دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15 ربيع الأول 1438هـ/14-12-2016م, 02:04 AM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي تطبيقات على درس الأسلوب الوعظي

تطبيقات على درس الأسلوب الوعظي
الدرس (هنا)


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 16 ربيع الأول 1438هـ/15-12-2016م, 12:14 PM
هناء محمد علي هناء محمد علي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 439
افتراضي

رسالة في قوله تعالى :
" وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " التوبة*


لله درهم !! كيف كان استقبالهم لتلك الآية ... ويكأني أنظر إلى كعب بن مالك وهو يسمع النداء : يا كعب بن مالك أبشر ، فيخر ساجدا ، ويكأني أراه وهو يقفز فرحا حتى طارت به ساقاه ... ويكسو ثوبيه من بشره ... ورسول الله يقول له : ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك )
وصحابة رسول الله يهنئون : ( لتهنك توبة الله يا كعب )

كأنه العيد بل ربما فاقه ... أن يعود كيوم ولدته أمه ... نقيا نظيفا من الخطايا والذنوب ... والبشارة من السماء ... ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ...) ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ...)
هم كعب بن مالك الشاعر ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ... الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك ( العسرة) بلا عذر شرعي ... وكانوا من أهل الإيمان فصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا أن لا عذر لهم ، ... فقال لهم صلى الله عليه وسلم ( أما هذا فقد صدق ، قم حتى يقضي الله فيك ) ...
وذلك على خلاف أهل النفاق الذين تعذروا فقبل رسول الله ظواهرهم ووكل سرائرهم إلى الله ...

وعلى الثلاثة الذين خلفوا : أي خلفهم الله فأرجأهم وأخر حكمه فيهم ، وقيل أرجأ توبته عليهم ، وكما قال كعب : ( وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو وإنما تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه ) ورد ذلك في حديث كعب المروي في صحيح البخاري ومسلم ...
وكان كما وصف الله تعالى ( حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ) ، وصورها كعب فقال : ( ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي والأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. ) متفق عليه
فكان حاله كقول القائل :
فما الناس بالناس الذين عهدتهم .... ولا الأرض بالأرض التي كنت أعرف

حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم : يا الله ، كم من الهم كان بهم وكم بلغ بهم أثر تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فالأرض برحابتها وسعتها ضاقت عليهم لشدة كربهم ... وأنفسهم على إيمانها ضاقت عليهم هما وغما ، وزال انشراحها ، إذ انشراح الصدر يكون بالسعادة وضيقه وانقباضه بالهم والغم والحزن ...
اعتزلهم الناس جميعا والأهل والأحباب ... وحتى الزوجات .. حتى إن كعبا من شدة ضيقه يسأل أبا قتادة : ( أنشدك الله أتعلم أني أحب الله ورسوله فيجيبه : الله ورسوله أعلم !!!) ... ما أعظمه من ابتلاء ... صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلموا أن لا نجاة لهم إلا بالصدق فكان لهم نجاة فيه ولكن بعد تمحيص ... فكل ذنب لا بد له من تطهير ... وأي ذنب كان أعظم من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
وكعب إذ يصف كيف كانت المدينة يوم تخلف عن رسول الله يذكر أنها كانت أوفر ما تكون ثمرا ... والظلال فيها وارفة ... لكن الحر شديد .... والنفس تمني وتشتهي الراحة ... لا عذر للتخلف عن رسول الله إلا جذب الأرض وشد الدنيا ... فكانت التربية أن تنكرت لهم الدنيا ... فضاقت عليهم برحابتها ...

🔸فيا أيها السائر في دنياك قف لحظة وتفكر ... كم مرة تخلفت فيها عن نداء الله ... وكم مرة تخلفت فيها عن أمره ... كم مرة رآك حيث نهاك ... وكم مرة غبت حيث أمرك ... وانظر... أي محبوب آثرته على ربك .. وأي نداء قدمته على ندائه ... أما سمعت قوله حين قال لك ( ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) أفق ويحك ! فما أنت في الدنيا إلا كظاعن أقال بظل شجرة ثم قام ... وما أنت فيها إلا غريب أو عابر سبيل وستمضي كما مضى من قبلك ... وليس الموت منك ببعيد ...
هم تخلفوا فخلفهم الله وتركهم خمسين ليلة قبل أن ينزل توبتهم ... وذلك بعدما أيسوا إلا منه وتيقنوا أن لا نجاة ولا ملجأ مما هم فيه من الضيق إلا هو ( وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ) ... فانطرحوا على عتباته وبكوا ودعوا ... فكان هلال بن أمية كما وصفته زوجه لا يجف له دمع ، وكعب كما وصف نفسه ....

ألا تخشى أن يكون خلفك وأنت لا تدري ...
أما تعلم أنه إن منعك لذة مناجاته فهذا حرمان ... وإن وجدت نفسك تتكاسل عن طاعته فهذا حرمان ، وإن عجزت عن الدعاء فهو الحرمان ... وإن سبقك الركب وأنت كما أنت فهذا حرمان ...

- ها هو الحسن البصري يسأله رجل :قد أعياني قيام الليل يا أبا سعيد فما أطيقه ، فقال للسائل تب واستغفر الله فإنها علامة سوء ...

- و يقول الفضيل : إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم قد كبلتك الخطايا والآثام ...

وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه : فحث السير إلى مولاك وارجع إليه بأقدام الندم والتوبة وكن كما كان أولئك الثلاثة ... تيقنوا ذلك فصدقوا ، فكان صدقهم واعترافهم وندمهم توبة لهم ... وكان ذلك الضيق والابتلاء الذي ابتلوه بصدقهم توبة وتمحيصا وتنقية لنفوسهم من درن الدنيا وعلائقها ... فلا مال ينفع ولا أهل ولا أحباب إن كان رب الأرباب قد أوصد دونك الباب ... فكن كما قال الصالحون قف على بابه ( فاقعد فابك عليه ) ... وألح في الدعاء فمن أدام قرع الباب أوشك أن يفتح له ... *واصدق نفسك وربك الذي لا يخفى عليه من أمرك خافية ... وكن كما قال الشافعي :
ولما قسا قلبي، وضاقت مذاهبي * *جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته * * * * * * بعفوك ربي كان عفوك أعظما
اليك إله الخلق أرفع رغبتي * * * وإن كنت يا ذا المن والجودمجرما


وائته رغبا راهبا ... وقل يا رب عبد مذنب ... وثق أنه يفرح بتوبتك ... (( لله أفرح بتوبة عبده مِنْ أحدكم سقط عَلَى بعيره وقد أضله في أرض فلاة)) مُتَّفّقٌ عَلَيْهِ .
وأنه ما فتح لك باب التوبة إلا ليتوب عليك ( ثم تاب عليهم ليتوبوا )
وتذكر أن لا شفاء من همك وغمك وأسقام قلبك إلا بالتوبة إلى مولاك والرجوع إليه ...

🔸واعلم أنه يلزمك لتوبتك أمور ثلاثة : ندم ، وعزم على الإقلاع ، واعتذار واستغفار ... واستصحب مع ذلك الخوف والرجاء ... فخوفك من خطيئتك يورثك ذلا وانكسارا بين يدي الله ... كسرة كما قال ابن القيم : ( كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ، ولا تكون لغير المذنب ) ... فتعترف وتندم وتعلم أنه لا قليل من الإثم ... وتستشعر فيها عظم من عصيت ... فإذا ملك الخوف عليك أرجاء روحك جاءك الرجاء لئلا تقنط من رحمة ربك ، وليذكرك بأنه غفور رحيم ... فتعتذر عن ذنبك وتستغفر ، ثم لما تدرك عظمة من عصيت وتعرفه حق المعرفة فيورث ذلك قلبك حبا وتعظيما ... وتعلم يقينا أنه من تمام توبتك أن تعزم عزما صادقا جازما أن لا تعود ... وتدعوه أن يقبلك ... وأن تنخلع مما كان سببا في معصيتك ... فها هو كعب يعلمنا فيقول لرسول الله أن من توبته أن ينخلع من بستانه الذي كان سبب تخلفه فيوصيه رسول الله أن يبقي له شيئا لأن ذلك خير له ... فيعزم أن لا يقول في حياته إلا صدقا إذ نجاه الله به ...

فابك على خطيئتك واسأله مغفرته وتوبته ولا تيأس من روح الله ... ولا يقنطنك الشيطان ، واعلم أنه سيقعد لك كل مرصد ... وسيوصد دونك كل باب ... فها هو كعب لما صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاتبه أهله أن لم لم تعتذر كما اعتذر غيرك واكتفيت باستغفار رسول الله لك فيمضي على عزمه بالصدق ويعلم أنه له نجاة ، ثم إنه على ما كان فيه من بلاء واجتناب الصحابة والأهل له يأتيه كتاب من ملك غسان يدعوه إليه فحرق الكتاب لئلا يفتتن به ...فثبته الله وعصمه ...

فكن كذلك ... قدم الاعتراف بخطيئتك والندم على ذنبك والعزم على تركه وهجره ... وانكسر على عتباته ، وتوسل إليه وارجه وقل : يا من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ، واعلم أنه ( يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ) وأنه ( هو التواب الرحيم )

المراجع :
- ديوان الإمام الشافعي ( 204 هـ)
- جامع البيان في تأويل القرآن ، لابن جرير الطبري ( 310 هـ)
- المحرر الوجيز لابن عطية ( 541 هـ)
- أحكام القرآن لابن العربي ( 543 هـ)
- زاد المسير في علوم التفسير لابن الجوزي ( 597 هـ)
- "تهذيب " مدارج السالكين لابن القيم ( 751 هـ)
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 774 هـ )
- التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور ( 1393 هـ)

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17 ربيع الأول 1438هـ/16-12-2016م, 01:12 AM
رضوى محمود رضوى محمود غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الخامس
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 237
افتراضي

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا .فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}
يقول تعالى مخبرا عن الأبرار الذين يقولون لمن أطعموهم لحاجتهم وفاقتهم أنهم ما أطعموهم طمعا في جزاء منهم على فعلهم أو رغبة في شكر بل ما فعلوه إلا خوفا من الله تعالى ورغبة في رضاه فدفعهم الخوف لأن يحسنوا للمحتاجين خوفا من يوم عظيم يرجعون فيه إلى الله فيوفيهم أعمالهم.

فتأمل ..كيف يفعل الخوف من الله إذا دخل قلب العبد يكون له نور يهديه لكل خير ويصرفه عن كل شر، فما أحوجنا إلى الخوف من الله فكم من مذنب جاءه الخوف فردعه فتاب وأناب وعاد إلى ربه ، وكم كان الخوف من الله محفذ لصاحبه على فعل الخيرات بل وخوض المكاره رغبة في رضا الله عز وجل فالمجاهد في سبيل الله يخوض المعارك والأهوال وهو مقام خوف ولكن خوفه من الله أعظم يدفعه للتضحية بنفسه في سبيل رضاه ، قال تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ، و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). رواه الترمذي بإسنادٍ حسن
أخرج ابن سعد عن مسلم بن بشير، قال:
بكى أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه – في مرضه، فقيل له:
ما يبكيك، يا أبا هريرة؟
قال: أَمَا إنِّي لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبُعد سفري وقلَّةِ زادي. أصبحت في صعود مهبطة على جنَّة ونار، فلا أدري إلى أيِّهما يُسْلَك بي.
و عن الحسن البصري قال:الرجاء والخوف مطيتا المؤمن.حلية الأولياء (2/156).
و عن مريج بن مسروق، أنه كان يقول: يا بني، المخافة قبل الرجاء، فإن الله عز وجل خلق جنة وناراً، فلن تخوضوا إلى الجنة، حتى تمروا على النار. حلية الأولياء (5/155)
فانظر كيف كان حال السلف الصالح في خوفهم من الله ،فما بالنا نأمن على أنفسنا مع تقصيرنا وتهاوننا ،و الواجب علينا أن نخاف ونعترف بالتقصير ونلجأ إلى الله فكل شئ تخاف منه تفر منه إلا الله إذا خفته فررت إليه قال تعالى: (ففروا إلى الله إنني لكم منه نذير مبين).
وفي الآية يخبرنا الله عن هؤلاء القوم الذين خافوا عقوبة الله في يوم عبوس أي يوما ضيقا تعبس فيه الوجوه من شدة هوله ، قمطريرا يشتد فيه البلاء ويطول الكرب،فدفعهم خوفهم من الله إلى إخلاص العبادة له وحده وعدم الإلتفات للخلق،فكان جزاؤهم على خوفهم من الله تعالى وإخلاصهم العبادة له أن دفع عنهم ما يخافون منه وأمنهم في الآخرة ،كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين ، إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة) أخرجه ابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده والشيخ الألباني في السلسلة .
ولقاهم أي جعلهم يلقون نضرة أي حسنا وبياضا في البشرة وهو دليل على الفرح والتنعم ورغد العيش ،وسرورا في القلب لا انقطاع له.

المصادر:

- تفسير القرآن العظيم ابن كثير.

- تفسير الطبري.

- التحرير والتنوير لابن عاشور.

- تفسير ابن عطيه.
- زاد المسير في علوم التفسير لابن الجوزي.

- تفسير القاسمي.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 18 ربيع الأول 1438هـ/17-12-2016م, 02:35 PM
عقيلة زيان عقيلة زيان غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 700
افتراضي

{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } الزمر(53).


قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن أكبر آية فرجا في القرآن( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) .
وقال علي رضي الله عنه: ما في القرآن آية أوسع من:( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) ... إلى آخر الآية.

يا تري !!... لم أثني الصحابة على هذه الآية بهذا الثناء الجميل و العظيم ؟..ما الموضوع أي اشتملت عليه الآية ؟ ....ما المقصد والغرض الذي تضمنته كلمات هذه الآية في طياتها..حتى كان لها هذا الشأن العظيم..

الآية رسالة من رب العالمين لعباده جميعا..يخبرهم عنه نفسه ..عن أعظم و أوسع صفة له .ألا وهى صفة الرحمة....فهو بهم راحم و وإليهم متودد .
وهو خطاب يحمل في طياته حب الله عزوجل لعباده يوم فتح لهم باب التوبة و دعاهم إليه..و ملأ قلبوهم رجاء به..و حرم عليهم القنوط من رحمته..وهذا من سعة كرامته سبحانه وتعالى على عباده فهو الرحيم الحليم والودود البر الرؤوف الجواد.

جاء في صحيح البخاري ومسلم في سبب نزول الآية
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ }
وَنَزَلَتْ{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ }[1]
(قل) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم..ولمن صلح له الخطاب


{يا عبادي } : شاملة للعبودية العامية والخاصة..فيدخل في كل عباده المؤمنين و الكافرين.
والنداء بوصف العبودية فيه من التودد والتلطف ما فيه..إذ مع كونهم مسرفين مذنبين إلا إن الله نداهم بعابدي ... والعبودية شرف.

قالالبجيرميالشافعي: وليس للمؤمن صفة أتم ولا أشرف من العبودية، لأنها غاية التذلل..
وكما قيل:
ومما زادني شرفًا و تيهًا == وكدت بأخمصي أطأ الثريـا
دخولي تحت قولك : يا عبادي == و أن صيَّرت أحمد لي نبيـا
{الَّذِينَ أسرفوا }:أي أفرطوا على أنفسهم بالشرك والكفر واستكثروا من الذنوب و المعاصي بإتباع أهواءهم والسعي في مساخط الله عزوجل.
(لا تقنطوا) لا تيأسوا من رحمة الله ؛ لا تيأسوا من مغفرته..أقبلوا على ربكم و أنيبوا إليه واستغفروه .. فعفو الله لا يتعاظمه ذنب ورحمته وسعت كل شيء..

ويدخل في هذه الآية كل من أذنب .سواء كان من أسرف عليه نفسه بالشرك أو الكفر أو اقتراف الكبائر أو ارتكاب الذنوب الصغائر..فالكل باب التوب مفتوح أمامه..والتوبة مقبولة منه...إن أقبل و صدق في توبته


قال قتادة :ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يتاب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية:( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ )..ذكره الطبري

وقال السديّ: هؤلاء المشركون من أهل مكة، قالوا: كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى، أو قتل، أو أشرك بالرحمن كان هالكا من أهل النار؟ فكلّ هذه الأعمال قد عملناها، فأنزلت فيهم هذه الآية:( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ )... ذكره الطبري
وقال ابن عمر: إنما أنزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذّبوا، فافتنوا، كنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذّبوه، فنزلت هؤلاء الآيات، وكان عمر بن الخطاب كاتبا، قال: فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عَيَّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، إلى أولئك النفر، فأسلموا وهاجروا....ذكره الطبري
وعنه أيضا قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نرى أو نقول: إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة، حتى نزلت هذه الآية( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش، قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه، إن لم يصب منها شيئا رجونا له..... ذكره الطبري

روى الإمام أحمد عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول:"ما أُحِبُّ أنَّ لِي الدُّنْيَا وَمَا فِيها بهذه الآية:( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ )"... الآية، فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك ؟ فسكت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ثم قال:"ألا وَمَنْ أشْرَكَ، ألا ومَنْ أشْرَكَ، ثلاث مرات".

وروى أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضى الله عنه قال: «جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم شيخ كبير يتوكأ على عصا له فقال: يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لى؟ قال صلّى الله عليه وسلم: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال بلى وأشهد أنك رسول الله، فقال صلّى الله عليه وسلم: قد غفر لك غدراتك وفجراتك» .

فجملة هذه الأحاديث والآثار وغيرها دالة على أن المراد أن الله يغفر جميع الذنوب والمعاصي كبائر كانت أو صغائر مع التوبة ....، ولا يقنطنّ عبد من رحمة الله، فإن باب الرحمة واسع كما قال: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» وقال: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» .
..
يا الله ما أعظمك ؛ وأكرمك وأحلمك......أيا عبد الله أي شيء يحول بينك وبين التوبة... بعد هذا...أي الذنب يعظمك في نفسك.....إن كان عظم في نفسك ذنب الزنا..فاعلم أن الله يغفره..و إن كان عظم في نفسك ذنب قتل النفس المعصومة..فاعلم أن الله يغفره وتجاوز عنه..ويؤدى عنك حق المقتول..وان كان عظم عليك ذنب الزنا بالمحارم..فاعلم أن الله يغفره و يصفح عنك..وان كان عظم فص نفسك جريمة اللواط...فاعلم أن الله يغفره..و يصلح الله لك حالك....وإن كان عظم عليك ذنب عقوق الوالدين...فاعلم أن الله يغفره....أو عظم عليك أكل أموال الناس بالباطل فاعلم إن الله يغفره لك ويتجاوز.... .عدد ما شئت من الذنوب كلها داخلة تحت قوله "إن الله يغفر الذنوب جميعا"
وقد أكد الله عزوجل هذه الجملة بثلاث مؤكدات حتى لا يبقى في القلب مجال للشك أبدا أو الريب أو التردد .... التوكيد الأول بقوله" إن" ؛ والثاني بقوله "الذنوب" ف "ال" تفيد الاستغراق.... وبقوله جميعا توكيد ثالث.

و في الحديث يقول الله: "يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة." رواه الترمذي

.
...بل الله أشد فرحا بتوبة العبد


ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة , فانفلتت منه , وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فأضطجع في ظلها – قد أيس من راحلته – فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وان ربك – أخطأ من شدة الفرح.

"
...بل الأمر أعظم من ذلك..الله يبدل سيئاتك حسنات ..

قال تعالى :{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} (الفرقان).
...

ثم اعلم يا عبد الله أن باب الملك مفتوح في كل وقت.ليس عليه بواب كأبواب ملوك الدنيا...حتى تستأذن وتنتظر أن يؤذن لك ... فربك حي لا يموت...إن أقبلت عليه بالليل..فتح لك بابه و إن أقبلت عليه بالنهار فتح لك بابه .

عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها))؛ رواه مسلم.

فيا لها من بشارة عظيمة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه..فهو سبحانه أهل أن يغفر ... كما قال تعالى { هو أهل التقوى وأهل المغفرة}

وهو سبحانه الذي دعا طوائف أهل الكفر للتوبة

قال ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا َ: قَدْ دَعَا اللَّهُ إِلَى مَغْفِرَتِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ...ثُمَّ دَعَا إِلَى تَوْبَتِهِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ قَوْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ، مَنْ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} ... ، وَقَالَ {مَاعَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ . . مَنْ آيَسَ عِبَادَ اللَّهِ . مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدَ هَذَا فَقَدَ جَحَدَ كِتَابَ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ أَنْ يَتُوبَ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ...ذكره ابن كثير
...
فبادر بالتوبة يا عبد الله وأقلع عما كنت ملتبسا به من المعاصي ..واسأل الله أن يقبل توبتك ....فالإﻧﺴﺎﻥ لا ﻳﺭﻱ، ﻓﻘ ﻳﻔاجئه ﺍﻟﻤﺕ ﻓﻴﻤﺕ ﻗﺒ ﺃﻥ ﻳﺘﺏ؛ ﻓﺎﻟﺍﺟ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺭﺓ..
قال الله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}

فالبدار البدار ..قبل فوات الأوان

فأحسن الظن بربك يا عبد الله...ولا تأيس من روحه..فإن اليأس من روحه والقنوط من رحمته من كبائر الذنوب.. قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ {يوسف: 87}.
و قولهتعالى:{قَالَ وَمَنْيَقْنَطُمِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر:56].
ووادع ربك وأنت موقن بالإجابة..وتضرع إليه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» رواه الترمذي.

فإذا دعوت الله -أيها المؤمن- فعظم الرغبة فيما عنده، وأحسن الظن به.
وإني لأدعو الله حتى كأنني --- أرى بجميل الظن ما الله صانعُه
ثم اعلم يا عبيد الله أن التوبة لابد أن تكون نصوحا حتى تكون مقبولة.
قال الله تعالى :ّ{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}


و التوبة النصوح .هي التوبة الصادقة التي تحققت فيها شروط التوبة وهي:
1-
الإقلاع عن الذنب.
2-
الندم على ما فات.
3-
العزم على أن لا يعود إليه مرة أخرى.


ثم أكثر من الأعمال الصالحة والحسنات الماحية، لقول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [مريم:60].
وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].

وختم الله الآية بقوله بذكر اسمين عظيمين من أسماءه الحسنى . ...اسمه الغفور الرحيم

قال:{ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}...وهما اسمان دالان على صفة المغفرة وصفة الرحمة..وهو وصفان لازمان ذاتيان لا تنفكان عنه سبحانه وجلا..وجيء بهما توكيدا لقوله "{ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}..فهو يغفر الذنوب جميعا لأن من صفته المغفرة و الرحمة...يغفر ذنوبهم..وهو يرحمهم فلا يعذبهم.
..
وأخيرا أختم بهذا الحديث العظيم
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بسبي وإذا إمرأة من السبي تحلب ثديها، كلما وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟، قالوا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: والله، الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها.
المراجع
- جامع البيان في تأويل القرآن .لمحمد بن جرير أبو جعفر الطبري ( : 310هـ)
-معالم التنزيل للبغوي ( 510هـ)
-المحرر الوجيز لابن عطية ( 541 هـ)
-
تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 774 هـ)
-
فتحُ البيان في مقاصد القرآن لأبي الطيب محمد صديق خان بن حسن لقِنَّوجي ( 1307هـ)
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ( 1376 هـ)
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (: 1393هـ)
- التحرير والتنوير لابن عاشور (1393هـ)





[1] أورده البخاري كتاب التفسير باب { بَاب قَوْلُهُ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
وأورده مسلم في كتاب الايمان باب باب كَوْنِ الإِسْلاَمِ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَكَذَا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ. (53)

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18 ربيع الأول 1438هـ/17-12-2016م, 06:34 PM
رشا نصر زيدان رشا نصر زيدان غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الخامس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
الدولة: الدوحة قطر
المشاركات: 359
افتراضي التطبيق بأسلوب وعظي

•رسالة تفسيرية في قوله تعالى:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) {سورة الحجر}.

بسم الله و الحمد الله و الصلاة و السلام على رسول الله .

بين أيدينا رسالة لطيفة تواجه الكثير من الناس في حياتهم، ففي معترك الحياة نقابل أناس من شتى البقاع، و على اختلاف الطباع فمنهم من هو لين الطبع والتي تميل إليه القلوب،و منهم من يحتاج إلى مسايسته للتعامل معه ومنهم من هو فظ غليظ القلب. و قال الله تعالى: " وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا {الفرقان:(20)}.

وروي الإمام أحمد: عن عوف ، سمعت الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ; فجاء منهم الأبيض ، والأحمر ، والأسود ، وبين ذلك ، والسهل ، والحزن ، وبين ذلك ، والخبيث ، والطيب ، وبين ذلك . وكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن حبان في صحيحه من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، عن قسامة بن زهير المازني البصري ، عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وقال الترمذي : حسن صحيح .

و قد قالوا عن الكلمة الجارحة:

الكلمة الجارحة كطرقك للمسمار في الخشب والاعتذار كنزعك ذلك المسمار من تلك الخشبه لكن هل تزول تلك الحفرة التي أحدثها مسمارك ؟!!

فنحن بصدد الحديث في هذه الرسالة كيف نداوي هذه الحفرة،هذا الألم الغائر في القلب. قد تكون هذه الكلمة من أقرب شخص إلى قلبك،أو تكون ممن هو صلة رحم و امرك الله ان تبره و تصله.

فكيف السبيل إلى معالجة الجرح؟!!

ففي البداية أعلم أن مناط سعادتك و نجاتك في هذه الحياة أن تولي قلبك فائق العناية و الاهتمام.وصب جُلَّ همِّك ألا يصل أي كدر يعكر صفاء قلبك، و علاقتك مع ربك .

ولذلك قال ابن القيم:
لم يأت (الحزن) في القران إلا منهيا عنه كقوله تعالى: (ولا تهنو ولاتحزنوا)، أو منفيا كقوله: (فلاخوف عليهم ولا هم يحزنون) وسر ذلك أن "الحزن" لا مصلحة فيه للقلب، وأحب شىء إلى الشيطان أن يحزن العبد المؤمن؛ ليقطعه عن سيره ويوقفه عن سلوكه.
وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم: ٌاللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)
لذا يقول ابن القيم: الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم ويضر الإرادة، ولا شئ أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن...

•فكيف العلاج من أثر الكلمة الجارحة على القلب،و لنا في رسول الله أسوة حسنة؛فقد نعتوه بالجنون و السحر والتكذيب والإفتراء على الله، فماذا كان أمر الله له :

o "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98)"
 لم ينكر الله تعالى على نبيه و خاتم رسله بالضيق لما يقولون عنه، فهو سبحانه و تعالى يخبره بعلمه بانقباض و ضيق صدره لما يسمعه،فطمأنه بإنه سبحانه و تعالى على علم بهم؛و إنه يمهلهم و يعد لهم عداً.

oثم بماذا أمره تعالى : فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ،

فكأن هذا الضيق لا يتسع و ينجلي أثره إلا بمصاحبة و دوام على الذكر و الفزع إلى الصلاة؛ فالسجود هنا كناية عن الصلاة. وإن كان الخطاب موجه للرسول صل الله عليه و سلم،ولكنه موجه للأمة بأسرها لعموم اللفظ و ليس بخصوص السبب. إذا على كل ضائق صدره بكلمة جارحة أو فعل مهين،عليه بعلاجين اثنين مهميين ألا و هما: الذكر و خاصة التسبيح، و لذلك قال الله تعالى:"فاصبر إن وعد الله حق و سبح بحمد ربك بالعشي و الإبكار".والصلاة؛ "و استعينوا بالصبر و الصلاة". عليه بهما و المداومة عليهما حتى تكون طبع له،و خلق يتحلى به.

•قال ابن القيم رحمه الله :"يتكلف الحلم والوقار والسكينة والثبات حتى تصير له أخلاقاً بمنزلة الطبائع، قالوا وقد جعل الله سبحانه في الإنسان قوة القبول والتعلم، فنقل الطبائع عن مقتضياتها غير مستحيل، غير أن هذا الانتقال قد يكون ضعيفاً فيعود العبد إلى طبعه بأدنى باعث، وقد يكون قريباً ولكن لم ينقل الطبع، فقد يعود إلى طبعه إذا قوي الباعث واشتد، وقد يستحكم الانتقال بحيث يستحدث صاحبه طبعاً ثانياً، فهذا لا يكاد يعود إلى طبعه الذي انتقل عنه" اهـ.

•فعلى كل مؤمن الوقوف على هذه الآيات الكريمة و التدبر فيها، ومجاهد النفس على كثرة الذكر و الصلاة. و مجاهدة النفس عن العفو و الصفح عن من أساء إليها، "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {الشورى:(40)}.

•فأرشدتنا الآية الكريمة: أن الابتلاء إنما هو سنة الحياة، و السبيل إلى النجاة هي القرب من الله تعالى و مداومة الذكر.وكل من أراد الإصلاح في هذه الدنيا عليه أن يحتسب كل أذي يلقاه من الناس هو في سبيل الله. و عليه أن يعيد ترتيب أولوياته فلا يعطي الشئ أكثر من حجمه.و يعلم ان الله تعالى هو المطلع على القلوب و الشاهد على أعمال عباده.و أن ما عند الله باق و ما عند العباد ينفذ."و لمن صبر و غفر إن ذلك من عزم الأمور".

ورَحِمَ اللهُ مَن قال:

وما كلُّ برقٍ لاحَ لي يَستفِزُّنِي*****ولا كُلُّ مَن لاقَيْتُ أرضاهُ مُنعِما
ولكنْ إذا ما اضطرَّنِي الضُّرُّ لَمْ أبِت*****أُقَلِّبُ فِكري مُنْجِداً ثُمَّ مُتْهِما
إلى أَنْ أرَى ما لا أَغَصُّ بذِكْرِهِ*****إذا قُلتُ قد أسْدَى إليَّ وَأَنْعَما
وفق الله الجميع لنيل أعلى مراتب الأخلاق، وجعلنا جميعاً من عباده المحسنين الصابرين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.و اللهم صل و سلم و بارك على الحبيب المصطفى.

مراجع التفسير:

1. تفسير القرآن العظيم لابن كثير.(ت 774ﻫ).
2. تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي. (ت 1376ﻫ)
3. تقسير التحرير و التنوير لابن عاشور. (ت 1391ﻫ)

مراجع أخرى:

1. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقولُون} -تفكُّرٌ، وتدبُّرٌ-...
عليّ بنِ حسنٍ الحلبيِّ الأثريِّ ( المولود في 1380ﻫ).
2. جامع المسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728ﻫ).
3. من كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم (ت 751ﻫ)

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 19 ربيع الأول 1438هـ/18-12-2016م, 12:59 AM
سناء بنت عثمان سناء بنت عثمان غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: May 2015
المشاركات: 286
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
تطبيق على درس الأسلوب الوعظي
قال تعالى:(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)سورة الأحقاف.
الحمد الله رب العالمين، أنزل كتابه المبين، وبعث رسوله بخير دين، فكان هداية للخلق أجمعين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد
آية من كتاب الله العزيز، جاءت ببيان منهج شامل عظيم للمؤمن، إن التزم به كان على نور من الله في الدنيا، وفي الآخرة من السعداء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو يسير على من يسره الله تعالى عليه.
يقول الله تعالى:(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
فهذه الآية تخبر عن حال المؤمن المستقيم، وكلنا يطمع أن يكون ذلك المؤمن المستقيم، يقول السعدي في قوله تعالى:(إن الذين قالوا ربنا الله) أقروا بربهم، وشهدوا له بالوحدانية، والتزموا طاعته وداموا على ذلك، ومن لم يقر لربه بالوحدانية ويشهد له بذلك ويلتزم بطاعته، فلمن يقر؟
فهو الذي أوجده من العدم وأحسن خلقه وتفضل عليه بالنعم العظيمة التي لا تعد ولا تحصى.
_ (ثم استقاموا) أي: استقاموا على الطاعات والأعمال الصالحة.
يقول الماوردي: فيه خمسة أقوال:
1/ استقاموا على أن الله ربهم. وهو قول أبو بكر الصديق.
2/ استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله. قاله ابن عباس.
3/ استقاموا على أداء فرائض الله. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
4/ استقاموا على أن أخلصوا له الدين والعمل. قاله أبو العالية.
5/ استقاموا عليه فلم يرجعوا عنه إلى موتهم.
وكلها صحيحة ولا تعارض بينها، فالاستقامة تأتي بعد الإيمان والإقرار بوحدانيته سبحانه، وما يستلزمه ذلك الإيمان من أداء الفرائض والعبادات مخلصا فيها لله وحده ثابتا على الحق مجاهدا عليها حتى يلقى ربه سبحانه.
وجاء في الحديث عن سعيد بن نمران قال: قرأت عند أبي بكر الصديق هذه الآية:(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.
وجاء عن الزهري قوله: تلا عمر هذه الآية، ثم قال: استقاموا والله _لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب.

_ ثم ما هو الجزاء؟ قال تعالى:(فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). وليس ذلك فقط بل:(أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون).
قال ابن عطية: الخوف: هو الهم بما يستقبل. والحزن: هو الهم بما مضى.
وقال ابن كثير: الخوف فيما يستقبلون. والحزن على ما خلفوا.
فلا خوف فيما يستقبله من أمور الآخرة، فقد عرف ربه في حياته وسعى في مرضاته، ولا حزن يعتريه على ما كان في ماضيه من تقصير، ولا على ما يتركه بعد موته من أموال أو بنين فهم في حفظ الله الكريم. ثم بعد ذلك خلود سرمدي أبدي في الجنان، هناك حيث النعيم المقيم، والملك العظيم، والسرور الدائم.
*تلك هي البشارة العظيمة التي ينتظرها المؤمن ويرجوها كل مسلم، فماذا قدمت أيها المؤمن وماذا فعلت حتى يكون ذلك الأجر العظيم والثواب الكبير، بل قل أي شيء ترجوه بعد هذه البشارة، ومما تخاف؟! انتهت أحزانك عند هذه الآية، وذهبت كل المخاوف؛ فيالهناء المؤمنين المستقيمين، ويالسعادة العاملين المتقين عملوا قليلا والله وأجروا كثيرا.
فاللهم بلغناهم، وأكرمنا بالاستقامة حتى نلقاك، واجعلنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.






المراجع:
1/ النكت والعيون. للماوردي ت (450) هـ
2/ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. لابن عطية الأندلسي. ت (541) هـ
3/ تفسير القرآن العظيم. للحافظ ابن كثير ت (774) هـ
4/ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. للعلامة السعدي.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 19 ربيع الأول 1438هـ/18-12-2016م, 03:00 AM
حنان بدوي حنان بدوي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
الدولة: إسكندرية - مصر
المشاركات: 392
افتراضي

رسالة في قول الله تعالى :
{ إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }

من تدبر هذه الآية العظيمة وتفكر في معانيها ولطائفها نال من محبة الله تعالى وتعظيمه ما يزيد به إيمانه وتقوى به بصيرته ، فقد تضمنت وعداً مؤكداً من الله تبارك وتعالى بمعيته ، معيته الخاصة التي لا ينالها كل أحد ، ولا يفوز بها كل مريد ، ولكن جعلها الله للموصوفين بصفات بيّنها في كتابه وفي سنة نبيه صلي الله عليه وسلم .
ولنا مع معية الله تبارك وتعالى لخلقه وقفتان قبل أن نتعرف على أنواعها :
أولها : أن معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع السلف.
فقد قال الله تعالى : } يا ايها الذين امنوا استعينوا بالصبر والصلاة ان الله مع الصابرين {
وقال : }ان تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وان تنتهوا فهو خير لكم وان تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وان الله مع المؤمنين {
وقال هنا : } ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون {،
وقد روى البخاري عن أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (يقول اللهُ تعالَى : أنا عندَ ظنِّ عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكَرَنِي ، فإن ذَكَرَنِي في نفسِه ذكرتُه في نفسي ، وإن ذكَرَنِي في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٌ منهم ، وإن تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا ، وإن تقرَّبَ إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا ، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرْولةً)
وقد أجمع السلف على إثبات صفة المعية لله تبارك وتعالى ، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيه صلى الله على وسلم من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل و لاتحريف .
ثانياً: أنه تعالى مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظيم سلطانه ، وأن هذه المعية حق على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق؛ لقوله تعالى عن نفسه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
وقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً).
وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)
وكسائر صفاته الثابتة لها حقيقة على وجه يليق بجلاله وعظيم سلطانه ولا تشبه صفات المخلوقين.
و معية الله تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة، وقد اشتمل القرآن الكريم على النوعين ،
فالمعية العامة : تقتضي الإحاطة بالخلق علماً وقدرة، وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك من معاني ربوبيته
ويشهد له قوله تعالى : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)
وقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
فمتي استشعر العبد معية ربه ، إحاطة سمعه وعلمه وبصره ومراقبته ونفوذ قدرته ؛ ذاب حياءاً وخشية وخوفاً ووجلاً ، فعصم قلبه عمّا يغضبه ، وكفّ سمعه وبصره وسائر جوارحه عمّا لا يرضيه .
وما أحسن ما قال إبراهيم بن سفيان ( إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشبهات منها ، وطرد الدنيا عنها ) رواه ابن القيم.
فإن كان الله معي بسمعه وبصره وعلمه ومراقبته ؛ فأين أذهب ؟
أين المهرب وأين المفر ؟
اللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك .
لن أهرب منك إلا إليك ، لن أطمئن إلا في طاعتك ، لن أسكن إلا في حماك ، لا أنس إلا بك ، ولا هناء إلا في جوارك ، ولا سعادة إلا في القرب منك، اللهم لا تحرمنا لذة النظر إليك .
أما المعية الخاصة والتي نعنيها هنا : تقتضي النصرة والولاية والتأييد والحفظ والإعانة والرعاية والفضل والبر والهدى والتسديد .
فإذا كنت في معية ربك ، في معية الكبير العظيم ؛ فمَنْ يجرؤ أن يكيدك، أو يمكرُ بك ؟
وفي رحلة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ تتجلى معية الله الخاصة وتتجسد لنا في الغار، حينما أحاط به الكفار، والصِّدِّيق يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لَرَآنا، فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واثق بهذه المعية: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما} ". فَقَالَ لِصَاحِبه لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ معَنا {
فمن كان الله معه لا يحزن ولا يخاف ، ولا يحمل هموم الدنيا ، ولا مصائب الدهر ، فإن ربه يكفيه ، وهو حسبه ونعم الوكيل .
وكذلك قال موسى:}كلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ {
وقد كان الهلاك محققاً من الناحية المنطقية العقلية ، فالبحر أمامهم والعدو خلفهم ومع ذلك فاض قلبه يقيناً ، وامتلأ بحسن الظن بربه ، وجزم أنه لن يضيعه ومن معه .
فهذه المعية التي جعلها الله لخواصه ؛ طمأنينة للمؤمنين ، يرد الله بها العاصي ويهديه للتوبة والاستغفار ، يعصمه من السقوط في براثن الرزيلة ، يكف عنه أعدائه ، يزج به في مراتع الحسنات والطيبات ، يجعل له من كل ضيق مخرجاً ، ومن كل كرب فرجاً ، فلا جزع معها ولا حزن ولا ضيق صدر ، فترتفع بها المحبة للرب الودود ، ويعلو بها الرجاء فيما عنده من الخير الجزيل في الدنيا والآخرة
فأين هذه المعية ؟ ولمن يارب ؟
فقال هنا }إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ{
فأكد الخبر بــ " إنّ " لإفادة اليقين بما ينافي ضده .
الله : الجامع لصفات الكمال ، المستحق وحده أن يُعبد ويُحَب ويُخشَى ويُرجى ، فهل من مستحق سواه ؟ وهل خلقني غيره ؟ هل يرزقني سواه ؟ من يملكني أو يملك لي نفعاً أو ضراً سواك ياربي؟
"إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا"
والتقوى : أحد شرطي جلب معية الله الخاصة في آيتنا ، بل وهي الشرط الأول هنا ، أما الشرط الثاني فالإحسان
أما التقوى : فهي أن تضع بينك وبين عذاب الله وسخطه وقاية ، وذلك بخشيته وخوفه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه
وقد قال طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى، قالوا : و ما التقوى ؟ قال: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله...نقله الذهبي
وقال ابن رجب – رحمه الله -: “أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقايةً تَقِيْهِ منه؛ فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبينما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وقايةً تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معصيته”.
" الذين اتقوا " الله فامتثلوا أوامره ، وأحجموا عن نواهيه ، واتقوا الفواحش والكبائر والمحرمات والمعاصي ، وقد جاءت التقوى بصيغة الفعل الماضي ؛ لإفادة حدوثها و تحقق وقوعها، وتقررها بالفعل لدى أصحابها ؛ لكونها من لوازم إيمان العبد .
فيا من ترجو معية الله عز وجل لزمك أن تكون التقوى متحققة الوقوع لديك ، قد أتيت بها بما تحويه من معان ، حتي تنال الفوز بمعيته سبحانه والظفر بما ورائها .
فهلّا بحثت بداخلك ؟
وهلّا نقّيت أعمالك ؟
وهلّا زنتها بميزان التقوى ؟
هل امتثلت أوامر ربك وقدّمت محابه على محابك ؟
هل تُغلب شرعه على هواك ومرادك ؟
هل صبرت على قضاءه ورضيتَ به ؟
إن وفقت لذلك فأنت من الفائزين .
وفي قوله "والذين هم محسنون " عدة لطائف :
أولها : أن الإحسان قد فسره لنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
ومعنى الحديث يشير إلى أن العبد يعبد ربه باستحضار قربه ومعيته ومراقبته ، وذلك يستوجب خشيته والخوف منه وهيبته وتعظيمه ، وأن يبذل قصارى جهده في لزوم طاعة ربه ، والقيام بفرائضه ، والتزيد بنوافله ، والإتيان بحقوقه ، والإحسان والرفق والشفقة على خلقه ، وبذل النفع لهم ، فهو وإن شق عليه أن يعبد الله كأنه يراه ؛ فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع على أعماله وعباداته ومعاملاته ، فيستحي العبد من نظره إليه ومراقبته له كما قال وهيب الورد" اتَّقِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَهْوَنَالنَّاظِرِينَ إِلَيْكَ " . رواه أبي نعيم في الحلية .
فكم من المرات نأتي بالعبادة على عجل تخلصا من عبئها ، بلا حضور قلب ولا جمعية فكر ولا استحضار معية ولا مراقبة ، ندخل الصلاة ونخرج لا نذكر ماذا قرأنا ولا كم صلينا ، نسمع كل ما يدور حولنا على تفصيله ، في حين أننا ندخل عالم هواتفنا تصم أسماعنا وتنغلق عقولنا عليه وننفصل عن واقعنا بالكلية .
فنسأله تعالى أن يتوب علينا وأن لا يتوفانا إلا وهو راض عنا .
اللطيفة الثانية : تكرر الاسم الموصول في " الذين اتقوا " و ؛" الذين هم محسنون " وكذلك وجود " حرف الواو " مما يفيد كفاية أحد الوصفين للظفر بمعية الله تبارك وتعالى بكل ما تحمله المعية من معان ، فمن أتي بالتقوى وحدها نال المعية ، ومن أتي بالإحسان وحده نال المعية ، وكل بحسب درجته زيادة أو نقصانا ، دون أن يكون أي منهما لازم للآخر لحصولها ، فالله تعالى مع الذين اتقوا ومع الذين هم محسنون .
اللطيفة الثالثة : قُدِّمت التقوى على الإحسان لأن التخلية من خلال التقوى متقدمة على التحلية بالإحسان ، فكيف يأتي العبد بالإحسان وهو على الذنوب قائم.
اللطيفة الرابعة : . أن المراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين ، فيدخل بذلك كل من دخل تحت هذا الوصف ، والنبي صلى الله عليه وسلم داخل في زمرتهم دخولاً أولياً.
وإما أن المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من صحابته ، مدحاً لهم وثناء عليهم بهاتين الصفتين ، وفيه إشارة إلى أن ذلك الفعل منه يتبعه الاحتذاء بحذوه والاقتداء بسنته في ذلك .
كما أورد القاسمي عن من قال لابن عباس رضي الله عنهما، عند التعزية بأبيه العباس:
اصبر نكُن بك صاَبِرِينَ فَإنَّمَا صبرُ الرَّعِية عندَ صَبْرِ الرَّاسِ
وبعد هذا البيت:
خيرٌ من العباسِ أجرُكَ بَعْدَهُ والله خيرٌ مِنْكَ للعبَّاسِ
قال ابن عباس: ما عزّاني أحد أحسن من تعزيته.
اللطيفة الخامسة : الإتيان بالضمير المنفصل " هم " مع الإحسان وذلك لإفادة أنهم أحسنوا ببواطنهم وقلوبهم وضمائرهم وظواهرهم . فلم يحسنوا في الظاهر فقط بل وافق الباطن الظاهر .
اللطيفة السادسة : وردت " والذين هم محسنون " بصيغة الجملة الإسمية لإفادة كون مضمون فضيلة الإحسان صفة راسخة في الموصوفين بها ، ثابتة معهم على الدوام ، ليس مجرد فعل يعرض عليهم ويزول .
فالعبد العاقل اللبيب متى استحضر معية ربه العامة وإحاطة علمه وقدرته وتدبيره ؛ خافه وخشاه وعظمه ،وانكسر قلبه بين يدي ربه ومولاه ، وافتقر إليه ؛ فامتثل أمره ، واجتنب ما يغضبه ويسخطه ، فأحسن عباداته ؛ بالقيام بفرائضه، والتزود بنوافله ، والمداومة على ذكره ، وأحسن معاملاته ، والإحسان لخلقه ؛ كانت له الجائزة والثمرة ؛ "معيته الخاصة " بنصرته وهدايته وتوفيقه وولايته وعونه ، ومن ثم رحمته ومغفرته وعفوه .
اللهم اجعلنا ممن اتقوك واتقوا محارمك ؛ فأحسنوا ؛ ففازوا بما عندك من خيري الدنيا والآخرة .


المراجع
كتب التفسير

جامع البيان في تأويل القرآن .لمحمد بن جرير أبو جعفر الطبري (310هـ)
النكت والعيون للمواردي ( 450 هـ)
الكشاف للزمخشري ( 538 هـ)
المحرر الوجيز لابن عطية ( 541 هـ)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 671هـ)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي ( 685ه)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 774 هـ )
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ( 885ه)
محاسن التأويل للقاسمي ( 1332ه)
تيسير الكريم الرحمن للسعدي ( 1376ه)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (: 1393هـ)
التحرير والتنوير لابن عاشور (1393هـ)

كتب أخرى
حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (430 هـ )
سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ( 748 ه )
جامع العلوم والحكم-ابن رجب الحنبلي ( 795 هـ )

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 19 ربيع الأول 1438هـ/18-12-2016م, 05:57 AM
منى محمد مدني منى محمد مدني غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السادس
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 344
افتراضي



بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة في قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)الزمر

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)سورة الزمر
حري بالقلب أن يقف مع هذا النداء طويلاً ويتأمل ....
من المنادِي؟
وماهي صفاته ؟
ولماذا ينادي؟
ومن المنادَى؟
المنادِي ...هو الله المألوه المحبوب المعظم ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين...
اما عن صفاته ...فلو أن مافي الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر مانفدت كلمات الله ..وكلامه من صفاته ..وعليه قس بقية الصفات ...
صفات عظيمة واسعة كاملة ...لا عجب فله الأسماء الحسنى ..والمثل الأعلى في السماوات والأرض ...
ومتى ما قلبت نظرك في كتابه متدبراً...
وفي كونه متاملاَ...
ستشاهد من آثار كماله وعظمته وملكوته وسلطانه مايحير عقلك ويأخذ بقلبك ...
والكلام في صفاة كماله يطول ...ولكن قف وقفة مع اسميه الغفور الرحيم في نهاية ندائه ...
حتى تستشعر عظيم عظيم قدر من ناداك ولطف بك بندائه ...
ولنلتفت للنداء ..لنعرف لماذا ينادي الرب الغفور الرحيم ...
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
الله وهو الملك الكبير العظيم ينادي عبيده الضعفاء المسرفين على أنفسهم بالذنوب والمعاصي نداء رقيقاً لطيفاً يظهر فيه آثار وده ورحمته وسعة مغفرته وعفوه ..
ويفتح لهم باب الرجاء فلا يقنطهم من رحمته مهما بلغت ذنوبهم ..ومهما عظمت ..ومهما كثرت ...
ويخبرهم بخبر لو وعته قلوبهم لامتلأت بمحبته واستحت من عصيانه والتقصير في حقه وعبادته جل في علاه ..
ولتقطعت حسرات على لحظات التفريط والعصيان ...
(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
هذا الخبر ..لو القيته على قلب انهكته الذنوب والمعاصي ..
لوجد المخرج ...وتنفس ,,ودبت فيه الحياة ..
فمولاه الذي يعبده ...يغفر الذنوب جميعاً ..
كلها ..دقها ..وجلها ..سرها ..وعلانيتها .. أولها ..وأخرها ..ماعلم منها العبد ..وما لم يعلم ..
يغفر الذنوب العظام ..
يغفر الزلات والخطايا على مر الأعوام ..
فالعظيم ...لايتعاظمه ذنب أن يغفره ...
والغفور...يغفر الذنوب وان كثرت وكانت مثل زبد البحر
والرحيم ..يرحم عبده بالعفو عنه والتجاوز متى ماجاء مستغفراً تائباَ نادما ً
فعلم بذلك أن الله ينادي عباده ليغفرلهم تفضلاُ منه وتكرما.
من المنادَى؟
الذين أسرفوا على أنفسهم ..
وَالْإِسْرَافُ: الْإِكْثَارُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِسْرَافُ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.
ذكر الطبري في سبب نزولها عن ابن عباس: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) وذلك أن أيزعم محمد أنه من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم، وقد عبدنا الآلهة، وقتلنا النفس التي حرم الله ونحن أهل الشرك؟ فأنزل الله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) يقول: لا تيأسوا من رحمتي، إن الله يغفر الذنوب جميعا وقال: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ)
وذكر عن قتادة ، قوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) حتى بلغ (الذُّنُوبَ جَمِيعًا) قال: ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يتاب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) .
وعلى هذا يكون الإسراف لمن أشرك بالله قبل إسلامه
وقيل :الآية في أهل الإسلام ،عن نافع، عن ابن عمر قال: قال يعني عمر: كنا نقول: ما لمن افتتن من توبة، وكانوا يقولون: ما الله بقابل منا شيئا، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته، فلما قدم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم المدينة أنزل الله فيهم: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه) ... الآية، قال عمر: فكتبتها بيدي، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام: فلما جاءتني جعلت أقرؤها ولا أفهمها، فوقع في نفسي أنها أنزلت فينا لما كنانقول، فجلست على بعيري، ثم لحقت بالمدينة.
و عن نافع، عن ابن عمر، قال: إنما أنزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذّبوا، فافتنوا، كنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذّبوه، فنزلت هؤلاء الآيات، وكان عمر بن الخطاب كاتبا، قال: فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عَيَّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، إلى أولئك النفر، فأسلموا وهاجروا.
وقيل: نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار، فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء.
وجمع الطبري بين الأقوال بقوله : عنى تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك، لأن الله عم بقوله (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) جميع المسرفين، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.
فهذا النداء عام لكل مسرف على نفسه .
فلا يقنط من رحمة ربه ولايصيبه اليأس مهما أسرف ففي الآية ترغيب بذكر عظيم عفوه ومغفرته سبقه تخويف وترهيب
يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير:
أَطْنَبَتْ آيَاتُ الْوَعِيدِ بِأَفْنَانِهَا السَّابِقَةِ إِطْنَابًا يَبْلُغُ مِنْ نُفُوسِ سَامِعِيهَا أَيَّ مَبْلَغٍ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ، عَلَى رَغْمِ تَظَاهُرِهِمْ بِقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَقَدْ يَبْلُغُ بِهِمْ وَقْعُهَا مَبْلَغَ الْيَأْسِ مِنْ سَعْيٍ يُنْجِيهِمْ مِنْ وَعِيدِهَا، فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ بِبَعْثِ الرَّجَاءِ فِي نُفُوسِهِمْ لِلْخُرُوجِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ إِذَا أَرَادُوهَا عَلَى عَادَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمَجِيدِ مِنْ مُدَاوَاةِ النُّفُوسِ بِمَزِيجِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الزَّوَاجِرَ السَّابِقَةَ تُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُوَاجِهِينَ بِهَا خَاطَرَ التَّسَاؤُلِ عَنْ مَسَالِكِ النَّجَاةِ فَتَتَلَاحَمُ فِيهَا الْخَوَاطِرُ الْمَلَكِيَّةُ وَالْخَوَاطِرُ الشَّيْطَانِيَّةُ إِلَى أَنْ يُرْسِيَالتَّلَاحُمُ عَلَى انْتِصَارِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَكَانَ فِي إِنَارَةِ السَّبِيلِ لَهَا مَا يُسَهِّلُ خَطْوَ الْحَائِرِينَ فِي ظُلُمَاتِ الشَّكِّ وَيَرْتَفِقُ بِهَا وَيُوَاسِيهَا بَعْدَ أَنْ أَثْخَنَتْهَا جُرُوحُ التَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ وَيُضَمِّدُ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ وَالْحَلِيمُ يَزْجُرُ وَيَلِينُ وَتُثِيرُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ غَضَبُ اللَّهِ بِالَّذِينِ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ فَأَعْرَضُوا أَوْ حَبَّبَهُمْ فِي الْحَقِّ فَأَبْغَضُوا فَلَعَلَّهُ لَا يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ أَوْبَةٌ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى حُكْمِهِلْمُشْتَمِّ مِنْهُ تَرَقُّبُ قَطْعِ الْجِدَالِ وَفَصْمِهُ فَكَانَ أَمْرُهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادِيَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ تَنْفِيسًا عَلَيْهِ وَتَفْتِيحًا لِبَابِ الْأَوْبَةِ إِلَيْهِ فَهَذَا كَلَامٌ يَنْحَلُّ إِلَى اسْتِئْنَافَيْنِ فَجُمْلَةُ قُلْ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ مَا تَرَقَبَّهُ أَفْضَلُ النَّبِيئِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ بَلِّغْ عَنِّي هَذَا الْقَوْلَ.
وربط بين هذا الآية وماقبلها سيد قطب وذكر في ثنايا كلامه أسباب فتح الرحيم أبواب التوبة لعباده فقال:
ولما صور الله الحال المفزعة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة في قوله: «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»
.. عاد يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة. ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية. ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين. ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان..
«قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» ..
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية. كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة. دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال. دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله. إن الله رحيم بعباده. وهو يعلم ضعفهم وعجزهم. ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه. ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد. ويأخذ عليهم كل طريق. ويجلب عليهم بخيله ورجله. وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه. وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده. وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم..
يعلم الله- سبحانه- عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ويوسع له في الرحمة ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط. وبعد أن يلج في المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، ولم يعد يقبل ولا يستقبل. في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف:
«قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» ..
وليس بينه- وقد أسرف في المعصية، ولج في الذنب، وأبق عن الحمى، وشرد عن الطريق- ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية، وظلالها السمحة المحيية. ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة. التوبة وحدها. الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان.

فصل
في ذكر بعض الآيات والأحاديث الدالة على سعة رحمته ومغفرته
الآيات في هذا المعنى كثيرة جداً منها :
قال تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) سورة البروج
عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ خَدُّوا أُخْدُودًا وَمَلَئُوهَا نَارًا , فَأَلْقَوْا فِيهَا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَتَرَكُوا مَنْ كَفَرَ فَأَلْقَوْا بَضْعَةً وَثَمَانِينَ مُؤْمِنًا حَتَّى أَتَوْا عَلَى عَجُوزٍ كَبِيرَةٍ وَابْنُهَا خَلْفَهَا صَبِيُّ صَغِيرٌ، فَلَمَّا رَأَتِ النَّارَ كَيْفَ تَأْخُذُهُمْ جَزِعَتْ، قَالَتْ: يَا بُنَيَّ أَمَا تَرَى؟ قَالَ لَهَا ابْنُهَا: يَا أُمَّتَاهُ، امْضِي وَلَا تُنَافِقِي فَمَضَتْ، وَاقْتَحَمَ ابْنُهَا عَلَى أَثَرِهَا "، قَالَ الْحَسَنُ: " كَانَتْ لَذْعَةَ نَارٍ، لَا نَارَ عَلَيْهِمْ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَحْلَمَ اللَّهَ إِنَّهُمْ يُعَذِّبُونَ أَوْلِيَاءَهُ بِالنَّارِ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ؟ "، ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] يَقُولُ: «أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أَيْ فَلَوْ تَابُوا لَتَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ»
ويظهر جلياً من قول الحسن سعة رحمة الله فلو تابوا مع عظيم جرمهم وإسرافهم من قتل الصبية والعجائز لتاب الله عليهم ولغفر لهم ورحمهم ...
وسبحانه مأعظم رحمته فتح باب التوبة لمن حرق أوليائه ...
قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)سورة المائدة
بعد أن ذكر الله كلمات النصارى التى تكاد السماوات أن يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً..
وما ذاك إلا لعظيم جرم المشرك بالله ...
فالجرم عظيم ومع ذلك ،بعد أن حكى الله أقولهم فتح لهم أبواب المغفرة والتوبة ...
(أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
ان القلب ليمتلئ محبة بعد سماع مثل هذه الأوصاف ...
ومن أمتلئ قلبه محبة وجب عليه أن يقبل بالتوبة ...
قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) سورة النساء
هؤلاء منافقون مستحقون للدرك الأسفل من النار استثنى الله منهم من تاب وأصلح وأعتصم وأخلص دينه ...
فيتوب عليه ويغفر له ويرحمه ...
ويرفع درجته ومقامه فيجعله مع المؤمنين ..
ويعده بالأجر العظيم ...
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
قال السعدي في تفسيره :أي: من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ثم استغفر الله استغفارا تاما يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود. فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة.
فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه، لأنه قد غفره، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه.
والاحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً منها:
عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفسًا . فسأل عن أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على راهبٍ فأتاه فقال : إنَّه قتل تسعةً وتسعين نفسًا . فهل له من توبةٍ ؟ فقال : لا . فقتله . فكمَّل به مائةً . ثمَّ سأل عن أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ . فقال : إنَّه قتل مائةَ نفسٍ . فهل له من توبةٍ ؟ فقال : نعم . ومن يحولُ بينه وبين التَّوبةِ ؟ انطلق إلى أرضِ كذا وكذا . فإنَّ بها أُناسًا يعبدون اللهَ فاعبُدِ اللهَ معهم . ولا ترجِعْ إلى أرضِك فإنَّها أرضُ سوءٍ . فانطلق حتَّى إذا نصَف الطَّريقَ أتاه الموتُ . فاختصمت فيه ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العذابِ . فقالت ملائكةُ الرَّحمةِ : جاء تائبًا مقبلًا بقلبِه إلى اللهِ . وقالت ملائكةُ العذابِ : إنَّه لم يعمَلْ خيرًا قطُّ . فأتاه ملَكٌ في صورةِ آدميٍّ . فجعلوه بينهم . فقال : قِيسوا ما بين الأرضين . فإلى أيَّتِهما كان أدنَى ، فهو له . فقاسوه فوجدوه أدنَى إلى الأرضِ الَّتي أراد . فقبضته ملائكةُ الرَّحمةِ . قال قتادةُ : فقال الحسنُ : ذُكِر لنا ؛ أنَّه لمَّا أتاه الموتُ نأَى بصدرِه .) رواه مسلم
عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :كان في بني إسرائيل رجلٌ قتَل تسعةً وتسعين إنسانًا ، ثمَّ خرَج يسألُ ، فأتى راهبًا فسأله فقال له : هل مِن توبةٍ ؟ قال : لا . فقتَله ، فجعَل يسألُ ، فقال له رجلٌ : ائت قريةَ كذا وكذا ، فأدرَكه الموتُ ، فَناءَ بصدرِه نحوَها ، فاختَصَمَتْ فيه ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العذابِ ، فأوحى اللهُ إلى هذه أن تقَرَّبي ، وأوحى اللهُ إلى هذه أن تباعَدي ، وقال : قيسوا ما بينَهما ، فوُجِدَ إلى هذه أقربَ بشِبْرٍ ، فغُفِرَ له)رواه البخاري
هذا الحديث دال على سعة رحمة الله ومغفرته ،فهذا الرجل قتل تسعة وتسعين نفساً ثم جاء ....
تائبًا مقبلًا بقلبِه إلى اللهِ....
فالقلب ممتلئ بالمحبة والخوف والرجاء ....
ولما امتلئ القلب تحرك الجسد فترك الأحباب والبلد طالباً لرضا ربه ....
ولما نزل به الموت نأى بصدره حرصاً منه على التقرب من الأرض الطيبة ....
فهو في تلك اللحظات الصعبة والروح تنزع يجاهد عله يقترب خطوة من ربه ....
ففتح له الغفور الرحيم أبواب المغفرة ..
فأوحى اللهُ إلى هذه أن تقَرَّبي ، وأوحى اللهُ إلى هذه أن تباعَدي...
وقال : قيسوا ما بينَهما ، فوُجِدَ إلى هذه أقربَ بشِبْرٍ ، فغُفِرَ له...
فغفر له ...لأنه الغفور الرحيم
غفر له قتله لمائة نفس ....لأنه يغفر الذنوب جميعا ً..
فلا ينبغي لعبد بعد هذا أن يقنط من رحمة الله ومغفرته .
عن أنس بن مالك رضي عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى : يابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ، ثم استغفرتني ، غفرت لك ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا ، لأتيتك بقرابها مغفرة . رواه الترمذي وقال : حديث حسن ،وحسنه الألباني
هذا حديث قدسي عظيم ..
فيه الدلالة على سعة مغفرة الله لعباده ..
يغفر ماكان ولايبالي....
يغفر للعبد ولو بلغت ذنوبه عنان السماء...
يغفر للعبد ولو أتى بقراب الأرض خطايا....
يغفر للمسرفين مادامو ا موحدين ........
مهما بلغت ذنوب العبد فرحمة الله ومغفرته أوسع ....
فلا مجال بعد هذا للقنوط من رحمته ...
عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم)رواه مسلم
تبين من الحديث ان الله يحب المغفرة والتوبة على عباده ....
فينبغي لكل من أسرف أن يقبل على ربه ..
محققاً لشروط التوبة من الندم على الماضي ندماً صادقاً، والإقلاع من الذنوب، ورفضها وتركها مستقبلاً طاعة لله وتعظيماً له، والعزم الصادق على عدم العودة للذنوب واداء الحقوق ان وجدت ،وسيجد الله غفورا رحيماً.

المراجع :
الكتاب: تفسير مجاهد
المؤلف: أبو الحجاج مجاهد بن جبر التابعي المكي القرشي المخزومي (المتوفى: 104هـ)
الكتاب: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري
المؤلف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي (المتوفى : 256ه)
الكتاب: المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
المؤلف: مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)
الكتاب: الجامع الكبير - سنن الترمذي
المؤلف: محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)
الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
الكتاب: تفسير القرآن العظيم
المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)
الكتاب: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)
الكتاب: في ظلال القرآن
المؤلف: سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (المتوفى: 1385هـ)
الكتاب :التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 20 ربيع الأول 1438هـ/19-12-2016م, 05:54 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تقويم تطبيقات الأسلوب الوعظي


أحسنتم بارك الله فيكم وفتح على قلوبكم.

التوصيات العامّة:

- ليس المقصود بظهور شخصية الكاتب وأسلوبه في الخطاب الوعظي أن تصبح الرسالة كلها إنشاء، وتخلو من الأحاديث والآثار وأقوال أهل العلم، بل القصد أن يحسن الطالب التعليق على كل ذلك بأسلوبه الخاصّ بما يكون له أحسن الأثر في نفس المتلقّي.
وتحلية الرسالة بالأحاديث والآثار وبعض النقولات النافعة لأهل العلم تعتبر مما يزيد الرسالة ثراء وفائدة، وموهبة الكاتب تظهر في كيفية توظيف هذه النقول وإحسان استثمارها في إفادة القاريء.
- وفي المقابل لا يصحّ أن تطغى النقول على الخطاب الوعظي إلى درجة غياب شخصية الكاتب وتواريه خلف هذه النقول.
- على الطالب أن يستخلص مسائل الآية موضوع الرسالة جيدا قبل البدء في كتابة الرسالة، حتى يكون الكلام في الرسالة وفق خطة واضحة.
- ونوصيكم بمقدّمة الرسالة خاصّة، لما لها من أثر في جذب انتباه القاريء أو السامع، وأثر في توجيه الكاتب نفسه كذلك.

1: هناء محمد علي أ
أحسنتِ بارك الله فيك ونفع بك.
نقاط القوة في الرسالة:
- أسلوبك الوعظي جميل مؤثّر، زادك الله من فضله ونفع بك.
- تقوية الرسالة بالأحاديث النبوية وتخريجها، والأبيات الشعرية وغيرها مما أفاد في تقوية الرسالة.
- جودة المصادر.
الملاحظات على الرسالة:
- اختصار الأصل الذي يجب أن تدور عليه الرسالة في تفسير الآية وهو أثر كعب بن مالك رضي الله عنه في كلامه على نازلة تخلفهم عن غزوة تبوك، وذلك لأنك أشرتِ إلى أجزاء من هذا الأثر على وجه الاختصار، وإذا لم يكن القاريء على علم مسبق بهذا الأثر ربما التبس عليه كثير من مسائل الرسالة، التي ما كانت لتفوت لو أفرد هذا الأثر كاملا.
ومما يظهر أهمية إيراد الأثر كاملا أنه خير ما تفسّر به الآية وفيه ما فيه من ملاحظة الهدايات والفوائد الدالّة على عظيم فضل الله تعالى وتوبته على عباده وأصل النجاة من الفتن، وتكون موهبة الكاتب في هذا الموضع التعليق على الأثر والربط بينه وبين الآية، والأخذ بيد المتلقّي للتعرّف على الهدايات العظيمة التي دلّت عليها هذه النازلة والتي فصّلتها الآية {ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا}، مستعينا في ذلك بما يعين على تحقيق هذا المقصد من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية والنقولات النافعة، أما اختصاره وقصر الرسالة على مسائل قليلة في الآية يمثّل ضعفا في الرسالة.
ولعل السبب في اختصارك للأثر هو خشية التطويل، ولكن التطويل في هذا الموضع شيّق نافع لا يملّ.
- تصحيح الآية: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت}.

التوصيات:
إضافة إلى ما نحتاجه من التوصيات العامّة، أوصيك بإفراد هذه الآية العظيمة برسالة جديدة مطوّلة، ويمكن أن تقدّم كبحث اجتياز المستوى الثالث، ولك الاختيار في ذلك بعد إتمام باقي الدروس والتطبيقات، وفقك الله ونفع بك.

2: رضوى محمود أ
أحسنتِ بارك الله فيك ونفع بك.
نقاط القوة في الرسالة:
- ظهور شخصية الكاتبة وأسلوبها في الرسالة.
- جودة المصادر.
- العناية بالنظائر، والاستدلال بالأحاديث مع تخريجها، وبأقوال السلف.
الملاحظات على الرسالة:
- افتتحي رسالتك بالآيات السابقة للآية حتى تفهم مقدّمة الرسالة ومناسبة الآية للسياق، ولا تعارض بين إيراد مجموعة من الآيات كاملة وتكون الرسالة في واحدة منها.
- توجد بعض الأخطاء الإملائية التي أثّرت على جودة العرض.
التوصيات:
- واصلي التدرّب على كتابة الرسائل الوعظية واعتني بتنمية هذه الملكة لديك من خلال الاستفادة من الرسائل المكتوبة بالأسلوب الوعظي.

3: عقيلة زيان أ+
أحسنتِ جدا بارك الله فيك ونفع بك.
مظاهر القوة في الرسالة:
- أسلوبك الوعظي جميل مؤثّر، بارك الله فيك.
- وقد روعي في رسالتك جميع معايير الخطاب الوعظي، وأحسنت توظيف النقول والربط بين عناصر الرسالة في تسلسل مؤثّر جميل، فبارك الله فيك ورزقك الإخلاص والتوفيق والقبول.
الملاحظات على الرسالة:
- ما زالت الرسائل تشكو من بعض الأخطاء الكتابية، فأوليها مزيد عناية، وفقك الله.
التوصيات:
- اعتني بتقوية هذا الأسلوب لديك، واجتهدي في إفادة الغير، فإن زكاة العلم في نشره، ونشره أعظم معينا على رسوخه وزيادته.

4: رشا نصر زيدان ب+
أحسنتِ بارك الله فيك ونفع بك.
مظاهر القوة في الرسالة:
- ظهور شخصية الكاتبة وأسلوبها.
- العناية بالنظائر والأحاديث والآثار وأقوال أهل العلم.
الملاحظات على الرسالة:
- رسالتك قيّمة في موضوعها -بارك الله فيك- لكن يلاحظ ضعف اعتمادك على التفاسير في إعداد الرسالة عموما، وهذا يضعف من جهد الطالب في إعداد الرسالة، ويجعل عمله مقتصرا على النقل المباشر.
- ضعف تناول مسألتي فضل الذكر والصلاة، والاستعانة بالنظائر في هذا الموضع مهمّة.
- عدم تخريج بعض الأحاديث، وعدم الإحالة إلى مصادر النقول.
التوصيات:
- العناية بكتب التفسير، وتوسيع مصادر الرسالة.
- بسط الكلام عن مسائل الآية خاصّة ما يتعلّق وثيقا بمقصد الرسالة، وتوجبه الكلام نحوها ترغيبا وترهيبا بما يحقّق مقصود الخطاب الوعظي ونجاحه.

5: سناء بنت عثمان ب
أحسنتِ بارك الله فيك ونفع بك.
مظاهر القوة في الرسالة:
- ظهور شخصية الكاتبة وأسلوبها في الرسالة.
الملاحظات على الرسالة:
- الرسالة متأثّرة بالأسلوب العلمي، يظهر ذلك في عرض أقوال السلف في معنى الاستقامة ومتعلّق الخوف والحزن المنفيين، رغم أن الخلاف من قبيل اختلاف التنوّع، وكان يكفي فيها أن يجمع بين هذه الأقوال بعبارة جامعة، ثم ينصرف الخطاب إلى الأهم وهو التعليق على هذه المعاني ترغيبا وترهيبا، ترغيبا فيها وبيانا لآثارها وثمراتها وما يعين عليها، وترهيبا من مغبّة تركها وسوء آثارها، وهذا هو روح الخطاب الوعظي ومقصوده، مع الانتباه إلى أهمية الاستعانة بالنظائر والأحاديث في تحقيق هذين المقصدين.
- قلّة المصادر، لأن هذا مما يؤثّر على قوة الطرح لعناصر الرسالة.
- لوحظ غياب تخريج بعض الآثار.
التوصيات:
- تجنّبي كثرة النقل في الرسائل الوعظية، وكذلك تعداد الأقوال ومناقشتها طالما يمكن الاستغناء عن ذلك، لأن هذا لا يناسب مقام الوعظ.
- التركيز في الخطاب الوعظي على محرّكات القلب الثلاثة، المحبة والخوف والرجاء، والاستعانة بكل ما من شأنه أن يقوّي ذلك الخطاب.

6: حنان علي محمود أ+
أحسنتِ جدا بارك الله فيك ونفع بك.
مظاهر القوة في الرسالة:
- رسالتك ممتازة بارك الله فيك وفتح عليك، وقد أحسنت شرح مسائل الآية وظهر أسلوبك واضحا في الرسالة، نفع الله بك.
الملاحظات على الرسالة:
- ما زال يوجد بعض الضعف في نسبة الأقوال والإحالة إلى المصادر، لكنه أخف من الأول.
- توجد بعض الأخطاء الكتابية، فنرجو العناية بمراجعة الرسالة أولا.
التوصيات:
- اجتهدي في تنمية هذا الأسلوب لديك، وفقك الله.

7: منى محمد مدني ب
أحسنتِ بارك الله فيك ونفع بك.
مظاهر القوة في الرسالة:
- ظهور شخصية الكاتبة خاصّة في أول الرسالة وآخرها.
- وفرة المصادر وتنوعها.
- الاستشهاد بالأحاديث والآثار وأقوال أهل العلم، وتخريجها ونسبتها.
الملاحظات على الرسالة:
- غلبة النقول وطولها في الرسالة، غطى كثيرا على أسلوب الكاتبة.
- فوات مسائل كثيرة من مسائل الآية.
التوصيات:
- مما أفاد -إن شاء الله- تكرّر موضوع الرسالة مع الفاضلة عقيلة زيّان، وأحيلك على رسالتها، وأرجو أنه من خلال قراءة ملاحظات التقويم ككل أن يتبيّن لك قصدي من وصف رسالتها بالرسالة التفسيرية المكتوبة بالأسلوب الوعظي، فهي -بارك الله فيها- فسّرت الآية تفسيرا بيّنا شاملا لمسائلها وأحسنت التعليق والتعقيب على كل مسألة بأسلوب مؤثّر في النفوس ترغيبا وترهيبا.
والغرض الاقتصاد في النقل، واستيفاء الكلام على مسائل الآية وعدم الاقتصار على واحدة منها فقط، لأن كل مسألة فيها داخلة في بيان سعة رحمة الله تعالى وفضله.



{رب اشرح لي صدري . ويسّر لي أمري . واحلل عقدة من لساني . يفقهوا قولي}


رد مع اقتباس
  #10  
قديم 21 ربيع الأول 1438هـ/20-12-2016م, 07:22 AM
رشا نصر زيدان رشا نصر زيدان غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الخامس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
الدولة: الدوحة قطر
المشاركات: 359
افتراضي شكر

"من لم يشكر الناس لم يشكر الله"
جزاكم الله عنا كل خير على هذه الفرصة التي أعطيتومونا إياها و جعلها في ميزان حسناتكم،نحن بفضل الله في نعمة ؛ أنه يوجد من يصوب أخطائنا و يوجهنا الحمد لله.
و خالص الشكر للشيخ عبد العزيز الداخل على فريقه الرائع جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل و نفع الله بك.
ثم شكر خاص للأخت الغالية أمل التي لا تتناوى عن نصيحتنا حرصاً منها علينا، فتح الله عليك من فضله و جعلك و ذريتك يا رب ممن يعملون في خدمة الإسلام.
الحمد لله الذي منّ علينا من فضله ،اللهم لا تحرمنا هذا الفضل بذنوبنا أو تقصيرنا.

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 22 ربيع الأول 1438هـ/21-12-2016م, 02:37 AM
ندى علي ندى علي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السادس
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 313
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم


رسالة في قول الله تعالى

( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) ) يونس


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد :

فهذه رسالة في قول الله تعالى ( ألا إن أولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون – الذين آمنوا وكانوا يتقون – لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم )
وجدير بالعبد أن يرعي سمعه ويجمع قلبه لفهم هذه الآيات وتدبرها ؛ إذ أن الله افتتحها بأداة التنبيه ألا الدالة على أهمية ما بعدها ورفعة شأنه وجليل قدره , ولذلك عقبّها بإن المؤكدة.
ثم أخبر تعالى أنه كتب لأوليائه أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون , ونفى الخوف بلا الدالة على نفي الجنس , والمراد أنه لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من المخاوف والعذاب والأهوال يوم القيامة ؛ لأن الله يؤمنهم ويسلمهم , وكذلك لا يخافون شيئا من أمر الدنيا ؛ لقوة يقينهم بالله وتوكلهم عليه واستعانتهم به , فهم أنفسهم إذا ما خافوا أمنّ الله قلوبهم من الفزع ونصرهم على عدوهم .
وقد أشار ابن عاشور- رحمه الله - إلى معنى لطيف وهو أن من حولهم أيضا ومن قرُب منهم , وعلم حقيقة ما هم عليه من خير وصلاح لم يخف عليهم من أن يصيبهم مكروه , فحالهم حال من لا ينبغي الخوف عليه .
ولا ريب في ذلك ؛ فإن الله يدافع عن أوليائه ويعادي من يعاديهم , كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته"
وتبين لك بهذا الحديث سعة كرم الله ولطفه بأوليائه وعنايته بهم ,وتيسيره لأمورهم , وصرف الشرور عنهم ونصرته لهم , ومن مزيد فضل الله عليهم أن نفى الحزن عنهم على ما فاتهم من الدنيا من منازلها وأموالها , وعلى ما خلفوا وراءهم من ذرية وعلى كل ما يُحزن لفواته من نعيم الدنيا , وإذا نفى الله عنهم الخوف والحزن , فمفهومه أن أولياء الله في أمن وسعادة .
ثم قد يشكل على أحدهم فيقول قائل: فكيف أُثبت الحزن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أولى الخلق بالولاية في الحديث المخرج في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم (وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) ؟
والجواب عنه كما قال ابن عاشور في تفسيره "أن ذَلِكَ حُزْنٌ وِجْدَانِيٌّ لَا يَسْتَقِرُّ بَلْ يَزُولُ بِالصَّبْرِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمُ الْحُزْنُ الدَّائِمُ وَهُوَ حَزْنُ الْمَذَلَّةِ وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَزَوَالِ دَيْنِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ "

وإذا تبينّ لك هذا الفضل العظيم والخير الجزيل مما أعد الله لأوليائه الصالحين حملتك نفسك إلى معرفة من هم أولياء الله وما هي صفتهم , فالولاية في اللغة من النصرة وتدل على القرب , وإذا تأملت الآيات وجدت أن الله وصفهم بأنهم ( الذين ءامنوا وكانوا يتقون ) وهذا خير الأوصاف وأشملها وخير ما تفسر به الولاية إذ أن كل عمل صالح يرجى له القبول دائر بين الإيمان وتقوى الله , فبينّ سبحانه أنّ أولياءه هم الذين صدّقوا بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره , وحققّوا التقوى فجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمرهم به واجتناب ما نهاهم عنه , فكان جزاؤهم من جنس عملهم فهم لمّا اتقوا الله وجاهدوا أنفسهم خوفا من عذاب الله آمنهم الله من الخوف , ولمّا تولوا الله بالطاعة تولاهم الله بالكرامة .
ولا تظن أن ثوابهم مقتصر على عدم الخوف والحزن , بل هذا بعض ما أخبر الله به مما أعد لأوليائه, وما أخفى لهم يوم القيامة أعظم وأكبر , ولكن من رحمته بعباده وعلمه بحقيقة الأنفس البشرية رغبّها سبحانه بما تحب وزاد في الترغيب بأن أخبر أنّ (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) فلهم في الحياة الدنيا بشارة بالرؤيا الصالحة التي يرونها أو تُرى لهم , ولهم بشارة من الملائكة برحمة الله عند نزع أرواحهم , ولهم بشارة بوعد الله لهم بالثواب في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى :(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) سورة البقرة , ولهم بشارة بالثناء الحسن , وبشارة بلطف الله وتيسيره وعنايته بهم وصرفهم عن المساوئ كما أشار إلى ذلك الطبري – رحمه الله - , وأما بشارتهم في الآخرة فهي الجنة وهذا الوعد من الله عز وجل و (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) فإن وعده سبحانه لا يُخلف , و خبره لا ينسخ , وأمره لا يرد , وكفى به شرفا وفضلا , فهو كما قال ربنا (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فأي فوز وفلاح وظفر بعد هذا الفوز ؟

فهنيئا لمن سعى لمثل هذا الفضل وجاهد نفسه لبلوغ تلك الغاية , فنال شرف الولاية نسأل الله من فضله وواسع رحمته


وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين .



المراجع :
جامع البيان في تأويل القرآن للطبري ت (310)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج ت ( 311هـ)
النكت والعيون للماوردي ت (450هـ)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية ت (542هـ)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير ت (774هـ)
التحرير والتنوير لابن عاشور ت (1393هـ)

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 22 ربيع الأول 1438هـ/21-12-2016م, 03:17 AM
ندى علي ندى علي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السادس
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 313
افتراضي

أسقطت سهوا من المراجع تفسير السعدي ت 1376

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 23 ربيع الأول 1438هـ/22-12-2016م, 03:55 AM
مريم أحمد أحمد حجازي مريم أحمد أحمد حجازي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2014
المشاركات: 308
افتراضي

*بسم الله الرحمن الرحيم *
قال تعالى : } بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيْرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقَى معاذيره { ] القيامة:11[
إن الحمد لله، نحمده و نستعينه ،ونستغفره ،ونستهديه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا، و من سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له . و أشهد أن محمدًا عبده و رسوله .....................أما بعد :
لنسمع و نتأمل قول الله جلّ و علا في هذه الآية الكريمة ‘ التي تتضمن مع قلة الكلمات المذكورة فيها معانٍ عظيمة ؛ قال تعالى : } بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَو أَلقَى مَعَاذِيرَهُ {
الإنسان على نفسه بصيرة ، كل إنسان منا على نفسه بصيرة ، ليس هذا فحسب بل قال بعدها
و لو ألقى معاذيره . سنذكر بمشيئة الله :
*ما المراد بالبصيرة ؟ كيف يكون الإنسان على نفسه بصرة ؟ ما المراد بالمعاذير ؟
مع ما ييسره الله من المعاني المندرجة تحت هذه النقاط
أولاً : ذكر أهل العلم في المراد ( بالبصيرة ) عدة أقوال :
- سمعه و بصره و يداه و رجلاه و جوارحه ، رواه الطبري و غيره عن ابن عباس
وقال ابن قتيبة : فلما كانت جوارحه منه أقامها مقامه . فالمعنى : جوارحه تشهد عليه بما عمل ، كما قال تعالى : } يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون { - أن يكون (بصيرةٌ) بمعنى : مبصر شديد المراقبة ؛ أي : الإنسان شاهد على نفسه وحده بعمله عدي بحرف (على) لتضمنه معنى المراقبة ، و هو معنى قوله تعالى : } اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا { و هاء (بصيرة ) للمبالغة مثل هاء : علامة ،و نسابة أي :الإنسان عليمٌ بصيرٌ قويُّ العلم بنفسه يومئذ . رواه الطبري عن ابن عباس و ابن زيد و قتادة و غيرهم وروى الشوكاني عن الأخفش قال : جعله هو البصيرة كما تقول للرجل : أنت حجة على نفسك . و ما أجمل ما ذكره القاسمي في محاسن التأويل عن القاشاني : ( بصيرةٌ) حجّة بينة ، يشهد بعمله ، لبقاء هيئات أعماله المكتوبة في نفسه ، و رسوخها في ذاته ، فلا حاجة أن ينبأ من خارج . و جعل الحجة بصيرة لأن صاحبها يبصرها .أي كما قال الحسن : بصير بعيوب نفسه . -و قيل : الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير و شر , رواه ابن عطية عن ابن عباس و ذكره الشوكاني في تفسيره .
و نلاحظ أن المراد بالبصيرة يحتمل جميع المعاني المذكورة :
إن هذه الآية جاءت في سياق الكلام عن وصف يوم القيامة ، هذا اليوم العظيم الذي سيحاسب الله تعالى فيه عباده لتمام حكمته و عدله و رحمته و قدرته ، فلو تأمل من ينكر البعث و الجزاء قليلاً بعقله لعلم أن هذا اليوم حق ، و أن هذا الكون البديع في خلقه و صنعته بما اشتمل من المخلوقات الكثيرة المبهرة ؛ لم يكن ليوجد عبثًا بدون حكمة أو غاية ، يظلم الظالم و يقتل القاتل و يسرق السارق ثم يموتون و يموت المظلومون المقهورون ؛ و لا حساب و لا جزاء. و الله إن العقول لتأبى ذلك و ترده و لا ينكره إلا جاحد مكابر معاند للحق .إذًن : إذا علمنا يقينًا أنّا مبعوثون محاسبون على أعمالنا و أقوالنا ، بل في هذا اليوم سيكون علينا بصائر من أنفسنا تشهد علينا ، من أنفسنا قبل أي شئ آخر ؛ جوارحنا ، جلودنا ،فتأمل قوله تعالى في سورة فصلت : } حتّى إذَا ما جآءُوها شَهدَ عَلَيهِمْ سَمْعُهُمْ و أبْصَارُهُمْ و جُلُودُهُمْ بِما كانوا يَعمَلُونَ *و قَالوا لِجُلُدِهمْ لِمَ شَهِدتُّم عَلَيْنَا قَالوا أنْطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنْطَقَ كُلَّ شيءٍ و هُوَ خَلَقَكُم أوَّلَ مَرَّةٍ و إلَيْهِ تُرْجَعُونَ { فالله تعالى يختم على الأفواه عندما ينكر الإنسان عمله بل و يحلف على ذلك و يطلب شاهد فيختم الله على أفواههم و ينطق عزّ و جلّ يده التي بطش بها ، و رجله التي مشى بها ، ينطق جلده ، فلا يستطيع بعدها أن يتكلم أو يكذّب ، فيقول كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم : عنكن كنت أناضل ، فتأمل قوله تعالى في تتمة الآيات السابقة : } وَ مَا كُنْتُم تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُم سَمْعُكُمْ ولآ أَبْصَارُكُم و لاَ جُلُودُكُمْ و لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ{
(ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) إن الله عزّ و جلّ عدلٌ سبحانه ، ما عذّب الكافرين إلا لاستحقاقهم العذاب ، طلبوا شهودًا و نسوا أن الله العظيم كامل الصفات الذي يعلم السرّ و أخفى ، الذي يتساوى في علمه الخفي و الجلي سبحانه ، أنه رآهم و سمعهم و علم ما في سرائرهم و جميع أحوالهم ، و أنّه كفى به شهيدًا سبحانه و تعالى . نسوا بل تناسوا أنهم هم يعلمون في داخل أنفسهم حقّ العلم عندما يكذبون و يحلفون أنهم ما فعلوا و ما فعلوا.... أنهم كاذبون
فتأمل يا رعاك الله كيف يخبرنا تعالى و يحذرنا مما سيكون يوم القيامة حتى نتذكر و نحيي القلوب بآياته العظيمة فنستشعر مراقبة الله تعالى و أنه يرانا و يعلم جميع أحوالنا و أنّا ميتون و مبعوثون ليوم نحاسب فيه و يكون هذا المشهد الذي ذكر حقيقة ، و هي قريبة قادمة ....... فعلينا التبصر بما يصلح دنيانا و آخرتنا و تسخير ما رزقنا الله من أجسادنا و أرواحنا و كل طاقاتنا وأملاكنا لما خلقنا لأجله ألا و هو طاعة الله عزّ و جلّ . إن ما سبق في التعامل مع أنفسنا لتكون لنا بصيرة شاهدة لنا لا علينا يوم لا ينفع مال و لا بنون و وليّ و لا حميم
*و لنا فائدة و وقفة أخرى في هذه الآية و هي : قول قتادة في تفسير هذه الآية فيما رواه الطبري
قال : إذا شئت – والله- رأيته بصيرًا بعيوب الناس و ذنوبهم غافلاً عن ذنوبه ، و كان يقال : إن في الإنجيل مكتوبًا : يا ابن آدم ،تبصر القذاة في عين أخيك، و تترك الجِذل في عينك لا تبصره .و الجذل : الجذع
و هذه في التعامل مع الغير ، فياله من معنى رائع و مفيد لمن تأمله : بصيرًا بعيوب الناس و غافل عن عيوبه" فكم يحدث هذا الخلق الذميم من مساوئ في المجتمع الإسلامي ؛ من تفرقة ،و بغض يحصل بين الناس بسبب: تتبع عيوبهم و مساوئهم و الكلام عليهم و قد يصل إلى الاستهزاء بهم والكثير من التبعات السيئة لهذا الفعل ، وخاصة في زماننا مع كثرة وسائل الاتصالات الحديثة . و الحقيقة أنّ علينا أن نعكس ذلك فيكون : أن نبصر عيوبنا و نغفل عن عيوب غيرنا ؛ هذه الحقيقة و هذا ما أمرنا الله به ، فلو كلّ إنسان فعل ذلك اشتغل على نفسه يصلحا لكنا مجتمعًا صالحًا و متحابًا مترابطًا . و كم يوجد في السيرة و عن السلف ما يحمل الكثير من هذه المعاني التي لا يتسع المقام لذكرها ، فعلينا تدبر هذا و العمل به جاهدين سائلين الله التوفيق و السداد و الرشاد .
ننتقل الآن إلى الآية التالية و الكلام عن المراد بالمعاذير :
إن الإنسان عليه بصيرة على أفعاله فلن تقبل معاذيره و قيل في المعاذير أقوال :
الأول : الأعذار ، جمع عذر ؛ أي : و لو اعتذر و جادل عن نفسه بالقول مما قد أتى من المآثم ، و ركب من المعاصي ، و جادل بالباطل فعليه من يكذب عذره و لن ينفعه ذلك و هو قول أكثر السلف مثل : مجاهد و قتادة و سعيد ابن جبير و ابن زيد و أبو العالية و مقاتل وغيرهم و عليه أكثر المفسرين و هو اختيار الطبري و ابن كثير
و مثله قوله تعالى : }يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم { و قوله : } و لا يؤذن لهم فيعتذرون {و قول الشاعر : فما حسن أن يعذر المرء نفسه و ليس له من سائر الناس عاذر
الثاني : المعاذير جمع معذار ، و هو الستر ، و المعاذير الستور ، و الستر بلغة اليمن يقال له : معذار قاله الضحاك و السدي فيما رواه الطبري ، أي : و لو أرخى الستور و غلّق الأبواب . فيخرج في معنى (ألقى) قولان : 1-قال ، و منه : } فألقوا إيهم القول{ على القول الأول
2- أرخى ، على القول الثاني
قال الطبري أولى الأقوال معناه : و لو اعتذر لأن ذلك أشبه المعاني بظاهر التنزيل .
فإن الإنسان لو جادل عن نفسه يوم القيامة و اعتذر بغير الحق ، فشهادة نفسه عليه أحق من اعتذاره بالباطل . قال القاسمي في محاسن التأويل : فيه إشارة إلى أن ما عليه المشركون من الشرك و عبادة الأوثان و إنكار البعث منكر باطل ، تنكره قلوبهم ، و أنهم في دفاعهم يجادلون بالباطل ، و لا غرو أن ينكر القلب ما تدفعه الفطرة السليمة ، و الدين دين الفطرة . الكافر يعلم يومئذٍ أعماله التي استحق العقاب عليها ، و يحاول أن يعتذر و هو يعلم أن لا عذر له و لو أفصح عن جميع معاذيره .
من فائد هذه الآية العظيمة :
*اسعى في تفتيش عيوبك و التخلص منها على قدر طاقتك ‘ فإن هذا من جهاد النفس المحمود و لا تركن إلى عيوبك أو أخطائك بأن يزينها الشيطان لك بحجة أنك نشأت عليها ، أو اعتدت عليها ، فلا أحد من الناس أعرف منك بنفسك و ما فيها من العيوب .
* عليك أن تدرك حقيقة أنه لا أحد يعرفك أكثر من نفسك ؛ فإن مدحك المادحون و أثنى عليك المثنون ، فهل ستجد في نفسك شيئًا من المسّرة و ليس فيك ما مدحت به ؟ أم أنك لن تغتر بمدحهم بما ليس فيك؟ و هل يا ترى إن ذمك أحدهم أو انتقصك و لو شيئًا يسيرًا ،فهل ستجد في نفسك ضيق و حزن؟ إن من عرف نفسه لم يغتر بمدح ، و لن يتضرر بذم .*ومن أعظم الفوائد اعتراف العبد بالذنب و الخطأ فإنه مقام الأنبياء و الصديقين و الصالحين فمن اعترف بذنبه تاب منه و تركه و لم يستكبر . # و ختامًا : اجعل لنفسك بصيرة في الدنيا تهديك و ترشدك إلى الصراط المستقيم الذي يحبه الله تعالى و رسوله الموصل لرضى الله و جنات النعيم . نسأل الله سبحانه التوفيق و الهداية و البصيرة في الخير كله .
هذا و الله أعلم و الصلاة و السلام على نبينا محمد
**المراجع :
*جامع البيان في تأويل القرآن للطبري ت(310 هـ)
*المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية ت(542هـ)
*التحرير و التنوير لابن عاشور ت ( هـ13903)
*معاني القرآن و إعجازه للزجاج ت (311 هـ)
*تفسير القرآن العظيم لابن كثير ت(774 هـ)
*فتح القدير للشوكاني ت (1250هـ)
*فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق بن حسن القنوجي البخاري
*زاد المسير لابن الجوزي
*محاسن التأويل للقاسمي ت (1332هـ)
*موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (المجلد الرابع)
*أضواء البيان للشنقيطي
*تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن السعدي
*التفسير الموضوعي
*الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي ت(756هـ)

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 24 ربيع الأول 1438هـ/23-12-2016م, 08:03 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ندى علي مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم


رسالة في قول الله تعالى

( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) ) يونس


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد :

فهذه رسالة في قول الله تعالى ( ألا إن أولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون – الذين آمنوا وكانوا يتقون – لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم )
وجدير بالعبد أن يرعي سمعه ويجمع قلبه لفهم هذه الآيات وتدبرها ؛ إذ أن الله افتتحها بأداة التنبيه ألا الدالة على أهمية ما بعدها ورفعة شأنه وجليل قدره , ولذلك عقبّها بإن المؤكدة.
ثم أخبر تعالى أنه كتب لأوليائه أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون , ونفى الخوف بلا الدالة على نفي الجنس , والمراد أنه لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من المخاوف والعذاب والأهوال يوم القيامة ؛ لأن الله يؤمنهم ويسلمهم , وكذلك لا يخافون شيئا من أمر الدنيا ؛ لقوة يقينهم بالله وتوكلهم عليه واستعانتهم به , فهم أنفسهم إذا ما خافوا أمنّ الله قلوبهم من الفزع ونصرهم على عدوهم .
وقد أشار ابن عاشور- رحمه الله - إلى معنى لطيف وهو أن من حولهم أيضا ومن قرُب منهم , وعلم حقيقة ما هم عليه من خير وصلاح لم يخف عليهم من أن يصيبهم مكروه , فحالهم حال من لا ينبغي الخوف عليه .
ولا ريب في ذلك ؛ فإن الله يدافع عن أوليائه ويعادي من يعاديهم , كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته"
وتبين لك بهذا الحديث سعة كرم الله ولطفه بأوليائه وعنايته بهم ,وتيسيره لأمورهم , وصرف الشرور عنهم ونصرته لهم , ومن مزيد فضل الله عليهم أن نفى الحزن عنهم على ما فاتهم من الدنيا من منازلها وأموالها , وعلى ما خلفوا وراءهم من ذرية وعلى كل ما يُحزن لفواته من نعيم الدنيا , وإذا نفى الله عنهم الخوف والحزن , فمفهومه أن أولياء الله في أمن وسعادة .
ثم قد يشكل على أحدهم فيقول قائل: فكيف أُثبت الحزن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أولى الخلق بالولاية في الحديث المخرج في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم (وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) ؟
والجواب عنه كما قال ابن عاشور في تفسيره "أن ذَلِكَ حُزْنٌ وِجْدَانِيٌّ لَا يَسْتَقِرُّ بَلْ يَزُولُ بِالصَّبْرِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمُ الْحُزْنُ الدَّائِمُ وَهُوَ حَزْنُ الْمَذَلَّةِ وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَزَوَالِ دَيْنِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ "

وإذا تبينّ لك هذا الفضل العظيم والخير الجزيل مما أعد الله لأوليائه الصالحين حملتك نفسك إلى معرفة من هم أولياء الله وما هي صفتهم , فالولاية في اللغة من النصرة وتدل على القرب , وإذا تأملت الآيات وجدت أن الله وصفهم بأنهم ( الذين ءامنوا وكانوا يتقون ) وهذا خير الأوصاف وأشملها وخير ما تفسر به الولاية إذ أن كل عمل صالح يرجى له القبول دائر بين الإيمان وتقوى الله , فبينّ سبحانه أنّ أولياءه هم الذين صدّقوا بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره , وحققّوا التقوى فجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمرهم به واجتناب ما نهاهم عنه , فكان جزاؤهم من جنس عملهم فهم لمّا اتقوا الله وجاهدوا أنفسهم خوفا من عذاب الله آمنهم الله من الخوف , ولمّا تولوا الله بالطاعة تولاهم الله بالكرامة .
ولا تظن أن ثوابهم مقتصر على عدم الخوف والحزن , بل هذا بعض ما أخبر الله به مما أعد لأوليائه, وما أخفى لهم يوم القيامة أعظم وأكبر , ولكن من رحمته بعباده وعلمه بحقيقة الأنفس البشرية رغبّها سبحانه بما تحب وزاد في الترغيب بأن أخبر أنّ (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) فلهم في الحياة الدنيا بشارة بالرؤيا الصالحة التي يرونها أو تُرى لهم , ولهم بشارة من الملائكة برحمة الله عند نزع أرواحهم , ولهم بشارة بوعد الله لهم بالثواب في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى :(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) سورة البقرة , ولهم بشارة بالثناء الحسن , وبشارة بلطف الله وتيسيره وعنايته بهم وصرفهم عن المساوئ كما أشار إلى ذلك الطبري – رحمه الله - , وأما بشارتهم في الآخرة فهي الجنة وهذا الوعد من الله عز وجل و (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) فإن وعده سبحانه لا يُخلف , و خبره لا ينسخ , وأمره لا يرد , وكفى به شرفا وفضلا , فهو كما قال ربنا (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فأي فوز وفلاح وظفر بعد هذا الفوز ؟

فهنيئا لمن سعى لمثل هذا الفضل وجاهد نفسه لبلوغ تلك الغاية , فنال شرف الولاية نسأل الله من فضله وواسع رحمته


وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين .



المراجع :
جامع البيان في تأويل القرآن للطبري ت (310)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج ت ( 311هـ)
النكت والعيون للماوردي ت (450هـ)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية ت (542هـ)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير ت (774هـ)
التحرير والتنوير لابن عاشور ت (1393هـ)
ما شاء الله، ممتازة يا ندى بارك الله فيك وزادك إحسانا وتوفيقا.
اجتهدي في الحفاظ على هذا التميّز..
التقويم: أ+
سدّدك الله.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 24 ربيع الأول 1438هـ/23-12-2016م, 09:00 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مريم أحمد أحمد حجازي مشاهدة المشاركة
*بسم الله الرحمن الرحيم *
قال تعالى : } بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيْرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقَى معاذيره { ] القيامة:11[
إن الحمد لله، نحمده و نستعينه ،ونستغفره ،ونستهديه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا، و من سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له . و أشهد أن محمدًا عبده و رسوله .....................أما بعد :
لنسمع و نتأمل قول الله جلّ و علا في هذه الآية الكريمة ‘ التي تتضمن مع قلة الكلمات المذكورة فيها معانٍ عظيمة ؛ قال تعالى : } بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَو أَلقَى مَعَاذِيرَهُ {
الإنسان على نفسه بصيرة ، كل إنسان منا على نفسه بصيرة ، ليس هذا فحسب بل قال بعدها
و لو ألقى معاذيره . سنذكر بمشيئة الله :
*ما المراد بالبصيرة ؟ كيف يكون الإنسان على نفسه بصرة ؟ ما المراد بالمعاذير ؟
مع ما ييسره الله من المعاني المندرجة تحت هذه النقاط
أولاً : ذكر أهل العلم في المراد ( بالبصيرة ) عدة أقوال :
- سمعه و بصره و يداه و رجلاه و جوارحه ، رواه الطبري و غيره عن ابن عباس
وقال ابن قتيبة : فلما كانت جوارحه منه أقامها مقامه . فالمعنى : جوارحه تشهد عليه بما عمل ، كما قال تعالى : } يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون { - أن يكون (بصيرةٌ) بمعنى : مبصر شديد المراقبة ؛ أي : الإنسان شاهد على نفسه وحده بعمله عدي بحرف (على) لتضمنه معنى المراقبة ، و هو معنى قوله تعالى : } اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا { و هاء (بصيرة ) للمبالغة مثل هاء : علامة ،و نسابة أي :الإنسان عليمٌ بصيرٌ قويُّ العلم بنفسه يومئذ . رواه الطبري عن ابن عباس و ابن زيد و قتادة و غيرهم وروى الشوكاني عن الأخفش قال : جعله هو البصيرة كما تقول للرجل : أنت حجة على نفسك . و ما أجمل ما ذكره القاسمي في محاسن التأويل عن القاشاني : ( بصيرةٌ) حجّة بينة ، يشهد بعمله ، لبقاء هيئات أعماله المكتوبة في نفسه ، و رسوخها في ذاته ، فلا حاجة أن ينبأ من خارج . و جعل الحجة بصيرة لأن صاحبها يبصرها .أي كما قال الحسن : بصير بعيوب نفسه . -و قيل : الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير و شر , رواه ابن عطية عن ابن عباس و ذكره الشوكاني في تفسيره .
و نلاحظ أن المراد بالبصيرة يحتمل جميع المعاني المذكورة :
إن هذه الآية جاءت في سياق الكلام عن وصف يوم القيامة ، هذا اليوم العظيم الذي سيحاسب الله تعالى فيه عباده لتمام حكمته و عدله و رحمته و قدرته ، فلو تأمل من ينكر البعث و الجزاء قليلاً بعقله لعلم أن هذا اليوم حق ، و أن هذا الكون البديع في خلقه و صنعته بما اشتمل من المخلوقات الكثيرة المبهرة ؛ لم يكن ليوجد عبثًا بدون حكمة أو غاية ، يظلم الظالم و يقتل القاتل و يسرق السارق ثم يموتون و يموت المظلومون المقهورون ؛ و لا حساب و لا جزاء. و الله إن العقول لتأبى ذلك و ترده و لا ينكره إلا جاحد مكابر معاند للحق .إذًن : إذا علمنا يقينًا أنّا مبعوثون محاسبون على أعمالنا و أقوالنا ، بل في هذا اليوم سيكون علينا بصائر من أنفسنا تشهد علينا ، من أنفسنا قبل أي شئ آخر ؛ جوارحنا ، جلودنا ،فتأمل قوله تعالى في سورة فصلت : } حتّى إذَا ما جآءُوها شَهدَ عَلَيهِمْ سَمْعُهُمْ و أبْصَارُهُمْ و جُلُودُهُمْ بِما كانوا يَعمَلُونَ *و قَالوا لِجُلُودِهمْ لِمَ شَهِدتُّم عَلَيْنَا قَالوا أنْطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنْطَقَ كُلَّ شيءٍ و هُوَ خَلَقَكُم أوَّلَ مَرَّةٍ و إلَيْهِ تُرْجَعُونَ { فالله تعالى يختم على الأفواه عندما ينكر الإنسان عمله بل و يحلف على ذلك و يطلب شاهد فيختم الله على أفواههم و ينطق عزّ و جلّ يده التي بطش بها ، و رجله التي مشى بها ، ينطق جلده ، فلا يستطيع بعدها أن يتكلم أو يكذّب ، فيقول كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم : عنكن كنت أناضل ، فتأمل قوله تعالى في تتمة الآيات السابقة : } وَ مَا كُنْتُم تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُم سَمْعُكُمْ ولآ أَبْصَارُكُم و لاَ جُلُودُكُمْ و لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ{
(ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) إن الله عزّ و جلّ عدلٌ سبحانه ، ما عذّب الكافرين إلا لاستحقاقهم العذاب ، طلبوا شهودًا و نسوا أن الله العظيم كامل الصفات الذي يعلم السرّ و أخفى ، الذي يتساوى في علمه الخفي و الجلي سبحانه ، أنه رآهم و سمعهم و علم ما في سرائرهم و جميع أحوالهم ، و أنّه كفى به شهيدًا سبحانه و تعالى . نسوا بل تناسوا أنهم هم يعلمون في داخل أنفسهم حقّ العلم عندما يكذبون و يحلفون أنهم ما فعلوا و ما فعلوا.... أنهم كاذبون
فتأمل يا رعاك الله كيف يخبرنا تعالى و يحذرنا مما سيكون يوم القيامة حتى نتذكر و نحيي القلوب بآياته العظيمة فنستشعر مراقبة الله تعالى و أنه يرانا و يعلم جميع أحوالنا و أنّا ميتون و مبعوثون ليوم نحاسب فيه و يكون هذا المشهد الذي ذكر حقيقة ، و هي قريبة قادمة ....... فعلينا التبصر بما يصلح دنيانا و آخرتنا و تسخير ما رزقنا الله من أجسادنا و أرواحنا و كل طاقاتنا وأملاكنا لما خلقنا لأجله ألا و هو طاعة الله عزّ و جلّ . إن ما سبق في التعامل مع أنفسنا لتكون لنا بصيرة شاهدة لنا لا علينا يوم لا ينفع مال و لا بنون و وليّ و لا حميم
*و لنا فائدة و وقفة أخرى في هذه الآية و هي : قول قتادة في تفسير هذه الآية فيما رواه الطبري
قال : إذا شئت – والله- رأيته بصيرًا بعيوب الناس و ذنوبهم غافلاً عن ذنوبه ، و كان يقال : إن في الإنجيل مكتوبًا : يا ابن آدم ،تبصر القذاة في عين أخيك، و تترك الجِذل في عينك لا تبصره .و الجذل : الجذع
و هذه في التعامل مع الغير ، فياله من معنى رائع و مفيد لمن تأمله : بصيرًا بعيوب الناس و غافل عن عيوبه" فكم يحدث هذا الخلق الذميم من مساوئ في المجتمع الإسلامي ؛ من تفرقة ،و بغض يحصل بين الناس بسبب: تتبع عيوبهم و مساوئهم و الكلام عليهم و قد يصل إلى الاستهزاء بهم والكثير من التبعات السيئة لهذا الفعل ، وخاصة في زماننا مع كثرة وسائل الاتصالات الحديثة . و الحقيقة أنّ علينا أن نعكس ذلك فيكون : أن نبصر عيوبنا و نغفل عن عيوب غيرنا ؛ هذه الحقيقة و هذا ما أمرنا الله به ، فلو كلّ إنسان فعل ذلك اشتغل على نفسه يصلحا لكنا مجتمعًا صالحًا و متحابًا مترابطًا . و كم يوجد في السيرة و عن السلف ما يحمل الكثير من هذه المعاني التي لا يتسع المقام لذكرها ، فعلينا تدبر هذا و العمل به جاهدين سائلين الله التوفيق و السداد و الرشاد .
ننتقل الآن إلى الآية التالية و الكلام عن المراد بالمعاذير :
إن الإنسان عليه بصيرة على أفعاله فلن تقبل معاذيره و قيل في المعاذير أقوال :
الأول : الأعذار ، جمع عذر ؛ أي : و لو اعتذر و جادل عن نفسه بالقول مما قد أتى من المآثم ، و ركب من المعاصي ، و جادل بالباطل فعليه من يكذب عذره و لن ينفعه ذلك و هو قول أكثر السلف مثل : مجاهد و قتادة و سعيد ابن جبير و ابن زيد و أبو العالية و مقاتل وغيرهم و عليه أكثر المفسرين و هو اختيار الطبري و ابن كثير
و مثله قوله تعالى : }يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم { و قوله : } و لا يؤذن لهم فيعتذرون {و قول الشاعر : فما حسن أن يعذر المرء نفسه و ليس له من سائر الناس عاذر
الثاني : المعاذير جمع معذار ، و هو الستر ، و المعاذير الستور ، و الستر بلغة اليمن يقال له : معذار قاله الضحاك و السدي فيما رواه الطبري ، أي : و لو أرخى الستور و غلّق الأبواب . فيخرج في معنى (ألقى) قولان : 1-قال ، و منه : } فألقوا إيهم القول{ على القول الأول
2- أرخى ، على القول الثاني
قال الطبري أولى الأقوال معناه : و لو اعتذر لأن ذلك أشبه المعاني بظاهر التنزيل .
فإن الإنسان لو جادل عن نفسه يوم القيامة و اعتذر بغير الحق ، فشهادة نفسه عليه أحق من اعتذاره بالباطل . قال القاسمي في محاسن التأويل : فيه إشارة إلى أن ما عليه المشركون من الشرك و عبادة الأوثان و إنكار البعث منكر باطل ، تنكره قلوبهم ، و أنهم في دفاعهم يجادلون بالباطل ، و لا غرو أن ينكر القلب ما تدفعه الفطرة السليمة ، و الدين دين الفطرة . الكافر يعلم يومئذٍ أعماله التي استحق العقاب عليها ، و يحاول أن يعتذر و هو يعلم أن لا عذر له و لو أفصح عن جميع معاذيره .
من فائد هذه الآية العظيمة :
*اسعى في تفتيش عيوبك و التخلص منها على قدر طاقتك ‘ فإن هذا من جهاد النفس المحمود و لا تركن إلى عيوبك أو أخطائك بأن يزينها الشيطان لك بحجة أنك نشأت عليها ، أو اعتدت عليها ، فلا أحد من الناس أعرف منك بنفسك و ما فيها من العيوب .
* عليك أن تدرك حقيقة أنه لا أحد يعرفك أكثر من نفسك ؛ فإن مدحك المادحون و أثنى عليك المثنون ، فهل ستجد في نفسك شيئًا من المسّرة و ليس فيك ما مدحت به ؟ أم أنك لن تغتر بمدحهم بما ليس فيك؟ و هل يا ترى إن ذمك أحدهم أو انتقصك و لو شيئًا يسيرًا ،فهل ستجد في نفسك ضيق و حزن؟ إن من عرف نفسه لم يغتر بمدح ، و لن يتضرر بذم .*ومن أعظم الفوائد اعتراف العبد بالذنب و الخطأ فإنه مقام الأنبياء و الصديقين و الصالحين فمن اعترف بذنبه تاب منه و تركه و لم يستكبر . # و ختامًا : اجعل لنفسك بصيرة في الدنيا تهديك و ترشدك إلى الصراط المستقيم الذي يحبه الله تعالى و رسوله الموصل لرضى الله و جنات النعيم . نسأل الله سبحانه التوفيق و الهداية و البصيرة في الخير كله .
هذا و الله أعلم و الصلاة و السلام على نبينا محمد
**المراجع :
*جامع البيان في تأويل القرآن للطبري ت(310 هـ)
*المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية ت(542هـ)
*التحرير و التنوير لابن عاشور ت ( هـ13903)
*معاني القرآن و إعجازه للزجاج ت (311 هـ)
*تفسير القرآن العظيم لابن كثير ت(774 هـ)
*فتح القدير للشوكاني ت (1250هـ)
*فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق بن حسن القنوجي البخاري
*زاد المسير لابن الجوزي
*محاسن التأويل للقاسمي ت (1332هـ)
*موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (المجلد الرابع)
*أضواء البيان للشنقيطي
*تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن السعدي
*التفسير الموضوعي
*الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي ت(756هـ)
أحسنت بارك الله فيك وزادك من فضله.
وأسلوبك الوعظيّ مؤثّر جميل، نفع الله بك.
ويلاحظ عنايتك باختيار مصادر الرسالة وتنوّعها، وكثرة استشهادك بالنظائر التي أفادت في فهم الآيات وبيانها.
وقد أحسنتِ في الإشارة إلى فوائد الآية في نهاية الرسالة مما أفاد في بيان مقصودها وتحقيقه.
والملاحظة على الرسالة هو:
تأثّرها بالأسلوب العلمي في بعض فقراتها:
- فنسبة الأقوال وعرضها في الأسلوب الوعظي لا يشترط أن تكون كنظيرتها في الأسلوب العلمي، بل تسند إلى الأشهر كابن عباس مثلا، ويضاف إليه الآخرون إجمالا، حتى لا يبعد ذلك عن المقصود.
- لا حاجة للتعرّض للخلاف إذا لم يكن له فائدة في الخطاب الوعظي، كما فعلتِ في معنى "المعاذير"، فالقول الثاني يمكن أن يفيد في الرسالة، لكن إذا اقتصرتِ على القول الأرجح فلا داعي للإشارة إلى الثاني، لأنه لا فائدة من ذكره تعود على المتلقّين.
بالنسبة للنقل عن المفسّرين:
- لخّصي بأسلوبك ما قاله الطبري وابن قتيبة والقاسمي ...، ولا تنقلي كلامهم بالنصّ لأن هذه الرسائل تدريب على تلخيص كلام المفسّرين وصياغته بأسلوب الطالب كما هو معلوم من عنوان هذه الدورة.
- الذي يستحب نقله بالنصّ -مع نسبته- خاصّة في الخطاب الوعظيّ هو العبارات المؤثّرة التي يصعب الإتيان بما يماثلها عند التلخيص، فهذا مما يستحسن نقله بنصّه لما يرجى منه من حسن التأثير في نفوس السامعين، ويشترط فيه أيضا عدم الإكثار.
رسالتك بحاجة إلى تنسيق أفضل، ويظهر لي أنها مرسلة من جهاز لا يخدم التنسيق، ولكن أردنا التنبيه للفائدة.
التقويم: أ
أحسن الله إليك، وأجرى الخير على يديك.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 20 جمادى الأولى 1438هـ/16-02-2017م, 04:49 AM
فاطمة محمود صالح فاطمة محمود صالح غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
الدولة: الدوحة - قطر
المشاركات: 297
افتراضي

قال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ ١٨٥ آل عمران ]
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
أيها الأخوة الأفاضل : ترى ما هي حقيقة هذه الدنيا ؟ وما هوالفوز الحقيقي ؟ وهل هناك نعيم أعظم من نعيم الجنة ؟
تضمنت هذه الآية أربعة جمل ، يحتاج كل منا إلى النظر والتفكر والتدبر فيها ، فهي تلخص لنا رحلة الإنسان من أولها إلى نهايتها ، تلخص لنا الحقيقة بأجزل وأوجز وأوضح عباراة ، إنها تلخص لنا ما ذُكر في المصنفات والمؤلفات من مقالات ، وما ذكره الخطباء والوعاظ في خطبهم .
ففي الجملة الأولى : قال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }
فهذه الآية تزهيد في الدنيا بفنائها وزوالها وعدم بقائها فيخبر الله تعالى جميع الخلق أن الموت حق على كل نفس ، كقوله تعالى ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾[ الرحمن: 26، 27]، وهذه الحقيقة ينتظرها كل من الكبير والصغير ،والذكر والأنثى ، والعليل والصحيح ، والفقير والغني ، يخبر بها الله تعالى جميع الخلق بأن كل نفس ذائقة الموت ، فهو وحده الحي الذي لا يموت، وكل ما سواه يموتون من الجن والإنس والملائكة ، فلا يبقى سواه فيكون آخرًا كما كان أولًا، فالإنسان مهما طال عمره في هذه الحياة، فإن الموت مصيره ونهايتة ، قال تعالى ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [ الزمر: 30 ]
وجاء عن سهل بن سعد- رضي الله عنه - أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «جَاءَ جِبرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحبِبْ مَنْ شِئْتَ، فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَاعْلَم أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيلِ، وَعِزَّهُ استِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ " . [رواه الطبراني في معجمه الأوسط ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد. وحسنه الهيثمى والألباني ،]

وقال الشاعر كعب بن زهير في بردته :
كُلُّ ابنِ أُنْثَى وإنْ طَالَت سلامَتُهُ ******** يَوْمًا على آلةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ

وقال أبو العتاهية :
الموتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ ******** فَلَيْتَ شِعْرِي بعد المَوْتِ مَا الدَّارُ

ووقد تعجب الْحَسَن البصري فقال " مَا رَأَيْتُ يَقِينًا لا شَكَّ فِيهِ أَشْبَهَ مِنْ شَكٍّ لا يَقِينَ فِيهِ مِنْ أَمْرِنَا هَذَا " .
فالكل في حقيقة الموت على يقين به حتى الكافر ، ولكن أكثر الناس لا ترى لهذا اليقين أثرا في حياتهم ، فلا يوجد إنسان يشك في موته ، إلا أن يقينه هذا أشبه بشك لا يقين فيه، فإذا نظرت إلى أعمالهم فهم يعملون ويجمعون ويجتهدون كالذي لن يموت أبدا، ولا نجد ليقينه هذا أثراً في حياته.
غير أن الإنسان الذي يتوقع الموت في كل لحظة ويذكره في كل حال ، يحمله ذلك على الاستعداد له وعدم الاغترار بالدنيا ويسعى للتخلص من ذنوبه أولا بأول ، فجاء عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ» [حديث حسن صحيح غريب رواه الترمذي في سننه وصححه الألباني ]
فقد لا يقوم المرء من مجلسه ، وقد لا يستيقظ من نومه ، فيتوقع أن يأن يأتيه الموت في الصباح أوفي والمساء في الليل أوفي النهاره، فتخرج جنائز الأحبة وجنائز القرابة إلى القبور إلى أن نكون نحن أحد ساكنيها ، نعم فهذه هي حقيقة { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } مهما حاول الإنسان تجاهلها ، ومها اجتهد في المحافظة على سلامة صحته والعناية بها من أجل البقاء فإن هذا الموت الذي يخشاه سيدركه آجلا أم عاجلا ، قال تعالى { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُم } [ الجمعة: 8] فمهما حاولت الفرار وأخذ الحيطة والحذر فإنه ملاقيك حيث تفر تجده أمامك فهو غير مرتبط بالعافية والاعتلال والمرض إنما هو أجل لا يعلم الإنسان متى وقته ولا مكانه ، وإذا جاء فلا يمكن أن يتقدم أو يتأخر قال تعالى { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [ الأعراف 34] وهي حقيقة وإن كنا نعلمها إلا أنه غالبا ما نغفل عنها بسبب كثرة الشواغل والصوارف وضعف الإيمان .
وهنا إشارة لإحدى اللطائف البلاغية ذكرها الشيخ الطنطاوي رحمه الله في قوله { ذَآئِقَةُ الموت } من الذوق وحقيقته إدراك الطعوم ، والمراد به هنا حدوث الموت لكل نفس ، وقد وعبر عن حدوث الموت لكل نفس بذوقه ، للإشارة إلى أنه عند ذوق المذاق إما مرا لما يتبعه من عذاب ، وإما حلوا هنيئا بسبب ما يكون بعده من أجر وثواب .
وأسند ذوق الموت إلى النفس ولم يسنده إلى الشخص : لأن النفس روح ، والشخص جزءان : جسم ونفس ، والنفس هى التى تبقى بعد مفارقتها للجسد ، فهى التى تذوق الموت كما ذاقت الحياة الدنيا .

ثم نأتي إلى الجملة الثانية وهي : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
فالدنيا دار عمل وابتلاء سواء بالخير أو الشر ، والآخرة دار الجزاء ، ففي يوم القيامة يجد الإنسان ما قدم وما أخر من أعمال ، يترقب في وجل وخوف صحيفته التي رصدت له ذنوبه صغيرها وكبيرها قال تعالى { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف 49) كل ذلك يحضر ويعاين ، كل ذلك يقرأه الإنسان قال تعالى { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [ الإسراء 14 ] فيطالع في كتابه ويقرأه فيجد فيه ما يسره ويجد ما يسوؤه ، ففي الدنيا يكون وقت العمل الذي فيه تسجل الأعمال في الصحف ، ثم يأتي يوم القيامة فيلاقي الإنسان صحيفته منشره حتى { تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ }
ثم اعلم وتفطن ... أن الله قد يؤخر الجزاء، فلا يجد الإنسان ثمرة عمله ودعائه في الدنيا ، فقد يعمل وقد يتعب ولا رى أثرا لهذا البذل والعطاء ، وقد يدعو الله ولا يرى أثرا لهذه الدعوة وقد لا يستجاب له ولكن الأجور هناك في يوم القيامة ، فعلى الإنسان أن يعمل ويبذل ويقدم دون أن ينتظر من أحد جزاء ما قدم وإنما أجره وجزاؤه وثوابه لوجه الله تعالى ، رجاء قوله { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [ الإنسان 9 ] فلا ينتظر شكرا ولا ثناء ولا تقديرا ، فالجزاء هناك يوم القيامة فيجازي جميع الخلائق بأعمالها، الصغيرة والكبيرة ، ويجازي على الكثير والقليل ، فلا يظلم الله أحدا ولو مثقال حبة من خردل قال تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [ الأنبياء: 47]. وهو الذي قال أيضا: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾[ طه: 112] وكيف لا ؟ وهو العدل ؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ بل يُوَفِّيهم أجورَهم تامة على أعمالهم ويزيدُهم من فضله يوم القيامة ، وأما ما كان دون ذلك فيكون في حياة البرزخ ، وقد يكون في الحياة الدنيا كقوله تعالى{ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} [ السجدة 21 ]

فانظر بارك الله فيك وفيها .... إلى الجائزة والغنيمة العظيمة من من خلال الجملة الثالثة: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }
{ فمن زحزح} الفاء هنا للتفريع ، وزحزح أي: أخرج وجنب ونحّي وأبعد عن النار ونجا ، و { قد }: هو حرف تحقيق، ، { فاز }، يريد أنه نجا وظفر بحاجته ، أي حقق بذلك الفوز الحقيقي، وحقق النجاح، وحقق الفلاح،وحقق التفوق
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنهأنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز" [ . حديث ثابت في الصحيحين رواه أبو حاتم ، وابن حبان والحاكم في مستدركه ، ورواه ابن مردويه أيضا من وجه آخر ]
يا له من فوز ، ويا لها من غنيمة فقد جمع بين{ زُحزح عن النار} و{أدخل الجنة } ، رغم أن الدخول في الجنة تغني عن الأولى ، وذلك للدلالة على أن في دخول الجنة نعمتين عظيمتين وهما : النجاة من النار ، ونعيم الجنة .
فلا بد للفوز الذي حصيلته دخول الجنة والنجاة من النار ، أن يكون له من الأعمال ما يكون سبب ليحقق له هذا الفوز . فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم " فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيَدُخَلَ الْجَنَّةَ، فَلتَأتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَليَأتِ إِلَى النَّاسِ، الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ "
إذن تنبه راعاك الله .... إلى هذه الحقيقة الكبيرة ، وهي خلاصة ما جاء في القرآن والتي هي نتيجة وثمرة الإيمان الذي طال شرحه في القرآن العظيم والسنة النبوية ، فكان إما لبيان ألوهيته وأنه واحد لا معبود سواه أو لبيان ربوبية وأسمائه وصفاته وإما لبيان الأعمال الصالحة وشرح للصراط المستقيم الذي رسمه الله تعالى لعباده من أجل اتباعه والسير عليه وإما لوصف للدار الآخرة ووصف لمآلهم ومصيرهم ، وإما لبيان ما فيه من أخبار وقصص ، وهذا كله من أجل الترغيب والترهيب لأجل أن يسلك الإنسان هذا الطريق الطويل الذي سبقه قبله الأنبياء والرسل عليهم السلام الذين لاقوا من أقوامهم الأذى والتكذيب فضيعوا بذلك حق الله بطاعته وعبادته فكانت نهاتهم وخيمة .
فيسعى الإنسان في الدنيا ويبادر بالأخذ بالأسباب التي تجعله يظفر بالجنة وينجو ويسلم من النار { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } نعم ...فهذا هو النجاح والفوز الحقيقي ، فليس الفوز والتفوق والنجاح بالتخرج من الجامعة بأعلى الشهادات ، وليس الفوز والنجاح بالقبول في وظيفة مرموقة وليس الفوز والنجاح بالحصول على العقارات والأموال في الأرصدة ، ليس هذا هو النجاح والفوز الحقيقي ، فالبعض يظن أن السعادة بهذه الأمور ولكن من ينظر حوله يجد من عنده هذه الأمور ولكنه يعيش بشقاء وتعاسة وضيق صدر وذلك بسبب بعدهم عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فالفوز الحقيقي الذي يجب أن ينظر ويتطلع إليه كل فرد ويعمل للوصول له هو أن يزحزح عن النار ويُدخل الجنة، هذا هو الأهم بل هذا هو الأساس.
وجاء في حديث أنس بن مالك أنه قال ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط " رواه مسلم
يا الله ! غمسة واحدة، ليست مئات السنين ولا عشرات السنين ، فيقول لا والله ما رأيت نعيما قطّ! غمسة واحدة في النار تنسيه كل نعيم الدنيا ! ووإذا جئنا بأشد الناس بؤسا في الدنيا وأكثرهم هما وآلآما ومصائب ،فإذا جئنا به ثم غمس غمسة واحدة في الجنة فيقال هل رأيت بؤسا قطّ؟ فيقول لا والله ما رأيت بؤسًا قط!!!!! يا الله ... ما هذا النعيم ؟! وما هذه الغنيمة ؟
فالقضية هنا ليست فشل في اختبار أو عدم قبول في وظيفة أو قضية يخسرها إنما هو الفوز الحقيقي (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) هذا الذي يجب أن نسعى إليه ونعمل لأجله بحيث يكون كل ما نقوم به من أفعال وأقوال ، وعبادات ومعاملات وسلوكيات كلها تكون لهذا الهدف والغاية .

وأما الخسارة الحقيقية – أعاذنا الله وإياكم من هذه الخسارة وهذا المآل وهذا المصير – فهي خسارة أهل النار { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } [ الزمر 15 ، 16 ]
فهم لا يستوون مع أصحاب الجنة الفائزون ، قال تعالى{ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر: 20 ] وقال تعالى { مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾ [ الأنعام: 16] وقال تعالى { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا } [ الفتح: 5 ]

ثم تظهر حقيقة متاع الدنيا وزيفها في جملتها الرابعة: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }
قال قتادة : هي متاعُ متروكةٍ أوشكت، والله الذي لا إله إلا هو، أن تَضْمَحِلَّ عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.
فالغرور : هي مصدر من غرّني يغرُّني غروراً ، بضم الغين ؛ وأما إذا فتحت الغين من الغرور ، فهو صفة للشيطان الغَرور، الذي يغر ابن آدم حتى يدخله في معصية الله فيستوجب به عقوبته. هذا ما ذكره الطبري
فدلت الآية الكريمة على حقارة الدنيا وأنها متاع زائل فان، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث مستورد أخي بني فهر - رضي الله عنهما - أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ (وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ) فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ"
فحينما ينظر الإنسان إلى الدنيا وما فيها من زينة ومباهج فتغريه وتجذبه إليها وتشده وبالتالي تقعده عن طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام إلا إنها متاع والمتاع زائل وقد صوّر الله حقيقة الدنيا بقوله تعالى { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴿٤٥﴾ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴿٤٦﴾} [ الكهف] فهذه هي حقيقة الدنيا وصورتها ، فلا تغر إلا الجاهل ضعيف العقل والإيمان فتستهويه ويؤثرها على الآخرة ، ويطمع فيها قال الله تعالى ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }[ الأعلى: 16، 17] ونختم بقوله تعالى { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[ القصص: 60]

وقانا الله وإياكم والمسلمين من النار ورزقنا ووالدينا وذرياتنا ومن له فضل علينا بالفوز بالفردوس الأعلى من الجنة .

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


المراجع :
• جامع البيان في تأويل القرآن .لمحمد بن جرير أبو جعفر الطبري (310هـ )
• المعجم الأوسط لأ أبو القاسم الطبراني( 360هـ )
• معالم التنزيل للبغوي ( 510هـ )
• الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 671هـ )
• تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 774 هـ )
• تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ( 1376 هـ (
• التحرير والتنوير لابن عاشور (1393هـ )
• التفسير الوسيط للقرآن الكريم لمحمد سيد طنطاوي

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 14 رجب 1438هـ/10-04-2017م, 05:59 PM
منيرة جابر الخالدي منيرة جابر الخالدي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الرابع
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 364
افتراضي

الموضوع/ لم تقولون مالا تفعلون
الأسلوب/ وعظي
الشريحة المخاطبة/ طلاب علم مبتدئين



ترتكز سورة الصف على*خطان أساسيان جليان في سياق آياتها هما: التقرير للمسلم بأن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة في الأرض. وعليه يترتب الأمر الثاني وهو أن شعوره بهذه الحقيقة وإدراكه لقضية العقيدة؛ يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة، وأنها موكلة إليه.
يقول سيد قطب: وبهذا يتضح طريقه، فلا يبقى في تصوره غبش، ولا يبقى في حياته مجال للتمتمة والغمغمة في هذه القضية، أو للتردد والتلفت عن الهدف المرسوم والنصيب المقسوم في علم الله وتقديره منذ بعيد.*
وفي أثناء توجيهه إلى هذا الهدف الواضح يوجه كذلك إلى خلق المسلم وطبيعة ضميره. وهو أن لا يقول ما لا يفعل، وألا يختلف له قول وفعل، ولا ظاهر وباطن، ولا سريرة وعلانية. وأن يكون هو نفسه في كل حال. متجرداً لله. خالصاً لدعوته. صريحاً في قوله وفعله. ثابت الخطو في طريقه.*
وهناك أغراض فرعية أكدت عليها السورة منها:
الثَّبَاتِ فِي الجهاد، وَصِدْقُ الْإِيمَانِ،*وَالثَّبَاتُ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ.
وَالِائْتِسَاءُ بِالصَّادِقِينَ مِثْلِ الْحَوَارِيِّينَ.
وَالتَّحْذِيرُ مِنْ أَذَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُنَافِقِينَ.
وَالْوَعْدُ عَلَى إِخْلَاصِ الْإِيمَانِ .
وقبل ذلك وأَوَّلُ ما أكدت عليه: التَّحْذِيرُ مِنْ إِخْلَافِ الْوَعْدِ وَالِالْتِزَامُ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ.
وهذا وما سبق قبله متمحض في، وراجع إلى قوله تعالى:*(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)


(يا أيها الذين آمنوا)
فافتتح الآية بنداء كرامة:*يا أيها الذين صدقوا الله واتبعوا رسوله. * *
ووجّه الخطاب لهم تحديدا:
1. لأنهم هم الذين تنفعهم الذكرى.
2. ولتطهيرهم وتزكيتهم من الأخلاق السيئة.
وخاطبهم ونَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ: تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَزَعَ الْمُؤْمِنُ عَنْ أَنْ يُخَالِفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فِي الْوَعْدِ بِالْخَيْرِ. **


و(لم) استفهامية باتفاق، لكن هل الاستفهام أتى موبخا لشيء وقع، أم محذرا من شيء لم يقع؟على قولين.
- فعلى القول بأنها تحذر من شيء لم يقع، يصبح الاستفهام للتأديب والتحذير، وبيان حال ما ينبغي فعله.
وَتَأَوَّلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) أَيْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَيْكُمْ، فَلَا تَدْرُونَ هَلْ تَفْعَلُونَ أَوْ لَا تَفْعَلُونَ. والمؤمن في جلة الأمر مطالب أن يكون فعله موافق لقوله، متفق القول والفعل، مستو الظاهر والباطن، السريرة والعلانية.*هذا على القول الأول
- وأكثر أهل العلم، وهو المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن طائفة من الأنصار طالبوا بالجهاد، فلما كتب؛ ضعفت طائفة منهم عنه.*وعلى هذا يكون الاستفهام توبيخا وعتابا وتأنيبا.
قال القرطبي: "جاء الاستفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما إن كان ذلك في الماضي، فإنه يكون كذبًا، وأما في المستقبل، فيكون ذلك إخلافًا بالوعد، وكلاهما مذمومٌ"

وإن كان الراجح هو القول الثاني، والآية نزلت في هؤلاء القوم؛إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب*و[النصوص القرآنية دائماً أبعد مدى من الحوادث المفردة التي تنزل الآيات لمواجهتها، وأشمل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها. ] [1]
[وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ مِنْ عُمُومِ لَفْظِهَا؛ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ، سَوَاءٌ فِي :
عَهْدٍ أَوْ وَعْدٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ.
فَفِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) *.
وَكَقَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) *.
وَفِي الْعَهْدِ قَوْلُهُ: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)] [2]

قال النَّخَعيُّ: "ثلاثُ آياتٍ منعتني أن أقُصَّ على الناس: قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}، وقول شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ}، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}"[9].
فيا أيها الذين آمنوا[لم تقولون الخير، وتحثُّون عليه، وربما تَمَدَّحْتُم به، وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشرِّ، وربما نزَّهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوِّثون متَّصفون به؟! ] [3]
ومن *كانت [هذه حاله، لا يكون صادقا في أمره ونهيه؛ لأنه لو كان صادقا في أمره معتقدا أن ما أمر به معروف، وأنه نافع، لكان هو أول من يفعله لو كان عاقلا. وكذلك لو نهى عن منكر، وهو يعتقد أنه ضار، وأن فعله إثم، لكان هو أول من يتركه لو كان عاقلا. فإذا أمر بمعروف ولم يفعله، أو نهى عن منكر وفعله، علم أن قوله هذا ليس مبنيا على عقيدة والعياذ بالله.] [4]
ولهذا جاء في وعيده؛ قوله صلى الله عليه وسلم( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)
*وقال:( فيلقى) فهو يلقى إلقاء -كما يلقى الحجر في اليم- تندلق منه أقتاب [5] بطنه والعياذ بالله.
وشبهه بالحمار:(فيدور به كما يدور الحمار في الرحا) وهذا للتقبيح.
وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ *قُلْتُ: (مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ) ؟ قَالَ: (هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَيَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ).
قال بلال بن سعد: المنافق يقول ما يعرف، ويعمل ما ينكر. وسئل حذيفة عن المنافق، فقال: الذي يصف الإيمان ولا يعمل به.
ومن هنا كان السلف يخافون النفاق على أنفسهم.*فعَنْ بَعْضِهم أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا، فَسَكَتَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا. فَقَالَ: أَتَرَوْنَنِي أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ فَأَسْتَعْجِلَ مَقْتَ اللَّهِ!.*

والواجب على المرء أن يبدأ بنفسه فيأمرها بالمعروف، وينهاها عن المنكر؛ لأن أعظم الناس حقاً عليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نفسه.
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ *فَانْهَهَا *عَنْ *غَيِّهَا * * * *فَإِذَا انْتَهَتْ *عَنْهُ *فَأَنْتَ *حَكِيمُ*
ولذلك لما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضورُ قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقا.

وفي الآية: الإنكار على*من يعد وعدا أَوْ يَقُولُ قَوْلًا لَا يَفِي بِهِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ مطلقا؛ [كل عِدة بين العبد وبين ربه، وكذلك كل عِدة بينه وبين الناس.
*فمن العِدة التي تكون بينه وبين ربه كما قال الله -عز وجل-: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) *فهذا من قبيل العِدة وإن لم يكن من قبيل النذر، كما أن النذر من قبيل العِدة، فالعِدة أوسع من النذر، فقد تكون نذراً، وقد تكون مجرد عِدة، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا من أن السلف استدلوا بها على أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقاً سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا، هذا صحيح، إذ يجب الوفاء به سواء كان كما ذُكر أو لم يكن، ترتب عليه غرم للموعود أم لم يترتب عليه شيء من ذلك فإنه يفي به ؛ لأن هذا من الخلف] [6]**الوارد في صفات المنافقين المذكورة في الحديث «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثلاث إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»، [كل ذلك يرجع إلى الكذب، فلو حدث كذب، ولو وعد أخلف، هذا كذب في مواعيده.
وقوله: (إذا اؤتمن خان) في الواقع يرجع إلى الكذب بمفهومه الواسع؛ ولذلك كان الصدق بمعنى الحق الثابت، فكل ما يلج فيه الإنسان فإن ذلك إما أن يكون صدقًا، أو يكون كذباً، فإذا خرج إلى شيء يحبه الله ورسوله كان صدقا إن كانت له فيه نية، وإن لم يكن له فيه نية فهذا مخرج كذب، بمعنى لو خرج مخرج رياء وسمعة مثلاً، أو خرج إلى باطل.
ويقو الحسن رحمه الله: أسُّ النفاق الذي بني عليه النفاق الكذب.
ويقول ابن القيم: والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب؛ فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا صبي فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله، تعال أعطك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وما أردت أن تعطيه؟)، قالت: تمراً، فقال: (أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة)، فو جوب الوفاء ظاهر في هذا مع أنه *لم يترتب عليه غرم، وهذا مما يتساهل به الناس.]

والوفاء بالعهد يشمل عهود المشركين ما لم ينقضوها. ومن باب أولى عهود المسلمين، فالوفاء بها أشد ونقضها أعظم.
ومن أعظمها: نقض عهد الإمام على من بايعه، ورضي به (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وذكر رجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريد، وفّى له، وإلا لم يف له) رواه البخاري
ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها، ويحرم الغدر فيها: جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناظرات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها.
ومن الأمانات: الأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع.
كل ذلك يجب الوفاء به، والتزامه والخلف به يدخل المؤمن في دائرة النفاق. إذ أن**النفاق -الأصغر- يرجع كما قال الحسن إلى اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج.
والصدق: استواء السر والعلانية، والكاذب علانيته خير من سريرته. كالمنافق؛ ظاهره خير من باطنه.
وينبغي للمؤمن أن يحذر؛ فالنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر. وكما يخشى على من أصرّ على المعصية أن يسلب الإيمان عند الموت، كذلك يخشى على من أصرّ على النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقا خالصا.


وقوله: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تعلمون)
هذه الجملة بَيَانٌ لِجُمْلَةِ (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) .
(كبر مقتا):*إخَبَارٌ عَنْ كَوْنِ قَوْلِهِمْ مَا لَا يفْعَلُونَ أَمْرًا كَبِيرًا فِي جِنْسِ الْمَقْتِ.*يقول ابن عاشور: وَالْكِبَرُ: مُسْتَعَارٌ لِلشِّدَةِ لِأَنَّ الْكَبِيرَ فِيهِ كَثْرَةٌ وَشِدَّةٌ فِي نَوْعِهِ.
وَالْمَقْتُ: الْبُغْضُ الشَّدِيدُ.
وَالتَّقْدِيرُ: كَبُرَ مَمْقُوتًا قَوْلُكُمْ مَا لَا تَفْعَلُونَهُ.
وجاءت الآية الأولى عامة مجملة ثم جاء التَّفْصِيلِ بِالتَّمْيِيزِ: تهويلا لهَذَا الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ لِكَوْنِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ بِمِظَنَّةِ التَّهَاوُنِ فِي الْحَيْطَةِ مِنْهُ، ووَعِيدا عَلَى تَكرره إن وقع ابتداء.
(عند الله): كون وُصِفَ الْمَقْتُ بِأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ، معناه: أَنه مَقْتٌ لَا تَسَامُحَ فِيهِ.*
(أن تقولوا مالا تفعلون): إعادة الجملة، والعدول عن إبدالها بضمير؛ مقصودا: لزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ بِإِعَادِةِ اللَفْظِة، وَلِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ.

وقول المرء ما لا يفعل موجب مقت الله تعالى، ولذلك فر كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير وآثروا السكوت.
وإن كان هذا الفعل ليس صوابا -وودّ وَدَّ إبليسُ لو ظفر بهذه حتى لا ينهى أحدٌ عن منكر- إلا أنه ينبغي المجاهدة على إتباع العلم بالعمل، وتصديق القول بالفعل ما استطاع ليخرج من دائرة النفاق، وينجو من عذاب الله.*فالعلم قرين العمل؛ ولذلك يسأل المرء يوم القيامة عن علمه: ماذا عمل به؟
جاء في حديث أبي بَرْزَة الأَسْلَمي - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل: عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن علمه: فيمَ فعل؟)). رواه الترمذي
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: ((أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة: عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه، فذنبُه من جنس ذنب اليهود).
ومن ذلك*كان الحسن - رضي الله عنه - إذا نهى عن شيءٍ لا يأتيه أصلاً، وإذا أمر بشيءٍ كان شديد الأَخْذ به، وهكذا تكون الحكمة، وهكذا ينفع العلم ويثمر يقول ابن الجوزي رحمه الله: لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم ، وكان أنفعهم لي في صحبته، العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه.
قال فيلسوف: من يصف الحكمة بلسانه، ولم يتحل بها في سره وجهره، فهو في المثل كرجل رزق ثوبا، فأخذ بطرفه فلم يلبسه.
والأدباء والشعراء هم أكثر الناس وقوعا في ذلك، وهم أرباب التناقض، فيقولون ما لا يفعلون ،إلا من رحم الله، وقليل ماهم! (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)


ونظير هاتين الآيتين قَوْلُهُ تَعَالَى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ) .
فَفِي سياقها بَيَانٌ لِعِتَابِهِمْ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ مَعْنَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ

وَيُقَابِلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَدَحَ طَائِفَة أَوْفَوْا بِالْعَهْدِ، وَصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) ]
وعدد ابن القيم أحوال الصدق، وأنه يكون في: القول، والعمل، والحال
[فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال، كاستواء السنبلة على ساقها.
والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة؛ كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة. ] [8]
وكل من (أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وجاهد نفسه على ذلك مخلصا؛ أعانه الله على تصديق قوله بالعمل، ويسر له ذلك وإن كان لابد من الصعوبة في البدء، لكنها سرعان ما تزول. وقد تكون هذه الصعوبة امتحانا ليرى الصادق من خلافه.

ثُمَّ بَيَّنَ عز وجل بعد ذلك الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)
*
وهذه الآية ترافق المؤمن الصادق في جميع أحواله وتلوح له عند كل قول أو فعل، فكلما همّ بعمل يحيد عن القول الحق ولو يسيرا تذكر: (لم تقولون مالا تفعلون)
وكلما قال قولا، أو نصح عبدا؛ التزمه في نفسه، بل حرص على الامتثال وإن لم يأمر؛ هروبا من الوقوع في قوله: (لم تقولون ما لا تفعلون)
وإن وقع في معصية، أو فتر عن مندوب لاح له قوله: ( لم تقولون ما لا تفعلون) فبادر في التوبة والاستدراك.
وهكذا طول حياته يفتش في واقع أمره، هل أنا ممتثل للخطاب، هل أنا منته عما يوجب العقاب، ما رضاي بقضاء الله وحكمه وما تسليمي له، هل سريرتي هي علانيتي، هل تصنّعت لأحد، وهكذا يفتش ويسأل نفسه ويقّومها ما استطاع إلى ذلك سبيلا وحاديه في ذلك: (لمَ تقولون ما لا تفعلون)؟*

وفقنا الله لحسن القول والعمل، ولتقواه في السر والعلن وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.







____________________________________________________
[1] سيد قطب
[2] الشنقيطي
[3] السعدي
[4] ابن عثيمين
[5] الأقتاب: الأمعاء
[6] د. خالد السبت
[7] الشنقيطي
[8] ابن القيم



____________________________________________________
المصادر:
*
- تفسير ابن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن. *تحقيق أحمد شاكر
- تفسير ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. *
- تفسير ابن كثير، تحقيق:محمد حسين شمس الدين. ط، دار الكتب العلمية
- التحرير والتنوير لابن عاشور. ط، الدار التونسية.
- معاني القرآن وإعرابه للزجاج.تحقيق:عبد الجليل عبده شبلي. ط، دار الكتب*
- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي
- معالم التنزيل في تفسير القرآن، للبغوي
- فتح القدير، للشوكاني
- أضواء البيان للشنقيطي. ط، دار الكتب
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي
- في ظلال القرآن، سيد قطب
- مدارج السالكين لابن القيّم
- شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
- جامع العلوم والحكم لابن رجب
- المحرر في أسباب النزول. د. خالد المزيني
- تفسير (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، موقع إسلام ويب
- رسالة (وقفة مع آيتين من كتاب الله) د. أمين الشقاوي
- رسالة (والفعل دون الشامخات ركام) حسين بن رشود العفنان

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 16 رمضان 1438هـ/10-06-2017م, 09:34 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تابع تقويم تطبيقات الأسلوب الوعظي


فاطمة صالح أ+
أحسنت وأجدت، بارك الله فيك ونفع بك وزادك إحسانا وتوفيقا.

منيرة الخالدي ج
أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
ورسالتك قيّمة والجهد المبذول فيها واضح، مع ثنائي على كثرة اطّلاعك وسعة مصادرك وأمانتك العلمية، إلا أنه يؤخذ عليها أنها معتمدة في غالبها على النقل -وإن عزوتيه- مما أضعف ظهور أسلوبك فيها حيث جاءت الرسالة عبارة عن جمع وترتيب لأقوال أهل العلم فيما يخصّ هاتين الآيتين، ولو أنك اقتصرتِ على تطبيق قصير ولخّصت كلام المفسّرين بأسلوبك لتحقيق مقاصد هذه التطبيقات لكان أصوب وأنفع، ولا مانع من نقل بعض العبارات النافعة بنصّها دون إكثار.
ويمكنك إعادة الرسالة للفائدة وتحسين الدرجة، وفقك الله.



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تطبيقات, على

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:19 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir