بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وصلى الله وسلم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: فهذا شروع منّا في شرح هذه الرسالة العظيمة (كشف الشبهات) للإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة.
فنستعين الله -جل جلاله- وتقدست أسماؤه، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعلمنا منها علمًا نافعًا، وأن يقينا في فهمها الزلل والخطل، وأن يجعل أفهامنا صائبة، وقلوبنا ذات بصيرة.
هذه الرسالة سمِّيت (كشف الشبهات) وقد ذكر طائفة من العلماء منهم ابن غنام في (تاريخ نجد) أنه أرسلها للناس في القرى؛ لأجل أن يكشف بعض الشبه التي شبّه بها على التوحيد أعداءُ دعوة الإمام رحمه الله، فهي مصنفة لأهل التوحيد الذين نشرت فيهم بعض الشبه، نشر تلك الشبه بعض العلماء الذين ورثوا علوم المشركين، وحبذوا الشرك بالله وأيدوه، ودعوا الناس إليه، ودافعوا عنه، نعوذ بالله من الضلال.
اسم هذه الرسالة (كشف الشبهات)والكشف: هو حَسْر الشيء عن الشيء، كشف الرأس يعني: حَسَر ما عليه حتى ظهر، وكَشَف البأس إذا أزاله، وهذه المادّة في القرآن كثيرة: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} كما قال -جل وعلا- في الآية الأخرى: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ}، {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} ونحو ذلك، فالكشف بمعنى الإزالة.
والشبهات: جمع شبهة، وهي المسألة التي جُعِلَت شَبَهًا بالحق؛ لأن الحق عليه دليل بيِّن واضح، والشبهة سميت شبهة؛ لأنها مسألة من مسائل العلم أورد عليها أصحابها بعض الأدلة التي يظنونها علمًا.
فالشبهة عبارة عن تشبيه الباطل بالحق، فإذا شبّه الباطل بالحق من جهة أن الباطل له دليل وله برهان، صارت هذه المسألة إذا عورض بها الحق صارت شبهة.
والشبهة والمشبَّهة:هي المسائل المعضلة أو المشكلة التي تلتبس على الناس؛ كما جاء في بعض ألفاظ حديث النعمان بن بشير المشهور، قال: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشبَّهات - أو مشتبهات -)) سميت: مشبّهة ومشتبهة؛ لأن الأمر فيها يشتبه على الناظر فيه، وهكذا الشبهة يلقيها الشيطان، أو يلقيها أعوانه، أو تأتي في الذهن، فيشتبه معها الحق، ويشتبه الباطل معها بالحق، فيصبح الأمر غير واضح بها.
ولا شك أن إزالة الشبهات، وكشف الشبهات، من أصول هذا الدين؛لأن الله -جل وعلا- رد على المشركين في القرآن ودحض شبهاتهم وأقوالهم، قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} وكل من يجادل بالباطل له حجة وله علم لكن حجته داحضة، وكون الحجة تُدْحض، هذا أصل في إزالة الشبه في الدين؛ فإزالة الشبه التي شبّه بها أعداء الملة وأعداء الدين فرض من الفروض في هذه الشريعة، وواجب من الواجبات، لابد أن يوجد من يقوم به، وإلا لالتبس الباطل بالحق، وصار هذا يشبه هذا، فضلَّ الناس.
وقد ذكر إمام هذه الدعوة في مسائل (كتاب التوحيد) حينما عرض لحديث إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن، قال له: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادةُ ألا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم..)) الحديث.
قال في المسائل ما حاصله: في هذا رد الشبه عن الدين؛ لأنه مهّد له -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب)) وكونهم من أهل الكتاب هذا يعني: أن يستعد لمناظرتهم وللحجاج معهم، ثم قال: ((فإن هم أطاعوك لذلك)) فنفهم من قوله: ((أطاعوك لذلك)) أنه سيكون بينه وبينهم حِجاج ونقاش، وأخذ ورد، وإزالة للشبه التي قد تكون عندهم في رد التوحيد، ورد رسالة النبي عليه الصلاة والسلام.
فقوله: ((فإن هم أطاعوك لذلك)) فيه رد الشُّبَهِ، وأنها من وظائف العلماء الدعاة، ثم قال: ((فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك)) وهذا كله دليل على ما ذكر.
المقصود: أن إزالة الشبه عن الدين فرض من الفرائض، قام به أهل العلم، وصنفت فيه المصنفات في القرون التي شاع فيها التصنيف: في القرن الثاني، والثالث، وما بعده إلى زماننا هذا.
وكشف الشبه يكون عن طريقين:
الطريق الأول: طريق عقلي.
والطريق الثاني:الطريق الشرعي السمعي.
أما الأول: وهو الطريق العقلي: فهذا قد يكون بإيجاد البراهين العقلية البحتة التي تبطل شبه المشبِّهين، وقد يكون بإيجاد الأمثلة العرفية التي تضعف حجة الخصم، وهذا وهذا موجود في القرآن.
والقسم الثاني: الأدلة أو الطريق الشرعي السمعي: بأن يُكشف ما شبّه به الخصوم بأن تزال الشبه، وتقام الحجة بالأدلة الشرعية، وفي الكتاب والسنة من إقامة الأدلة في مسائل العلم وخاصة التوحيد ما يغني عن غيرها، لكن طالب العلم قد يحتاج إلى بعض البراهين العقلية، لذلك جاءت في القرآن آيات كثيرة فيها إقامة البرهان العقلي في التوحيد:
-كقوله جل وعلا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.
-وكقوله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً} فهذا من جعل الحجة العقلية.
- وقوله جل وعلا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فيه دلالة بينة أن وجود إله يعبد مع الله جل وعلا - لو كان موجودًا - لفسدت السموات والأرض؛ لأنه لا بد من أن يأتي هذا بما يريد، وأن يأتي الآخر بما يريد، ومعنى ذلك: أنه لن يكون هذا الملكوت على هذا الانتظام، لا بد من المغالبة؛ ولهذا قال في آية الإسراء: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} لا بد أن يكون ثَم مغالبة حتى يستقيم الأمر، فلو كان ثَم معبود مع الله -جل وعلا- بحقٍّ لكان لا بد من المغالبة، وإذا انتفت المغالبة وكان هذا الكون والملكوت يمشي على منوال واحد، وبإرادة واحدة، دلّ ذلك البرهان العقلي، البرهان المحسوس المنظور على أن المعبود بحقٍّ واحدٌ وهو الله جل جلاله.
قال الإمام -رحمه الله تعالى- في أول رسالته: (بسم الله الرحمن الرحيم) وتفسير البسملة، وبيان ما فيها من العلم معروف يؤخذ من الشروح الكثيرة لكتب أهل العلم.
قال بعدها: (اعلم رحمك الله) هذه البداية تكثر في كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وفي كتب كثير من أهل العلم.
وقد قال العلماء: فيها من الفائدة: أن هذا العلم - أي: علم الشريعة - مبني على التراحم، فأعظم رحمة تسديها للناس أن تنشر بينهم العلم، فإذا علمتهم العلم فهي أعظم رحمة ترحمهم بها، ولهذا كان محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- مبعوثًا رحمة للعالمين، كما قال جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
فالشريعة كلها،عقيدةً وأحكاماً، خبراً وأمراً ونهياً: رحمة، وبعثة محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- رحمة، فكل تشريع رحمة، وكل إخبار اعتقاده رحمة بالعبد؛ لأنه إن لم يعتقد الخبر فإنه سيضلُّ، وذاك هلاك، وإنقاذ الناس من الهلكة رحمة بهم، وإن لم يتبع الأمر والنهي ولم يفعل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه؛ فإنه قد سعى في فساد نفسه وما لا يُحمد له، وفي ظلم نفسه، فتخليصُه منه رحمة.
فمبنى العلم على التراحم، المعلِّمُ ينشر العلم رحمةً مع أمور أخر، والمتعلم يتلقى العلم وهو مرحوم به، أو وهو مرحوم بنشر هذا العلم، ولهذا قال العلماء: إن الحديث الذي اختاره طائفة من أهل العلم ليكون الحديث المسلسل بالأولية هو حديث ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) وهذا هو الحديث المعروف في رواية الحديث وعند المهتمين بالإسناد بالحديث المسلسل بالأولية؛ لأن الرواة فيه يقول كل واحد منهم: وهذا أول حديث سمعته؛ يعني من شيخه.
فالشيخ أول ما يُقرِئ في الأحاديث هذا الحديث: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)).
ذكر طائفة من أهل العلم منهم الذهبي وغيره أن سبب تسلسل هذا الحديث بالأولية أن هذا العلم - علم الحديث وعلم السنة؛ بل علم الشريعة جميعًا - مبناه على التراحم، فيعلم المعلم هذا الحديث أولاً ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) فيكون أول ما يسديه إلى التلميذ أن يعلمه الرحمة والتراحم؛ لأنه لا يكون العلم إلا عند رحيم، أما من لم يكن رحيمًا بالخلق فلا يكون العلم مستقرًّا في قلبه، يكون أكثر استقرارًا إذا كان أرحم بعباد الله جل وعلا، وكلما زادت الرحمة في قلبه كلما زاد العلم ثباتًا في صدره؛ لأن الرحمة مأمور بها ((ارحموا من في الأرض)) والله -جل وعلا- قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} ومن التثبيت: التثبيت في العلم.
فهذا من رحمة الشيخ -رحمه الله- بالمسلمين حيث يدعو لهم بهذه الدعوة.
قال: (اعلم رحمك الله: أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة) التوحيد: مصدر وحّد يوحِّد توحيدًا، وقد جاء في السُّنَّة لفظ (التوحيد) وقد جاء لفظ أيضًا (وحّد يوحِّد) فمادّة هذه الكلمة جاءت في السنة؛ خلافًا لمن زعم بأن هذا اللفظ إنما اهتمّ به شيخ الإسلام ابن تيمية ومن تابعه، هذا غلط كبير؛ لأن هذا اللفظ قد جاء في السنة في أحاديث كثيرة، وقد جاء في مثل ما رواه البخاري -رحمه الله- في صحيحه في كتاب الحجّ أن النبي عليه الصلاة والسلام أهلَّ بالتّوحيد، وثبت أيضًا في (مسلم) وفي غيره أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((بني الإسلام على خمس: على أن يوحَّد الله..)).
وفي حديث جبريل المعروف قال عليه الصلاة والسلام: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)) في رواية ((الإسلام أن توحد الله))، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يهل بالتوحيد يعني يقول: (لا إله إلا الله)، وكان يهل في الحج بالتوحيد بمعنى يقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك) لأن نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله -جل وعلا- هو التوحيد.
المقصود: أن هذه الكلمة (التوحيد) جاءت في السنة في أحاديث كثيرة، وكذلك لفظ (وحد)؛ فهي كلمة مستعملة ومشهورة، ومن ألفاظ حديث معاذٍ المعروف: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحِّدوا الله))والبخاري جعل من كتبه في صحيحه (كتاب التوحيد).
فالمقصود من هذا: بيان أن هذه اللفظة كثيرة في السنة، وإن لم ترد في القرآن، لكن جاءت في السنة، وأهل العلم من أهل السنة اعتمدوها وذكروها وصنفوا فيها كتبًا.
فاهتمام الشيخ -رحمه الله- بهذه الكلمة، هو اهتمام بأصل الدين، وليست كلمة محدثة خلافًا لمن زعم ذلك بجهله.
قال: (التوحيد: هو إفراد الله سبحانه بالعبادة) التوحيد يعرّف بعدّة تعريفات:
أمّا من جهة اللغة: فهو جعل الشيء واحدًا، وحّد توحيدًا، يعني: جعله واحدًا.
فوحَّدَ المتوجّه إليه بالعبادة توحيدًا يعني: جعل المعبود بحق واحدًا، والتوحيد عرّفه الشيخ -رحمه الله- هنا بأنه: (إفراد الله سبحانه بالعبادة).
(إفراد الله) يعني: أن يكون التوجه بالعبادة لله وحده، هو فردٌ في ذلك، فلا يجعل من دون الله إلهًا، ولا يجعل مع الله -جل وعلا- إلهًا.
قال: (إفراد الله - سبحانه - بالعبادة) و(سبحان) تنزيه كما هو معلوم.(بالعبادة) هذه العبادة ما هي؟
العبادة في اللغة: خضوع وتذلل معه حب عن طواعية، ورَغَب ورَهَب وحسن ظن، وما أشبه ذلك من أعمال القلوب.
وأصلها الذُّلُّ:ذلّل الشيء بمعنى جعله متطامنًا، جعله ذليلاً، جعله غير وَعِرٍ، غير مستكبرٍ، فيكون هذا في الناس، ويكون في الطريق، ومنه سمي العبد الرقيق عبدًا؛ لأنه جعل ذليلاً غير متكبّر متطامنًا لسيّده، وقيل للطريق أيضاً: معبد، لأنه ذلل للسير؛ كما قال طرفة:
تباري عتاقًا ناجياتٍ وأتبعت = وظيفًا وظيفًا فوق مورٍ مُعبَّدِ
وقوله أيضًا في البعير:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها = وأفردت إفراد البعير المعبَّدِ
إلى آخر شواهد هذه المادة.
أما العبادة في الشرع:
فالعلماء عرّفوها بعدّة تعريفات، نختار منها في هذا المقام ثلاثةً:
الأول: أن العبادة : (هي ما طُلِبَ فعله في الشرع ورُتِّب الثواب على ذلك) وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في موضعٍ لما تكلم عن الوضوء، فإذا كان الشيء طلب فعله في الشرع ولم يكن مطلوباً قبل ذلك ورُتِّب على ذلك الفعل الثواب، فهذا الفعل عبادة.
التعريف الثاني: أيضاً كلِّي ذكره شيخ الإسلام أيضاً في أول رسالته (العبودية) هي أن العبادة: (اسم جامع لكل ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة).
وعرَّفه أيضاً طائفة من العلماء-ومنهم الأصوليون- بأن العبادة: (هي ما أمر به من غير اطّراد عرفيٍّ، ولا اقتضاء عقلي).
فنخلص من هذا:إلى أن العبادة شيء جاء بالشرع لم يكن قبل ذلك، ليس من جهة الفعل والحصول، ولكن من جهة كونه مأمورًا به لهؤلاء الناس المعيّنين.
فجاء الشرع بالأمر بأشياء كانت موجودة عند العرب؛ولكن كانوا يفعلونها من غير أمر خاص شرعي بذلك، وإنما ورثوها هكذا، فلما أمر بها الشرع ورتب عليها الثواب كانت مما يحبه الله ويرضاه، وكانت مأمورًا بها من غير اقتضاء عقلي لها، ولا اطّراد عرفي بها، وإنما كانت باطراد أمر الشارع بها، فخرجت عن مقتضى كونها جاءت عرفًا فقط.
لهذا: الأقوال الثلاثة - هذه - في تعريف العبادة تلتقي ولا تختلف.
فإفراد الله سبحانه بالعبادة معناه: أن يفرد الله -جل وعلا- بكل ما أمر به الشرع من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيدخل في ذلك:
-أعمال القلوب، مثل الإخلاص، والرغب، والرهب، والخوف، والتوكل، والإنابة، والمحبة، والرجاء، والاستعاذة - استعاذة القلب - إلى آخره.
- ويدخل فيها أيضاً الأفعال الظاهرة، مثل: الدعاء وأنواعه، الاستعانة، والاستغاثة، والاستسقاء، والاستعاذة الظاهرة، إلى غير ذلك.
-ويدخل فيها الذبح، والنذر، والصلاة، والزكاة، والدعاء، والحج، والعمرة، والصلة - صلة الرحم - إلى غير ذلك.
فالعبادة اسم يعم هذا جميعًا، فكما أنه لا يصلي المصلي إلا لله، كذلك لا يستغيث إلا بالله فيما لا يقدر عليه المخلوق، وهكذا في نظائرها كما أوضِح ذلك مفصَّلاً في (كتاب التوحيد) وفي (ثلاثة الأصول).
قال: (وهو - يعني التوحيد - دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده) (هو دين الرسل) يعني جميعًا؛ فالرسل جميعًا أرسلوا بالتوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، فلم ترسل الرسل - أصلاً - بالشرائع، لم ترسل الرسل أصلاً ببيان ما يجب من الأعمال مما هو دون التوحيد أو ما يحرم، إنما أرسلت لتوحيد الله جل وعلا؛ لأن توحيد الله -جل وعلا- هو العلة المطلوبة من خلق الجن والإنس، كما قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}يعني: إلا ليوحدوني، فالعلة المطلوبة من خلقهم أنهم يوحدون الله جل وعلا؛ لهذا أرسلت الرسل بذلك.
هذا التوحيد مفطور عليه العباد بالميثاق؛قال جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} وهذا الذي أُخذ عليهم هو التوحيد وهو الفطرة.
فأخذ على الناس جميعًا هذا الميثاق،وهو توحيد الله جل وعلا، ولكن هذا الميثاق خرجوا عليه، وهم في ظهور آبائهم أُخذ وعرفوا ذلك وشهدوا به، ثم خرجوا على هذا التوحيد، خرجوا على الفطرة، خرجوا وهم يوحدون الله جل وعلا، لكن تجتالهم الشياطين عن دينهم، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتفق على صحته: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، كما تَخرج البهيمة جمعاء هل تحسُّون فيها من جدعاء؟)) يعني أن البهيمة تخرج سليمة، ثم بعد ذلك أهلها يقطعون شيئًا من أذنها أو شيئًا من بدنها، إلى آخره.
فالكمال يخرج المولود عليه من جهة التوحيد،يعني: على الفطرة، ثم تتغير هذه الفطرة.
معلوم أن ذلك الميثاق الأوللا يذكر، وأن دلائل إقامة الحجة بذلك الميثاق موجودة في الآفاق وفي الأنفس، والرسل جاءت لإقرار ذلك، ولجعل الناس يرجعون إلى هذا الأصل الذي ولدوا عليه، وهو توحيد الله -جل وعلا- ثم إضافة بعض الشرائع التي تختلف من رسول إلى رسول.
المقصود من ذلك:أن دين الرسل جميعًا هو التوحيد.
و(الرسل) جمع رسول، وهو من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه إلى قومٍ مخالفين له، أما إذا كانوا موافقين فيكون ذلك نبيًّا من الأنبياء كأنبياء بني إسرائيل ونحو ذلك.
فالرسل الذين بعثوا إلى قومٍ مخالفين، هم على التوحيد، أَمروا بالتوحيد ودعوا إليه، قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
وفي سورة الأعراف في ذكر نوح عليه السلام، وذكر هود، وذكر صالح، وذكر شعيب، وذكر موسى عليهم السلام، كلهم يدعون إلى توحيد الله جل وعلا {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
إذا كان كذلك فإن الدعوة تكون إلى هذا الأصل، الدعوة تكون إلى (توحيد الله)؛ لأن به صلاح القلوب وصلاح الأعمال.
قال: (وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده) (به) يعني بالتوحيد (إلى عباده) فما هو دين الرسل الذي أجمعوا عليه؟ اتفقوا عليه، كل واحد بعث به؟
هو توحيد الله جل وعلا، وهو إفراد الله سبحانه بالعبادة.
لهذا نعلم أن كل من عبد غير الله -جل وعلا- فهو مخالف لكل رسول، ومن عبد غير الله بأي نوع من أنواع العبادة فإنه لم يوحد، إنه مشرك وإنه مكذب لجميع المرسلين، قال جل وعلا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} فمن لم يوحد الله -جل وعلا- فقد كذب بالمرسلين جميعاً؛ لأن الرسل جميعاً أَمروا بالتوحيد، فإذا أشرك المشرك فلا يحتج، يقول: أنا على دين مُوسى، أو على دين عيسى، نقول: هو مكذب لجميع الرسل، وخارج عن دين جميع الرسل.