رسالة تفسيرية في قوله تعالى "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)"التغابن
الحمد لله الذي قدر مقادير الخلائق ، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، وجعل الدنيا دار ابتلاء والآخرة دار جزاء ، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
ثم أما بعد:
من منا لم يصب بمصاب فضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه التي بين جنبيه وحدثته نفسه بالجزع والهلع فراح يتصبر حتى لا يفوته أجر وجزاء الصابرين
ففي الآية سلوى لكل محزون وتسلية لكل مصاب تتنزل بها السكينة على قلوب المكروبين وفيها من الهدايات والفوائد ما يعين عند المصائب:
*فإذا علم المؤمن أن كل ما يأتيه هو من الله ،قد سبق علم الله به وجرى به قلمه ونفذت به مشيئته سكنت نفسه وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فذهب عن نفسه الهلع الذي جبلت عليه نفسه
"إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)"الإنسان
*ثم إن هو استرجع فقال إنا لله وأنا إليه راجعون غفر الله له وأمنه من العذاب وأرشده للهدى قال تعالى:
"الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)"البقرة
-قال عمر رضي الله عنه:
نعم العدلين والعلاوة
-وقال سعيد بن جبير "لم يعط هذه الكلمات نبي قبل نبينا ولو عرفها يعقوب ما قال:
" يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ"
فقد جمعت هذه الكلمات من المعاني المباركة الكثير ففيها توحيد لله والإقرار له بالعبودية والبعث من القبور واليقين بأن رجوع الأمر كله إليه كما هو له
فسبحان من أنزل البلاء ثم علمنا الاسترجاع ليجزل لنا به العطاء مغفرة وأمنا من العذاب وهداية ورشدا.....سبحان من أنزل على نبينا هذه الكلمات دون سائر الأنبياء فنحن أمة مرحومة
*ثم إن هو جمع مع هذه الكلمات الدعاء بأن يأجره الله في مصيبته ويخلف له خيرا منها فقد فاز
ولا يخفى علينا حديث
أم سلمة أنه لما مات زوجها تعلمت هذه الكلمات من النبي فقالتها وكانت تتعجب في نفسها فتقول:
(ومن أين لي بخير من أبي سلمة؟) فما لبثت أن خطبها رسول الله لنفسه
فعلم يا يرعاك الله أنك إن سلمت لله واتبعت هدي النبي عند المصيبة فاسترجعت ودعوت، فقد فزت بالرضا والسكينة في القلب ويزيدك الله فوقها عوضا خيرا مما فقدت في الدنيا وقبل ذلك كله أجر وجزاء الصابرين في الآخرة
فأي فوز أكبر من هذا!!!!!
*واعلم أن المصيبة ما وقعت إلا بإذن الله وبحكمته ومن حكمته أن يتفقد عباده بالمصائب حفظاً للعبودية وتحقيقاً للافتقار إليه سبحانه
فمن حديث أبي هريرة عن النبي" مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ" رواه البخاري
وعن سعد بن أب وقاص عن النبي:" أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ... "الحديث رواه الترمذي
وليعلم العبد أنه لولا البلاء لغرق العبد في الكبر والعجب وقسوة القلب فكان سببا في هلكه عاجلا أو آجلا، فمن أحبه الله حماه كما يحمي أحدكم سقيمه بالماء
*والمؤمن لا يركن إلى الأسباب بل يتعلق برب الأسباب
"ومن يؤمن بالله" فينزع نفسه من التفاصيل ويلجأ إليه وحده هو القادر على أن يملأ قلبه يقينا وسكينة
"يهد قلبه"
*ومن أدب المؤمن في المصيبة ألا يشكو لغير الله قال يعقوب:" إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ" يوسف وإنما يهرع للصلاة والذكر قال تعالى
:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (153)البقرة
وفي السنة من حديث أنس الذي رواه البخاري أن النبي قال للمرأة التي رآها تبكي عند قبر النبي وقد جزعت
"إنما الصبر عند الصدمة الأولى"
فلا يتسخط المؤمن ولا يعترض على قضاء الله ولا يحزن وقد امرنا الله في كتابه في غير ما موضع بألا نستسلم للحزن فإنه إحدى مداخل الشيطان لقلب المؤمن
قال تعالى:
-" وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)" آل عمران
-" إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (40)" التوبة
-"فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ" (١٥٣ آل عمران)
*وختم الآية بقوله تعالى:
"والله بكل شيء عليم" لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلم لأمره، ولا كراهة من كرهه فيجازي كل بما علم من حاله وقد بين عز وجل في غير ما موضع ما أعد للصابرين وهذا مما يربط على قلب المؤمن فيثمر الرضا واحتساب الأجر
-قال تعالى:
"إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)"الزمر
-وفي الحديث من حديث أنس، قال: قال رسول الله ﷺ:
"يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط" رواه مسلم.
*واعلم رحمك الله أن مما يعين على الصبر على المصائب الزهد في الدنيا
-قال تعالى ".... قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) "النساء
-وقال :"أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) "العنكبوت
وأن يوطن نفسه أنها ليست دار جزاء ولا دار قرار وإنما هي دار ابتلاء وارتحال،
ومن ينشد السلامة في دار البلاء فليتهم عقله
ولست أرى للختام أجمل من أبيات ابن القيم:
فحي على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم
فالعدو سبانا إلى دار الدنيا فنجتهد في فكاك أسرنا ثم حث السير للوصول لدارنا الأولى دار السلام من جميع الآفات والأحزان وفيها الخلود
أسأل الله لي ولكم الخلود في دار السلام حيث نناجي فيها ربنا فنقول:
".. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)" فاطر
المراجع:
مستفاد بتصرف من :
-كتاب تسلية اهل المصائب: محمد بن محمد بن محمد، شمس الدين المنبجي (المتوفى: 785هـ)
-المكتبة الشاملة
-موقع جمهرة العلوم
-موقع الدرر السنية