رسالة تفسيرية مختصرة بأسلوب التقرير العلمي في قوله تعالى:
" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) "
سورة الإخلاص
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
يقول بن القيم عن سورة الإخلاص في بدائع الفوائد: فهو توحيد منه لنفسه ، وأمر للمخاطب بتوحيده ، " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"؛ فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد ، فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان.
وأخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ، فإن سأل سائل ، كيف تعدل ثلث القرآن وهي من صغار السور؟
نقول سور القرآن تتفاضل بعضها عن البعض وقال بن تيمية في رسالته ردا على هذا السؤال : وقد قالت طائفة من أهل العلم أن القرآن باعتبار معانيه ثلاثة أثلاث ، ثلث توحيد ، وثلث قصص ، وثلث أمر ونهي ، وقل هو الله أحد هي صفة الرحمن ونسبه ، وهي متضمنة ثلث القرآن.
سبب نزولها
ذكر في أسباب نزولها أن مشركي قريش أو اليهود سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن نسب الرب عز وجل، فأُنـزلت السورة جوابا لهم ، وعن أبي بن كعب, قال: قال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: انسُب لنا ربك, فأنـزل الله: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ )، و عن سعيد, قال: أتى رهط من اليهود النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق, فمن خلقه؟ فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى انتُقِع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه, فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه, وقال: اخفض عليك جناحك يا محمد, وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه. قال: " يقول الله: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) " فلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم, قالوا: صف لنا ربك كيف خلقه, وكيف عضده, وكيف ذراعه, فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ من غضبه الأول, وساورهم غضبا, فأتاه جبريل فقال له مثل مقالته, وأتاه بجواب ما سألوه عنه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ).
"قل" قل معتقدا جازما يامحمد ، وهنا الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته .
" هو الله أحد"
هو ضمير الشأن عند المُعربين والجملة بعده خبره مفسرة .
الله لفظ الجلالة خبر أول ، أحد خبر ثان.
أي هو الواحد الأحد ، الذي لا نظير له ولا ند له ولا شبيه ،وهذا اللفظ لا يطلق على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل ، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله .
" الله الصمد" ،
الصمد في اللغة صمد : صمده يصمده صمدا وصمد إليه كلاهما : قصده . وصمد صمد الأمر : قصد قصده واعتمده . وتصمد له بالعصا : قصد .
والصمد بالتحريك : السيد المطاع الذي لا يقضى دونه أمر ، وقيل : الذي يصمد إليه في الحوائج أي يقصد ؛ قال :
ألا بكر الناعي بخيري بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
والصمد : من صفاته تعالى وتقدس ؛ لأنه أصمدت إليه الأمور فلم يقض فيها غيره.
واختلف أهل التأويل في معنى الصمد:
- هو الذي ليس بأجوف, ولا يأكل ولا يشرب ، ذكر عن ابن عباس ومجاهد والحسن والضحاك وعكرمة.
- الذي لا يطعم الطعام ولا يشرب الشراب ، ذكر عن الشعبي وعامر.
- الذي لم يخرج منه شيء, ولم يلد, ولم يولد ، ذكره عكرمة.
- هو السيد الذي قد انتهى سؤدده، والعظيم الذي قد عظم في عظمته, والحليم الذي قد كمل في حلمه, والغني الذي قد كمل في غناه, والجبَّار الذي قد كمل في جبروته, والعالم الذي قد كمل في علمه, والحكيم الذي قد كمل في حكمته, وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد, وهو الله سبحانه هذه صفته, لا تنبغي إلا له ، ذكره بن عباس وهذا هو القول الأول عند العلماء .
- هو الباقي الذي لا يفنَى، الباقي بعد خلقه ذكره الحسن وقتادة.
- الدائم ، ذكره قتادة.
وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة له ، بعد إيراده كثيرا من هذه الأقوال في تفسير " الصمد " : وكل هذه صحيحة ، وهي صفات ربنا عز وجل ، وهو الذي يصمد إليه في الحوائج ، وهو الذي قد انتهى سؤدده ، وهو الصمد الذي لا جوف له ، ولا يأكل ولا يشرب ، وهو الباقي بعد خلقه . وقال البيهقي نحو ذلك.
"لم يلد ولم يولد"
لم يلد أي ليس له والد ، وليس بفان فكل ما يولد فهو فان .
ولم يولد أي ليس له صاحبة ولا ولد ، وليس بمحدث أي لم يكن فكان, لأن كل مولود فإنما وجد بعد أن لم يكن.
وهذا يدل على كمال صفاته وكمال غناه .
" ولم يكن له كفوا أحد"
ولغة الكُفُؤُ والكُفَى والكِفَاء في كلام العرب واحد, وهو المِثْل والشِّبْه; ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
لا تَقْــذِفَنِّي بِــرُكْن لا كِفَــاء لَـهُ وَلَــوْ تَــأَثَّفَكَ الأعْــدَاءُ بـالرِّفَدِ
يعني: لا كِفَاء له: لا مثل له.
هناك قراءتان لقوله تعالى " كفوا":
بضم الكاف والفاء قراءة أهل البصرة.
بتسكين الفاء وهمزها " كُفْئًا قراءة أهل الكوفة .
والقراءاتان صحيحتان.
أي لا مثيل له ولا شبيه له عز وجل لا في أسمائه ولا في صفاته، ولا في أفعاله، تبارك وتعالى، قال تعالى :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)" سورة الشورى، وهذه السورة تشتمل على توحيد الأسماء والصفات.
وفي قوله كفوا أحد للعلماء قولان:
- لم يكن له شبيه وليس كمثله شيء فسبحان الله الواحد القهار ، ذكره بن عباس وكعب وبن جريج.
- لم يكن له صاحبة، ذكره مجاهد .
وهذه الرسالة غيض من فيض.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك