَلُوا الشيخَ في ذلكَ على النِّسيانِ كالصِّيَغِ التي بَعْدَها.
ويُؤَيِّدُهُ قولُ الشافعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الحديثِ بعَينِهِ: كأنَّهُ نَسِيَ بعدَ أنْ حَدَّثَهُ، بلْ قالَ قَتادةُ حينَ حَدَّثَ عنْ كثيرِ بنِ أبي كثيرٍ عنْ أبي سَلَمَةَ عنْ أبي هُريرةَ بشيءٍ، وقالَ كثيرٌ: ما حَدَّثْتُ بهذا قطُّ، إنَّهُ نَسِيَ، لكنَّ إلحاقَ هذهِ الألفاظِ بالصورةِ الأُولَى أَظْهَرُ.
ولَعَلَّ تصحيحَ هذا الحديثِ بخُصوصِهِ لِمُرَجِّحِ اقْتَضَاهُ تَحسيناً للظَّنِّ بالشيخَيْنِ، لا سِيَّمَا وقدْ قِيلَ، كما أَشارَ إليهِ الفَخْرُ الرازيُّ: إنَّ الرَّدَّ إنَّما هوَ عندَ التَّسَاوِي، فلوْ رُجِّحَ أحدُهما عُمِلَ بهِ. قالَ شيخُنا: وهذا الحديثُ مِنْ أَمثِلَتِهِ.
هذا معَ أنَّ شَيْخَنا قدْ حَكَى عن الجمهورِ مِن الفُقهاءِ في هذهِ الصورةِ القَبولَ، وعنْ بعضِ الْحَنَفِيَّةِ ورِوَايَةً عنْ أحمدَ الرَّدَّ قِياساً على الشاهِدِ.
وبالجُمْلَةِ، فظاهِرُ صَنيعِ شَيْخِنا اتِّفاقُ الْمُحَدِّثينَ على الردِّ في صورةِ التصريحِ بالكَذِبِ، وقَصْرُ الْخِلافِ على هذهِ، وفيهِ نَظَرٌ، فالْخِلافُ مَوجودٌ، فمِنْ مُتَوَقِّفٍ، ومِنْ قائلٍ بالقَبولِ مُطْلَقاً، وهوَ اختيارُ ابنِ السُّبْكِيِّ، تَبَعاً لأَبِي الْمُظَفَّرِ بنِ السَّمْعَانِيِّ، وقالَ بهِ أبو الحُسَيْنِ بنُ القَطَّانِ، وإنْ كانَ الآمِدِيُّ والْهِنْدِيُّ حَكَيَا الاتِّفَاقَ على الرَّدِّ مِنْ غيرِ تَفصيلٍ، وهوَ ممَّا يُساعدُ ظاهرَ صَنيعِ شيخِنا في الصورةِ الأُولَى، ويُنازِعُ في الثانيَةِ.
ويُجابُ بأنَّ الاتِّفاقَ في الأُولَى والْخِلافَ في الثانيَةِ بالنظَرِ للمُحَدِّثِينَ خاصَّةً.
وأمَّا لوْ أَنْكَرَ الشيخُ الْمَرويَّ بالفعْلِ كَأَنْ عَمِلَ بخِلافِ الخبرِ، فقدْ تَقدَّمَ في الفصلِ السادسِ قَريباً أنَّهُ لا يَقْدَحُ في الخبرِ، ولا في راوِيهِ، وكذا إذا تَرَكَ العملَ بهِ، وهلْ يُسَوِّغُ عمَلُ الراوي نفْسِهِ بهِ بحيثُ لم نَقْبَلْهُ منهُ؟ الظاهرُ نَعَمْ إذا كانَ أَهلاً، قِياساً على ما سَيَأْتِي في سادسِ أنواعِ التحمُّلِ فيما إذا أعلَمَ الشيخُ الطالبَ بأنَّ هذا مَرْوِيُّهُ، ولكنْ مَنَعَهُ مِنْ رِوايتِهِ عنهُ؛ إذْ لا فرْقَ، هذا كلُّهُ إذا لم يَذْكُر الشيخُ أنَّ الْمَرويَّ ليسَ مِنْ حَديثِهِ أَصلاً، فإنْ صَرَّحَ بذلكَ فلا، حتَّى لوْ رَواهُ ثانياً لا يُقْبَلُ منهُ، بلْ ذاكَ مُقتضٍ لِجَرْحِهِ، وفيهِ نَظَرٌ. ثمَّ إنَّ ما تَقدَّمَ فيما يَرُدُّهُ الشيخُ بالصريحِ، أوْ ما يَقومُ مَقامَهُ كما شَرَحَ.
(و) إمَّا (إِنْ يَرُدُّهُ بـ) قولِهِ: (لا أَذْكُرُ) هذا، أوْ لا أَعرِفُ أنِّي حَدَّثْتُهُ بهِ، (أو) نَحْوِهِما مِن الألفاظِ التي فيها (ما يَقتضِي نِسيانَهُ)، كيَغْلُبُ على ظَنِّي أنَّنِي ما حَدَّثْتُهُ بهذا، أوْ لا أَعرِفُ أنَّهُ مِنْ حَديثِي، والراوي جازِمٌ بهِ، (فَقَدْ رَأَوْا)؛ أي: الجمهورُ مِن الْمُحَدِّثينَ، قَبولَهُ، (الحُكْمَ لـ) الرَّاوِي (الذَّاكِرِ) كما هوَ (عندَ الْمُعْظَمِ) مِن الفُقهاءِ والمتكلِّمينَ، وصَحَّحَهُ غيرُ واحدٍ، منهم الخطيبُ وابنُ الصلاحِ وشَيْخُنا، بلْ حَكَى فيهِ اتِّفاقَ الْمُحَدِّثينَ؛ لأنَّ الفرْضَ أنَّ الراويَ ثِقةٌ جَزْماً، فلا يُطْعَنُ فيهِ بالاحتمالِ؛ إذ الْمَرويُّ عنهُ غيرُ جازِمٍ بالنفيِ، بلْ جَزْمُ الراوِي عنهُ وشَكُّهُ هوَ قَرينةٌ لنِسيانِهِ.
(وحُكِيَ الإسقاطُ) في الْمَرويِّ وعَدَمُ القَبولِ (عنْ بَعْضِهِمِ) بكسْرِ الميمِ؛ أيْ: بعضِ العُلماءِ، وهم قَوْمٌ مِن الْحَنفيَّةِ كما قالَ ابنُ الصلاحِ، ونَسَبَهُ النوويُّ في شَرْحِ مسلِمٍ للكَرْخِيِّ منهم، بلْ حكاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في (العُدَّةِ) عنْ أصحابِ أبي حَنِيفَةَ، لَكِنْ في التعميمِ نظَرٌ، إلاَّ أنْ يُريدَ المُتَأَخِّرينَ منهم، لا سِيَّما وسَيَأْتِي في المسألةِ الثانيَةِ مِنْ صفةِ روايَةِ الحديثِ وأدائِهِ عنْ أبي يُوسُفَ ومحمَّدِ بنِ الحسَنِ أنَّهُ إذا وُجِدَ سماعُهُ في كتابِهِ وهوَ غيرُ ذَاكِرٍ لسماعِهِ يَجوزُ لهُ رِوايتُهُ.
ويَتَأَيَّدُ بقولِ إِلْكِيَا الطَّبريِّ: إنَّهُ لا يُعرَفُ لهم في مسألتِنا بخُصُوصِها كلامٌ، إلاَّ إنْ أُخِذَ مِنْ رَدِّهم حديثَ: ((إِذَا نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ)) الذي ذَكَرَهُ ابنُ الصلاحِ مِنْ أمثلةِ مَنْ حَدَّثَ ونَسِيَ.
وذَكَرَ الرافعيُّ في الأَقْضِيَةِ أنَّ القاضيَ ابنَ كَجٍّ حَكَاهُ وَجْهاً عنْ بعضِ الأصحابِ، ونَقَلَهُ شارِحُ اللُّمَعِ عن اختيارِ القاضي أبي حامدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ، وأنَّهُ قَاسَهُ على الشاهدِ. وتَوْجِيهُ هذا القولِ أنَّ الفرْعَ تَبَعٌ للأصلِ في إثباتِ الحديثِ بحيثُ إذا أَثْبَتَ الأصلُ الحديثَ ثَبَتَتْ روايَةُ الفرْعِ، فكذلكَ يَنبغِي أنْ يكونَ فَرْعاً عليهِ وتَبَعاً لهُ في النفيِ.
ولكنْ هذا مُتَعَقَّبٌ؛ فإنَّ عدالةَ الفرْعِ يَقتضِي صِدْقَهُ، وعدَمُ عِلْمِ الأصلِ لا يُنافِيهِ، فالْمُثْبِتُ الجازمُ مُقَدَّمٌ على النافِي، خُصوصاً الشَّاكَّ.
قالَ شيخُنا: وأمَّا قِياسُ ذلكَ بالشهادةِ، يَعني على الشهادةِ، إذا ظَهَرَ تَوَقُّفُ الأصلِ، ففاسِدٌ؛ لأنَّ شَهادةَ الفرْعِ لا تُسْمَعُ معَ القُدرةِ على شَهادةِ الأصْلِ، بخِلافِ الروايَةِ، فافْتَرَقَا، على أنَّ بعضَ الْمُتَأَخِّرِينَ - كما حكاهُ البُلقينيُّ - قدْ أَجْرَى في الشَّهادةِ على الشَّهادةِ الوَجْهَيْنِ فيما لوْ لم يُنْكِر الحاكمُ حُكْمَهُ بلْ تَوَقَّفَ، والأوْفَقُ هناكَ لِقَوْلِ الأكْثَرِينَ قَبولُ الشهادةِ بحُكمِهِ، فاسْتَوَيَا.
وفي المَسْأَلَةِ قولٌ آخَرُ، وهوَ إنْ كانَ الشيخُ رَأْيُهُ يَميلُ إلى غَلَبةِ النِّسيانِ، أوْ كانَ ذلكَ عادَتَهُ في مَحفوظاتِهِ، قُبِلَ الذاكِرُ الحافظُ، وإنْ كانَ رَأْيُهُ يَميلُ إلى جَهْلِهِ أصْلاً بذلكَ الخبرِ رُدَّ، فقَلَّمَا يَنْسَى الإنسانُ شيئاً حَفِظَهُ نِسياناً لا يَتذَكَّرُهُ بالتذكيرِ، والأمورُ تُبْنَى على الظاهرِ لا على النادِرِ، قالَهُ ابنُ الأثيرِ وأبو زيدٍ الدَّبُّوسِيُّ.
وقدْ صَنَّفَ الدارَقُطْنِيُّ، ثمَّ الخطيبُ: (مَنْ حَدَّثَ ونَسِيَ)، وفيهِ ما يَدُلُّ على تَقويَةِ الْمَذهبِ الأوَّلِ الصحيحِ؛ لِكَوْنِ كثيرٍ منهم حَدَّثَ بأحاديثَ، ثمَّ لَمَّا عُرِضَتْ عليهِ لم يَتذَكَّرْها، لكنْ لاعتمادِهم على الرُّواةِ عنهم صَارُوا يَرْوُونَها عن الذي رَواها عنهم عنْ أَنْفُسِهم. ولِذَلِكَ أَمثلةٌ كثيرةٌ؛ (كقِصَّةِ) حديثِ (الشَّاهِدِ واليَمِينِ)، الذي لَفْظُهُ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ قَضَى باليمينِ معَ الشاهدِ.
(إذْ نَسِيَهُ سُهيلٌ) ابنُ أبي صالحٍ (الذي أُخِذْ)؛ أيْ: حُمِلَ، (عَنْهُ) عنْ أبيهِ عنْ أبي هُريرةَ، (فكانَ) سُهَيْلٌ (بَعْدُ) بِضَمِّ الدالِ على البناءِ (عنْ رَبيعَهْ) هوَ ابنُ أبي عبدِ الرحمنِ (عنْ نفْسِهِ يَرْوِيهِ)، فيقولُ: أَخْبَرَني رَبيعةُ، وهوَ عِندِي ثِقةٌ، أَنَّنِي حَدَّثْتُهُ إيَّاهُ ولا أَحْفَظُهُ، قالَ عبدُ العزيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ: وقدْ كانَ أَصَابَتْ سُهَيْلاً عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ، ونَسِيَ بعضَ حديثِهِ، فكانَ يُحَدِّثُ بهِ عَمَّنْ سَمِعَهُ منهُ. وفَائِدَتُهُ سِوَى ما تَضَمَّنَتْهُ مِنْ شِدَّةِ الوُثوقِ بالراوِي عنهُ - مِمَّا لم يَذْكُرْهُ ابنُ الصلاحِ - الإعلامُ بالْمَرْوِيِّ، وكونُهُ (لَنْ يُضِيعَهْ) بضَمِّ أوَّلِهِ مِنْ أَضاعَ؛ إذْ بتَرْكِهِ لروايتِهِ يَضِيعُ.
ومِنْ ظَريفِ ما اتَّفَقَ في المعنى أنَّ أبا القاسمِ بنَ عساكِرَ، وهوَ أُسْتَاذُ زمانِهِ حِفْظاً وإتْقاناً ووَرَعاً، حدَّثَ قالَ: سَمِعتُ سعيدَ بنَ المُبَارَكِ الدَّهَّانَ ببَغدادَ يقولُ: رَأَيْتُ في النومِ شَخْصاً أَعْرِفُهُ يُنشِدُ صاحباً لهُ:
أيُّها الْمَاطِلُ دَيْنِي أُمْلِي وتُمَاطِلْ
عَلِّلِ القلْبَ فَإِنِّي قانِعٌ مِنكَ ببَاطِلْ
وحَدَّثَ ابنُ عساكرَ بهذا صَاحِبَهُ الحافظَ أبا سعْدِ بنَ السَّمْعَانِيِّ، قالَ أبو سعْدٍ: فرَأَيْتُ ابنَ الدَّهَّانِ، فعَرَضْتُ ذلكَ عليهِ، فقالَ: ما أَعْرِفُهُ. قالَ أبو سَعْدٍ: وابنُ عساكرَ مِنْ أَكمَلِ مَنْ رَأَيْتُ، جُمِعَ لهُ الحفْظُ والْمَعرفةُ والإتقانُ، ولعلَّ ابنَ الدَّهَّانِ نَسِيَ، ثمَّ كانَ ابنُ الدَّهَّانِ بعدَ ذلكَ يَرْوِيهِ عنْ أبي سعْدٍ عن ابنِ عساكرَ عنْ نفْسِهِ.
قالَ الخطيبُ في (الكفايَةِ): ولأَجْلِ أنَّ النِّسيانَ غيرُ مَأمونٍ على الإنسانِ، بحيثُ يُؤَدِّي إلى جُحودِ ما رُوِيَ عنهُ، وتَكذيبِ الراوي لهُ، كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِن العُلماءِ التحديثَ عن الأَحياءِ، مِنهم الشَّعْبِيُّ؛ فإنَّهُ قالَ لابنِ عَوْنٍ: لا تُحَدِّثْنِي عن الأَحياءِ. ومَعْمَرٌ؛ فإنَّهُ قالَ لعبدِ الرزَّاقِ: إنْ قَدَرْتَ أنْ لا تُحَدِّثَ عنْ حَيٍّ فافعَلْ.
(والشافِعِي) بالإسكانِ (نَهَى ابنَ عبدِ الْحَكَمِ)، هوَ محمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ، (يَرْوِي)؛ أيْ: عن الروايَةِ، (عن الْحَيِّ)، وهوَ كما أَشارَ إليهِ الخطيبُ قَريباً دُونَ ابنِ الصلاحِ، (لِـ) أَجْلِ (خَوْفِ التُّهَمِ) إذا جَزَمَ الشيخُ بالنفيِ، وذلكَ فيما رُوِّينَاهُ في مَناقِبِهِ و(الْمَدْخَلِ)، كِلاهُما للبَيهقيِّ، مِنْ طريقِ أبي سعيدٍ الْجَصَّاصِ عنْ محمَّدِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الحكَمِ قالَ: سَمِعْتُ مِن الشافعيِّ حكايَةً، فحَكَيْتُها عنهُ، فنُمِيَتْ إليهِ، فأَنْكَرَها، قالَ: فاغْتَمَّ أبي؛ أيْ: لِذَلِكَ غَمًّا شَديداً، وكُنَّا نُجِلُّهُ، فَقُلْتُ لهُ: يا أَبَتِ، أَنَا أُذَكِّرُهُ لعَلَّهُ يَتذَكَّرُ، فمَضَيْتُ إليهِ، فقُلْتُ لهُ: يا أبا عبدِ اللَّهِ، أليسَ تَذْكُرُ يومَ كذا وكذا في الإِملاءِ على الكلمةِ؟ فذَكَرَها، ثمَّ قالَ لي: يا مُحمَّدُ، لا تُحَدِّثْ عن الْحَيِّ؛ فإنَّ الْحَيَّ لا يُؤْمَنُ عليهِ أنْ يَنْسَى.
لكِنْ قدْ قَيَّدَ بعضُ الْمُتَأَخِّرينَ الكراهةَ بما إذا كانَ لهُ طريقٌ آخَرُ سِوَى طريقِ الحيِّ، أمَّا إذا لم يَكُنْ لهُ سِواها وحَدَثَتْ واقعةٌ فلا مَعْنَى للكراهةِ؛ لِمَا في الإمساكِ مِنْ كَتْمِ العلْمِ، وقدْ يَموتُ الراوِي قَبلَ مَوتِ الْمَرْوِيِّ عنهُ، فيَضِيعُ العلْمُ إنْ لم يُحَدِّثْ بهِ غَيْرَهُ، وهوَ حَسَنٌ؛ إذ الْمَصلحَةُ مُحَقَّقَةٌ، والْمَفسَدَةُ مَظْنُونةٌ، كما قَدَّمْنَاهُ في قَبولِ الْمُبْتَدِعِ فيما لم نَرَهُ مِنْ حديثِ غيرِهِ، مِنْ أنَّ مَصلحةَ تَحصيلِ ذاكَ الْمَرْوِيِّ مُقَدَّمَةٌ على مَصلحةِ إِهانتِهِ وإطفاءِ بِدْعتِهِ.
وكذا يَحْسُنُ تَقييدُ مَسألتِنا بما إذا كَانَا في بَلَدٍ واحدٍ، أمَّا إنْ كانا في بَلَدَيْنِ فلا؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ الحاملُ لهُ على الإنكارِ النَّفَاسَةَ معَ قِلَّتِها بينَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وقدْ حَدَّثَ عمرُو بنُ دِينارٍ عن الزُّهْرِيِّ بشيءٍ، وسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عنهُ فأَنْكَرَهُ، وبَلَغَ ذلكَ عَمْراً، فاجتمَعَ بالزُّهْرِيِّ فقالَ لهُ: " يا أبا بكرٍ، أَلَيْسَ قدْ حَدَّثْتَنِي بكذا؟ فقالَ: ما حَدَّثْتُكَ، ثمَّ قالَ: واللَّهِ، ما حَدَّثْتَ بهِ وأنا حَيٌّ إلاَّ أَنْكَرْتُهُ، حتَّى تُوضَعَ أنتَ في السِّجْنِ ".
وقدْ أَوْرَدْتُ القصَّةَ في السادسِ مِن الْمُسَلْسَلاتِ. ورَوَى البخاريُّ في الأحكامِ عنْ حَمَّادِ بنِ حُمَيْدٍ عنْ عُبيدِ اللَّهِ بنِ مُعاذٍ حديثاً، ووُجِدَ في بعضِ النُّسَخِ وصَفَهُ بصاحبٍ لنا، وإنَّ عُبيدَ اللَّهِ كانَ في الأحياءِ حينئذٍ.
ومَنْ رَوَى بأُجْرَةٍ لم يَقْبَلِ إسحاقُ والرازيُّ وابنُ حَنْبَلِ
وَهْوَ شَبيهُ أُجْرَةِ القُرآنِ يَخْرِمُ مِن مُروءةِ الإنسانِ
لكنْ أبو نُعَيْمٍ الفَضْلُ أَخَذْ وغيرُهُ تَرَخُّصاً فإنْ نَبَذْ
شُغْلاً به الكَسْبَ أَجِزْ إِرْفاقَا أَفْتَى به الشيخُ أبو إسحاقَا
الحادي عَشَرَ: في الأَخْذِ على التحديثِ.
(ومَنْ رَوَى) الحديثَ (بأُجْرَةٍ) أوْ نَحْوِها؛ كالْجُعَالَةِ، (لم يَقْبَلِ إسحاقُ) بنُ إبراهيمَ الْحَنظليُّ، عُرِفَ بابنِ رَاهَوَيْهِ، (وَ) أبو حاتمٍ (الرازيُّ وابنُ حَنْبَلِ) هوَ أحمدُ في آخَرِينَ.
أمَّا إسحاقُ؛ فإنَّهُ حينَ سُئِلَ عن الْمُحَدِّثِ يُحَدِّثُ بالأَجْرِ، قالَ: لا يُكْتَبُ عنهُ، وكذا قالَ أبو حاتمٍ حينَ سُئِلَ عمَّنْ يَأْخُذُ على الحديثِ، وأمَّا أحمدُ فإنَّهُ قِيلَ لهُ: أيُكْتَبُ عمَّنْ يَبيعُ الحديثَ؟ فقالَ: لا، ولا كَرامةَ. فأطلَقَ أبو حاتمٍ جوابَ الأخْذِ الشاملِ الإجارَةَ والْجُعَالةَ والْهِبَةَ والْهَدِيَّةَ، وهوَ ظاهرٌ في الْجُعالةِ؛ لوُجودِ العِلَّةِ فيها أيضاً، وإنْ كانت الإجارةُ أفْحَشَ.
وقدْ قالَ سُليمانُ بنُ حَرْبٍ: لم يَبْقَ أمْرٌ مِنْ أمْرِ السماءِ إلاَّ الحديثُ والقضاءُ، وقدْ فَسَدَا جَميعاً، القُضاةُ يَرْشُونَ حتَّى يُوَلَّوْا، والمُحَدِّثونَ يَأخذونَ على حديثِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ الدَّرَاهمَ.
(وَهْوَ)؛ أيْ: أخْذُ الأُجْرَةِ، (شَبيهُ أُجرَةِ) مُعَلِّمِ (القرآنِ) ونَحْوِهِ؛ كالتدريسِ، يَعني في الْجَوازِ، إلاَّ أنَّهُ هناكَ العادَةُ جاريَةٌ بالأخْذِ فيهِ، وهوَ هنا في العُرْفِ (يَخْرِمُ)؛ أيْ: يُنْقِصُ، (مِنْ مُروءةِ الإنسانِ) الفاعلِ لهُ؛ لكونِهِ شاعَ بينَ أهْلِهِ التَّخَلُّقُ بعُلُوِّ الْهِمَمِ، وطَهارةِ الشِّيَمِ، وتَنزيهِ العِرْضِ عنْ مَدِّ العينِ إلى شيءٍ مِن العَرَضِ.
قالَ الخطيبُ: وإنَّما مَنَعُوا مِنْ ذلكَ تَنزيهاً للراوِي عنْ سُوءِ الظَّنِّ بهِ؛ فإنَّ بعضَ مَنْ كانَ يَأخُذُ الأُجرةَ على الروايَةِ عُثِرَ على تَزَيُّدِهِ وادِّعائِهِ ما لم يَسْمَعْ لأَجْلِ ما كانَ يُعْطَى، ومِنْ هنا بالَغَ شُعبةُ فيما حُكِيَ عنهُ وقالَ: لا تَكْتُبُوا عن الفُقراءِ شيئاً؛ فإنَّهُم يَكْذِبونَ، ولذا امْتَنَعَ مِن الأخْذِ مَن امْتَنَعَ، بلْ تَوَرَّعَ الكثيرُ منهم عنْ قَبولِ الهديَّةِ والْهِبَةِ، فقالَ سعيدُ بنُ عامرٍ: لَمَّا جَلَسَ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ للحديثِ أُهْدِيَ لهُ، فَرَدَّهُ وقالَ: إنَّ مَنْ جَلَسَ هذا الْمَجْلِسَ فليسَ لهُ عندَ اللَّهِ خَلاقٌ، يعني إنْ أَخَذَ. وكذا لم يَكُن النَّوويُّ يَقبلُ مِمَّنْ لهُ بهِ عَلَقَةٌ مِنْ إِقْرَاءٍ أو انتفاعٍ ما.
قالَ ابنُ العَطَّارِ: للخُروجِ مِنْ حديثِ إهداءِ القَوْسِ، يَعني الوارِدَ الزجْرُ عنْ آخِذِهِ ممَّن عَلَّمَهُ القرآنُ، قالَ: ورُبَّما أنَّهُ كانَ يَرَى نشْرَ العلْمِ مُتَعَيَّناً عليهِ معَ قَناعةِ نفْسِهِ وصَبْرِها، قالَ: والأمورُ الْمُتَعَيَّنَةُ لا يَجوزُ أخْذُ الجزاءِ عليها؛ كالقرْضِ الْجَارِ إلى مَنفعةٍ؛ فإنَّهُ حَرامٌ باتِّفاقِ العُلماءِ. انتهى.
وقالَ جَعفرُ بنُ يحيى الْبَرْمَكِيُّ: ما رَأَيْنَا في القُرَّاءِ مِثلَ عيسى بنِ يُونُسَ بنِ أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ، عُرِضَتْ عليهِ مِائةُ ألفٍ، فقالَ: لا واللَّهِ، لا يَتحدَّثُ أهلُ العِلْمِ أنِّي أَكَلْتُ لِلسُّنَّةِ ثَمَناً، ألا كانَ هذا قَبلَ أنْ تُرْسِلُوا إِلَيَّ، فأمَّا على الحديثِ فلا، ولا شَرْبَةَ ماءٍ، ولا إِهْلِيلِجَةَ.
وهذا بمَعْنَاهُ وأَزْيَدُ عندَ أبي الفَرَجِ النَّهْرَوَانِيِّ في الْجَليسِ الصالِحِ قالَ: دَخَلَ الرَّشيدُ الكوفةَ، ومعَهُ ابْنَاهُ الأَمينُ والمأمونُ، فسَمِعَا مِنْ عبدِ اللَّهِ بنِ إِدريسَ وعيسى بنِ يُونُسَ، فأَمَرَ لَهُمَا بمالٍ جَزيلٍ، فلم يَقْبَلا، وقالَ لهُ عيسى: لا، ولا إِهْلِيلِجَةَ، ولا شَربةَ ماءٍ على حديثِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولوْ مَلأْتَ لي هذا الْمَسْجِدَ إلى السَّقْفِ ذَهَباً.
وقالَ جَريرُ بنُ عبدِ الْحَميدِ: مَرَّ بِنَا حَمزةُ الزَّيَّاتُ فاسْتَسْقَى، فدَخَلْتُ البيتَ، فجِئتُهُ بالْمَاءِ، فلَمَّا أَرَدْتُ أنْ أُنَاوِلَهُ نَظَرَ إِلَيَّ فقالَ: أَنْتَ هُوَ؟
قُلْتُ: نَعَمْ،
فقالَ: أَلَيْسَ تَحْضُرُنا في وَقْتِ القراءةِ؟
قُلْتُ: نَعَمْ، فرَدَّهُ وأَبَى أنْ يَشْرَبَ ومَضَى.
وأَهْدَى أصحابُ الحديثِ للأوزاعيِّ شيئاً، فلمَّا اجْتَمَعُوا قالَ لَهُمْ: أنْتُم بالْخِيارِ إنْ شِئْتُمْ قَبِلْتُهُ ولم أُحَدِّثْكُم، أوْ رَدَدْتُهُ وحَدَّثْتُكُم، فاخْتَارُوا الرَّدَّ وحَدَّثَهم. ونَحْوُهُ عنْ حَمَّادِ بنِ سَلمةَ كما للخَطِيبِ في (الكفايَةِ).
وقالَ هِبةُ اللَّهِ بنُ المُبارَكِ السَّقَطِيُّ: كانَ أبو الغَنَائِمِ محمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ عليِّ بنِ الحسَنِ بنِ الدَّجَاجِيِّ البَغداديُّ ذا وَجاهةٍ وتَقَدُّمٍ وحالٍ واسعةٍ، وعَهْدِي بِي وقدْ أَخْنَى عليهِ الزمانُ بِصُروفِهِ، وقدْ قَصَدْتُهُ في جماعةِ مُثْرِينَ؛ لِنَسْمَعَ منهُ وهوَ مَريضٌ، فدَخَلْنَا عليهِ وهوَ على بادِيَةٍ، وعليهِ جُبَّةٌ قدْ أَكَلَت النارُ أَكْثَرَها، وليسَ عندَهُ ما يُساوِي دِرْهَماً، فَحَمَلَ على نفْسِهِ حتَّى قَرَأْنَا عليهِ بِحَسَبِ شَرَهِنَا، ثمَّ قُمْنَا، وقدْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ في إِكْرَامِنا.
فلَمَّا خَرَجْنَا قُلْتُ: هلْ معَ سَادَتِنا ما نَصْرِفُهُ إلى الشيخِ؟ فمَالُوا إلى ذلكَ، فاجتمَعَ لهُ نَحْوُ خمْسَةِ مَثاقيلَ، فدَعَوْتُ ابْنَتَهُ وأَعْطَيْتُها، ووَقَفْتُ لأَرَى تَسلِيمَها إليهِ، فلَمَّا دَخَلَتْ وأَعْطَتْهُ لَطَمَ حُرَّ وَجْهِهِ، ونادَى: وَافَضِيحَتَاهُ! آخُذُ على حديثِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ عِوَضاً، لا واللَّهِ، ونَهَضَ حَافِياً فنَادَى بِحُرْمَةِ ما بَيْنَنا إلاَّ رَجَعْتُ، فَعُدْتُ إليهِ، فبَكَى وقالَ: تَفضَحُني معَ أصحابِ الحديثِ؟ المَوْتُ أَهْوَنُ مِنْ ذلكَ. فأَعَدْتُ الذَّهَبَ إلى الجماعةِ، فلم يَقْبَلُوهُ وتَصَدَّقُوا بهِ.
ومَرِضَ أبو الفتْحِ الكَرُوخِيُّ رَاوِي التِّرمِذيِّ، فأَرْسَلَ إليهِ بعضُ مَنْ كانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ شيئاً مِن الذهَبِ، فما قَبِلَهُ، وقالَ: بعدَ السَّبْعِينَ واقترابِ الأجَلِ آخُذُ على حديثِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ شيئاً؟ ورَدَّهُ معَ الاحتياجِ إليهِ.
(لَكِنْ) الحافظُ الْحُجَّةُ الثَّبْتُ شيخُ البخاريِّ (أبو نُعَيْمٍ)، هوَ (الفَضْلُ) بنُ دُكَيْنٍ، قدْ (أَخَذْ) العِوَضَ على التحديثِ، بحيثُ كانَ إذا لم يَكُنْ معهم دراهِمُ صِحاحٌ بلْ مُكَسَّرَةٌ أخَذَ صِرْفَها.
(وَ) كذا أَخَذَ (غيرُهُ)؛ كعفَّانَ أحَدِ الْحُفَّاظِ الأثباتِ مِنْ شُيوخِ البخاريِّ أيضاً، فقدْ قالَ حَنبلُ بنُ إسحاقَ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللَّهِ، يَعني الإمامَ أحمدَ، يقولُ: شَيْخَانِ كانَ الناسُ يَتَكَلَّمونَ فيهما ويَذكُرُونَهما، وكُنَّا نَلْقَى مِن الناسِ في أَمْرِهما ما اللَّهُ بهِ عَليمٌ، قامَا للَّهِ بأمْرٍ لم يَقُمْ بهِ أحَدٌ أوْ كبيرُ أحَدٍ مِثلَ ما قَامَا بهِ: عَفَّانُ وأبو نُعَيْمٍ.
يعني بقِيامِهما عدَمَ الإجابةِ في الْمِحْنَةِ، وبكلامِ الناسِ مِنْ أجْلِ أنَّهُما كانَا يَأخذانِ على التحديثِ.
ووَصَفَ أحمدُ معَ هذا عَفَّانَ بالتَّثَبُّتِ، وقِيلَ لهُ: مَنْ تَابَعَ عَفَّانَ على كَذَا؟ فقالَ: وعَفَّانُ يَحْتَاجُ إلى أنْ يُتابِعَهُ أحَدٌ؟ وأبا نُعيمٍ بالْحُجَّةِ الثَّبْتِ، وقالَ مَرَّةً: إنَّهُ يُزاحِمُ بهِ ابنَ عُيَيْنَةَ، وهوَ على قِلَّةِ رِوايتِهِ أَثْبَتُ مِنْ وَكيعٍ. إلى غيرِ ذلكَ مِن الرواياتِ عنهُ، بلْ وعنْ أبي حاتمٍ في تَوثيقِهِ وإجلالِهِ، فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بينَ هذا وإطلاقِهما كما مَضَى أوَّلاً عدَمُ الكتابةِ، بأنَّ ذلكَ في حَقِّ مَنْ لم يَبْلُغْ هذهِ الْمَرْتَبَةَ في الثِّقةِ والتَّثَبُّتِ، أو الأَخْذُ مُخْتَلِفٌ في الْمَوضِعيْنِ كما يُشعِرُ بهِ السؤالُ لأحمدَ هناكَ، ومُضايَقَةُ البَغَوِيِّ التي كانَتْ سبباً لامتناعِ النَّسائيِّ مِن الروايَةِ عنهُ، كما سَيَأْتِي قَريباً، وعلى هذا يُحمَلُ قولُ محمَّدِ بنِ عبدِ الْمَلِكِ بنِ أَيْمَنَ: لم يَكُونُوا يَعِيبُونَ مِثلَ هذا، إنَّما العَيْبُ عندَهم الكَذِبُ.
وممَّنْ كانَ يَأخُذُ ممَّن احتَجَّ بهِ الشَّيْخَانِ يَعقوبُ بنُ إبراهيمَ بنِ كثيرٍ الدَّوْرَقِيُّ الحافظُ الْمُتْقِنُ صاحبُ المُسْنَدِ، فقدْ روَى النَّسائيُّ في سُنَنِهِ عنهُ حديثَ يحيى بنِ عَتِيقٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ عنْ أبي هُريرةَ رَفَعَهُ: ((لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ)) الحديثَ، وقالَ عَقِبَهُ: إنَّهُ لم يَكُنْ يُحَدِّثُ بهِ إلاَّ بدِينارٍ.
وممَّن أَخَذَ عنهُ البخاريُّ هِشامُ بنُ عَمَّارٍ، فقالَ ابنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ قُسْطَنْطِينَ يقولُ: حَضَرْتُ مَجْلِسَهُ، فقالَ لهُ الْمُسْتَمْلِي: مَنْ ذَكَرْتَ؟
فقالَ: حَدَّثَنا بعضُ مَشايِخِنا، ثمَّ نَعِسَ، فقالَ لهم الْمُسْتَمْلِي: لا تَنْتَفِعُِونَ بهِ، فجَمَعُوا لهُ شَيْئاً فأَعْطَوْهُ، فكانَ بعدَ ذلكَ يُمْلِي عليهم.
بلْ قالَ الإسماعيليُّ: عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سَيَّارٍ: إنَّ هِشَاماً كانَ يَأْخُذُ على كُلِّ وَرَقَتَيْنِ دِرْهَماً ويُشارِطُ، ولذلكَ قالَ ابنُ وَارَةَ: عَزَمْتُ زَماناً أنْ أُمْسِكَ عنْ حديثِ هشامٍ؛ لأنَّهُ كانَ يَبيعُ الحديثَ. وقالَ صالحُ بنُ مُحَمَّدٍ: إنَّهُ كانَ لا يُحَدِّثُ ما لم يَأخُذْ.
ومنهم عَلِيُّ بنُ عبدِ العزيزِ البَغَوِيُّ، نَزيلُ مَكَّةَ، وأَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ معَ عُلُوِّ الإسنادِ؛ فإنَّهُ كانَ يَطْلُبُ على التحديثِ. في آخَرِينَ سِوَى هؤلاءِ ممَّن أَخَذَهُ (تَرَخُّصاً)؛ أيْ: سُلوكاً للرُّخْصَةِ فيهِ للفَقْرِ والحاجةِ، فقدْ قَالَ عليُّ بنُ خَشْرَمٍ: سَمِعْتُ أبا نُعيمٍ الفضْلَ يقولُ: يَلُومُونَنِي على الأَخْذِ، وفي بَيْتِي ثلاثةَ عشرَ نَفْساً، وما فيهِ رَغِيفٌ.
ورَآهُ بِشْرُ بنُ عبدِ الواحدِ في الْمَنامِ بعدَ مَوتِهِ فَسألَهُ: ما فَعَلَ بكَ رَبُّكَ في ذلكَ؟ فقالَ: نَظَرَ القَاضِي في أَمْرِي فوَجَدَني ذا عِيالٍ فعَفَا عَنِّي.
وكذا كانَ البَغَوِيُّ يَعْتَذِرُ بأنَّهُ مُحتاجٌ، وإذا عاتَبُوهُ على الأَخْذِ حينَ يَقرأُ كُتُبَ أبي عُبيدٍ على الحَاجِّ إذا قَدِمَ عليهِ مَكَّةَ يقولُ: يا قَوْمِ، أَنَا بينَ الأَخْشَبَيْنِ، إذا خَرَجَ الحاجُّ نادَى أبو قُبَيْسٍ قُعَيْقِعَانَ: مَنْ بَقِيَ؟ فيقولُ: بَقِيَ الْمُجَاوِرونَ، فيقولُ: أَطْبِقْ.
لَكِنْ قدْ قَبَّحَهُ النَّسائيُّ ثَلاثاً، ولم يَرْوِ عنهُ شيئاً، لا لِكَذِبِهِ، بلْ لأنَّهُ اجتمَعَ قومٌ للقراءةِ عليهِ، فبَرُّوهُ بما سَهُلَ عليهم، وفيهم غَرِيبٌ فقيرٌ، فأَعْفَوْهُ لذلكَ، فأَبَى إلاَّ أنْ يَدفعَ كما دَفَعُوا، أوْ يَخْرُجَ عنهم، فاعْتَذَرَ الغريبُ بأنَّهُ ليسَ مَعَهُ إلاَّ قَصْعَةٌ، فأَمَرَهُ بإحضارِها، فلَمَّا أَحْضَرَها حَدَّثَهم.
ونَحْوُهُ أنَّ أبا بكرٍ الأنصاريَّ المعروفَ بقاضي الْمَرِسْتَانِ شَمَّ مِنْ أبي الحسَنِ سعدِ الخيرِ الأنصاريِّ رائحةً طَيِّبَةً، فسَأَلَهُ عنها، فقالَ: هِيَ عُودٌ، فقالَ: ذا عُودٌ طَيِّبٌ، فحَمَلَ إليهِ نَزْراً قَليلاً، ودَفَعَهُ لجَارِيَةِ الشيخِ، فاستَحْيَتْ مِنْ إعلامِهِ بهِ لِقِلَّتِهِ.
وجاءَ سعْدُ الخيرِ على عَادَتِهِ، فاستَخْبَرَ مِن الشيخِ عنْ وُصولِ العُودِ، فقالَ لهُ: لا، وطلَبَ الجاريَةَ، فاعْتَذَرَتْ لِقِلَّتِهِ، وأحضَرَتْ ذلكَ، فأخَذَ الشيخُ بيدِهِ وقالَ لِسَعْدِ الخيرِ: أَهُوَ هَذَا؟ قالَ: نَعَمْ، فرَمَى بهِ إليهِ وقالَ: لا حاجةَ لنا فيهِ.
ثمَّ طَلَبَ منهُ سعْدُ الخيرِ أنْ يُسْمِعَ ولَدَهُ جُزءَ الأنصاريِّ، فَحَلَفَ أنْ لا يُسْمِعَهُ إيَّاهُ إلاَّ أنْ يَحْمِلَ إليهِ خَمسةَ أَمْنَاءِ عُودٍ، فامْتَنَعَ وأَلَحَّ على الشيخِ في تَكْفِيرِ يَمينِهِ، فما فعَلَ ولا حَمَلَ هوَ شَيْئاً، وماتَ الشيخُ ولم يَسْمَع ابنُهُ الجزءَ. ولكنَّهُ في الْمُتَأَخِّرِينَ أكثَرُ.
ومِنهم مَنْ كانَ يَمتنِعُ مِن الأخْذِ مِن الغُرباءِ خاصَّةً، فرَوَى السِّلَفِيُّ في مُعجَمِ السفَرِ لهُ مِنْ طريقِ سهْلِ بنِ بِشْرٍ الإِسْفَرَائِينِيِّ قالَ: اجْتَمَعْنَا بمِصْرَ طَبَقَةً مِنْ طَلَبةِ الحديثِ، فقَصَدْنا عليَّ بنَ مِنْبَرٍ الْخَلاَّلَ، فلَمْ يَأْذَنْ لنا في الدخولِ، فجَعَلَ عبدُ العزيزِ بنُ عليٍّ النَّخْشَبِيُّ فَاهُ على كُوَّةِ بابِهِ، ورفَعَ صَوتَهُ بقولِهِ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ))، قالَ: فَفَتَحَ البابَ ودَخَلْنَا، فقالَ: لا أُحَدِّثُ اليومَ إِلاَّ مِنْ وَزْنِ الذهَبِ، فأَخَذَ مِنْ كُلِّ مَنْ حَضَرَ مِن الْمِصْرِيِّينَ، ولم يَأْخُذْ مِن الغُرباءِ شيئاً، وكانَ فَقيراً لم يَكُنْ لهُ مِن الدُّنْيَا شيءٌ، وهوَ مِن الثِّقاتِ.
ومِنهم مَنْ لم يَكُنْ يَشْرِطُ شيئاً ولا يَذْكُرُهُ، غيرَ أنَّهُ لا يَمتنِعُ مِنْ قَبولِ ما يُعْطَى بعدَ ذلكَ أوْ قَبْلَهُ.
ومِنهم مَنْ كانَ يَقتصِرُ في الأخْذِ على الأغنياءِ.
ومِنهم مَنْ كانَ يَمتنِعُ في الحديثِ ونَحْوِهِ.
قالَ أبو أحمدَ بنُ سُكَيْنَةَ: قُلْتُ للحافظِ ابنِ ناصِرٍ: أُريدُ أنْ أَقرأَ عليكَ شرْحَ دِيوانِ الْمُتَنَبِّي لأبي زَكَرِيَّا، وكانَ يَرْوِيهِ عنهُ، فقالَ: إنَّكَ دائماً تَقرأُ عَلَيَّ الحديثَ مَجَّاناً، وهذا شِعْرٌ، ونَحْنُ نَحتاجُ إلى دَفْعٍ شيءٍ مِن الأجْرِ عليهِ؛ لأنَّهُ ليسَ مِن الأمورِ الدِّينيَّةِ.
قالَ: فذَكَرْتُ ذلكَ لوالِدِي، فدَفَعَ إِلَيَّ كَاغِذاً فيهِ خَمسةُ دَنانيرَ، فأعْطَيْتُهُ إيَّاهُ، وقَرَأْتُ عليهِ الكتابَ. انتهى. وكانَ معَ ذلكَ فَقيراً.
ونَحْوُهُ أنَّ أبا نَصْرٍ محمَّدَ بنَ مَوهوبٍ البَغداديَّ الضريرَ الفَرَضِيَّ كانَ يَأخذُ الأُجْرَةَ ممَّنْ يُعَلِّمُهُ الجبْرَ والمقابَلَةَ دُونَ الفرائضِ والحسابِ، ويقولُ: الفَرَائِضُ مُهِمَّةٌ، وهذا مِن الفَضْلِ. حَكَاهُمَا ابنُ النَّجَّارِ.
ومِنهم مَنْ كانَ لا يَأخذُ شيئاً، ولكنْ يقولُ: إنَّ لنا جِيراناً مُحْتَاجِينَ، فتَصَدَّقُوا عَلَيْهِم، وإلاَّ لم أُحَدِّثْكم، قالَهُ زيدُ بنُ الْحُبَابِ عنْ شَيخِهِ: إنَّهُ كانَ يَفْعَلُهُ.
ثمَّ إنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كوْنِ الأخْذِ خَارِماً، هوَ حَيْثُ لم يَقْتَرِنْ بعُذْرٍ مِنْ فَقْرٍ مُرَخِّصٍ، أوْ تَعطيلٍ عنْ كَسْبٍ، (فَإِنْ) كانَ ذا كَسْبٍ، ولَكِنْ (نَبَذْ) بنُونٍ ثمَّ مُوَحَّدَةٍ وذالٍ مُعجَمَةٍ؛ أيْ: أَلْقَى، (شُغْلاً بِهِ)؛ أيْ: لاشتغالِهِ بالتحديثِ، (الكسْبَ) لعِيالِهِ، (أَجِزْ) أيُّها الطالِبُ لهُ الأَخْذَ (إِرْفَاقَا)؛ أيْ: لأجْلِ الإرفاقِ بهِ في مَعيشتِهِ عِوَضاً عمَّا فاتَهُ مِن الكَسْبِ مِنْ غيرِ زِيادةٍ، فقدْ (أَفْتَى بِهِ)؛ أيْ: بجَوازِ الأخْذِ، (الشيخُ) الوَلِيُّ (أبو إِسْحَاقَا) الشِّيرازيُّ أحَدُ أئِمَّةِ الشافعيَّةِ، حِينَ سألَهُ مُسْنِدُ العراقِ في وَقتِهِ أبو الحسينِ بنُ النَّقُورِ؛ لِكَوْنِ أصحابِ الحديثِ كَانُوا يَمنعونَهُ عن الكَسْبِ لعِيالِهِ، فكانَ يَأخُذُ كِفايتَهُ، وعلى نُسخةِ طَالُوتَ بنِ عَبَّادٍ أبي عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيِّ بخصوصِها دِيناراً.
واتَّفَقَ أنَّهُ جاءَ غَريبٌ فَقيرٌ فأرادَ أنْ يَسْمَعَها منهُ، فاحتالَ بأن اقْتَصَرَ على كُنْيَةِ طالوتَ؛ لكونِهِ لم يَكُنْ يَعْرِفُهُ بها، وذلكَ أنَّهُ قالَ لهُ: أَخْبَرَكَ أبو القاسمِ بنُ حُبابةَ قالَ: حَدَّثَنا البَغَوِيُّ، حَدَّثَنا أبو عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيُّ؟ وَسَاقَ النسخةَ إلى آخِرِها، فبَلَغَ مَقصودَهُ بدُونِ دِينارٍ.
وسَبَقَ إلى الإِفْتَاءِ بالجَوَازِ ابنُ عبدِ الحكَمِ، فقالَ خالدُ بنُ سعدٍ الأَنْدَلُسِيُّ: سَمِعْتُ محمَّدَ بنَ فُطَيْسٍ وغيرَهُ يقولونَ: جَمَعْنَا لابنِ أَخِي ابنِ وَهْبٍ، يعني أحمدَ بنَ عبدِ الرحمنِ، دَنانيرَ، وأَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُ، وقَرَأْنَا عليهِ مُوَطَّأَ عَمِّهِ وجَامِعَهُ، قالَ مُحَمَّدُ: فصارَ في نَفْسِي مِنْ ذلكَ، فأَرَدْتُ أنْ أسألَ ابنَ عبدِ الحكَمِ، فقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، العَالِمُ يَأخذُ على قِراءةِ العلْمِ؟ فاستَشْعَرَ فيما ظَهَرَ لي أَنِّي إنَّما أَسألُهُ عنْ أَحمدَ، فقالَ لي: جَائِزٌ، عَافَاكَ اللَّهُ، حَلالٌ أنْ لا أَقْرَأَ لكَ وَرَقَةً إلاَّ بدِرْهَمٍ، ومَنْ أخَذَنِي أنْ أقْعُدَ
معكَ طُولَ النهارِ، وأَدَعَ ما يَلْزَمُنِي مِنْ أسبابِي ونَفَقَةِ عِيالِي.
إذَا عُلِمَ هذا فالدَّلِيلُ لِمُطْلَقِ الْجَوازِ كما تَقَدَّمَ القِياسُ على القرآنِ؛ فقدْ جَوَّزَ أخْذَ الأُجرةِ على تَعليمِهِ الْجُمهورُ؛ لقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: ((أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كِتَابُ اللَّهِ)).
والأحاديثُ الواردةُ في الوَعيدِ على ذلكَ لا تَنهَضُ بالْمُعارَضَةِ؛ إذْ ليسَ فيها ما تَقُومُ بهِ الْحُجَّةُ، خُصوصاً وليسَ فيها تصريحٌ بالْمَنْعِ على الإطلاقِ، بلْ هيَ وَقائعُ أحوالٍ مُحتَمِلَةٌ للتأويلِ لِتُوَافِقَ الصحيحَ، وقدْ حَمَلَها بعضُ العُلماءِ على الأَخْذِ فيما تَعَيَّنَ عليهِ تَعْلِيمُهُ، لا سِيَّما عندَ عدَمِ الحاجةِ.
وكذا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ في تَفسيرِ أبي العاليَةِ لقولِهِ تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}؛ أيْ: لا تَأْخُذُوا عليهِ أَجْراً، وهوَ مَكتوبٌ عندَهم في الكتابِ الأوَّلِ: يا ابنَ آدَمَ، عَلِّمْ مَجَّاناً كما عُلِّمْتَ مَجَّاناً.
وليسَ في قولِ عازِبٍ لأبي بكرٍ، حين سأَلَهُ أنْ يَأْمُرَ ابنَهُ البَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ بِحَمْلِ ما اشْتَرَاهُ منهُ مَعَهُ: لا حَتَّى يُحَدِّثَنا بِكَذَا، مُتَمَسَّكٌ للجَوازِ؛ لتَوَقُّفِهِ كما قالَ شَيْخُنا على أنَّ عَازِباً لو استَمَرَّ على الامتناعِ مِنْ إِرْسَالِ ابنِهِ لاسْتَمَرَّ أبو بكرٍ على الامتناعِ مِن التحديثِ، يَعْنِي: فإنَّهُ حينئذٍ لوْ لم يَجُزْ لَمَا امْتَنَعَ أبو بكرٍ، ولا أَقَرَّ عازِباً عليهِ، ولكنْ ليسَ هذا بلازِمٍ؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ امتناعُهُ تَأديباً وزَجْراً، وتقريرُهُ عازِباً فَلِكَوْنِهِ فَهِمَ عنهُ قَصْدَ الْمُبَادَرَةِ لإسماعِ ابْنِهِ، وكونِهِ حاضراً معَهُ خوفاً مِن الفَوَاتِ، لا خُصُوصَ هذا الْمَحْكِيِّ. وعلى هذا، فما بَقِيَ فيهما مُتَمَسَّكٌ.
وعلى كُلِّ حالٍ، فقدْ سَبَقَ للمَنْعِ مِن الاستدلالِ بهِ الْخَطَّابِيُّ وابنُ الْجَوْزِيِّ، وقالَ: ومِن الْمُهِمِّ هنا أنْ نَقولَ: قدْ عُلِمَ أنَّ حِرْصَ الطَّلَبَةِ للعلْمِ قدْ فَتَرَ، لا بَلْ قدْ بَطَلَ، فيَنْبَغِي للعُلماءِ أنْ يُحَبِّبُوا لهم العلْمَ، وإلاَّ فإذا رأَى طالِبُ الأثرِ أنَّ الإسنادَ يُباعُ، والغالبَ على الطَّلَبَةِ الفقْرُ، تَرَكَ الطلَبَ، فكانَ هذا سبباً لمَوْتِ السُّنَّةِ، ويَدخُلُ هؤلاءِ في معنى الذينَ يَصُدُّونَ عنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وقدْ رَأَيْنَا مَنْ كَانَ على مَأْثُورِ السَّلَفِ في نَشْرِ السُّنَّةِ بُورِكَ لهُ في حَيَاتِهِ وبعدَ مَمَاتِهِ، وأمَّا مَنْ كانَ على السِّيرَةِ التي ذَمَمْنَاهَا لم يُبَارَكْ لهُ على غَزَارَةِ علْمِهِ. انتهى.
وقدْ حَكَى ابنُ الأَنْمَاطِيِّ الحافظُ قالَ: رَغَّبْتُ أَبَا عليٍّ حَنْبَلَ بنَ عبدِ اللَّهِ البَغداديَّ الرَّصَافِيَّ رَاوِيَ مُسْنَدِ أحمدَ في السفَرِ إلى الشَّامِ، وكانَ فَقِيراً جِدًّا، فقُلْتُ لهُ: يَحْصُلُ لكَ مِن الدُّنيا طَرَفٌ صالحٌ، ويُقْبِلُ عليكَ وُجوهُ الناسِ ورُؤساؤُهم، فقالَ: دَعْنِي، فواللَّهِ ما أُسافِرُ لأَجْلِهم، ولا لِمَا يَحصُلُ منهم، وإنَّما أُسافِرُ خِدمةً لحديثِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، أَرْوِي أحاديثَهُ في بلَدٍ لا تُرْوَى فيهِ.
قالَ: ولَمَّا عَلِمَ اللَّهُ منهُ هذهِ النِّيَّةَ الصالحةَ أَقبَلَ بِوُجُوهِ الناسِ إليهِ، وحَرَّكَ الْهِمَمَ للسَّماعِ عليهِ، فاجتمَعَ إليهِ جماعةٌ لا نَعلَمُها، اجتَمَعَتْ في مَجْلِسِ سَماعٍ قَبلَ هذا بدِمَشْقَ، بلْ لم يَجْتَمِعْ مِثْلُها قَطُّ لأحَدٍ ممَّنْ روَى المُسْنَدَ، نَسألُ اللَّهَ الإخلاصَ قَوْلاً وفِعْلاً.
ورُدَّ ذُو تَسَاهُلٍ في الْحَمْلِ كالنَّوْمِ والأَدَا كَلا مِنْ أَصْلِ
أو قَبِلَ التلقينَ أو قدْ وُصِفَا بالْمُنْكَراتِ كَثْرَةً أو عُرِفَا
بِكثرةِ السَّهْوِ وما حَدَّثَ مِن أصْلٍ صحيحٍ فَهْوَ رَدٌّ ثمَّ إِنْ
بُيِّنْ له غَلَطُهُ فما رَجَعْ سَقَطَ عندَهمْ حديثُهُ جُمَعْ
كذا الْحُمَيْدِيُّ معَ ابنِ حَنْبَلِ وابنِ المُبارَكِ رَأَوْا في العَمَلِ
قَالَ: وفيهِ نَظَرٌ، نَعَمْ إذَا كانَ عِناداً منْهُ ما يُنْكَرُ ذَا
الثانيَ عشَرَ: في التَّسَاهُلِ وغيرِهِ ممَّا يَخْرِمُ الضبْطَ.
(وَرُدَّ) عندَ أهْلِ الحديثِ (ذُو تَساهُلٍ في الحَمْلِ)؛ أي: التَّحَمُّلِ للحديثِ وسَمَاعِهِ، (كَـ) المُتَحَمِّلِ حالَ (النَّوْمِ) الكثيرِ الواقعِ منهُ أوْ مِنْ شَيْخِهِ، معَ عدَمِ مُبالاتِهِ بذلكَ، فلم يَقْبَلُوا رِوايتَهُ.
وما وَقَعَ لهم مِنْ قَبولِ الإمامِ الثِّقةِ الْحُجَّةِ عبدِ اللَّهِ بنِ وَهْبٍ معَ وصْفِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ وغيرِهِ لهُ بأنَّهُ كانَ رَدِيءَ الأخْذِ، وقَوْلِ عُثمانَ بنِ أبي شَيبةَ: إنَّهُ رَآهُ وأَُخوهُ أبو بكرٍ وغيرُهما مِن الْحُفَّاظِ وهوَ نائمٌ في حالِ كونِهِ يُقْرَأُ لهُ على ابنِ عُيَيْنَةَ، وإنَّ عُثمانَ قالَ للقَارِئِ: أَنْتَ تَقرأُ وصاحِبُكَ نائمٌ، فضَحِكَ ابنُ عُيَيْنَةَ. قالَ عُثمانُ: فتَرَكْنَا ابنَ وهْبٍ إلى يَوْمِنا هذا، فَقِيلَ لهُ: ولِهَذَا تَرَكْتُمُوهُ؟ قالَ: نَعَمْ، أَتُرِيدُ أكثرَ مِنْ ذَا؟ رَوَاهُ الخطيبُ.
فَلِكَوْنِهِ في ذلكَ ماشياً على مَذْهَبِ أهْلِ بَلَدِهِ في تَجويزِ الإجازةِ، وأنْ يُقالَ فيها: حَدَّثَنِي، بلْ قالَ أحمدُ: إنَّهُ كانَ صحيحَ الحديثِ، يَفْصِلُ السَّماعَ مِن العَرْضِ، والحديثَ مِن الحديثِ، ما أَصَحَّ حَدِيثَهُ، فقِيلَ لهُ: أليسَ كانَ يُسِيءُ الأخْذَ؟ قالَ: قدْ كانَ، ولكِنَّكَ إذا نَظَرْتَ في حديثِهِ عنْ مَشايِخِهِ وَجَدْتَهُ صَحيحاً.
ثمَّ إنَّهُ لا يَضُرُّ في كلٍّ مِن التحَمُّلِ والأداءِ النُّعاسُ الْخَفيفُ الذي لا يَخْتَلُّ معَهُ فَهْمُ الكلامِ، لا سِيَّمَا مِن الفَطِنِ، فقَدْ كانَ الحافِظُ الْمِزِّيُّ رُبَّمَا يَنْعَسُ في حالِ إسماعِهِ، ويَغْلَطُ القَارِئُ أوْ يَزِلُّ فيُبادِرُ للرَّدِّ عليهِ، وكذا شَاهَدْتُ شَيْخَنا غيرَ مَرَّةٍ، بلْ بَلَغَني عنْ بعضِ العُلماءِ الراسخينَ في العَربيَّةِ أنَّهُ كانَ يُقْرِئُ شَرْحَ أَلْفِيَّةِ النحْوِ لابنِ الْمُصَنِّفِ وهوَ ناعِسٌ.
وما يُوجَدُ في الطِّبَاقِ مِن التنبيهِ على نُعَاسِ السامِعِ أو الْمُسْمِعِ لعَلَّهُ فِيمَنْ جُهِلَ حالُهُ، أوْ عُلِمَ بعَدَمِ الفَهْمِ.
وأمَّا امتناعُ التَّقِيِّ ابنِ دَقيقِ العِيدِ مِن التحديثِ عن ابنِ الْمُقَيَّرِ معَ صِحَّةِ سَمَاعِهِ منهُ؛ لِكَوْنِهِ شَكَّ هلْ نَعِسَ حالَ السماعِ أمْ لا، فلِوَرَعِهِ؛ فقَدْ كانَ مِن الوَرَعِ بِمَكانٍ.
ونحْوُهُ أنَّهُ قِيلَ لعَلِيِّ بنِ الحسنِ بنِ شَقيقٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَسَمِعْتَ الكتابَ الفُلانيَّ؟ فقالَ: نَعَمْ، ولكِنْ نَهَقَ حِمارٌ يَوماً فاشْتَبَهَ عَلَيَّ حديثٌ، ولم أَعْرِفْ تَعيينَهُ، فتَرَكْتُ الكتابَ كُلَّهُ. (وَ) كذلكَ رُدَّ عندَهم ذُو تَساهُلٍ في حالةِ (الأداءِ)؛ أي: التحديثِ، (كَـ) المُؤَدِّي (لا مِنْ أَصْلٍ) صحيحٍ معَ كونِهِ هوَ أو القارئِ أوْ بعضِ السامعينَ غيرَ حافظٍ، حَسْبَمَا يَأْتِي في بابِهِ.
ومِنْ ذلكَ مَنْ كانَ يُحَدِّثُ بعدَ ذَهابِ أُصولِهِ واختلالِ حِفْظِهِ، كفعْلِ ابنِ لَهيعةَ فيما حَكاهُ هِشامُ بنُ حَسَّانَ، فقالَ: جاءَ قَومٌ ومعهم جزءٌ فقالُوا: سَمِعْنَاهُ مِن ابنِ لَهيعةَ، فنَظَرْتُ فلم أجِدْ فيهِ حديثاً واحداً مِنْ حديثِهِ، فأَتَيْتُهُ وأَعْلَمْتُهُ بذلكَ، فقالَ: ما أَصْنَعُ؟ يَجِيؤُونِي بكتابٍ فيَقولونَ: هذا مِنْ حَديثِكَ، فأُحَدِّثُهم بهِ.
ونَحْوُهُ ما وَقَعَ لمحمَّدِ بنِ خَلاَّدٍ الإسْكَنْدَرَانِيِّ، جاءَهُ رجُلٌ بعدَ أنْ ذَهبَتْ كُتُبُهُ بنُسْخَةِ ضِمامِ بنِ إسماعيلَ ويعقوبَ بنِ عبدِ الرحمنِ، فقالَ لهُ: أَلَيْسَ هُمَا سَمَاعَكَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فحَدِّثْنِي بِهِمَا، قالَ: قدْ ذَهَبَتْ كُتُبِي، ولا أُحَدِّثُ مِنْ غيرِ أصْلٍ، فما زالَ حتَّى خَدَعَهُ، ولِذَا مَنْ سَمِعَ منهُ قَدِيماً قَبْلَ ذَهابِ كُتُبِهِ كانَ صحيحَ الحديثِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلا.
وممَّنْ وُصِفَ بالتساهُلِ فيهِما قُرَّةُ بنُ عبدِ الرحمنِ، قالَ يحيى بنُ مَعينٍ: إنَّهُ كانَ يَتساهَلُ في السماعِ وفي الحديثِ، وليسَ بكَذَّابٍ.
والظاهرُ أنَّ الرَّدَّ بذلكَ ليسَ على إطلاقِهِ، وإلاَّ فقَدْ عُرِفَ جماعةٌ مِن الأئمَّةِ الْمَقبولينَ بهِ، فإمَّا أنْ يكونَ لَمَّا انْضَمَّ إليهم مِن الثِّقَةِ وعَدَمِ الْمَجيءِ بما يُنْكَرُ، وكلامُ أحْمَدَ الماضي قَريباً يَشْهَدُ لهُ، أوْ لكونِ التساهُلِ يَختلفُ، فمِنهُ ما يَقدَحُ، ومنهُ ما لا يَقدَحُ.
وكذا مَن اخْتَلَّ ضَبْطُهُ بحيثُ أَكْثَرَ مِن القلْبِ أو الإِدْرَاجِ، أوْ رفَعَ المَوْقُوفَ، أوْ وَصَلَ المُرْسَلَ، (أوْ قَبِلَ التَّلْقِينَ) الباطلَ ممَّنْ يُلَقِّنُهُ إيَّاهُ في الحديثِ إسناداً أوْ مَتْناً، وبادَرَ إلى التحديثِ بذلكَ ولوْ مَرَّةً؛ لدَلالتِهِ على مُجازَفَتِهِ وعَدَمِ تَثَبُّتِهِ وسُقوطِ الْوُثوقِ بالْمُتَّصِفِ بهِ، لا سِيَّمَا وقدْ كانَ غيرُ واحدٍ يَفعلُهُ اختباراً وتَجرِبَةً لِحِفْظِ الراوي وضَبْطِهِ وحِذْقِهِ.
قالَ حَمَّادُ بنُ زَيدٍ فيما رَوَاهُ أبو يَعْلَى في مُسنَدِهِ: لَقَّنْتُ سَلَمَةَ بنَ عَلقَمَةَ حَدِيثاً، فحَدَّثَنِي بهِ، ثمَّ رَجَعَ فيهِ وقالَ: إذا أَرَدْتَ أنْ تُكَذِّبَ صَاحِبَكَ؛ أيْ: تَعْرِفَ كَذِبَهُ، فَلَقِّنْهُ.
وكذَا قالَ قَتَادَةُ: إذا أَرَدْتَ أنْ تُكَذِّبَ صاحِبَكَ فَلَقِّنْهُ.
ومِنهم مَنْ يَفْعَلُهُ لِيَرْوِيَهُ بعدَ ذلكَ عَمَّنْ لَقَّنَهُ، وهَذَا مِنْ أَعْظَمِ القَدْحِ في فاعلِهِ. قالَ عَبدانُ الأَهوازيُّ: كانَ البَغداديُّونَ، كعبدِ الوَهَّابِ بنِ عَطاءٍ، يُلَقِّنُونَ الْمَشايِخَ، وكُنْتُ أَمْنَعُهم.
وكذا قالَ أبو داوُدَ: كانَ فَضْلُكَ يَدُورُ على أحاديثِ أبي مِسْهَرٍ وغيرِهِ، يُلَقِّنُهَا هِشامَ بنَ عَمَّارٍ، يَعْنِي: بعدَ ما كَبِرَ، بحيثُ كانَ كُلَّمَا دُفِعَ إليهِ قَرَأَهُ، وكُلَّمَا لُقِّنَ تَلَقَّنَ، ويُحَدِّثُهُ بِهَا.
قالَ: وكُنْتُ أَخْشَى أنْ يَفْتِقَ في الإسلامِ فَتْقاً، ولكنْ قدْ قالَ عبدُ اللَّهِ بنُ محمَّدِ بنِ سَيَّارٍ: لَمَّا لُمْتُهُ على قَبولِ التَّلقينِ، قالَ: أَنَا أَعْرِفُ حَدِيثِي، ثُمَّ قَالَ لي بعدَ ساعَةٍ: إنْ كُنْتَ تَشْتَهِي أَنْ تَعْلَمَ فَأَدْخِلْ إنساناً في شَيْءٍ. فتَفَقَّدْتُ الأسانيدَ التي فيها قَليلُ اضطرابٍ، فسَأَلْتُهُ عنها، فكانَ يَمُرُّ فيها، وكانَ أيضاً يقولُ: قالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}.
ومِن الأوَّلِ ما وَقَعَ لِحَفْصِ بنِ غِيَاثٍ، فإنَّهُ لَقِيَ هوَ ويحيى القَطَّانُ وغيرُهما مُوسَى بنَ دِينارٍ الْمَكِّيَّ، فجَعَلَ حَفْصٌ يَضَعُ لهُ الحديثَ فيقولُ: حَدَّثَتْكَ عائشةُ بنتُ طَلْحَةَ عنْ عائشةَ بكَذَا وكَذَا، فيقولُ: حدَّثَتْنَي عائشةُ، ويَقُولُ لهُ: وَحَدَّثَكَ القاسمُ بنُ محمَّدٍ عنْ عائشةَ بِمِثْلِهِ، فيَقُولُ: حَدَّثَنِي القاسمُ بنُ محمَّدٍ عنْ عائشةَ بِمِثْلِهِ، أوْ يقولُ: حَدَّثَكَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ عن ابنِ عبَّاسٍ بِمِثْلِهِ، فيقولُ: حَدَّثَني سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ.
فلَمَّا فَرَغَ حَفْصٌ مَدَّ يَدَهُ لبعضِ مَنْ حَضَرَ ممَّنْ لم يَعْلَم الْمَقْصِدَ، ولَيْسَتْ لهُ نَباهَةٌ، فأَخَذَ ألواحَهُ التي كَتَبَ فيها ومَحَاهَا، وبَيَّنَ لهُ كَذِبَ مُوسَى.
ومِن الثَّانِي مَنْ عَمِدَ مِنْ أصحابِ الرأيِ إلى مَسائلَ عنْ أبي حَنيفةَ، فجَعَلُوا لها أَسانيدَ عنْ يَزيدَ بنِ أبي زِيادٍ عنْ مُجاهِدٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ، ووَضَعُوها في كُتُبِ خَارِجَةَ بنِ مُصعَبٍ، فصارَ يُحَدِّثُ بِهَا في جماعةٍ ممَّنْ كانَ يَقْبَلُ التَّلقينَ. أَفْرَدُوا بالتأليفِ (أوْ قدْ وُصِفَا) مِن الأئمَّةِ (بـ) روايَةِ (المُنْكَرَاتِ) أو الشَّوَاذِّ، (كَثْرَةً)؛ أيْ: حالَ كونِها ذاتَ كثرةٍ.
(أو عُرِفَا بكَثْرَةِ السَّهْوِ) والغَلَطِ في رِوايتِهِ، كما نَصَّ عليهِ الشافِعِيُّ في الرسالةِ، حالَ كونِهِ حَدَّثَ مِنْ حفْظِهِ، (وَمَا حَدَّثَ مِنْ أَصْلٍ صحيحٍ فَهْوَ)؛ أي: الْمُتَّصِفُ بشيءٍ ممَّا ذُكِرَ، (رَدٌّ)؛ أيْ: مَردودٌ عندَهم؛ لأنَّ الاتِّصَافَ بذلكَ كما قالَ ابنُ الصَّلاحِ يَخْرِمُ الثِّقَةَ بالراوي وضَبْطِهِ. قالَ شُعبةُ: لا يَجِيئُكَ الحديثُ الشَّاذُّ إلاَّ مِن الرجُلِ الشَّاذِّ.
وقيلَ لهُ أَيضاً: مَن الذي نَتْرُكُ الروايَةَ عنهُ؟ قالَ: إذا أَكثَرَ مِن الرِّوَايَةِ عن المعروفِ بما لا يُعْرَفُ، وأَكثَرَ الغَلَطَ.
وقالَ القاضِي أبو بكرٍ البَاقِلاَّنِيُّ، فيما حَكاهُ الخطيبُ عنهُ: " مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السَّهْوِ والغلَطِ وقِلَّةِ الضبْطِ رُدَّ حَديثُهُ ".
قالَ: وكذا يُرَدُّ خَبَرُ مَنْ عُرِفَ بالتساهُلِ في الحديثِ النَّبَوِيِّ، دُونَ المُتساهِلِ في حديثِهِ عنْ نفْسِهِ وأمثالِهِ، وما لَيْسَ بِحُكْمٍ في الدِّينِ، يَعْنِي: لأَمْنِ الْخَلَلِ فيهِ، وتَبِعَهُ غيرُهُ مِن الأُصُولِيِّينَ فيهِ.
ويُخالِفُهُ قولُ ابنِ النَّفِيسِ: مَنْ تَشدَّدَ في الحديثِ وتَساهَلَ في غيرِهِ فالأصَحُّ أنَّ رِوايتَهُ تُرَدُّ، قالَ: لأنَّ الظاهِرَ أنَّهُ إنَّما تَشدَّدَ في الحديثِ لِغَرَضٍ، وإلاَّ لَلَزِمَ التَّشَدُّدُ مُطْلَقاً، وقدْ يَتَغَيَّرُ ذلكَ الغَرَضُ أوْ يَحْصُلُ بِدُونِ تَشَدُّدٍ، فيَكْذِبُ. انتهى.
إلاَّ أنْ يُحْمَلَ على التساهُلِ فيما هوَ حُكْمٌ في الدِّينِ، ولم يَنْفَرِد ابنُ النَّفِيسِ بهذا، بلْ سَبَقَهُ إليهِ الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ؛ لأنَّهُ قدْ يَجُرُّ إلى التَّسَاهُلِ في الحديثِ، ويَنبغِي أنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلافِ في تَسَاهُلٍ لا يُفْضِي إلى الخروجِ عن العَدالةِ، ولوْ فِيمَا يَكُونُ بهِ خَارِماً للمُروءةِ، فاعْلَمْهُ.
أمَّا مَنْ لم يَكْثُرْ شُذوذُهُ ولا مَناكيرُهُ، أوْ كَثُرَ ذلكَ معَ تَمييزِهِ لهُ وبيانِهِ، أوْ حَدَّثَ معَ اتِّصافِهِ بكثرةِ السَّهْوِ مِنْ أصْلٍ صحيحٍ، بحيثُ زالَ المحذورُ في تَحديثِهِ مِنْ حفْظِهِ فلا، وكذا إذا حَدَّثَ سَيِّئُ الحِفْظِ عنْ شَيْخٍ عُرِفَ فيهِ بِخُصوصِهِ بالضَّبْطِ والإتقانِ، كإِسماعيلَ بنِ عَيَّاشٍ؛ حيثُ قُبِلَ في الشَّامِيِّينَ خاصَّةً دُونَ غيرِهم.
على أنَّ بعضَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَوَقَّفَ في رَدِّ مَنْ كَثُرَت الْمَناكيرُ وشَبَهُها في حديثِهِ؛ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذلكَ في حديثِ كثيرٍ مِن الأئِمَّةِ، ولم تُرَدَّ رِوايتُهم.
ولكنَّ الظاهِرَ أنَّ المرادَ مَنْ كَثُرَ ذلكَ في رِواياتِهِ معَ ظُهورِ إِلْصَاقِ ذلكَ بهِ لِجَلالَةِ باقي رِجالِ السَّنَدِ.
(ثُمَّ إنْ بُيِّنْ لَهُ) بضَمِّ أوَّلِهِ ونُونٍ ساكنةٍ مُدْغَمَةٍ في اللامِ؛ أي: الرَّاوي الذي سَهَا أوْ غَلَطَ ولوْ مَرَّةً، (غَلَطُهُ فَمَا رَجَعْ) عنْ خَطأِهِ، بلْ أَصَرَّ عليهِ، (سَقَطَ عندَهم)؛ أي: الْمُحَدِّثينَ، (حديثُهُ)، بلْ مَرْوِيُّهُ، (جُمَعْ) بضَمِّ الجيمِ وَزْنَ مُضَرَ. وممَّن صَرَّحَ بذلكَ شُعبةُ وغيرُهُ كما سيأتي آخِرَ الْمَقالَةِ.
و(كذَا) عَبْدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَيْرِ (الْحُمَيْدِيُّ معَ ابْنِ حَنبلِ) الإمامِ أحمدَ (وابنِ المُبارَكِ) عبدِ اللَّهِ وغَيْرِهم، (رَأَوْا) إسقاطَ حديثِ الْمُتَّصِفِ بهذا (في العمَلِ) احتجاجاً وروايَةً، حتَّى تَرَكُوا الكِتابةَ عنهُ، (قالَ) ابنُ الصلاحِ: (وَفيهِ نَظَرٌ)، وكأنَّهُ لكونِهِ قدْ لا يَثْبُتُ عندَهُ ما قيلَ لهُ، إمَّا لعَدَمِ اعتقادِهِ عِلْمَ الْمُبَيَّنِ لهُ، وعَدْمَ أهْلِيَّتِهِ، أوْ لِغَيْرِ ذلكَ، قالَ: (نَعَمْ، إذا كَانَ) عَدَمُ رُجوعِهِ (عِنَاداً) مَحْضاً (منْهُ)، لا حُجَّةَ لهُ فيهِ، ولا مَطْعَنَ عندَهُ يُبْدِيهِ، فَـ(ما يُنْكَرُ ذَا)؛ أي: القولُ بِسُقوطِ رِواياتِهِ وعَدَمِ الكِتابةِ عنهُ.
ويُرْشِدُ لذلكَ قولُ شُعبةَ حينَ سألَهُ ابنُ مَهْدِيٍّ: مَن الَّذِي تَتْرُكُ الروايَةَ عنهُ؟ ما نَصُّهُ: إذا تَمَادَى في غَلَطٍ مُجْتَمَعٍ عليهِ، ولم يَتَّهِمْ نفْسَهُ عندَ اجتماعِهم، أوْ رَجُلٌ يُتَّهَمُ بالكَذِبِ.
ونَحْوُهُ قَوْلُ ابنِ حِبَّانَ: " مَنْ يُبَيَّنُ لهُ خَطأُهُ، وعَلِمَ فلم يَرجِعْ وتَمَادَى في ذلكَ، كانَ كَذَّاباً بعِلْمٍ صحيحٍ ".
قالَ التَّاجُ التِّبريزيُّ: لأنَّ المُعَانِدَ كالْمُسْتَخِفِّ بالحديثِ بتَرويجِ قولِهِ بالباطِلِ، وأمَّا إذا كانَ عنْ جَهْلٍ فأَوْلَى بالسُّقُوطِ؛ لأنَّهُ ضَمَّ إلى جَهْلِهِ إنكارَهُ الحقَّ.
وكانَ هذا فِيمَنْ يَكُونُ في نفْسِهِ جاهلاً معَ اعتقادِهِ عِلْمَ مَنْ أَخْبَرَهُ.
وأَعْرَضُوا في هذهِ الدُّهورِ عن اجتماعِ هذهِ الأمورِ
لعُسْرِها بلْ يُكْتَفَى بالعاقِلِ المسلِمِ البالِغِ غيرِ الفاعِلِ
للفِسْقِ ظَاهِراً وفي الضَّبْطِ بأَنْ يَثْبُتَ ما رَوَى بِخَطِّ مُؤْتَمَنْ
وأنَّهُ يَرْوِي مِنَ اصْلٍ وَافَقَا لأَصْلِ شَيخِهِ كما قَدْ سَبَقَا
لِنَحْوِ ذاكَ البَيهقيُّ فَلَقَدْ آلَ السَّمَاعُ لِتَسَلْسُلِ السَّنَدْ
الثالثَ عشَرَ: في عدَمِ مُراعاةِ ما تَقَدَّمَ في الأزمانِ الْمُتأَخِّرَةِ.
(وأَعْرَضُوا)؛ أي: الْمُحَدِّثُونَ فَضْلاً عنْ غيرِهم، (في هذهِ الدُّهورِ) المتأخِّرَةِ (عن) اعتبارِ (اجتماعِ هذهِ الأمورِ) التي شَرَحْتُ فيما مَضَى في الراوي وضَبْطِهِ، فلم يَتَقَيَّدُوا بها في عمَلِهم؛ (لعُسْرِها) أوْ تَعَذُّرِ الوَفاءِ بها، (بَل) استَقَرَّ الحالُ بينَهم على اعتبارِ بعضِها، وأنَّهُ (يُكْتَفَى) في الروايَةِ (بالعاقِلِ المسلِمِ البالِغِ غيرِ الفاعلِ للفِسْقِ) وما يَخْرِمُ الْمُروءةَ (ظاهِراً)، بحيثُ يكونُ مَستورَ الحالِ.
(وَ) يُكتفَى (في الضَّبْطِ بأنْ يَثْبُتَ ما رَوَى بِخَطِّ) ثِقَةٍ (مُؤْتَمَنٍ)، سواءٌ الشيخُ أو القارئُ أوْ بعضُ السامعينَ كَتَبَ على الأصلِ أوْ في ثَبْتٍ بِيَدِهِ، إذا كانَ الكَاتِبُ مِنْ أَهْلِ الْخِبرةِ بهذهِ الشأنِ، بحيثُ لا يكونُ الاعتمادُ في روايَةِ هذا الراوي عليهِ، بلْ على الثِّقةِ الْمُفيدِ لذلكَ، (وأنَّهُ يَرْوِي) حينَ يُحَدِّثُ (مِنَ اصْلٍ) بنَقْلِ الهمزةِ (وَافَقَا لأَصْلِ شَيخِهِ كما قدْ سَبَقَا لنَحْوِ ذلِكَ) الحافظُ الكبيرُ (البَيْهَقِيُّ)؛ فإنَّهُ لَمَّا ذكَرَ تَوَسُّعَ مَنْ تَوَسَّعَ في السَّمَاعِ مِنْ بعضِ مُحَدِّثِي زمانِهِ الذينَ لا يَحْفَظُونَ حديثَهم، ولا يُحْسِنُونَ قِراءتَهُ مِنْ كُتُبِهم، ولا يَعْرِفُونَ ما يُقْرَأُ علَيْهِم، بعدَ أنْ تَكُونَ القراءةُ عليهم مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهم، وذلكَ لِتَدْوِينِ الأحاديثِ في الجوامِعِ التي جَمَعَها أئمَّةُ الحديثِ، قالَ: فمَنْ جاءَ اليومَ بحديثٍ واحدٍ لا يُوجَدُ عندَ جَميعِهم لم يُقبَلْ منهُ؛ أيْ: لأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَذهَبَ على جَميعِهم، ومَنْ جاءَ بحديثٍ معروفٍ عندَهم فالَّذِي يَرْوِيهِ لا يَنفرِدُ بروايتِهِ، والْحُجَّةُ قائمةٌ بروايَةِ غيرِهِ.
وحينئذٍ (فلَقَدْ آلَ السَّمَاعُ) الآنَ (لِتَسَلْسُلِ السَّنَدْ)؛ أيْ: بَقاءِ سِلْسِلَتِهِ بحَدَّثَنا وأَخْبَرَنا؛ لِتَبْقَى هذهِ الكرامةُ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأُمَّةُ شَرَفاً لِنَبِيِّها صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، يَعْنِي الذي لم يَقَع التبديلُ في الأُمَمِ الماضيَةِ إلاَّ بانقطاعِهِ.
قُلْتُ: والحاصلُ أنَّهُ لَمَّا كانَ الغرَضُ أوَّلاً مَعرِفةَ التعديلِ والتجريحِ، وتَفَاوُتِ الْمَقاماتِ في الحفْظِ والإتقانِ؛ لِيُتَوَصَّلَ بذلكَ إلى التصحيحِ والتحسينِ والتضعيفِ، حَصَلَ التَّشَدُّدُ بمجموعِ تلكَ الصفاتِ، ولَمَّا كانَ الغرَضُ آخِراً الاقتصارَ في التحصيلِ على مُجَرَّدِ وُجودِ السِّلسلةِ السَّنَدِيَّةِ اكْتَفَوْا بما تَرَى.
ولكنَّ ذاكَ بالنظَرِ إلى الغالِبِ في الْمَوْضِعَيْنِ، وإلاَّ فقَدْ يُوجَدُ في كلٍّ منهما مِنْ نَمَطِ الآخَرِ، وإنْ كانَ التَّسَاهُلُ إلى هذا الْحَدِّ في الْمُتَقَدِّمِينَ قليلاً.
وقدْ سَبَقَ البَيْهَقِيَّ إلى قولِهِ شَيْخُهُ الحاكِمُ، ونَحْوُهُ عن السِّلَفِيِّ، وهوَ الذي استَقَرَّ عليهِ العمَلُ، بلْ حَصَلَ التوَسُّعُ فيهِ أَيضاً إلى ما وَراءَ هذا، كقراءةِ غيرِ المَاهِرِ في غيرِ أصْلٍ مُقابَلٍ، بحيثُ كانَ ذلكَ وَسيلةً لإنكارِ غيرِ واحدٍ مِن الْمُحَدِّثِينَ، فَضْلاً عنْ غيرِهم عَلَيْهِم.

 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
معرفة, من

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:32 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir