دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #51  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:15 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(35) مصر:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (35) مصر
«مصر»، هذا الاسم الجغرافي العلم، اسم عربي ليست فيه شبهة عجمة. ولا يقدح في هذا أنه اسم ممنوع من الصرف غير منون، لأن «مصر» علم مؤنث، والعلمية مع التأنيث تمنع من الصرف وجوبًا، عربيًا كان الاسم أم غير عربي.
وفي معجمك العربي «مصر» أخرى تقبل الألف واللام، كما تقل التنكير والإضافة، وتقبل الإفراد والتثنية والجمع، أعني «المصر» بمعنى البلد أو القطر، وتجمع على أمصار، وليست هذه كتلك، لأن المصرَ اسمٌ معنويٌ مذكر، ليس بِعَلَم.
أما «مصرُ» الاسم الجغرافي العلم، أعني هذه الأرض التي نعيش عليها أنا وأنت، فليس معناها عربيًا البلد أو القطر، وإنما معناها «الحائل»، أي الحاجز بين الشيئين، أو بين الأرضين، يمنعك من اختراقه أو النفاذ منه، ولفظه في العربية «ماصر» على الفاعلية، وأيضًا «مِصْر»، وفي العبرية «مَصُور» وأيضًا «مِصِر» بكسرتين (راجع في معجمك العربي الجذر «مَصَر» المشترك على هذا المعنى بين العربية والعبرية).
ولكن «مصر» تجيء أيضًا في العبرية بصيغة المصنى «مِصْرَيم»، وليس هذا على إرادة التثنية، إنما هو للتعظيم، كما يعرف حذاق اللغة العبرية التي تقول «إلوهيم» جمع «إله» على التعظيم تريد الواحد الأحد. وربما أيضًا على المجانسة مع «تَاوى» اسم مصر بلغة أهلها المصرية القديمة «الهيروغليفية»، يعني «الأرضان» على التعظيم لا التثنية.
كانت هيبةٌ مصرَ في صدور جيرانها منذ فجر التاريخ تصورها لهم سدًا منيعًا، تعلموا بالتجربة أنهم ما انتطحوه إلا وتحطمت عليه قرونهم، فلم يجدوا لمصر أليق من هذا الاسم «مصر» يسمونها به.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/74]
ولكن مصر سفهت من بعد فترفهت ولانت، وتهاونَت فهانت. ومع ذلك فقد بقى لها حقها في هذا الاسم بالتقادم: ذهبت الهيبةُ وبقيت مصر، لا يعرف أهلها اليوم لاسمها هذا مبنى أو معنى، لا من العربية ولا من العبرية، ولا من المصرية القديمة أيضًا.
لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وسبحان مقلب القلوب والأحوال والزمان. فاللهم بجاهك وجاه نبيك اردد علينا ما فرطنا في جنب أنفسنا: اردد علينا إسلامنا، واردد علينا قرآننا، وتب علينا، إنا هُدْنا إليك.
أما Egypt 0إيجيبت) اسم مصر الشائع الآن في كل اللغات تقريبًا عدا العربية والعبرية، فهو مأخوذ من «إغيبتوس» Aigyptos اليونانية (السين الخاتمة للرفع)، اسم مصر عند اليونان. وقد تخبط الباحثون في تفسيره فقيل إنه متحور عن Gbtiw (جبتيو) المصرية القديمة يعني «قفط» (مدينة في صعيد مصر). وليس بشيء، فلا معنى لأن يتخذ اليونان من مدينة فقط عَلَما على مصر كلها، ولا معنى أيضًا لأن يتأنوا في تسمية مصر وقد جاءوا من شماليها حتى ينتهي بهم التجوال إلى صعيد مصر. والراجح عندي ولم يقل به بعد أحد – فهو من الجديد الذي من الله علينا به – أن اليونان نحتوا Aigyptos هذه من لفظة agapytos وهو اسم المفعول في اليونانية من agapo يعني «أحب» على الترجمة من المصرية القديمة «تا – مري» يعني أرض المحبوب، أو أرض الأحبة، أو الأرض التي تحب، وهو واحد من أسماء «مصر» بلغة أهلها كما سترى.
كيفما كان الأمر، فقد تحولت «إغيبتوس» اليونانية هذه في اللغة القبطية إلى «جبتو»، وعن «جبتو» القبطية هذه قال العرب: «القبط»ن يعنون المصريين أجمع، لا نصارى مصر فحسب كما شاعت الآن، وكما يظن الذين لا يعلمون. وهو خطأ لغوي بين، لأن «القبط» على هذه الأرض التي نعيش عليها أنا وأنت اسبق تاريخًا من مبعث المسيح عليه السلام، ناهيك باعتناق «القبط» المسيحية يوم اعتنقوها. وهم أيضًا أسبقُ وجودًا على هذه الأرض من مجيء الإسلام ودخول أكثريتهم الكاثرة في دين الله أفواجًا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/75]
لم يسم المصريون بلدهم باسم «مصر» العربي العبراني على معنى الحائل أو الحاجز كما أسماها بلغاتهم جيران مصر في الشرق، هيبةً ويأسًا وتعظيمًا، فقد من الله على هؤلاء المصريين في غابر الدهر بالطمأنينة في بلادهم، لا يهابون أحدًا من وراء هذا الحائل أو الحاجز، بل قل لا يهتمون لشيء من أمر الذين هم من وراء هذا الحائل أو الحاجز. كان لديهم قدر من «الاكتفاء بالذات» تغبطهم عليه كل شعوب العالم القديم، فانكفؤوا على أنفسهم يحرثون ويزرعون، ويغزلون وينسجون، ثم يجدون من بعد هذا كله وفرة من الوقت يصنعون فيه أصول الحضارة والفن لكل البشر.
هذا الاكتفاء بالذات، والانكفاء على النفس، أورثا المصريين من قديم أنفة واعتزازا، وربما أيضًا عجبًا وخيلاء، والتصاقًا بالأرض، حتى ملئت صدورهم ببلدهم هذا عشقا، فقروا في «أرضهم» لا يبغون عنها حولا، وغيرهم الذاهب الجائي.
كانت حياتهم الأرض والنهر، فكانت مصر عندهم في لغتهم هي «الأرض» (تا) لا أرض غيرها من بعدها، وكان اسم النيل عندهم بلغتهم هو «النهر» (إِترو)، لا نهرَ في الأرض من دونه.
ومن الأرض والنهر اشتق المصريون الأقدمون اسم «مصر» بلغتهم هم فقالوا: (1) «إدبوى» مثنى «إدب» يعني «الضفة» فهي الضفتان، يعنون على الراجح جانبي الوادي. (2) «تاوى» مثنى «تا» يعني الأرض، فهي «الأرضان»، ومنه «نب – تاوى» أي سيد الأرضين يعني «ملك مصر»، في مقابلة «نب – ضار» أي رب الكون. والراجح أن التثنية في «الأرضين» هي على التعظيم، وليست على الجمع بين الوجهين البحري والقبلي. (3) «تا – مري»، يعني «أرض المحبوب» أو «أرض الأحبة» أو «الأرض التي تحب» (4) «تا - كمت»، أو «كمت» فقط اختصارًا، واصل «تا – كمت» هو «الأرض السوداء»، والسواد هنا على معنى الخضرة الضاربة إلى السواد، يعني الزروع، في مقابل «تا - دشرت» (الأرض الحمراء) يعني الصحراء، ومصر كما تعلم جزيرة وسط رمال يضرب لونها إلى الحمرة، كما قال
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/76]
العرب «سواد العراق»، في مقابل باديته. وقد شاع من هذه الأسماء «تاوى»، تا - مري، «تا – كمت» أو «كمت» اختصارا.
«مصر» عند أهلها كما رأيت بلغتهم هم هي الأرض، وإن تعددت النعوت. وقد «علم» القرآن هذا قبل أن يعلمه أحد من الخلق أجمعين عصر نزوله وإلى هذا العصر، فجاءت «مصر» في عدة مواضع من القرآن باسم الأرض كما سترى، وسبحان علام الغيوب.
وهذا من أبين إعجازات القرآن التي تتناولها مباحث هذا الكتاب الذي نكتب.
وردت «مصر» في كل القرآن خمس مرات، جاء الاسم في أربع منها ممنوعا من الصرف، غير منون: {وأحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا} [يونس: 87]، {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه} [يوسف: 21]، {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} [يوسف: 99]، {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}؟ [الزخرف: 51]، أما المرة الخامسة فقد ورد فيها الاسم مصروفا، منونا بالألف نصبا، وهي: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} [البقرة: 61] على خلاف بين مفسري القرآن في أن «مصرا» في هذه الآية من سورة البقرة ليست هي مصر البلد المعروف، وإنما هي بمعنى «المصر» مفرد أمصار، أي اهبطوا من تيه سيناء إلى بلد من تلك البلدان التي تنبت أرضها من الزروع ما اشتهيتموه، فيكون لكم فيه ما سألتم، لا مصر بالذات على وجه التحديد، إذ كيف يؤمرون بالعودة إلى مصر وقد أنجاهم الله منها؟ استند القائل بهذا إلى أن «مصرا» هذه التي جاءت مصروفة في هذه المرة الخامسة، منونة بالألف نصبا، على خلاف المرات الأخرى، ليست هي مصر العلم المؤنث الممنوع من الصرف وجوبا، وإنما اسم معنوي مشترك ينطبق على «أي» بلد أو
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/77]
قطر. وفات هذا المفسر وأضرابه أن هذا ليس بدليل لأن ما كان من العلم المؤنث على زنة «هند» أو «مصر» يجوز فيه الصرف لخفته، وقد جاء بها القرآن على الوجهين. وإن كان الأشهر في «مصر» هو المنع من الصرف. وفاته أيضًا أن المصر والأمصار ليست من ألفاظ القرآن، وإنما نحتت في العربية بعد نزوله، عصر الفتوح وتقطيع «الأمصار» أو «تمصير» الأمصار، أي تخطيط المدن الجديدة في البلدان المفتوحة. وفاته أخيرًا – بل قل فاته أولاً – أن عبارة «فإن لكم ما سألتم» ليست من الله عز وجل على الاستجابة، فلم يهبط موسى ببني إسرائيل من التيه لا إلى مصر من الأمصار ولا إلى «مصر» نفسها التي خرجوا منها فرارًا بأنفسهم، بل قد مات هؤلاء العصاة في التيه، لم يخرجوا إلى غ يره، بل ومات فيه موسى أيضًا. وإنما العبارة هي من الله عز وجل على التقريع، أي: أتطلبون الدنية وقد أكرمكم الله بإنجائكم من فرعون، وأنزل عليكم المن والسلوى، وفجر لكم الماء من الصخر عيونا، تريدون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل مما كنتم تأكلون في مصر؟ عودوا إلى مصر وفرعون إذن! أي عودوا إلى ما كنتم فيه صاغرين أذلة، قد أذلتكم بطونكم، وليتشف منكم المصريون اشتفاء.
وردت «مصر» إذن بهذا اللفظ خمس مرات في كل القرآن. وليس في أي منها كما رأيت تفسيرٌ لمعنى لفظة «مصر» على منهجنا في هذا الكتاب.
ولكن القرآن المعجز يفسر اسم مصر على الترجمة من المصرية القديمة في أكثر من موضع، أي بلفظة «الأرض» التي في «تاوى»، «تا – مري»، «تا – كمت»، على الإبدال من «مصر» العربية العبرانية. يفعل القرآن هذا عامدًا متعمدًا، إدلالا بعلمه وإعجازه، ما أن تعلم أن «مصر» بلغة أهلها اسمها «الأرض»، وتضع «مصر» موضع «الأرض» في الآيات التي سأنتقيها لك توًا، حتى يستقيم لك معنى الآية على الوجه الصحيح، الذي لات ملك أن تعدل به غيره. وسبحان العليم الخبير، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
وردت مادة «الأرض» في كل القرآن 359 مرة، تلمح في بعضها اسم «مصر» وراء لفظة «الأرض» التي في الآية، أترك لك استقصاءها في مصحفك،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/78]
ولكني سأدلك على أحد عشر موضعا في القرآن – غير مستقص – فيها الدليل القاطع على أن «الأرض» التي في الآية إنما يقصد بها اسم «مصر» صريحًا، وهي:
أولاً: ثلاثة مواضع في قصة «يوسف»:
{فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين} [يوسف: 80]، قالها رأوبين بكر يعقوب حين استيأسوا من يوسف أن يرد إليهم أخاهم بنيامين الذي احتبسه يوسف معه في مصر بتهمة سرقة صواع الملك، أو يأخذ أحدهم مكانه. وكان يعقوب حين أذن لهم في اصطحاب بنيامين في سفرتهم الثانية إلى مصر يمتارون لأهليهم قد خشى على بنيامين من إخوته أن يفرطوا فيه مثلما فرطوا من قبل في يوسف، فأخذ عليهم موثقًا من الله ليأتنه به إلا أن يحاط بهم (راجع يوسف: 66)، وتحدثك التوراة (تكوين: 37 – 38) بأن رأوبين تعهد لأبيه بسلامة بنيامين وقال له: أقتل ابني إن لم أرده إليك. خشى أن يعود إلى أبيه في فلسطين بغير بنيامين، فأقسم ألا يغادر «مصر» حتى يأذن له أبوه، أو يحكم الله له. ترى هل تستطيع إلا أن تضع «مصر» موضع «الأرض» في عبارة رأوبين: «لن أبرح الأرض»؟.
{وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف: 54 – 55]، وأنت تعلم بالطبع أن ليس للأرض خزائن، وإنما الخزائن التي أقام عليها يوسف هي خزائن مصر. «الأرض» في هذه الآية يعني «مصر»، لا مجال للقول بغيره متى علمت أن مصر بلغة أهلها اسمها «الأرض».
{وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين} [يوسف: 56]. لا تستطيع أن تقول أن الله عز وجل مكن ليوسف في مطلق الأرض، بل مكن له في مصر، يتبوأ من مصر حيث يشاء. «الأرض» في هذه الآية هي «مصر» بلا جدال.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/79]
ثانيًا: ثمانيةُ مواضع في قصة «موسى»:
{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} [الأعراف: 127]، والفساد في هذه الآية بمعنى الخلل والاضطراب في قولهم «ويذرك وآلهتك»، أي أن المخشى من موسى وقومه هو أن يفسدوا الرعية على فرعون وكهنة فرعون بإثارة الشك في عباداتهم. وليس الفساد المقصود هو «العتو» فما كان بنو إسرائيل ليستطيعوه في مصر، بدلالة قول «فرعون»: «إنا فوقهم قاهرون» أي هم أذل من أن يستطيعوا له شيئًا. «الفساد» هنا هو «إفساد مصر على فرعونها وعلى آلهته «الأرض» هنا يعني «مصر».
{قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} [يونس: 78]، لم يستنكر آل فرعون أنت كون لموسى وهرون الكبرياء في مطلق الأرض بالطبع، وإنما خشوا على الكبرياء التي لآل فرعون أن تؤول إلى موسى وهرون. الأرض في هذه الآية يعني مصر، لا يصح القول بغيره.
{فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا} [الإسراء: 103]، أي أراد فرعون أن يستفز بني إسرائيل من مصر، لا من مطلق الأرض. الأرض هنا يعني مصر.
{إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا}[القصص: 4]، الأرض هنا تعني مصر بالاسم، لا يصح لك القول بغيره. بل في هذه الآية الدليل الحاسم على أن القرآن يعلم يقينًا أن «الأرض» اسم من أسماء مصر بلغة أهلها، وعلى أنه يستخدم «الأرض» في موضع «مصر»، وإلا لألزمك فقه اللغة العربية أن تفهم عبارة «وجعل أهلها شيعا» بأنها تعني «وجعل أهل الأرض شيعا» لعودة الضمير الذي في «أهلها» على لفظة «الأرض» التي قبلها. وليس هو مقصود الآية، وإنما مقصودها «إن فرعون علا في مصر وجعل أهل مصر شيعا» . الأرض في هذه الآية اسم لمصر بلا جدال.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/80]
{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} [القصص: 5]، أي أن نمن على بني إسرائيل الذين استضعفوا في «مصر» لا في مطلق الأرض. الأرض هنا اسم لمصر.
{ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} [القصص: 6]، أي نمكن لبني إسرائيل في مصر، لا في مطلق الأرض، بدليل قوله آنفًا: «ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون»، كل هذا في مصر نفسها. الأرض هنا أيضًا اسم لمصر.
{وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [غافر: 26]، شاور فرعون ملأه في قتل موسى، خشية الفتنة في الدين الذي يسوسون به الدهماء، فيختل نظام الملك، وهو معنى قوله: «أو يظهر في الأرض الفساد»، أي يشيع في مصر الخلل والاضطراب. الأرض هنا اسم لمصر.
{يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من باس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29]، استمر الحوار بين فرعون وملئه، وانبرى لجدال فرعون ومقالته ذلك الرجل المؤمن من آل فرعون الذي شُهِرَ بين المفسرين باسم «مؤمن غافر»، أي المؤمن الذي في سورة غافر، فخوفهم بسوء المآل وضياع الملك، وحذرهم الافتتان بما هم فيه: لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض، أي في مصر، فلم «يظهروا» في غيرها. الأرض هنا أيضًا اسم لمصر «تا – مري»، لا يصح القول بغيره.
ليس فيما مر بك مصادفات كما ترى، بل هو قصد مقصود. على أن القرآن المعجز لا يدعك تمضي دون أن ينص تنصيصًا في الآية 61 من سورة البقرة على أن «الأرض» = «مصر» في سياق الحديث عن الذين لم يصبروا في التيه على طعامٍ واحد، فطلبوا من موسى أن يدعو لهم ربه: {فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض}، فاستدرك عليهم موسى: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم} [البقرة: 61]. الأرض في أول الآية اسم مصر بلغة أهلها («تاوى» أو «تا – مري» أو «تا – كمت») مترجمًا، ثم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/81]
معقبًا عليه في آخر الآية باسمها العربي الصريح: اهبطوا مصران أي إن أردتم ما تنبت مصر فاهبطوا مصرا، لا يصح أن يقال أن «الأرض» في الآية هي على أصلها بمعنى «التربة»، فلم يرد بنو إسرائيل أي بقل وقثاء وفوم وعدس وبصل، وإنما أرادوا ما تنبت «مصر» من هذا الذي أكلوه في مصر واعتادوه، وإلا لكانت عبارة «مما تنبت الأرض» حشوًا يغنيك عنه قولك: فادع لنا ربك يخرج لنا البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل.
لفظة «الأرض» حين يُراد منها «مصر»، هي ترجمة من القرآن المعجز لمعنى اسم مصر بلغة أهلها على عصر موسى: «الأرضان» (تاوى)، أو «أرض الأحبة» أو «الأرض التي تحب» (تا – مري)، أو «الأرض السواد» التي تنبت الزرع «تا – كمت). وسبحان العليم الخبير).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 74-82]


رد مع اقتباس
  #52  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:17 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(36) سيناء:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (36) سيناء
سيناء في القرآن بقعة شرفت من دون بقاعِ الأرض جميعًا بأنها الأرضُ التي كلم اللهُ عليها موسى تكليما، كما شرف ترابها من دون تراب الأرض جميعًا بتجلي الله عز وجل بنوره على جبل ما في نواحيها فجعله دكا: إنها واد مقدس بنص القرآن، يكفيك في قداسته هذا الكلام، وهذا التجلي.
ومن المصريين اليوم من يغفل عن هذا، بل منهم من يفوته أنه قد كان في مصر مولد موسى عليه السلام، وعلى صفحة نيلها تهادى به التابوت رضيعًا، وكان على أرضها مبعثه من سيناء، وفي بحرها انشق له البحر، وكان في التيه محياه ومماته، فدفن في تراب سيناء لا يعرف له قبر.
صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه، وعلى كل من تبعهم بإحسان.
قال عز وجل: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين} [المؤمنون: 18 – 20].
وقال عز وجل أيضًا: {والتين والزيتون وطور سينين} [التين: 1 – 2].
هذان فحسب هما الموضعان اللذان ذكر القرآن فيهما اسم «سيناء»: ورد في الأول على ما شاعت به (سيناء)، وجاء في الثاني بلفظ «سينين» التي انفرد بها القرآن. على أن «سيناء» لم ترد في الموضعين منفردة، وإنما وردت في كلا الموضعين مضافًا إليها «الطور» وهو «الجبل» في العربية وفي الآرامية أيضًا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/83]
ليس المقصود في القرآن إذن هو «سيناء» بالذات، وإنما المقصود في القرآن هو ذلك «الطور» الذي في سيناء، أو المنسوب إلى سيناء.
والذي ينبغي التذكير به أن الجغرافيين العرب حتى الثلث الأول من هذا القرن العشرين لم يقولوا قط «سيناء» منفردة في تسمية ما هو معروف الآن باسم «شبه جزيرة سيناء»، وإنما قالوا دائمًا في تسميتها «طور سيناء» أو «طور سينين»، على ما وردت في القرآن، تعميمًا لاسم هذا الطور المبارك على كل شبه الجزيرة، ولكننا في هذا القرن نتعالم، فنسقط فصيح العربية لنستبدل به رطانة الأجنبي Sinai المنقولة حذو النعل بالنعل عن العبرية «سيناي»، أي «سيناء»، كما قال بعض متعالمي الأساتيذ على ما مر بك من «تفاصحهم» إن صحيح «قيصر» هي «سيزار».
أما لفظة «طور» العربية – الآرامية («هار» العبرية)، فهي عربيا تعني مطلق الجبل، أو هي الجبل المنبت للشجر خاصة. وعلى هذا الوجه يفهم قول الله عز وجل: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين} [المؤمنون: 20] في وصف هذه الشجرة بأنها شجرة تنبت في سفوح هذا الطور المبارك. وتفهم أيضًا أنها شجرة «الزيتون» بالذات، لأنك لا تعلم في النبت شجرة تنبت الدهن وتنبت «الصبغ» معًا (وهو الإدام يؤتدم به) إلا ثمرة الزيتون التي تؤكل إداما وتعصر زيتا، لا خلاف على هذا بين مفسري القرآن. وستذكر أيضًا قول الله عز وجل وجل يضرب المثل لنوره: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور} [النور: 35].
وقد وردت لفظة «الطور» في كل القرآن عشر مرات، ست منها في هذا الطور المعنى بالنص، طور سيناء أو طور سينين: (مريم: 52، طه: 80، المؤمنون: 20،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/84]
القصص: 29 و 46، التين: 2)، وثلاث ترجح أنها فيه أيضًا، أعني ذلك الجبل الذي «نتقه» الله فوق بني إسرائيل (البقرة: 63 و 93، والنساء: 154)، والعاشرة لا تشك أنها فيه أيضًا، الذي أقسم الله به: {والطور وكتاب مسطور} [الطور: 1 – 2].
ووردت «الطور» بلفظ «الجبل»، أي نفس الطور المعنى، ثلاث مرات {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا} [الأعراف: 143]، {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} [الأعراف: 171].
ومن عجائب القرآن أنه يضع لفظة الغَرْبي موضع الطور، مرادفًا مطابقًا له، في قوله عز وجل: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} [القصص: 44] يعني إذ قضيتنا إلى موسى الرسالة، ثم يكرر الغربي بلفظ الطور لا يفصل بين القولين إلا آية: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} [القصص: 46]، وكأن الغربي بذاتها وبمحض لفظها، اسم موضوع لهذا الطور المبارك.
وقد ظن بعض المفسرين (راجع تفسير القرطبي لهاتين الآيتين) أن «الغربي» خلاف «الطور» فقالوا إن الطور هو موضع المناداة الأولى (ليلة آنس موسى من جانب الطور نارًا فأراد أن يقتبس)، أما «الغربي» فهو موضع إنزال التوراة وتلقي الألواح في مواعدة موسى ثلاثين ليلة أتمهن بعشر. ولا يصح هذا الذي قاله المفسرون، لقول الله عز وجل في تعيين موضع المواعدة: {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن} [طه:80]، فجانب الطور الأيمن إذن وجانب الغربي سواء، والغربي والطور واحد. وقد حار أيضًا مفسرو القرآن في وصف هذا الجانب من الطور بأنه «الأيمن» التي جاءت في كل القرآن ثلاث مرات فقط، كلها في وصف جانب هذا الطور أو شاطئه، والجانب والشاطئ واحد، ثم وصفه بأنه «الغربي»، التي وردت في كل القرآن مرةً واحدة فقط، هي في اسم هذا الطور المبارك أو جانبه، فقالوا إن الجبال لا يمين لها ولا يسار، ولا غرب ولا شرق، وإنما هو الذي على يمين موسى، وإلى الغرب من موسى.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/85]
والذي لم يعلمه هؤلاء المفسرون، وما كان لهم بالطبع هم والخلق أجمع أن يعلموه قبل أواسط القرن الماضي وأوائل هذا القرن العشرين، وعلمه الذي هو بكل شيء عليم، أن القرآن هاهنا يرادف بين الأيمن والغربي إدلالاً بإعجازه، وتدليلا على بالغ فقهه باللغة المصرية القديمة، لغة «شبه جزيرة سيناء» على عصر موسى، لأن اليمين عند المصريين القدماء هو «الغرب»، يعبرون عنهما بلفظ واحد: أمنت (قارون في المصرية القديمة «ونمى» يعني اليد اليمنى)، واليسار عندهم هو «الشرق» يعبرون عنهما بلفظ واحد: يابت (قارن في المصرية القديمة «يابى» يعني اليد اليسرى)، على خلاف ما نفعل نحن الآن في تعيين الجهات الأصلية الأربع: نستقبل الشمال ونستدبر الجنوب فيكون الشرق على اليمين والغرب على اليسار، وكأنهم كانوا يستقبلون الجنوب ويستدبرون الشمال، فيكون الغرب على اليمين والشرق على اليسار. والغروب كما تعلم هو أفول الشمس واحتجابها وراء الأفق، فاشتق المصريون معنى «الغرب» من الجذر المصري أمن وهو في لغتهم بمعنى الاختفاء والاحتجاب، ومن هذا المعنى أيضًا اشتق المصريون اسم معبودهم «آمون» (أو بالأحرى «آمان» كما نطقها البابليون على ما مر بك) الذي معناه المحتجب أو «الغربي» صيغة المذكر من أمنت يعني الغرب أو الغربي، أو هو «الغارب»، فعل الشمس التي تأفل في الأفق الغربي فتختفي وتحتجب: إنه الظاهر والباطن، الذي يشرق ويغرب، ومع ذلك فهو دائم الوجود، دائم الفيض، عميم النعم. ومن هنا تلمس في «شرك المصريين» أصلاً قديمًا من التوحيد، ولكن الكهنوت يرمز فيطمس. ثم يعدد فيفسد ويضل. مثلما استولد «رع» أي الشمس، من الإله الخفي المحتجب «آمون»، وليس «آتون» أي قرص الشمس، عن هذا ببعيد.
وربما قلت إن هذا الجبل «الغربي» الذي في سيناء كان عند المصريين القدماء أيضًا جبلا مقدسًا، ينسبونه إلى آمون «الغرب» أو «الغربي» على ما مر بك. ولكن ليس لديك دليل على هذا من المصرية القديمة، أو مما عرف من المصرية القديمة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/86]
على أن في القرآن إشارة إلى هذا في قول الله عز وجل يخاطب موسى: {إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى} [طه: 12]، وكأن هذا الوادي المبارك تقدس من قبل أن يطأه موسى، أعني تقدس في ماضٍ بعيدٍ في القرون الأولى، يوم كانت مصر قبل شركها بلدًا موحدًا يعبد الواحد الأحد. ربما كانت "دوى» هذه اسمًا من المصرية القديمة لهذا الجبل، وربما كانت «طوى» على ما قال المفسرون لهذه الآية (راجع القرطبي) عربيةً من الجذر «طوى» بمعنى «مرتين»، فيكون المعنى: الذي تقدس الآن، وتقدس من قبل.
والذي يجب أن تعلمه أن من أسماء الجبل الذي في سفحه زرع في اللغة المصرية القديمة، لفظة ترسم في الهيروغليفية «ضو»، وتنطق ف يالقبطية «توو» Toou وربما كان الأصل البعيد في المصرية القديمة هو «ضوا» أو "طوا».
وسبحان علام الغيوب.
لا يعرف علماء المصرية على التدقيق اسمًا في تلك اللغة موضوعًا على التخصيص لشبه جزيرة سيناء بحدودها المعروفة الآن، وإنما الذي يعرفونه من اللغة المصرية القديمة هو لفظة «شاسو»، علمًا على هذه الصحراء التي تربط مصر بجيرانها في الشرق، أي بالشام. والراجح أن المصريين ما كانوا يفرقون بين الصحراء «شرقي السويس»، وبين الصحراء «غربي السويس»، فلم تكن ثمة قناة تفصل ضفتاها بين الصحراوين، بل كانتا معًا صحراء واحدة ممتدة، تذهب فيها وتجيء جماعات من البدو الرحل، أسموهم بنفس هذا الاسم أيضًا «شاسو» من الجذر المصري «شس» بمعنى ذهب ورحل، وهم الذين نسميهم نحن الآن «بدو سيناء».
ولا يعرف علماء اللغة المصرية القديمة أسماء بتلك اللغة لمواقع داخل شبه الجزيرة يتقارب نطقها مع «سيناء» العربية أو «سيناى» العبرية، يمكن أن ينسب إليها الطور المبارك، بل إن «جبل موسى» - «حوريب» في التوراة – ليس مقطوعًا على وجه اليقين بأنه هو بالذات الجبلُ المعني.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/87]
والذي يعنينا بالدرجة الأولى في هذا الكتاب هو تفسير لفظة «سيناء»ن لا تعيين موقع ذلك «الطور» الذي في سيناء، أو المنسوب إلى سيناء.
في قراءة «سيناء» وجهان: الأول بفتح السين سيناء، على قراءة الكوفيين ومنها قراءة «حفص» التي يقرأ بها المصريون في مصاحفهم، والثاني بكسر السين، سيناء، في قراءة غيرهم، وهو يقارب النطق الدارج في العامية: سينا، بالقصر بدل المد، وبكسر السين لا بفتحها. وهذا يذكرك بلقب الفيلسوف العربي العلم: «ابن سينا».
ومن المصريين من يتفاصح فيلزمك بفتح السين في «سيناء»، مخطئًا إياك في كسرها، وإنما هو انحياز لإحدى القراءتين فحسب. والراجح عندي أن كسر السين في سيناء أصوب وأفصح، لقوله عز وجل على الإبدال من «سيناء»: سينين، في الآية 2 من سورة التين «والتين والزيتون. وطور سينين»، وكأن أصل الاسم سين، جاء بصورة جمع السالم المذكر مجرورًا بإضافة الطور إليه: سينين. أو هو مفرد على أصله جر بالكسر منونًا، أي سين مع إشباع الكسرة قبل التنوين فتؤول الكسرة إلى الياء: سينين، على المجانسة مع رؤوس الآيات في سورة «التين»، كما قال عز وجل: {سلام على إل ياسين} [الصافات: 130]، والأصل إلياس.
وقد جاءت «سين» هذه في التوراة علما على برية في صحراء سيناء: «مدبار سين» (النص العبراني: خروج 186) – و«مدبار» عبريًا يعني البرية – يطلقه شراح التوراة على صحراء غربي جبل سيناء باتجاه الساحل الشرقي لخليج السويس الذي عبره بنو إسرائيل وغرق فيه فرعون وجنوده، ومن شراح التوراة من يقول إن «سيناى» أي جبل سيناء، هي صفة على النسب إلى «سين»، فهو الجبل السيني، أو جبل سين، يعني الجبل الذي في برية «سين». والعبرانيون لا يقولون «هارسيناي» أي جبل سيناي، يعني الجبل السيني، وإنما يقولون اختصارًا «سيناي» أي «السيني»، يعنون الجبل نفسه لا المكان المنسوب إليه. أما «سيناي» في العبرية المعاصرة فهي عَلَمٌ الآن على شبه الجزيرة ؟؟؟، مأخوذ من اسم هذا الجبل المقدس، لا من برية «سين».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/88]
أفتكون «سين» هذه عبرية؟ علماء التوراة على هذا كدأبهم في «الاختصاص» بتسمية المواقع والأعلام بلغتهم هم وإن لم يكن لهم بها عهد، أو انتحال التسميات من لغتهم هم مهما كانت ظاهرة الافتعال. دليلك في هذا أنهم لا يجدون في لغتهم ما يشتقون منه «سين» هذه، فيقولون إنها من الآرامية، ومعناها «الطين»، فيكون معنى «سيناي» هو الجبل الطيني، أو جبل الصلصال. فتندهش كيف جاء الآراميون إلى هذا المكان فأسموه بلغتهم في غفلة من المصريين أصحاب الأرض؟ على أن في اللغة المصرية القديمة أيضًا «سين» بنفس المعنى، الطين أو الصلصال، فتفهم أن العبرانيين أخذوا «سين» بمعنى الطين والصلصال من المصرية القديمة رأسًا ولم يأخذوها من الآراميين.
بل من اللغويين أيضًا من قال بأن «سين» هذه بابلية، اسمًا من البابلية لمعبودهم «سين» الإله القمر، وأن سيناء كانت موضعًا لعبادة القمر. وهذا بعيد.
وربما شجع هذه المقولة أن «السنا» عربيًا يعني ضوء القمر، أخذوها من مفسري القرآن الذين حاولوا تفسير «سيناء» بالسنا والوضاءة، فالتقطها كدأبهم المستشرقون.
ومن علماء التوراة من يظن أيضًا أن «سين» هذه منسوبة إلى «سني» العبرية (بكسر السين والنون، والياء خاملة، وظيفتها إشباع كسرة النون، أعني أن الياء فيها تنطق ألفًا ممالة، كما لو نطقت بالفرنسية Sene)، وهو في التوراة اسم الشجرة التي نُودي منها في البقعة المباركة بشاطئ الوادي الأيمن: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة} [القصص: 30]، تنص الآية على «الشجرة»، ولا تبين ما هي. ولم يهتد علماء التوراة إلى أصلٍ عبريٍ في اشتقاق «سني» هذه يجمعون عليه. قالوا ربما إنها من الجذر العبري «سَنَنْ» - مكافئ «سَنَّ» العربي – بمعنى شاك وأحد وسنن، فهو نبت شوكي ذو أشواك، وانتهى المترجم العربي للتوراة إلى أنها شجرة العليق. والعليق كما تعلم أنواع، منها «توت العليق»، وهو الفرامبواز Framboise في اللغة الفرنسية، و Raspberry في اللغة الإنجليزية. وعلماءُ النبات العرب يقولون لك إن هذا الفرامبواز ليس أصيلاً في بلادنا، ناهيك بأن يكون أصيلاً في سيناء، وإنما هو مستورد، النبت واسمه،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/89]
لا يصح أن يكون على عصر موسى عليه السلام. ولكن المعجم العبري الحديث لألفاظ التوارة «هملون هحداش لتناخ» (وهو من مراجع هذا الكتاب) ينص في تفسير «سنى» على أنه الفرامبواز، فيقول في تفسيره: سيح بطل قدوش، يعني شجيرة الفرامبواز المقدسة، ونسيج العبارة العبرية ذاته يوحي لك بالتكلف والافتعال، لأن «بطل» العبرية هذا بمعنى «فرمبواز» ليست عبرية، أعني أنها ليست من عبرية التوراة، وإنما هي من العبرية المستحدثة، استحدثوها بعدما رأوا الفرمبواز في أرض الشتات وأكلوه. وإضافة صفة «المقدسة» إلى تلك الشجيرة «قدوش»، يدلك على أن هذا النبت المقدس المسمى في التوراة، نبت يوجد في الذهن والتصور، ولا يوجد في الطبيعة، فلا يأكل منه الناس، وهذا هو الواقع، فلا وجود لنبت في العبرية باسم «سني» إلا في التوراة. لهذا تحرز المعجم الثنائي عبري – فرنسي «لاروس» من تفسير «سنى» بلفظ الفرمبواز على التعيين، وإنما قال: Buisson d’epines أي شجيرة أشواك، لا يحدد ما هي. كذلك تحرز المترجم الإنجليزي للتوراة، بل كان أشد تحرزًا، في ترجمته «سني»، فاكتفى بقوله Bush أي «شجيرة»، لا يزيد. والقرآن على هذا كما مر بك: إنها الشجرة لا يسميها ولا يحدد ما هي. وهذا من إعجاز القرآن كما سترى، الذي لم يلتفت إليه المفسرون الذين خاضوا في تعيين اسم الشجرة (راجع تفسير القرطبي للآية 30 من سورة القصص)، فقالوا «سمرة» «عناب»، «عوسج»، «غرقد»، بل قالوا «شجرة العليق» بالنص، متابعة لعلماء أهل الكتاب، ثم استراحوا لتفسيرها بالغرقد، استئناسًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرجه مسلم في صحيحه وجاء فيه أن الغرقد من شجر اليهود: «فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت يا مسلم هذا يهودي ورائي، تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود، فلا ينطق» . وليس هذا الحديث على صحته بحجة للغرقد كما ترى، إذ ليس لشجرة بوركت من الله عز وجل: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها} [النمل: 8] أن يخرج من بذرتها ظهير للذين ظلموا.
هذا مجمل ما قيل في «سيناء» شرقًا وغربًا. وهو كما رأيت لا يصمد للنقد، ولكنك تعود فتقول إن اسم برية سين الذي في سفر الخروج لم يأت من فراغ: إنه اسم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/90]
البقعة التي يوجد بها الطور المبارك، وإليها ينسب. ولكنه كما كان عليك أن تفترض من قبل، علم على أرض بلغة أصحاب الأرض.
ليست «سنى» العبرية هذه بعبرية، وليست هي أيضًا عربية، وإنما هي مصرية هيروغليفية. ليست هي العليق أو الفرمبواز، وليست هي أيضًا بالعناب أو السمر أو العوسج أو الغرقد كما تكلم فيها مفسرو القرآن، وليست أيضًا من السناء والوضاءة على النسبة إلى القمر كما قال مستشرقون يتكئون على أهل التفسير الأوائل. ولكن «سنى» هي كما قال القرآن، مطلق الشجرة.
ومطلق الشجرة في المصرية القديمة هو «شن» يصطلح علماء تلك اللغة كما مر بك على نطقها مكسورة الشين ساكنة النون، لا يجزمون.
والعبرية كما مر بك تخالف بين الشين والسين: ما كان بلغة غيرهم شيئًا قلبوه إلى السين، والعكس، فلا تستبعد أن ينطقوا «شن» المصرية القديمة هذه «سن» وتجيء منها في التوراة «سين» اسم تلك البرية، «سينى» اسم ذلك النبت.
وتحرف هذا وذاك على شراح التوراة، فظنوا «سنى» من «سنا» العبرية بمعنى الشوكة، وأخذوا «سين» اسم تلك البرية، من «سين» الآرامية بمعنى الطين.
وأنت لا تتصور بالطبع أن تكون شبه جزيرة سيناء على عصر موسى مفازة بلا أعلام، وإنما أنت تقطع بأنه قد كان في شبه الجزيرة قبل عصر موسى بقرون لا يعلمها إلا الله مواقع ومنازل سماها أصحاب شبه الجزيرة بلغتهم هم، لا ينتظرون عبور بني إسرائيل إليها من «بحر القلزم» (خليج السويس) ليسموها بلغتهم العبرية، شأن الرحالة الأوروبيين في عصر الكشوف الجغرافية. بل قد كانت للمصريين في سيناء محاجر ومناجم، وكانت لهم في سيناء مخافر وشرط حدود، وكانت لهم عبر سيناء حملات وغزوات، ولا يحدث هذا كله على مدار التاريخ دون أن تكون في سيناء مواقع ومنازل أسماها المصريون أنفسهم قبل مجيء بني إسرائيل إلى مصر في ضيافة يوسف بإذن من ذلك الملك الذي جعله على خزائن الأرض.
وأنت لا تتصور بالمثل أن تكون سيناء كلها صحراء لا نبت فيها ولا زرع، وإلا لخلت على مدى التاريخ من بدو يغدون فيها ويروحون في طلب الكلأ والمرعى.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/91]
ولكنك تعليم اليوم – بل وترى رأي العين – أن المطر ربما هطل على مواقع في شبه الجزيرة سيولا، هي المدد لتلك المياه الجوفية التي يسلكها الباري عز وجل ينابيع في الأرض، ثم تتفجر منها حيث يشاء سبحانه العيون والآبار، ومنها – وهو الذي يعنينا هنا - «عيون موسى» في جنوبي شبه الجزيرة قبالة خليج السويس، حيث عبر بنو إسرائيل. لا تخلو سيناء إذن من واحات مخضرة، ولا تخلو بالأخص من نخيل وزيتون.
ولكن سفر الخروج (الفصل 16) يقول لك إن بني إسرائيل عبروا البحر فبلغوا «برية سين» بعد خمسة شعر يوما من عبورهم بحر القلزم (خليج السويس)، فأعوزهم في تلك البرية الماء والطعام، وتذمروا على موسى وهرون: «ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم، نأكل خبزًا للشبع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا الفقر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع» (خروج 16/ 4).
فكيف يجوز تسمية القفر باسم «سين» على معنى «الطين» آرامية أو مصرية؟ بل كيف يجوز تسمية هذا القفر باسم «سين» المتحورة عن «شن» الهيروغليفية – كما نقول نحن – على معنى «الشجرة»؟ أفي القفر ثم طين أو شجر؟
الذي أقول به أنا هو أن «سين» هذه ليست منسوبة إلى طينتها أو شجرها، وإنما هي بالأحرى منسوبة إلى هذا الجبل المبارك، الذي تنتهي عنده تلك البرية في واد مقدس، في سفح «طور» ينبت الشجر.
والصفة على النسب تجيء في الهيروغليفية – مثلما تجيء في العبرية والعربية – بإضافة الياء في آخر الاسم المنسوب إليه – غير مشددة – فتقول بالهيروغليفية شنى (من شن) تريد الأشجر، ذو الشجر. وليست «شنى» الهيروغليفية هذه عن «سنى» العبرية ببعيد.
ومن هنا تفهم عبارة سفر الخروج في النصر العبراني: «متوخ هسنى» (خ 3/ 4) لا على أنها «من وسط العليقة» كما قال المترجم العربي، ولكن على أنها «من وسط الشجرة» كما قال القرآن: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة} [القصص: 30]، أي نودي من الشجرة التي في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة، أي الوادي المقدس «طوى». وشاطئ الوادي الأيمن يعني شاطئ الوادي من جهة الغرب، أي الشاطئ الغربي كما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/92]
مر بك، لا حاجة بك إلى القول كما قال المفسرون الأوائل بأنه الذي على يمين موسى أو إلى الغرب من موسى: إنه الشاطئ المواجه لبرية «سين» الواقعة بين غربي الطور المبارك وبين شرقي خليج السويس.
على هذا يكون معنى «طور سيناء» هو: طور الشجراء ذات الشجر، أو هو «طور الشجرة» المعنية، لا أكثر ولا أقل.
والقرآن – على منهجه في التعريب – يأتي بـ «سيناى» العبرية على العلمية التي ثبتت لها في التوراة، فيقول «سيناء»، ولكنه يعلم ما لم يعلمه شراح التوراة، وهو أن سيناء بلغة أصحاب الأرض أصلها من «الشجر» فيرادف بين الشجرة وبين «سيناء» في قوله عز وجل: {وشجرة تخرج من طور سيناء} [المؤمنون: 20]. وسبحان العليم الخبير.
وقد مر بك ما قلناه في تفسير عدول القرآن عن «سيناء» إلى «سنين» في الآية 2 من سورة التين، فلا نعود إليه.
أما ما هي تلك الشجرة – والله عز وجل بغيبه أعلم – فنحن نرجح أنها شجرة الزيتون بالذات، استدلالاً بوصفه عز وجل تلك الشجرة «التي تخرج من طور سيناء» بأنها «شجرة تنبت بالدهن وصبغ للآكلين»، ولا يصح الجمع في الإنبات بين هذا وذاك إلا في ثمرة الزيتون، واستئناسًا أيضًا بالترادف بين «الزيتون» وبين «سينين» في قوله عز وجل: {والتين والزيتون وطور سينين}[التين: 1 – 2]، وجمعا بين قوله عز وجل في إحلال البركة على تلك الشجرة التي في سيناء: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها} [النمل: 8]، وبين قوله عز وجل في ضرب المثل لنوره: {المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة} [النور: 35].
وقد مر بك أن سيناء لا تخلو من نخيل وزيتون، ولكنها بالقطع – عصر نزول التوراة على الأقل – كانت تخلو البتة من توت العليق أو الفرامبواز، على خلاف ما ذهب إليه أهل الكتاب، أصحاب التوارة.
وسبحان علام الغيوب، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 83-93]


رد مع اقتباس
  #53  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:18 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(37) التوراة:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (37) التوراة
«التوراة»، في القرآن، تعريب مفسر للفظة «تورا» العبرية، اسم الكتاب الذي أنزل الله على موسى.
وتنطق «تورا» العبرية مدًا بالألف بعد الراء، حين تنفرد، وتزاد فيها التاء حين تضاف إلى مضاف إليه، فتقول بالعبرية «تورات موشيه»، وتعني «توراة موسى». أما إن أضفت إلى «تورا» أداة التعريف العبرية «ها»، فأنت تنطقها «هتورا»، تريد «التوراة» معرفة بالألف واللام.
وقع في وهم الذين لا يعرفون العبرية من المتعالمين في المجتمع المسلم – الذين يأنفون أو يفرقون من إعمال المسلمين القرآن دستورًا لهم في مجتمعاتهم – أعني هؤلاء العلمانيين المتأوربين في المجتمع المسلم الذين يكدون الذهن في تأصيل مقولة المباعدة بين القرآن والسياسة وتسويد الصحائف في إفلاس «الإسلام السياسي» - وقع في وهم هؤلاء أن «تورا» العبرية، أي التوراة، معناها بمحض لفظها العبري «الشريعة»، أما القرآن فهو كتاب هدى ورحمة، لا يصح أن تتخذ منه دستورًا. يريد هذا الكاتب إفتاء المسلمين بالا حرج عليهم في المباعدة بين القرآن والسياسة في مجتمعهم لأن القرآن كتاب هداية وإرشاد فحسب، ليس بشريعة كالتوراة. وربما تفكهت معه فأوجبت عليه بحكم منطقه هذا أن يتصدى لإفتاء يهود هذا العصر بأن يعملوا التوراة في السياسة لا يحيدون عنها إلى غيرها، لأن التوراة هي الشريعة.
وليس هذا بشيء كما سترى، وإنما بنى الكاتب مقولته على ما وجده في بعض معاجمه الفرنسية أو الإنجليزية التي تفسر لفظة «تورا» بلفظة Loi الفرنسية ولفظة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/94]
Law الإنجليزية. وهو تفسير يأخذ لفظة «تورا» لا بأصل معناها في العبرية، وإنما بما آلت إليه عند بني إسرائيل الذين اتخذوا من توراتهم شريعة لهم، شأنها شأن القرآن نفسه مع هؤلاء المسلمين أنفسهم منذ نزوله وحتى انهيار الخلافة العثمانية في أوائل هذا القرن العشرين، أساءوا التطبيق أم أحسنوا. يكفي أن قد كان لهم القرآن إمامًا، ويكفي أنك تحاسبهم بهذا القرآن نفسه حين أساءوا: تعيب التطبيق ولا تعيب الأصل، تتهم المؤتم ولا تتهم الإمام، فتنتقد نفسك ولا تنتقد قرآنك، أن أسأت الفهم عنه أو عبثت بك أهواؤك، أو خومرت في عقلك فأردت التحلل منه، تلتمس الهدى عند من أضلوك عنه، الذين فتنت بهم منذ اقتحموا عليك أرضك، فأفسدوا عليك عقلك، وأفسدوا عليك إسلامك.
ليس المسلم خيار إلا اتباع قرآنه، إن أراد أن يظل مسلمًا بفكره، مسلمًا بقلبه، مسلمًا بيده، مسلمًا بلسانه، لا مسلمًا ببطاقة هويته فحسب، فما ذل المسلمون في بلادهم اليوم وبالأمس، إلا لأنهم ارتضوا الدنية في دينهم، وتخاذلوا فسكتوا عمن لغا في هذا القرآن من ذوات أنفسهم، حتى نبحت الإسلام كلابه.
وقد أخطأ الإسلاميون في هذا القرن، وأخطأ معهم أمثال هذا الكاتب العلماني، الذين خلطوا بين التشريع والشريعة: أراد الإسلاميون من القرآن، واشترط العلمانيون على القرآن، يتوهمون تعجيزه، في صدورهم كبر ما هم ببالغيه، أن يكون القرآن بذاته مجموعة جاهزة من الأحكام القانونية. وإنما القرآن «شريعة»، والشريعة «دستور»، والدستور «ضوابط» تحكم مسيرة المجتمع كله، كما تحكم الاشتراع والتشريع، إنه الحاكم الضابط الموجه لما يصدر في المجتمع المسلم من قوانين وتشريعات، يحكم منطلقاتها وأهدافها، شأنه شأن أي دستور آخر، تسفل أو تسامى.
فهل آن للمسلمين اليوم أن يثوبوا إلى مقالة نبيهم صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس! إن لكم معالم، فانتهوا إلى معالمكم»؟ وهل «معالم» المسلمين في كل عصر وكل زمن إلا هذا القرآن؟ ألم يحن للمسلمين اليوم أن يتخذوا من قرآنهم دستورًا؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/95]
أما أن القرآن كتاب هداية وإرشاد، فنعم. ولكن، هداية وإرشاد إلى ماذا، وإلى أين؟ هذا هو الذي فات الكاتب. غفر الله لنا وله، وهدانا وإياه جميعًا إلى صراطه المستقيم: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 153].
وأما الذي تعجب له وتندهش، فهو أن «تورا» العبرية هذه لا تعني بذات لفظها العبري الشرعة أو القانون، وإنما هي تعني بذات لفظها العبري الهدى والهداية، وهو ما «نعاه» الكاتب على القرآن، كما تعني بذات لفظها الإراءة والتبصير، وتعني التعليم والإرشاد، كما تعني بذات لظفها العلم. ولا تزال العبرية المعاصرة تنحت من «تورا» العبرية هذه لفظة مورى، يعني المعلم. وتقول العبرية المعاصرة على سبيل المثال: تورات هنفش، يعنون علم النفس، لا شريعة النفس، وتقول: تورات هاجيرا، يعنون علم الاجتماع، لا شرعة الاجتماع، وتقول: تورات هاهجيون، يعنون علم المنطق، لا شرعة المنطق، كما لو فهمت «تورات» في هذا وذاك بمعنى الشرعة والشريعة، كما يفهمها الذين يستمدون – دون تأصيل – من معاجمهم الفرنسية أو الإنجليزية.
تشتق العبرية لفظة «تورا» من الجذر العبري «يرا»، وهي لا تشتق «تورا» من ثلاثية المجرد «يرا»، وإنما تشتقه من ثلاثية المزيد في أوله بهاء التعدية في العبرية، أي «هورا». وهاء التعدية في العبرية تكافئ همزة التعدية في العربية، أي صيغة أفعل يفعل إفعالاً. ولفظة «تورا» مصدر من هذا، فهي «إفعال» من «أفعل»، أو هي «تفعلة» من «فعل». وهي أيضًا «تفعال» مثل تبيان وترحال وتجوال، على المبالغة.
والجذر العبري «يرا»، يدور هو مشتقاته على معاني مستمدة من أصول عربية أربعة، هي: (1) الجذر العربي أرى، واراه يعني ثبته ومكنه، ومنه «يروشاليم» عاصمة فلسطين كما يقول علماء التوراة يعني «ركيزة السلام»، لا «مدينة السلام» كما يقول غيرهم أخذًا من «أور» الآرامية يعني المدينة، وهو خطأ شائع، لأن اسم القدس في العبرية والآرامية معًا مبدوءٌ بالياء لا بالهمزة. (2) الجذر العبري وأر،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/96]
وأوأره يعني أعلمه. (3) الجذر العبري ورأ، وأورأه يعني أعلمه. (4) الجذر العربي ورى، ومنه الورى، أي الخلق، كان في سابق علم الله مكنونًا فظهر، واستوراه فورى له يعني استعلمه فأعلمه، واستهداه فهداه، أي أرشده، لا يخرج عن هذا «ورى عن الشيء» أي أراده وأظهر غيره، أي أخفاه، ومنه التورية، لأنها معدولة عن «الإعلام» إلى نقيضه بالحرف «عن»، كما تقول «رغبت فيه» و«رغبت عنه»، وكما تقول، «عدلت إليه» و«عدلت عنه».
معنى «تورا»، أي «التوراة»، هو إذن عند علماء العبرية وعلماء التوراة: (1) العلم والإعلام، تجيء بها في العربية على «توراء»، زنة «تفعال» من الجذر «ورأ». وقد استجيزت «توراء» على معنى «توراة» في الشعر خاصة، لا تصح القراءة بها في القرآن لمخالفتها خط المصحف. (2) الإظهار والإبانة، من الجذر «ورى». (3) الهدى والهداية والإرشاد، من الجذر «ورى» أيضًا. (4) الإراءة والتبصرة، من استوراه فورى له، تأخذ هذا من الجذر «ورى» كذلك.
وقد ألم القرآن المعجز في تفسيره لفظة «توراة» بهذه المعاني الأربعة جميعًا: العلم، الإبانة، الهدى، التبصرة، في غير موضع، تكفيك منها الأمثلة التي نتلوها عليك توًا.
وكثيرًا ما ترد في القرآن لفظة «الكتاب» والمقصود بها «التوراة» على وجه التحديد، من مثل قوله عز وجل: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا} [الأنعام: 91]. نعم، قد جاء لفظ «الكتاب» كثيرًا والمراد منه «القرآن» بالقطع، في مثل قوله عز وجل: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 1 – 2]، أي أن القرآن وحده، دون الكتب من قبله، هو الكتاب الذي لا ريب فيه، لا تشك أن كل حرف فيه من قول الله، وغيره من الكتب تسمعها فلا تأمن التصحيف والتبديل. وكثيرًا أيضًا ما يجيء القرآن بلفظة «الكتاب» ومراده منها مجمل وحي الله على رسله، وما «أم الكتاب» عن هذا ببعيد، أعني اللوح المحفوظ
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/97]
الذي تتنزل منه الملائكة بوحي الله على رسله، قرآنا وغير قرآن، ولكن ربما لا يلتفت كثيرون إلى أن «التوراة» بالذات – أعني ما صدق في التوراة التي بين يديك فصدقه القرآن – هي وحدها فيما نعلم من قول الله عز وجل، الكتاب الوحيد الذي أنزله الله مكتوبًا في ألواح، فهي الكتاب المكتوب، كما تستظهر من قوله عز وجل: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين} [الأعراف: 145]، أي إن لم تفعلوا كان مصيركم دار الفاسقين. ولكن بني إسرائيل لم يفعلوا، وتعللوا بأن الألواح التي جاء بها موسى من عند الله ألقاها موسى فتحطمت منه في فتنة العجل، بل تقول لك هذه التوراة التي بين يديك أن الألواح لم تكن إلا لوحين اثنين، كسرهما موسى بيديه في حُمُوْ غضبه (خروج 32/ 29) فلم تعد ثمة ألواح، ولكنه نحت لنفسه بأمر الله لوحين من حجر مثل الأولين كتب الله له عليهما نفس الكلمات التي كانت على اللوحين اللذين كسرهما موسى في حمو غضبه (خروج 31/ 1). ولكن القرآن يجيء بالألواح على صيغة الجمع كما مر بك ويقول لك أيضًا أن الألواح لم تتحطم ولم يكسرها موسى بيديه – حاشاه أن يفعل مهما كان حمو غضبه – ولكنه التقط الألواح لم يمسسها سوء ولم تمح منها كلمة مما كتب الله له فيها: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} [الأعراف: 154]. بل ما كانت تلك الألواح لتنحطم أو تنكسر لحظة ألقاها موسى، فلم تكن من حجر: كما وهم الكاتب، وإنما كانت رقائق من الجلد، كما تستظهر من قوله عز وجل يقسم بالطور وبالتوراة، والكتاب المسطور: {والطور وكتاب مسطور في رق منشور} [الطور: 1 – 3] أيا ما كان الأمر، فأنت تعلم بالطبع أن بني إسرائيل من بعد موسى أضاعوا هذه الألواح المقدسة فلم يبق منها إلا ما بقى في ذاكرة كتبة التوراة: فيها من قول الله، الذي صدقه القرآن والحديث الصحيح، وفيها الذي هو إلى التواريخ والسير أقرب، وهو أكثرها.
والذي يعنينا في هذا السياق هو تأصيل المقصود من عبارة «أهل الكتاب» في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/98]
القرآن: أهم اليهود فقط أم اليهود والنصارى فحسب، أم هم كل أمةٍ ذات كتاب، سواء أخبر الله عز وجل عنهم في القرآن أم لم يخبر؟
أما أن اليهود يندرجون تحت وصف أهل الكتاب فهذا مقطوعٌ به ولا خلاف عليه، تستظهره في مثل قوله عز وجل: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا} [الأحزاب: 26]، والذين أنزلهم الله من صياصيهم، أي من حصونهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وقتل منهم المسلمون وأسروا، هم «بنو قريظة»، أي بعض يهود يثرب.
وأما أن النصارى مخاطبون هم أيضًا في القرآن باسم «أهل الكتاب»، فهذا مقطوع به كذلك ولا خلاف عليه، تستظهره في مثل قوله عز وجل: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171]، والذين «قالوا ثلاثة» ليسوا اليهود كما تعلم، وإنما هم النصارى.
وأما أن اليهود والنصارى هم وحدهم «أهل الكتاب» لا يندرج تحت هذا الاسم غيرهم من الملل، فهذا هو صريح القرآن، لا يصح غيره، وشواهده القاطعة من القرآن عديدة، ومنها هذا الشاهد الحاسم الذي يقطع كل جدل: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين} [المائدة: 68]، أي هم أهل التوراة والإنجيل، فليستقيموا عليهما، وعلى ما أنزل إليهم من ربهم، أي القرآن، الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم ودعاهم إليه، بدليل قوله عقب هذا مباشرة وليزيدن كثيرا منهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/99]
ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرا .... (الآية)، فما أنزل إليهم من ربهم بخلاف التوراة والإنجيل هو هذا القرآن الذي دعوا إليه. لا يصح أن يؤمر بإقامة التوراة والإنجيل، إلا أهلهما، كما جاء في قوله عز وجل: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} [المائدة: 65 – 66].
والراجح عندي لا يصح غيره، أنهم سموا «أهل الكتاب» بمعنى «أهل التوراة»، فالتوراة، لا الإنجيل، هي الكتاب المعني. وهي مشتركة بين الطائفتين: يدين اليهود بالتوراة كما تعلم، ويكفرون بالإنجيل، ويدين النصارى بالتوراة وبالإنجيل. وقد قال المسيح عليه السلام: ما جئت لأهدم الناموس (أي التوراة) وإنما جئت لأكمل، أي بالإنجيل، فالمسيح عليه السلام يكمل التوراة ولا ينتقص منها. وقد ظل المسيحيون الأوائل يعدون فرقة من فرق اليهود لا أكثر ولا أقل. ولم تكتب الأناجيل التي بين يديك إلا بعد زمان من رفع المسيح، وهي قد كتبت إنشاء لا استنساخًا من أصل يرد إليه. ولا تزال المسيحية إلى اليوم تتعبد في كنائسها بتلاوة فقرات من هذه التوراة، توراة اليهود. بل إن «الكتاب المقدس»، كتاب المسيحيين كما مر بك، مجلد يضم «التوراة والإنجيل» معًا: إنه هو «الكتاب» The Bible (La Bible بالفرنسية)، وأصلها Biblion اليونانية – لغة الكنيسة الأولى – واصل معنى Biblion هذه «الكتاب» لا أكثر ولا أقل. وقد أصبحت Bible هذه علما على التوراة والإنجيل معًا، لا يجوز إطلاقها إلا والمراد منها «التوراة والإنجيل»، لا مجرد أي كتاب.
ومن إعجاز القرآن أن يفطن وحده – مطلع القرن السابع للميلاد – إلى هذا، فيجمع بين الطائفتين تحت مسمى واحد: أهل الكتاب، على معنى أهل التوراة والإنجيل يعني (بالإنجليزية مثلاً) People of the Bible لا People of the Book كما تخطئ فيها بعض ترجمات القرآن الإنجليزية . بل إن القرآن المعجز يأبى على أي من الطائفتين أن تنكر إحداهما على الأخرى وكتابُهم واحد، أي التوراة: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/100]
على شيء وهم يتلون الكتاب} [البقرة: 113] يريد كيف يسوغ لهم إنكار بعضهم على بعض وهم جميعًا يتعبدون بهذه التوراة نفسها، وإن اختلف الكَنِيس؟ والقرآن بهذا الإنكار يسبق بقرون المعاجم الأوروبية التي استحدثت لفظة Judeo – Christianism عَلَما على الثقافة «اليهودية – المسيحية»، أعني هذا الفكر المشترك الذي ينهل من نبع واحد هو «التوراة». هذا الفكر المشترك النابع من نبع واحد، هو الأصل الذي ترد إليه تلك «الموالاة» بين الطائفتين، حين تتحدان في مواجهة الإسلام: لا تتحزب مع الإسلام قط طائفة ضد أختها. وهذا هو معنى قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51]، أي لأنهم أولياء بعض تخشى منهم الموطأة عليك. وهذا من إعجاز القرآن أيضًا، دليلك فيه ما يحدث في هذا العصر بالذات من ممالأة إسرائيل عليك. ولكنك لا تلوم في هذه إلا نفسك، فهم لم يخدعوك أو يغرروا بك، وإنما أنت الذي عميت عن كتاب ربك وسنة نبيك، حتى هانت عليك نفسك، فهنت على الناس.
أما أن يقال لك أن أهل الكتاب معناها في القرآن كل أمة ذات كتاب، فهو قول هراء، لا لما أسلفناه من القرآن فحسب، وليس لمسلم حجة بعد القرآن، وإنما أيضًا لأن القرآن لم يقل قط «أهل كتاب» على التنكير الذي يفيد التعميم، وإنما قالها «أهل الكتاب» معرفًا بالألف واللام، يريد الكتاب المعنى، أي التوراة بالذات على ما مر بك. ولأن القرآن يريد الكتب «المنزلة» ولا يعبأ بالكتب «الموضوعة»، ولا علم لك بكتب أنزلت قبل القرآن إلا التوراة والإنجيل، ناهيك بكتب يصطنعها الذين كفروا بختام الرسالات والنبوات. إن عممت ولم تفرق، اعتل عليك كل ذي كتاب بكتابه، وإن جاء بصريح الكفر. وإن عممت ولم تفرق، فقد استدركت على القرآن الذي لم يسم لك كتب زرادشت وكونفوشيوس وكتب البوذيين والهندوس، وقد دانت بها الملايين على
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/101]
عصر نزول القرآن، ولا تزال تدين. وأخيرًا، إن عممت ولم تفرق، فقد أدخلت المسلمين أنفسهم في زمرة أهل الكتاب، لأنهم أهل القرآن، والقرآن كتاب، بل هو الكتاب. ولا يعتلن عليك أحد بفعل عمر رضي الله عنه - إن صحت الرواية – أنه استجاز إلحاق المجوس بأهل التوراة والإنجيل: قد قاس عمر إذن، والقائس يجتهد فيخطيء أو يصيب. ولو كان في المسألة نص صريح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقرر أن المجوس بعضٌ من أهل الكتاب لما جاز لعمر أصلاً أن يقيس، وما كان لمجوسي أن يستعلن بمجوسيته في دار الإسلام على عصر عمر رضي الله عنه كما يستعلن اليهود والنصارى، وإلا لقبل عمر الجزية من الهرمزان وما قال له: الإسلام أو السيف! ولم تكن في دار الإسلام على عصر عمر «معابد نيران» يؤمها المجوس مثلما كانت لليهود والنصارى في دار الإسلام ولا تزال صلوات وبيع وأديرة وكنائس. ودعك مما يقال لك – وإن صح – من أنه قد بقى في الدولة العباسية مجوس يؤمون معابد لهم، فلا تنس أن «العباسي» ليس صحابيًا تستن به، ولا تنس أيضًا أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس، والعرق دساس.
في المجتمع المسلم – حين يصح إسلامه – لا مواطنة إلا لمسلم أو كتابي، ولا كتابي إلا اليهودي والنصراني، وغيرهما عابر مسلم أو معاهد مستأمن، ومثل بمثل.
مر بك أن التوراة هي الكتاب الذي أنزل الله على موسى. ولكن التوراة كما تعلم، شأنها شأن الإنجيل، تطلق أيضًا ويراد منها مجمل أسفار «العهد القديم»، فتشمل أسفار اليهود كلها، التي يجمعها اليهود تحت اسم «تورا نبيئيم وكتوييم» (وتلفظ عبرانيًا «تورا نفيئيم وختوفيم» وتختصر إلى «تناخ» بالأحرف الأولى) يعني «التوراة – الأنبياء - الكتب»، أي «أسفار التوراة»، «أسفار الأنبياء»، «أسفار
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/102]
الكتبة» - وسنقولها نحن اختصارًا «توراة الأنبياء والكتبة» - لأن من أصحاب تلك الأسفار من ليسوا بأنبياء، بل كتبة، مثل سفر «عزرا»، كاتب شريعة الله بعد سبى بابل. والكتبة في ديانة اليهود هم حفاظ التوراة، يستنسخونها بأيديهم، لم يهبط عليهم وحي، وإنما جاءتهم القداسة بإضافة ما صنفوه إلى الكتاب. وما نزل القرآن إلا وقد اكتمل المجلد، فهو تلك «التوراة» أو «العهد القديم» الذي بين يديك. وقد ضاع من قبل بعض تلك الأسفار وبقى البعض، دليلك في هذا من التوراة التي بين يديك، التي تحيلك في بعض مواضع إلى أسفار تسميها بالاسم ثم تفتش عنها في هذا المجلد فلا تجد لها أثرًا بين دفتيه. وسواء نسب السفر إلى نبي أو كاتب، فسيان هذا أو ذاك، إذ ليس في التوراة التي بين يديك سفر واحد خطه نبي بيده، أو أملاه وروجع عليه، وإنما هي كلها صنع «الكتبة» على التراخي، حفظ الكتبة أم ضيعوا. وما جاء القرآن في بعض مقاصده إلا لهذا، مصدقًا لما بين يديه ومهيمنًا عليه.
وتنسب الأسفار الخمسة الأولى من «توراة الأنبياء والكتبة»، وهي سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر العدد، وسفر اللاويين، وسفر التثنية (تثنية الاشتراع) – أو بالأصح تنسب مادة هذه الأسفار الخمسة – إلى موسى عليه السلام، فهي وحدها «توراة موسى»، تليها أسفار غيره، أنبياء وكتبة، ومن بين أسفار الأنبياء، سفر «المزامير»، أي مزامير داود عليه السلام، أي الزبور، المعنى بقوله عز وجل: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا} [الإسراء: 55]. وسيأتي الحديث عن «الزبور» في موضعه.
هذه «التوراة» إذن، أ‘ني «توراة الأنبياء والكتبة» كما يسميها اليهود، أو «العهد القديم» كما يسميها النصارى، تتضمن فيما تتضمن، كلاً من «توراة موسى»، «زبور داود».
ولو قد آمن اليهود لعيسى، لكان الإنجيل نفسه بعض «توراة الأنبياء والكتبة»، خاتمة لهذا «الكتاب» المنسوب إليه «أهل الكتاب»، الموسوي منهم والمسيحي سواء، ولحفظه الأحبار مثلما حفظوا توراة موسى وزبور داود، على الأصل الذي نطق به عيسى بلغته العبرية أو الآرامية، ولسمعت كلماته من فيه المبارك تنطق بالحق الذي ضل عنه كثيرون.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/103]
ولكن الله عز وجل هكذا شاء وقدر، فحسبك القرآن المصدق المهيمن، وفيه الكفاية.
صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه وعلى كل من تبعهم بإحسان.
أما «توراة موسى»، أعني تلك الأسفار الخمسة الأولى التي تتصدر «توراة الأنبياء والكتبة»، فهي التراث الموروث لما سمع من الأنبياء منذ إبراهيم إلى موسى عليهم جميعًا أزكى الصلاة وأتم التسليم، بالقدر الذي حفظته ذاكرة الكتبة الذين خطوا هذه الأسفار الخمسة بأيديهم، أعني «ما صدق» فيها.
تستظهر هذا من قوله عز وجل في ختام سورة الأعلى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 14 – 19].
أما «صحف موسى» فهي أسفار أربعة من تلك الأسفار الخمسة: خروج – عدد – لاويون – تثنية، التي تقص قصة موسى عليه السلام منذ مولده في عاصمة مصر حتى وفاته في تيه سيناء لا يعرف له قبر. وأما «صحف إبراهيم» فتجدها في السفر الأول من الأسفار الخمسة، أعني سفر «التكوين»، الذي يقص قصة الخلق منذ بدء الخلق بآدم، وينتهي بوفاة يوسف في مصر. والذي تستطيع أن تسميه «صحف إبراهيم» من هذا السفر هو الإصحاحات الأربعة والعشرون الأولى من سفر التكوين، وبداية الإصحاح الخامس والعشرين حتى يقول الكاتب: «وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة شيخًا وشبعان أيامًا وانضم إلى قومه» (تكوين 25/ 8). ثم يأتي بعد ذلك حديث إصحاحات السفر عما كان من شأن أبناء إبراهيم وحفدته وفيهم من الأنبياء إسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف الذي ينتهي السفر بوفاته.
وكما لا تستطيع أن تقول أن الأسفار الأربعة التي تتحدث عن موسى هي بذات حروفها «وحي الله على موسى»، أو «صحف موسى» كما يسميها القرآن، لأنك لا تتصور أن يتضمن وحي الله «على موسى»، أخبار مولده وأخبار وفاته كما يقصها عليك الكاتب في سفري الخروج وتثنية الاشتراع، لا تستطيع أيضًا أن تقول
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/104]
أن أول أسفار «توراة الأنبياء والكتبة»، أعني «سفر التكوين» وفيه ما فيه على ما مر بك، هو بذات الحرف والعبارة التي في إصحاحاته الأربعة والعشرين الأولى «وحي الله على إبراهيم»، أو «صحف إبراهيم» كما يسميها القرآن، ولكنك تقول جازمًا آمنًا مطمئنًا أن كتبة هذه الأسفار حفظوا وضيعوا وبدلوا، ودلس بعضهم تدليسا، بل وأفحشوا إفحاشا، يقبسون من أساطير اليونان وآلهة الأولمب، من مثل خلق الله آدم على صورة الله ومثاله، فقدموا «للإنسان - الإله» ومهدوا له تمهيدا، ومن مثل مصارعة الله يعقوب فجاهده يعقوب حتى جهده، وتطاولوا على مقام أنبياء الله ورسله، من مثل إسكار نوح حتى تنكشف عورته على أبنائه فيتضاحكوا منه، ومن مثل زنى ابنتي لوط بأبيهما ليكون لهما منه نسل يعيرون به خصومهم الموآبيين على ما مر بك، ومن مثل صنع هرون العجل لمن طلبوا العجل في التيه، إلى آخر ما تعلم. وقد تلتمس العذر لأولئك الكتبة فيما ضيعوه من هذه التوراة لأنهم أنسوه، فذاكرة البشر تسعف وتخون. ولكنك لا تعذرهم قط فيما بدلوا ودلسوا.
أما أنهم «حفظوا» فنعم: حفظوا حظًا مما ذكروا به، وهو الذي يصدقه القرآن ويهيمن عليه. ونسوا حظًا مما ذكروا به فالقرآن يدلهم عليه. وتبدلوا من قول الله قول البشر، ينقلون الكلم عن بعض مواضعه، والقرآن يرد عليهم مقالتهم ويبين لهم. ولكن القرآن «يعفو» تنزهًا عن تكذيب ما أفحشوا فيه، المحال في جنب الله عز وجل، المحال على كرامة أنبيائه، لأنه ظاهر البطلان بذاته.
يكفيك كي تؤمن بهذا القرآن – إن كنت من غير أهله – أن تراجع هذه التوراة عليه، عسى أن تكون ممن شاء الله أن يهديهم، لا هداية إلا به سبحانه.
والذي يعنينا في هذا السياق أن القرآن المعجز، وقد علم أن أهل الكتاب ينسبون إلى موسى عليه السلام هذه الأسفار الخمسة من «توراة الأنبياء والكتبة»، أو مادة هذه الأسفار الخمسة كما مر بك، يصحح لأهل الكتاب مقولتهم فينسب بعض مادة هذه الأسفار – أعني بعض ما في النصف الأول من سفر التكوين – إلى إبراهيم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/105]
عليه السلام: إنها ليست كلها «توراة موسى» وحده، وإنما هي معًا «صحف إبراهيم وموسى»!
أما التفسير القرآني – المقصد الأول في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب – للفظة «توراة» (أعني «تورا» العبرية) بلغة أهلها، وقد مر بك وجوه اشتقاقها من العبرية على معاني أربعة هي العلم والإبانة والهداية والتبصرة، فقد فسر القرآن «التوراة» بمعنى العلم في مثل قوله عز وجل: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا} [محمد: 16]، يعني الذين أوتوا التوراة، وفي مثل قوله عز وجل: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19]، يعني لم يختلف أهل الكتاب أصحاب التوراة إلا من بعد ما جاءتهم التوراة، وهذا من إعجاز القرآن، لأن اليهود لم يختلفوا فرقا إلا من بعد ما أنزلت التوراة، فالعلم هنا بمعنى التوراة، لا يصح أن تفسره بمعنى «عيسى» كما قال مفسرون، فقد نزل فيهم عيسى وهم فرق، ولا يصح أيضًا أن تفسره بمعنى القرآن كما قال آخرون، لأن أهل الكتاب كانوا مختلفين قبل نزول القرآن ومبعث خاتم الرسل. وغير هذا في القرآن كثير، تكفيك منه هاتان الآيتان. وفسرت التوراة أيضًا في القرآن على معنى البيان والإبانة في مثل قوله عز وجل: {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} [طه: 133]، والصحف الأولى كناية عن التوراة كما تعلم، وفي قوله عز وجل: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] أي ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم التوراة كما مر بك، وفي قوله عز وجل: {ولقد مننا على موسى وهرون ونجيناهم وقومهم من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين} [الصافات: 114 – 117]، يعني بالكتاب المستبين «التوراة». وفسر القرآن التوراة على معنى الهدى والهداية في مثل قوله عز وجل: {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل} [الإسراء: 2] وغيره في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/106]
معناه كثير، تكفيك منه هذه الآية. وأخيرًا فسر القرآن التوراة على معنى البصيرة والتبصرة في قوله عز وجل: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس} [القصص: 43].
وكما فسر القرآن معنى التوراة بالمرادف المطابق والمرادف القريب، فسرها أيضًا بالتعريب، فهي معدولة عن «التوراء» كما مر بك، تفعال من الجذر «ورأ»، فهي بمعنى «الإيراء» أي الإعلام. وهي أيضًا معدولة عن «التورية»، تفعلة من الجذر «ورى» أي من «أوراه»، «ورى» له، أي أظهر له وأبان. وهذا من التعريب الفني في القرآن لأنه يجانس «تورية» على «تورا»، فيقول «توراة»، كما قال العرب في «قارية» يعني الحاضرة الجامعة: «قاراة»، وكما سمع من العرب في «جارية» - الأمة أو الفتاة - «جاراة». وسبحان العليم الخبير.
والذي ينبغي التنبيه إ ليه أن التوراة في القرآني هي فحسب التي كتب الله لموسى في الألواح، تلتمس مما بقى منها في الأسفار الأربعة - «الخروج» إلى «تثنية الاشتراع» - لا شأن لك بما قبلهاه وما بعدها في «توراة الأنبياء والكتبة». وسفر التكوين ليس من توراة موسى قطعًا، وما بقي في هذا السفر من «صحف إبراهيم» ليس من التوراة بالقطع، دليلك في هذا وذاك قوله عز وجل: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} [آل عمران: 65]، وقوله تعالى: {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} [آل عمران: 93] ثم تحداهم بقوله: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93]، فكان الأمر كما قال: كذب المكذبون وصدق العلي الكبير.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 94-107]


رد مع اقتباس
  #54  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:19 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(38) يأجوج ومأجوج:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (38) يأجوج ومأجوج
«يأجوج ومأجوج» غيبٌ من غيب الله عز وجل الذي أخبر به القرآن، لا تجد له في التوراة والإنجيل اللذين بين يديك، وفي أقاصيص أهل الكتاب، إلا أهابيش من ضباب رؤى وخيالات تبعد بك كل البعد عن حديث يأجوج ومأجوج الذي في القرآن.
ففي «توراة الأنبياء والكتبة» يحدثك سفر حزقيال – وهو من أعلام القرن السادس قبل الميلاد – لا عن «يأجوج ومأجوج» الذين ردم عليهم «ذو القرنين» فلا يخرجون حتى قبيل قيام الساعة – وإنما يحدثك عن «جوج» أمير «ماجوج» الذي يجيء من أقاصي الشمال ومعه شعوب كثيرة فيجتاح إسرائيل، ولكن الله يرد لبني إسرائيل الكرة عليهم فيستأصلونهم ويقبرون في واد يسمونه وادي جمهور جوج (راجع الإصحاحين 38 و 39 من سفر حزقيال). وحزقيال عند اليهود نبي راء، يرى الرؤى فيخبر بها وكأنها وحي من الله عليه، والرؤى كما تعلم أضغاث ورموز، إن صدقت الرائي فلا تأمن سوء الفهم عنه، وإن استأمنت الناسخ والناقل فلا تأمن الخلط والتخليط.
وأما في أسفار «العهد الجديد»، فأنت تجد في آخر أسفار الأناجيل، سفر «رؤيا يوحنا اللاهوتي»، أن «جوج وماجوج» هم الأمم الذين في أربع زوايا الأرض (راجع الإصحاح 20 من سفر الرؤيا). وعند يوحنا اللاهوتي أن هناك قيامتين: القيامة الأولى بعد القضاء على فتنة الدجال، والناجون من هذه الفتنة يكونون كهنة لله والمسيح ويملكون معه ألف سنة: «ثم متى تمت اللف السنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج وماجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر. فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم وإبليس الذي كان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/108]
يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب وسيعذبون نهارًا وليلاً إلى ابد الآبدين» (رؤيا 20/ 7 – 10). ولا شك أن يوحنا اللاهوتي يستمد من حزقيال اسمي جوج وماجوج، ولكنه لا يجعل ماجوج أرضًا لجوج، وإنما يجعل جوج وماجوج معًا أمما عددهم مثل رمل البحر يجمعهم الشيطان لحرب المدينة المحبوبة (أورشليم) مملكة المسيح في مجيئه الثاني قرب قيام الساعة، فيتفق مع حزقيال في تعيين أورشليم موقع مهلك جوج أمير ماجوج، ويختلف معه في موعد خروجهم ومهلكهم: تعجله حزقيال فربطه بخراب أورشليم على أيدي مملكة بابل، وأجله يوحنا اللاهوتي ألف سنة تعقب عودة المسيح إلى الأرض في مجيئه الثاني. ورؤيا يوحنا اللاهوتي تقتبس بلا شك من سفر حزقيال، ولكنها تقتبس بتصرف، وتقتبس أحيانا دون تريث، فقد تنبأ حزقيال في القرن السادس قبل الميلاد بخراب بابل، وخربت بابل بالفعل في قرنه، ولكن يوحنا اللاهوتي يعود فيتنبأ لبابل بالخراب: «وسيبكي وينوح عليها ملوك الأرض الذين زنوا معها وتنعموا معها حينما ينظرون دخان حريقها، واقفين من بعيد لأجل خوف عذابها قائلين ويل ويل. المدينة العظيمة بابل المدينة القوية»، «ورفع ملاك واحد قوي حجرا كرحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً بدفع سترمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد في ما بعد» (راجع الإصحاح 18 من سفر الرؤيا)، لا يدري أن بابل المدينة العظيمة قد خربت بالفعل قبل ستة قرون على الأقل من مولد هذا الكتاب. ولكنك لن تعدم من شراح هذا السفر من يقول لك إن بابل هذه ليست بابل، ولكنها علم على كل ملك جبار فاسق. وهكذا أنت في الأحلام والرؤى، تفسر ما شئت بما تشاء، أو يفسر لك بما يشاء لك.
وأما في أقاصيص أهل الكتاب التي لا تجدها بين دفتي «الكتاب المقدس»، ولا حجة بها من ثم على أهل الكتاب، فمنها المروية عن السريان في أساطير الاسكندر، مؤسس الإمبراطورية اليونانية في الشرق الأدنى القديم، وقد وهم أدعياء الاستشراق أنها الأصل المباشر لقصة يأجوج ومأجوج في القرآن، وفي الأسطورة السريانية أن الاسكندر أغلق على جوج وماجوج، فلا يخرجون إلا في نهاية العالم. وترسم «جوج» في السريانية «أجوج» قريبة من «يأجوج» التي في القرآن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/109]
تخلص من هذا إلى أن أهل الكتاب، في الكتاب المقدس بشطريه وخارجه، كانوا على علم قديم بيأجوج ومأجوج، ولكنهم خلطوا فيه، وتفاوتت الرواية عن هذا وذاك، فجاءوا محمدًا صلى الله عليه وسلم يسألونه عن حقيقة الذي كان، فأجابهم القرآن بقوله: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83] وسرد عليهم ما كان من شأن ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج.
ففي بعض كتب التفسير أن بعضًا من أهل الكتاب أرادوا امتحان مبلغ محمد صلى الله عليه وسلم من العلم: سألوه عن فتية ذهبوا في الزمان الأول (أصحاب الكهف) فأجابهم القرآن: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} [الكهف: 13] وسرد ما كان من شأنهم. وسألوه عن الروح ما هو (أو ما هي) فكفهم القرآن عنها: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85]. وسألوه عن طوافة رحالة (ذي القرنين) فأجابهم القرآن: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 83 – 84]، ثم قص ما كان من شأن ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج، وكيف أرتج عليهم محبسهم، لا يستطيعون الخروج منه أو نقبه حتى يقترب الوعد الحق: {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا} [الكهف: 98 – 99].
وقد جاءت «يأجوج ومأجوج» في القرآن مرتين اثنتين فقط، الأولى في حديث ذي القرنين: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا} [الكهف: 94]، والثانية في النص على أن الفتح ليأجوج ومأجوج من علامات الساعة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: قال عز وجل: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة عن هذا بل كنا ظالمين} [الأنبياء: 95 – 97]، أي عندما يقترب الوعد الحق تفتح يأجوج ومأجوج، فيتذكر الذين كفروا أنهم قد نبئوا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/110]
بهذا في القرآن من قبل، فتشخص أبصارهم هلعا، ثم يتندمون كيف غفلوا عن هذا، ولكنهم يستدركون على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين، لا غافلين فحسب، نسوا الله فأنساهم مواعيده. بل قد كان منهم العابثُ الساخر، المتفكه بغيب الله عز وجل، فسحقًا سحقًا.
والوجه في غيب الله عز وجل أنه علم الله الكلي المطلق، يعلم ما كان ويكون، على الوجه الذي به كان ويكون. وهذا العلم الكلي المطلق مترتب على أنه عز وجل خالق كل شيء وخالق كل فعل. وهو عز وجل ليس عالم الغيب فقط – والغيب هو كل ما غاب عنك علمه – ولكنه عز وجل أيضًا عالم «الشهادة»، أي أنه جل وعلا يعلم أيضًا مشهودك ومعلومك، لا كما تعلمه أنت، ولكن على ما هو عليه: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14].
وقد خاض مفسرون (راجع تفسير القرطبي للآيات 92 – 99 من سورة الكهف) في يأجوج ومأجوج فأسفوا وأبعدوا: لم يهتبشوا من أهابيش أهل الكتاب فحسب، بل وأضافوا إليها من عندهم تهاويل خيال سقيم، فتجاوزوا نص القرآن والحديث الصحيح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وزيفت في يأجوج ومأجوج أحاديث لا يصح لها سند، حتى عميت عليك حقيقة يأجوج ومأجوج.
ولم يعلم أولئك المفسرون أن أدعاء الاستشراق سيتكئون عليهم، لأن أدعاء الاستشراق لا يستقون من القرآن ومن الحديث الصحيح، وإنما يستقون من كتب التفسير هذه، كما رأيت من قبل في «قسطاس»، «فردوس»، «إبليس»، وأمثالها. ولأن أولئك المفسرين تحذلقوا فتابعوا أساطير السريان في قولتهم أن «الاسكندر» هو صاحب «جوج وماجوج»، فلم يجد أدعياء الاستشراق حرجًا في القول بأن القرآن في يأجوج ومأجج يستقي من هؤلاء السريان رأسًا: القصة والبطل.
زعم بعض المفسرين (راجع تفسير القرطبي للآية 82 من سورة الكهف)، متابعة لما دس عليهم من أقاصيص أهل الكتاب، أن «ذا القرنين» هو «الاسكندر» مؤسس الإمبراطورية اليونانية في الشرق الأدنى القديم، وترسخ هذا في أذهان الناس حتى شاع لقب «الاسكندر ذي القرنين» على هذا الملك الوثني، لا يتحرج مسلمون
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/111]
اليوم من ذلك: عامتهم وخاصتهم. وهذا يدلك على مدى الخفة التي صار إليها المسلمون في هذا العصر. فشتان ما بين عباد آلهة في جبال الأولمب وما بين عباد الواحد الأحد جل جلاله الذين لم يكن ذو القرنين من عامتهم فحسب، بل كان من صفوتهم، الذي قال الله فيه: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 84]، والذي حكمه الله في قوم عند عين حمئة لقيهم ذو القرنين وقد آذنت الشمس بالمغيب: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا} [الكهف: 86 – 88]، والاسكندر، وملوك الأرض جميعا، أذل من ذلك.
الذي يحكمه الله عز وجل فيمن كفر أو آمن، يحسن في طائفة ويعذب طائفة، فيجعل العذاب على الذين ظلموا ويجعل جزاء الحسنى لمن آمن وعمل صالحا، الذي يفعل ذلك بتحكيم الله عز وجل، لا يصح أن تنسبه إلى عبدة الأوثان، بل لا يصح أن تنسبه إلى عامة المؤمنين الصالحين، وإنما تسلكه في صفوتهم، الذين اجتباهم الله وأيدهم بروح منه، نبيا أو في مقام نبي. ولكنك لا تقول ما قال بعض المفسرين إنه «ملك» من ملائكة الله عز وجل، لأسباب ثلاثة: أولها أن الملائكة رضوان الله عليهم خلق مأمور، لا تخير كما خير ذو القرنين في القوم الذين لقيهم عند العين الحمئة، وثانيها لأن الملائكة رضوان الله عليهم لا يستعينون البشر كما استعان ذو القرنين الذين سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًا، يناولونه زبر الحديد وينفخون فيه نارًا حتى تلتحم الزبر، ثم يجيئونه بقطر يفرغه عليه، وثالثًا لأن الملائكة رضوان الله عليهم لا يمشون في الأرض مطمئنين يكلمون الناس ويستعملهم الناس: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/112]
هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد رب يجعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا} [الكهف: 94 – 101].
على أن ذا القرنين الذي يحدثك عنه القرآن لم يكن ملكا يمشي في جيشه كالذي كانه الاسكندر، وإنما كان رجلاً فردًا، وإلا لما احتاج إلى ما يناولونه زبر الحديد، ثم ينفخونه نارًا حتى تلتحم الزبر، ويأتونه بقطر يفرغه على هذا السد من حديد.
وكما جانب المفسرين الأوائل الصواب في تعيين ذي القرنين بأنه الاسكندر مؤسس الإمبراطورية اليونانية في الشرق الأدنى القديم، وجد أيضًا من الباحثين الإسلاميين في القرن العشرين من وهموا أن ذا القرنين هو «كورش» ملك الفرس الذي انتصر لليهود من بني إسرائيل أيام سبيهم في بابل، الذي ردهم إلى «أورشليم» وأغدق عليهم، فعده اليهود من بعد «ملكًا قديسًا». وقد أصل الباحث مقولته بالعثور على تمثال لهذا الملك الفارسي وعلى رأسه تاج مقرن من خلف ومن قدام، فهو «ذو القرنين» على هذا المعنى. وليس بشيء، فقد خلف كورش ملوك حملت مثل هذا التاج، كان منهم الاسكندر المقدوني نفسه بعد اندحار الفرس أمامه. وليس بالضرورة أن يجيء لقب ذي القرنين المعنى من وجود قرنين على رأسه، تاجًا أو غير تاج. وخاض الباحث أيضًا في تعيين موقع «السد» مما لا نستطرد بك إليه، فقد خاض في تعيينه الأوائل على ما تقرأ في تفسير القرطبي واصطنعت له أحاديث، وليس بشيء، لأن موضع «السد»، بل موضع «السدين» اللذين ردم ما بينهما ذو القرنين ليحول دون نفاذ يأجوج ومأجوج إلى القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً: {ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قومًا لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا} [الكهف: 92 – 94]، كل هذا من المغيبات التي سكت عنها القرآن والحديث الصحيح. وقد سكت عنها القرآن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/113]
والحديث الصحيح لأنك لا تتصور أن يكون خروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة ثم يعين لك القرآن والحديث الصحيح مكان محبسهم على هذا الكوكب الذي نعيش عليه، تغدو عليهم الناس وتروح، كما لم يعين لك القرآن موضع تلك العين الحمئة والقوم الذين لقيهم عندها ذو القرنين في مغرب الشمس وحكم فيهم، يعذب منهم أو يتخذ فيهم حسنا، ولم يعين لك أيضًا القوم الذين لقيهم ذو القرنين في مطلع الشمس لم يجعل الله لهم من دونها سترا، بل قد تكتم القرآن أمرهم ولم يحدثك بما كان من شأن ذي القرنين معهم فقال عز وجل: {كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا} [الكهف: 91]، أي قد علمنا نحن ما قد كان من أمره معهم ولن نحدثك به، فالقرآن لا يحدثك بكل أخبار ذي القرنين، وإنما بطائفة من أخباره فقط، لقوله: {سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83] أي بعضًا من ذكره فحسب، أي خبره مع يأجوج ومأجوج، وهو المسئول عنه، وما سبقه تمهيد لهذا الحديث عن يأجوج ومأجوج، حتى تعلم مكان ذي القرنين عند الله عز وجل، فلا يذهب بك الوهم إلى أنه مهندس يجيد بناء السدود، أو أنه ملك من تلك الملوك ذوات التاج المقرن من خلف ومن قدام، الاسكندر أو كورش.
يأجوج ومأجوج، محبسهم ومخرجهم، كأصحاب الكهف، من آيات الله عز وجل، مرقدهم ومبعثهم، ولكنه تبارك وتعالى جعل خروج يأجوج ومأجوج علامة على اقتراب الوعد الحق الذي به تؤمن، كما آمن ذو القرنين: {وكان وعد ربي حقا} [الكهف: 98]، وهذا حسبك.
على أن نبوءة حزقيال – وهو من أعلام القرن السادس قبل الميلاد – بمقدم جوج أمير ماجوج وشعوب كثيرة معه إلى فلسطين وخراب أورشليم على يديه، تجعل الردم على يأجوج ومأجوج سابقًا على عصر حزقيال، وبالتالي سابقًا على كورش والاسكندر اللذين ملكا في فارس بعد حزقيال، فلا يصح أن يكون أحدهما هو الذي ردم عليهم.
بل إن عصر الردم على يأجوج ومأجوج أسبق بقرون لا يعلمها إلا الله من مولد موسى ومولد عبرية التوراة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/114]
ذلك أن علماء العبرية وعلماء التوراة لا يستطيعون لجوج وماجوج اشتقاقًا من جذور اللغتين العبرية أو الآرامية، وإنما يقولون لك إن «جوج» هو أمير «ماجوج»، وأن «ماجوج» هي أرض «جوج»، لا يزيدون، فليس في العبرية، ولا في الآرامية، جذر مستعمل يعين على هذا الاشتقاق. فهما إذن اسمان وقعا في سمع حزقيال عبر أساطير سبقت مولد العبرانيين أنفسهم.
على أن في المعجم العبري الآرامي لألفاظ التوراة (وهو من مراجع هذا الكتاب) الاسم «أجاج»، عَلَمًا على ملوك العماليق المعنيين بقوله عز وجل على لسان بعض بني إسرائيل في التيه: {قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} [المائدة: 22]. ولم يستطع علماء العبرية وعلماء التوراة تفسير الاسم «أجاج» فردوه إلى الجذر العربي «أجج».
وفي العبرية أيضًا اللفظ «جاج» ومعناه سقف البيت ونحوه، لا يعرف له كذلك أصل أو اشتقاق، فهو من «جوامد» تلك اللغة. وربما ظننت أن «جوج» من هذا، بمعنى المسقوف عليهم، أي المردوم عليهم. ولكن علماء العبرية وعلماء التوراة لم يتصدوا لهذا.
أما «يأجوج» و«مأجوج» اللذان في القرآن، فهما اسمان عربيان أصيلان، تشتقهما من الجذر العربي «أجج»: «يأجوج» على زنة «يفعول» من أج/ يؤج/ أجا، وأجيجا وأجة أيضًا، ومن معانيه في العربية إلى الآن الإهاجة والاشتداد والاستثارة، والأجاج يعني اللاذع الممض مرارة أو ملوحة، ومن معاني الأجيج أيضًا الاضطراب والاختلاط، أما «مأجوج» فهي على زنة «مَفْعُول» من دأج» هذه نفسها، وكأن «أج» يصلح أيضًا متعديًا بنفسه، وكأن معنى «يأجوج ومأجوج» هو الذين يؤج بعضهم بعضًا.
نعم. يأجوج ومأجوج من العربية الأولى، عربية آدم، لا تستطيع أن تحدد زمان الإرتاج عليهم، كما لا تستطيع تحديد موقعه من هذه الأرض التي نعيش
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/115]
عليها، ولا تستطيع التنبؤ بزمن خروجهم، لاستئثاره عز وجل بعلم الساعة، لا يجليها لوقتها إلا هو.
الذي تستطيعه هو فحسب تفسير «يأجوج ومأجوج» من القرآن بالقرآن، مقصدنا الأول من الحديث عن يأجوج ومأجوج في هذا الكتاب الذي نكتب:
فسرت «يأجوج ومأجوج» في القرآن بالتعريب: الذي يؤج بعضهم بعضًا، ويستفز بعضهم بعضًا، ويموج بعضهم في بعض، كما قال عز وجل فيهم: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} [الكهف: 99] والموج على المصدرية من ماجَ/ يَمُوجُ/ مَوْجَا، هو من الاختلاط والاضطراب، فهو تفسير بالتصوير، كما قال في موضع آخر: {وهم من كل حدب ينسلون} [الأنبياء: 96] كناية عن مدى الاختلاط والاضطراب. وفي الاختلاط والاضطراب فسادٌ وإفساد، ومن هذا قول الذين استعانوا ذا القرنين عليهم: {إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض} [الكهف: 94].
ونحن لا نخوض في كل من كان «يأجوج ومأجوج»، وكيف هم الآن في محبسهم، ولا نخوض كما خاض مفسرون في وصف خلقتهم وهيئتهم. هذا من غيب الله عز وجل الذي لم يشأ أن يطلعنا عليه فنحن نتوقف فيه. والله عز وجل بغيبه أعلم.
ونحن أيضًا لا نخوض في مَنْ كان ذو القرنين المَعْنِيُّ في القرآن، وإن كنا نرجح – كما رجح مفسرون دون دليل – أنه هو نفسه العبد الصالح الذي صاحبه موسى في سورة الكهف ليُعَلِمَهُ مما علمه الله، فلم يستطع موسى معه صبرًا. وليس لدينا نحن أيضًا دليل على هذا نقترحه عليك، إلا شاهدين: الأول عجائب هذا العبد الصالح مع موسى بدءًا بالحوت الميت الحي الذي اتخذ سبيله في البحر عجبا، وانتهاء بَرَمِّه الجدارَ الذي كان لغلامين يتيمين في المدينة حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما، فأشبه «السد». والشاهدُ الثاني – وهو أكثر دلالة – أن سورة الكهف تضم أخبارًا أربعة: (1) نبا الفتية أصحاب الكهف. (2) مثل الرجلين، صاحب الجنتين والذي حاوره. (3) قصة موسى مع العبد الصالح. (4) أخبار ذي القرنين. وقد فصلت سورة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/116]
الكهف بفواصل تطول أو تقصر ما بين هذه الأربعة (راجع هذا في سورة الكهف)، إلا ما بين أخبار ذي القرنين وبين قصة موسى مع العبد الصالح، فقد أتت بـ «ذكر» ذي القرنين مباشرة بعد قصة موسى مع العبد الصالح لا يفصل بينهما فاصل: {وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 82 -84]، وكأنها إشارة إلى أن المحكي عنه في النبأين واحد، وكأن ما تقدم ذكره من قصة موسى مع الذي صاحبه من أخبار ذي القرنين. والله عز وجل بغيبه أعلم.
وأما معنى اسمه «ذو القرنين» فقد تعددت الأقوال فيه، على ما تجد في تفسير القرطبي للآية 83 من سورة الكهف، ولا دليل عليها من قرآن أو سنة، وإنما هي اجتهادات لأصحابها، أقربها إلى القبول أقربها إلى المنطق، وأبعدها أسمجها بالطبع، المنسوب إلى الإمام علي رضي الله عنه والإمام علي من هذا السخف براء: قيل كان رجُلا دعا قومه إلى الله عز وجل فشجوه على قرنه، ثم دعاهم إلى الله عز وجل كرة أخرى فشجوه على قرنه الآخر! والذي نقطع به نحن أن أهل الكتاب لم يسألوا عن: «ذي القرنين» بهذا الاسم، فليس في أخبار أهل الكتاب شيء اسمه «دي قرنيم» (وهي «ذو القرنين» بالعبرية)، وإنما سألوا عن الطوافة الرحالة الذي كانه «ذو القرنين». «ذو القرنين» إذن لقب تلقب به في القرآن. إن صح هذا فالراجح عندي استئناسًا بقصته في القرآن – ولا أقولها جازمًا فالله عز وجل بغيبه أعلم – أن «القرنين» هما قرنا الشمس كناية عن مغربها ومطلعها (والقرن هو أول ما يبزغ من قرص الشمس عند مطلعها وآخر ما يأفل منها عند مغربها)، وكأنه الطواف بين قرني الشمس من مغربها إلى مطلعها، كما في القرآن: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس} [الكهف: 86]، {حتى إذا بلغ مطلع الشمس} [الكهف: 91]. ربما كان هذا هو سبب التسمية. والله عز وجل بغيبه أعلم.
كيفما كان الأمر، فليس «ذو القرنين» من العلم الأعجمي الذي تتناوله مباحث هذا الكتاب، وإنما عرجنا عليه إيناسًا للقارئ، واستكمالاً لمبحث «يأجوج ومأجج». مثلما عرجنا من قبل على لفظة «طوى» في تحليل «سيناء»، وكما عرجنا من قبل على «ذي الأوتاد» في تحليل اسم «فرعون»).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 108-117]


رد مع اقتباس
  #55  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:21 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(39) اليهود:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (39) اليهود
يزعم اليهود (وهي «يهوديم»، «يهودييم» في العبرية و«يهودائين» في الآرامية)، وتنطق دالها في العبرية والآرامية ذالاً، أنهم سموا هكذا نسبة إلى «يهوذا» ابن يعقوب. ولا يصح هذا وإن قاله العبرانيون أنفسهم وتابعهم عليه الخلق أجمع.
لا يصح هذا لأنك لا تتصور أن يتسمى اليهود باسم ابن لأبيهم يعقوب، وأبوهم حي بعد، لم يذهب ببنيه وحفدته إلى مصر في ضيافة يوسف، وقد كانوا في مصر «بني إسرائيل» فحسب، وإسرائيل كنية يعقوب أبي يهوذا وأبيهم. وإذا استجزت النسبة إلى ابن لأبيهم، فلماذا «يهوذا» بالذات وليس هو بكر أبيهم، وإنما بكرهه «رأوبين» على ما مر بك، ولماذا حظى «يهوذا» بهذا الشرف من دونهم وفيهم «يوسف» صاحب الفضل وولي النعمة؟ وإذا لم يتسموا نسبة إلى «يهوذا» في مصر، فكيف ينتسبون إليه وحده في التيه وهم إثنا عشر سبطا أحدهم فحسب سبط يهوذا؟ ولماذا لم ينتسبوا في التيه – إن أرادوا بركة النسب – إلى سبط لاوي، سبط موسى وهرون، لا سيما و«لاوي» هو الثالث في ترتيب أبناء يعقوب و«يهوذا» الرابع؟ وكيف ينتسبون في التيه إلى «يهوذا» وموسى بين ظهرانيهم وموسى «لاوي» لا «يهوذي»؟ أفقد انسل من بينهم موسى؟ فما اليهود أجمع إ ن لم يكن منهم موسى؟ أفهل تسموا بهذا الاسم بعد موت موسى ودخولهم في بعض نواحي فلسطين بقيادة يشوع فتى موسى؟ فكيف يصح هذا وقد تفرقوا فيما بينهم أسباطا كل سبط في مساكنهم؟ وكيف يصح إطلاق هذا الاسم عليهم جميعا بعد افتراقهم مملكتين: مملكة يهوذا في الجنوب ومملكة إسرائيل في الشمال، تضم الأولى سبطى يهوذا وبنيامين، وتضم الأخرى العشرة الأسباط الباقية من بني إسرائيل؟ بل كيف جاز للآرامين أن يسموهم جميعًا «يهودائين»؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/118]
تُرَى، ما سر تلك الحظوة التي كانت ليهوذا بن يعقوب في تاريخ اليهود؟
السر كله هو أن كتبة «التوراة» يكتبون أسفارهم في ظل بيت داود الملك، وداود وسليمان من سبط يهوذا.
تقرأ هذه في الترجمة العربية للإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين، حيث يضع الكاتب على لسان يعقوب تفضيل يهوذا على كل إخوته وإن كان فيهم يوسف، فيبدأ بتنحية الأسن منه، رأوبين وشمعون ولاوي: رأوبين لأنه دنس مضجع أبيه (يريد أنه نكح ما نكح أبوه من قبل وينسى ما سجله على يهوذا الذي زنا بأرلمه ابنه ثامار فاستولدها من هذا الزنا ابنه «فارص»، ينسى هذا عمدًا لأن فارص هذا من آباء داود الملك على عمود النسب المباشر إلى يهوذا). أما شمعون ولاوي فلأنهما في غضبهما قتلا إنسانًا وفي رضاهما عرقبا ثورا. فيعقوب لهذا يفرقهما في إسرائيل. ويجيء دور «يهوذا» فيعطيه يعقوب كل شيء: «إياك يحمد إخوتك. يدك على قفا أعدائك. يسجد لك بنو أبيك»، «لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه (يعني لا يزال من نسله الملك والمشترع) حتى يأتي شيلو ويكون له خضوع شعوب». وقد كذبت النبوءة أول ما كذبت، في أول ملك ملك على بني إسرائيل، وهو الملك شاؤول (طالوت في القرآن)، وشاؤول من سبط بنيامين لا من سبط يهوذا، ولكن داود الذي من سبط يهوذا ورث شاؤول، وهذا هو سر اجتماع سبطي يهوذا وبنيامين في مملكة يهوذا من بعد داود وسليمان ولم يستقر الملك لبيت داود كما تنبأ الكاتب على لسان يعقوب، فلم يملك رحبعام بن سليمان بن داود حتى انشقت عليه الأسباط العشرة وانفصلوا وحدهم بمملكة إسرائيل، لم يتركوا له إلا سبطي يهوذا وبنيامين. بل إن هذا الملك المحدود لم يستقر لبيت داود كما تنبأ الكاتب، بل تراوح على بيت داود ملوك من أصحاب مملكة إسرائيل، ملكوا على يهوذا وإسرائيل كلتيهما. أما «شيلو» المتنبأ له بخلافة سبط يهوذا في الملك والاشتراع (أي الملك والنبوة) والذي يكون له خضوع شعوب، فقد طال انتظاره، حتى جاء البابليون فقضوا على هذا وذاك، ولم يبق من بيت داود إلا ذكريات وأشجان.
أيا ما كان المر، فقد تأثر أحبار اليهود من بعد هذا الكاتب بنبوءة استقرار الملك والاشتراع (أي الملك والنبوة) في بيت داود الذي من سبط يهوذا كما تنبأ الكاتب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/119]
على لسان يعقوب، فاشترطوا أن يكون المسيح المنتظر من نسل داود الملك، لأنهم أرادوا، أو تمنوا، أن يكون المسيح ملكًا نبيًا على مثال داود وسليمان، يستردون به العزة الضائعة بعد سبى بابل، وكيلا يزول الملك والاشتراع عن سبط يهوذا كما قالت النبوءة، لا يعبئون بـ «شيلو» هذا من يكون.
وكما تأثر أحبار اليهود بهذه النبوءة، فقد تأثر بها أيضًا «متى» و«لوقا» في إنجيليهما، بحرصهما على تأكيد أن المسيح عيسى ابن مريم هو نفسه المسيح الذي ينتظره اليهود، أي أنه المسيح بن داود، ينسبان كلاهما المسيح عليه السلام إلى داود – لا عَبْرَ والدته مريمَ عليها السلام فهي من سبط لاوي، سبط موسى وهرون، السبط الذي نبذه الكاتب على لسان يعقوب فأعزه الله بموسى وهرون ومريم أم عيسى عليهم جميعا صلوات الله وسلامه – وإنما عبر يوسف النجار خطيبها الذي هو من سبط يهوذا، في محاولة لإقناع اليهود بأنه هو هو المكتوب عنه في «توراة الأنبياء والكتبة» وإن شوشا بهذا على عذرية مولده صلوات الله عليه، فنصا كلاهما على عمود نسب «يوسف النجار» إلى يهوذا عبر داود، وأيضًا «فارص»، المولود كما يدعى سفر التكوين من زنا يهوذا بأرملة ابنه ثامار.
وقد رذل المسيح عليه السلام هذه المقولة كما تعلم، مستنكرًا أن يكون هو ابنًا لداود، فهوي علم كما تعلم، وكما يعلم متى ولوقا والمسيحيون جميعًا، وكما شهد الله عز وجل في قرآنه المصدق المهيمن، أن المسيح عليه السلام مثله مثل آدم، مخلوق بكلمة «كن»، ألقاها عز وجل إلى عذراء لا تزن بريبة، فهو مولود بغير أب.
وقد كان لمتى ولوقا غنية عن هذا لو قالا إن المسيح هو «شيلو» الذي ينتقل إليه الملك والنبوة بعيدًا عن سبط يهوذا. وقد قال بهذا فعلاً علماء المسيحية من بعد، فأسقطوا نبوءة «شيلو» على المسيح، دون التفات إلى أن مضمون النبوءة يوجب أن يكون «شيلو» من غير سبط يهوذا، فلا يحتاج النسابون إلى الارتفاع بنسب المسيح إلى داود. وقد فسروا اسم «شيلو» هذا من الجذر العبري «شلآ» (المأخوذ من «سلا» العربي على معنى كشف الهم والغم أي السلوى والسلوان) فهو المسيح «صانع السلام» والمراد أنه عليه السلام الذي يكون به السلام: سلام المرء مع نفسه، وسلامه مع الناس. وهذا كلام جميل، يصدق في حق النبيين جميعًا دون استثناء، فبهذا جاءت كل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/120]
رسالات السماء. وفي «شيلوا» قراءة أخرى يرجحها علماء التوراة: إنه «شلو»، يعني «الذي له» في العبرية، أي «الذي يئول الأمر إليه»، فيزداد الغموض غموضًا، شأن كل نبوءات التوراة، إلا أن تفسر «أيلولة الأمر» بمعنى «أيلولة الملك والاشتراع» التي تنبأ بها الكاتب لـ «شيلو».
ولكن المسيح صلوات الله عليه قال: ما جئت لألقي على الأرض سلامًا، بل سيفًا! وما أصدق قوله عليه السلام، فما زال الحق الذي جاء به فتنة لمحبيه وشانئيه على السواء غ الي فيه فريق وأوضع فيه فريق، وهو صلوات الله عليه من هذين براء.
أيضًا لم يملك المسيح كما ملك داود، بل قد رفع المسيح قبل أن يكون له – كما تنبأ الكاتب لـ «شيلو» - خضوع شعوب.
ليس المسيح عليه السلام هو «شيلو»، وليس هو أيضًا ابن داود.
أما نحن فنقول أن نبوة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين، تثبت بذاتها، أي بما جاءوا به وبما قالوه أو صنعوه، لا تحتاج إلى كد الذهن في تصيد النبوءات من الكتب السابقة، صدق الكتبة أو زيفوا. ونبوة المسيح عليه السلام من هذا: دليلها من ذاتها لا من خارجها، شأنها شأن النبوات من إبراهيم إلى خاتم النبيين. وهذا حسبك.
وقبل أن نتناول بالتفسير معنى اسم «يهوذا» بن يعقوب، ومعنى لفظة «يهودي» (وتنطق دالها في عبرية التوراة ذالاً كما مر بك) المقول بأنها صفة على النسب إلى «يهوذا» بن يعقوب، يحسن أن نرجع بك إلى معاجم العبرانيين أنفسهم لنستدل منها على وجوه إطلاق لفظة «يهودي» على ما نسميهم نحن الآن باسم «اليهود».
ففي المعجم الحديث لألفاظ توراة الأنبياء والكتبة (هملون هحداش لتناخ) عبري/ عبري، وهو من مراجع هذا الكتاب المتخصصة، يقول لك المعجم المذكور (ص199) إن لفظة «يهودي» تطلق على وجوه ستة هي: (1) الساكن مملكة يهوذا، (2) الذي هو من جلاء يهوذا، أي ممن أجلاهم البابليون عنها، (3) الذي هو من أصلاء يهوذا الذين بقوا بالأرض ولم يجلوا، (4) سبى صهيون الذين ليسوا بكهنة أو لاويين،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/121]
يعني العامة من بني إسرائيل في هذا السبي خلاف الكهنة واللاويين «يسرائيليم هديوطيم»، (5) لقب اصطلاحي يطلق على من سكنوا «يهوذا»، المقاطعة الفارسية، (6) أبناء سبط «يهوذا»، فهو «اليهوذي» كما تقول «اللاوي»، «الشمعوني» إلى غيرهما من المنتسبين إلى أسباط يعقوب الإثني عشر.
يتضح لك من هذا الكلام أن «اليهودي» في عبرية التوراة ليس هو «الإسرائيلي» بإطلاق، أي أن بني إسرائيل ليسوا كلهم «يهوديم»، وإنما بعضهم فقط: الذي هو من سلالة «يهوذا» بن يعقوب، أي المنتسب إلى أبيه «يهوذا»، وهذا لا خلاف فيه ولا غبار عليه، أما الآخر فهو المنسوب إلى ارض سميت «يهوذا»، كان من سبط «يهوذا» أو لم يكن وسواء بقى على تلك الأرض أو نزح منها.
ويترتب على هذا مباشرة أن يخرج من عداد اليهود – سوى سبط يهوذا – كل أسباط بني إسرائيل الأحد عشر الأخرى الذين لم يسبق لهم سكنى «يهوذا»، بل ويخرج من عدادهم أيضًا موسى وهرون لأنهما أولا من سبط لاوي، وثانيًا لأنهما لم يريا في حياتهما أرض يهوذا، بل أرض فلسطين جميعًا، فقد ولدا في مصر وماتا في تيه سينائها.
ويترتب على قول هذا المعجم المتخصص – والقول ما قاله لا ما نقوله نحن – أن «اليهودي» على النسب إلى شخص «يهوذا» بن يعقوب، وجدت على النسب إليه منذ أن وجد ليهوذا سبط ينسب إليه، أما التسمية على النسب إلى الأرض التي ملك فيها سبطا يهوذا وبنيامين فلا تصح إلا بعد انفصال مملكة «إسرائيل» بأسباطها العشرة من مملكة «يهوذا» في أولى سنى حكم «رحبعام» بن سليمان بن داود بعد حوالي خمسة قرون من خروجهم من مصر، على ما تقرأ في «توراة الأنبياء والكتبة».
النسبة إذن عند صاحب هذا المعجم كما رأيت ليست إلى شخص يهوذا ولا تمت إلى يهوذا هذا بصلة، عدا انطباقها – حين تنطبق – على سبط يهوذا، أي أبناء يهوذا. وإنما اسم «اليهودي» عنده نسبة إلى أرض يهوذا، واليهود عنده هم مواطنو مملكة يهوذا أو من كانوا يوما ما من مواطني مملكة يهوذا منذ عصر ما بعد داود وسليمان لا شأن لهم بغيرهم من بني إسرائيل.
على أن هذا الاسم – شاء صاحب المعجم أم لم يشأ – انطبق على بني إسرائيل جميعًا في أرض الشتات، لا يعرفون بغيره، فقد اختلطت الأسباط من بعد وتمازجت
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/122]
الأنساب، لا تتوقف في تسمية جارك اليهودي أهو من سبط يهوذا أم لا، أكان من مواطني مملكة يهوذا أم لم يكن، يكفيك أنه ينتسب إلى موسى بن عمران.
وقد أصبحت «اليهودية» عند أهلها وعند غير أهلها، هي اسم الدين الذي جاء به موسى، لا اسم له إلا هذا.
ولكن نسبة هذا الدين إلى «يهوذا» بن يعقوب لا تصح، وقد مات يهوذا قبل موسى بنحو خمسة قرون. ولا تصح أيضًا نسبة اليهود كلهم إلى «يهوذا» بن يعقوب، وأكثرهم من غير سبطه. وإنما الشرف في هذا وذاك وقع ليهوذا بن يعقوب محض مصادفة، أن كان من سبطه داود وسليمان اللذان راحا – على قصر ملكهما – بكل ما كان لليهود في غابر الدهر من مجد سياسي على تلك البقعة المحدودة من أرض فلسطين.
والذي نتوقف عنده في هذا السياق أن القرآن المعجز الذي عَلِمَ هذا كله قبل أن يعلمَهُ غيرهُ، لا يجيء قط بلفظة «اليهود» وقد وقعت في كل القرآن ثماني مرات – ولا بلفظ «اليهودي» وقد وقعت في كل القرآن مرة واحدة – إلا مقترنين بلفظي «النصراني»، «النصارى»، يعني أصحاب الملة على ما آل إليه اسمهم في عصره. أما إن أراد القبيلة أو الشعب في عصور سبقت – حتى الذين عبدوا العجل في التيه – فلا يقول إلا «قوم موسى» أو «بني إسرائيل»، وسبحان العليم الخبير.
على أن القرآن يقول أيضًا «الذين هادوا»، وليست هذه كتلك، كما سترى.
يستخدم القرآن في تفسير معنى لفظة «اليهود» أسلوب الترجمة على منهجنا في هذا الكتاب، فيقول: «الذين هادوا» من الجذر العربي هاد/ يهود/ هودا، يأخذها من قول موسى في استغفاره لقومه في فتنة العجل: {قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك} [الأعراف: 155 – 156]، أي تبنا وأنبنا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/123]
وقد تقول – كما أقول – أن القرآن يستخدم عبارة «الذين هادوا» أخذًا لبني إسرائيل بقول موسى على لسانهم: «إنا هدنا إليك»، أي يستخدمها على محمل تبكيت الذين هادوا ثم لم يهودوا، بل عصوا ثم هادوا ثم عصوا من بعد. وهذا جيد. ولكن الذي تندهش له، أن «الذين هادوا» هذه هي أحد وجوه ترجمة اسم «يهوذا» عبريًا – الشخص أو الأرض – لا عبرة بهذا أو ذاك، إن لم يكن أصوب هذه الوجوه.
من معاني اليد في لغتنا العربية الصنيع والإحسان والمعروف، تقول: له على يد، تريد له عندي صنيع أنا له عارف، ممتن شكور. ويجيء على هذا المعنى الجذر العربي «يدي»، مجردًا أو مزيدًا في أوله بهمزة التعدية «أيدي».
وعلى هذا المعنى أيضًا يجيء في العبرية الجذر العبري «يدا» (وأصله بالواو «ودا» الذي تستخدم العبرية المعاصرة مضعفة «ودا» بمعنى الاعتراف والإقرار)، والمعدى منه في العبرية بالهاء (كالمعدى في العربية بالهمزة على ما مر بك) هو «هودا» يعني أقر بالصنيع أو شكر (ومنه في العبرية المعاصرة «هودا» على المصدرية بمعنى عرفان الجميل أو الامتنان وأيضًا: «تودا» يعني: شكرًا). على أن «هودا» تعني أيضًا الاعتراف والإقرار على أصلها، ومنها «هودا بأشمه» يعني أقر بذنبه أو إثمه (والإثم في العبرية بالشين). وعلى هذا الوجه تستطيع أن تترجم إلى العبرية عبارة موسى عليه السلام في القرآن: «إنا هدنا إليك» (الأعراف: 156) بقولك عبريًا: «كي هودينو لخا»من «هودا» العبرية هذه، أي قد أقررنا لك على معنى التوبة والإنابة.
وعلماء التوراة يشتقون اسم يهوذا من «هودا» أيضًا على زنة فعل المضارع المفرد الغائب المبني للمجهول يراد منه اسم المفعول، يشتقونه على معنى الشكر والعرفان فهو يشكر، بمعنى مشكور، استنباطًا من قول سفر التكوين على لسان والدته حين وضعته: «هبعام أوده إت يهوا، عل كن قارءا شمو يهوذا، وتعمد مليدت» (تكوين 9/ 35) التي تجدها في الترجمة العربية هكذا: «هذه المرة أحمد الرب. لذلك دعت ؟؟؟؟ يهوذا. ثم توقفت عن الولادة» (تكوين 29/ 35 – النص العربي).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/124]
هنا تلمح على سن قلم الكاتب أنه يفسر جازمًا معنى «يهوذا» بمعنى الحمد الذي في عبارة والدته «هذه المرة أحمد الرب» على ما ترجمها المترجم العربي لسفر التكوين. والصواب أن تترجم هذه العبارة بقولك: «هذه المرة أشكر الرب» لا «أحمد الرب» لأن «هودا» العبرية بمعنى «شكر» لا بمعنى «حمد». والتفرقة بين الحمد والشكر من دقائق اللغة العربية، لا يفطن إليها كثيرون، ناهيك بغير الساميين الذين هم عن فهم هذه التفرقة أبعد، فهم يخلطون بين الحمد والمدح والشكر، كما تجد على سبيل المثال في الترجمة الإنجليزية لمعنى اسم «يهوذا»، فيقولون Praised يعني «ممدوح». ولو كانت «هودا» بمعنى الحمد لما جاز للعبرية المعاصرة أن تشتق منها «تُودا» يعني «شكرًا» الصحيح على قول سفر التكوين في هذا الموضع أن يهوذا معناها يشكر على البناء للمجهول، أي الذي هو موضع شكر والدته على إنجابها إياه، ذكرًا رابعًا، ولم تنجب بعد أختها وضرتها راحيل. وقد سمى العرب قريبًا من «يشكر» هذه، فكان من أعلامهم مثل «اليشكري».
على هذا يكون معنى «اليهود»، أي «اليهوذيين» المنتسبين إلى «يهوذا»، أي إلى «يشكر» هو «اليشكريون».
وقد تقول إن «ليئة» والدة يهوذا لم تقل هذا الذي قالها على لسانها كاتب سفر التكوين، بدليل أنه يضع في كلامها لفظة «يهوا» بمعنى «الرب» في النص العبراني، ولم تعرف «يهوا» هذه في العبرية إلا في رسالة موسى (خروج 6/ 3)، ولم يولد موسى إلا بعد هذا بخمسة قرون على الأقل. وإنما قال هذا كاتب يكتب عل زمنه عصر داود وسليمان يريد توثيق المعنى الذي يفسر به الاسم من أجل مجد بيت داود الذي من سبط يهوذا، استكمالاً لتفضيله يهوذا على جميع أبناء يعقوب على ما مر بك في موضعه من وصايا يعقوب أو بركاته لبنيه.
وقد تكرر من الكاتب تأصيل معنى «يهوذا» على الفعل «هودا» العبري، لا على لسان ولادته هذه المرة وإنما على لسان أبيه، أعني في «بركات» يعقوب لبنيه، بقوله في الإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين (النصر العبراني): «يهوذا أتا يوذوخا أحيخا» التي قالها المترجم العربي: «يهوذا إياك يحمد إخوتك» (تكوين
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/125]
49/8) يترجم هذه المرة أيضًا «يوذوخا» (وهي «هودا» في صيغة مضارع جمع الغائب) بمعنى الحمد، ربما متابعة للمترجم الإنجليزي الذي يستخدم فيها هنا أيضًا الفعل To Praise.
ولكن المعجم العبري المتخصص الذي أحلتك إليه (ص197) يُخالف هنا المترجم العربي والمترجم الإنجليزي على السواء، إذ يتخذ من عبارة يعقوب هذه نفسها «أتا يوذوخا أحيخا» (إياك يحمد إخوتك) مثالاً لتفسير أحد معاني الفعل «هودا» العبري، فيقول – والقول ما قاله بالطبع فهو صاحب اللغة -: أتا يوذوخا أحيخا يتانو لخا هود ملخوت، كل هشبطيم يكيرو بعركخا، أي لا «إياك يحمد إخوتك» وإنما: يعطونك مجد الملك، كل الأسباط يقرون بفضلك. أعني أن هذا المعجم العبري المتخصص لا يفسر الفعل العبري «هودا» لا بمعنى «حمد» ولا بمعنى «مدح» أو «شكر»، وإنما يفسره بمعنى الإقرار والاعتراف.
ليس هذا فقط، بل إن هذا المعجم العبري المتخصص يقول لك في نفس الموضع بالنص وهو يسرد عليك مختلف معاني الفعل العبري «هودا» إن «هودا» من معانيها عبريًا، «هتحرط»، يعني: «تاب وندم»، فهي التوبة والمثابة («تشويا» العبرية).
متى صح لك هذا – وهو صحيح بقول شاهد من أهلها – جاز لك أن تفسر اسم «يهوذا» على معنى «الهائد» التائب المنيب.
وكأن «يهوذا» أثارة من اسم النبي «هود» عليه السلام، مأخوذًا من العربية الأولى على ما مر بك في موضعه.
وليس لنا بالطبع في هذا الكتاب أن نطالب المترجم العربي لسفر التكوين بتصحيح ترجمة عبارة «يهوذا إياك يحمد إخوتك» إلى: «يهوذا إليك يثوب إخوتك»، وإنما الذي يعنينا في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب هو أن القرآن المعجز علم من قبل أن معاني «يهوذا» الهائد المنيب، فجانس عليه في وصف «اليهود» المنتسبين إليه، فقال «الذين هادوا»، وكأنه يذكرهم بقول موسى يستغفر لهم ربه في فتنة العجل: {إنا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/126]
هدنا إ ليك} [الأعراف: 56] التي تقولها عبريًا: «كي هود ينولخا» على ما مر بك، يفسر لهم بها ما تسموا به. وسبحان العليم الخبير.
وكما جاءت «الذين هادوا» عشر مرات في القرآن على الإبدال من «اليهود»، جاءت فيهم أيضًا ثلاث مرات لفظة «هود» (وقد وردت في المرات الثلاث مزيدة بألف تنوين المنصوب «هودا»).
وقد قيل (راجع تفسير القرطبي للآية 111 من سورة البقرة) لمن «هود» هذه هي إما على التخفيف من «يهود» بحذف الياء البادئة، وإما هي «الذين هادوا» نفسها جاءت بصورة جمع الفاعل من «الذي هاد»، وهو الهائد، يجمع على هود. وهناك وجه أقترحه عليك، وهو أن «هود» هذه جاءت تسمية باسم الفعل من هاد يهود هودًا فهو «هود». هذا الوجه هو الراجح عندي، وهو أيضًا الذي إرتأيناه في تحليل اسم النبي «هود» عليه السلام، والتسمية بالمصدر واسم الفعل يستوي فيها المفرد والجمع. وكان هذا أيضًا مذهبنا في تفسير اسم النبي «لوط» عليه السلام من لاط يلوط لوطًا فهو «لوط».
أما «يهود» فلم تقع في القرآن قط مجردة من الألف واللام، وإنما جاءت حيثما وردت، وقد وردت في كل القرآن ثماني مرات، معرفة بالألف واللام «اليهود»، والتعريف بالألف واللام كما تعلم يمنع من الصرف وجوبًا. ومن هنا لا ستبين لك منهج القرآن في جواز تنوين «يهود». والفصيح هو عدم جواز تنوين «يهود» لسببين: إن اعتبرتها أعجمية، فللعجمة، وإن اعتبرتها عربية، من هاد يهود، فلأنها مبدوءة بياء المضارعة كيثرب وينبع ويزيد، وهذا يمنع من الصرف وجوبًا.
والذي أقول به أنا هو أن «يهود» بالذات ليست عربية، وإنما هي من الأعجمي الذي نطق به العرب قبل القرآن، وأنها قيلت بذاتها على معنى الجمع اسمًا لشعب أو قبيلة: تقول «ثلاثة رجال من يهود»، ولا تقول «ثلاثة رجال يهاويد أو ثلاثة رجال يهودين» أما إن أردت التنصيص على المفرد أو المثنى فأنت تقول على النسب «يهودي» أو «يهوديان».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/127]
وقد وقعت الصفة على النسب إلى «يهود» مرة واحدة فقط في كل القرآن، في قوله عز وجل {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} [آل عمران: 67].
وجاء في فصيح العربية، بل وفي الصحيح من حديث سيد الفصحاء صلى الله عليه وسلم، لفظة «يهود» معرفة بمحض علميتها لا تحتاج إلى الألف واللام، يراد منها في الغالب ذلك الحي من يهود يثرب، كما تقول «عاد»، «ثمود».
ولكن القرآن المعجز – وقد أتى بلفظة «اليهود» ثماني مرات – لا يأتي بها إلا معرفة بالألف واللام، يقطع شبهة تأويل مقولته فيهم في تلك المواضع الثمانية بأنها تنصرف إلى بعض من يهود دون بعض، من مثل قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} [المائدة: 51]، {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82]: إنهم يهود كل مكان وكل عصر، سنة ماضية فيهم إلى يوم القيامة، فخذوا حذركم أيها المؤمنون الذين أسلموا.
وقد مر بك في تقديمنا لهذا الفصل أن «اليهود» تسمية على المدح. ولو فهمها أصحابها على أصلها فعملوا بها لكان خيرًا لهم، ولكن اليهود هادوا ثم عصوا، ثم هادوا، ثم عصوا من بعد.
ومن معاني الهود في اللغة، الهوادة والمهاودة، أي الانصياع وترك التأبي. والهود إلى الله عز وجل هو هذا بالذات: تجيئه مذعنًا قد سكن منك القلب والجوارح. إنه «إسلام الوجه لله» .
من هذا قوله عز وجل في تفسير الذين هادوا: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44].
ومنه أيضًا قول القرآن على لسان سليمان: {وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين} [النمل: 42]، أي أوتينا التوراة من قبل وكنا هودًا هائدين.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/128]
بل منه أيضًا تلك الآية الجامعة لا قول بعدها لقائل: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19] يعني إلا من بعد ما جاءتهم التوراة كما مر بك، فما جاءت التوراة إلا بهذا الإسلام نفسه.
وأخيرًا قال الحق سبحانه: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا} [آل عمران: 20].
هذا هو الدين القيم، لا يُدانُ لله بغيره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فهل آن للذين هادوا أن «يهودوا»؟
عسى ربهم أن يرحمهم، أو يتوب عليهم ليهودوا).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 119-129]


رد مع اقتباس
  #56  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:23 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

الفصل الثامن: داود ذو الأيد: أنبياء وملوك:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل الثامن
داود ذو الأيد: أنبياء وملوك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/131]
يتناول هذا الفصل تفسير اثنى عشر اسمًا علمًا، هي: طالوت – جالوت – داود – الزبور – سليمان – إلياس – اليَسَع – ذو الكفل – يونس – أيوب – عزير – لقمان.
والترتيب التاريخي للأعلام الخمسة الأولى: طالوت – جالوت – داود – الزبور – سليمان، ترتيب تتفق فيه التوراة مع القرآن. فطالوت هو شاؤول، أول ملوك بني إسرائيل، سألوا نبيا لهم أن يبعث الله عليهم ملكًا فبعث الله عليهم طالوت ملكًا، وهو شاؤول كما مر بك، ومعنى «شاؤول» عبريًا هو السؤل والطلبة كما سترى. وجالوت من جبابرة الفلسطينيين الذين كانت بينهم وبين إسرائيل حروب على عصر شاؤول. وداود كان يمشي في عسكر شاؤول، فخرج إلى مبارزة جالوت، وقتل داود جالوت [البقرة: 246 – 252]. والزبور هو «المزامير» في أسفار العهد القديم، وحي الله على داود كما تعلم. أما سليمان فهو ابن داود عليهما السلام، خلف أباه في بني إسرائيل فورث العرش كما ورث النبوة.
أما الأعلام السبعة الأخرى: إلياس – اليسع – ذو الكفل – يونس – أيوب – عزير – لقمان، فلا يستبين لها ترتيب مقطوع به في القرآن. ولكنك تجد في التوراة إلياس في أعقاب سليمان، وتجد اليسع تلميذًا لإلياس، ويجيء ذو الكفل من خلفاء اليسع. أما يونس وأيوب فلا ترتيب لهما تطمئن إليه في التوراة، فجئنا بهما الواحد بعد الآخر، قبل عزير. وأما لقمان فقد انفرد به القرآن ولم تسمه التوراة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/132]
وليس المراد من عنوان هذا الفصل - «أنبياء وملوك» - أن رجاله جميعًا إما أنبياء وإما ملوك، أو أنهم ملوك أنبياء. نعم، قد كان منهم الملكُ النبي مثل داود وسليمان، وكان منهم الملك فحسب مثل شاؤول (طالوت) الذي كان ملكًا ولم يكن نبيًا، وكان منهم إلياس واليسع وذو الكفل ويونس وأيوب، أنبياء ليسوا بملوك. ولكن منهم أيضًا من ليس هذا ولا ذاك: جالوت، جبار فلسطيني عابد وثن، لا تثبت له التوراة صفة الملك على الفلسطينيين، ولا يُثبتها له القرآن، وإنما يثبت له صفة قائد جندهم أو أمير جُموعهم كما تجد في قوله عز وجل: {فلما برزوا لجالوت وجنوده} [البقرة: 250]، بينما هو في التوراة شجاع عملاق من أبطال جند الفلسطينيين فحسب. وثم أيضًا عزير، لا نبي ولا ملك. وثم أيضًا لقمان الذي انفرد به القرآن ولا تتجاوز به رتبة الصديق، فلم تثبت له النبوة في القرآن أو في حديث صحيح.
وإنما الإشارة بهذا العنوان - «أنبياء وملوك» - هي إلى داود وسليمان، أبرز أعلام هذا الفصل، اللذين انفردا بالملك والنبوة جميعًا، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 130-133]


رد مع اقتباس
  #57  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:25 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(40) طالوت:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (40) طالوت
مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن القرآن يخالف التوراة في تسمية أول ملوك بني إسرائيل: قالت التوراة: «شاؤول»، وقال القرآن «طالوت».
وقد زعم بعض المستشرقين المنكرين الوحي على القرآن، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أخطأ خطا بينا في تسمية شاؤول: قبلت له شاؤول فوقعت في سمعه طالوت، ولم يتثبت. وأنصف بعضهم – أو تحرى بعض الإنصاف ولم يستوف – فقال ان محمدًا صلى الله عليه وسلم علم من وصف هيئة شاؤول في التوراة إفراط شاؤول في الطول، فلقبه بكنية يستفاد منها المبالغة في الطول، فقال «طالوت» على الإبدال من اسمه الأصلي في التوراة «شاؤول» عالمًا أو غير عالم بهذا الاسم الذي لطالوت في التوراة.
ولم يتصد هؤلاء – كما لم يتصد القرطبي رحمه الله في تفسيره الآية 247 من سورة البقرة – لسبب عدول القرآن عن «شاؤول» إلى طالوت، ولو علمه المستشرقون لما ملكوا إلا أن يشهدوا لهذا القرآن بإعجاز فوق إعجاز، كما سترى. ولكن الهدى هدى الله، والله عز وجل لا يهدي إليه إلا من أناب.
رسما «شاؤول» بالألف بعد الشين على ما شاعت به في «الكتاب المقدس» (وترسم فيه أيضًا بواو غير مهموزة «شاول»)، وصحيحها في العبرية «شؤول»، على زنة «فعول»، زنة اسم المفعول في تلك اللغة، و«شاؤول» مفعول من «شأل» العبري، مكافئ «سأل» العربي بكل معانيه، وأخصها المعنى هنا الطلب، تقول سألت الله عز وجل، يعني طلبت منه وتمنيت عليه: {يسأله من في السموات والأرض
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/134]
كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] أي أنه جل وعلا الساعي في حوائج الخلق أجمع، كل يوم هو في شأن هذا وذاك وتلك، المستخفي بالليل والسارب بالنهار، لا يغفل عن النملة في أديم الأرض، ولا يسهو عن النبتة في صميم الجبل. وهذا من دقيق القرآن، لو تأملته لساخت نفسك، ولخشع العقل وانفطر القلب.
«شاؤول» إذن معناها عبريًا «مسؤول» بمعنى موضع السؤال والطلب، فهو «طلبة» أو «سؤل» أو هو «المنة» و«الفضل»، كما قال عز وجل يستجيب لموسى: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى} [طه: 36 – 37]، يعني قد طلنا عليك بما سألت، أي طلنا عليك بسؤلك الذي سألت، وهذا شبيه بما سأله صموئيل لقومه: سألوا الله على لسان هذا النبي أن يبعث عليهم الله ملكا، فطال الله عليهم به، وكان لهم سؤلهم الذي سألوا.
والقرآن المعجز، الذي لم يفته معنى «السؤال» الذي في شاؤول العبرية كما ظن المتطفلون على المباحث اللغوية من أدعياء الاستشراق المنكرين الوحي عليه، يجيء بشاؤول على «طالوت» العربية التي تجمع بين معنيين كما سترى: الذي طال الله به على قومه، والطوال الذي فاق بطوله كل أقرانه. فأي إعجاز وأي علم!
كان شاؤول رجلاً طوالا، يعني مفرطًا في الطول، لا يتجاوز كتفيه أحد من قومه: «فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق» (صموئيل الأول 10/ 23) فكان طول قامته من دواعي تقبلهم له واجتماعهم عليه: «فقال صموئيل لجميع الشعب أرأيتم الذي اختاره الرب أنه ليس مثله في جميع الشعب؟ فهتف له كل الشعب وقالوا ليحيى الملك» (صموئيل الأول 10/ 24).
والقرآن يعبر عن فرط طول قامة شاؤول بالبسطة في الجسم. ولكن القرآن يزيد قارئه بيانًا: {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/135]
والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 247]، يذكرهم بأنهم هم الذين استخاروا الله فيمن يملكون عليهم، وقد اصطفاه الله من دونهم، فلا قول بعد هذا لقائل. ولكنه عز وجل يتلطف، فيبين لهم أسباب الاصطفاء لهذا المنصب: لا عبرة بسعة المال، وإنما العبرة بالبسطة في العلم اللازم لإدارة شؤون الملك، وبالهيئة التي تحفظ الهيبة، وقد اجتمعا في «طالوت» طويل القامة الذي طال الله عليهم به.
طال يطول طولا (مضموم الطاء في المصدر) يعني طالت قامته فهو طويل.
أما طال يطول طولاً (بفتح الطاء في المصدر) فمعناه طالت قامته حتى فاق أقرانه فهو طوال. ومعناه أيضًا أفضل ومن أنعم: طاله بكذا، وطال عليه به، يعني جاد عليه بالفضل والمنة. والاسم من هذا، أي المطول به، هو الطيل، والطال والطالة أيضًا.
وقد وصف الله عز وجل ذاته العلية بذي «الطول» (غافر: 3) يعني المنعم المفضال المتفضل.
و«طالوت» مصدر صناعي من «الطال» على هذين المعنيين كليهما، الطوال والطال، كما قيل «ناسوت» من «الناس»، جاء بها القرآن ولم تسمع من العرب، إدلالاً بعلمه وإعجازه، فيجيء بشاؤول المعنى لا يسميه باسمه مترجمًا فحسب ولكنه يصوره لك أيضًا بصفته: لا تقرأ «طالوت» أو تسمعها إلا وتراه أمامك، الطوال العملاق. وسبحان العليم الخبير.
وقد فطن مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 247 من سورة البقرة) إلى معنى «الطوال» الذي في «طالوت». ولكنهم، وقد علموا من أحاديث أهل الكتاب أن طالوت اسمه في التوراة «شاؤول»، لم يفطنوا إلى ما في «طالوت» من معنى الطيل والطال والطالة، أي الامتنان على السائل بما سأل، أي السؤل، معنى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/136]
اسم «شاؤول» عبريًا. وهم لم يفطنوا إلى هذا لأنهم لم يعلموا أن شاؤول عبريًا معناها «السؤال» عربيًا، وما كان لهم أن يعلموا هذا لأنهم لا يقرءون التوراة مباشرة في نصها العبري، ولأنهم أيضًا، وهذا أهم، لم يتوفروا على دراسة عبرية التوراة بالقدر اللازم لتأصيل معاني أعلامها.
أما لماذا عدل القرآن عن «شاؤول» إلى «طالوت» التي لا وجود لها بذاتها أو بوجه قريب منها في أسفار التوراة التي بين يديك، فهذا كما مر بك هو منهج القرآن في التعريب: يعدل عن التعريب إلى الترجمة حين يُسيء التعريب إلى المعنى:
إن قال في «شاؤول» شؤول على أصلها العبري، اختلط معناها بمعاني الجذر العربي «شال» بالشين غير مهموز، فعل العقرب، تشول عليك بذنبها، وهذا بعيد تمامًا عن معنى الجذر «شأل» العبري المهموز المكافئ لـ «سأل» العربي بالسين.
وإن قال في تعريب «شاؤول» «سؤول»، أي شؤول العبرية معدولاً عن شينها إلى السين، شأن القرآن في الأعلام العبرية ذوات الشين، مثل «شلومون» المعربة على «سليمان»، أخذها القارئ بمعنى «سؤول» العربية يعن الكثير السؤال، أي السائل الملحف في السؤال، أي أخذها بعكس معناها في العبرية: السؤل، موضع السؤال.
وقد كان في متناول القرآن بالطبع أن يترجم «شاؤول» بمكافئها العربي الدقيق، أعني «سؤل» أو سول (غير مهموزة، قد سمعت من العرب بمعنى «سؤل» المهموز)، أو يترجمها بفعل آخر بنفس معناها، وهو الطلب، فيقول «طلبة» (كما نسمي نحن في أعلامنا الآن فنقول «طلبة» بضم الطاء على معنى «البغية»).
ولم يفعل القرآن هذا لأن «سول» غير المهموزة تختلط عند القارئ العربي بمعنى «التسويل» وهذا من معنى «شاؤول» العبري بعيد. ولأن «سؤل» و«طلبة» ليس لهما من الجرس القرآني الذي عهد نصيب.
أما «طالوت» التي جاء بها القرآن – وهي من مستحدثات القرآن – يصيب بها الاسم والصورة معًا، فهي شأو في الترجمة بعيد، دونه قطع الرقاب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/137]
فسر القرآن إذن العلم العبراني «شاؤول» بالترجمة، فقال «طالوت»، والتفسير في القرآن بالترجمة يغني عن كل تفسير. ولكن القرآن يفسر أيضًا معنى هذا الاسم الأعجمي وهو الطلبة والبغية والسؤل، بالتصوير، في قوله عز وجل: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} [البقرة: 246]، أي سألوا الله على لسان هذا النبي ملكًا يقاتلون معه في سبيل الله، فاستجاب الله سؤلهم بشاؤول ملكًا.
ولعلك تلاحظ هنا أن «شاؤول»، شأنها شأن كثير من أعلام التوراة، تشبه أن تكون كنية يتكنى بها العلم المقصود بعد تحقق الصفة والحال، أي ما كان شاؤول «سؤلاً» يوم ولد، وإنما يوم ملكه الله عليهم بسؤالهم إياه.
وطالوت العربية من هذا أيضًا بلا جدال، فلا أحد يتسمى يوم مولده بالطوال العملاق، إلا أن يراد منها المعنى الآخر، الفضل والمنة، الذي تأخذه من الطال والطالة، فلا تدري أي الاسمين كنية، ولا تدري أيضًا أي الكنيتين أسبق من الأخرى في تسمية هذا الملك.
أما لماذا جاءت «طالوت» في القرآن – وهي عربية – اسمًا ممنوعًا من الصرف غير منون، فالوجه عندي أن أخص سبب لهذا هو الإشارة إلى عجمة صاحب الاسم العلم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 134-138]


رد مع اقتباس
  #58  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:26 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(41) جالوت:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (41) جالوت
ترسم «جالوت» في التوراة «جليات»، وتنطق تاؤها في عبرية التوراة ثاء لاعتلال ما قبلها بالألف اللينة (أي غير المهموزة) على ما مر بك من قواعد النطق في تلك اللغة.
وضم الجيم في «جليات» العبرية اصطلاحي بحت، لأن جيمها في الخط العبري مشكولة بالفتحة المفخمة الممدودة، ولكن سكون اللام بعد الجيم في المقطع الأول ونبر الألف اللينة في المقطع الثاني (جل – يات) يوجبان في اصطلاح علماء العبرية خطف المقطع الأول، أي تقصير زمن نطقه، فتنطق الفتحة المفخمة فيه «ضمة» خلافًا للرسم، أي أنها ترسم بالفتحة «جليات» وتنطق بالضمة «جليات». وهذا يدلك على أن الأصل فيه قد كان الفتحة، كما في جيم «جالوت» التي في القرآن.
هذا إلى أن ضوابط النطق من نقط وشكل في التوراة التي بين يديك على مقتضى الرسم الذي ابتدعته جماعة «بعلى ماسورا» أي (أهل الأثر) على مدى ثمانية قرون من القرن الثاني إلى القرن العاشر الميلاديين في ظل المسيحية ثم في ظل القرآن، ليست لها حجية الشيء الموحي به، كما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. هذا فضلاً عن أن صاحب هذا الاسم كما تقول التوراة كان رجلاً فلسطينيًا ليس بعبري من بني إسرائيل، وأنه رغم وحدة الجذور بين اللهجات العبرية والآرامية والكنعانية كان ينطق اسمه بلهجة آبائه وأجداده، غير مجبر على اتباع النقط والشكل اللذين ابتدعهما أهل الأثر وانتهوا منه في القرن العاشر الميلادي بعد نحو ثمانية عشر قرنًا من مهلك «جالوت».
وقد زل أدعياء الاستشراق زلة فاحشة في «جالوت» التي في القرآن، كما زلوا من قبل ومن بعد في غيرها: قالوا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم ربما سمع
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/139]
من يهود يثرب لفظة «جالوت» العبرية (ومعناها عربيًا الجلاء) تتردد على أفواههم – يعني جلاء بابل أو سبى بابل على أيدي بختنصر – فنحت منها اسم ذلك الجبار الفلسطيني «جليات» الذي قتله في التوراة وفي القرآن داود.
والذي أرجوك إياه هو أن لا تسخر من هذا العبث الذي قاله أدعياء الاستشراق هؤلاء، وإنما ترثى معي لقائله الذي أعماه الهوى عن الحق، يبني على مقولة النقل والتلقين ولا يتوقف بينه وبين نفسه ليتساءل:
أين وكيف ومتى استطاع محمدٌ صلى الله عليه وسلم التسمع على يهود يثرب في خلوتهم وهم يتطارحون بالعبرية أشجان ذكريات سبيهم في بابل فلا تعي أذناه من غمغمتهم بمراثيهم سوى لفظة «الجلاء» أي «جالوت» العبرية هذه؟
أو قد كان يهود يثرب يتطارحون أشجان بابل في يثرب بالعبرية فيما بينهم أم كانوا يحدثون بها النبي وأصحابه؟
فكيف استعصى عليهم الإتيان بلفظة «الجلاء» العربية التي تكافئ «جالوت» العبرية وقد كان من يهود يثرب من يتقنون العربية كالفصحاء والشعراء من أهلها؟
بل كيف يتشدقون أمام العرب بأيام نحسهم ومذلتهم في بابل، وهم الهازئون بالعرب، المتعاظمون عليهم؟
وهب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وقعت في أذنيه لفظة «جالوت» العبرية هذه من يهود يثرب في نَدْبِهِمُ «الجلاء» ولا يفقه لها معنى، فكيف فطن إلى أنها تصلح اسمًا لذلك الجبار الفلسطيني الذي سماه القرآن «جالوت» ولا تصلح اسمًا للملك «شاؤول» الذي سماه القرآن «طالوت»؟
أفقد سمع أيضًا من يهود يثرب أخبار ما كان بين «جليات» وداود؟ فكيف يخلط، وهو اللقن الفطن، بين اللفظتين العبريتين «جالوت»، «جليات»؟
وهبه قد علم أن «جالوت» العبرية معناها الجلاء، فكيف يجيء بها اسمًا لرجل على الإبدال من «جليات» التي انبهمت عليه؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/140]
ولماذا يعدل أصلاً عن «جليات» إلى «جالوت»؟
أفقد علم أيضًا أن «جليات» و«جالوت» العبريتين لفظتان بنفس المعنى عبريًا، أم علم ما لمي علمه علماء العبرية وعلماء التوراة فأراد أن يصحح لهم «جليات» إلى «جالوت»؟
إنما قال أدعياء الاستشراق هؤلاء ما قالوه لأنهم إما يجهلون معنى «جليات»، وإما أنهم يعلمونه ولكنهم يفترضون فيك الجهل به، فهم يعمون عليك ويخلطون، آمنين ألا ينكشف لك باطل دعواهم.
ولأن الهوى والغرض داء مميت، فقد مات هؤلاء الأدعياء بدائهم.
أما القرآن الخالد الباقي، قول الحق الذي فيه يمترون، فهو الذي قد علمت: أفقه بالعبرية من أهلها، وسبحان الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
يشتق علماء التوراة اسم «جليات» من الجذر العبري «جلا»، وهو جذر بنفس المعنى في اللغات الثلاث: العبرية والآرامية والعربية.
تقول منه جلا عن وطنه، ومن وطنه، يجلو، جلاء، وجلوا أيضًا، يعني نزح عنه، خشية خوف أو جدب، يلتمس الأمن أو الرزق في غيره، فهو «الجالي»، والجالية، شأن تلك «الجاليات» الأجنبية التي لا يخلو منها بلد يوفر الأمن والرزق لتلك الجاليات في مهجرها.
وتقول أيضًا: أجلاه عن وطنه إجلاءً (وجلاه أيضًا جلاء وجلوا) يعني قهره على الجلاء، أي أخرجه منه كرهًا، فعل الغاصب الغازي، فالفاعل – أي هذا الغاصب – مجل، وجال أيضًا، والمفعول – أي الذي أخرجه الغاصب من أرضه – مجلو، ومجلى أيضًا، والاسم الإجلاء، والجلاء أيضًا. وتصلح «الجلاء» تسمية بالمصدر يستوي فيها المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع. تقول: هؤلاء القوم هم جلاء بابل، أي الذين أجلاهم بختنصر عن مملكة يهوذا، وعن «أورشليم» بالذات التي جعل أهلها أثلاثًا: ثلث في القتلى، وثلث في السبي، وثلث استحياه فتركه يهيم في خرائبها
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/141]
وينوح على أطلالها، وتلك هي النازلة التي يشير إليها القرآن في «مواعيد بني إسرائيل» بقول الحق سبحانه: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي باس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} [الإسراء: 5]. وهذا الجلاء أو السبى كتبه الله من قبل على الظالمين من بني إسرائيل، لا يخرجون من جلاء حتى يقعوا بظلمهم في جلاء غيره، لقوله عز وجل: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار} [الحشر: 3]، سنة ماضية فيهم إلى يوم القيامة: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} [آل عمران: 112]، والحبل هنا بمعنى الإمهال والمد: يمد لهم الله حينا ويمد لهم الناس أحيانًا. والذي «يمد لهم» لا يلبث هو نفسه حتى ينقلب عليهم، بظلمهم حينا، وبلغوائهم وبطرهم أكثر الأحيان.
«الجلاء» إذن كلمة غليظة في سمع بني إسرائيل، لا تهيج فيهم ذكريات مأساتهم على أيدي البابليين في القرن السادس قبل الميلاد فحسب، ثم على أيدي الرومان حوالي الربع الأخير من القرن الأول الميلادي في أعقاب رفع المسيح، ثم إجلاؤهم عن شبه الجزيرة أواخر عهد عمر رضي الله عنه في أواسط القرن السابع للميلاد، ولكنها تذكرهم أيضًا وبالأخص بخطر الجلاء الآتي، والجلاء الذي يليه، إلى دور فدور: إنه العقاب الغليظ الذي خصهم الله به في هذه الدنيا كلما ظلموا، يذيقهم الله إياه ما بين كل نوبة من نوبات «إرخاء الحبل»، يعظهم بواحدة ويبتليهم بأخرى، فما ارعوى الموعوظ ولا المبتلى.
ولكن «جلاء بابل»، الذي كان أول جلاء أذاقه الله بني إسرائيل بظلمهم، حدث بعد «طالوت وجالوت» بقرون، فكيف يجيء من «الجلاء» جليات؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/142]
من أعلام التوراة عَلَمان مشتقان من مادة الجذر «جلا» هما: «يجلي»، «جليات». الأول – وهو «يجلي» - ورد في اسم الرئيس «بقى بن يجلي» اسم رجل كان في التيه مع موسى (سفر العدد 34/ 22) وهو كما يقول لك السفر رجل عبري قح من سبط بني دان. أما الثاني «جليات» فهو رجل فلسطيني (سفر صموئيل الأول 17/ 23) بارزة فتى يقال له داود، خرج إليه من عسكر شاؤول الملك، فقتل داود جالوت كما في القرآن.
وأنت بالطبع لا تتصور أن يتسمى إسرائيلي في مصر، وهو «يجلي» أبو «بقى» الذي كان من رؤساء بني إسرائيل في التيه، باسم مشتق من «الجلاء» على معنى الأسير المسبى ولم يكن بعد ثم «جلاء»، حتى إن اعتبرت خروجهم إلى التيه جلاء وليس نجاء.
ولكن علماء التوراة (راجع المعجم العبري الآرامي لألفاظ التوراة الوارد في قائمة مراجع هذا الكتاب تحت مادة «جلا») يقولون لك بالنص إن معنى اسم «يجلي» هذا هو من مادة «الجلاء» على معنى الأسير المسبي.
وأنت أيضًا لا تتصور أن يتسمى «جليات» الفلسطيني باسم مشتق من مادة «الجلاء» على معنى السبى، ولم يكن قد حدث لبني إسرائيل جلاء بعد، فضلاً عن أن الرجل كما قالوا فلسطيني، لا شأن له بجلاءات بني إسرائيل، ناهيك بأن الرجل من جبابرة قومه، فلا يصح لهم وله أن يدعى بهذا المعنى اسمًا أو كنية.
ولكن علماء التوراة (راجع المعجم المذكور تحت نفس المادة) يقولون لك بالنص أن «جليات»، اسم هذا الفلسطيني، مشتقة من مادة «الجلاء» مصدرًا أو مفعولاً، فهو «السباء» أو «السبى».
أما نحن فنقول أن «الجلاء» في العبرية والآرامية والعربية جميعًا، له معنى آخر، هو الأصل في استعمال «الجلاء» في معنى الإخراج من الوطن أو الخروج منه، أي الخلاء والإخلاء (بالخاء المنقوطة من فوق فيهما): إنه الإبانة والبيان والبينونة والبين. تقول بان اللحم عن العظم، أي زال فانكشف العظم من تحته، وتقول جلا الصدأ عن السيف، أي أزال ما يحول دون لمعانه، وجلا بصره، يعني أسقط عنه الغشاوة، وتقول جلا الأمر فأصبح جليا بينا، وتقول «ابن جلا» (غير مهموز) تعني
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/143]
الرجل الشريف في قومه يعرف مكانه، وجلا عمامته يعني وضعها فكشف رأسه، وجلا الشعر يعني انحسر عن مقدمة الرأس، إلى آخر ما تعلم.
لهذا فنحن نخالف علماء التوراة في تفسير هذين الاسمين «يجلي»، «جليات» ونقول جازمين أن معنى «يجلي» العبراني هذا (وقد جاء بصيغة المضارع المبني للمجهول مرادًا منه اسم المفعول كما مر بك) هو «المجلو» الجلي البين الواضح.
وعلى هذا المعنى نفسه نفسر أيضًا اسم «جليات» أو «جالوت» - لا شأن لك بما كان ينطق هذا الرجل اسمه على عصر طالوت وداود فليس للغويين اليوم إلى هذا من سبيل – فنقول إنه «الجلا» (غير مهموز) على معنى الرجل الشريف في قومه، يُعرف مكانه، كالذي تتوقعه من فارس قرم شجاع، يخرج لمبارزة أقرانه، ويأنف من مبارزة من كان دونه، على ما يقوله لك السفر من أن «جليات» أنف من مبارزة ذلك الفتى المغمور الذي كانه داود، ومثلما تقرأ في كتب السيرة عن فارس حلف قريش في غزوة الخندق، عمرو بن ود، الذي هاب الخروج إليه فرسان المسلمين، وأراد أن يخرج إليه علي بن أبي طالب، والنبي ينهنه من حماس علي، ويقول له: اجلس، إنه عمرو! يقولها ثلاثًا حتى يقول علي في الثالثة: يا رسول الله، وإن كان عمرًا! فيأذن له صلى الله عليه وسلم ويدعو له، ويقتل علي عمرو بن ود، كما قتل داود جالوت.
ربما قلت معي إن علماء التوراة أرادوا بتفسيرهم «جليات» على معنى السباء المسبى، النيل من هذا الجبار الفلسطيني الذي صال على بني إسرائيل، ولا يصح هذا من علماء يأخذ عنهم الناس.
الصحيح في «جليات» أنه «ابن جلا» لا العبد السبي.
وقد فسر القرآن هذا الاسم على معنى «الجلا» الجلي الواضح، بالتعريف فجاء به على المبالغة «جالوت»، كما قيل من «طغى» «طاغوت»، وأمثالها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/144]
وفسره القرآن أيضًا بالمرادف الملاصق القريب من معناه، في قوله ع ز وجل: {فلما برزوا لجالوت وجنوده} [البقرة: 251]، و«برز» في معجمك العربي يعني ظهر بعد خفاء، وأبرزه يعني أظهره وبينه فهو «مبرز»، يعني جلي واضح ظاهر، والبرزة المرأة التي تجالس الرجال. أما موانع «جالوت» من الصرف فهي نفس ما قلناه في «طالوت».
وسبحان العليم الخبير).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 139-145]


رد مع اقتباس
  #59  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:28 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(42) داود:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (42) داود
ترسم «داود» في التوراة بأحرف ثلاثة فقط هي «دود» بغير ألف بعد الدال، ولكن جماعي «بعلى ماسورا» تضبطه في التوراة التي بين يديك بحيث ينطق «داويد» (التي آلت في العبرية من بعد إلى دافيد David بعد أن تحورت الواو على ألسنة اليهود إلى الفاء في مواضع أخصها حين تكون بادئة في الكلمة أو المقطع، ومنها: (دا – ويد).
وعلماء العبرية وعلماء التوراة يفسرون «داويد» هذه على «فاعيل» بمعنى «مفعول» من جذر يفترضونه في العبرية، وهو الجذر «دود»، مقلوب الجذر العربي «ود» فهو وديد، يعنون الحب المحبوب. وليس هذا على شهرته بشيء كما سترى.
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 84 من سورة الأنعام) فقد توقفوا في «داود»، قالوا أنه اسم أعجمي فحسب، ولم يفسروه.
ويرى المستشرقون أن الاسم «داود» كان معروفًا في شبه الجزيرة قبل نزول القرآن بنطقه الوارد في القرآن، متحورًا عن أصله العبري «داويد»، فأتى به القرآن على ما كان العرب ينطقونه. وهو قد تحور على ألسنة العرب من «داويد» إلى «داود» التي ترسم اصطلاحًا بواو واحدة وأصلها بواوين (داوود) لأن الواو الوسطى حين تمد، يمدها العرب بالواو على وزن «فاعول» ولا يمدونها قط بالياء «فاعيل». والذي لم يلتفت إليه هذا المستشرق وأضرابه أنه ليس في العبرية كلها – عبرية التوراة والعبرية المعاصرة – لفظ عبري واحد مشتق من فعل واوي أجوف (على مثال الجذر المفترض «دود») على زنة «فاعيل»، إلا «داويد» التي ارتأت جماعة «بعلى ماسورا» (أهل الأثر) ضبطها على هذا النحو في تسمية داود الملك، الحب المحبوب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/146]
ولو أريد تسمية داود على معنى الحب المحبوب، لقيل في العبرية «دود» على أصل حروفه الثلاثة «دود» في الخط العبري، أو لقيل في العبرية «يديد» على «فعيل» من الجذر العبري المستعمل – لا الممات - «يدد» المكافئ العبري المباشر للفعل العربي «ود»، ولما كانت لعلماء العبرية وعلماء التوراة من حاجة إلى افتراض جذر ممات في العبرية اسمه «دود».
وأما الذي جهله هؤلاء وهؤلاء فهو أن القرآن المعجز يخالف علماء العبرية وعلماء التوراة في تفسيرهم اسم داود على معنى الحب المحبوب، وإنما يقول أن «داود» عناها «ذو الأيد»: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} [ص: 17] يفسر داود بذي الأيد على الترادف المطابق اللصيق.
وهذا من فرائد إعجازات القرآن التي تتناولها مباحث هذا الكتاب الذي نكتب.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
كان شاؤول كما تعلم هو أول ملك ملكه بنو إسرائيل على أنفسهم، اختاره الله لهم على ما تعلم من التوراة ومن القرآن. والذي تتوقعه من شخص يصطفيه الله عز وجل على علم للحكم والملك أن يكون صفوة بني إسرائيل جميعًا. ولكن بني إسرائيل كدأبهم في بطر النعمة ما لبثوا أن كرهوه لحزمه وصرامته، فأكثروا عليه الأقاويل في أسفار العهد القديم، وادعوا أنه سقط في عين الرب لخروجه على نصائح صموئيل النبي الذي جاءهم به، وآثروا على شاؤول داود، ذلك الفتى الرقيق الجميل، البطل الذي قتل بحجر في مقلاعه عملاقًا فلسطينيًا اسمه «جليات». أما شاؤول الملك فقد عرف قدر داود وأحبه، وقربه منه، حتى زوجه من ابنته وربما آثره على كل بنيه، بل وفكر في استخلافه من بعده. ولكن دسائس البلاط تفرق بينهما، حتى يخشى شاؤول على نفسه من غدر داود، وحتى يفر داود بنفسه من شاؤول الذي طلب قتله. أحب شاؤول داود أشد الحب، وأبغضه أيضًا فأمعن في بغضه، وكأنه كان يغار منه. ويموت شاؤول على حالي الحب والبغض لداود، ولكنه لا يموت بيد داود، وإنما بيد
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/147]
الفلسطينيين الذين بدأ حكمه بحربهم وانتهى أيضًا على أيديهم في جولة انكسر فيها شاؤول وجيشه، ويصاب شاؤول بجرح شديد من سهم قاتل، وتنزف منه الدماء فيجهز على نفسه بسيفه قبل أن يمثل به أعداؤه، فيملك بنو إسرائيل داود مكانه (راجع أخبار شاؤول وداود في سفر صموئيل الأول وفيه تهاويل كثيرة لا نستطرد بك إليها).
والذي يعنينا هنا أن بني إسرائيل أصفوا داود الود، وأحبوه الحب كله. لم يحبوا فيه داود النبي – بل قل لم يكن داود عندهم بنبي – وإنما أحبوا داود الملك، لا يعدلون به ملكا غيره في كل تاريخهم على قصر عهدهم بالمُلك.
لهذا استقام لعلماء العبرية وعلماء التوراة تفسير اسم داود (أي «داويد» ) بمعنى الحبيب المحبوب، وإن لم يستقم هذا التفسير على أصول العبرية كما سترى.
ليس في العبرية كما مر بك جذر اسمه «دود»، وإنما الذي في العبرية من هذه المادة أسماء جوامد لا اشتقاق لها، وهي ستة:
- «دُود» بضم الدال البادئة، يعني عم أو خال.
- «دُود» بضم الدال البادئة، صفة بمعنى الحِبُّ الصديق.
- «دثود» بضم الدال البادئة أيضًا، لا تستخدم إلا بصيغة الجمع «دُوديم» بمعنى الملاطفة والتحبب.
- «دُود» (بنفس نقط «دُود» العربية) بمعنى سلة.
- «دُود» (بنفس نطق «دُود» العربية) بمعنى قِدْر أو مِرْجَل. وهذه مشتقة من جذر سرياني «دُود» بمعنى هاج واضطرب.
- «دُود» (بنفس نطق «دُود» العربية) ثمرة نوع من النبات اسمه «يُبْرُوح» أو «لفاح» وهو بالإنجليزية mandrake و mandagora.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/148]
هذا بالإضافة إلى أعلام توراتية أخرى هي: «دُودو» يعني حبه أي «حب الله»، «دودوهو» بنفس المعنى، «دودي» أي «حبي»، وبالإضافة بالطبع إلى «داود» التي ترسم «دود». وهذه الأعلام كلها، بما فيها داود، ترد جميعًا إلى «دود» بضم الدال، فلا تدري لماذا خرجت عن هذا النسق «داويد».
وهنا يثور سؤال: كيف يفترض جذر واحد ممات اسمه «دود» لتفسير هذه المعاني الست: العم – الحب – التحبب – السلة – المرجل – ثمرة اللفاح؟ إن جازت الصلة بين الحب والتحبب، فما الصلة بين العم والسلة، وبين هذين وبين المرجل وثمرة اللفاح؟
وإذا كان اسم داود (داويد العبرية) مشتقًا من الجذر المفترض «دود»، فلماذا الإصرار على أنه من «دود» بمعنى الحب، وليس من «دود» بمعنى العم، وكلا «الدودين» يكتب وينطق سواء؟
وإذا كان اسم داود (داويد العبرية) بمعنى «الحب» هو نفسه «دود» الحب – كتابة ومعنى – فلماذا انفردت «دود» التي هي اسم داود بالنطق «داويد» على خلاف الرسم؟
ولماذا تخصصت «داويد» (المرسومة «دود») بمعنى «الحب» اسما علمًا لداود الملك، وامتنع استخدامها صفة بمعنى «الحب»، لا يستعمل في موضعها كصفة إلا «دود» التي تنطق «دود» دون خشية اختلاطها بمعنى العم أو السلة أو المرجل أو ثمرة اللفاح؟
ولماذا الإصرار على جذر ممات اسمه «دود» بمعنى المودة والحب ولدى العبرية جذر آخر بنفس المعنى هو «يدد» مكافئ «ود» العربي – مبدلاً من واوه ياءً شأن العبرية والآرامية في كل جذر عربي مبدوء بالواو كما مر بك – لا تزال تستخدم العبرية المعاصرة منه صيغة «هتيدد» بمعنى «تودد» العربي ولا تستخدم قط صيغة فعلية من الجذر المفترض الذي اسمه «دود»؟ بل والأصل في العبرية «يديد» من هذا الجذر «يدد» لا من «دود»، تلقب بها سليمان بن داود عليهما السلام فقيل «يديديا» أي حب الله، ولم يقل «داويديا» من اسم «داويد» (داود) أبيه؟
الصواب أن يقال أن «دود» بمعنى الحب أصلها «يدود» من «يدد» حذفت ياؤه البادئة تخفيفًا (ولهذا نظائر في العبرية يعرفها المتخصصون)، لا حاجة لعلماء العبرية وعلماء التوراة بافتراض جذر ممات اسمه «دود».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/149]
وإنما اضطروا إلى افتراض هذا من أجل تفسير «داويد» بمعنى الحب لا أكثر ولا أقل، ولم يعبئوا بتفسير سبب كتابتها في الخط «دود» تماما كـ «دود» الأخرى بمعنى الحب.
ولست أقول أن جماعة «بعلى ماسورا» (أهل الأثر) افتعلوا «داويد» نطقا لـ «دود» التي في الرسم، وإنما هم ضبطوها على ما كان ينطق به هذا الاسم في عصرهم «داويد» التي تجدها بهذا النطق نفسه في رسمها اليوناني بأصول الأناجيل، دون أن يتساءلوا عن سبب رسمها في مخطوطات العهد القديم بأحرف ثلاثة: الدال والواو والدال «دود».
وقد مر بك أن جماعة أهل الأثر هؤلاء بدأت عملها في القرن الثاني الميلادي، ولا شك أنها ضبطت أعلام العهد القديم على ما كانت تنطق به في عصرها، وما كان يجوز لها غير ذلك في الأسماء الأعلام بالذات.
ومر بك أيضًا أن الحاجة إلى ضبط نصوص العهد القديم بالشكل والنقط نَشأت عن وقوع اللحن في قراءة هذه النصوص في خط لا يعبأ كثيرًا بإثبات حركات المد بعد مضي نحو عشرة قرون على عصر داود عليه السلام. أما كيف كان داود ومعاصروه ينطقون اسمه المرسوم في أسفار التوراة «دود»، فليس لك اليوم إلى هذا من سبيل. ليس لديك إلا هذه الأحرف الثلاثة (واو بين دالين) تنطقها كما تشاء. وقد شاءت جماعة «بعلى ماسورا» في القرن الثاني بعد الميلاد أن تنطقها كما كان اليهود ينطقوها في عصرهم «داويد».
ولأنه كما مر بك – لا وجود في عبرية التوراة والعبرية المعاصرة للفظ عبري واحد على زنة «فاعيل» بمعنى «مفعول» مشتق من جذر واوي أجوف على مثال ذلك الجذر المفترض «دود»، فلا مناص من أن تقول أن «داويد» هذه ليست إلا نطقا تحرف على ألسنة اليهود عن الصورة الصحيحة التي كان عليها نطق هذا الاسم العلم على لسان معاصري داود.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/150]
ولأن الفرق في الرسم بين «دود»، «داويد» كبير، فلا بد لك أن تلتمس نطقا أقرب إلى الرسم «دود». ولا أقرب إلى هذا من أن تنطق دالها البادئة بحركة بين الكسر والفتح (شوا العبرية) التي ترسم نقطتين رأسيتين (:) تحت الحرف المعنى مع تثقيل ضم الواو، فتقول: دوود (بواوين) أقرب ما تكون إلى «داود» التي نطق بها العرب ونزل بها القرآن.
أما من أين تجيء في العبرية «دوود» هذه التي أقترحها عليك، فهي تجيء سهلة سلسلة من «دي - أود»: أما «أود» العبرية فهي الأيد عربيًا، وأما «دي» العبرية الآرامية فهي «ذو»: إنه «ذو الأيد» كما فسرها القرآن المعجز، وسبحان العليم الخبير.
هذا يفسر لك لماذا قال العرب قبل القرآن «داود» ولم يقولوا «داويد» التي قالها يهود يثرب في قراءتهم أسفار «توراة الأنبياء والكتبة». عرف العرب بداود الملك على عصره، فنطقوها كما كان ينطقها داود ومعاصروه، ولم تتحرف عليهم «داويد» إلى «داود»، كما يظن المتطفلون على مباحث اللغة أدعياء الاستشراق.
ورد لفظ «الأيد» في كل القرآن مرتين فحسب، إحداهما قوله عز وجل: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} [الذاريات: 47]، والأخرى قوله عز وجل: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} [ص: 17] وصفًا لداود بأنه «ذو الأيد». ولم ترد «ذو الأيد» في كل القرآن إلا في هذا الموضع فحسب، تفسيرًا لمعنى الاسم العلم «داود» بالمرادف المطابق اللصيق «ذو الأيد».
إن أردت دليلاً على أن القرآن أفقه بالعبرية من أهلها، كفاك هذا الدليل. فدع عنك دعوى الاستنساخ والتلقين وسبح معي القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. والحمد لله رب العالمين).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 146-151]


رد مع اقتباس
  #60  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:30 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(43) الزبور:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (34) الزبور
قال عز وجل في نبيه داود عليه السلام: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ص: 17 – 20]. وقال فيه أيضًا: {ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد} [سبأ: 10] وقال عز من قائل: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا} [الإسراء: 55].
كان هذا الفضل من الله، وكان نبي الله داود عبدًا شكورًا.
أنعم الله عز وجل على عبده داود بالصوت الندي، وحلاه باللحن الشجي الرقراق، يسبح ويرنم ويطرب حتى الجماد، ويصدح ويشدو فتشدو على نغماته الطير، وتسبح معه الجبال. وقد عرف داود حق هذه النعمة فوضعها حيث يجب أن تكون: تسبيحًا وتمجيدًا، وتهليلاً وتكبيرًا، واستغفارًا ودعاء، يدعو ربه فيسأله ويستعينه، يهلل لمنة، ويستنصر في الشدة، ويتوجع في المحنة، ويفتن فيندم ويتوب. كان داود بحق إمام المغنين.
وهل أروع وأبدع من هذا الجمال وذاك الجلال، نشيًا من فم داود على مزمار داود، ترنمت به مع داود الجبال والطير يومًا في جنبات أورشليم؟ بل كيف وأنت وقد أسلمت أذنيك لأنغام تلك التسابيح، تشدو بها مع داود الطير، وتصدح الجبال؟
لا غرو قد صار بها مزمار داود مثلاً، حتى قيل على المبالغة في الصوت يعذب ويرق: مزامير داود!
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/152]
أما هذه «المزامير» فهي ذلك الجزء من «توراة الأنبياء والكتبة» المنسوب إجمالاً إلى داود عليه السلام، والمعنون في ترجمات العهد القديم باسم «سفر المزامير»، وهو يضم مائة وخمسين مزمورا، ينسب بعضها فقط إلى داود، وينسب بعضها لابنه سليمان، كما ينسب بعضها لآساف، كبير المغنين في بلاط داود، وبعضها الآخر مسكوت عنه غير منسوب.
ولكن القائلين تلك المزامير من غير داود يأتمون بطريقته، وينسجون على منواله، فلا تدري على التحقيق أي المزامير قالها داود، وأيها الذي لم يقله من بين كل المزامير المنسوبة إليه بالاسم في ذلك السفر من أسفار العهد القديم.
لهذا حرصت ترجمات أهل الكتاب لأسفار العهد القديم على تسمية هذا السفر «سفر المزامير» على التعميم، لا يقولون «مزامير داود» لأنها ليست كلها لداود، وإنما هي «مزامير داود وسليمان وآساف وآخرين». ولئن جازت القداسة لمزامير قالها داود وسليمان عليهما السلام، فلا تجوز القداسة بوجه لمزامير ترنم بها آساف كبيرُ المغنين في بلاط داود، أو قالها من هو دون آساف في هذا البلاط، فلا قداسة إلا لنبي يوحي إليه. وهذا يدلك على أن المجموع بين دفتي هذا العهد القديم ليس كله من وحي الله عز وجل على رسله وأنبيائه، بل منه هذا وذاك. وهو يدلك أيضًا على أن معنى الوحي عند أهل الكتاب ليس هو نفس معناه عند أهل القرآن. ولكن هذا مبحث آخر يخرج بنا عن مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، فلا نستطرد بك إليه.
الذي يعنينا في هذا السياق هو أن مجموع تلك المزامير التي صحت نسبتها إلى داود عليه السلام في ذلك السفر، أعني أيها في علم الله عز وجل صدق، هو فحسب المعنى في القرآن باسم «الزبور»، في مثل قوله عز وجل: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا} [النساء: 163].
على أن العهد القديم في نصه العبراني لا يسمى هذا السفر «سفر المزامير» كما تسميه ترجمات العهد القديم، وإنما اسمه في النص العبراني «سفر تهليم» أي سفر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/153]
التسابيح، من «هلل» العبري المأخوذ من «هلل» العربي لا بمعنى صاح وصوت، ولكن بمعنى «سبح»، ومنه لفظة «هللويا» الشهيرة في أناشيد أهل الكتاب، وأصلها العبري «هللو – يه»، أي هللوا له، أي سبحوه! يعني سبحوا الله، على التمجيد. فالترجمة العربية الدقيقة لاسم هذا السفر بالعبرانية هي «سفر التسابيح» أو «سفر التهاليل»، لا «سفر المزامير».
ولكن النص العبراني أيضًا لهذا السفر يضع «مزمور» العبرية عنوانًا لكل فصل من فصوله المسماة «مزامير»، تسبق رقم هذا «المزمور» أو ترتيبه بين «المزامير»، فيقول «مزمور ريشون»، أي المزمور الأول، «مزمور شيني»، أي المزمور الثاني، إلى آخر المزامير المائة والخمسين.
ومن هذا اللفظ - «مزمور» العبري – ترخصت الترجمة السبعينية اليونانية لأسفار العهد القديم فأسمته بمجموع ما فيه، أي بصيغة الجمع من «مزمور» فقالت «المزامير». وقد ترجمت اليونانية الكنسية لفظ «مزمور» العبرية بلفظة Psalmos اليونانية، من الفعل اليوناني Psallein، يعني «نتش»، إشارة إلى فعل العازف بأصابعه على ذوات الأوتار، وأخصها «الهارب» Harp، فمعنى Psalmos اليونانية الكنسية في ترجمة «مزمور» العبرية هو المعزوفة على ذوات الأوتار، لا زمر ثم ولا طبل، ولا غاب ولا قصب ولا ناي، كما قد يظن الذين يخلطون بين العبري والعربي. أما الذين ترجموا «مزمور» العبرية إلى Psalmos اليونانية، أي «المعزوفة» أو «الأنشودة» فقد تأثروا بما في بعض المزامير من إشارة في أعلاها إلى آلة العزف المصاحبة لها، وأيضًا بلفظة «سلاه» العبرية التي ترد في بعض مقاطعها، وتفيد في رأي البعض علامة موسيقية يرفع عندها المنشد صوته بمصاحبة الآلة، وفي رأي البعض الآخر علامة موسيقية على الوقف، فأخذوا «مزمور» العبرية بمعنى الأغنية والأنشودة، وهو بالفعل من بين معانيها، بل لا تزال العبرية المعاصرة تستخدم لفظة «زمار» بمعنى «المغني». أما المترجم العربي للعهد القديم فقد تأثر – كما تأثر مفسرو القرآن الأوائل جميعًا – بالتقارب اللفظي الشديد بين «مزمور» العبرية وبين «مزمور» العربية لا فرق بينهما إلا تثقيل الضم بالواو في اللفظة العربية وإبدال الكسرة العبرية فتحة في الميم، فأخذوها بمعنى النفخ في المزمار، ربما لأن المزمور في العربية هو «المزمار» نفسه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/154]
لا فعل «الزمر»، وقد شهر داود بإجادة النفخ في الناي. ولو درسوا العبرية لعلموا أن المزمار فيها هو «حليل»، أو «نحيلا» أي المثقوبة الجوفاء، من «خلل» العربي بالخاء.
وليس هذا هو المعنى الذي يعنيه القرآن بقوله عز وجل: «وآتينا داود زبورا»، كما سترى.
يجيء «زمر» العربي بمعان منها بالطبع زمر بالمزمار، ومنها أيضًا معنى القلة، يقال عطية زمرة، أي قليلة، ورجل زمر المروءة، يعني قليلها، والزمير يعني القصير، ومنها أيضًا معنى الحسن، والزمور يعني الغلام الجميل، وزمره أيضًا بمعنى مله، يقال زمر الوعاء ونحوه يعني ملأه، وزمر الكلب وغيره يعني وضع في عنقه الساجور أي الغل وهي القلادة التي توضع في عنق الكلب وتنتهي بالسلسلة يمسك بها أو يثبت. ومنها أخيرًا «الزمرة» أي الجماعة أو الفوج من الناس.
أما «زمر» العبري فيجيء بمعان ليس بينها قط الزمار بالمزمار: المعنى الأول والأساسي هو قطع وقسم وشذب، ومنه «زمورا» العبرية بمعنى الغصن والفنن. وهو هنا يشترك مع «زمر» العربي حين تقول بالعربية «زمور» بمعنى الغلام الجميل، تريد «قسيم الوجه». والمعنى الثاني، وهو مشتق من الأول، يستخدم فيه «زمر» العبري مضعفًا، والمراد منه تقطيع القصيد، يعني نظمه، فهو الكلام المقطع المنظوم. والمعنى الثالث، وهو المترتب على الثاني، معنى الإنشاد أو الغناء، ومنه «زمرا» العبرية يعني الأنشودة أو الأغنية (ولا يقال للأغنية «زمرا» إلا إذا كانت قصيدة مغناة)، والمعنى الرابع، وهو المترتب على المعنى الثالث، معنى «اللحن» الموسيقى، أو العزف على آلة موسيقية ما. من هنا تجد أن «زمر» العربي لا يشترك مع «زمر» العبري إلا في معنى «زمور» أي الغلام القسيم الوجه المتناسق الأعضاء. وربما أيضًا في «زمرة» العربية إن اعتبرت الزمرة «قطعة» من الناس، وهو الراجح.
ليست «مزمور» العبرية إذن من الزمر بالمزمار، وإنما هي بمعان ثلاثة هي: الأنشودة – المعزوفة – الكلام المقطع المنظوم أي «المقطوعة».
وقد نظر القرآن إلى هذا المعنى الأخير: المقطوعة والمقطعات، فقال «الزبور»، خلافًا لقول علماء اللغة العربية وكل مفسري القرآن الذين قالوا «الزبور» يعني
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/155]
المكتوب، فهو فعول بمعنى مفعول من زبره يزبره زبرا، يعني كتبه، أو جود كتابته (انظر تفسير القرطبي للآية 163 من سورة النساء)، فهو الكتاب المزبور، بمعنى الكتاب المكتوب. وقد حملهم على اختيار هذا المعنى وحده من بين مختلف معاني مادة «زبر» العربية ورود هذه المادة في مثل قوله عز وجل: {وإنه لفي زبر الأولين} [الشعراء: 196]، يعني القرآن في كتب السابقين، وقوله عز وجل: {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52] أي قد سجلنا عليهم أعمالهم في الكتب. وكان هذا كافيًا لصدهم عن التماس المعنى الآخر في «زبر» العربي، الذي في قوله عز وجل: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53]، لا تستطيع أن تقول: فتقطعوا أمرهم بينهم كتبا، أو الذي في قوله عز وجل على لسان ذي القرنين في سورة الكهف: {آتوني زبر الحديد} [الكهف: 96] أي آتوني «قطع الحديد»، بلا خلاف بين المفسرين.
أما مادة «زبر» في معجمك العربي فتجيء بمعان: زبره بالحجارة يعني رماه بها، وزبر البناء يعني وضع بعضه فوق بعض، أي رصه رصًا، وزبره عن الأمر يعني منعه ونهاه، والأصل فيها قطعه عنه، فزبر بمعنى قطع، وزبر الكتاب يعني كتبه، والأصل فيه أتقن كتابته مبينًا مفصلاً «مقطعا»، وهذا هو المعنى الرئيسي في مادة «زبر» الذي يفسر مختلف استخداماتها، ومنها الزبرة بمعنى القطعة أو الكتلة، والزبرة أيضًا بمعنى السندان من هذا: الكتلة من الحديد يطرق الحداد عليها حدائده.
والذي نقول به نحن إن الأصوب في فهم «مزمور» العبرية بكسر الميم، أن تفهم عبريًا على أصل معناها: المقطعة، يعني القصيد المنظوم، فهي المقطعات لا المزامير، ولا تفهم بمعنى الأغنية أو المعزوفة الوترية كما فهمتها ترجمات العهد القديم بدءًا بالترجمة السبعينية اليونانية، فالله عز وجل إنما ينزل على أنبيائه كلامًا، ولا ينزل عليهم موسيقى وألحانًا، إلا أن تقول كما يقول أهل الكتاب أن هذه المزامير – لفظها وألحانها – من صنع من أنشدوها ولحنوها، داود أو غيره، ربما بإلهام من الله عز وجل أو بتوفيق منه، وعندهم أن الإلهام من معاني الوحي، على خلاف أهل القرآن في معنى وحي الله على أنبيائه، لا يكون إلا بملك. بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن «زمر» العبري معدول عن زبر العربي، أبدلت باؤه في العبرية ميما.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/156]
بل قد قال هذا – معكوسًا – أدعياءُ الاستشراق المنكرون الوحي على القرآن، الذين زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سمع «مزمور» العبرية فتحورت عليه إلى الباء، ظنها من «الزبر» فقال «زبرو». وهذا تافه لا يعتد به، لوجود كلتا المادتين في العربية «زمر»، «زبر» خلافًا للعبرية التي ليس فيها إلا «زمر» وحده بالميم، بل قد فهم القرآن المراد من «زمر» العبري على أصله «تقطيع القصيد» فجاء به على «زبور» ولو فهم منه المعنى الغنائي لقال «زمور» بالميم، وسبحان العليم الحكيم.
أما «الزبور» العربية القرآنية في وصف وحي الله عز وجل على نبيه داود عليه السلام، فليس بجيد فهمها بمعنى مطلق الكتاب، وإلا لما تميز وحي الله على داود باسم علم يختص به من دون كتب الله على رسله، كما اختص باسمه العلم كل من التوراة والإنجيل والقرآن، وإنما أريد له معنى مضاف يميزه عن غيره من الكتاب المكتوب، فقيل له «زبور» بمعنى «مزبور»، منظورًا في ذلك إلى مادته وصيغته: إنه كتاب «تسابيح» مقطعات.
كان «الزبور» كما رأيت تسابيح وتهاليل، ليس فيه شيء من التعاليم أو التكاليف كالذي تجد في توراة موسى ,إنجيل عيسى وقرآن خاتم النبيين، دليلك في هذا ما بَقى من وحي الله على داود في تلك المزامير التي في العهد القديم، ودليلك في هذا، بل قبل هذا، من القرآن نفسه، الذي لا يذكر الزبور بالاسم كلما جمع بين القرآن وبين توراة موسى وإنجيل عيسى، كما تجد في قوله عز وجل: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن} [التوبة: 111]، بل لا يجمع بين التوراة والإنجيل وبين الزبور في سلك واحد حين ذكر ما علمه الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [آل عمران: 48]، وما ذاك إلا لأن التسابيح ليست علما يعلم، فهي ليست من ذات جنس «كتب» الله على أنبيائه، وإن كانت وحيًا منه تبارك وتعالى على نبيه داود، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه. بل قد كانت خصيصة لداود
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/157]
عليه السلام، فضلا آثره به عز وجل من دون أنبيائه، لقوله عز وجل: {ولقد فضلنا بعض الأنبياء على بعض وآيتنا داود زبورا} [الإسراء: 55].
وسبحان العليم الخبير.
«الزبور» إذن عربية، ليس فيها شبهة عجمة، ومن ثم فهي لا تدخل في مقاصد هذا الكتاب، لأنها ليست من العلم الأعجمي الذي يفسره القرآن للعرب وفق منهجنا في هذا الكتاب الذي نكتب، ولكننا تصدينا لها لجلاء شبهات فهمها عربيًا بغير معناها المقصود في القرآن، ودفعًا لمقولة أدعياء الاستشراق إنها من الأعجمي الذي عربه القرآن فأبدل من الميم التي في «مزمور» العبرية باء. على أن القرآن قد فسر المراد من «زبور داود» بالتصوير والمرادف بالقريب: لا تجد أبلغ من قوله عز وجل: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب} [ص: 18 – 19] وقوله عز وجل: {يا جبال أوبي معه والطير} [سبأ: 10]، والتأويب يعني ترجيع الصوت. كان داود عليه السلام كثير التسبيح، يتغنى به، فأعطاه الله ما يسبح به كلامًا منه عز وجل ترجعه الطير والجبال، وسبحان العزيز الوهاب).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 152-158]


رد مع اقتباس
  #61  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:31 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(44) سليمان:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (44) سليمان
مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن «فعلان» العربية على الصفة، مثل ظمآن وأمثالها، تجيء في العبرية على «فعلون»، مثل يثرون وشمعون وجدعون وأمثالها. ومر بك أيضًا أن النون في «فعلون» العبرية يجوز حذفها استخفافًا كما قيل في «يثرون» «يثرو».
وعلى «فعلون» جاء «شلومو» (بغير نون) اسم نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام في النص العبراني لتوراة الأنبياء والكتبة، أي في أسفار العهد القديم: «شلومو» أصلها «شلومون» عبريًا، حذفت نونها استخفافًا، كما حذفت النون استخفافًا من «يثرون» حمى موسى فقيل «يثرو». دليلك في هذا بقاء نون «شلومو» في السريانية «شلمون»، وبقاؤها أيضًا في النص اليوناني للأناجيل Solomon «سولومون»، على إبدال السين من الشين كدأب اليونان، وعن اليونانية أخذت اللغات الأوروبية جميعًا هذا الرسم اليوناني.
رغم هذا، رغم استقرار علماء العبرية ونُحاتها على أن «فعلو» العبرية أصلها «فعلون» حذفت نونها استخفافًا، إلا أن أدعياء الاستشراق المنكرين الوحي على القرآن عجبوا من مجيء القرآن بهذا الاسم «شلومو» مزيدًا بالنون في «سليمان»، رغم اعترافهم بأن سلمان وسليمان كليهما اسمان عرفهما العرب قبل نزول القرآن، بل وقعوا في حيص بيص من هذه النون التي زادها القرآن في اسم «سليمانج: قالوا ربما انتقلت إلى العرب من السريان الذي قالوها «شلمون» كما مر بك، أو العكس، أي أن العرب هم الذين أخذوا «شلومو» العبرية من اليهود فتحرفت عليهم إلى «سليمان»،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/159]
وانتقلت بصورتها هذه إلى السريان فقالوا «شلمن». وفات هؤلاء الأدعياء أن «فعلان»، ومصغره «فعيلان»، لا يتزنان على موازين العربية إلا بالنون في النعت على المذكر، لا تحذف نونه إلا في المؤنث منه، «فعيلى»، كما تجد في «سلمى»، «سلمان»، وكما تجد في مصغرهما «سليمى»، سليمان. وفات هؤلاء الأدعياء أيضًا قبل هذا أن «شلومو» العبرية أصلها بالنون «شلومون»، فلا معنى لكل ما قالوه، ولكنهم في تحريهم إثبات نقل القرآن عن أهل الكتاب يذهبون بعيدًا، فيحاولون إثبات أن العرب وجدوا بعد أن وجد أهل الكتاب، وأن اللغة العربية نشأت في حضن العبرية والآرامية، فهي ناقلة عن الواحدة أو الأخرى، حتى في نحت الأسماء الأعلام، وكأن العرب في شبه جزيرتهم كانوا قومًا بكمًا، لا ينسبون ببنت شفة حتى يستمعوا على اليهود أو السريان، وكأن العربية ليست هي أم الساميات جميعًا حيثما كان للساميين في هذه الأرض مكان، لا يقول اليوم بغير هذا إلا جاهل كما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. أما دعوى النقل والتلقين التي تصايح بها المنكرون الوحي على القرآن، فقد مات بها أصحابها كمدا، لأن «التلميذ» الناقل يعلم «أستاذه» ما لم يكن يعلم، ويصوب له ما أخطأ فيه، ويصحح له ما تحرف عليه، ويذكره بما أنسيه، ويرد عليه مقالته، بل ويعنف عليه، حين تزل بأستاذه القدم، أو يشتط به الهوى فيفترى على الله عز وجل، أو يتطاول على مقام رسل الله وأنبيائه، غالى بهم أو أوضع فيهم. ولا يصح هذا من «تلميذ» ناقل، وإنما يصح فحسب من المصدق المهيمن.
أما «شلومو» العبرية هذه فهي من الجذر العبري «شلم» (مكافئ «سلم» العربي بكل معانيه). والمصدر منه «شلوم» يعني عربيًا السلم والسلم والسلام، كلها بمعنى السلام. وتجيء السلم بفتح السين على الصفة أيضًا في العربية، فيقال «رجل سلم لرجل» يعني هو له ماسلم، فالسلم على الصفة عربيًا يعني «المسالم». والسلم العربية هذه على الصفة هي نفسها «شلوم» على مقتضى النحو العبري – حين يضاف إليها مقطع الزيادة بالواو والنون الذي في «شلومون» - تخطف فتحتها البادئة على الشين فتتحول إلى صوت بين الفتح والكسر (حركة «شوا» العبرية) لا يكاد يحس، وربما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/160]
هي إلى السكون أقرب، فتقول بدلاً من شلومون: شلومون أو شلومون، ثم تحذف النون، فتقول «شلومو» اسم نبي الله سليمان عليه السلام، من السلم بمعنى المسالم.
ورغم أن «سليمان» عربية قح، لا تحتاج من القرآن أن يفسرها للعرب على منهجنا في هذا الكتاب، فإن القرآن في قصة سليمان مع ملكة سبأ يجيء عقب «سليمان» بالمرادف القريب الذي يجلي لك المعنى المخصوص الذي يفهمه القرآن من هذا الاسم العلم من بين مختلف معاني الجذر «سلم»، فيقول: {قالت يا أيها الملأ إني ألقى إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} [النمل: 29 – 31]، يعني جيئوني سلما مسالمين.
أما لماذا جاءت «سليمان» العربية في القرآن ممنوعة من الصرف لا تقبل التنوين، فهذا في العربية هو شأن كل مذكر مزيد بالنون يتأنث بفقد النون: فعلى وفعلان، وأيضًا مصغرهما فعيلى وفعيلان، كما تقول سلمى وسلمان، وسليمى وسليمان.
وقد يظن الجاهل بفقه اللغة العبرية، كما ظن أدعياء الاستشراق، أن القرآن أخطأ في تصغير «سلمان» التي جاء بها على «سليمان»، لأن «شلومو» العبرية تقابل «سلمان» العربية ولا تقابل «سليمان» على التصغير.
ولكن علماء العبرية يقولون إن الزيادة في «فعلون» بالواو والنون، كما تجيء على الصفة واسم الفعل، تجيء أيضًا لإفادة التصغير، ومثاله «إيشون» العبرية المزيدة بالواو والنون من «إيش» العبرية يعني «إنسان»، فيقولون أن «إيشون» هي مصغر «إيش» فهي «أنيسان» على التصغير من «إنسان»، ويقال من «إيشون» العبرية هذه «إيشون بيت عين» يريدون ذلك «الأنيسان» الذي تراه في عين محدثك حين تحدق فيه، فهو «إنسان العين»، أي بؤبؤها. وليس المراد من بنية التصغير في كل الأحوال – على ما يعرف اللغويون جميعًا – هو صغر الحجم أو صغر القدر – فمن العرب من سموا «كليبا» وهم ملوك – وتقول لابنك وقد شبت وشاب معك: يا بني! كناية عن الحب والودادة والإعزاز.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/161]
وقد علم القرآن مراد داود من تسمية ابنه يوم ولد فأسماه «شلومو» («شلومون»)، على التصغير من «شلوم» العبري الصفة لا المصدر، لا يصح في تفسير «شلومو»، عبريًا، إلا هذا: لو كانت «شلومو» (شلومون) محض الصفة لا مصغرها لقيل «شلمون» على زنة «فعلون»، كما قال العرب في الصفة «سلمان» على «فعلان» من سلم، ولكن نبي الله سليمان عليه السلام اسمه «شلومو» (شلومون) لا «شلمون» فهو مصغر «شلوم» يعني السلم أو سلمان على الصفة، إن صغرت «شلوم» قلت «شلومون»، وإن صغرت «سلمان» قلت سليمان.
جاء القرآن باسم نبي الله «شلومو» (شلومون) على «سليمان» فأصاب المعنى وأصاب البنية، أي بناء الاسم على التصغير. وسبحان العليم الخبير.
وقد خاض كتبة العهد القديم في سفر صموئيل الثاني (راجع صموئيل الثاني 11 – 12) بفحش لا مثيل له في قصة داود عليه السلام مع «بتشبع» امرأة ضابطة «أوريا الحثى»، فقالوا إن داود اطلع عليها من سطح بيته وهي تستحم في بيتها، وكانت رائعة الجمال، فسأل عمن تكون، فقيل له هي بتشبع بنت إليعام امرأة أوريا، فلم يتورع، زوجها في صفوف القتال، أن يرسل إليها من يأخذها إلى بيت «داود» فدخلت إليه فاضجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها (صموئيل الثاني 11/ 4). زنا بها داود إذن في غيبة زوجها على مرأى ومسمع من حاشيته، لم يتأثم ولم يتأثموا من جرم عقوبته في توراة موسى الرجم للزاني والزانية، وغن حرص وحرصوا على أن تكون «طاهرًا غير طامث» ويعود الضابط المثلوم العرض ليفاجأ بالفضيحة فيمتنع عن الدخول على امرأته وينام على باب قصر داود، ويخبر داود فيستفسر منه عن السبب ويقول له لماذا لم تنزل إلى بيتك وقد جئت من السفر؟ ويرد صاحب العرض الجريح وكأنه يعظ داود: «إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يؤاب وعبيد سيدي (يعني يؤاب وجنوده ويؤاب هو القائد الأعلى للجيش) نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي لآكل واشرب وأضجع مع امرأتي؟ وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر» (صموئيل الثاني 11/ 11). ولا تختلج عضلة في وجه داود الملك الذي يكتب الكاتب سيرته، ولكنه وقد شاعت الفضيحة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/162]
يعتز بإثمه فيولم لهذا الضابط يأكل معه ويشرب ويسكر، ثم يبلغ من عتوه أن يحمل أوريا من غده رسالة مطوية فيها الأمر ليؤاب قائد الجيش تقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت (صموئيل الثاني 11/ 15) ويقتل أوريا بالفعل في المعركة صريع جمال امرأته وغدر داود. أما المرأة فندبت بعلها، وأما داود فلم يتلبث أن مضت «المناحة» حتى أرسل إليها فضمها إلى بيته وصارت له امرأة. وتضع المرأة ابنا لداود من زناه بها. ويرسل الرب ناثان النبي إلى داود يضرب له مثل الرجلين، صاحب النعجة الوحيدة التي اقتناها ورباها وكبرت معه ومع بنيه جميعًا، تأكل من لقمته وتشرب من كأسه وتنام في حضنه وكانت له كابنة، يريد بتشبع امرأة أوريا، والرجل الآخر ذي الوفرة من الغنم والبقر الذي نزل عليه ضيف فاستكثر أن يولم له من غنمه بل بلغ من عتوه أن يأخذ نعجة الرجل الفقير يولم بها لضيفه ولم يأبه، فعل داود مع أوريا. ويحمي غضب داود على هذا الظالم ويقضي عليه بقوله: يقتل هذا الظالم وترد النعجة إلى صاحبها أربعة أضعاف! فيقول له ناثان النبي: بل أنت هذا الرجل! قتلت الرجل وأخذت امرأته لك امرأة، ولم تذكر آلاء الله عليك. فعلت في السر والله يفعل بك في العلن: يأخذ الرب نساءك أمام عينيك، ويعطيهن لمن يضجع معهن في عين هذه الشمس. يفعل بهن هذا قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس. قال داود لناثان قد أخطأت إلى الرب. فأجابه ناثان قائلاً الرب أيضًا قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت (أي لا يعاقبك بالقتل جزاء فعلتك) ولكن الابن المولود لك منها يموت. (ربما أراد الكاتب أن يمهد لما حدث من بعد لداود فيما يحكيه هذا السفر من أحدثا حرب لداود مع الفلسطينيين كانت لهم فيها سبابا من نساء داود وأهل بيته وكأنها عقوبة لداود على فعلته مع أوريا). ويمرض المولود ويموت. ولكن داود يُعزي بتشبع عن ابنهما ويدخل إليها ويضجع معها فتحمل وتلد له ابنا يدعوه سليمان: «فولدت له ابنا فدعا اسمه سليمان (شلومو) والرب أحبه. وأرسل بيد ناثان النبي ودعا اسمه يديديا من أجل الرب» (صموئيل الثاني 12/ 23 - 25) أي لأن الرب أحب سليمان كناه أبوه «يديديا» يعني «حب الله» كما مر بك. وكأنما قد كان مولد سليمان لداود علامة على السلم والسلام مع الله عز وجل الذي غفر له ما فعل.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/163]
هذا هو معنى تسمية سليمان «شلومو» ومناسبتها، فلا غرو أن يجيء بها داود على التصغير من «شلوم»، توددا وتحببا.
وقد قصصت عليك فأطلت، كي تعلم إلى أي مدى يلغ الكتبة في أعراض أنبياء الله ورسله، لا يتأثمون من شيء مهما عظم: نبي يغتصب امرأة صاحب جنده في غيبته، يجيء بها إلى عصبة من رجاله ليزني بها علنًا في بيته، ويعود زوجها فيطلب إليه داود الدخول إليها كي يختلف الماءان فلا يعرف من كان الأب، ويمتنع الزوج الذي اكتشف الفضيحة، ولكنه لا يجرؤ أن ينبس ببنت شفة، ويولم له داود «العشاء الأخير» قبل أن يبعث به من غده إلى ساحة الموت يحمل أمر إعدامه بيده إلى قائد الجيش «يؤاب» فينفذه غير مبال، ثم يبلغ داود بأنه قد تم! ولا يزيد داود على أن يقول: «لا يسوء في عينيك هذا المر (يعزيه في ثلم شرف الجندية!) لأن السيف يأكل هذا وذاك!» (صموئيل الثاني 12/ 25). ألا ما أقذع هذا وما أبشعه.
قارن هذا بما قاله القرآن العظيم في هذه النازلة التي ابتلى بها داود (الآيات من 21 إلى 25 من سورة ص): لم يزن داود بالمرأة ولم يقتل زوجها، ولكن استزله هواه ففتن بها، ولم يستعصم، فاستدعى إليه زوجها وعزم عليه في طلاقها كي يتزوجها هو: {قال أكفلنيها وعزني في الخطاب} [ص: 23] أي شدد علي بسلطانه، ويذعن الرجل ويضعف تحت وطأة هذا السلطان، ويعود إلى موقعه على الجبهة وقد أجبر على فراق زوجته بسلطان الهيبة وسلطان الملك، ربما هانت عليه نفسه فاسترخص الموت، ولم يعنه عليه يؤاب قائد الجيش بأمر من داود، فلا يصح بهذا ملك، ولا يصبر على هذا جيش. ولكنك لا تعتذر لداود عما فعل، فمجرد رغته في تطليق امرأة من زوجها ليتزوجها هو ضمن حريم يكاد يبلغ المائة، ظلم صراح، وبغي لا يصح من أفراد الناس، فما بالك بملك، ناهيك بنبي! قد قالها داود بنفسه: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}[ص: 24]، وينتبه داود إلى أنه بفعلته مع أوريا لم يعد من القليل الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلا يبغون على خلطائهم (ولعل أوريا كان ضابطا مقربًا إليه)، فهالته المصيبة التي لا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/164]
تعدلها عند المؤمن مصيبة، بل قد أيقن أنه فُتن: {وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} [ص: 24]. وقد غفر الله لداود هذه الزلة لأن داود كانت له عند الله قربى بسالف العمل، موعود بحسن المآل: {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} [ص: 25]. ولكن الله عز وجل يعظ بها داود في نفسه وعظا بليغًا، لو سمعه ملوك الأرض لتفطرت قلوبهم هلعًا من يوم الحساب: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}[ص: 26]، أي ليس لمن ملكه الله على الناس أن يتبع هواه، وخير لمن يتبع هواه أن ينأى بنفسه عن المهالك فينأى بنفسه عن المُلْك ويعتزل الناس، وإلا فمصيره إلى النار وبئس القرار.
ذكر القرآن حقائق ما كان: الفتنة والتوبة، والإنابة والاستغفار والمغفرة، وثنى بعد الموعظة بالوعيد. أما ذلك الكاتب في العهد القديم فقد لغط قلمه بما لغت به ألسنة الوالغين في أعراض الناس بالباطل، يبغون لهو الحديث، فما افلت منهم نبي ولا صديق. ولعلك لاحظت أيضًا أن الكاتب في العهد القديم لم يكن لديه علم بتلك الملائكة الذين تسوروا على داود في محرابه يعظونه، ويضربون له المثل ويذكرونه، حتى يسترجع داود وتتفلت منه العبرات، ويغفر الله له فيبشرونه بالتوبة والمغفرة مشروطتين بالاستقامة على عهد الله عز وجل، لا يتبع من بعدى الهوى المضل. لم يعلم الكاتب بهذا، فماذا يفعل؟ يلجأ لنبي اسمه ناثان يرأب به الثغرة، فينقل ناثان وحي الله إلى داود، يضرب نفس المثل الذي في القرآن أو يكاد، ولا يزد داود على أن يقول: قد أخطأت إلى الرب! ويقول له ناثان: والرب أيضًا قد نقل عنك خطيئتك! (لا يقتله بها وإنما يقتل مولوده من الزنا). ويمثل ناثان هذا أمامك معلما لداود ونبيا فوق نبي، وما هكذا تكون الأنبياء.
قارن بين الروايتين واحكم بنفسك: أي الروايتين كلام من الله نزل؟ القرآن الذي ينطق بالحق ويميط الأذى عن أنبياء الله ورسله، أم كلام ذلك الكاتب الذي يضع نبي الله داود في صفوف الزناة والقتلة؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/165]
على أنك «تحمد» للكاتب شيئًا واحدًا، وهو تعففه عن الغمر في مولد سليمان عليه السلام، فلم يجعله ابنا لداود من الزنا، وإنما ابتدع «المولود الأول» لداود من بتشبع، ثم أماته، ليجيء سليمان من بعد «ابن رشدة»، أي بعد موت أوريا وزواج داود في الحل من أرملة أوريا. ولكنك تجزم معي بأن هذا المولود الأول المُفترى به على داود وبتشبع لم يكن له قط وجود، بل هو من بنات أفكار الكاتب، يحكم به نسيج قصته).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 159-166]


رد مع اقتباس
  #62  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:33 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(45) إلياس:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (45) إلياس
«إلياس» في القرآن هو اسم نبي الله «إيليا» المذكور في سفرى الملوك الأول والثاني بالعهد القديم، نبيًا من أنبياء بني إسرائيل على عهد الملك آخاب الذي ملك على مملكة إسرائيل في السامرة بعد إحدى وأربعين سنة من موت رحبعام بن سليمان. ويقول لك كتبة هذين السفرين ان «آخاب عبد البعل وسجد له. واقام مذبحا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة. وعمل آخاب سواري وزاد آخاب في العمل لإغاظة الرب إله إسرائيل أكثر من جميع ملوك إسرائيل الذين كانوا قبله (الملوك الأول 16/ 31 – 33). وإلى هذا الملك وقومه الذين انحرفوا عن الواحد الأحد واتخذوا البعل والصنم من دون الله عز وجل، أرسل إلياس عليه السلام: {وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين} [الصافات: 123 – 125]، والذين «دعوا» بعلاً (اسم صنمهم الأكبر) هم ذلك الملك آخاب وقومه من بني إسرائيل، فتقطع من القرآن بأن إلياس عليه السلام هو نبي الله «إيليا» المذكور بهذا اللفظ في العهد القديم.
وقد عرب القرآن «إيليا» العبرية على «إلياس» ناظرًا إلى لفظها اليوناني الشائع عصر نزوله Elias أي بصورة المرفوع في تلك اللغة وعلامتها في المذكر إضافة السين، على ما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب.
أما هذا الاسم العبراني إيليا، المختصر من إلياهو، فأصله إيل + في + ياهو، أي «إيلي يهوا»، والمعنى هو الله إلهي أي «الله ربي».
وقد ورد اسم «إلياس» عليه السلام في القرآن ثلاث مرات فحسب: {وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين} [الأنعام: 85]، {وإن إلياس لمن المرسلين} [الصافات: 123]، وفي هاتين المرتين ورد الاسم «إلياس» ممنوعًا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/167]
من الصرف للعجمة غير منون، أما في المرة الثالثة: {وتركنا عليه في الآخرين سلام على إلياسين} [الصافات: 129 – 130] فقد ورد كما ترى لا مصروفًا مجرورًا بالكسر فحسب منونًا، بل ومع إشباع الكسرة قبل نون التنوين حتى تؤول الكسرة في الرسم إلى الياء: إلياس + في + ن. والعلة في هذا كما قال المفسرون (راجع تفسير القرطبي لهاتين الآيتين من سورة الصافات) هي مراعاةُ رؤوس الآيات قبله كما رأيت من قبل في الإبدال من سيناء «سينين».
والذي يستوقف النظر هو رسم المصحف لهذا الاسم في صورته الثالثة المزيدة بالياء والنون، فقد وقعت في الرسم مقطعة: إل ياسين، لا مجموعة: إلياسين، والرأي عندي أن هذا التقطيع مراد من الكاتب بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى أن الألف واللام البادئتين في هذا الاسم ليستا هما أداة التعريف العربية، وإنما هما اسم الله عز وجل «إلْ» العبرانية – والتي نطق بها العربُ أيضًا على ما مر بك – كي لا يتوهم أن اسم «الياس» من «اليأس» سهلت همزته، أو نحو ذلك. وهذا يدلك على علم النبوة بفقه تركيب هذا الاسم العبراني الذي لم يفت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. أما «ياسين» المقطع الثاني في هذا الاسم الذي رُسم مقطعًا في «الياسين»، فالرأي عندي أيضًا أنه الياءُ والسين تُنطقان كما تنطق الحروف المقطعة في بوادئ السور، ومنها يس في السورة المسماة بهذا الاسم وتنطق يا + سين.
هذا عندي هو الوجه الأمثل في تفسير مجيء إلياس على الياسين في الآية 130 من سورة الصافات: قد روُعيت رؤوس الآيات بلا جدال، ولكن ليس ثم إضافة ولا تنوين.
وقد فسر القرآن على منهجنا في هذا الكتاب الاسم «الياس» بالمرادف، كما تستظهر من قوله عز وجل: {وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/168]
الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين} [الصافات: 123 – 130].
ألا تجد في هذا الجناس البديع بين «إلياس» (الله ربي) وبين «الله ربكم» ما يفسر الاسم إلياس (الله ربي أو الله إلهي) أبين تفسير؟ نعم. وسبحان العليم الخبير).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 167-169]


رد مع اقتباس
  #63  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:34 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(46) اليسع:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (46) اليسع
«اليسع» عليه السلام هو نبي الله المرسوم «إليشع» في أسفار العهد القديم إلى جوار إيليا (إلياس)، تلميذ إيليا وخلفه في النبوة.
وأصل «إليشع» العبرية هو إل + يشع، والمعنى: الله يسع: وهي نفسها إل + يسع، التي في القرآن «اليسع». فهو اسم أعجمي مفسر بالتعريب وحده، بل هو من أبين تفاسير القرآن علمه الأعجمي بالتعريب، ولم يفطن إليه أحد.
يجيء «الوسع»، «السعة»، في العربية بمعان تدور كلها على معنى واحد هو «الرحابة» ضد «الضيق»، ومنه الطريق الواسع أي العريض، والرزق الواسع أي الذي لا يضيق عن النفقة، ورجل موسع عليه، يعني غير مضيق، وذو السعة يعني ذو الوفرة والغنى، ولا يسعني هذا الأمر، يعني يضيق عنه جهدي وقدرتي، فالسعة أيضًا يعني الطاقة والقوة. إلى آخر ما تعرف من معاني هذه المادة ومجازاتها.
وقد بقى في العبرية من هذه المعاني معنيان اثنان: الغنى، والفرج بمعنى النصرة، أي التوسعة للمضيق عليه، والتفريج عن المكروب.
وللمادة العبرية من «وسع» العربي صورتان «شاع/ يشوع/ شوع»، وهو مقلوب «وسع» العربي، والصورة الثانية هي «يشع» على إبدال الواو من «وسع» العربي ياء كدأب العبرية والآرامية في كل الجذور العربية ذوات الواو.
ولكن عبرية التوراة لا تستخدم الجذر شاع/ يشوع في صيغة فعلية، وإنما تقول منه على الصفة «شوع» يعني الغني ذو الوفرة أو السخي الكريم، وتقول منه على الاسمية «شوع» (بتثقيل الضم في الواو) يعني الغنى والثروة (أي السعة)، وتقول منه على الاسمية أيضًا «تشوعا» (أي التوسعة) بمعنى الفرج والنجاء.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/170]
أما الجذر العبري الآخر «يشع» فلا تستخدمه العبرية في صيغة الثلاثي المجرد، وإنما تستخدمه في صيغة «هفعيل» المعدى بالهاء (وهي صيغة «أفعل» العربي المعدى بالهمزة كما مر بك) بمعنى أوسع له وفرج عنه. وأيضًا في صيغة «نفعيل» (وهي صيغة المطاوعة في «انفعل» العربي) على المفعولية من «يشع»، والمعنى أوسع له وفرج عنه على البناء للمجهول. وهذا يدلك على أن «يشع» العبري غير المستعمل كان في أصله فعلاً متعديًا بذاته، وإلا لما جاز منه «انفعل»، تمامًا كوسع العربي المتعدى بذاته، كما في قول الحق تبارك وتعالى متحدثًا عن نفسه: {وسع كرسيه السموات والأرض} [البقرة: 255]، ولكن لأن «يشع» العبري أميت في ثلاثية المجرد، فقد استخدم في موضعه «هوشيع» أي «هفعيل» المعدى بالهاء، فتظن أن «يشع» أصله لازم غير متعد (أي اتسع) والأصوب هو العكس. أعني الصحيح هو أن الجذر الثلاثي العبري (الممات في ثلاثية المجرد) كان قبل مواته فعلاً متعديًا بذاته، فيكون معنى إل – يشع، الله يسع، يراد من هذا كما مر بك اسم الفاعل، بمعنى «الله ناصر»، «الله موسع»، «الله مفرج»، «الله معين».
أما تركيب هذا الاسم المزجى، فهو فيما نقول نحن، إل – ييشع، «إل» اسم الله في العبرية، «ييشع» قياس المضارعة من الجذر الثلاثي الممات «يشع»، وهو «وسع» العربي.
ولكن علماء التوراة يقولون إن التركيب المزجي لاسم «إليشع» هو «إلى – يشاع»، حي «إلى» = «إلهي»، «يشاع» = سعة، مصدرًا من الجذر الممات «يشع»، ويكون المعنى إلهي نصرة، إلهي فرج، إلهي عون، ولا فرق في المعنى بين هذا وبين الذي قلناه، بل يؤكد أن «يشع» أصله متعد لا لازم، لأن المصدر منه، الباقي في العبرية إلى الآن (النصرة، السعة، الفرج، العون) يفيد التعدي قطعًا ولا يفيد اللزوم.
ولئن كان النطق والمعنى على القولين واحدًا، فإن ما نقوله نحن أصوب وأوجه، لأن قول علماء التوراة مفتعل، فلا أحد يصف الله عز وجل بصفة فيه ويقول «إلهي» كذا وكذا، مثل إلهي رحيم، إلهي رحمان، إلهي واسع، وكأن «إلهه» ليس «إله» كل الناس، وإنما يقول الله رحيم، الله رحمان، الله واسع. لا يصح أن يقال «إلهي» إلا على الخطاب من العبد لربه في الدعاء والمناجاة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/171]
أما الذي صد علماء التوراة عن القول الذي نقول به، فهو أن الجذر «يشع» ممات في ثلاثية المجرد كما مر بك، فلا يصح أن يُستخدم المضارع منه: إل – ييشع. وليس هذا بحجة في الأسماء الأعلام بالذات، التي تستحيي الممات في اللغة غير ناظرة إلى توقف جريانه على ألسنة الناس، فكم من اسم علم استبقى تراكيب أميتت في الاستعمال. من ذلك في العبرية نفسها الاسم العلم «عُمْرِى» (اسم ملك من ملوك إسرائيل) والجذر منه «عمر» ممات في ثلاثيه مثل «يشع» سواء بسواء.
وقد تلبثت معك قليلاً عند معاني هذا الجذر العبري «يشع» - وربما أثقلت عليك بعض الشيء بمواضعات النحاة – رغم أنهما علمان اثنان فقط يدخل في تركيبهما هذا الجذر «يشع»، من بين واحد وستين اسمًا تتناولها مباحث هذا الكتاب، وما ذاك إلا لأن العلم الثاني – غير «إليشع» - هو علم المسيحية الأكبر عيسى عليه السلام الذي لنا في تفسيره مذهب نخالف به علماء المسيحية الذين فسروه من قديم بمعنى «المخلص» على الفاعلية من «خلص» ونفسره نحن على ما يأتي إن شاء الله في موضعه باسم المفعول، فهو «المخلص» الناجي.
أما أدعياء الاستشراق الذين قد علمت، فقد عابوا على القرآن قراءة «اليسع» في المصحف بهمزة مفتوحة مختلسة على الألف البادئة – عكس ما فعل في «إلياس» الذي راعى فيه إثبات الهمزة المكسورة تحت الألف البادئة لا يجوز اختلاسها في الوصل فتقول «إن إلياس»، ولا تنطقها قط «إنلياس» - على ما مر بك من الحكمة في رسمها مرة «إل ياسين»، مقطعة. فقد وهم القرآن في زعمهم أن الألف واللام في «اليسع» هما أداة التعريف وليستا «إل» اسم الله عز وجل في العبرية.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/172]
وتبتسم معي إشفاقًا: أفقد سلمتم للقرآن بالفقه في اللغة العبرية حتى استطاع أن يحلل اسم «إلياس» إلى عنصريه، فيفرد «إل» بالرسم مقطعة منعًا لظنها أداة التعريف مضافة إلى «ياس» في اسم «إلياس» ؟ فكيف يفطن إلى «إل» في إلياس وتنبهم عليه في «اليسع»؟ ألعل الذين لقنوه «إلياس» فسروه له، ولم يفسروا له «اليسع» حين أسمعوه إياه؟ أم أن تركيب هذا الاسم «إليشع» انبهم أيضًا على من لقنوه إياه؟
لا هذا ولا ذاك بالطبع، ولكن القرآن الأفقه بالعبرية من أهلها يعلم من دقائق العربية ما يخفى على هؤلاء المتطفلين الأدعياء: الاسم المزجي «إل + ياس» يُشكل بذاته جملة اسمية تامة بشطريها، المبتدأ والخبر، في أصل تركيبها العبري، بينهما ضمير الملك للمتكلم المفرد: إل + في + ياهو، يعني: إلهي هو، أي: هو إلهي. والمبتدأ في هذه الجملة الاسمية التامة، مضاف إلى مضاف إليه: إل مضاف إلى ضمير الملك للمتكلم المفرد وهو الياء (في العربية والعبرية سواء) ولا تجوز قط أداة التعريف في ضمائر الوصل (الياء والكاف وما جرى مجراهما) ولا ضمائر الفصل (أنا وأنت وما جرى مجراهما). أيضًا الاسم المزجي إل + يسع (إل + ييشع) العبري يشكل بذاته جملة اسمية تامة: الله يسع، ليس بينهما ضمير ملك، والانفصال بينهما واقع ظاهر، يجليه نطقك «إل» وكأنها أداة تعريف، يليها فعل عبري مضارع يراد منه اسم الفاعل، أي الواسع الموسع (والواسعُ من أسماء الله الحسنى) ودل القرآن بهذا النطق على أن الشطر الفعلي من الاسم المزجى «اليسع»، يراد منه الاسم لا الفعل. على أن إضافة أداة التعريف إلى صيغة الفعل المضارع صحيح في العربية: تقول منه «اليؤكل» على سبيل المثال تريد «الذي يؤكل» أي الصالح للأكل (edible الإنجليزية وكل مختوم بأحد المقطعين able – و ible – في اللغات الأوروبية الحديثة)، لأن «الـ» هنا بمعنى الذي عند علماء العربية. وقد مر بك في بعض حواشي هذا الكتاب ترجيحنا تفسير اسم الجلالة «الله» بأنه من «الـ + هو» أي الذي هو، وأنه في ترجيحنا الأصل الذي جاءت منه «إِلْ»، «يهوا» اسمين لله عز وجل في التوراة. فلا يبعد أن يكون مرادًا من الألف واللام كأداة تعريف في اسم «اليسع» المعرب عن «اليشع» العبري، هو اسم الله عز وجل.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/173]
على أننا لا نتوقف عند هذا، وإنما نذكر هؤلاء الأدعياء بأن «اليسع»، شأنه شأن «إلياس» إنما جاءا في العربية التي نزل بها القرآن، لا على أصلهما، وإنما معربين على أوزان العربية، شأن التعريب الجيد لا الببغائي، ولا يصح تعريب في «اليسع» إلا بنطق الألف واللام فيه كما تنطق أداة التعريف العربية. إن فعلت غير هذا – وأرجو منك أن تحاول – كسرت الوزن.
وردت «اليسع» - تعريبًا لاسم نبي الله «إليشع» عليه السلام – مرتين اثنتين فقط في القرآن، الأولى التي في سورة الأنعام في جُملة لفيف من أنبياء الله ورسله: {وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 86]، والثانية في قوله عز وجل: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار} [ص: 45 – 48]. وليس في أي من المرتين كما ترى تفسير لمعنى هذا الاسم العلم العبراني «اليسع».
«اليسع» إذن مفسرة في القرآن بالتعريب وحده. إنه «إِلْ + يَسَع»، يعني «إِيل يَسَع»، أي «اللهُ يَسَع»، واسع عليم سبحانه).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 170-174]


رد مع اقتباس
  #64  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:36 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(47) ذو الكفل:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (47) ذو الكفل
«ذو الكفل» عليه السلام نبي من أنبياء الله عز وجل المسمين في القرآن بالاسم. ورد اسمه في القرآن مرتين فحسب، أولاهما التي في سورة الأنبياء مجموعًا إلى إسماعيل وإدريس عليهما السلام: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء: 85]، والثانية التي في سورة ص، مجموعًا إلى إسماعيل واليسع عليهما السلام: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار} [ص: 48].
ولفظ «ذي الكفل» كما ترى عربيٌّ قح، ليس فيه شبهة عجمة.
على أن «ذا الكفل» لم يكن رجلاً عربيًا يتكلم العربية التي نزل بها القرآن. ولم يكن «ذو الكفل» بهذا اللفظ العربي هو الاسم الذي سماه به أبوه. وإنما «ذو الكفل» اسم «جاء به القرآن على الترجمة، بديلاً من اسمه العبراني في «توراة الأنبياء والكتبة، أي في العهد لاقديم، شأن القرآن المعجز في العدول عن التعريب إلى الترجمة حتى يسيء التعريب إلى المعنى أو يفسد الجرس. وقد اجتمعت هاتان العلتان في اسم «ذي الكفل» على أصله العبري، فوجبت الترجمة، كما سترى.
تكلم المفسرون في «ذي الكفل» (تفسير القرطبي للآية 85 من سورة الأنبياء) فلم يتوقفوا عند تفسير معناه لأنه اسم عربي ظاهر العربية، لا يحتاج إلى تفسير. ولكن لفيفًا منهم أنكر نبوة ذي الكفل: قالوا هو رجل صالح من بني إسرائيل. وساقوا في هذا أحاديث، حملوها على «ذي الكفل» المسمى في القرآن. وهي تدور على رجل لم يكن يتورع عن ذنب، جاء امرأة أعطاها ستين دينارًا على أن تمكنه من نفسها فقبلت، فلما هم بها بكت. قال: هل أكرهتك؟ قالت: لا، إلا أنني والله ما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/175]
فعلت هذا من قبل ولكنها الحاجة، ألجأتني. قال أنا بهذا أولى. فعف عنها وترك لها المال. فأماته الله من ليلته. وأصبح الناس، فوجدوا مكتوبًا على بابه: قد غفر لذي الكفل.
وهذه الأحاديث وأمثالها – وإن صحت – لا يصح حملها على «ذي الكفل» المسمى في القرآن، لأن الرجل المجعول له هذا الحديث – إن صح – الذي عاش حياته لا يتورع عن ذنب، ثم كف نفسه عن الزنا بامرأة سعى إليها بماله وعف عنها أريحية وسخاء نفس، لم تعفه تقوى الله عز وجل، فأماته الله على صالحته مغفور الذنب، مثل هذا الرجل مهما أطنبت في حسن صنيعه لا يصح أن يذكر في القرآن بالاسم، ناهيك بأن يذكر في القرآن مجموعًا إلى لفيف من النبيين صلوات الله عليهم، فالقرآن لا يخلط الأنبياء بغيرهم، لا ملك ولا ولي ولا صديق، فما بالك بداخل في عفو الله عز وجل، أميت على صالحته؟
أما أن «ذا الكفل» ورد في القرآن مجموعًا إلى أنبياء لا تشك قط في نبوتهم، فيكفيك أنه جاء مجموعًا إلى إسماعيل واليسع في الآية 48 من سورة ص التي تلوت توًا. وقد جاء ذكر إسماعيل واليسع في طائفة من الأنبياء ختم الله الحديث عنهم بقوله عز وجل فيهم: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} [الأنعام: 89 – 90].
«ذو الكفل» عليه السلام نبي بصريح القرآن إن تمعنت. ولا يصح مع صريح القرآن تفسير – أيًا كان قائله – يخالف صريح القرآن. ولا يصح لمسلم في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم قبول حديث – أيًا كان رواته – يخالف صريح القرآن لا مجال لصرفه عن معناه. هذا أصل نفيس، لو عض المفسرون عليه بالنواجذ لخلص عملهم الجليل من شائبة دكناء كالهنة في الثوب الأبيض.
أما المستشرقون المنكرون الوحي على القرآن فقد توقفوا في «ذي الكفل» لا يدرون عمن يتحدث محمدٌ صلى الله عليه وسلم وكان ليس عندهم سمى في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/176]
«توراة الأنبياء والكتبة»، فقالوا إن لفظ «ذي الكفل» العربي يحتمل عدة معانٍ لا يُستطاعُ القطع بأيها المعنى.
وكان هذا أيضًا هو موقف الأحبار من أهل الكتاب الذي يتكئ عليهم المفسرون وأصحاب السير، فقد تكتموا علم ما علمهم الله، لا يروى عنهم قول في «ذي الكفل» الذي سماه القرآن، من يكون في أنبياء بني إسرائيل وصلحائهم.
وأما لماذا يتعين أن يكون «ذو الكفل» من بني إسرائيل لا من غيرهم، فقد علمت من القرآن في قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 26] إن النبوة من بعد إبراهيم محصورة في نسله لا تخرج عنهم إلى غيرهم حتى خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين. ولو كان «ذو الكفل» من بني إسماعيل شأنه شأن محمد صلى الله عليه وسلم لا من بني إسحق ويعقوب لتوقعت من القرآن أن يشير إليه، ولكن القرآن ينص على عكسه، لاختصاصه محمدًا صلى الله عليه وسلم بلقب النبي الأمي في مثل قوله عز وجل: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}[الأعراف: 157]، يصف النبي الذي يتعين على أهل الكتاب الإيمان به حين يهل زمانه بأنه «أمي» والأمي عند اليهود ليس هو كما تظن، الذي يجهل القراءة والكتابة، وإنما هو «الذي من الأمم»، أي ليس منهم وإنما من الأمم الذين من حولهم، فهو كل أجنبي عنهم. واللفظة العبرية هي «جوى»، مفرد «جويم»، وأيضًا «أمي»، «أمييم»، أي هو النبي الذي من غير اليهود. وقد كان الخطاب بهذه الآية لموسى في أعقاب فتنة العجل: {قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/177]
كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 156 – 157]. وقد وصى بها موسى قومه في التوراة التي بين يديك: يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من إخوتك مثلي، له تسمعون!» (تثنية 18/ 15). والمخاطب بقوله: «يقيم لك الرب إلهك» على المفرد المذكر، إسرائيل، مرادًا منه «بنو إسرائيل»، والترجمة العربية «من وسطك» مضللة، لأنها في الأصل العبراني: «مقربخا» يعني لا «من وسطك» وإنما من «صميمتك»، والذي من صميمة إسرائيل من إخوته هم بنو إسماعيل لا بني إسرائيل بالطبع، وقد خفيت هذه على المسلمين الذين جادلوا أهل الكتاب بها. ووصى بها عيسى أيضًا أهل الإنجيل في الأناجيل التي بين يديك: «إن لي أمورًا كثيرة لأقولها لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية» (يوحنا 16/ 12 – 13). وروح الحق بالعبرية التي تكلم بها المسيح هي «روح إمت» في الترجمة العبرية لهذه الأناجيل، و«إمت» عبريًا مصدرٌ من الجذر العبري «أمن»، فهو الأمانة على معنى قول الحق، والأمين لقبه صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، لا يقول إلا حقا. أما علماء النصارى فقد قالوا من بعد إن المعنى بروح الحق هو «الروح القدس»، يعنون جبريل صلوات الله عليه، وليس بشيء، لأن جبريل عندهم إله، ثالث الثلاثة في مثلث التثليث، فلا يصح ولا يليق أن يقال فيه «لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به» شأن النبي يوحى إليه، موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم في هذا سواء، ولكنك لا تهدي من أحببت.
والذي يجب أن تعلمه هو أن «الأمي»، «الأميين»، من مستحدثات القرآن، لا علم بهما للعرب قبل القرآن، ولا شاهد لهما في كلام العرب من دونه. وهو نسبة إلى الأمة لا إلى الأم. وقيل «أمي» ولم يقل «أممي» لأن العربية – أعني عربية القرآن – لا تنسب. أي لا تضيف ياء النسب إلى اللفظ في صورة الجمع وإن كان المراد هو النسبة إلى الجمع، وإنما تعيد اللفظ الجمع إلى صورته في المفرد ثم تنسب إليه، كما نقول نحن الآن «دولي» ولا نقول «دولي» على الجمع من «دولة»، وإن كان مقصود النسب هو النسبة إلى مجموع الدول لا إلى «الدولة». ولكن مفسري القرآن، وتابعهم علماء العربية، فسروا الأمي والأميين في القرآن بأنه نسبة إلى «الأم» لا إلى «الأمة»،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/178]
يُريدون الذين هم على حال «أمهم» في جهالة الفطرة. واستنبطوا من هذا أن «الأمي» هو العيي الجافي، الجاهل، الذي لا يقرأ ولا يكتب. فسروها بهذا على التخمين، لا على التأصيل، فليس لهذا التفسير أصل في العربية يرد إليه، والنسبة إلى الأم لا تقتضي هذا الذي قالوه، والذي لم يسمع من العرب قبل القرآن.
أما أن العرب عند اليهود «أميون» فهذا لا خلاف عليه، لا لأن العرب أمة أمية، لا يقرءون ولا يكتبون، وإنما لأنهم «جويم»، «أمييم»، أي من الأمم، لا من بني إسرائيل. وقد ورد في توراة الأنبياء والكتبة – وهذا جديد لم تقرأه من قبل – في التنديد ببني إسرائيل على ألسنة أنبيائهم، ما يلي: «لأن الرب قد سكب عليكم روح سبات وأغمض عيونكم. الأنبياء والرؤساء الناظرين غطاهم. وصارت لكم رؤيا الكل مثل كلام السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين اقرأ هذا فيقول لا أستطيع لأنه مختوم. أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة» (إشعياء: 29/ 9 – 13). ربما تجد في هذا – وأنت محق بالطبع – إشارة إلى المعنى بها ليلة القدر في غار حراء، جبريل ومحمد صلوات الله وسلامه على ملائكته وأنبيائه، يقول له اقرأ، فيقول ما أنا بقارئ. ولكن الذي يعنينا في هذا السياق هو أن العبرية لا تعرف لفظة «الأمي» بمعنى الذي يجهل القراءة والكتابة، وإنما تقول: «أشير لو يديع هسفر» أي الذي لا يعرف السفر، يعني لا يعرف الكتابة. أما العبرية المعاصرة التي تستعير أحيانًا من العبرية فلم تستعر منها لفظة «الأمي» بمعنى الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وإنما قالت في الذي لا يقرأ ولا يكتب «بور» يعني «الجاهل»، من «البوار» عربيًا أي الأرض التي تخلى فتبور. وهي لم تستعر «الأمي» من العربية خشية اختلاطها في العبرية بمعنى الأجنبي الغريب الذي ليس من اليهود.
وأما لماذا «خمن» المفسرون – وتابعهم عليها علماء العربية من بعد – أن «الأمي» يعني الذي لا يعرف القراءة والكتابة، فهو علمهم القاطع الذي لا خلاف عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل نزول القرآن عليه يعرف القراءة والكتابة، لا بدلالة قوله في غار حراء لجبريل: ما أنا بقارئ! ليس لهذا فحسب، وإنما لقوله عز وجل مخاطبًا نبيه: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48]، وكانت هذه من آيات نبوته صلى الله
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/179]
عليه وسلم وحجة له على من ادعوا عليه القراءة في الكتب السابقة والاستنساخ منها. ولكن ليس فيها دليلُ على أن وصفه صلى الله عليه وسلم بالنبي «الأمي» من هذا، أي لعدم معرفته القراءة والكتابة. أما الحديث المروي عنه صلى الله عليه وسلم: نحن أمةُ أمية، لا نقرا ولا نحسب! ففيه نظر، لا من جهة رواته بالذات، وإنما من جهة المتن، أي من جهة دلالته ومعناه، لأنه يخالف الواقع.
لا يصح أني قال إن «العرب» سموا أميين: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} [الجمعة: 2] لأنهم على حال أمهم من جهالة الفطرة لا يقرءون ولا يكتبون، فقد قرأ العربُ وكتبوا، دليلك في هذا تلك الصحيفة التي علقها كفار قريش حين قطعوا ما بينهم وبين بني هاشم، ودليلك فيه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمْلَى هذا القرآن إملاءً على نفر من الكتبة العرب فكتبوه بالخط العربي لا بالخط العبراني، بل ودليلك فيه كذلك من القرآن نفسه، أعني من تلك الآية في سورة العنكبوت: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48] التي تفيد أن في العرب قارئين كاتبين لستَ منهم.
ولا يصح أن يقال أيضًا أن العرب سموا «أميين» على معنى الجهل بالقراءة والكتابة، تسمية بالمجمل، لأن معرفة القراءة والكتابة لم تكن فاشية فيهم فشوها في الشعوب من حولهم: الواقع أن «فشو» العلم بالقراءة والكتابة لم يكن من سمات العالم القديم عصر نزول القرآن، بل إن شيوع «الأمية» في أهل البوادي والنجوع قد كان – ولا يزال إلى حد كبير في أيمانا هذه – هو القاعدة، آفة لا يسلم منها بدرجة أو بأخرى إلا أهل المدن، ولم تكن مكة، ولا يثرب، بادية أو نجعا، حتى يقال في أهلها «أميون» بهذا المعنى، أو حتى تلتصق هذه الصفة بالعرب فتكون علما عليها من دون شعوب الأرض، تطلق فلا يفهم منها غيرهم.
الصحيح أن اليهود هم الذين أسموا العرب – كما أسموا غيرهم ممن ليسوا من أنفسهم – أميين، أي الذين من «الأمم» على معنى الأجنبي، لا على معنى الذي يجهل القراءة والكتابة. والذي ينبغي أن تتوقف عنده أن القرآن لا يستخدم لفظة «الأميين»، وقد وردت في القرآن أربع مرات فحسب، إلا في سياق حديث مع أهل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/180]
الكتاب أو عن أهل الكتاب، على المغايرة منهم (راجع الآيات: البقرة 78، آل عمران 20 و 75، الجمعة 2)، وهو أيضًا لا يستخدم لفظة «الأمي»، وقد وردت في كل القرآن مرتين فحسب في آيتين متتابعتين من سورة الأعراف (157 و 158) نعتًا للنبي صلى الله عليه وسلم في خطاب لأهل الكتاب يُرادُ منه النبيُّ الذي ليس منكم، أي ليس من بني إسرائيل، إلا في هذا المعنى وحده.
على أنك لا تحتاج مع القرآن إلى قول لقائل. فقد حدد القرآن بأجلى بيان مقصوده من لفظ «الأميين» في قوله عز وجل: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75]، أي نستبيح في غيرنا ما هو محرم علينا. وليس المعنى بالطبع «نستغفلهم لأنهم لا يعرفون القراءة والكتابة» وإنما المعنى لا حرج علينا في أكل أموالهم بالباطل لأنهم من «الأمم»، ليسوا منا. وهذا من عقائد اليهود الثابتة في التوراة التي بين يديك: لا حرمة لأجنبي عنهم.
ها قد علمت أن «الأمي» في ألفاظ القرآن هو الذي ليس من بني إسرائيل، لا الذي يجهل، أو العيي الجافي، أو من لا يعرف القراءة والكتابة. هذا شائن، لا يصح في حق أفصح الناس وأرقهم حاشية بإطلاق، الذي علمه الله فهو أعلم الناس.
ولكن لا بأس بهذا الخطأ الشائع، الذي أكسب اللغة العربية لفظًا جديدًا يُغني بذاته عن جملة طويلة (الأمي = الذي يجهل القراءة والكتابة). فقط عليك أن تحترز من أن تحترز من أن تفهم من هذا اللفظ المحدث ما فهمه المفسرون الأوائل في نعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/181]
ولأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو النبي الوحيد المنحدر من صلب إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، ولأن الأنبياء جميعا من بعد إبراهيم كلهم من نسل إبراهيم، فلم يبق لك في نسب نبي الله ذي الكفل إلا أن تأخذ بأحد خيارات ثلاثة:
1- إما أن ذا الكفل نبيٌ سابقٌ على إبراهيم نفسه، عاش ما بين آدم إلى نوح شأن إدريس عليه السلام، أو ما بين نوح وإبراهيم شأن هود وصالح على ما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب.
2- وإما أنه نبي من بني إبراهيم خلاف إسماعيل من غير بني إسرائيل، شأنه شأن شعيب عليه السلام (حمى موسى على ما يرجح المفسرون ونحن معهم).
3- وإما إنه نبيٌ من بني يعقوب، أي من بني إسرائيل.
والذي نرجحه نحن من هذه الخيارات الثلاثة ونأخذ به، هو الخيار الثالث، أي أن «ذا الكفل» نبيٌ من أنبياء بني إسرائيل، لا لوروده في القرآن بعد اليسع خلف إلياس، في إحدى الآيتين المذكور اسمه فيهما: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل} [ص: 48]، فقد ورد في الآية الأخرى بعد إدريس: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل} [الأنبياء: 85]، بل لا يُراعى القرآن دائمًا الترتيبَ الزمني في سرده أسماء الأنبياء، ولا بدلالة دخوله في زمرة «الأخيار» إبراهيم وإسحق ويعقوب في قوله عز وجل عنهم: {وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار} [ص: 47 – 48] التي يفهم منها للوهلة الأولى إلحاق هؤلاء الأخيار بأولئك، فقد ترى أنت أن هذا دليل على أن نبي الله ذا الكفل من بني إبراهيم فحسب لا عبر يعقوب (إسرائيل) بالضرورة. ولكن الدليل عندي على أن «ذا الكفل» من أنبياء بني إسرائيل هو اسمه هذا الذي سمى به في القرآن على الترجمة: ذو الكفل، ومعناه بالعبرية هو «حلقيا»، وهو علم جار في أعلام العهد القديم، أشهر من تسموا به اثنان: والد إرميا النبي، واسمه إرميا بن حلقيا، والثاني هو «حلقيا» الكاهن على عصر يوشيا ملك يهوذا، الذي عثر أثناء ترميم الهيكل في عهد ذلك الملك على سفر شريعة الرب (أي توراة موسى) بخط موسى نفسه (راجع في هذا الإصحاح 22 من سفر الملوك الثاني، والإصحاح 34 من سفر أخبار الأيام الثاني) والملقب في العهد القديم بلقب «الكاهن العظيم».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/182]
والذي أرجحه أنا – والله أعلم بغيبه – أن ذا الكفل المعنى في القرآن هو هذا «الكاهن العظيم» حلقيا، لا يقدح في هذا قولهم كاهن لا نبي، فالعهد القديم يخلط بين النبي والكاهن والرائي، دليلك في هذا من العهد القديم نفسه: «كلام إرميا بن حلقيا من الكهنة الذين في عناثوث في أرض بنيامين» (إرميا 1/ 1) الذي تفهم منه أن إرميا كاهن من الكهنة، بينما إرميا عند اليهود نبي بإجماع.
أما لماذا لم يفطن المفسرون إلى «حلقيا» هذا سمي ذي الكفل العبراني، فهذا باديء بدء لأن رواتهم من أهل الكتاب تكتموه عليهم، وثانيا – وهو الأهم – لأن المفسرين الأوائل حتى وإن علموا بوجود «حلقيا» في العهد القديم ما كان لهم أن يعلموا معناه في لغته ليطابقوه على «ذي الكفل» سميه في القرآن، فما كانوا يعلمون من عبرية التوراة القدر الكافي لتحليل معاني أعلامها.
أما «حلقيا»، ذلك الاسم العبراني، فهو اسم مزجي: حلقي + يا، من الجذر العبري «حلق» بالحاء غير المنقوطة، مكافئ «خلق» العربي بالخاء المنقوطة من فوق، ومن معانيه في العبرية والعربية معًا، «الخلاق» بتخفيف اللام، أي الكفل والحظ والنصيب والقسم بمعنى القسمة، كما تجد في قوله عز وجل: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة} [آل عمران: 77] أي لا نصيب لهم ولاحظ في نعيم الآخرة. أي لا كفل لهم من هذا النعيم ولا «يقسم» لهم منه شيء. واصل هذا الاسم «حلقياهو»، ثم اختصر إلى «حلقيا»، كما اختصر «إلياهو» إلى «إيليا»، ومعنى «حلقياهو» على أصلها المزجي هو «خلاقه» أي خلاق الله، يعني قسمه الذي قسم، فهو خلاق منه عز وجل، أي كفل من به، والمسمى به «ذو كفل» أي المعطي كفلاً.
هذه هي ترجمة القرآن المعجز للاسم العبراني «حلقيا»: لا أجمل ولا أدق ولا أبين. أما لماذا عدل القرآن عن تعريب هذا الاسم إلى ترجمته، فلأنه إن تركه على أصله العبري بالحاء غير المنقوطة التبوس معناه عند القارئ العربي بمعاني الجذر العربي «حلق» غير المرادة من التسمية، ولو عدل به عن الحاء إلى الخاء على جهة التعريب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/183]
المفسر للمعنى، لا نبهم على القارئ العربي المراد منه، أهو «الخلق» أم «الخلق»، أم «الخلاق»، وأبعدها عن الذهن هو هذا الأخير رغم أنه وحده المراد.
ولكن للقرآن سببًا آخر أوجب العدول عن تعريب «حلقيا» إلى ترجمته، هو عندي السبب الأوجه والأقوى، وهو الجرس القرآني. قارن أنت واحكم بنفسك: أي اللفظين أليق بجرس القرآن، «حلقيًا» أم «ذو الكفل»؟
وسبحان العليم الخبير).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 175-184]


رد مع اقتباس
  #65  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:38 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(48) يونس:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (48) يونس
«يونس» في القرآن، اسم نبي الله يونس بن متى عليه السلام، هي تعريب «يونا» العبرية في العهد القديم، التي شهرت بيونانيتها في أصول الأناجيل “Ionas” «يوناس» (مضافًا إليها سينُ الرفع اليونانية) وجاءت في ترجمات الأناجيل العربية «يونان» (بإضافة نون المنصوب في اليونانية أيضًا)، ولكنها شُهِرت عند العرب بصورتها السريانية المأخوذة عن اليونانية «يونس» بكسر النون، فعربها القرآن على ما شهرت به عند العرب، ولكن بضم النون، منعًا لشبهة فهمها من الأنس والإيناس، إن تركها على وزن «يفعل» اليوناني، أو على وزن «يفعل» السرياني. وقد مر بك هذا في تحليلنا اسم نبي الله يوسف عليه السلام، فارجع إليه.
وقصة يونس عليه السلام ترد في «العهد القديم»، أي «توراة الأنبياء والكتبة» في سفر مستقل معنون باسمه. ولأنك لا تجد ترجمة عربية لهذا العهد القديم في مجلد قائم برأسه أشرف عليها اليهود أنفسهم، وإنما تجد الترجمة العربية للعهد القديم مجموعة في مجلد واحد مع «العهد الجديد» في ترجمة عربية أشرف عليها المسيحيون العرب، فستجد سفر يونس هذا في ترجمته العربية المنقولة عن العبرية معنونًا – كما يجب أن تتوقع – لا باسم سفر يونس كما هو لفظه العربي، ولا باسم سفر يونا على أصله العبري، وإنما تجده معنونا باسم «سفر يونان» على ما شاع به اسم هذا النبي عند المسيحيين العرب: «يونان». وبهذا الاسم ديونان» ستجيء الإشارة إلى مقتبساتنا من هذا السفر عند الضرورة.
والذي ينبغي التنبيه إليه في هذا السياق، هو فضل المسيحية الضخم على ديانة اليهود: لولا إيمان المسيحيين بهذا «الوحي» الذي في توراة الأنبياء والكتبة، واعتبارهم المسيح عليه السلام مكملاً ومتممًا لهذا «الناموس» الذي يمثله العهد القديم، ولولا حاجتهم إلى استقصاء ما في العهد القديم من «بشارات» بمقدم المسيح
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/185]
وأوصافه وصفاته وإعجاز مولده إعمالاً لوصيته في الأناجيل: (فتشوا الكتب وهي تشهد لي)، بل قال اختصارًا لولا اتكاء العهد الجديد على العهد القديم، لما قامت المسيحية بهذا الجهد الضخم في دراسة أسفار توراة الأنبياء والكتبة، وترجمتها، ونشرها في بقاع الأرض بكل اللغات، ولو ترك الأمر لليهود أنفسهم لما ضربوا فيه بسهم، لا لكسل فيهم، وإنما لأنهم «يضنون بالخير على غير أهله» في وهمهم، أي على العالم كله من دونهم، لأنهم وحدهم «شعب الله» لا حاجة به إلى غيرهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وأنت بالطبع تحمد للمسيحية فضلها في خدمة أسفار اليهود، بحثًا وترجمة ونشرًا، إذ لولا المسيحية لبقيت تلك الأسفار حبيسة خزائنهم. ولكنك تحترز وأنت تقرأ أسفار اليهود في غير أصلها العبراني من شبهة تطويع الأصل لهوى المترجم في كل نص يراد منه الاستشهاد للمسيح أو لعقيدة التثليث، مثلما تحترز كل الاحتراز من شبهة «التشيع» في تفاسير القرآن والحديث. تحترز من المغالاة هنا وهناك، لأن المغالاة إسفاف، والإسفاف منزلق إلى الإثم الكبير.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى». وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، فقد قال عز وجل: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]، أي فضلنا كلا بمأثرة. وقال في خاتم النبيين: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء: 113]، وقال فيه عز وجل أيضًا: {إن فضله كان عليك كبيرا} [الإسراء: 87]. حسبك أنه خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الذي ختمت به النبوة والرسالة، والذي يختم به هو الأعلى لا الأدنى. ولكنك تفهم أيضًا من هذا الحديث – فوق دلالته على تواضعه صلوات الله عليه – أن الأنبياء جميعًا سواء في «فضل النبوة» لوحده الرسالة والقصد، ووحدة المرسل جل وعلا. وتلمح في هذا الحديث أيضًا صدى قوله عز وجل: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/186]
ولكن الله عز وجل يقول لخاتم النبيين: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين} [القلم: 48 – 50]، أي لا تكن أنت كصاحب الحوت ذي النون – والنون في العربية يعني الحوت – يونس بن متى عليه السلام الذي لم يصبر لحكم ربه فالتقمه الحوت وهو مليم – والمليم هو الذي أتى ما يلام عليه – حين ذهب مغاضبًا، أي هاجر وتباعد: {وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]. وهو أيضًا يونس في قوله عز وجل لموسى وقد ولى مدبرًا ولم يعقب حين ألقى عصاه عن أمر الله فرآها تهتز كأنها جان: {فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا من بعد سوء فإني غفور رحيم} [النمل: 10 – 11]، أي يا موسى أنت معي آمن، فلا يخاف في حضرتي أنبيائي. ولكنه عز وجل علم أنه سيكون من يونس ما كان، أي سيفر يونس من وجهه عز وجل لا إليه سبحانه، فكان يونس بهذه «المغاضبة» ظالمًا، مليمًا أتى ما يلام عليه، ومن معاني الظلم في العربية أن تكون غير محق، تضع الشيء في غير موضعه، فلا يفر من وجه الله إلا ظالم، فما بالك بنبي وضع الله عز وجل عليه كنفه، أفيفر من كنف الله أحد؟ استثنى الله عز وجل من أنبيائه الذين لا يخافون في حضرته يونس الذي ظلم: ذكر ملامته، وذكر توبته، وعقب بمغفرته ورحمته، ولم يولد بعد يونس. فسبحان الذي ما فرط في الكتاب من شيء، الذي أحكم في القرآن كل قول قاله.
ولكن مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 11 من سورة النمل) تهيبوا القول بأن يكون في رسل الله من ظلم، فقال بعضهم إن الاستثناء بالذي ظلم استثناء منقطع، يعني إلا الذين ظلموا من عباده غير الأنبياء. وهذا ضعيف لا يتعمق معنى الآية، لأن خشية الله عز وجل وقر واقر في قلب كل مؤمن، نبي وغير نبي، والنبي بهذا أقمن وأجدر، فلا يخشى الله حق خشيته إلا عالم، ولا عالم كنبي، وليس هذا هو الذي لام الله عليه موسى، ولكنه ليم لأنه وهو في كنف الله عز وجل خشى على نفسه من ثعبان فولى مدبرًا ولم يعقب، ونسى أنه في حضرته عز
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/187]
ورجل آمن مؤمن، فذكره الله بها، فالمستثنى منه إذن في الآية هم الأنبياء حال كونهم في حضرته عز وجل، لا في عموم شأنهم وأحوالهم، والمستثنى هو يونس لأنه «غاضب» ففر من وجه الله عز وجل ولم يفر إليه سبحانه. أما الآخرون فقالوا إن الاستثناء لا شك متصل، أي أن من الأنبياء من ظلم، ولكنهم لم يخصوا بها يونس، وإنما عمموها في هفوات الأنبياء صلوات الله عليهم، من مثل غفلة آدم الذي نسى فأكل مما نهى عنه، وفتنة داود حين وقعت في قلبه امرأة صاحب جنده فأراده على تطليقها ليتزوج هو منها، وأيضًا يونس الذي أتى ما يُلاُم عليه حين ذهب مغاضبًا، والصغيرة من النبي في حكم الكبيرة من غيره. وليس هذا أيضًا هو معنى هاتين الآيتين من سورة النمل، لأن مقصودهما كما مر بك هو اللوم على خوف النبي في حضرة الله عز وجل حيث الأمن الذي ليس فوقه أمن، لا خوف النبي من ذنب أتاه، وهذا لم يفعله يونس، فلم يفر من وجه الله عز وجل لذنب أتاه، وإنما كان الذنب الذي ظلم به هو هذا الفرار نفسه. وقال بعض المفسرين أيضًا إن «الذي ظلم» في الآية لا يبعد أن يكون هو موسى نفسه، يذكره الله بذنبه حين وكز ذلك الرجل المصري فقضى عليه، وهذا ضعيف ممعن في الضعف، لأنه يتأدى بك إلى معكوس الاستثناء في قوله عز وجل «إلا من ظلم»، فيكون المعنى أنت وحدك يا موسى الذي تخاف في حضرتي غير آمن، لفعلتك التي فعلت، فلماذا لامه الله إذن على فراره مدبرًا لم يعقب؟ على أنك لا تعد موسى قاتلاً مرتكب كبيرة، فلم يرد قتل هذا المصري، وإنما قتله عفوًا بوكزة من يده في مدافعته عن رجل من قومه كاد المصري في اقتتالهما أن يبطش بالذي «من شيعته»، ولكن موسى عد هذا القتل غير العمد إثمًا بليغًا: {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}، {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} وعاهد موسى ربه وقد تاب عليه ألا يكون من بعدُ ظهيرًا لمجرم ولو كان من شيعته: {قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} (راجع الآيتين 15 و 16 من سورة القصص)، فقد تاب الله عز وجل على موسى ومحا عنه إثم هذه الفعلة وتأثمه منها الذي حاك في صدره: {وقتلت نفسا فنجيناك من الغم} [طه: 40]، قبل أن يبعث موسى إلى فرعون بعشر سنين قضاها موسى في مدين. وتستطيع أن تقول أيضًا إن الفرار من ثعبان مبين كالذي صارت إليه عصا موسى أمر طبيعي في حق البشر وإن كانوا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/188]
أنبياء، وليس هذا هو الذي ليم عليه موسى، وإنما ليم موسى لأنه «ولى مدبرًا ولم يعقب» يعني أدبر موسى فرارًا من هذا الثعبان لما وقع في قلبه من الخوف منه، وهذا طبيعي في حق البشر، ولكنه «لم يعقب»، أي لم يقفل راجعًا إلى ربه يلتمس الأمن من هذا الخوف عند السلام المؤمن المهيمن جلا وعلا.
على أن يونس عليه السلام أقر بظلمه في قول الله عز وجل على لسانه: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]، وليس بعد هذا قول لقائل.
قد «ظلم» إذن يونس صلوات الله عليه. فكيف ظلم يونس؟
كانت نينوى – وتقع أطلالها اليوم قُبالة مدينة الموصل شمالي العراق – لا عاصمة الآشوريين وإنما عاصمة الشرق الأدنى القديم كله ما بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. كانت آشور تحكم بابل، فهي عاصمة آشور وبابل، ولم يكن قد بزغ بعد نجم الفرس الذين كان عليهم أن ينتظروا حتى الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد. أما مصر فلم تعد لها اليد الطولى في أحداث الشرق الأدنى القديم منذ مهلك فرعون (رمسيس الثاني كما علمت) في خليج السويس أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بل استطاع «أسرحدون» الأشوري اقتحام مصر على عهد «طهرقا» (689 – 663 ق.م) وطارده حتى جنوبيها، ولقب نفسه ملك آشور وبابل ومصر، فأصبحت نينوى عاصمة العالم القديم كله دون منازع. ولكن هذه العظمة لم تدم طويلاً لنينوى، لأن بابل هبت من كبوتها فأسقطت آشور وفتحت عاصمتها نينوى حوالي سنة 607 ق.م، فكان هذا هو آخر عهد نينوى بالعظمة، بل بالوجود كمدينة، فلم يبق البابليون منها إلا خرائب وأطلالا.
وإلى نينوى هذه أرسل يونس عليه السلام كما تقرأ في العهد القديم: «وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي» (يونان 1/ 1 – 2). ولكن يونان – أي يونس – شق عليه الأمر، وكأنما خشى على نفسه من مصاولة هذه المدينة العظيمة وفيها ملك جائر (كما فرق موسى من قبل من مواجهة فرعون في مصر فقال هو وأخوه هرون: {قالا ربنا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/189]
إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} [طه: 45]، على نحو ما تقرأ في العهد القديم: «فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب» (يونان 1/ 3)، فكان من أمره مع أصحاب السفينة ما تعلم: عصفت بهم الريح وهاج البحر هياجا لم يعهدوا مثله، فظنوا أنه من ركابها ظالم آبق، واقترعوا على ركاب السفينة أيهم الظالم الآبق، فكان يونس، فألقوه في البحر، فهدأت الريح وسكن البحر، واستقامت لهم السفينة بعد خلاصهم منه. أما يونس فقد التقمه حوت كأنما كان ينتظره. ولكن الله أمر الحوت ألا يمس منه شعرة. ومكث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، وهو قائم يستغفر ويسبح. حتى أمر الله الحوت أن يلفظه إلى البر سليمًا معافى: «ثم صار قول الرب إلى يونان ثانية قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد لها المناداة التي أنا مكلمك بها» (يونان 3/ 1 – 2)، فذهب يونان من فوره إلى نينوى وقال لأهلها: «بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى» (يونان 3/ 4) ولكن أهل نينوى، على غير دأب الذين تبعث فيهم الرسل، آمنوا بيونس، وصدقوا وعيد الله على يديه، الملك والرعية، فرجعوا عما هم فيه من ضلالتهم: «ونادوا بصوم ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلى صغيرهم» (يونان 3/ 5)، وقالوا: «لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك» (يونان 3/ 9). «فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه» (يونان 3/ 10). أما يونان فقد اغتم لهذا غمًا شديدًا، وكأنه قال في نفسه فيمَ إذن كان هذا العناء، وفيم كانت بعثتي إلى هؤلاء والله يرق ويرحم: «فغم ذلك يونان غمًا شديدًا فاغتاظ وصلى إلى الرب قائلاً آه يا رب، أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي. لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش لأني علمت أنك إله رؤوف رحيم وبطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر، فالآن يا رب خذ نفسي مني لأن موتي خير من حياتي» (يونان 4/ 1 – 3). ترى هل كان يونان يتمنى إيقاع الوعيد بأهل نينوى رغم توبتهم كيلا يقال أوعد يونان فأخلف الله وعده؟ هذا هو ما يقوله لك السفر: «وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة وصنع لنفسه هناك مظلة وجلس تحتها في الظل حتى يرى ماذا يحدث في المدينة» (يونان 4/ 5). ثم تفهم من السفر أن الله عز وجل أراد أن يبرر ليونان سبب تجاوزه عن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/190]
إيقاع العذاب بأهل نينوى: إنه الرحمة والشفقة منه تبارك وتعالى لا التوبة من جانبهم «فأعد الرب الإله يقطينه فارتفعت فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه لكي يخلصه من غمه. ففرح يونان من أجل اليقطينة. ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر في الغد فضربت اليقطينة فيبست. وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحًا شرقية فضربت الشمس على رأس يونان فذبل، فطلب لنفسه الموت وقال موتي خير من حياتي. فقال الله ليونان هل اغتظت بالصواب من أجل اليقطينة؟ فقال اغتظت بالصواب حتى الموت. فقال الرب أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة؟» (يونان 4/ 6- 11).
بهذا التبرير لتجاوز الله عن إيقاع العذاب بأهل نينوى بعد توبتهم، ينتهى سفر يونان في العهد القديم. وبغض النظر عن بعض العبارات التي تنبو عن أدب الحديث في جنب الله عز وجل، من مثل «الله يندم» (في الأصل العبراني «وينحم ها إلوهيم» من الجذر العبري «نحم) التي تفرق منها أذن المسلم وإن ألفتها أسماع أهل التوراة، وبغض النظر أيضًا عن سمات في أسلوب هذا السفر تذكرك بأساليب كاتب سفر التكوين حتى تكاد تظن الكاتب في السفرين واحدًا، وتهبط بكتابة سفر التكوين إلى عصر متأخر عن أحداثه، كما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. بغض النظر عن هذا وذاك، فإن وقائع سفر يونان تتقارب كل التقارب مع قصة يونس في القرآن، ولكن ترتيب هذه الوقائع في السرد القرآني مختلف.
وهو اختلاف بالغ الخطورة، لأنه هو الذي يحدد لك كيف «ظلم» يونس، وفيم كانت ملامته.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/191]
يقول لك سفر يونان إن ملامة يونس التي استحق بها عقابَ الحبس في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كانت هي نكوله عن حمل أعباء الرسالة إلى أهل نينوى، أشفق منها وفر هاربا من وجه الله عز وجل. ولا يفعل هذا نبي اختاره الله على علم.
ويقول لك القرآن أن ملامة يونس التي قذفت به إلى بطن الحوت هي أنه ذهب مغاضبًا: {وذ النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} [الأنبياء: 87]، أي أنه عليه السلام غضب فغاضب، وبديهي أنه لم يغضب من الله عز وجل لإنزاله الرسالة عليه فهجر الله وتباعد عنه، وهذا معنى المغاضبة في اللغة، وإنما المعنى أنه عليه السلام لم يَصْبِر لحكم الله عز وجل في أهل نينوى، أي إمهالهم حتى يتوبوا ثم يرفع العذاب عنهم، ليكونوا مضرب المثل في قوله عز وجل: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} [يونس: 96 – 98]، ولكن يونس غضب من هذا، وكأنما ساءه عفو الله بمحض التسبيح والتوبة عن قوم أرسل لهدايتهم لا لإيقاع العذاب بهم، فخرج من المدينة مغاضبًا، أي هجر وتباعد، فكان من أمره في السفينة وفي بطن الحوت ما تعلم، كي يعلمه الله عز وجل أن التوبة والتسبيح هما وحدهما السبيل إلى الرحمة والعفو: حبسه في بطن الحوت لا ملجأ له من الله إلا إليه، يقر بذنبه، فيسبح ويستغفر، مثلما فعل قومه حين سمعوا وعيد الله على يديه، لم يصروا على ما فعلوا، وأيضًا لم يقنطوا. بهذا نفسه نجى يونس: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} [الصافات: 143 – 148]. كان مجيء يونس إلى قومه قبل التقام الحوت إياه، لا بعده كما تجد في سفر يونان. وكان إنبات اليقطينة عليه عقيب أن لفظه الحوت إلى البر مباشرة لحاجته إلى ظلها في العراء وهو سقيم، لا لينام مستروحًا في ظلها ينتظر إيقاع العذاب بأهل نينوى ليتشفى فيهم كما يقص عليك الكاتب في العهد القديم، فقد صنع لنفسه من قبل مظلة يتظلل تحتها كما يروى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/192]
الكاتب. وإنما احتاج الكاتب إلى هذا بعد أن خلط في أحداث القصة، وفاته درس الحوت الذي استنفده في عقاب يونس على رفضه الرسالة إلى نينوى – وهو محال في جنب رسل الله كما مر بك – فافتعل من عنده «درس اليقطينة» التي فرح بها يونان فرحا شديدًا لا تدري لماذا، ثم أماتها في ليلة فحزن لموتها يونان أيضًا حزنًا شديدًا، بل واغتاظ لموتها حتى طلب لنفسه الموت، وأنت الذي تغيظك هذه المبالغات والتهاويل، كي يقول له الله في النهاية مسكنا غيظه على اليقطينة التي أحبها حتى الموت إنه أقمن بالشفقة على عباده، مائة وعشرين ألف خلق من خلقه صنعهم بيديه، عدا بهائم كثيرة في المدينة، وكأنه عز وجل – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا – يعتذر لنبيه عن إشفاقه على أهل نينوى، الذين رحمهم لكثرتهم لا لتوبتهم. فأين درس اليقطينة في هذا السفر من درس الحوت في القرآن؟ بل ما الحكمة من إرسال الرسل إذا كان الله يرحم العصاة في هذه الدنيا من أجل كثرتهم فلا يهلكهم بذنوبهم؟ بل هذا هو ما قاله يونان لله في ذلك السفر يبرر بها نكوله عن تلقي الرسالة إلى نينوى حين نكل، وكأنما يعاتبُ اللهَ بها، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا: «آه يا رب! أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي؟ لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش، لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم وبطيئ الغضب وكثير الرحمة ونادمٌ على الشر. فالآن يا رب خذ نفسي مني لأن موتي خيرٌ من حياتي» (يونان 4/ 2 – 3) يعني أن يونان لم يُخطيء في فراره من تلك الرسالة لأنها عَبَثٌ في عبث، فسيرحم الله في النهاية، كما كان عبثًا في عبث حبسه في الحوت. ولكنك لا تتوقف لتناقش يونان في هذا القول الذي قاله، فلا يقول نبيٌ هذا الكلام، والذي في السفر من هذا وأمثاله لا يدخل في وحي الله على رسله، وإنما هو عبث انساق إليه قلم الكاتب.
أما قصة يونس في القرآن، فتجد مجملها في قوله عز وجل: {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} [الصافات: 139 – 148]. والإمتاع في اللغة هو الاستبقاء، أي آمنوا فأبقينا عليم ولم نهلكهم، فالإيمان يجب ما قبله كما قال الصادق المصدوق
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/193]
صلى الله عليه وسلم لمن شَرَطَ عليه العفو عما سلف من ذنوبه قبل إسلامه فقال له: الإسلام يجب ما قبله، أي يسقطه، ولكن غلب «التمتع» في التنعم، وكلاهما «مراد» في الآية. أما «فمتعناهم إلى حين» فهي من إعجاز القرآن، لأن نينوى ضلت وأفسدت من بعد، فأرسل الله عليها البابليين فاستأصلوا شأفتها، مثلما بعثهم الله على بني إسرائيل بعد هذا ببضع سنين فدمروا أورشليم على أهلها.
وربما قيل لك: فماذا تقول في هذا السرد الذي في سورة الصافات الذي يفهم منه أن مجيء يونس إلى «مائة ألف أو يزيدون» - أي إلى أهل نينوى – قد كان بنص القرآن بعد انتباذ الحوت إياه «بالعراء وهو سقيم»: {فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 142 – 147]، قد التقمه الحوت إذن قبل أن يصدع بأمر الله فيذهب إلى نينوى منذرًا متوعدًا، تماما كما في سفر يونان، فماذا تقول في هذا؟ الرد بسيط. هذا المعترض يغفل مفتتح الآيات الإحدى عشرة من سورة الصافات التي تقص بعثة يونس، وهي: «وإن يونس لمن المرسلين»، ثم يستطرد النسق القرآني المعجز إلى ما كان من أمر يونس حين «أبق»، ليعود فيقص عليك ما كان من شأن القوم الذي كان يونس رسولا إليهم قبل إباقه: كانوا مائة ألف أو يزيدون، وكأنه يرد على تساؤلك: إذا كان يونس من المرسلين، فإلى من أرسل يونس؟ إلى مائة ألف أو يزيدون! ثم ينتهي السرد المعجز لينبئك بمصير المرسل إليهم: آمنوا بيونس فمتعهم الله إلى حين: كي تظل هذه الحكمة واقرة في أذنك، لأنها الحكمة المقصودة من قصة يونس، كي تقارن مصير من كفر من الأمم بمصير من آمن. أما درس الحوت فهو موعظة للأنبياء من بعد يونس، لا لك أنت، فليس لك في هذا نصيب. وقد كان خاتمُ النبيين في قومه أرفق النبيين، لا يستعجل لهم قط العذاب، وقد لقى منهم أشد ما لقى نبي من قومه، فلا يزيد على أن يقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». رغم هذا فقد وعظ خاتم النبيين بموعظة يونس: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت} [القلم: 48].
كانت هذه بالضبط ملامَة يونس: لم يصبر لحكم ربه، أي شق عليه قضاء الله في قومه برفع العذاب عنهم، فذهب مغاضبًا وأبق إلى الفلك المشحون، وقلما يقال
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/194]
«أبق» في العربية إلا في العبد الآبق من مولاه، وكان يونس هو هذا العبد الآبق من عفو الله عن قومه فضيق الله عليه في ظلمات البحر والحوت، حتى فهم الدرس، ثم أعاده إلى قومه هاديًا مرشدًا، يرجو لهم الرحمة ولا يطلب لهم الضيقة، فقد ضيق الله عليه من قبل في بطن الحوت: {إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48].
والذي يجب أن تعلمه هو أن «يونا» اسم نبي الله يونس عليه السلام في العبرية يعني بذات لفظه العبري أيضًا «الذي ظلم ولم يعدل» (إي صدق «عبريا) التي جانس عليها القرآن قول يونس: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]، أي ما أنصف يونس في إباقه من رحمة ربه، يفسر بها أحد معنيي هذا الاسم العبراني «يونا»، كما سترى، وسبحان العليم الخبير.
لفظة «يونا» في المعجم العبري معناها «الحمامة» الطائر المعروف. وعلماء التوراة على أن الاسم العبراني العلم «يونا» (يعني يونس) من هذا: يونس = حمامة.
والذي يجب أن تعلمه أن هذا الاسم العلم «يونا» اسم لم يتسم به قبل يونس أحد قط من أعلام التوراة، فهو اسم غير مسبوق، وكأنه موضوع له بالذات فشا من بعد في بني قومه نسبة إليه، كما رأيت من قبل في يوسف وموسى وهرون.
أما الذي لا نعلمه أنا وأنت وعلماء العبرية وعلماء التوراة، فهو المعنى الذي قصده متى أبو يونس (وأصل «متى» هو «أمتاي» يعني عبريًا «الأمين» قائل الصدق من «إمت» العبرية بمعنى الأمانة والحق والحقيقة) من تسمية ابنه «يونا»: هل أراد معنى «الحمامة» أم أراد معنى آخر من هذا اللفظ «يونا»، يتطابق رسما ونطقا في الخط العبراني مع لفظ «يونا» بمعنى «حمامة»؟
لستُ في هذا جادًا بالطبع، ولكني أقرب لك المعنى الذي أريد أن أصل بك إليه: الوزن «يونا» وأمثاله في العبرية (المختوم بهاء خاملة لا عمل لها إلا إشباع المد بالفتح قبلها) هو زنة الفاعل على التأنيث، ولئن جاز في العلم المذكر التسمية بالمؤنث، فهو المؤنث اللفظي لا المعنوي، فتسمى ابنك مثلاً «حمامة» أو «نخلة» أو «شمس»، لا تنعته بمؤنث، وإنما تنظر إلى صفات الحمامة أو النخلة أو الشمس، على التشبيه،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/195]
ولكن لا يجوز لك قط تسمية المذكر بنعت مؤنث، فتسمي ابنك مثلاً «جميل»، ولا تسميه قط «جميلة». وليست في العبرية قط نعت يطابق «يونا» في الرسم والنطق ويغايره في المعنى، إلا النعت المؤنث «يونا» يعني «ظالمة»، ومنه «عير يونا»، يعني «قرية ظالمة» كالتي بعث فيها يونس، وبعث في مثلها الأنبياء من قبله.
لا يصح إذن في معنى العلم العبراني المذكر «يونا» إلا معنى واحد هو «حمامة».
ولكن القرآن المعجز، الأفقه بالعبرية من أهلها، ينظر إلى المعنى الآخر الذي في النعت المؤنث «يونا»، اسم الفاعل المؤنث من الجذر العبري «يناج، أي «الظالمة» حين جانس على اسم «يونس»، «الحمامة التي ظلمت»، مشيرًا إلى إباق يونس حين أبق: {إلا من ظلم ثم بدل حسنا من بعد سوء فإني غفور رحيم} [النمل: 11]، وأيضًا في قول يونس وقد أقر بظلمه في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]، التي تترجمها إلى العبرانية هكذا: كي مي يونيم أنى.
كفاك بهذا إعجازًا في فقه العبرية دونه كل إعجاز، وسبحان الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 185-196]


رد مع اقتباس
  #66  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:06 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(49) أيوب:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: (
(49) أيوب
ليس «أيوب» عند بني إسرائيل بنبي، بل هو عندهم من الرؤساء الصديقين. تجد هذا في مفتتح «سفر أيوب» بالعهد القديم «كان رجل في أرض عوص اسمه أيوب. وكان هذا الرجل كاملاً ومستقيمًا، يتقي الله ويحيد عن الشر. وولد له سبعة بنين وثلاث بنات. وكانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم وثلاثة آلاف جمل وخمس مائة فدان بقر وخمس أتان وخدمه كثيرين جدًا. فكان هذا الرجل أعظم كل بني المشرق» (أيوب 1/ 1 – 3) ثم يطنب الكاتب في غنى أيوب وتقواه، ثم ينزلق به القلم كما انزلق من قبل بأخيه الذي في سفر التكوين، فيصطنع أساليب قصاص اليونان في خرافات آلهة الأولمب، ويقول: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام البر، وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم، فقال الرب للشيطان من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في الأرض والتمشي فيها، فقال الرب للشيطان هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض، رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر» (أيوب 1/ 6 -9)، وكأن الله يفاخر الشيطان بعبده أيوب. ويرد الشيطان بأن استقامة أيوب وتقواه ليستا من ذات نفسه، فقد أغناه الله وحفظه وبارك عمل يديه، ولو شدد الله عليه، وأزال نعمته وامتحنه في أهله، لسخط على خالقه، ويصاب أيوب في ماله وولده جميعًا، ولكن أيوب يصبر ويحتسب: «عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا ثم أعود. الرب أعطى والرب أخذ
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/197]
تبارك اسم الرب!» (أيوب 1/ 21). ويعود الله فيفاخر الشيطان بعبده أيوب الذي امتحن بكل هذا فصمد للامتحان ولم يكفر. ولكن الشيطان لا ييأس، بل يستأذن الرب في إيقاع الأذى بأيوب في جسده: «ولكن أبسط الآن يدك ومس عظمه ولحمه فإنه في وجهك يجدف عليك. فقال الرب للشيطان ها هو في يدك. ولكن احفظ نفسه. فخرج الشيطان من عند الرب وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته، فأخذ لنفسه شفقة ليحتك بها وهو جالس في وسط الرماد. فقالت له امرأته أنت متمسك بعد بكمالك؟ بارك الله ومت! فقال لها تتكلمين كلاما كإحدى الجاهلات؟ أنقبل الخير من عند الله ولا نقبل الشر» (أيوب 2/ 5 – 10). ويسمع ببلاءات أيوب أصحابه فيجيئون لزيارته ويهولهم ما هو فيه، كما يهولهم أيضًا صبره واحتسابه، ولكن أيوب في تصابره يبدو لهم وكأنه يفاخر الله بصبره، ويذكر الله بأنه لا إثم فيه ولا ذنب حتى ينزل به كل هذا العذاب، فيذكرونه بأن الله يفعل ما يشاء، ويحاورهم ويحاورونه بحوار يطنب فيه الكاتب، يتفاوت متانة وعمقًا وجزالة، وترتفع المأساة إلى الذروة حين يطل الله على أيوب من السحاب، يعلمه الحكمة. وأخيرًا يرفع الله البلاء عن عبده أيوب، ويرد عليه ما أخذ منه ومثله معه.
وقد ذهب بعض المفسرين، وذهب معهم أيضًا باحثون وكتاب، إلى أن أيوب رجلٌ عربي. استدلوا على هذا بأن اسمه «أيوب» مشتق من الأوب والتوب، فهو التائب الآيب على المبالغة.
والصحيح أنه ليس نبي عربي من نسل إبراهيم إلا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما مر بك. والعربية التي نعنيها هنا هي عربية اللسان، أعني عربية القرآن، فإسماعيل نفسه بهذا المعيار ليس بعربي، دليلك في هذا اسمه: يشمع إيل، العبراني، أي «سمع الله» أو «سميع هو الله» على ما مر بك في موضعه. بل أيوب عليه السلام من بني إسرائيل، شأنه شأن يونس وشأن الأنبياء من بعد داود وسليمان، أعني من الأسباط أبناء يعقوب، بدليل حرص اليهود على إدراج سفر أيوب ضمن أسفار توراة الأنبياء والكتبة (يعضونه في النص العبراني بين أسفار الكتبة لا الأنبياء). أما دليلك من القرآن على أن أيوب من ذرية الأسباط بني يعقوب أي بني إسرائيل، فهو
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/198]
النص في القرآن على أنه من ذريتهم، {وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 163 – 164]، ولا مبرر لاستبعاد أيوب وحده من زمرة أنبياء من نسل الأسباط بلا خلاف ذكروا معا في نفس الآية.
أما أن أيوب عليه السلام نبي بنص القرآن، على خلاف قول أهل الكتاب فيه، فلورود اسمه في لفيف من الأنبياء ختم الحديث عنهم بقوله عز وجل: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}[الأنعام: 89 – 90].
على أن «أيوب» ليست اسمًا عربيًا من الأوب والتوب كما ظن مفسرون وباحثون وكتاب. فهو ممنوع من الصرف في كل القرآن لا لعلة إلا العجمة، ولو كانت «أيوب» عربية من الإياب والأوب، على مثال «قيوم» وأمثالها، لصرفت.
وقد أماتت العبرية الجذر العربي «آب/ يؤوب»، واستعاضت عنه بمقلوبه العربي «باء/ يبوء». فليست «أيوب» عبرانيًا بهذا المعنى الذي ظنه المفسرون والباحثون. وإنما معنى «أيوب» - وتنطق في العبرية «إيوب» مكسورة الهمزة البادئة مشددة الياء مع إشباع المد بالضم لا بالواو – معنى آخر، بعيد كل البعد عن الإياب والأوب. وقد علم القرآن هذا المعنى الآخر ففسر به اسم «أيوب» كما سترى. وسبحان العليم الخبير.
في العبرانية الجذر «أيب/ يئيب» ، وهول يس «آب/ يؤوب» العربي، ولكنه مبدل من مادة «ويب» العربية التي أميت فعلها في العربية وبقى منه اسم الفعل فقط، أي «الويب» بمعنى «الويل»، يعني حلول البلاء والشر. تقول منه في العربية: ويب له! تريد: ويل له! لا فرق بينهما، ولكنها نادرة الآن، لا تعثر عليها إلا في المعاجم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/199]
أما الفعل «أيب» العبري فهو حي في العبرية إلى الآن، ومعناه «شنأه»، «كرهه)، «أبغضه»، وأيضًا «ضاده» يعني كان له «ضدا»، أي عدوًا مناوئا، واسم الفاعل من هذا الفعل العبراني «أي» (بمد الكسر في الياء) يعني الشانئ المناوئ العدو، واسم المفعول منه: «أيوب» (بتخفيف الياء لا بتشديدها) يعني المكروه البغيض.
ومن المعاجم الإنجليزية من فطن إلى هذا المعنى، فقال في ترجمة «أيوب» Loath يعني البغيض المقيت.
وعلماء التوراة، وأيضًا علماء العبرية، يرون أن الاسم العبراني «إيوب» (بكسر الهمزة وتشديد الياء ممدودة بالضم لا بالواو كما نطقت «جيوم» Guillaume الفرنسية) مأخوذ من هذه المادة العبرية «أيب»، على المضعف المشدد (فعل العبري وهو فعل العربي)، فهو عندهم على زنة «فعول» العبري (الذي يكافئ «فعيل» العربي» والأصل فيه الدلالة على الفاعل، ولكنه في اسم «أيوب» جاء على الندرة بمعنى المفعول المشدد من «أيب» العبري، فهو البغيض الكريه المكروه، المشنوء المناوأ. أما إن استحييت مادة «الويب» العربية بمعنى الويل فهو – كما نقول نحن – الذي شدد الويب عليه.
أما المعجم العبري الآرامي لألفاظ التوراة (وهو من مراجع هذا الكتاب) وهو موضوع بالإنجليزية كما مر بك، الذي يمثل وجهة نظر علماء التوراة، فهو يترجم «إيوب» العبرية إلى الإنجليزية بلفظة Persecuted يعني المضهود المضطهد. وقد جاءهم هذا الفهم من تغليبهم معنى العداوة على معنى الكراهة اللذين في «أيب» العبري، ففهموا «إيوب» بمعنى الذي ضايقه عدوه وشدد عليه، ربما لأنهم يقرءون في سفر أيوب أن الشيطان (ساطان العبري) ومعناها «العدو» كما مر بك، هو الذي أ،زل بأيوب عذاباته، فهو المضهود من عدوه، أي من الشيطان. ولا باس بهذا بالطبع، ولكنه يحوم حول المعنى ولا يصيبه في صميمه. فأنت تعلم أن لفظة To Persecute الإنجليزية تُفيد في أصل معناها «الملاحقة» بالتشديد والتضييق والضر والأذى. ولكن المنظور إليه في «أيب» العبري ليس هو «الملاحقة» بالذات، وإنما هذا الضر والأذى.
صحيح أن العداوة من الكراهة قريب، لأن العدو شانئ مبغض. ولكن التأصيل اللغوي لا يصح على التقريب، وإنما يصح بالمرادف الدقيق. والذي يدلك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/200]
على أن «أيب» العبري أصله من «ويب» العربي بمعنى الويل والضر والمكروه، أن المعجم العبري/ عبري «هملون هحداش لتناخ»، يعني «المعجم الحديث لألفاظ توراة الأنبياء والكتبة»، وهو من مراجعنا المتخصصة في هذا الكتاب الذي نكتب، يشرح مادة «صرر» (بمعنى الضر والضرر، أبدلت العبرية من ضادها صادًا لانعدام الضاد في العبرية) فيقول إن «صار» (ضار العربية) اسم الفاعل من «صرر» العبري هي «أويب» فاعل «أيب» العبري، وهذا يدلك بشهادة شاهد من أهلها على أن «أيب» العبري يجيء بمعنى الضر والأذى وإيقاع الشر أي «المكروه»، فهو الضرير المتأذى. وهذا هو أصل معنى مادة «ويب» العربية.
من هنا تقول آمنا جازما مطمئنًا أن «إيوب» العبرية، اسم نبي الله أيوب عليه السلام معناها الضرير المضرور الذي «ويب»، أي شدد «الويب» عليه.
أما القرآن المعجز فقد علم هذا كله قبل أن يعلمه غيره، ففسر اسم «أيوب» بالمرادف الدقيق في قوله عز وجل: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} [الأنبياء: 83 – 84]. ولا يفوت القرآن وهو يفسر معنى هذا الاسم تقريظ «صبر أيوب» إمام المبتلين، فيعقب في الآية التالية مباشرة بقوله عز وجل: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء: 85]، يجعل لأيوب كفلاً من الصبر مع هؤلاء الذين صبروا مثله ولم يجزعوا، وحسبك صبر إسماعيل في البلاء المبين. وسبحان العليم الحكيم.
ولا يفوتنا نحن في سياق تفسير هذا العلم الأعجمي أيوب، التنبيه مرة أخرى إلى خطورة التعجل في تفسير هذه الأعلام من القرآن بالقرآن – على منهجنا في هذا الكتاب الذي نكتب – بقرينتي التشابه والتجاور فقط، فتقول مثلاً أن «أيوب» من «الأوب»، تقتنصها دون تحرز من قوله عز وجل في أيوب: {نم العبد إنه أواب} [ص: 44]، فتظن متعجلاً دون تثبت أن المراد هنا هو تفسير اسم أيوب بأنه «أواب»،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/201]
وتعتقد أن اسم «أيوب» مفسر في القرآن بالتعريب، لأن الأيوب والأواب في العربية واحد، زنتا مبالغة من «آب/ يؤوب». ولا يصح هذا، لأن سليمان أيضًا وصف في نفس السورة بذات العبارة: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب} [ص: 30]، وليست «سليمان» هي «أيوب» بالطبع. شرط التصدي للتفسير بالقرآن من القرآن في العلم الأعجمي هو أولاً استقصاء معنى الاسم العجمي في لغة صاحب الاسم العلم، ثم تمضي مستعينًا بهداية الله وتوفيقه في تلمس اللفظ أو العبارة اللذين يفسر بهما القرآن معنى هذا الاسم، فلا يصح في القرآن لمسلم أن يكون هجامًا.
اللهم ارزقنا الصواب واجنبنا الزلل، وباعد بيننا وبين اللغو في كتابك الكريم. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. اللهم قد أحسنت فيما مضى، فأحسن لي فيما بقى، لك وحدك الفضل والمن. ومنك وبك التوفيق).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 197-202]


رد مع اقتباس
  #67  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:07 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(50) عزير:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: (
(50) عزير
ورد الاسم «عزير» مرة واحدة في القرآن في قوله عز وجل: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30]. وتقرأ «عزير» بالتنوين في قراءة عاصم، التي نقرأ بها في مصر، وتقرأ أيضًا ممنوعة من الصرف في غيرها لا لعلة العجمة فحسب وإنما أيضًا إرادة اختلاس الهمزة في «ابن» فتنطقها: عزيرين، كما تنطق: عمر بن الخطاب على سبيل المثال، تدغم هذا في ذاك، فيسمع منك: عمربنلخطاب. والرأي عندي – لا تعصبًا فالتعصب ممقوت – أن قراءة عاصم التي نقرأ بها في مصر أفصح وأبين، لأنها تجعل عبارتي «عزيز ابن»، «المسيح ابن» على المبتدأ والخبر في قولي اليهود والنصارى، لا على البدل، والخبر يصدق ويكذب، أما البدل فهو إثبات محض، كما تقول عمر بن الخطاب، تنبئ سامعك بأن عمر، الذي هو ابن الخطاب، قال كذا وكذا أو فعل كذا وكذا، عالمًا أن سامعك يتفق معك في أن عمر هو ابن الخطاب. والقرآن بالطبع لا يتفق مع هذا القائل، وإنما يستنكر مقولته ويندد بها، فيقول {قاتلهم الله أنى يؤفكون}، أي ما لهم يلبس عليهم هذا الإفك، أي هذا الكذب. وقراءة عاصم كما ترى أقمن باستبعاد هذه الشبهة. على أن تنوين الأعجمي الذي يخف وزنه، مثل «عزير»، مسموع في العربية غير منكور.
وهذه الآية كما ترى من إعجاز القرآن. فهو ينبك بأن مقولة النصارى في بنوة المسيح لله ليست بدعًا ابتدعوه، وليست أيضًا «كشفا» كشف لهم عنه في الأناجيل التي بين يديك كما قالوا من بعد في تبرير الانتقاض على توراة موسى عليه السلام المتشددة في توحيد الواحد الأحد، وإما هم في هذه المقولة مسبوقون، سبقهم بها كتبة العهد القديم، الذين تبذلوا وترخصوا فقالوا كما مر بك إن الملائكة أبناء الله، وإن آدم ابن الله (التي نقلها عنهم لوقا في إنجيله)، حتى رخص القول وابتذل، فلم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/203]
يستنكف بعض اليهود أن يخلعوا على عزير المسمى في القرآن لقب «ابن الله» فيما يحكي القرآن عنهم. ربما قالوها تعظيمًا وتبجيلاً لا يدرون مغبتها فيمن جاء بعدهم، ولكنهما التعظيم والتبجيل المؤذنان بالسقوط في هاوية الكفر والهلكة.
بل ينبئك القرآن المعجز بأن اليهود والنصارى أيضًا، أي كلتا الملتين معًا، مسبوقتان بمقولتيهما هاتين، فهما تضاهئان مقولة قوم قد كفروا من قبل، ولا يقول القرآن المعجز هذا إلا وهو يعلم ما يقول. وقد ظن مفسرو القرآن الأوائل (راجع تفسير القرطبي للآية 30 من سورة التوبة) أن المعنى بالذين «كفروا من قبل» هم كفار قريش في قولهم أن الملائكة بنات الله، وأن اللات والعزى ومناة بنات الله، ولا يصح هذا لأن اليهود والنصارى لا يُضاهئون مشركي قريش، وإنما يضاهئون بالذات (أليهود أولا والنصارى من بعد) شرك المصريين، الذين أضاعوا عقيدة التوحيد الخالص قبل عصر التاريخ المدون واستبدلوا بها خرافات الكهنة، وخيالات الفلاسفة الذين كان آخرهم «أفلطوين» المصري الأسيوطي (وهو من أعلام القرن الثالث الميلادي) صاحب نظرية الفيض والانبثاق عن الذات الإلهية، وأيضًا تهاويل الأساطير، يكفيك منها أسطورة إيزيس وأوزوريس، التي تلمح الكثير من ظلالها في عقيدة التثليث. ويكفيك أيضًا أن أول من أصل هذه البنوة على مبادئ فلسفة «أفلوطين» المصري الأسيوطي، مصري آخر من الإسكندرية، هو أسقفها «أثناسيوس»، قال بها وناضل عنها حتى استصدر بها في مجمع نيقية عام 325م مرسومًا من القيصر البيزنطي «قسطنطين»، يؤله المسيح على البنوة لله بعد ثلاثة قرون من رفع المسيح. نعم، قد كان مولد المسيح عليه السلام بغير أب معجزة كبرى، ولكنها معجزة لله عز وجل لا للمسيح، شأنها شأن خلق آدم من تراب، لا أب لآدم ولا أم. بل هما معا دون خلق السموات والأرض: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57]. وأنت تعلم بيقين أن الله عز وجل هو صانع هذا الميلاد الإعجازي، فتعظم الفاعل ولا تعظم المفعول. إنه آية من آيات الله عز وجل يضربها للناس ليعرفوه بها ويعظموه، لا ليعظموا غيره وصنع يده: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43]. وكأنما كان عليه السلام يتنبأ بما سيقال من بعده فقال في الأناجيل التي بين يديك، يُناجي ربه وقد دنت ساعة رحيله عن هذا العالم: «وهذه هي الحياةُ الأبدية، أن يعرفوك، أنت الإله الحقيقي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/204]
وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يوحنا: 17/ 3)، يريد بالحياة الأبدية الحياة الآخرة، لا نصيب فيها لأحد ممن أرسل إليهم إلا من آمن بالإله الواحد، الإله الحقيقي وحده، وبيسوع المسيح رسولاً منه لا ابن. ولا تظن أن المسيح في الكتاب المقدس هو وحده المرفوع إلى السماء حيًا، فقد سبقه بها «إيليا» أي إلياس (الملوك الثاني 2/ 11 – 12)، ولا تحسب أيضًا أن المسيح في الكتاب المقدس هو وحده الذي أحيا الميت، فقد سبقه بها «اليشع» أي اليسع (الملوك الثاني 4/ 17 – 37)، ولكن اليهود لم يؤلهوا إيليا ولم يؤلهوا اليشع.
ولا تحسب أيضًا أن المصريين انفردوا بأساطير البنوة لله، فهذا قديم في خرافات من أشرك، قالت به عقائد الهند، وتغنت به أساطير الأولمب، وغير هذين في شرك الأقدمين كثير. ولا يقال لك أن القدم أصالة، فالوسواس الخناس أيضًا قديم. وإنما تأصل هذا القول عند من ابتدعه على تلك المناكحة بين السماء والأرض لاستيلاد الخلق، على مثال المطر والزرع، وهو قول شعراء يتبعهم الغاوون، فالماء من صميم مادة هذه الأرض، من الأرض يخرج وإلى الأرض يعود. إن قلت كما يقول البعض إن قدم التثليث والبنوة لله وشيوعهما في عقائد الأقدمين إرهاص بالتثليث المسيحي ودليل على صحته، فقد قلت شططًا كمسيحي، لأنك تعدد أبناء الله، فلكل عقيدة من تلك العقائد ابن، فلا يعود المسيح ابن الله الوحيد في قول من قال.
هؤلاء وأولئك – آباء هذه المقولة في أمم قد خلت من قبل – هم الذين يعنيهم القرآن بقوله: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} [التوبة: 30]. وسبحان العليم الخبير، فما عرف الناس هذا إلا في هذا العصر، بعد تأسيس علم مقارنة الأديان.
أما «عزير» المسمى في القرآن فليس في العهد القديم الذي بين يديك «عزير» ادعى عليه اليهود تلك البنوة لله، أو لقبوه بها على مجرد التعظيم والتبجيل. وإنما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/205]
الصحيح الذي نرجحه أن القرآن يحكي هاهنا مقولةَ يهود غير مسطورة في أسفار العهد القديم الذي بين يديك، تناقلها اليهودُ بعد عودتهم من سبى بابل، وربما لهج بها يهود في مكة أو يثرب، بدليل أنهم لمي نكروا على القرآن قوله هذا في قومهم، بل تواروا من هذه المقولة خجلاً، فموسى بلا شك عندهم بهذه المقولة أولى من هذا العزير المسمى في القرآن. أما وفد نصارى نجران فقد جاهروا بمقولتهم في المسيح وجادلوا بها خاتم النبيين في مسجده صلى الله عليه وسلم، لأن مقولتهم هذه هي صلب عقيدتهم، لو تراجعوا فيها قيد أنملة لما بقي لهم عذر في البقاء على مسيحيتهم، ولدخلوا في دين الله أفواجا، شأن الكثرة الكاثرة من أقباط مصر، والجم الغفير من نصارى الشام. أما نجران وتغلب وأضرابهما من العرب فقد قصرت بهم قبليتهم.
ولكن الذي نعني به في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب هو «عزير» نفسه، لا مقولة بعض اليهود فيه. الذي نعني به هو معنى اسمه، ومن يكون في أعلام بني إسرائيل.
«عزير» من بني إسرائيل بلا شك، لقوله عز وجل: {وقالت اليهود عزير ابن الله}، فهو منهم. وهذا الاسم حين ترده إلى أصله العبري، يجيء من الجذر العبري «عزر» المشترك في العبرية والآرامية والعربية على معنى العون والتأييد والنصرة. والقرآن لا يستخدم «عزر» إلا في هذا المعنى وحده. أما «عزره» بمعنى «لامه»، ومنه يجيء التعزير بمعنى التأديب أو العقاب بما دون الحد في اصطلاح الفقهاء، فليس في الجذر «عزر» العبري من هذا شيء، وإنما هو فقط بمعنى نصره وأيده وأعانه، تمامًا كما في صنوه العربي المضعف «عزر» الذي تجده في قوله عز وجل: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبوحه بكرة وأصيلا} [الفتح: 8 – 9].
واسم الفعل في العبرية من هذه المادة، يعني العون والتأييد والنصر والنصرة، له صورتان: «عزر» (بكسرتين متتابعتين)، «عزرا» بكسر فسكون فراء ممدودة بالألف). أما اسم الفاعل منه، أي العازر الناصر المؤيد المعين، فهو «عزير» التي تشبه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/206]
«عزير» التي في القرآن، ولكنها لا تنطق مثلها على زنة التصغير العربية «فُعَيْل» مثل «عُمَيْر» مصغر عمرو، «عبيد» مصغر عبد، وإنما تنطق ياؤها على الإمالة مكسورة الزاي قبلها، كما لو نطقت «زيد» العامية تريد «زيد» الفصحى، الاسمُ العَلَم.
وليس في أعلام العهد القديم من تسمى باسم الفاعل من «عزر» العبري، أي باسم «عزير» هذه الممالة الياء المكسورة الزاي. فلا يقال أن القرآن عرب «عزير» هذه على «عزير» مفتوحة الزاي ساكنة الياء، زنة العربية «فعيل» مثل عمير وعبيد، كما وهم المستشرقون المنكرون على القرآن، الذين تفكهوا في هذا المقام سخرية من «عزير» الذي في القرآن لمجيئه على زنة التصغير العربية، التي أولها بها العرب حتى قالوا في تصغير فرعون: فرى! وإنما الذي في أعلام العهد القديم من مادة «عزر» العبري الثلاثي المجرد هو «عزر»، «عزرا» تسمية بالمصدر واسم الفعل من «عزر»، أي «العزر» بمعنى النصر والنصرة.
ولكنك لا تحتاج إلى تقصي كافة من تسموا في العهد القديم بهذين الاسمين «عزر عزرا»، كي تقع على أيهم «عزير» المعنى في القرآن، فليس فيهم جميعًا نابه الذكر غير خامل، إلا علم واحد، هو «عزرا» صاحب السفر المعنون باسمه في العهد القديم، من أعلام القرن الخامس قبل الميلاد، كاتب شريعة الله، الذي قاد مسيرة اليهود في عودتهم إلى أورشليم من سبى بابل. والمروي عنه في مأثورات اليهود التي نقلها عنهم مفسرو القرآن الأوائل (راجع تفسير القرطبي للآية 30 من سورة التوبة) أنه كان أحفظ الناس لتوراة موسى، يتلُوها عن ظهر قلب أيام سبيهم في بابل، ويستنسخها من الذاكرة، فلما عاد إلى أورشليم وطابقوا كتابته على نسخة عثروا عليها تحت أطلال هيكل سليمان الذي خربه البابليون من قبل، وجدوا كتابته مطابقة لتلك النسخة حرفًا بحرف، فقيل «عزير ابن الله».
ولئن كان الأصل في معنى الاسم العلم «عزرا» أنه تسمية بالمصدر لا باسم الفاعل، أعني أنه بمعنى «نصر» لا بمعنى «ناصر»، فإن علماء التوراة يقولون لك إن المراد من التسمية ليس المصدر وإنما اسم الفاعل، فهو «عزر» بمعنى «عازر»، أي أنه عبريًا «عزرا» بمعنى «عزير» (المعربة على «عزير» في القرآن).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/207]
وقد مر بك من قبل أن القرن الخامس قبل الميلاد (قرن «عزرا» الكاتب) شهد غلبة الآرامية في ربوع فلسطين على عبرية التوراة، حتى كان جزء لا يستهان به من سفر عزرا هذا نفسه مكتوبًا بهذه الآرامية التي بات يتكلمها الناس، وحتى انبهمت توراة موسى على المتعبدين بها في نصها العبراني فلا يفهمون ما يُتْلَى عليهم حتى يفسره لهم اللاويون والكتبة. وقد كان هذا بتأثير السبى في بابل حيث الآرامية لغة الحديث والكتابة، يعني لغة السادة. وما عاد سبى بابل إلى أورشليم بقيادة عزرا الكاتب إلا وقد رانت على ألسنتهم جميعًا رطانة آرامية، ولم يأت القرن الثالث قبل الميلاد حتى بات عامة إسرائيل آراميي اللسان، فتقطع جازمًا آمنا مطمئنًا بأن هذه الآرامية قد كانت هي لغة المسيح ولغة إنجيله ولغة حوارييه وليس عبرية التوراة. وهذا يفسر لك فساد تلاوة الناس من أسفار هذه التوراة غير المضبوطة بالشكل والنقط، حتى جاء أمثال جماعة أهل الأثر (بعلى ماسورا) منذ القرن الثاني لميلاد المسيح يحاولون ضبطها بالشكل والنقط بعد أن فسدت ألسنة الناس. وهو يفسر لك أيضًا استغراق هذه المحاولة ثمانية قرون كاملة حتى تمت في القرن العاشر الميلادي، لا لسبب بالطبع إلا اختلاف الناس عليهم، يعني لم يكن على «قراءتهم» إجماع، حتى كُتِبَ لهم النصرُ أخيرًا على منتقديهم فصارت لقراءتهم السيادة على ما عداها.
والذي يعنينا هنا من هذا كله هو أن اسم «عزرا» هذا العائد من سبى بابل، تأثر بدوره بهذه الآرامية التي فشت على ألسنة الناس وأقلامهم، فهو مختوم في الرسم بألف مد، لا بتلك الهاء الخاملة «العبرانية» التي ختم بها «عزرا» آخر، صنوه في المعنى، أي على المصدرية من الجذر العبري: «عزر». هذه الصورة «الآرامية» المرسوم بها اسم «عزرا» الكاتب المعنى، ربما توحي لك بآرامية العلم التوراتي الذي عاش مع سبى اليهود في بابل يتلو عليهم من توراة موسى ويفسر لهم باللسان الآرامي ما يغمض عليهم، أعني أن اسمه اتخذ في السبى صورة آرامية.
وقد مر بك أن أداة التعريف في الآرامية هي «ألف مد» يختم بها الاسم ولا تبدؤه وكأنها ألف المنصوب في العربية. فتقول الآرامية «ملكا» تعني «الملك»، وتقول «كاتبا» تريد «الكاتب»، وتقول أيضًا «عازرا» (دون تنوين بالطبع في هذا كله) تعني «العازر» اسم الفاعل في الآرامية من «عزر»، فهو عربيًا العازر الناصر، لا العزر والنصر. والذي يجب أن تعلمه هو أن الرسم «عزرا» لا يفهم آراميًا إلا على معنى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/208]
اسم الفاعل مزيدًا بأداة التعريف الآرامية (أي بألف المد في آخره)، ولا يفهم آراميًا على المصدرية من «عزر» الآرامية، لأن مصادر الثلاثي المجرد في الآرامية تجيء على زنة «مِفْعال».
وقد مر بك أن جماعة «بعلى ماسورا» في ضبطهم نطق أسفار التوراة (أعني العهد القديم) بالشكل والنقط، ما كان لهم من سلطان على «أحرف» هذا النص المقدس، فما كان لهم بالطبع تغيير ألف المد في اسم «عزرا» الكاتب إلى الهاء الخاملة العبرانية، لأن عملهم كما تعلم اقتصر على «التشكيل» فقط. ولم يكن التشكيل عشوائيًا بالطبع، بل هو متأثرٌ بأستاذيتهم في عبرية التوراة، ينقونها مما علق بها من شوائب تلك الآرامية التي لحن بها الناس في قراءتهم النص المقدس. ومن هنا لا تحيل عليهم أن يجانسوا ضبط اسم «عزرا» الكاتب المختوم بألف المد الآرامية على صنوه، «عزرا» الآخر المختوم بالهاء الخاملة العبرانية، فيئول نطق «عازرا» (ويرسم في الخط العبري – الآرامي بغير ألف بعد العين أي «عَزِرا») إلى نفس نطق سميه «عزرا» الآخر المختوم بالهاء الخاملة العبرانية، فيظن أنهما واحد في المعنى. وهذا يفسر لك لماذا استجاز علماء التوراة فهم معنى اسم «عزرا» هذا وسميه الآخر، على معنى اسم الفاعل من «عزر»، لا على المصدرية منه.
أيُّما صح هذا أو ذاك – أعني آرامية اسم «عزرا» الكاتب أو عبرانيته – فالراجح عندي أن القرآن لم يأت بهذا الاسم «عزير» من فراغ، وإنما جاء به على نحو ما نطق به هذا الاسم يهود يثرب، الذين فهموا من هذا الاسم معنى اسم الفاعل من «عزر» العبري، فجاءوا به على الأصل العبري لزنة اسم الفاعل في العبرية «عزير» مضمومة العين مكسورة الزاي بعدها ياء ممالة.
ولكن العربية الفصحى، وأمها عربية القرآن، لا تعرف هذا الوزن (أعني «عزير» الممالة الياء) وإنما تعرفه فقط العربية العامية في نطقها أمثال «حسين»، «عبيد».
هذا الوزن العبري «عزير» الممالة الياء لا يتزن على أوزان العربية إلا إذا جئت به على أقرب الأوزان العربية إليه، وهو الوزن «فُعَيْل»، فتئول «عزير» الممالة الياء إلى «عزير» التي في القرآن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/209]
جاءت إذن «عزير» في القرآن على التعريب لا على التصغير كما وَهِمَ أدعياء الاستشراق. وهو أيضًا تعريب مفسر لا يحتاج من القرآن إلى تفسير آخر لمعنى هذا العَلَم الأعجمي لوحدة المادة اللغوية المنحوت منها لفظ «عزرا» العبري – الآرامي ولفظ «عزير» الذي في القرآن: غاية ما تفهمه من «عزير» إن حاولت فهمه عربيًا أنه «العزر» مصغرًا فهو «عزير» جاء نطقًا ومعنى على مثال «نصر» و«نصير» الفاشيين في أعلام العرب. وقد صاغت العربية أسماء نادرة على فعيل لا تريد منه التصغير، أشهرها «لجين» التي تفهم منها معنى «الفضة» لا «الفضيضة. والاسم «عزير» في القرآن بهذا أشبه.
ومن إعجاز القرآن الذي لم يلتفت إليه أحد، أنه يحدد لك شخص «عزير» المعنى بأنه «عزرا» الكاتب لا غيره. تستظهر هذا من قوله عز وجل معقبًا على «دعوى النبوة» التي أسبغت على عزير وعلى المسيح: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا منق بل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 30 – 31]، يعني كانت البنوة المدعاة لصنفين: عزير «الحبر»، والمسيح عبد الله ورسوله. وليست «الحبر» هي العالم بإطلاق على ما شهرت به، وإنما هي أيضًا «الكاتب» يحبر كتابته، شأن كتبة التوراة، وأحبار اليهود هم حفاظ التوراة وكتابها. وقد كان عزير (أعني عزرا الكاتب) عند اليهود هو هذا الكاتب الحبر. ولمي كن عزرا عند اليهود كاتبًا فحسب، ولكنه أيضًا كاهن كاتب «كوهين سوفير» (راجع في هذا النصين العربي والعبراني: نحميا 8/9). بل هو الأستاذ المعلم: «وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويين إلى عزرا الكاتب ليفهمهم كلام الشريعة» (نحميا 8/ 13)، مهيبًا جليلاً: «ووقف عزرا الكاتب على منبر الخشب الذي عملوه له لهذا الأمر، ووقف بجانبه متثيا وشمع وعنايا وأوريا وحلقا ومعسيا عن يمينه، وعن يساره فدايا وميشائيل وملكيا وحشوم وحشبدانة وزكريا ومشلام. وفتح عزرا السفر أمام كل الشعب، لأنه كان فوق كل الشعب» (نحميا 8/ 4 – 5).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/210]
أما قائل هذا الكلام، نحميا صاحب هذا السفر المعنون باسمه ضمن أسفار العهد القديم، فليس نبيًا ولا كاهنًا، وإنما هو والي فارس على إقليم «اليهودية» في فلسطين الذي آلت إليه «مملكة يهوذا» بعد الاحتلال البابلي وورثته فارس فيما ورثت عن بابل. ورغم سلطان نحميا في أورشليم المستمد من سلطان فارس، تراه وهو يهودي مثل عزرا يقول عن عزرا إنه «فوق كل الشعب» يسمع له نحميا ويطيع. وما ذاك إلا لأن ملك فارس، أرتحشتا ملك الملوك، سمع لعزرا واستجاب لكل سؤله حتى لتكاد تظن أنه انخلع من دينه ودخل في دين عزرا: «عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتبٌ ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل، وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه، كل سؤله (عزرا 7/ 6)، بل أعطاه تفويضًا على بياض: «من أرتحشنا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة غله السماء الكامل، إلخ. (عزرا 7/ 12)، يقول فيه: «ومني أنا أرتحشتا الملك، صدر أمر إلى كل الخزنة الذين في عبر النهر إن كل ما يطلبه منكم عزرا الكاهن كاتب شريعة غله السماء فليعمل بسرعة إلى مائة وزنة من الفضة، ومائة كر من الحنطة، ومائة بث من الخمر، ومائة بث من الزيت والملح من دون تقييد» (عزرا 7/ 21 – 22). ومن كانت هذه حظوته عند ملك الملوك: «قد صدر مني أمر أن كل من أراد في ملكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين، أن يرجع إلى أورشليم معك، فليرجع. من أجل أنك مرسل من قبل الملك ومشيريه السبعة لأجل السؤال عن يهوذا وأورشليم حسب شريعة إلهك التي بيدك، ولحمل فضة وذهب تبرع به الملك ومشيروه لإله إسرائيل الذي في أورشليم مسكنه. وكل الفضة التي تجد في كل بلاد بابل من تبرعات الشعب والكهنة المتبرعين لبيت إلههم الذي في أورشليم. لكي تشتري عاجلاً بهذه الفضة ثيرانا وكباشا وخرافا وتقدماتها وسكائبها وتقربها على المذبح الذي في بيت إلهكم في أورشليم. ومهما حسن عندك وعند إخوتك أن تعملوه بباقي الفضة والذهب فحسب إرادة إلهكم تعملونه. والآنية التي تعطي لك لأجل خدمة بيت إلهك فسلمها أمام إله أورشليم. وباقي احتياج بيت إلهك الذي يتفق لك أن تعطيه فأعطه من بيت خزائن الملك» (عزرا: 7/ 13 – 20)، أقول من كانت هذه حظوته عند الملك، بل من كانت الشريعة بيمناه والمال بيسراه وسلطان الملك من ورائه، فلا تستكثر عليه أن يلهج الناس بحمد وتعظيمه حتى الإغراق، والمغالاة كما مر بك إسفاف لا تؤمن مغبته. وقد حدث.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/211]
شح العلم والعلماء في زمن عزرا الكاتب، فانفرد وحده بالكلمة في بني إسرائيل. لم يكن نبيًا، نعم. ولكنه كان أخطر من نبي. فإلى عزرا هذا وحده يعزي النص المقدس الذي استنسخه من ذاكرته لتوراة موسى التي بين يديك الآن، والذي لا تبعد به أبعد من قرن عزرا الكاتب، القرن الخامس قبل الميلاد، بعد وفاة موسى عليه السلام بنحو سبعة قرون.
تُرى إلى أي مدى صدقت ذاكرة عزرا، وكم حفظت أو ضيعت؟ علم هذا لله وحده. ألا ليت عزرا الكاهن الكاتب كان نبيًا تأتمنه على وحي الله، معصومًا بعصمة أنبيائه في البلاغ والتبليغ عن الحق تبارك وتعالى. إذن لجاءتك توراة موسى عليه السلام بنفس نصها المسطور في الألواح! لا عليك. حسبك القرآن المصدق المهيمن وفيه الكفاية، الذي تعهد الله بحفظه كاملاً غير منقوص إلى قيام الساعة، لا يتحرف أو يتبدل في الصدور، ولا يتصحف على يد النساخ.
ولا ينقضي القول في عزرا أو عزير قبل الإشارة (راجع تفسير القرطبي للآية 259 من سورة البقرة) إلى ما قيل من أعن عزيرا هذا هو ذاك الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 259]. جاء القرآن بهذه المعجزة الكبرى في الإماتة والإحياء، يمهد بها للآية التالية مباشرة (البقرة: 260) في سؤال إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الله الموتى، فأمر بذبح أربعة من الطير ثم يجعل لحمها أخلاطًا يفرقها في قمم أربعة جبال ثم يدعوهن فيأتينه سعيًا، قد جمع الله كل جزء إلى جزئه، ثم نفخ فيهن الحياة. كانت كلتا المعجزتين أكبر من أختها، ولكن المعجزة التي أراها الله إبراهيم كان شاهدها إبراهيم وحده، أما الأخرى فكانت «آية للناس»، لأن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه عاد إلى قومه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/212]
يحدث بها، لم تنل المائة السنون من نضارته شيئًا، فلا يستطيع تكذيبه من بلغ به الكبر من قومه، الذين عرفوا فيه ذلك الفتى يوم خرج من قريتهم على حماره هذا نفسه يحمل طعامه وشرابه فافتقدوه مائة عام. ومن الناس من تكون آيات الله عليه عمى، المكذب والمسف سواء، فقيل «ابن الله» كما يحكي مفسرو القرآن.
ولا يصح أن يقال إن عزرا الكاتب هو هذا الرجل – إن قلت إن عزرا الكاتب هو نفسه عزير المسمى في القرآن – فتكون قريته هي تلك القرية الخاوية على عروشها التي خربتها بابل، أي أورشليم، إذن لكانت ميتته في أورشليم نفسها، ولما صعد منها في سبى بابل وعاد إليها بقومه يوم عادوا إلى أورشليم من هذا السبى، أو لعاد قومه إلى أورشليم وما زال عزرا في الميتة التي أميتها مائة عام، لم يشهد معهم إعادة بناء الهيكل الذي جاءوا من بابل لإعادة بنائه فور عودتهم، وعزرا الكاتب لم يشهد فقط إعادة بناء هذا الهيكل، وإنما شارك في إعادة بنائه مشاركة القائد الرئيس، بل الممول عن أمر ملك فارس. ولو كانت تلك الآية الكبرى في عزرا الكاتب لما فاتت على اللاهجين بمآثره في سفرى عزرا ونحميا على ما مر بك. بل ليس في العهد القديم كله، أو في الكتاب المقدس بشطريه، إشارة إلى شخص أماته الله مائة عام ثم بعثه.
وقد مر بك أن القرآن في «عزير» يكاد ينص بالاسم على عزرا الكاتب الحبر، في تعقيبه على دعوى البنوة لله. {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} [التوبة: 31]، فلا يترجح لديك قول بغيره.
ليس ما يمنع من أن يكون الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه رجلاً من غير بني إسرائيل لم يحيطوا به خبرا، ولكنهم علموه من القرآن فاصطنعوه كدأبهم لأنفسهم ثم حدثوا بقصته (المليئة بالتهاويل في تفاسير القرآن) مفسري القرآن الآخذين عنهم، الذين وجدوا فيها المبرر لانزلاق اليهود إلى دعوى البنوة على عزير، ابن الله في قول من قال.
الصحيح أن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه فكان من آيات الله كالفتية أصحاب الكهف، رجل لم يسمه القرآن، كما لم يسم أصحاب الكهف. وكل خبر في القرآن واقع لا محالة قد وقع. ولكن القرآن سرد الخبر وتكتم الاسم، فهو من غيب الله لا يخاف فيه، والله عز وجل بغيبه هو وحده العالم الأعلم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 203-213]


رد مع اقتباس
  #68  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:10 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(51) لقمان:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: (
(51) لقمان
ورد اسم «لقمان» في القرآن مرتين اثنتين في سورة سميت باسمه. وليس له سَمِيٌ أو نظير في أعلام الكتاب المقدس بشطريه، وإنما انفرد القرآن بذكره على غير سابقة في التوراة والإنجيل.
ولقمان حكيم من الحكماء، ليس بنبي، بل صديق أو ولي، قال فيه عز وجل: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} [لقمان: 12]. وقد شرف لقمان أي شرف بذكر اسمه في القرآن في سورة سميت باسمه، ولم ينل هذا الشرف من دون الأنبياء إلا مريم أم عيسى. بل قد شرف لقمان الشرف كله بالنص على وصاياه لابنه وهو يعظه في قرآن متلو يتعبد الناس بتلاوته إلى يوم القيامة. ربما لم تأت في القرآن بذات اللفظ الذي نطق به لقمان، ولكن يكفيه أن الله عز وجل أجراها على لسانه نابضةً بلباب الحكمة: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، ظلم للفطرة، وظلم للنفس، وظلم للعقل، وظلم للحواس. وقوله: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16]، لا ملجأ منه إلا إليه سبحانه. وقوله: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان: 17 – 19]. هذه الوصايا القصار الثقال ليست هي لباب الحكمة فقط، وإنما هي جماع الإيمان والعمل الصالح، أثقلها في جنب الله عز وجل قولُ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأثقلها في حق العباد وفي حقك أنت أن تأمر في مجتمعك بالمعروف وتنهي عن المنكر، وهذا هو جماع القول في سياسة الدولة والمجتمع: تستقيم على ما أمرت به
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 214]
في كتاب ربك وسنة نبيك لا تحيد عنهما إلى غيرهما، فتكون كما أرادك الله أن تكون في قوله عز وجل للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]. أي جنديًا لله في أرضه، يطعم من رزقه، ويعمل في طاعته، ويأتمر بأمره، والله من فوقك رقيب حسيب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فإما رضوان الله أو سخطه، نعوذ بالله من سخطه. بهذه الوصايا القصار الثقال، أثبت القرآن للقمان لباب الحكمة، وسبحان العزيز الحكيم: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: 269].
وقد مر بك من قبل من قول الله عز وجل انحصار النبوة والكتاب في ذرية إبراهيم من بعد نوح {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26]، فليس نبي من بعد إبراهيم، ولا كتاب، إلا في نسل إبراهيم، لتمنيه على الله عز وجل حين عقد له لواء الإمامة يوم البلاء المبين، أن يجعل إمامة الناس في ذريته من بعده، فاستجاب له عز وجل، واستثنى الظالمين: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124]، أي هذا لك على عهد لا يدخل فيه من ظلم وأفسد، لا ينالهم ولا يصل إليهم. وقد نال هذا الشرف أنبياء أئمة: إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وجملة أنبياء بني إسرائيل، وختمت الإمامة بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين. وليس نبي قص القرآن عليك نبأه إلا هؤلاء فيمن جاء بعد إبراهيم. أما شعيب الذي جاء بعد إبراهيم بنص القرآن، وليس من أنبياء بني إسرائيل بالقطع، على ما مر بك في موضعه، الذي نرجح أنه حمو موسى كما يقول جمهور المفسرين، فالراجح أنه من بني إسحق غير يعقوب، أو من نسل بني إبراهيم غير إسماعيل وإسحق، فليس نبي من بني إسماعيل إلا خاتم النبيين.
ولكن القرآن لم يعد لقمان في عداد من تحدث عنهم من الأنبياء من ذرية إبراهيم، فتقول ربما كان نبيًا ما بين نوح وإبراهيم، أو ما بين آدم ونوح شأنه شأن إدريس – وقد قال يتقدم لقمان على عصر إبراهيم مفسرون – أو تقول كما نقول ويقول الجمهور إن لقمان حكيم ليس بنبي، فليس هو بالضرورة من بني إبراهيم أو بني إسرائيل، بل تقول مصيبًا غير مخطئ أنه لو كان من أهل الكتاب لما سكت عنه أهل الكتاب، وقد خلا الكتاب المقدس بشطريه من ذكر لقمان.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/215]
ولعلك تتفق معي أن اقتصار القرآن في الحديث عن لقمان على موعظة لقمان لابنه دليلٌ على أن لقمان لم يكن نبيًا في قومه، وإنما كان رجلاً فاضلاً في أهله وذويه، آتاه الله الحكمة ولم يؤته النبوة، بلغ من حكمته أن يسجلها له الله عز وجل في قرآن يتلى، فهو حكيم الحكماء. وليس كل حكيم بنبي، وإن كانت الحكمة من أشراط النبوة، فليس نبي إلا حكيم. وإذا كان عز وجل قد حصر النبوة والكتاب من بعد إ براهيم في ذرية إبراهيم، فالحكمة من فضل الله عز وجل يؤتيها من يشاء، ليست قصرًا على ذرية إبراهيم. من هنا يتسع لك باب البحث عمن كان لقمان، لا تحصره في أمة بعينها، ولا تشترط أن يكون اسمه على أصله عبريًا كالعبرانيين.
ولكنك تثبت للقمان ما أثبته له القرآن، أعني رتبة الصديق على ما تقدم ذكره في حواشي هذا الكتاب: قد خوطب لقمان على ملائكة الله عز وجل بقوله: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} [لقمان: 12] على الأمر منه عز وجل، والمخاطب على ملائكة الله عز وجل صديق وإن لم ينبأ، على القول الذي به نقول، شأن امرأة فرعون وامرأة عمران، وأم موسى وأم عيسى، رضي الله عنهم جميعًا ورضوا عنه.
ها قد اتسع أمامك باب البحث عمن كان لقمان. ولكن ماذا قالوا في لقمان؟
أما المستشرقون المنكرون على القرآن، فقد أسفوا أيما إسفاف في لقمان، لأنهم كما مر بك لا يتصورون أن يكون في القرآن شيء لم يتسقطه من أهل الكتاب أو أقاصيص أهل الكتاب. قالوا إن الاسم لقمان يجيء في العبرية من الجذر «لقم» يعني «بلع»، فهو سمي ملك أدوم في سفر التكوين «بالع بن بعور» (تكوين 36/ 32) – وأصله في العبرانية «بلع» على المصدرية واسم الفعل من الجذر العبري «بلع» بمعنى ابتلعه أو أتَى عليه وأفناه – فجاء به القرآن على «لقمان» أو هو «بلعام بن بعور» - على زنة «فعلام» من نفس الجذر العبري «بلع» - نبي من غير بني إسرائيل عاصر موسى عليه السلام (عدد 22/ 5). وقد تظن أن هذا جهد علمي يليق
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/216]
بمستشرقين علماء، والواقع أنهم اتكأوا فيه كدأبهم على أصحاب التفاسير والسير الذين ائتمنوا الرواة من أهل الكتاب، فقد قال ابن إسحق أن لقمان، هو بالع بن بعوراء (انظر تفسير القرطبي للآية 12 من سورة لقمان) وما كان لابن إسحق أن يعلم علم بالع هذا إلا من رواته من أهل الكتاب الذين فطنوا إلى هذا الجناس المعنوي بين بالع ولقمان. أما بالع ملك أدوم فلا تحدثك التوراة عنه بشيء، حكيمًا استطارت حكمته أو غير حكيم. وأما بلعام بن بعور الذي عاصر موسى عليه السلام فقد كان عند اليهود «نبيا لعانا» استأجره بالاق بن صفور ملك موآب ليلعن له بني إسرائيل حتى ينكسروا أمامه في حربه معهم، ولكن الله كان يحول لعنات بلعام فترتد على جيش الموآبيين وحلفائهم (راجع الإصحاح 22 من سفر العدد)، ولو كان مفسرو القرآن وأصحاب السير يقرءون في أسفار هذه التوراة فعلموا حقيقة «بلعام» لأحجموا عن مساواته بلقمان الذي في القرآن.
قال هؤلاء المستشرقون أيضا، إن موعظة لقمان لابنه شبيهة بما في أساطير السريان عن «أحيقار» (وهي «أخو الوقار» بمعنى ذي الوقار) الذي يعظ ابنه بما معناه: يا بني طأطئ رأسك وألن قولك وغض بصرك، فلو كان بيت يبنى بجهارة الصوت لبني الحمار بيتين في يوم وهذا ضعيف كما ترى، يدلك على مدى هزل هؤلاء المستشرقين، يأخذون وجه الشبه من نهيق الحمار في الموعظتين أما مطاطأة الرأس والإنة القول وغض البصر، فهذا من الشائع المأثور الذي لا تخلو منه موعظة مرب، وليس هذا هو لب مواعظ لقمان، وإنما أدناها. على أن لقمان يأخذ على الحمار نكر الصوت، أما «أحيقار» السرياني فيقول إن جهارة الصوت شأن صوت الحمار، لغو لا طائل من ورائه.
على أن سوء التشبيه بين «أحيقار» السرياني ولقمان الذي في القرآن يكفي بذاته للمباعدة بينه وبين مقولة هذا القائل فتستبعد «أحيقار» السرياني كما استبعدت من قبل «بلع»، «بلعام». وقد استبعدهم أيضًا Joseph Horovitz الذي ننقل عنه هذا الكلام.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/217]
قالوا أيضًا فيما يرويه عنهم هذا المستشرق إن الاسم اليوناني «الكميون»، وشبهه «الكمان (“Alkmaion, “Alkman”) فيه شيء من «لقمان» الذي في القرآن مشيرين إلى تردد هذا الاسم اليوناني «في دوائر واسعة بالمشرق». وليس على هذا دليل كما عقب هذا المستشرق نفسه فقال إنه إن كان لا بد من يونانية «لقمان» فهو يؤثر الاسم اليوناني «لقيان» “Lucian” المحفوظة أقوال له في مدونات سريانية، مشيرًا إلى يسر تصحيف «لقيان» بالياء إلى «لقمان» بالميم في رسم المصحف، وهي فرية مضحكة مبكية لا يخجل من اصطناعها أدعياء الاستشراق الذين لا يحيلون التصحيف على المصحف الإمام يسدون بها الثغرة في تهافت حجاجهم مع القرآن، وكأنهم يقيسون المصحف الإمام على «توراة الأنبياء والكتبة» التي تراوحت عليها أقلام النساخ، فيفتضحون بجهلهم القديم بتاريخ القرآن، وجمع القرآن، وتدوين القرآن. ولكن هذا المستشرق يعود أيضًا فيستدرك على نفسه وقد أعياه البحث عن «لقمان» عند أهل الكتاب وعند السريان وعند اليونان، فيقول إنه ليس على هذا كله دليل، والراجح عنده في النهاية أن لقمان اسم عربي أصيل عرفه العرب قبل القرآن، فقد ذكره من شعرائهم أمثال طرفة والأعشى وزهير وامرئ القيس والمخبل وأفنون، وغيرهم، فضلاً عن أساطير العرب في «لقمان بن عاد».
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 12 من سورة لقمان) فقد تفاوتت أقوالُهم في لقمان. وقد مر بك ما حكاه القرطبي عن ابن إسحق في «بالع»، «بلعام»، ولكن ابن غسحق رحمه الله تكتم مصادره فلم ينص على «بلع»، «بلعام»، وإنما قال في المرتين «لقمان بن باعوراء»، وباعوراء – التي هي «بعور» في التوراة – تكشف مصادر ابن إسحق بجلاء. وقال السهيلي كان لقمان نوبيًا من أهل إيلة (وما أبعد البون ما بين أرض النوبة وأرض فلسطين!)، وقيل أيضًا عن سعيد بن المسيب إن لقمان أسود من سودا ن مصر ذو مشافر (يعني عظيم الشفتين) وعظم الشفتين في هذه الرواية وأمثالها محاولة لتفسير معنى «لقمان» بأنه عظيم اللقمة، تلقامة تلقام (وهو فهم غير دقيق لأصل معنى الجذر العربي «لقم» كما سوف ترى). وقال وهب ومقاتل والزمخشري كان لقمان ابن أخت أيوب أو ابن خالته (وهي محاولة لتأصيل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/218]
عروبة لقمان على عروبة أيوب في قول بعض المفسرين وهذا غير صحيح بناء على ما قلناه في تحليل اسم «أيوب» وإنه من بني إسرائيل على الصحيح) وقيل كان لقمان من أولاد آزر أبي إبراهيم، عمر ألف سنة فأدرك داود. وروى عن ابن عباس أن لقمان كان رجلاً حكيمًا بحكمة الله تعالى قاضيًا في بني إسرائيل أسود مشقق الرجلين ذا مشافر يعني عظيم الشفتين كما مر بك. فتعجب كيف يكون قاضيًا في بني إسرائيل نوبي أو من سودان مصر.
ربما تجد في هذا الإصرار على سواد بشرة لقمان دليلاً على أنه ليس من بني إسرائيل – ولكن سواد بشرته ليس مانعًا من أن يكون لقمان عربيًا من العرب، وعربية لقمان أليق بعربية اسمه. أما القول بأنه مصري أو من سودان مصر، أو من أهل النوبة، فليس ما يمنع من هذا بالطبع، فقد سكت القرآن والحديث الصحيح عن نسب لقمان في أمة بعينها. ولكن القول مرسل ليس عليه دليل. ولا يصح أني كون الاسم «لقمان» عَلَمًا أعجميًا من المصرية القديمة بالذات، لأن المصرية القديمة تفتقد حرف «اللام» - الحرف الباديء في «لقمان» - وتضع في موضعه حرف «النون»، وأحيانًا قليلة حرف «الراء» ومن أمثلة ذلك في جذور المصرية القديمة المشتركة مع الساميات: اللام النافية ولام الملك ولام الاتجاه، المعبر عنها في المصرية القديمة بالحرف «نـ» ولفظه «لب» العربية العبرية الآرامية بمعنى القلب والفؤاد المعبر عنها في المصرية القديمة باللفظ «رب» وغيره كثير.
وإذا كان «لقمان» قد أعيا المستشرقين والمفسرين البحث عمن يكون، وليس في القرآن والحديث الصحيح ما يدل عليه، فليس شخص لقمان هو الذي يعنينا بالدرجة الأولى في مباحث هذا الكتاب الذي نكتب، وإنما الذي نهتم له فحسب هو معنى هذا الاسم «لقمان» وتفسيره من القرآن بالقرآن، مقصدنا الأول في هذا الكتاب. والقرآن كما سوف ترى يفسر هذا الاسم على أصل عربي، فتقطع بعربية الاسم والشخص، وسبحان العليم الخبير.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/219]
ليس معنى الجذر العربي «لقم» هو «البلع» كما يبدو لك للوهلة الأولى، وكما استشعر المفسرون الذين وصفوه بعظم الشفتين مجانسة على ما فهموه من معنى «لقمان». وقد ظنوه كما ترى زنة مبالغة من «لقم» فهو صنو «تلقام»، «تلقامة» يعني «عظيم اللقمة»، وهذا يحتاج إلى سعة الفم وغلظ الشفتين. وقد جرهم هذا الفهم على ما أرجحه أنا إلى التورط دون دليل في القول بسواده ونوبيته أو سودانيته، يعنون «زنجيته»، لشيوع غلظ الشفتين فيهم.
ولكن معنى «لقم» الرئيسي على أصله ليس كذلك، وإنما هو بمعنى سده فأحكم سداده حتى غص به. تقول من هذا: لقم الطريق، يعني سد فم الطريق على من يريد الخروج منه. وأيضًا: ألقمه حجرًا، يعني أسكته وأفحمه، والحجر هنا للتقوية، لأن «ألقمه» بذاتها كافية. وليست «لقم» بذاتها يعني «بلع» كما ظن ذلك المستشرق وأضرابه، وإنما اللقم هو الأخذ بجمع الفم، أعني ملء الفم، ويجيء البلع بعد ذلك. واللقمة على ما يسد الفم سدًا، أي التي تملؤه. ولا تزال «اللقمة» لقمة ما بقيت بالفم لا تجاوزه إلى «البلعوم». والتقم الطفل ثدي أمه، من هذا، فهو لا يبتلعه، ولكنه يأخذه بجماع فيه.ومن هذا أيضًا قوله عز وجل في يونس: {فالتقمه الحوت وهو مليم} [الصافات: 142]، ليس معناها ابتلعه، كما تجد في بعض المعاجم ومنها «المعجم الوسيط» الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر، وإنما معناها أن الحوت أخذ يونس بملء فيه، أي كان يونس للحوت لقمة امتلأ منها فوه، ثم جاء الابتلاع بع ذلك فصار في بطن الحوت، فهو مكظوم: {ولا تكن كصحاب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48]، أي مضيق عليه مكتوم. حدث هذا في بضع ثوان، ريما استجمع الحوت عضلات بلعومه لابتلاع يونس بعد التقامه، فلا ابتلاع إلا بعد التقام. ولكنه التصوير الفني المعجز الذي عهدته في القرآن، لا يريد أن تفوتك اللحظة الهائلة: لحظة التقام الحوت يونس.
والعامية المصرية تبدل من قاف «لقم» في معنى الكظة والاكتظاظ، كافًا، تقول منه بالعامية المصرية «اتلكمت»، «ملكوم» وأصلها الفصيح «ملقوم» والمعنى «كظظت» فأنا «مكظوظ»، لا «ابتلعت» ولا «مبلوع». كما تجد نظير هذا في تلك الحلواء الشامية، «اللكوم» («الملبن» في مصر)، وأصلها الفصيح «اللقوم» من اللقم، فهي «اللاقمة»، سداد الفم، وربما سداد النفس أيضًا من شدة حلوها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/220]
أما العبرية والآرامية فقد أميت فيهما الجذر العربي «لقم» وإن بقيت أثارة منه بالمعنى الذي ذكرناه، السد والانسداد، في عبرية التوراة، وهي لفظة «لقوم» (سفر يشوع 19/ 33) اسم موضع لسبط نفتالي، يفسر علماء التوراة معناها من الجذر العربي «لقم» بمعنى سداد الطريق، فيقولون أن لقوم = الحصن، الحائل المانع.
أما «الحكيم» في العربية فهي بمعنيين: الذي يحكم هوى نفسه أي الذي يعقل نفسه عن الهوى، والآخر هو الحكيم قائل الحكمة، يحكم قوله فيسد على سامعه منافذ القول، لا مقولة بعده لقائل، الذي أسكت خصمه وأترج عليه، يعني سد فمه، أي ألقمه، ويقول العرب كظ فلان خصمه يعني ألجمه حتى لا يجد مخرجًا، وكظه بمعنى ألقمه.
وأصل معنى الجذر العربي: «حكم» هو المنع والصرف، ومنه «الحكمة» بفتحتين، تلك الحديدة في فم الفرس التي تلجمه بها فتحكمه عن السير على هواه، وأحكم الفرس يعني جعل للجامه حكمة. وأصل الحكم والحكمة من هذا. وكل معاني الحكم والحكمة متفرعة على هذا الأصل، مجازًا وتوسعًا، فتجيء الحكمة بمعنى العلم والفقه، لأن العلم شرط في الحكمة، لا حكيم إلا عالم قد أحكمه العلم عن اللغو، ويقال من الصمت حكمة، والمراد صمت العالم، لا صمت الجاهل، ويقال أحكمه بمعنى أتقنه، والأصل ضبطه، وهكذا.
والاسم «لقمان» في القرآن من هذا: إنه الحكيم قائل الحكمة، اللاقم سامعه، أوتي الحكمة، يعني فصل الخطاب، لا يملك سامعه على قوله تعقيبًا، فقد «ألقمه».
وليست «لقمان» - وهي عربية كما ترى – ممنوعة من الصرف في القرآن للعجمة وإنما منعت من الصرف للعلمية المزيدة بالألف والنون، شأنها شأن «عثمان» التي لا يختلف على منعها من الصرف أحد.
وإذا كانت العرب عصر تصنيف تفاسير القرآن لم تعرف في «لقمان» معنى الحكيم قائل الحكمة، فهذا كما تعلم من أساطير العرب في «لقمان بن عاد» لأن لقمان عند العرب قديم – بل متطاول القدم – فهو من العربية الأولى، عربية عاد قوم هود.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/221]
قال عز وجل يفسر «لقمان» بالمرادف المطابق اللصيق: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر الله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد} [لقمان: 12].
فسر القرآن إذن «لقمان» بمعنى الحكيم قائل الحكمة. وقد غلب لفظ الحكيم على لقمان، حتى ليكاد يغني ذكر أحدهما عن الآخر، فهو علم عليها وهي عليم عليه.
وأصل معنى الشكر في اللغة الامتلاء من رى أو سمن، ثم استعير للامتلاء من النعمة. ثم استعير من بعد لظهورها، وأيضًا إظهارها بعرفانها والثناء عليها. وهذا المعنى الأخير هو وحده المشهور المعروف المستعمل في العربية المعاصرة.
والشكور من الإنسان والحيوان والنبت، هو الذي تبدو عليه آثار النعمة لا يكتمها، وإنما يبديها ويحدث بها. وفي الآية التي تلوت توًا جناس معنوي خفي بديع: أي لقمت يا لقمان الحكمة حتى ملئت منها، فعظ بها. فكانت عظات لقمان لابنه في القرآن لباب الحكمة. وسبحان العزيز الوهاب، يؤتي الحكمة من يشاء، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
والحمد لله رب العالمين).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 214-222]


رد مع اقتباس
  #69  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:11 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

الفصل التاسع: المصدق والبشير:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل التاسع
المصدق والبشير
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/223]
يتناول هذا الفصل في ختام مباحث هذا الكتاب تفسير ما بقي أمامنا من العلم الأعجمي في القرآن، وهي عشرةُ أعلام: زكريا – يحيى – عمران – مريم – عيسى – الإنجيل – النصارى – الصابئون – المجوس – الروم.
والأعلامُ السبعة الأولى (زكريا، يحيى، عمران، مريم، عيسى، الإنجيل، النصارى) هي أعلام المسيحية. فزكريا أبو يحيى، ويحيى ابن خالة مريم، ومريم ابنة عمران هي أم عيسى، رضي الله عنهم جميعًا ورضوا عنه، أنبياء وصديقين، أما الإنجيل فهو وحي الله على عيسى، وأما النصارى فهم المسيحيون أتباع المسيح.
أما الأعلامُ الثلاثة الأخرى (الصابئون، المجوس، الروم) فهم من أعلام المسيحية قريب. فقد قيل في الصابئين إنهم بقية من أتباع يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقيل غير ذلك. وأما المجوس فهي علم على أتباع ديانة فارس أو الزرادشتيين أتباع زرادشت، ولعلك قرأت في الإنجيل أن مجوسًا رأوا في السماء نجم المسيح فجاءوا من بلادهم يحضرون مولده عليه السلام ويقدمون له «هدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا» (متى 2/ 11). وأما الروم فالمعنى بها في القرآن هم البيزنطيون وقيصرهم هرقل عصر نزول القرآن، وقد تسمى بها البيزنطيون في آسيا الصغرى والبلقان لأن ملوكهم كانوا سلالة من قياصرة روما قبل انهيار الإمبراطورية الرومانية على أيدي القوط، بل قد كان من البيزنطيين من خلع اسم «روما» (عاصمة إيطاليا اليوم) على بيزنطة (وهي استامبول اليوم في تركيا)، تحنانًا إلى ذكرى روما الأولى (روما يوليوس قيصر وأوكتافيوس أوجستس ومركس أنطنيوس) أيام مجده القديم.
ولم نجد أنسب من هذا الفصل موضعًا للحديث عن الصابئين والمجوس والروم في سياق تحليلنا معاني أعلام المسيحية وتفسيرها من القرآن بالقرآن، فقد جاء «النصارى» مجموعين إلى الصابئين والمجوس في قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/224]
القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]. أما الروم فلأنهم الذين آل إليهم منذ القرن الرابع لميلاد المسيح صولجان المسيحية وسلطانها.
وليس من مقاصدنا المباشرة في هذا الكتاب الذي نكتب نقد المسيحية في صورتها التي نقضها القرآن من قبل، أعني عقيدة التثليث والخلاص بالمسيح، فادى البشر بدمه المسفوح على الصليب، فقد تكفل القرآن بالنقد والنقض معًا، وليس بعد القرآن مزيد لمستزيد، الذي جاء بها ناصعة بينة في جواب المسيح ربه يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا، إنك أنت علام الغيوب: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 116 – 117]، وقوله عز وجل، المتفرد بالالوهية والملك: {لن يستنكف المسيح أني كون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172]، ويدخل في الملائكة المقربين جبريل روح القدس صلوات الله عليه، ثالث الثلاثة في عقيدة التثليث. من هنا تستظهر أن المسيحية يوم رفع المسيح ليست هي تلك المسيحية التي جادل بها أساقفة نجران خاتم النبيين، التي صيغت أصولها في المجامع، بدءًا بمجمع نيقية عام 325م، بعد رفع المسيح بنحو ثلاثة قروة، الذي أله المسيح على البنوة لله، ثم أعقبه بنحو خمسين سنة مجمع آخر فصل القول في ألوهية روح القدس جبريل، فاكتمل الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، ثلاثة في واحد.
ولكن مقولة المسيحيين في المسيح هي التي تفرض نفسها على كل بحث لغوي صرف يريد تحليل معنى علم المسيحية الأكبر، عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، كما سترى، وأيضًا لفظة «إنجيل»، لأن مقولة المسيحيين في المسيح هي التي صنعت التفسير اللغوي الشائع لهاتين اللفظتين: «عيسى» («يشوع» عبريًا)، «إنجيل» المقول بيونانيتها ترتيبًا على يونانية الإناجيل.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/225]
والذي ينبغي التنبيه إليه فما مضى من مباحث الكتاب وفيما سوف يلي، أننا حين يلجئنا موضوع البحث إلى النقد، فهو النقد الرصين، نريد به وجه الحق تبارك وتعالى، فنختصم المقولة ولا نشجب القائل، فالهدى هدى الله عز وجل، ولو شاء لهدى الناس أجمعين، ولله وحده الفضل والمن: {قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} [الحجرات: 17]. ومن فضل الله على المسلم أنه معصوم بعصمة الله عز وجل عن الخوض في مقام أنبيائه: {لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285] ولا تستقيم لغير المسلم مع المسلم حجة إلا بالخوض في نبوة خاتم النبيين.
ومن فرائد إعجازات القرآن في غيوب القرآن قوله عز وجل في الآية التي تلوت توًا: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]، أي سيظل من هؤلاء وهؤلاء فرق يفصل بينهم الله يوم القيامة، يوم يجيء كل أناس بإمامهم.
أما أنبياء الله ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، فسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 223-226]


رد مع اقتباس
  #70  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:12 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(52) زكريا:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (52) زكريا
«زكريا» عليه السلام نبيٌّ بنص القرآن لمجيئه على نحو ما مر بك من قبل في لفيف من ذرية يعقوب معقب عليهم بقوله عز وجل: {أولئك الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89]، وإن كان في الأناجيل التي بين يديك مجرد كاهن: «كان في أيام هيردوس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا وامرأته من بنات هرون واسمها اليصابات. وكانا كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. ولم يكن لهما ولد إذ كانت اليصابات عاقرًا، وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما»: (لوقا 1/ 5 – 7)، ثم يمضي الكاتب في قصة ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام (المرسوم في أصول الأناجيل اليونانية وترجماتها جميعًا «يوحنا» على ما سيجيء في موضعه). وغلى صلاح آل زكريا عليه السلام يشير القرآن بقوله عز وجل: {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} [الأنبياء: 89 – 90]. وقد كان إعجاز ميلاد يحيى لزكريا وقد بلغ به الكبر عتيا شبيهًا كل الشبه بمولد إسحق لإبراهيم وسارة: كلتا المرأتين عجوزٌ عاقر، وكلا الرجلين شيخٌ كبير، ولكن الفاطر المبدع الباري الذي لا يعجزه شيء يقضي ما يشاء ويفعل ما يريد. ولو شاء الله خلق يحيى على مثال آدم بغير أب أو أم لفعل، ولكنه أراد النسبة إلى زكريا، كما أراد من بعد في خلق عيسى النسبةَ إلى مريم، وأراد قبل هذا وذاك النسبةَ إلى آدم أبى البشر جميعًا، كيلا يضل أحدُ في دعوى البنوة لله عز وجل، ولم يغفل عنها لحظة عيسى عليه السلام في نفس هذه الأناجيل التي بين يديك، لا يسأم من تكرارها على سامعيه حتى باتت علمًا عليه: إنه ابن الإنسان (وهي في العبرية «بن أدام») يعني آدمي من بني آدم. والقرآن لا يجيء
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/227]
بذكر مولد يحيى إلا ويعقبه بذكر مولد عيسى (ولوقا يفعل نفس الشيء في إنجيله)، يمهد لإعجاز بإعجاز، فكلتا الولادتين آية تنقطع دونها رقاب البشر: إخصاب بويضة الأنثى بغير مخصب، أو خلق هذه البويضة مخصبة ابتداء، أو إخصابها بكلمة منه عز وجل نفخًا من روح القدس جبريل كالذي تجد في القرآن وفي الإنجيل، والأخرى شأنها شأن الاستحياء من عدم، في زوج زكريا، كما تجد في قوله عز وجل الذي تلوناه توا: (وأصلحنا له زوجه)، يعني استحيينا فيها، وهي العجوزُ العقار، آلة الحمل والولادة، وسبحان الخلاق العلمي. فلما عجب زكريا من هذا، قيل له: {قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} [مريم: 9]، يذكره بخلقه وبالخلق الأول، وعن هذا يضل كثيرون، يعظمون المفعول ولا يعظمون الفاعل. ولم يكن هذا موقف لوقا في إنجيله، بل هو يعقب على مولد يحيى وعيسى عليهما السلام بتسابيح لله العلي القادر.
على أن أخبار زكريا في القرآن لا تقتصر على أبوته ليحيى، وإنما هو أيضًا كافل مريم عليها السلام على ما تقرأ في القرآن، وليس في الأناجيل التي بين يديك من هذا شيء، وهي أيضًا لا تقص عليك شيئًا من أنباء خدمتها في الهيكل، وقال عز وجل: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} [آل عمران: 44]، وسبحان علام الغيوب.
أما الاسم «زكريا» فيجيء في العبرانية من جزأين: زكر + يا (وينطق عبريًا «زخريا» على ما مر بك من تحول النطق في العبرية بعد متحرك أو معتل من الكاف إلى الخاء).
أما المقطع الأول «زكر»، فهو الجذر العبري «زكر» المكافئ في كل معانيه للجذر العربي «ذكر»، أبدلت ذاله زايا، وأما المقطع الثاني «يا» فهو مختصر من «يهوا»، اسم الله عز وجل في العبرية.
على هذا يكون معنى «زكريا» هو «ذكر الله» بالضم في لفظة «الله» على الفاعلية للفعل العبري «زكر»، أو هو «ذكر الله» بالفتح في لفظة «الله» على المفعولية
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/228]
من «زكر»، لأن العبرية ليس فيها إعراب فلا تستطيع القطع بأيهما المراد. وقد اختار علماء أهل الكتاب – بغير موجب من نحو اللغة العبرية – الوجه الأول «ذكر الله» على معنى «الذي يذكره الله». وهم في هذا – أعني علماء المسيحية – ينظرون لا إلى أصل التسمية فقد تسمى بالاسم «زكريا» من قبل في العهد القديم كثيرون أشهرهم بالطبع «زكريا بن برخيا» صاحب السفر المعنون باسمه في توراة الأنبياء والكتبة، وإنما هم ينظرون إلى دلالة الاسم على المسمى المعني في العهد الجديد، الذي تمنى على الله الولد وقد بلغ من الكبر عتيا فذكره الله في وحدته وضعفه وشيخوخته فاستجاب دعاءه. وهذا جيد لا غبار عليه في حق زكريا المعنى في الإنجيل وفي القرآن. ولكنه تحيز بغير موجب من نحو اللغة العبرية كما مر بك لأحد الوجهين دون الآخر. بل الوجه الثاني، أعني «ذكر الله» بالفتح في لفظة «الله» على المفعولية لهذا الذاكر، فيكون المعنى «ذاكر الله»، أوجه وأبين في منطق اللغة العبرية – وأيضًا غير متعارض مع نحوها – لأنك في الوجه الأول تحتاج إلى تفسير «ذكر» من الله عز وجل على معنى «استجاب»، أما في الوجه الثاني فالفعل «ذكر» من هذا الذاكر يظل على أصل معناه، والتفسير بالأصل أولى من التفسير بالمؤول. على أن الوجه الثاني أيضًا، «ذاكر الله» لا يبعد بك عن دلالة التسمية على المسمى في حق «زكريا» المعنى في الإنجيل والقرآن، العبد الذاكر الخاشع لقوله عز وجل: {فاذكروني أذكركم}[البقرة: 152] يعني يجيء الذكر من العبد أولا، يذكر الله فيذكره الله، لا يصح العكس في جنب الله عز وجل. وهذا بالضبط الذي حدث لزكريا. «ذاكر الله»: ذكر الله فذكره الله، كما تجد في هذا الجناس المعجز: {كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا} [مريم: 1 – 3].
«زكريا» إذن على القول الذي به نقول، يعني «ذاكر الله».
وقد عرب القرآن «زكريا» طبق الأصل من صورتها الشائعة في الأناجيل اليونانية، وهي Zacharia «زخريا» (الذي تضاف في آخره سين الرفع اليونانية حال وقوعه مرفوعًا كما مر بك): خالفوا العبرية بفتح الزاي البادئة بدلاً من كسرها وشددوا الياء بدلاً من تخفيفها. وهو نفس النطق العربي لهذا الاسم في القرآن، لولا إرجاع الخاء العبرية كافًا على أصلها. فقد علم العرب من قبل أن خاءات العبرية كاف كلها فلا تكاد تجد لمعرباتهم من تلك اللغة لفظًا لم تبدل خاؤه كافًا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/229]
ولكن العرب – أعني مفسري القرآن كما تجد في تفسير القرطبي للآية 37 من سورة آل عمران – لم يفطنوا إلى أن «زكريا» من الذكر، فقالوا بعجمته ولم يتصدوا لتفسيره، أعني لم يفطنوا إلى أن الزاي البادئة فيه مبدلة من الذال، وتكتم عليهم معنى الاسم رواتهم من أهل الكتاب، وما كان لديهم من عبرية التوراة القدر الكافي لتحليل معاني أعلام التوراة والإنجيل. ورغم أن القرآن – على منهجنا في هذا الكتاب – فسر الاسم زكريا بأجلى بيان في موضعين اثنين كما سترى، فما كان لديهم هذا المنهج الذي هدانا الله إليه بفضل منه ونعمة، له وحده الفضل والمن سبحانه.
فسر الاسم «زكريا» في القرآن مرتين: التفسير بالمشاكلة – وقد مر بك في مقدمة هذا الكتاب – تجده في قوله عز وجل: {كهيص ذكر رحمة ربك عبده زكريا} [مريم: 1 -2]، وكأنها: ذكرت رحمة ربك عبده ذاكر الله، لا تجد جناسًا أبين من هذا ولا أدق ولا أجمل. ولكن روعة النغم المصاحب لجلال المعنى المنظوم في الآية يأخذ بمجامعك، فتلتفت إلى الجناس اللفظي فقط بين «ذكر»، «زكريا»، وتفوتك المجانسة المعنوية بين اللفظين التي استبانت لك الآن: زكريا = ذاكر الله. وسبحان العليم الخبير، القائل بكل اللغات.
أما في المرة الثانية فقد جاء الاسم «زكريا» مفسرًا بالمرادف الدقيق في قوله عز وجل: {هناك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار} [آل عمران: 38 – 41]. وكأنه عز وجل يقول: أذكر ربك يا ذاكر الله. والتفسير هاهنا بالمرادف كالشمس وضوحًا، وسبحان الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/230]
والذي يجب التنبيه إليه في ختام الحديث عن نبي الله زكريا عليه السلام أن الصوم عن الكلام ثلاثة أيام سويا (وسويا يعني سليمًا معافَى لم يفقد القدرة على الكلام بمرض أو آفة) أصاب زكريا فور بشراه بيحيى: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا} [مريم: 11] وأن هذا العجز المؤقت عن الكلام استمر معه ثلاثة أيام فقط كما تقرأ في القرآن. وكان زكريا قد سأل ربه آية يعلم بها تحقق البشرى، أي تحقق حمل زوجته بالغلام المبشر به. والقارئ المتعجل يظن أن الآية هي إمساك زكريا عن الكلام. والصحيح أن الآية هي انفكاك لسانه في ختام الأيام الثلاثة، يعني لما حدث الحمل انفك لسانه. لا يصح القول الأول، لأن زكريا كان لا يزال قائمًا في المحراب لحظة أصابه العجز عن الكلام، لم يخرج بعد إلى زوجه كي تحمل منه. وإنما حملت منه أثناء هذه الأيام الثلاثة الموقوتة له من الله عز وجل. وإلا لقلت إن الحمل حدث قبل أن يدعو ربه، وإن الله بشره بشيء حدث لا بشيء سيحدث. وهذا يضعف المعجزة فلا يعود لها معنى. مُنِيَ زكريا إذن بالعجز عن الكلام ثلاثة أيام فحسب، أوتي خلالها – وخلالها فحسب أيضًا – القدرة على الإنجاب، فقد عاد زكريا من بعدها مباشرة نفس الشيخ الذي كانه، الواهن العظم، البالغ من الكبر عتيا، لا ينجب من بعد، شاهدًا على إعجاز الله فيه وفي زوجه. هذا أوجه وأبين، ولكنك لا تقرأ مثله في التفاسير التي بين يديك، فهو من الجديد الذي من الله علينا به.
والذي في إنجيل لوقا بشأن هذا الصوم عن الكلام أن زكريا طلب علامة على تحقق البشرى فاختار له الملك آية العجز عن الكلام على وجه التأديب، لأنه لم يصدق البشرى التي زفت إليه. ويقول أيضًا أن هذا العجز عن الكلام استمر مع زكريا منذ أن خرج على قومه من المحراب وطوال حمل زوجته بيحيى حتى وضعته، أي تسعة أشهر لا ثلاث ليال، فلم ينفك لسان زكريا إلا يوم ختان يحيى، أي اليوم الثامن من مولده: «وفي اليوم الثامن جاءوا ليختنوا الصبي وسموه باسم أبيه زكريا. فأجابت أمه وقالت لا بل يسمى يوحنا. فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك تسمى بهذا الاسم. ثم أومأوا إلى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/231]
أبيه ماذا يريد أن يسمى. فطلب لوحًا وكتب قائلاً اسمه يوحنا. فتعجب الجميع. وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم وبارك الله» (لوقا 1/ 59 – 63). ولا يصح هذا لأن تحقق البشرى يكفي فيه حدوث الحمل، فلا معنى لإسكات زكريا من بعد حتى يولد يحيى، إلا إذا قلت كما قال لوقا إن هذا الصمت الجبري كان من عند الله عز وجل على وجه التأديب، لا على وجه التبشير، أو قلت مجانبًا الصواب أن زكريا ما كان ليؤمن بتحقق البشرى إلا أن تضع زوجته حملها بالفعل، غلامًا يختنه ويسميه.
ولكنك تستبقى من قول لوقا في هذا الموضع من إنجيليه جملةً على جانبٍ كبيرٍ من الخطورة وهي: «فقالوا لها ليس أحدٌ من عشيرتك تسمى بهذا الاسم»، يعني «يوحنا» ومصداقه من القرآن: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} [مريم: 7]، فتفهم – مسيحيًا كنت أو مسلمًا – أن هذا الاسم المعطي لهذا المولود (يوحنا في الإنجيل أو يحيى في القرآن) اسمُ قد جاء على غير سابقة في أعلام العبرانيين.
وإذا علمت أن الاسم «يوحنا» - وأصله العبراني «يوحنان» - اسم فشا في أعلام اليهود قبل مولد يحيى عليه السلام بقرون، عجبت كيف يعجب قوم زكريا من هذا الاسم «يوحنا» وهو فاش في أعلامهم، وقلت جازمًا مصيبًا غير مخطيء إن زكريا وزوجه اليصابات لم يقولا في تسمية ابنهما هذا الاسم «يوحنا» الذي عجب له سامعوه، وما كان لهم أن يعجبوا، وإنما قال زكريا واليصابات اسمًا آخر أمر به زكريا في المحراب لحظة البشرى بيحيى واتفق عليه الزوج وزوجه منذ تحقق البشرى بحدوث الحمل وقبل مولد يحيى، وأصرا عليه في مواجهة إنكار السامعين عليهما.
هذا يفسر لك لماذا قال القرآن «يحيى» التي يعجب لها علماء المسيحية، ولم يقل «يوحنا»، رغم علمه القاطع بأن المسيحيين يقولون «يوحنا» ولا يقولون «يحيى»، بدلالة نصه على معنى «يوحنا» الذي لم يفطن إليه المفسرون.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 227-232]


رد مع اقتباس
  #71  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:13 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(53) يحيى:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (53) يحيى
اخترنا عنوانًا لهذا الفصل كما رأيت: «المصدق والبشير»، وهما أبرز أعلام هذا الفصل، وأيضًا أبرز أعلام المسيحية أجمع الذين نختتم بهم هذا الكتاب.
أما «المصدق» فهو يحيى عليه السلام، المصدق بعيسى الذي هو كلمة من الله، لقوله عز وجل في يحيى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} [آل عمران: 39].
وأما «البشير» فهو المسيح ابن مريم، عيسى صلوات الله عليه، المبشر بخاتم النبيين، لقوله عز وجل: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6].
وفي الأناجيل التي بين يديك أن مريم عليها السلام حملت بعيسى عقيب حمل خالتها المعجز بيحيى، فكان يحيى وعيسى ابني خؤولة متعاصرين، بعث يحيى أولاً ثم أعقبه عيسى، فشهد كل منهما للآخر بالنبوة، يعني كان يحيى مصدقًا بعيسى على نحو ما تقرأ في القرآن. ولكنك لا تقرأ في الأناجيل التي بين يديك بشارة من المسيح باسم خاتم النبيين صريحًا، محمدًا أو أحمد، وإنما تقرأ في الأصول اليونانية لتلك الأناجيل أن المسيح بشر بإنجيل الله (مرقس 1/ 14) Kerusson to euaggelion tou theou (لا بملكوت الله كما تقول الترجمة العربية في نفس الموضع كما مر بك). وأنت تعلم بالطبع أن eudaggelion اليونانية (المحلاة في النص اليوناني بالبادئة eu- ومعناها الخيرة) تفيد معنى «الرسول»، فتفهم كمسلم – على ما يأتي في موضعه – أن «إنجيل الله» الذي بشر به عيسى في هذا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/233]
النص اليوناني euaggelion tou theou هو «رسول الله» الخيرة، أي صفوة الرسل وإمامهم، محمد بن عبد الله، الذي ختمت به النبوة والرسالة، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ولكن الذي نتوقف عنده في هذا السياق هو إعجاز النبوءة التي تضمنتها البشرى بيحيى عليه السلام ولم يولد بعد عيسى ولم يحمل به: إنها بشارة صريحة لزكريا بمولد عيسى عليه السلام، أسبق من بشرى جبريل لمريم بمولده، وأيضًا إنباء بأن محور رسالة يحيى هو التصديق بعيسى، كالذي كان، وسبحان علام الغيوب. ولا تفوتك تلك الصياغة المعجزة التي في قوله عز وجل «مصدقا بكلمة من الله»، فهو كلمة منه سبحانه، لا كلمة الله، ولا «الكلمة» على التعريف الذي يفيد الحصر، كما يخطيء فيها كثيرون، مسلمون وغير مسلمين، عرب وغير عرب، والفرق كما ترى بين المعنين جدٌّ كبير.
تجيء «يحيى» عربيًا على مضارع المفرد المذكر الغائب من الجذر العربي «حيا» فمعنى الاسم «يحيى» الذي في القرآن هو إذن – عربيًا - «الذي يحيي».
وللجذر «حيا» العربي (ويرسم أيضًا «حيى/ يحيى» كما يرسم «حيا/ يحيا») معنيان: المعنى الأول من الحياة نقيض الموت، تقول: لن أنسى لك هذا الصنيع ما حييت! يعني ما دمت حيًا لم أمت. والمعنى الثاني للجذر العربي «حيا» من الحياء بالهمزة، أي الاحتشام. تقول بهذا المعنى الثاني: حييت منه، تريد استحيت وخجلت. وأصله – أي الحياء – من الانقباض والانزواء، ومنه قيل للأفعى حية، لأنها تنقبض حين تستدير على نفسها كهيئة القرص.
والراجح عندي أن حيا حياءً لا حياة، مبدل من الجذر العربي الآخر «حوى» بالواو، الذي يقال منه: تحوت الحية، أي تجمعت واستدارت، فهي في الأصل «حوية» أبدلت «حية».
والذي يعنينا الآن هو: إذا كان الاسم «يحيى» في القرآن من الجذر «حيا» فبأي المعنيين هو، أبمعنى الحياء أم بمعنى الحياة؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/234]
نص القرآن على أن الاسم «يحيى» من الحياء، لا من الحياة، بقوله عز وجل {إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا} [آل عمران: 39]، فهو عليه السلام الحيي بمعنى الحصور، أي الحيي الذي يحيا حياءَ.
ولفظة الحصور في اللغة لها وجهان: الذي يكف نفسه عن شهوة النساء مع وجود القدرة، والثاني هو المكفوف عن النساء بآفة تقطع فيه هذه الشهوة. ويحيى بالمعنى الأول، لا بالمعنى الثاني، لأنه الذي يحيا، والذي يحيا إنما يحيى حياءً لا عجزًا، والعنين المجبوب لا يجد الشهوة أصلاً حتى يحيا ويعف. وما كان لنبي أن تكون به آفة، فما بالك بآفة يسميه الله بها فضلاً وتشريفًا، على ما مر بك من أن الله عز وجل هو الذي سمى، على غير سابقة سمعت في أعلام العبرانيين: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} [مريم: 7]. بل قد تقدمت على صفة «الحصور» في يحيى صفة «السيد»، في قوله عز وجل {وسيدا وحصورا} [آل عمران: 39]، وما كانت الناس لتسود عنينا أو مجبوبًا، حاشا لأنبياء الله أن تكون. والذي قلناه الآن بمنطق اللغة فحسب، أي أن الذي يحيا إنما يحيى حياء، كاف بذاته لقطع دابر إسفاف الرواة – الذي حكاه عنهم القرطبي رحمه الله في تفسيره الآية 39 من سورة آل عمران – ولا عليك من إسفاف الرواة.
بل كان يحيى صنو عيسى عليهما السلام: كلاهما بعث في ريعان الشباب ورئيه وحسيناه. ولم يلبثا في قومهما إلا قليلاً حتى قبضهما الله إليه، لا زوج ولا أبناء، فقد شغلا بصر الرسالة عن هذا وذاك. وربما قلت عن الله شاء برحمته ألا تكون لأيهما ذرية يفتتن بها الناس، أو كي لا يقال إن اللاهوت في المسيح على قول من قال يمنع من إتيان النساء، فقال له قد كان يحيى أيضًا على هذا المثال، أي كان يحيى وعيسى كلاهما حصورًا، لا يحيى وحده، وهذا مقطوع به عند المسيحيين جميعًا بلا خلاف، ودعك من تخرص المُجان بأقاصيص يحيى وسالومي، وخوضهم في المسيح والمجدلية، فهذا من عورات هذه الحضارة، التي تطاولت فاستباحت باسم «حرية القول» الاجتراء على مقام النبوة والنبيين.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/235]
هذا هو اسم «يحيى» عليه السلام في القرآن، عربي ليس فيه شبهة عجمة، جاء بصورة مضارع المفرد الغائب المراد منه اسم الفاعل كما جاءت يثرب ويزيد، فهو الحيي حياء. وقد عجب علماء المسيحية لمجيء القرآن بهذا الاسم، وهو عندهم «يوحنا» كما مر بك. ولكن «يوحنا» هذه نفسها أيضًا منكره عند آل زكريا أبي يحيى، الذين راجعوه في تسميته بالاسم يوحنا لأنه عندهم اسمٌ لم يتسم به من قبل أحد في عشيرتهم كما يروى لوقا في إنجيله، وقد مر بك. وقد عجبت أنت أيضًا لإنكارهم هذا الاسم «يوحنا»، رغم فشوه في أعلام العبرانيين بصورة أخرى هي «يوحنان». وعلماء المسيحية يقولون لك أن «يوحنا» هي نفسها «يوحنان»، دليلك في هذا أنهم في ترجماتهم الأناجيل إلى العبرية لا يقولون قط «يوحنا»، وإنما يقولونها على أصلها العبري «يوحنان». وهم أيضًا يفسرون معنى «يوحنا» بنفس معنى «يوحنان»، البادئة المشتركة فيهما «يو» مختصر «يهوا» اسم الله في العبرية، أما «حنان» و«حنا» فهما كلتاهما مصدر من الجذر العبري – الآرامي «حنن» (نفس الجذر العربي «حن») والمعنى أنه «حنان من الله»، تمامًا كالعلم العبري الآخر «حنانيا»، أي هو يو + حنان، قدم فيه اسم الله عز وجل على التعظيم.
ترى أكان عجب آل زكريا لهذا الاسم «يوحنا» لأنهم لم يدركوا أن «حنا» معناها «حنان»؟ كيف، وعندهم «حنا» بمعنى «حنان» (وترسم أيضًا في الترجمات العربية «حنة») اسم خالة يحيى أم مريم عليها السلام؟
لا منطق في هذا القول بالطبع. وإنما كان عجب آل زكريا من هذا الاسم «يوحنا» حين أملته عليهم اليصابات أم يحيى، أنهم سمعوه منها بنطق مغاير لم يطرق آذانهم من قبل: سمعوه «يوحنى» بالكسر في الياء على الإمالة، لا بالفتح، تماما كما أثبتها بالكسر في الياء كتبة الأناجيل في الأصل اليوناني Ioannes يُوَنّس، لا Ioannas يُوَنِّس (السين في الحالتين هي سين الرفع اليونانية). ولا يصح لك العدول عن هذا النطق الإنجيلي الأصلي في لغته الأصلية، فهو العمدة في هذا الباب – أعني الأسماء الأعلام بالذات، فهم رواة المسيحية الأوائل، سمعوا أو عاينوا، بل قد كان منهم – لا سيما متى الحواري ومرقس تلميذ بطرس رئيس الحواريين – من عاصروا يحيى عليه السلام وسمعوا منه ونادوه. نعم، قد ذهبت حاء «يوحنى» في الرسم اليوناني، لأن اليونان لا يستطيعون الحاء، ولكن ما العلة في عدولهم عن المد بالألف إلى الإمالة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/236]
بالكسر، وقد قالوا في يونس Ionas ولم يقولوا Iones؟ لا علة بالطبع إلا أنهم سمعوه هكذا: يوحنى لا يوحنا.
أما الذي نتوقف عنده لنسبح معًا العليم الخبير القائل بكل اللغات، فهو أن «يوحنى» هذه (التي تستطيع أن ترسمها أيضًا «يحنى») بالكسر على الإمالة في آخره لا بالفتح، تفيد في العبرية – الآرامية معنى «الله أحصر» فهو الحصور التي في القرآن.
في عبرية التوراة، وفي العبرية المعاصرة، وفي الآرامية أيضًا، الجذر «حنا» غير مشدد النون، تقول منه عبريًا وآراميًا على سبيل المثال: «حنا على عير» («عير» يعني المدينة)، أي ضرب عليها الحصار. فهو بمعنى حصره وصراه وضيق عليه.
والمشدد من هذا (أي زنة فعل العربي) هو «حنى» بكسر الحاء في العبرة وبفتحها في اللهجة الآرامية التي غلبت على ألسنة الناس في ربوع فلسطين منذ ما قبل عصر المسيح بثلاثة قرون على الأقل. والمعنى هو «شدد الحصر عليه».
على هذا يكون معنى «يو + حنى» (بإضافة «يو» مختصر اسم الله عز وجل في العبرية) هو «الله أحصر» بمعنى «الذي أحصره الله»، فهو الحصور التي في القرآن.
والذي يدلك على أن «يوحنا» لا تصح عبريًا بمعنى «يوحنان» الاسم العلم الفاشي في أعلام العبرانيين، أن علماء العبرية المسيحيين لم يستجيزوا «يوحنا» في موضع «يوحنان» عندما ترجموا الأناجيل اليونانية الأصل إلى العبرية، بل رفعوا «يوحنا» ووضعوا في موضعه «يوحنان». أعني أنهم فهموا «يوحنا» بمعنى «يوحنان» فترجموا «يوحنا» إلى «يوحنان» عبريًا بعبري، فهم قد قرءوها في النص اليوناني «يوحنى»، فاستشكل عليهم المعنى كما استشكل من قبل على آل زكريا يوم أملته عليهم اليصابات على الحرف الذي سمعه زكريا من الملائكة في المحراب، فقربوه إلى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/237]
«يوحنا» وترجموا «يوحنا» إلى يوحنان، العَلَمِ العبرانِّي المألوف لهم، تمامًا كما فعل السريان في أناجيلهم التي ترجموها كما تعلم عن اليونانية مباشرة، ولكن المنطق السرياني يستسيغ «يوحنا» لختامها بألف المد، التي تبدو كأنها أداة التعريف الآرامية كما مر بك، فأخذوها على أنها تَرخيم «يوُ + حَنانَ + أ»، تؤول إلى «يوحننا» فإلى «يوحنا».
ولعلك تجد معنى الحصور الذي أحصره الله في قول المسيح عليه السلام: «فقال لهم ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطى لهم. لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم. ويوجد خصيان خصاهم الناس. ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل» (متى 19/ 11 – 12) وهذا من معنى «يوحنى» أي يحيى علي السلام جد قريب، ولكن لم يلتفت إليه في تفسير معنى هذا الاسم أحد.
ولكن القرآن المعجز الذي علم هذا كله من قبل، جاء بالاسم «يحيى» على الترجمة لمعنى الحصور الذي في «يوحنى» التي في الأناجيل اليونانية. ولم يفته أيضًا معنى الاسم الشارع عند معاصريه: يوحنا = يوحنان = حنان من الله. فقال عز وجل: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا} [مريم: 12 – 13] وقد فاتت على مفسري القرآن «حنانًا من لدنا» هذه التي هي طبق الأصل من «يوحنان» المبدلة من «يوحنا»، فقد روى القرطبي في تفسيره للآية 13 من سورة مريم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: «لا أدري ما الحنان»، يعني لا يدري موضعها ووجه دخولها في الآية، أما أنت فلا أحسب أنها تفوتك الآن، بل ولا أظنها تفوتك أيضًا عبارة «وكان تقيا» في الآية، وهي من معنى يحيى الحي الحصور قريب، وسبحان العليم الحكيم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 233-238]


رد مع اقتباس
  #72  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:15 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(54) عمران:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (54) عمران
«عمران» المعنى في القرآن هو والد مريم أم عيسى، يعني جد المسيح صلوات الله عليه. ولكن الأناجيل التي بين يديك لا تنص على اسم أبي مريم. والمشهور أنه مات قبل مولدها عليها السلام، فلم يشهد ولادتها ولم يسمها بل سمتها والدتها كما تقرأ في القرآن، ولكن الله عز وجل {كفلها زكريا} [آل عمران: 36 – 37]، وزكريا هو أبو يحيى، زوج اليصابات، خالة مريم.
ولأن الأناجيل لم تحفظ لك اسم أبي مريم، لا تقول عمران، ولا تقول أيضًا باسم له غير عمران، فقد عجب أدعياء الاستشراق المنكرون الوحي على القرآن لقوله: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]. فمن أين جاء القرآن باسم أبي مريم ولم تسمه الأناجيل؟ لا بد قد شبه له ولبس عليه! لأن القرآن عند هؤلاء الأدعياء ليس متهمًا بالنقل عن أهل الكتاب فحسب ولكنه أيضًا – كبرت كلمة تخرج من أفواههم – متهم على الأخص بالخط والتخليط: قد علم محمد صلى الله عليه وسلم باسم عمران أبي موسى وهرون في التوراة (واسمه عمرام في النص العبراني) فأسقط اسم عمران أبي موسى على أبي مريم، التي خلط من قبل بينها وبين «مريام» ابنة عمران، أخت موسى وهرون، فقال على لسان قوم مريم أم عيسى عليهما السلام: {يا أخت هرون} [مريم: 28] يحسبها أختًا لموسى وهرون ابني عمران (عمرام في النص العبراني) وبين موسى وعيسى ثلاثة عشر قرنًا على الأقل. ولا يليق هذا بمستشرقين «علماء» يظن بهم العلم وتفترض فيهم نزاهة البحث فيتتلمذ عليهم الناس، ناهيك بمن اتخذوهم أئمة مطلع القرن العشرين في مصر بالذات.
فقد مر بك من قول لوقا في إنجيله، صف اليصابات زوج زكريا أبي يحيى: «وامرأته من بنات هرون واسمها اليصابات» (لوقا 1/ 5)، ولم يقل أحد بالطبع أن اليصابات زوج زكريا أبي يحيى – التي يفصل بين حملها بيحيى وبين حمل مريم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/239]
بعيسى ستة أشهر فقط كما سطر لوقا في إنجيليه (لوقا 1/ 26 – 36) – كانت ابنة لهرون أخي موسى ابني عمران، لقول لوقا إن اليصابات كانت من «بنات هارون»، وإنما فهم أهل الإنجيل على الفور من عبارة لوقا «بنات هرون» هذا الذي استغلظ على أدعياء العلم فهمه من عبارة القرآن «أخت هرون»، فهم يقرءون في سفر الخروج بالعهد القديم أن الكهانة جعلت ميراثًا في سبط هرون أخي موسى، حتى صارت الهارونية علمًا على السالكين في سلك هرون أصحاب الكهنة والسدانة.
ولا تستطيع أن تقول أن أدعياء الاستشراق المنكرين على القرآن قوله «أخت هرون» جهلوا هذا، فهم إما يهود وإما نصارى وإما ملحدون ولدوا في إحدى هاتين الملتين، وإنما تقول جازمًا مصيبًا غير مخطئ، أنهم دلسوا عليك، فدلسوا على أنفسهم. وتلك من العالم بالذات زلة لا تغتفر، لأنها تمنعك من التتلمذ عليه وأخذ العلم عنه.
وقد كان أدعياء الاستشراق هؤلاء كلهم هذا العالم المدلس، كلما خاضوا في القرآن بقول أو أرادوا سوءًا بأهله. وكانوا يظنون أن عبثهم هذا بمنجاة أن يفتضح، فقد جمعوا بين ضغنهم القديم على القرآن وبين الاستهانة بأهله، لا يرونهم أهلاً لحجاجهم أو تحقيق مقولتهم، ولكن الله عز وجل يقيض لهذا القرآن إلى يوم القيامة من أهله في كل قرن من يذب عنه، له الفضل والمن، والحمد لله وحده.
وقد كان عُذر التلاميذ الذي افتتنوا بهؤلاء «الأساتذة» مطلع هذا القرن هو ضخامة الجهد الذي بذله هؤلاء المستشرقون في أبحاثهم، إن أنكرت بعضه فلا تملك إلا أن تجل بعضه، فأصابت التلاميذ الفسولة، وقعدت بهم همتهم عن تتبع مقولة المستشرقين في مصادرهم. فلما شب التلاميذ عن الطوق، واستقلوا بأبحاثهم، كان الوقت قد فات، فقد ترسخت مقولة الاستشراق وتحصنت بما يشبه القداسة. وربما عز على الأشياخ في مجتمعك من بعد أن يراجعوا أنفسهم فيما نقلوه من قبل عن هؤلاء المستشرقين وكتبوه، بل وطنطنوا به في صدر الشباب وزهوه، وشرته. بل لا تزال في مجتمعك بذرة من هؤلاء التلاميذ، ورثوا تعظيم الاستشراق، يحاجون عنه في الغث والسمين ويلتمسون لأهله العلة، ويدفعون عنهم ظن السوء والتهمة. وربما عز على هؤلاء ما نقوله الآن، وأبوا عليك اتهام المستشرقين المنكرين على القرآن قوله في مريم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/240 ]
أم عيسى «أخت هرون»، بالتدليس. ولكنك ما أن تعفى من تهمة التدليس هذا المستشرق وأضرابه الذين أنكروا على مريم أم عيسى «أخوة هرون»، حتى تضطر اضطرارًا إلى اتهامه هو وإخوته بالجهل الفاضح، لأنه لم يفهم معنى «أخوة هرون» عند أهل التوراة الذين ينقل القرآن مقولتهم لمريم عليها السلام أم المسيح صلوات الله عليه. والجهل أهون من تعمد التدليس، ولكن الجهل من عالم أو مدعي علم يصرفك عن التتلمذ عليه، أو الاعتداد بمقولته، إلا أن تراجعه فيها، فترده إلى جادة الصواب إن أخطأ وتقبل منه إن أصاب. ولكنك لا تأخذ من هذا العالم أو مدعي العلم شيئًا قط يقوله في القرآن، الذي يحاج القرآن بالتوراة والإنجيل، ولا يعلم علم ما في التوراة والإنجيل.
بل لا يعلم هذا المدعي العلم علم ما في القرآن الذي تصدى لحجاجه، وإنما هم يأخذون منه نتفًا من هنا أو هناك كيفما اتفق، ولو قرءوا القرآن كما تجب قراءة القرآن لخجلوا من أنفسهم كيف ادعوا عليه الجهل ببعد ما بين موسى وعيسى عليهما السلام حتى يخلط ما بين مريم ابنة عمران أم عيسى وبين «مريام» ابنة عمران أخت موسى وهرون، وهو يعلم أن رسول المسيحية جاء بالإنجيل بعد ما جاء موسى بالتوراة، فكيف يتعاصران. بل كيف يتعاصران وبينهما جم غفير من الرسل: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] وقوله عز وجل في عيسى آخر رسل الله إلى بني إسرائيل: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم} [الحديد: 26 – 27] أي قفينا بعيسى ابن مريم ختامًا لجميع أنبياء بني إسرائيل، فكيف يكون موسى هو خاله؟
الذي يبلغ من فقهه بديانة اليهود أن يعلم معنى «أخت هرون» ومدلولها في مصطلحات اليهود ومواضعاتهم، لا تستكثر على واسع علمه أن يعلمك من قد كان أبو مريم أم عيسى عليهما السلام، عمران غير المذكور بالاسم في الأناجيل. قد قالها القرآن «عمران» ولم يقلها غيره، عالم الغيب والشهادة، أبصر به وأسمع.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/241]
ليس أمام المنكرين أبوة عمران لمريم عليها السلام أم المسيح صلوات الله عليه، إلا أن يأخذوا من القرآن اسم أبي مريم، فلا مصدر أمامهم في هذا غير القرآن، والقرآن لو علموا مصدر أي مصر. أو يأتوا لعمران جد عيسى عليه السلام باسم آخر، حررًا موثقًا، وإلا فليصمتوا هم والمنكرون أخوة هرون على مريم بعد نشر هذا الكتاب، صمتًا طويلاً.
من بين ما يستوقفك في القرآن – والذي يستوقفك في القرآن كثير – أنه لا يجيء قط باسم نبي من الأنبياء على النسب لأبيه، كأن يقول مثلاً: موسى بن عمران، وإنما يقول موسى فقط، أو هودًا فحسب، لا ينسب هذا أو ذاك، لأن النبي أشهر من أن يعرف بأبيه، ولأن القرآن لا يهتم أصلاً للنسب، خلافًا لما تقرأ في العهد القديم، إلا أن تعلم من القرآن اسم الأب في سياق حديث الابن فيه نبي صنو أبيه، كما في داود وسليمان، وكما في إبراهيم وبنيه، إلا أن يريد القرآن الإدلال بعلمه وإعجازه، فيسمي لك «آزر» أبا إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} [الأنعام: 74]، وما كان أغناه عن «آزر» هذه، ولو أسقطها من سياق الآية لجاز، ولما اختل وزن أو نظم، ولكنه أراد منها إعلام أهل الكتاب ما لم يعلموه، أو يفسر لهم بها معنى «تاريح» اسم أبي إبراهيم في سفر التكوين. ومن هذا أيضًا قوله: {ومريم ابنة عمران}[التحريم: 12]، لا يريد منها إلا الإدلال بعلمه وإعجازه، يسمى لهم بها أبا مريم – جد عيسى عليه السلام – غير المذكور بالاسم في الأناجيل. أما المسيح عليه السلام فهو استثناء وحيد من كل هذا الذي قلناه: قلما يجيء به القرآن إلا منسوبًا إلى والدته «أمة الرب» مريم الصديقة «أخت هرون»، الهارونية، أي السالكة في سبط هرون، الكهنة سدنة هيكل الرب، فلا ينفك القرآن يقول: عيسى ابن مريم، حتى في خطاب الله عز وجل إياه: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم} [المائدة: 116]. وما ذاك إلا على التشريف لمريم عليها السلام، التي صدقت بكلمات ربها يوم نفخ فيها جبريل، وإذكارًا بإعجاز مولى عيسى: أنه ابن مريم فحسب، لا أب له سواها ولا أم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/242]
والذي أريد أن أصل بك إليه هو أن القرآن لا يدلك على اسم أبي موسى وهرون، المدعو «عمرام» في النص العبراني لأسفار التوراة، فلا تقطع من القرآن بلفظ هذا الاسم لو عربه القرآن، أيجيء على أصله العبري في التوراة «عمرام»، أم يصير إلى «عمران» فيكون سميا لجد عيسى عليه السلام في القرآن؟ لا سبيل إلى هذا بالطبع من القرآن لأنه لم يسم أبا موسى وهرون.
ولكنك لا تتلبث طويلاً عند هذا، فقد قرأت من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تسمية أبي موسى وهرون: «وأيم الله لو سمع بي موسى بن عمران لما وسعه إلا اتباعي!» فتوقن أن الاسمين واحد، عمران التي في هذا الحديث، ومرام التي في التوراة.
وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، فهل جاءت «عمران» على ألسنة العرب تعريبًا للاسم العبراني «عمرام»، أعني أن «عمرام» هي الأصل الذي جاءت منه عمران، أم العكس، أي أن «عمران» هي الأصل الذي تحور على ألسنة العبرانيين إلى عمرام؟
إذا كانت عمران هي الأصل فهذا يعني أن عمران التي في القرآن عربية، تفسر بالعربية وحدها. أما إذا كانت عمرام اسم أبي موسى في التوراة هي الأصل فهذا يعني أحد أمرين: إما أن عمران التي في القرآن عربية أيضًا يترجم بها القرآن عمرام التي في التوراة ومن ثم تفسر أيضًا بالعربية وحدها، وإما أن عمران التي في القرآن ليست عربية وإنما هي تعريب لفظي لصنوها في التوراة «عمرام» فلا يتسنى تفسير عمران التي في القرآن إلا بفهم صنوها العبري «عمرام».
ولأن عمران جد عيسى عليه السلام في القرآن رجل من بني إسرائيل، بل هو من سبط لاوي بالذات، سبط موسى وهرون ابني عمرام الذي في التوراة، فأنت تقطع بأن اسمه كان يلفظ بين أهله وعشيرته عمرام، لا عمران التي جاءت في القرآن إما على الترجمة وإما على التعريب. لهذا يتعين استقصاء وجوه معنى عمران العربية قبل الانتقال إلى فهم معنى عمرام، اسم أبي موسى وهرون، عند علماء العبرية وعلماء التوراة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/243]
وردت «عمران» في القرآن ثلاث مرات فحسب، كلها في جد عيسى عليه السلام، لا في أبي موسى وهرون. وهي في المرات الثلاث لم تأت قط منفردة وإنما على الإضافة فحسب: «آل عمران»، «امرأة عمران»، «ابنة عمران». تجد هذا في قوله عز وجل: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم}[آل عمران: 33 – 34]، سميع لدعوة إبراهيم في إمامة الناس من بعده، عليمٌ بالصالح من ذرية إبراهيم لهذه الإمامة. وقوله عز وجل: {إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} [آل عمران: 35]، أي نذرت ما في بطني لخدمة الرب، خالصًا لهذه العبادة، فتقبل مني النذر الذي تعلم إخلاصي فيه، فأنت السميع لما أعلنت، العليم بما أسررت. وقوله عز وجل يزكي مريم عليها السلام مع امرأة فرعون مثلاً للذين آمنوا: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12].
ولقد قال مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 33 من سورة آل عمران9، إن «عِمْران» عربية، مُنِعَت من الصرف فقط لزيادتها بالألف والنون، فهي من الجذر العربي «عَمَرَ» الذي تعددت أعلام العرب منه: عمرو (وأصلها «عَمْر» زيدت بالواو في الرسم لا في اللفظ فارقًا بينها وبين «عمر»)، عمر (وهي زنة مبالغة من «عامر»)، عامر، عمارة، عمير، وأيضًا «عمران» هذه نفسها التي سمعت في أعلام العرب قبل القرآن. وفي العربية أيضًا الاسم العلم «عمار» (ومنه عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين).
ولكن مفسري القرآن – ترتيبًا على عربية «عمران» - لا يفسرون لك معنى هذا الاسم العلم في العربية، شأنهم في كل علم عربي ورد في القرآن، لأنهم يفترضون فيك العلم بمعناه، تستخلصه من كافة معاني مادة ع/ م/ ر العربية، تنتقي منها الوجه الذي تشاء في تفسير الاسم «عمران» جد عيسى صلوات الله عليه. ربما قلت إنه من «العُمْر» بمعنى مدة الحياة، وربما قلت إنه من العُمران ضد الخراب، أو من المأهول نقيض القفر، إلى آخر ما تعلم من وجوه معاني هذه المادة العربية «عمر». ولكنك وقد علمت أن عمران التي في القرآن هي كفء عمرام التي في التوراة – لا تستطيع أن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/244]
تأخذ من «عَمَر» العربية في تفسير عمران التي في القرآن إلا بمعنى واحد فقط، هو المعنى الذي يشترك فيه هذا الجذر العربي مع صنوه من نفس مادته في العبرية أي الجذر العبراني «عَمَرْ»، وإلا امتنع عليك مقابلة عمران بعمرام.
هذا المعنى الوحيدُ الذي يلتقي فيه «عَمَرَ» العربي صنوه العبراني «عَمَرْ» هو معنى واحد، لسبب بسيط وهو أن «عَمَرْ» العبراني ليس له إلا معنى واحد، وهو «السدانة» والسادن هو خادمك الذي يلازمك، استيعرت لخدمة المسجد أو المعبد خاصة.
أما أن «عَمَرَ» العربية تجيء بهذا المعنى، فحسبك قول الله عز وجل في نعيه على مشركي قريش اعتدادهم – على كفرهم – بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} [التوبة: 19]، بعد أن مهد لها بقوله عز وجل: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة: 17 – 18]. أي لا تصح عمارة المسجد إلا لمؤمن بالله واليوم الآخر، متعبد فيه بما تعبده به الله، لا يخشى غيره، لا لمشرك مكذب باليوم الآخر، يشهد على نفسه بالكفر إذ يتعبد في الكعبة وما حولها لغير الله عز وجل وهو يدعى سدانة بيته. وقد تفاوت قول المفسرين الذي حكاه القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآيات الثلاث حول معنى عمارة المسجد: اقتربوا ولم يستوفوا. لم يفتخر كفار قريش بأنهم يؤمون المسجد الحرام للعبادة فيه كما تفهم أنت اليوم من «عمار المساجد» الملازمين الصلاة فيها. وليست العمارة هي إعمار المسجد أي كونه عامرًا بهم. وليست هي فحسب معاهدة المسجد والقيام بمصالحه، أو تعهده بالتنظيف والإصلاح والصيانة. هذا كلام مطول يجمعه قولك: «السدانة»، وهي بالذات التي تباهي بها كفارُ قريش. والسادنُ كما مر بك هو
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/245]
في الأصل خادمك الذي يلازمك، أو هو حاجبك الآذن كما في معجمك العربي. والمعنى الباقي في «عَمَرْ» العبراني هو هذا نفسه: «عُمير» العبري (بالإمالة في الياء) يعني «الخادم»، جاءت منه عبرية التوراة بالاسم العلم «عُمْرى»، ملك من ملوك بني إسرائيل، واصله «عُمْريًّا» يعني «خادم الله»، أي خادم بيته، فهو السادن. وعمير العبري هي اسم الفاعل عبريًا من «عَمَرْ» العبري، فهي مكافئ «عامر» العربي. ولئن كانت عبرية التوراة (والعبرية المعاصرة أيضًا) قد أماتتا «عَمَرْ» العبري في ثلاثيه المجرد، فقد استبقتاه كلتاهما في صيغة «هتفعل» (نظيرة تفعله واستفعله العربية) فتقولان «هتعمر» تعنيان تعبده وتخدمه وتمهنه، فتقطع بأن «عَمَرْ» العبري كان معناه في ثلاثيه الممات: خدم وعبد، وأن الاسم منه هو الخادم العابد. لا معنى له غير هذا من مختلف معاني «عَمَرَ» العربي.
«عَمْرام» العبرية، اسم أبي موسى وهرون في التوراة من هذا لا من غيره – مع الاعتذار الواجب لعلماء العبرية وعلماء التوراة الذين ليسوا على هذا الرأي.
عَمْرام العبرية على القول الذي به نقول هي نفسها عمران العربية جذرًا ومعنى: السادن، خادم المسجد أو المعبد.
وربما قلت: فكيف يجيء معنى السدانة والخدامة من الجذر العربي «عَمَر» وهو في أصل معناه البقاء والحياة؟ وأقول لك إن العكس هو الصحيح: الأصل البعيد وراء كل معاني الجذر العربي «عَمَر» هو الملازمة، التي تفسر كل ما تفرع عنه من معان: المكث الذي جاء منه العُمر بمعنى مدة الحياة، والسكنى التي تجيءُ منها عمارة المكان، والتعهد الذي تجيء منه عمارة المال وتعميره، والقبوع الذي يجيء منه اسم لباس الرأس مثل «العمارة» بمعنى «العمامة»، إلى آخر ما تعلم.
أما الذي قد لا تعلمه لندرته فهو أنه من مادة «عَمَر» العربية هذه تجيء في العربية لفظة «العَمْر» بمعنى الدين والملة، ومن هذه يجيء الاسم «عمار» بمعنى الكثير الصلاة والصوم، يعني الملازم العبادة، فيكون العامر بمعنى العابد.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/246]
ومن هذه الملازمة استبقت العبرية «عُومِر» العبرانية بمعنى الحُزمة والربطة كما استبقت أيضًا الفعل المضعف العبري «عِمِّر» بمعنى حَزَم.
أما علماء العبرية وعلماء التوراة فهم يقولون أن «عَمْرام» ليست لفظة وحيدة الجذر، لا من «عَمَرْ» ولا من غيره، وإنما هي اسم مزجي مركب من شقين: عَمْ + رام، «عَمْ» بمعنى الشعب أو الأمة، «رام» بمعنى علا أو تعالى (فعل ماض) أو هي اسم الفاعل منه أي عَلِيٌّ أو مُتعالٍ.
من هنا فهم فريقٌ منهم هذا الاسم على معنى الفاعل وفعله، فقالوا إن معناه هو «الشعب علا» أو «تعالى الشعب».
أما الفريق الآخر فقد فهم الاسم على معنى المضاف والمضاف إليه فقال بل هو «شعب العلي»، يريد «شعب الله».
وكلا الوجهين كما ترى مفتعل. لأنهما كليهما لا يصلحان اسمًا لرجل، إذ ما معنى أن تسمى ابنًا ولد لك «شعب الله» أو «تعالى الشعب»؟
أهي النبوءة بأنه سيخرج من صلب عمرام الرجل الذي سيتعالى به الشعب، موسى الذي سيقود خروج بني إسرائيل من مصر ويصنع منهم «شعب الله»، أو هي محاولة تعظيم موسى عن طريق التفخيم في اسم أبيه؟
الملاحظة الأولى على هذا أن الاسم العلم عمرام لم يقع في أعلام العبرانيين قبل أبي موسى، وإن فشا من بعده في أعلام إسرائيل نسبة إليه. وقد تزوج عمرام أبو موسى من «أم موسى» أيام محنة بني إسرائيل في مصر. وحتى إن سلمت بأن مولد عمرام وتسميته كانا سابقين على هذه المحنة، أي سبقا بسنوات انقلاب فرعون مصر عليهم، فلا يذهبن بك الظن إلى أن قوم موسى كانوا قبل هذا الانقلاب مباشرة – وهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/247]
ضيوف إن لم تقل دخلاء على أهل مصر – يستطيعون مباهاة المصريين بقولهم «تعالى الشعب» أو «الشعب علا» في وصف أنفسهم، فضلاً عن أن يتسموا بها في أبنائهم، آمنين ألا ينكر المصريون عليهم، أو في أقل القليل أن يتخذ المصريون من اسم هذا المولود الذي سيتعالى الشعب به مزحة يتندرون بها، فلم تكن العبرانية بعد قرون من مقام بني إسرائيل في مصر طلاسم مطلسمة في آذان المصريين، وحتى إن بقيت طلاسم مطلسمة في آذانهم، فما كانوا ليعدموا من يفسر لهم معنى هذا الاسم من بين خلطائهم العبرانيين المتقربين إليهم بالمودة على حساب بني قومهم.
والملاحظة الثانية هي أن فكرة «شعب الله» لم تنبت في أدمغة بني إسرائيل إلا من بعد موسى، فكيف ينحت منها اسم أبيه؟
والملاحظة الثالثة هي أن اختلاف علماء العبرية وعلماء التوراة حول معنى هذا الاسم عمرام، وانقسامهم في تفسيره بين «تعالى الشعب»، «شعب الله» يدلانك على أنه ليس له أي تفسير معروف في مأثورات بني إسرائيل، على نحو ما مر بك من شغف كتبة التوراة بتفسير الأسماء الأعلام أو مناسبة التسمية، مثلما فسروا اسم موسى بن عمران، ولو كان للاسم عمرام تفسيرٌ مأثور، معلوم، مستقر عليه، لما انقسم في تفسيره علماء العبرية وعلماء التوراة، ولكنها اجتهادات لهم، كل يدلي بدلوه، لا تلزمك.
ولم لا يقال إن «عمْ + رام» (مكسور العين في «عم» يعني «مع») يراد بها «مع العلي»، أي «مع الله» لا «شعب الله»، يعني السالك مع الله (هوليخ عم رام عبريًا) اختصرت إلى «عم + رام»، كما قالوا «عمانوئيل» أي الله معنا، ثم تحورت كسرة العين إلى الفتح؟
تستطيع أن تقول هذا وأمثاله فلا تنتهي، ولكنك تتوقف عند عمرام بمعنى عمران، الملازم العبادة، أو السادن خادم المعبد، تستخلص معناه مباشرة من الجذر «عَمَر» دون حاجة إلى افتراض «مزجيات» لا داعي لها. وقد مر بك من قبل انه حين يستعصى فهم لفظ في الساميات فلا بد من التماسه في أمها، أي في العربية، وقد عرف العرب «عمران» قبل الإسلام بقرون وتسموا به، لم ينقلوه عن العبرية المختلف فيها على معناه. دليلك في هذا أني هود مكة ويثرب قالوا في اسم أبي موسى وهرون
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/248]
«عمران» يعنون «عمرام» الذي في التوراة، عالمين أن اللفظين واحد. ودليلك فيه أيضًا ورود هذا الاسم بالنون لا بالميم في كتابات Lucian وهو من أعلام القرن الثاني للميلاد، ووروده بالنون أيضًا في نقش حوراني باليونانية Emranes «عمرانس» (السين للرفع)، فتقطع بعربية «عمران» كما قطع بها المستشرق الذي ننقل عنه هذا الكلام.
ولكن هذا المستشرق لا يريد الإقرار بأن «عمران» العربية هي الأصل وراء عمرام التي في التوراة، وأن بني إسرائيل في مصر استعاروا «عمران» من جيرانهم الساميين فآلت على لسانهم إلى «عمرام» مع وحدة الجذر والمعنى. وإنما هو يقول ما تفهم منه أن القرآن شاكل عمران العرب يعلى عمرام العبري يظنهما واحدًا، لأن هذا المستشرق وأضرابه لا يحققون معاني الأسماء الأعلام، وإنما يهتمون فحسب للتقارب اللفظي، يظنون أن القرآن كدأبهم هم يأخذ نتفًا من هنا ونتفًا من هناك دون تثبت، وفاتهم كما مر بك أن اليهود في مكة ويثرب قالوا هم أنفسهم «موسى بن عمران» ولم يقولوا «موسى بن عمرام».
على أن هذا المستشرق وإخوته يقعون رغم أنفهم، أو قل بتعسفهم النعي على القرآن، فيما ينقض دعواهم: إذا كانت عمران عندهم عربية الأصل من الجذر «عمى» (ولا يصح اشتقاق في عمران إلا من عمر) فليس هي إذن «عَمْ + رام» العبرية المفترض معناها «تعالى الشعب»، أو «شعب الله»، ومن ثم فليس الاسمان واحدًا، ولا وجه بالتالي للقول بأن القرآن يخلط بين عمران جد عيسى وبين عمرام أبي موسى وهرون.
ولئن كانت «عمران» عربية، لا تدخل في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، فقد أدخلناها في مباحث الكتاب للرد على المستشرقين المنكرين الوحي على القرآن، من جهة، ومن جهة أخرى لأن القرآن الذي فسر الاسم عمران على المشاكلة مع عمرام الذي في التوراة لم يكتف بذلك، وإنما فسر معنى هذا الاسم أبين تفسير بالمرادف، بل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/249]
قد جانس عليه في تفسير معنى الاسم «مريم»، فهو العامر العابد، وهي أمة الرب، وسبحان العليم الخبير القائل بكل اللغات.
قال عز وجل: {إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} [آل عمران: 35]، والمنذور لله عز وجل محررًا، هي نفسها «عمران»، الملازم العبادة، الملازم بيت الرب، وكأنها رضي الله عنهما أرادت عمران آخر سميًا لزوجها عمران، وكأنها لو وضعته ذكرًا لأسمته عمران على اسم أبيه. ولكنها رزقت بالأنثى، مريم عليها السلام، فأسمتها بالمؤنث منه: مريم، يعني أمة الرب.
وقال عز وجل أيضًا: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]، يعني كانت ابنة عمران صنو أبيها، اسمًا على مسمى، وهل القانت إلا العامر العابد عمران، وهل أمة الرب من هذا ببعيد؟
وربما قلت: وما وجه الإعجاز والقرآن عربي وعمران عربية، فهو يفسر عمران على أصل معناها في لغته؟ وهذا صحيح.
ولكن الإعجاز الذي أريد أن أدلك عليه هو أن القرآن الذي علم معنى «عمران» من العربية، يجانس عمران العربية هذه على «مريم»، أمة الرب، ومريم اسم آرامي بحت كما سوف ترى. فأي إعجاز وأي علم!)
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 239-250]


رد مع اقتباس
  #73  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:17 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(55) مريم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (55) مريم
«مريم» أم عيسى عليهما السلام، اسم آرامي مزجي مرخم، أصله: ماري + أما، المقطع الأول يعني بالآرامية «الرب»، والمقطع الثاني «أما» يعني بالآرامية أيضًا نفس ما تعنيه «الأمة» عربيًا، فاسمها عليها السلام يعني «أمة الرب»، قدم فيه المضاف إليه على المضاف، تعظيمًا لاسم الرب تبارك وتعالى، مثلما رأيت في «يو + حنان» المبدلة من يوحنا وهو يحيى بن زكريا عليهما السلام. وكان حقه أن ينطق: ماريأما، كاملا، ولكن المزجية سهلت الهمزة، أصبح: ماريما، ثم رخم بحذف ألف المد الخاتمة، فأصبح «مريم» طبق الأصل من نطقه اليوناني Mariam في الأناجيل اليونانية، وهو نفس نطقه في القرآن.
أما «ماري» الآرامية بمعنى «الرب» فهي تجيء من اللفظة العربية «إمرؤ» (تنصب على «إمرأ» وتجر على «إمرئ»)، وأيضًا «مرء»، ومن هذين يجيء المؤنث «امرأة» وأيضًا «مرأة». وأصل معنى «إمرؤ» العربية ليس هو مطلق الرجولة أو الذكورة، وإنما أصله من «السيادة»، ومنه جاءت «المروءة» يعني خلق السادة، أي الشهادة، فالمرأة يعني في الأصل «السيدة» مؤنث «مرء» بمعنى السيد، ولكن المرء والمرأة أميتتا بهذا المعنى في العربية، ولم تبق منهما إلا هذه الدلالة المبهمة على آحاد الناس: المرء مفرد الناس، والمرأة مفرد النسوة، لا يدلك على أصل ما كانا عليه إلا هذا المصدر منهما: المروءة.
وأما لماذا أماتت الآرامية لفظة «راب» بمعنى السيد الرب، واستعاضت عنها بلفظة «ماري» (وأيضًا «مار» بدون ياء) بمعنى الرب والسيد، فلأنها – أي الآرامية – أماتت «راب» بمعنى الرب، واستبقت منها معنى «الربو» أي الكبر والزيادة، فآلت «راب» في الآرامية إلى معنى كبير أو عظيم، ومنها «ربربان» الآرامية بمعنى الكبراء الأكابر، ومن هنا لم تعد «راب» الآرامية صالحة للاستعمال بمعنى السيد الرب، لا في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/251]
حق البشر، ولا في حق الله عز وجل من باب أولى. وقد خصصت الآرامية لفظة «ماري» (المختومة بالياء) لله عز وجل بمعنى «الرب» لا تقال في غيره، وأفردت «مار» بدون الياء للسادة من البشر، ومن هذا: مار مرقس، يعني السيد مرقس، والمؤنث منه «مرت» بتاء التأنيث الآرامية، إن أضفت في آخره ألف المد التي هي أداة التعريف الآرامية كما مر بك، أصبحت Martha مرتا، وهي بضم الميم أفصح آراميًا) العلم الشائع في نساء المسيحيات، ومعناه الحرفي من الآرامية هو «السيدة». وربما ظن من لا يعرفون معنى الاسم «مريم» أنه من هذا، فيفهم من «السيدة مريم» أن «السيدة» هنا ترجمة لاسمها عليها السلام، والصحيح أنه أضيف إلى اسمها على التوقير والتبجيل لمقام تلك التي قال فيها عز وجل: {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران: 42].
على أن الآرامية – شأنها شأن العبرية – تستعمل لفظة «آب» (الأب المعروف) في الإشارة إلى الله عز وجل – تلك التي ضل بها كثيرون ممن لا يفقهون مجاز اللغات السامية – ولكن الآرامية – لغة المسيح عليه السلام مع عشيرته وحوارييه – تختم اللفظ بألف المد على التعريف، فتؤول إلى «أبا»، أي الأب بمعنى الرب لا بمعنى الوالد الذي ولد. وتجوز أيضًا على النداء والمناجاة: ربي لا يا أبي.
أما أن «الآب»، «الأب»، معناها «الرب» في الآرامية والعبرية، فدليلك الدامغ فيه باختصار – وقطعًا للطريق على من قد يتعجلون فيتورطون في نقد مقولاتنا اللغوية في هذا الكتاب – هو ذلك العلم العبراني «أبياهو» بن رحبعام بن سليمان بن داود، الذي سبق مولده مولد المسيح بسبعة قرون على الأقل، وهو اسم مركب من شقين «أبي + يهوا» (يهوا هو اسم الله في العبرية من بعد موسى كما مر بك)، لا يصح أن تتصور ولو للحظة أن معنى الاسم الذي سماه به رحبعام بن سليمان بن داود هو «الله أبي» أعني أبي الذي ولدني، إذن لذبحه اليهود فور هذه التسمية على مرأى من أبيه، إن لم يذبحوا أباه معه، وإنما فهم اليهود وأراد رحبعام الأب بمعنى الرب في مصطلحهم، فالمعنى هو «الله ربي»، لا «الله والدي» كما يفهمها علماء أهل الكتاب الذين لا يفقهون مجاز الساميات.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/252]
أما الدليل الثاني فهو قولُ المسيح عليه السلام في الأناجيل التي بين يديك: «إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 20/ 17) يرادف الأولى بالثانية، أي أن أبي وأباكم هو إلهي وإلهكم، لا يريد بالطبع إني أصعد إلى والدي ووالدكم الذي هو إلهي وإلهكم، وإنما أراد إني أصعد إلى ربي وربكم الذي هو إلهي وإلهكم، كلانا مربوب لله عز وجل، والمأبو آراميًا وعبريًا يعني المربوب عربيًا. لا تصح «الأب» عربيًا بمعنى «الرب»، وإنما اضطرت الآرامية والعبرية إلى هذا المجاز لاستنفادهما لفظة «راب» في معاني أخرى ليس منها «الرب» الإله، وهي معنى الكبير، الرئيس، لإمام، المعلم المربي. أما العربية فهي لا تحتاج إلى هذا المجاز المؤذن بالخلط والتخليط، وإنما تقول ربي، حين تريد «إلهي»، وتقول أبي، تعني «والدي الذي ولدني». وقد فهم القرآن المعجز مراد المسيح من قوله بالآرامية «أبي وأبوهم» فلم يقل على لسان المسيح «أبي وأبوكم» على الترجمة الببغائية، وإنما قال عز وجل على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم في خطاب قومه: {وأن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [مريم: 36]، أي أن مربوبية المسيح والبشر جميعًا لله عز وجل الواحد الأحد هي الصراط المستقيم، لا صراط غيره. عليك إذن كلما قرأت في الأناجيل لفظة «آب»، «أب»، حين تعرف بالألف واللام، أو حين تضاف إلى المسيح: «أبي» - وأنت تعلم مسيحيًا كنت أو مسلمًا أن المسيح غير ذي أب – أن المراد منها هو «الرب»، «ربي»، فتفهم منها ما أراده المسيح على وجه القطع واليقين، لا ما فهمه الذين ألهوا المسيح على البنوة لله عز وجل في مجمع نيقيه عام 325م فبنواص رح مقولتهم في المسيح على خطأ لغوي بين، لا يصح من عالم فقيه.
كان عذر الحواريين الذين كتبوا هذه الأناجيل أو كتبت عنهم باليونانية، هو ظنهم أن «الأب» تصح بمعنى «الرب» في كل اللغات، لا في الآرامية والعبرية وحدهما، ووحدهما فقط، فكتبوها باليونانية Pater (نظير Father الإنجليزية بمعنى الوالد الذي ولد)، وعن هذه الأناجيل نقلت كل الترجمات. ولكن يشاء ربك لهذه الكلمة اليونانية الأصل Pater (يعني الأب) ونظائرها في كل اللغات أن تكتسب بمحض الاستعمال على لسان المسيحي في بقاع الأرض – أيًا كانت لغته – كل معاني القداسة الواجبة لله عز وجل وحده تقرؤها في وجه هذا المسيحي وهوي قرأ في صلاته:
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/253]
«أبانا الذي في السموات»، فتقطع بأنه لا يريد بها «أبانا الذي ولدنا» ولا «أبا المسيح الذي في السموات»، وإنما هو يمثل أمامك في صلاته رجلاً آراميًا – عبرانيًا يريد بها ما كان يريده الرجل الآرامي – العبراني في زمن المسيح: الأب = الرب، لا إله غيره.
وإذا كانت «الأب» تعني في حق الله عز وجل آراميًا وعبريًا – لسان المسيح عليه السلام ولسان قومه – الرب الإله فقط لا غير، لا الأب الوالد، فكيف جاز فهمها في المسيح وحده على معنى «أبوة» الله إياه؟ كيف يجيء المسيح بلفظة الأب فيما ترويه الأناجيل من قوله: «وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية» (متى 6/ 17- 18) فلا يفهم السامع «المابو» من لفظة «أبيك» في هذا الكلام إلا معنى «الرب»، أما إن سمعها من المسيح يناجي بها ربه: «أيها الآب، نجني من هذا الساعة!» (يوحنا 12/ 7) فهذا السامع يفهم منها في حق المسيح وحده لا الرب، وإنما الأب الوالد؟ لم يكن هذا بالطبع هو موقف كتبة الأناجيل اليونانية التي بين يديك ترجماتها، وإلا لأوقعت كتبتها في التناقض، ولكنه كان موقف الذين استعانوا بهذه الأناجيل اليونانية في تأليه المسيح على «البنوة» لله عز وجل في مجمع نيقية عام 325م، بعد رفع المسيح بنحو ثلاثة قرون.
نعم، قد أجرى الله على يد المسيح معجزات تنقطع دونها رقاب البشر، كان أبرزها إحياء الميت. ولكن «اليشع» الذي في العهد القديم سبقه بمثلها، ولم يؤله اليهود اليشع لأنهم علموا أن «الفاعل» في هذا الإحياء هو الله عز وجل لا نبيه اليشع. ورفع الله المسيح إليه جسدًا حيًا لم يَمُت، ولكن «إيليا» الذي في العهد القديم سبق المسيح بمثلها، ولم يؤله اليهود إيليا لأنهم يؤلهون «الرافع» لا المرفوع. ولو قد اقتصرت معجزات المسيح على أمثال لها في العهد القديم لما كانت ثمة حجة البتة شبهة ألوهيته.
ولكن المسيح عليه السلام انفرد من دون الخلق جميعًا بمعجزة غير مسبوقة، هي ولادته لأم بغير أب، فشبه لمن شبه له أنها البنوة لله، وجاءت دعوى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/254]
الألوهية ترتيبًا على هذه البنوة المدعاة، ولم يفطنوا إلى أن الله عز وجل الذي يخلق ما يشاء ويختار، أي يخلقُ ما يشاء على الوجه الذي أراد، إنما أرادها آية للناس، وهو على أمثالها قادر في كل حين. وقد عجبت مريم عليها السلام حين جاءها جبريل بالنبأ، فذكرها جبريل بإعجاز الله في حمل خالتها بيحيى من قبل وقال: «لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله» (لوقا 1/ 37). فهمت مريم أن الله هو خالق هذا الجنين الذي في بطنها، فلم تؤله المولود الذي ولدته. إنها معجزة من الله عز وجل يضربها آية للناس الذين يمرون على آيات الله عميانا، فما الخلق من الأب والأم معًا بأهون في إعجاز الخلق من ولادة عيسى بغير أب، ولكنه خرق العادة والإلف، كي يلتفت الناس إلى إعجاز العادة والإلف. ولا فضل في هذه المعجزة لجبريل أو المسيح، حتى تتأصل عليها ألوهية المسيح وجبريل، أو حتى يتميز أي منهما بميزة ترفعه عن أصل طبيعته وكينونته: جبريل ملك من ملائكة الله، والمسيح بشر ممن خلق.
والذي لا يلتفت إليه كثيرون أن هذه المعجزة، قبل أن تكون معجزة في المسيح، هي معجزة في مريم نفسها الوالدة العذراء لم يمسسها بشر، اجتمع فيها للمسيح الأب والأم معًا، فهي صنو المسيح في الآية والمعجزة: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50].
قال عز جل في خطاب مريم على لسان جبريل يسكن من روعها ويقطع عليها عجبها لقضاء قضاه الله: {قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرًا مقضيا} [مريم: 21].
وقالت مريم لجبريل: «هو ذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك» (لوقا 1/ 38). كانت مريم عليها السلام اسمًا على مسمى، المصدقة بكلمات ربها، المذعنة لقضائه فيها: إنها مريم، أمة الرب، ماري + أما.
وقد علم مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 36 من سورة آل عمران) معنى هذا الاسم «مريم»، فقالوا إن معناه «خادم الرب» بلغة قومها، وخادم الرب هي نفسها أمة الرب. وهم لم يعلموا هذا من حديث أو سنة، فليس في صحيح
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/255]
الحديث من هذا شيء، وإنما علموه من رواتهم من أهل الكتاب، النصارى لا اليهود، السريان لا العبرانيين، لأن هذا الاسم «مريم» لا يصح تفسيره من العبرية بمعنى خادم الرب أو أمة الرب، لأن «ماري» بمعنى الرب ليست عبرانية، وإنما هي آرامية بحت (والآرامية هي السريانية لغة هؤلاء النصارى السريان)، والعبرانيون لا يفسرون بها اسم «مريام» أخت موسى وهرون، وإنما يقولون كما مر بك أن «مريام» أخت موسى وهرون من المراء والمرية، فتقطع بأن هذين الاسمين ليسا واحدا، وأن القرآن لا يخلط من ثم بين «مريم» أم عيسى وبين «مريام» أخت موسى وهرون كما وهم أدعياء الاستشراق المتطفلون على مباحث اللغة.
والذي تأخذه على الترجمة العربية لأسفار العهد القديم التي بين يديك هو أنها ترسم الاسم «مريام» أخت موسى وهرون بالرسم «مريم» فيظن القارئ، كما ظن أدعياء الاستشراق من قبل، أنها سمية «مريم» أم عيسى، وهو خطأ محض لا تقع فيه الترجمات الإنجليزية مثلاً التي ترسم اسم أخت موسى وهرون Miriam أي «مريام»، بينما يرسم بالإنجليزية اسم والدة عيسى عليهما السلام Mary «ماري»، لا شبهة خلط بينهما.
وأما لماذا لم يلتفت أدعياء الاستشراق إلى معنى اسم «مريم» أم عيسى عليهما السلام الذي قاله مفسرو القرآن نقلاً عن رواتهم السريان – وهو قاطع في آرامية الاسم مانع من عبرانيته – فيتعلموا من هذه التفاسير علم ما جهلوه أو خلطوا فيه من مثل خلطهم بين «مريم»، «مريام»، فذلك لأن آرامية الاسم «مريم» وعبرانية الاسم «مريام» وبعد ما بين معنييهما من ثم، دليل على فساد مقولتهم في خلط القرآن بين مريم أم عيسى وبين مريام أخت موسى وهرون، ولأن صاحب الهوى الأحمق يبصر الحق ولا يراه، بل يشاء له نحسه ألا يتصيد من تلك التفاسير إلا أخطاء وقع فيها المفسرون أو دلست عليهم، من مثل قولهم بعجمة فردوس وعدن وجهنم وإبليس والصراط وقسطاس – وقد مر بك – يتصديها من تلك التفاسير وينسبها لنفسه فرحًا فخورًا ثم يختال بها على قرائه وتلاميذه المبهورين بعلمه، الذين ائتمنوه أن قد حقق وتثبت، فينقلون عنه أمثال أن القرآن نحت «قسطاس» من «جستيس Justice لا من «قسط» العربية، فتعذرهم بجهلهم أن هذه اللفظة اللاتينية المدعاة Iustas تنطق «يوستس» بالياء لا بالجيم، وأن الياء اللاتينية في هذه وأمثالها لم تتحور إلى الجيم في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/256]
الإنجليزية والفرنسية والإيطالية (دون غيرها من اللغات الأوروبية) إلا بعد نزول القرآن بقرون، وأن لفظة «قسط» أقدم في الساميات من مولد اللاتينية نفسها.
أما النحس الأكبر الذي وقع فيه هؤلاء المستشرقون – لم يتصيدوه من تفاسير القرآن وإنما استأثروا بشرف الوقوع عليه – فهو قولهم إن القرآن سمى مريم أم عيسى أختًا لموسى وهرون، بقوله على لسان قومها: يا أخت هرون، فاخطأ القرآن وخلط! فتقطع بأنهم وهم أهل كتاب لم يقرءوا في (إنجيل لوقا 1/ 5) قوله إن اليصابات أم يحيى خالة مريم أم عيسى كانت «من بنات هرون»، لا يعني بالطبع أن اليصابات كانت ابنة أخي موسى وبينهما ثلاثة عشر قرنًا كما وهموا أن القرآن قد فعل، وإنما يعني أن اليصابات خالة مريم كانت «هارونية» من سبط هرون أصحاب الكهانة والسدانة في بني إسرائيل من بعد موسى، يعني «لاوية» خادم معبد، كالذي كانته مريم أم عيسى عليه السلام، أو تقطع بأن هؤلاء المستشرقين الذين ولدوا في اليهودية أو النصرانية لا يعلمون شيئًا من اللغة العبرية التي يتصدون للكلام في أعلامها، أو لا يعلمون شيئًا من مواضعات اليهود ومصطلحاتهم كالذي علمه القرآن بقوله في مريم: يا أخت هرون! أو تقطع أخيرًا بأنهم علموا هذا وذاك ولكنهم تعمدوا التدليس عليك، حسدًا من عند أنفسهم. صحيح أن مفسري القرآن لم يصيبوا في فهم مدلول «أخت هرون» لأنهم لم يعلموا مدلولها في مواضعات اليهود ومصطلحاتهم، وجهله أيضًا رواتهم من أهل الكتاب أو تكتموه عليهم، ولكن مفسري القرآن لم يخوضوا في علم ما لم يعلموه، واكتفوا بأنها «صنو هرون في الصلاح»، ولكن ما عذر أولئك المستشرقين الأدعياء المتطفلين على مباحث اللغة وهم يهودُ أو نصارى؟
الراجح عندي – عن كان هؤلاء المستشرقين أبرياء بجهلهم – أن الذي جرهم إلى هذا هو اشتباه «مريم» عليهم بمريام، ولم يتثبتوا، واشتباه «عمران» عليهم – التي في القرآن – بعمرام أبي موسى ومريام في التوراة، فتأدوا من هذين إلى خطأ ثالث هو أن القرآن بقوله: أخت هرون، يخلط بين «مريامين»، لا بين «مريم»، «مريام».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/257]
ولو قد كانت لدى هؤلاء المستشرقين وتلاميذهم ذرة من تؤدة العالم وأناته، أو قل لو كانت لديهم مسحة من إنصاف العالم المدقق الذي يدعونه، لسجلوا للقرآن بقوله: يا أخت هرون، إعجازًا فوق إعجاز.
لم يعلم القرآن فقط مدلول «أخت هرون» في مواضعات اليهود ومصطلحاتهم، أي «الهارونية» اللاوية، «خادم الهيكل» الذي كانته أمة الرب، مريم ابنة عمران، أم عيسى صلوات الله عليه، وهذا بذاته إعجاز، ولكن القرآن المعجز بواسع علمه يجانس بأخت هرون هذه على «مريم»، أمة الرب آراميًا، فيفسر بها هذا العلم الأعجمي بالمرادف القريب من معناه في قوله عز وجل: {قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} [مريم: 27 – 28]، أي يا من اسمك أمة الرب، يا من أنت أخت هرون ساكنة المحراب، يا ابنة عمران وامرأة عمران العامر العابد، كيف فعلت ما فعلت؟ انظر معي إلى تصاعد التقريع في هذا النسق القرآني المعجز الذي لا يستطيعه إلا قائله عز وزجل، واعجب معي للمتطاولين على هذا العلم المحيط.
فسر القرآن على منهجنا في هذا الكتاب الاسم الآرامي «مريم» - يعني أمة الرب – تفسيرًا مباشرًا بالمرادف اللصيق في قوله عز وجل: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43]، وقوله أيضًا في مريم: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]، ومعنى «قنت» في اللغة العربية هو «ذل له وخضع وانقاد» فهو العبد: قال عز وجل متحدثًا عن ذاته {وله من في السموات والأرض كل له قانتون} [الروم: 26] أي كل له منقاد ذلول وإن جحد وبطر. وقال عز وجل في خطاب أمهات المؤمنين: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31] أي من تخضع لأمر الله ورسوله مهما شق وعظم. ووصف بها إبراهيم في البلاء المبين، يفعل ما يؤمر وإن كان ذبح إسماعيل: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله} [النحل: 120]، وليس بعد هذا عبد قانت. وإنما استعير القنوت في التعبد لأن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/258]
الإقرار بالعبودية هو لب العبادات جميعًا. وليس في الأمثلة التي سقتها لك من القرآن مثل واحد يفهم فيه القنوت بمعنى «القنوت في الصلاة» أي العبادة، وإنما هو العبودية على معنى الطاعة والخضوع والانقياد.
وهل كانت مريم «أمَةَ الرب» إلا هذا يوم بشِّرت بالمسيح فحملت به؟ رضيت بالتهمة والظنة وهي أطهرُ عذراء لأن المولى هكذا شاء وقدر. قد علمت أنها أمَةُ الرب، لا تملك من أمر نفسها شيئًا. قالت لجبريل أنا أمَةُ الرب، ليكن لي كقولك. فلما أجاءها المخاض إلى جذع النخلة توجعت كما يتوجع النساء، بل أكثر مما يتوجع النساء، وهي تلد ابنها وحيدة منزوية عن أهلها تتكتم أمرها خشية ألسنة الناس، عالمة أنها ما أن تنتهي أوجاع الولادة وتضع حملها حتى تنفجر التهمة الظالمة فتقتحمها أعين الناس وتقرعها ألسنة السوء، أو يرجموها بناموس التوراة. وإن كانت هي وابنها آية للناس: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} [مريم: 23 -26]. هنا قرت عين مريم: ها هو جدول رقراق يجري ماؤه تحت قدميها ولم يك ثمة جدول. وهذا الجذع الأجوف الذي ألجأها المخاض إليه، ها هو يهتز ويربو وقد حيت النخلة، ما أن تضمه إليها حتى يتساقط جناه. قد علمت مريم من قبل أن الله يأتيها برزقها في كل حين: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} [آل عمران: 37]. ولكن هل تدرك أنت كم هي فرحة أم بمولود لها تضعه فيكلمها في قماطه؟ لا يناغيها وتناغيه فيسرى عنها، ولا يناجيها فيذهب همها، ولا يبكي كما يبكي الرضيع، ولكنه ينطق ليطمئنها أنه هو الذي سيحمل عنها عبء مواجهة الناس يوم تأتي به قومها تحمله: {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/259]
أبعث حيا} [مريم: 30 – 33]، بدأ بأنه عبد الله، يعظ بها من سيغالون في تعظيمه، وقال برًا بوالدتي، ولم يقل برًا بوالدي كما قيل عن يحيى في نفس السورة قبله، يخرس بها من سيفترون عليها البهتان. هنا خرست ألسنة السوء أمام المعجزة الكبرى.
هذه الآيات من سورة مريم إعجازٌ في أنباء القرآن لا يعدله إعجاز، ولكنها فاتت على كتبة الأناجيل فلم يسجلوها، لأنهم اكتفوا بشهادة المجوس الذين جاءوا ليسجدوا للمسيح في المذود، ويقدموا له ولأمه هدايا ذهبًا ولبانًا ومُرًا، بين جُوق من الملائكة يسبح ويهلل، وترانيم يصدح بها رعاة تصادف وجودهم، لا تدري من أين جاءوا، ولا من أوحى لهم بأن المولود مسيح من الله. كل هذا لا يفسر لك لماذا سكت قوم مريم على مريم يوم أتتهم برضيعها تحمله، ولماذا لم ينبسوا في مواجهة هذه الفضيحة ببنت شفة؟ نعم، قد قال لوقا في إنجيليه (لوقا 2/ 8- 19) إن ملكًا ظهر للرعاة، كما قال متى في إنجيليه (متى 2/1- 2) إن نجمًا ظهر للمجوس، ولكن من سيصدق الرعاة أو يصدق المجوس؟ وقالت الأناجيل أيضًا (متى 1/18- 24) إنه لما بدت أعراض الحمل على مريم فكر خطيبها يوسف النجار في تخليتها سرًا، لولا أن تراءى له ملك الرب في حلم فبرأ مريم، وصدق يوسف بالرؤيا وضم مريم إلى كنفه، ولكن من سيصدق يوسف؟ الأحرى أن يتهموه. بل هذا هو الذي يقصه عليك لوقا بالنص: «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما يظن ابن يوسف بن هالي ... إلخ» (لوقا: 3/ 22)، يدعم بها نسب المسيح إلى داود عبر يوسف النجار الذي من نسل داود، هذا النسب الذي أنكره المسيح من بعد، وما كانت به إلى هذا النسب من حاجة، فلا أبَ للمسيح إلا أمه مريم ابنة عمران، ليس هو من نسل داود وليس من سبط يهوذا، بل هو من سبط والدته، وجده عمران، سبط لاوي، وكذبت نبوءة كاتب سفر التكوين على لسان يعقوب في اختصاص سبط يهوذا بالنبوة والملك، فكان أول ملوك بني إسرائيل شاؤول (طالوت) الذي من سبط بنيامين، وكذبت نبوءته أيضًا في ترذيل سبط لاوي، فكرم الله هذا السبط الذي جاء منه موسى وهرون، وختم خير ختام بالمسيح ابن مريم، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه. تورط إذن متى ولوقا في استمساكهما بتأصيل نسب المسيح إلى داود استنادًا إلى هذا الخيط الواهي عبر يوسف النجار خطيب مريم. وليس في عبارة لوقا: «وهو – أي المسيح – فيما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/260]
يظن ابن يوسف ابن هالي ... إلخ» إلا تفنيد هذا النسب في واقع الأمر، فما بالك بتكذيبه على لسان المسيح نفسه في الأناجيل؟ هذا التعلق بالنسب إلى داود يشوش على عذرية مولد المسيح صلوات الله عليه – وإن يكن من متى ولوقا بالطبع غير مقصود. ولكنهي سجل لك ظن الناس ظن السوء بمريم وابنها عليهما السلام منذ مولده وقبل مبعثه صلوات الله عليه، فلماذا سكتوا على مريم ويوسف؟ الراجح عندي لا يصح غيره أن خطبة مريم ليوسف ما كانت لتحدث قبل حملها الإعجازي بالمسيح، لقول القرآن فيها: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12] وإحصان الفرج هنا كناية عن التبتل والانقطاع لعبادة الله لا زوج ولا ولد، وما كان لبتول أن تقبل خطبة الرجال، لا يوسف النجار ولا غيره. وإنما خطبها يوسف – خلافًا لقول الأناجيل – بعد حملها، وربما بعد ولادتها. مصدقًا مؤمنًا بالآية والمعجزة، لتكون مريم وابنها في كنفه ورعايته لا غير، فهو أبٌ بالتبني فحسب إن جاز التعبير.
أما لماذا خرست ألسنة السوء عن مريم وابنها يوم أتت به قومها تحمله، فلم تزن بريبة، ولم يتعرض لهما الكتبة والفريسيون بسوء، منذ مولد المسيح وحتى مبعثه، فلا مبرر لهذا من العقل والمنطق وأخلاق اليهود وناموسهم، إلا هذه المعجزة الكبرى التي سجلها القرآن العظيم وفاتت على كتبة الأناجيل فلم يعنوا بتسجيلها، أعني كلام المسيح في المهد، ينطق وهو الرضيع بالبراءة القاطعة لوالدته عليها السلام، فتنقلب التهمة إلى شرف أي شرف، إعجاز الله فيها وفيه، وينقلب الغمز واللمز والتجريح إلى تسبيح وتهليل، وتتناقل الألسنة حديث الطفل المعجز من سيكون. ولكن الذي نطقت الملائكة بلسانه وهو في المهد فصيحًا بليغًا، يصمت من بعد حتى تأتي سنه لينطق كما ينطق الطفل. وتمضي به الأيام وينسى ما كان كما يُنسى كل شيء بعد حين، إلا منه هو نفسه ومن خاصته وأهل بيته، وإلا من والدته عليها السلام التي أنبئت يوم حملها به أن الله جاعله آية لبني إسرائيل.
والذي ينبغي التنبيه إليه أن القرآن العظيم لا ينعي على اليهود قولهم البهتان في مريم عليها السلام، وإنما هو يكفرهم بهذا القول: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم على
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/261]
مريم بهتانا عظيما} [النساء: 155 – 156]. وإنما قال اليهود هذا البهتان على مريم بعد مبعث المسيح لا قبله، قاله منهم مكذبوه وشانئوه وطالبو دمه، يطعنون في نسبه طعنًا في نبوته، لعنوا بما قالوا.
ولكن الله عز وجل ما كان ليكفر قائلي هذا البهتان على مريم – وهو لا يتجاوز القذف – لمجرد قولهم هذا، وإنما كفرهم الله عز وجل لأنهم شهدوا الآية المعجزة، ثم كفروا بما شهدوا وعاينوا.
لم يكن مولد المسيح الإعجازي سرًا بين مريم وابنها، أو بين مريم ويوسف، أو بين مريم وخاصة بيتها، أو بين مريم وبين نبي الله زكريا أبي يحيى كافلها وراعيها، الشاهد لها بالرزق يأتيها به الملائكة في المحراب، وإنما استعلن الله بهذه الآية لبني قومها جميعًا {ولنجعله آية للناس} على لسان هذا المتكلم في المهد الذي نطق بنسبه الصحيح: «وبرًا بوالدتي»، ليس له والد غيرها.
سمع الناس منه هذا وشهدوا وعاينوا، وما كان لهم بعد هذه الآية إلا أن يؤمنوا بما شهدوا وعاينوا. ولكنهم كفروا بها.
ومن يكفر بآيات الله فقد كفر بالله عز وجل.
هذا القرآن ينطق بالحق ويهدي للتي هي أقوم، فما ضرهم لو آمنوا به مصدقًا لما معهم، حفيظًا عليه، محققًا مهيمنًا؟ ولكن ليس عليك هداهم، بل يهدي الله لنوره من يشاء، حين يشاء، وهو أعلم بالمهتدين.
أما أنت أيتها الصديقة مريم، أمَةُ الرب، فعليك صلوات الله وسلامه مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيق)ا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 251-262]


رد مع اقتباس
  #74  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:19 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(56) عيسى:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (56) عيسى
«عيسى» هو الاسم المسمى به المسيح عليه السلام في القرآن، بينما هو في أصول الأناجيل اليونانية يجيء على Iesou (يِسُو) تضاف إليه السين في حالة الرفع وتضاف إليه النون في حالة النصب فيصبح Iesous أو Iesoun (يِسُوس أو يِسُون). والمجمعُ عليه أنه من العبرية «يشوع». ذهبت عينها الخاتمة عند اليونان وانقلبت شينُها سينًا. ومن «يشوع» العبرية هذه جاء الرسم «يسوع» بالسين الذي تقرؤه اسمًا للمسيح في الترجمات العربية للأناجيل اليونانية الأصل، استئناسا بأن الشين تنقلب إلى سين في العربية، غالبًا، وهذا صحيح بالنسبة إلى الاسم العبري «يشوع» بالذات لأنه من المادة العبرية «يشع» التي تكافئ «وسع» العربية.
والمحقق الثابت أن العرب لم يسمعوا من نصرانييهم هذا الاسم عيسى الذي جاء به القرآن، وإنما سمعوها منهم «يسوع» بالسين على اللفظ الذي ينطق به نصارى السريان تحولاً عن الشين التي في «يشوع» العبرانية إلى السين التي في Iesous اليونانية في أصول الأناجيل.
أما لماذا قال القرآن «عيسى» ولم يقل «يسوع» التي عرفها العرب اسمًا للمسيح، فهذا من فرائد إعجاز القرآن في أعلامه الأعجمية: لو قالها «يسوع» على ما شاعت به، لفهمها العرب من العربية على معنى «الذي ساع» من ساع يسوع سوعًا، يعني ضاع وهلك، ولم يهلك المسيح على الصيب كما يؤمن الذين شبه لهم، فما قتلوه وما صلبوه، بل توفاه الله رافعًا إياه إليه، أي توفاه بأن رفعه إليه، سليمًا معُعافى لم تهلك منه شعرة، ولم يخدش منه ظفر، جسدًا حيًا ولم يزل، لا يموت إلا والساعة قريب، فهو من أعلام الساعة وأشراطها، ينزل في الناس بالحق الذي جاء به القرآن فيه ويصحح مقولة الذين شبه لهم، ثم يموت على دين خاتم النبيين كما مات الرسل من قبله ليبعث معهم يوم يقوم الأشهاد: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} [النساء: 159].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/263]
وليس في أصل معنى «التوفي» في اللغة هو الإماتة، كما يخطئ مفسرون، وإنما «التوفي» في أصل معناه، بل وفي معناه القرآني بالذات، هو «الاستيفاء»، أي «الاستخلاص» كاملاً غير منقوص، تقول منه: وفيته حقه، وتوفي هو حقه، يعني أخذه كاملاً، ومن هذه قوله عز وجل: {وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} [آل عمران: 185]. ومنه أيضًا: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]. وإنما جاز «التوفي» بمعنى الإماتة لأن الموت مترتب عليه، أعني الذي مات إنما مات لأن الله «توفى» نفسه أي قبضها إليه، أي استخلصها من هذا الجسد. والذي في المسيح ليس من هذا، وإنما هو في المسيح على أصل معناه: التوفي بمعنى الاستخلاص كاملاً غير منقوص، دليلك في هذا قوله عز وجل: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55]، لو فهمتها بمعنى «إني مميتك ورافعك إلي» لما كان لكلامك معنى، فالله لا يرفع إليه جسدًا ميتًا، وهو أيضًا لا يرفع إليه نفسًا أميت جسدها بالتوفي، أي بتوفي النفس، وإنما هو يقبض الأنفس ولا يرفعها. وحتى إن سوغت لك نفسك هذا الفهم السقيم فقلت أن «الرفع» هاهنا بمعنى «القبض» فقد أمات الله إذن المسيح على هذه الأرض وقبض نفسه كما يقبض الله الأنفس، فماذا يبقى لديك من معنى الآية، وقد تقدمها مباشرة قول الله عز وجل: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران: 54] أي أرادوا صلبه وأراد الله بالمسيح شيئًا آخر؟ أفيصح أن يكون هذا الشيء الآخر هو أن يميت الله عيسى كيلا ينالوه حيًا، وكأن المعنى لم يقتلوه ولم يصلبوه وإنما أمتناه نحن بأيدينا لا بأيديهم؟ فما الإعجاز في هذا؟ أفي هذا إنجاء وتخليص؟ وما قيمة هذا في جنب مكر الله عز وجل وتدبيره وهو «خير الماكرين»، هذا هراء بالطبع لا يصح أن تقع فيه إن وقعت على مثله. وخلاصة قول المفسرين في هذا (راجع تفسير القرطبي للآية 55 من سورة آل عمران) أن المسيح عليه السلام رفع بجسده ونفسه معًا، أي رفع جسدًا حيًا، وأنه لم يزل كذلك، إلى أن يهبطه الله إلى الأرض ليموت عليها كما مات الأنبياء وكما يموت البشر وكل ذي نفس، لأن كل نفس ذائقة الموت كما أخبر القرآن. أما قولهم في التوفي ففريق على أنه بمعنى القبض، أي إني قابضك إلي ورافعك إلي، وكأن الرفع هو التوفي. وهذا من الحشو الذي لا يضيف جديدًا، فأنا وأنت ننزه القرآن عنه. أما الفريق الآخر الذي يصر على أن التوفي بمعنى الإماتة، فهو يقول أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، أي إني رافعك إلي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/264]
ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك، أي حين يعيده إلى الأرض مرة أخرى ليشهد على الذين خاضوا في عبده ورسوله. وليس هذا أيضًا – أي التقديم والتأخير – بمقبول، لأنه يعكس ترتيب الأحداث منذ الرفع إلى التوفي وبينهما فجوة اتسعت حتى يومنا هذا لحوالي عشرين قرنًا من الزمان والله أعلم متى تلتئم الفجوة، ولا يصح في هذا تقديم وتأخير، وإنما هو خلط وتخليط ننزه أنا وأنت القرآن عنهما: لا حيلة لمن أراد التوفي في الآية بمعنى الإماتة إلا أن يسلم بخطئه، إن وقع التوفي بمعنى الموت أولاً على الترتيب الذي جاء به القرآن، فقد امتنع الرفع والتطهير، وإن افترض فيه تقديمًا يراد به التأخير، أي أراد معكوس الترتيب الذي في القرآن، فلا يصح له هذا إلا بافتعال لا يليق بجلال القرآن.
على أن هناك من قال كما نقول نحن أن التوفي في الآية هو بمعنى الاستيفاء على أصل معناه، ولكنه لم يوفق إلى استجلاء مراد القرآن من هذا الاستيفاء: قال إن الله عز وجل وقد رفع عيسى إليه حيًا لم يمت، إنما استوفى عمره في الدنيا، أي استكمله له، أي استوفى حياته على الأرض بين الناس. ولا يصح هذا من وجهين، الأول أن المسيح المرفوع لم يستكمل حياته على الأرض، بل سيعود إليها ليستوفي ما بقي له من عمره. والوجه الثاني أن هذا القول لا يصح في اللغة، لأن المفعول في «متوفيك» هو المسيح نفسه، لا عمر المسيح ولا حياته، فالمستوفي (بفتح الفاء) الذي استوفاه الله هو المسيح لا عمر المسيح، واستيفاء المسيح يعني استخلاصه مما أرادوه به، أي القتل والصلب، فهو الإنجاء والتخليص، الذي فسره القرآن المعجز بقوله عقيب هذا مباشرة: {ومطهرك من الذين كفروا} أي أسلك منهم كما يسل الحق من الباطل، وكما ينفض الوسخ عن الثوب. وقد ظن المفسرون – ولم يوفقوا – أن التطهير في الآية يعني إبراؤه من ذنب ما قالوه فيه، إله أو ابن إله، ولا يصح هذا أيضًا لأن قالة هذه المقالة ما كانوا قد ولدوا بعد، بل حتى إن سلمت كما يؤمن النصارى بأنهم قالوها وهو بين ظهرانيهم فما كانوا هم الذين طلبوا قتله على الصليب.
أما الذي لم يعلمه المفسرون جميعًا فهو أن القرآن المعجز يفسر بالتوفي، أي الاستنقاذ والتخليص، هذا الاسم العَلَم «عيسى» («يِشُوع» عبريًا) كما سترى، وسبحان العليم الخبير.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/265]
ينص القرآن على أن الله هو الذي سمى المسيح ابن مريم، لا والدته وذووه: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 54]، كما سمى الله يحيى من قبل لأبيه. والذي تلاحظه من هذه الآية في سورة آل عمران أن القرآن لا يسميه بالاسم عيسى فحسب، وإنما يلقبه أيضًا بهذا اللقب الذي غلب عليه من بعد: «المسيح». وهو لا يسميه ويلقبه فحسب، وإنما هو أيضًا ينسبه: «ابن مريم»، إن أردت أن تدعوه بأبيه فلا أب له غيرها.
أما اللقب، «المسيح» (مَشيح عبريًا)، فمعناهُ في مصطلح اليهود الممسوحُ، يريدون الذي مسح بدهن البركة (زيت الزيتون)، أي الذي صب الدهن على رأسه، ملكًا كان أو كاهنًا أو نبيًا، فيصير بهذه المسحة «قديسا»، يعني صديقا في لغة أهل القرآن وإن لغط بعض أهله في هذا العصر بالقديس والقديسين متابعة لأهل الكتاب الذين يقرءون لهم ولا قداسة ثم، وإنما هي الصديقية لا غير. وقد كانت هذه المسحة طقسًا من طقوس اليهود في كهنوتهم، يرسم بها الكاهن كاهنًا مثله، أو يرسم بها نبيًا «اعتمد» الكهنوت نبوته، أو يرسم بها الكاهن أو النبي ملكًا نصبوه على بني إسرائيل، أو يرسم النبي نبيًا يخلفه في النبوة، فهي الرسامة، أي التنصيب في الكهانة أو الملك أو النبوة. وقد آل اللفظ في مجاز العبرية إلى معنى «الصديق» وإن لم يرسمه كاهن أو نبي، فهو المبارك. ومسحاء الرب، يعني أولياؤه ومباركوه. «المسيح» إذن عربية بلفظها فقط، ولكنها أعجمية بمعناها، رغم التقارب اللفظي الشديد بين «مسيح» العربية وبين «مَشيح» العبرية – الآرامية، لغة المسيح ولغة أهله وعشيرته وحوارييه، لتخصيص معنى «المسح» بما ليس فيه عند أهل الكتاب، فينبهم عليك المعنى المراد من هذا الوصف، إلا إن كنت متضلعًا من مصطلحات اليهود العبرانيين، ناهيك بأن تكون لغتُك غير سامية، فلا تدري ما المراد من Messiah أو Messie، والانبهام يؤدي إلى التوهم والتضخيم فتذهب بك التوهمات كل مذهب في مدلول لقب «المسيح» دون أن تدري أن قد خَلَت من قبله المسحاءُ في بني إسرائيل بالألوف: إنه فحسب المبارك أو الصديق.
وقد فسر القرآن لفظ «المسيح» على معنى «المبارك» على لسان عيسى يوم أنطقه الله في المهد ليستعلن بنسبه ويتحدث بآلاء الله عليه: {قال إني عبد الله
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/266]
آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 30 – 33].
وتسمية القرآن عيسى ابن مريم بالمسيح يوم البشرى به لمريم، تفيد أنه مسيح من الله، أي مبارك منه جل وعلا، وإن لم يرسمه كاهن أو نبي، بل ولد «مسيحا»، تلك التي غلبت عليه، تعرفه بها وحدها دون أن يسمى لك بالاسم «عيسى» أو عيسى ابن مريم، فهو المسيح بإطلاق. وهي في المسيح عيسى عليه السلام لا تجيء إلا معرفة بالألف واللام، دالة على علميتها فيه وحده، فهي اللقب الذي اختص به.
والذي يدلك على اختصاص عيسى ابن مريم صلوات الله عليه بلقب «المسيح»، اجتزاء القرآن في ثمانية مواضع اجتزاءً مطلقًا عن الاسم «عيسى» بلقبه، «المسيح»، وهي: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله} [النساء: 172]، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17]، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72]، {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75]، {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 30 – 31].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/267]
والذي يستوقفك هنا أن هذه المواضع الثمانية بالذات هي الآيات التي شددت النكير على من قالوا إن المسيح إله على البنوة لله، وقد تعمد القرآن المعجز الاجتزاء فيها عن اسم عيسى بلقبه الملازم له، «المسيح»، لينبه من لم ينتبه إلى أن «الممسوح» يقتضي «ماسحا» يمسحه، وأن «المبارك» يقتضي من «يباركه» وأن الذي هو من جوهر الله على قول من قال، لا يحتاج إلى هذه «المسحة» أو هذه البركة من الله بالذات، ناهيك بأن يحتاج إليها من غيره، أو أن يسعى إليها عند يحيى بن زكريا ليعمده في ماء نهر الأردن شأن الساعين إلى هذا العماد على يد يحيى، فلما التقى النبيان امتنع عليه يحيى بتواضع الأنبياء قائلاً له: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي غلي؟ فأجاب يسوق وقال له اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (متى 3/ 14- 15).
وقد اعتل تلاميذ يحيى من بعد على تلاميذ المسيح باعتماد عيسى منه، ولم يعتمد يحيى من المسيح، فيحيى إذًا ارفع رتبة من عيسى وإلا لما احتاج إليه المسيح. ولكن الأناجيل ترد على هذا بأن عيسى لم يباشر مهام نبوته ولم يستعلن بها للناس إلا بعد مقتل يحيى: «وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس 1/ 14 – 15)، وهذا منطقيٌّ تمامًا، فلا يصح لمن يدعوان بنفس الدعوة أن يشوش أحدهما على الآخر بنفس المقولة: «وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهود قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (متى 3/ 1- 2). ولكن التاريخ لم يحفظ لك ما كتب تلاميذُ يحيى في سيرة معلمهم مثلما حفظ لك في تلك الأناجيل ما كتبه تلاميذُ عيسى في سيرة يحيى والمسيح معًا. وقد حرص كاتبو الأناجيل – وكأنهم يردون على تلاميذ يحيى الذين ضاعت كتابتهم – حرصًا شديدًا على إثبات ما يعلي رتبة المسيح ابن زكريا، وبالغوا في هذا إلى حد الإغراق، من مثل قولهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/268]
على لسان يحيى إنه ليس أهلاً لحمل حذاء عيسى (متى 3/ 11) ولا يجمل هذا بالأنبياء حتى في تواضعهم، بل هو اتضاع مقيت لا يليق البتة بمن اعتمد منه المسيح وشهد له بالنبوة ووصفه في تلك الأناجيل بأنه لم يقم في المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا (متى 11/ 9- 12)، ولكنه يستدرك فيقول في نفس الموضع «ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه»، يعني نفسه في قول شراح المسيحية، وحتى إن سلمت هذا فلا يصح أن ترتب عليه أن يحيى ليس أهلاً لحمل حذاء عيسى، لأنه تصاغر يسلب يحيى نبوته، ولأنه لا يصح الاتضاع ويكرم إلا لله عز وجل، فلا يصح اتضاع الأنبياء لغيره جل وعلا، ولا يصح أيضًا تفاخرهم على الناس أنبياء وغير أنبياء. وقد كان عيسى عليه السلام غاية في التواضع، يأبى على أتباعه أن يعظموه: «وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا لهو سأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحًا. ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله» (مرقس 10/ 17- 18). الذي يقول هذا لا تنتظر منه أن يعظم نفسه.
غالت الأناجيل إذن في تعظيم المسيح حتى أشرفت على المنزلق الخطر. ومن هذا حذر النبي الخاتم: «لا تفضلوني على يونس بن متى!» فالنبوة من الله عز وجل، يرفع درجات من يشاء، والموحي واحد، الفضل له والمنن فلا فاضل ولا مفضول.
وقد جرت هذه المغالاة في المسيح كما تعلم إلى شر كبير.
أما الاسم «عيسى» فقد جاء في القرآن على الإبدال من «يشوع» العبرية التي نطقها نصارى السريان للعرب على اللفظ «يسوع» تبركًا بسين «يشوع» التي في الرسم البياني في أصول الأناجيل، واحتفظت بها الترجمات العربية فقالت هي أيضًا «يسوع».
وأنت لا تظن بالطبع أن الملائكة يوم بشرت مريم بالمسيح كانوا يخاطبونها بهذا اللفظ العربي الذي في القرآن: «اسمه المسيح عيسى ابن مريم» وإنما خاطب الملائكة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/269]
مريم بلسان مريم، أي بالعبرية – الآرامية، فيقولون لها بالعبرية مثلاً: «ويقرا شمو همشيح يشوع بن - مريم»، أو يقولون لها بالآرامية: «شميه مشيحا يشوعا بار - مريم»، لم ينطقوها عيسى بالقطع، وإنما قالوها «يشوع».
قد علم القرآن هذا، كما علم أيضًا أن نصارى العرب يقولونها «يسوع». فلماذا تحول بها إلى «عيسى»؟
مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن القرآن يرفض التعريب حين يسيء التعريب إلى المعنى. أي حين تلتبس صورة الاسم في لفظه المعرب بلفظ عربي يغاير معناه معنى الاسم الأعجمي في لغة صاحبه، فما بالك بتعريب يفيد الضد من معناه؟
لم يرتض القرآن إذن هذا التعريب الذي وجده جاهزًا عند نصارى العرب ونصارى السريان: يشوع = يسوع. لأن «يسوع» هذه تعني في العربية «السائع الهالك» وما كان الله ليسمي المسيح بهذا المعنى المذموم يوم البشرى به، فلا يصح هذا في نبي مرسل من الله، بل لا يصح من آحاد الناس في مواليد الناس، وإلا لانقلبت البشرى إلى فاجعة. بل لا يصح هذا التعريب الببغائي أصلاً، لأن الله سماه بالعبرانية «يشوع» المراد منها العكسُ الصريح السائع الهالك الذي في صنوها اللفظي «يسوع» عربيًا.
ومر بك أيضًا أن القرآن حين يعدل عن التعريب فهو يعدل عنه إلى الترجمة.
أفتكون «عيسى» هي الترجمة العربية لمعنى الاسم العبراني «يشوع»؟ فما معنى عيسى عربيًا وهي لم تقع قط في كلام العرب؟
لا يصح اشتقاق عيسى عربيًا إلا من فعل ثلاثي أجوف معتل الوسط بالواو أو بالياء، عاس/ يعوس أو عاس/ يعيس. أما عاس/ يعوس بالواو فمعناه طاف بالليل، وعاس على عياله يعني كد وكدح عليهم، وعاس ماله يعني أحسن القيام عليه، وعوس يعوس عوسًا فهو أعوس، يعني دخل شدقاه عند الضحك. وأما عاس/ يعيس بالياء فالمستعمل منه «أعيس» (الزرع) أي لم يكن فيه رطب، «تعيست» (الإبل) يعني صار لونها أبيض تخالطه شقرة، فهي عيس. وليس في أي من هذه المعاني جميعًا – كما سترى – شيء يقارب، ناهيك بأن يطابق، معنى الاسم العبراني «يشوع»، وأصله «يهوشوع»، أي يهوا خلاص، أي خلاص الله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/270]
قال بعض الصوفية أيضًا أن «عيسى» تجيء من «عسى»، ذلك الفاعل الناقص الذي يفيد الرجاء، فهو المرجو الذي فيه الرجاء. وفي هذا القول جمال كما ترى، ولكنه خطأ محض من حيث اللغة، فلا تصح عيسى التي بالياء بعد العين إلا من فعل أجوف معتل الوسط بالواو أو الياء كما مر بك، ولا تجيء قط من فعل معتل الآخر فحسب كالفعل «عسى». هذا الصوفي إن تمعنت، ينسق مقولته على تفسير النصارى لمعنى الاسم «يشوع»، التي يقولون إن معناها «المخلص» الذي يكون به الخلاص. وهذا أيضًا – على الجانب المسيحي – تفسير صوفي يفسر الاسم، لا بمعناه في اللغة، وإنما بما يراد له أن يكون.
لم تجيء «عيسى» إذن في القرآن على الترجمة من «يشوع»، ولم تجيء أيضًا على التعريب لبعد ما بين الصورتين «عيسى»، «يشوع» («يسوع» في الأناجيل العربية التي نطق بها نصارى العرب قبل القرآن). فمم جاءت «عيسى»؟
الصحيح أن القرآن لم يعتمد هذه الصورة المعربة «يسوع» التي نطق بها نصارى العرب، التي وجدها جاهزة عند نزوله، لأنها – إن حسبت عربية – تجيء من ساع/ يسوع يعني ضاع وهلك، فهو السائع الهالك، على الضد من معنى «يشوع» العبرانية، خلاص الله أي الذي يخلصه الله وينجيه، فجاء القرآن بالاسم «عيسى» على غير مثال في العربية، مقلوبًا لاسم «يسوع» لإفادة عكس معناه: ليس هو السائع الهالك وإنما هو المخلص الناجي. وأصل المقلوب التام لاسم «يسوع» نطقا هو «عوسى» (بفتح السين وسكون الياء) وليس من أوزان العربية، فعدل به القرآن إلى «عيسى»، زنة «سيما»، اكتفاءً في القلب بدلالة نقل عين «يسو» الخاتمة من آخر الاسم إلى أوله. وبقيت «عيسى» أعجمية غير عربية، تمامًا كأصلها العبري «يشوع»، يفسرها القرآن بالمرادف: «يا عيسى إني متوفيك» أي مستخلصك.
لم يتسم المسيح عليه السلام بالاسم «يشوع» على غير سابقة في أعلام العبرانيين وإنما تقدمه أكثر من يشوع، أول وأبرز من تسمى به قبله عَلَمُ سبق مولد المسيح بنحو ثلاثة عشر قرنا، هو «يشوع بن نون» فتى موسى في سورة الكهف، الذي خلف موسى على رأس بني إسرائيل. كان اسم يشوع بن نون في الأصل (عدد 13/ 8) «هوشيع»، ولكن موسى عليه السلام لم يرتضه له فأبدله منه (عدد
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/271]
13/ 16) الاسم «يهوشوع»، ثم تخفف «يهوشوع» فصار إلى «يشوع» اختصارًا، وهذه الصورة الأخيرة «يشوع» هي المعتمدة في الترجمة العربية للعهد القديم (سفر يشوع) لاسم فتى موسى يشوع بنون نون.
هذه الصور الثلاث: هوشيع – يهوشوع – يشوع، منحوتة كلها من الجذر العبري «يشع» (المبدل من «وسع» العربي)، ومعناه من الإيساع والسعة، مقصورًا في العبرية بالذات على معنى واحد، وهو الخروج من الضيق إلى السعة، يعني الخلاص والتخليص، وبهذه المادة العربية (الخلاص والتخليص) يترجم المترجم العربي للعهد القديم كل مشتقات مادة «يشع» العبرية في توراة الأنبياء والكتبة.
أما الصورة الأولى «هوشيع» (التي لم يرتضها موسى اسمًا لفتاه فأبدله منها يهوشوع) فهي – أي «هوشيع» - تسمية بالمصدر من «يشع» بعد تعديته عبريًا بالهاء (وهي التعدية بالهمزة في العربية) فيكون المعنى «إيساع» أي التخليص والإنجاء، فهو خلاص ونجاء.
وأما الصورة الثانية «يهوشوع» فقد نحتها موسى عليه السلام من مقطعين عبريين هما: يهو + شوع، الأول مختصر يهوآ، اسم الله عز وجل في العبرية منذ موسى عليه السلام كما مر بك، والمقطع الثاني «شوع» مصدر بمعنى السعة، أي الخلاص والنجاء، فيكون معنى هذا التركيب المزجي هو «الله خلاص ونجاء». أراد موسى عليه السلام بهذا التعديل الذي أدخله على اسم فتاه يشوع بن نون التنبيه إلى أن الله عز وجل هو «الفاعل» في هذا الخلاص وهذا النجاء، أي لست يا «هوشيع» خلاصًا ونجاء، وإنما بالله عز وجل الخلاصُ والنجاء، فالله هو مخلصك ومنجيك.
ولأن الصورة الثالثة لاسم فتى موسى (أعني صورته بالرسم «يشوع») هي نفسها الاسم «يهوشوع» مختصرًا كما يقول علماء العبرية وعلماء التوراة، فهي لا تحتاج إلى مزيد بيان: إنها نفسها «يهوشوع» التي نحتها موسى عليه السلام، «الله خلاص ونجاء» يعني الله مخلصه ومنجيه.
هذا هو معنى «يشوع» عبريًا، اسم المسيح عيسى عليه السلام: «الله مخلصه ومنجيه». وهي من الله عز وجل تسميةٌ على النبوءة، لأنه هكذا كان: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55]. وقد تقدم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/272]
ورغم أن علماءَ المسيحية يعلمون كما تعلم أنت الآن أن «يشوع» المسيح عليه السلام سمى لفتى موسى يشوع بن نون، وأن معنى يهوشوع قبل اختصاره إلى يشوع هو «الله خلاص ونجاء» أي أن الله مخلصه ومنجيه، فقد نحوا منحى آخر في تفسير اسم يشوع المسيح من دون كل «يشوع»: قالوا إنه ليس من «يهوا + شوع»، ولكنه «يهى – يهى + شوع» يعني «هو – يكون - خلاصا» أي هو المخلص الذي يكون به الخلاص، وهو تفسير مفتعل، لأن هذا بالذات هو الذي نعاه موسى على اسم فتاه «هوشيع» كما مر بك. ولو أريد للمسيح أن يكون بذات اسمه «يشوع» هو الخلاص والنجاء، تسمية بالمصدر، فهو المخلص المنجي، لسمى «هوشيع» على ما كان عليه اسم فتى موسى «هوشيع بن نون» قبل تعديله إلى «يهوشوع» التي آلت إلى «يشوع» كما يقول علماء العبرية وعلماء التوراة، دون الحاجة إلى افتعال إضمار «يِهِيِ – يِهيِ» (أي «هو يكون») قبل المقطع «شوع».
ثم لماذا ينفرد «يشوع المسيح» بهذا الإضمار المخصوص «يِهِي – يِهي» من دون كل «يشوع» سبقه أو تلاه، بل وما الدليل على هذا من التسمية؟ ألأن «ملك الرب» الذي ظهر ليوسف النجار في الحلم قال له: «فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» (متى 1/ 21)؟ فلماذا لم يسمه جبريل لمريم على أصل هذا المعنى «هوشيع» أي الخلاص، أو يسمه «المخلص» مباشرة أي «موشيع» زنة الفاعل؟ ولكن لم يلتفت أحد لقول الملك ليوسف النجار عقيب هذا مباشرة: «وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متى 1/ 22- 23). أفليست «عمانوئيل» هذه تعني «الله معنا» كما قال متى؟ فما معنى الله معنا؟ أليس معناها الله ناصرنا ومؤيدنا؟ ألا يقترب هذا كل الاقتراب من معنى «يشوع» التي أصلها «يهوشوع» أي الله خلاصه ونجاؤه؟ ولكن اللاهوت المسيحي لا يرى هذا وإنما يرى أن هذا الطفل المبشر به هو نفسه «الله»، يولد من العذراء ويعيش معنا زمنًا فهو نفسه «الله معنا». وهذا هو التفسير بالعقيدة لا التفسير بمحض اللغة. على أن النبوءة لم تقل إن الله سيعيش معنا، وإنما قالت تحمل العذراء وتلد مولودًا «يسمونه» الله معنا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/273]
فحسب، لا أن الله سيجيء إلينا ليكون معنا. إذا قلت لك: الله معك! فلا يصح أن تفهم عني أن الله معك بذاته، أو أنك أنت من ذات الله، وإنما الذي تفهمه ببساطة أني أدعو لك الله أن تصحبك عنايته، لا أكثر ولا أقل، ولكن هكذا كان.
والذي يعنينا هنا في مقاصد هذا المبحث هو أن نعرف لماذا لم يرد علماء المسيحية – خلافًا لعلماء العبرية – أن يكون معنى الاسم «يشوع» في المسيح وحده هو نفس معناه في غيره، ناهيك بأول من تسمى به: يشوع بن نون، الذي سماه موسى عليه السلام بالاسم «يهوشوع» المختصر من بعد إلى «يشوع»، التي فشت في أعلام العبرانيين من بعده، حتى سمى بها المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام.
أراد علماء المسيحية من المسيح أن يكون بذاته هو الخلاص «هوشيع» الذي يكون به الخلاص، فهو فادى البشر بدمه المسفوح على الصليب، لم يخلصه الله من الصلب كما في القرآن، فلا يصح أن يكون اسمه بمعنى الذي يخلصه الله وينجيه «يهوشوع».
أسقط علماء المسيحية إذن اسم الله «يهوا» المضمر في «يشوع» (التي أصلها «يهوشوع» أي «يهوا + شوع» كما مر بك)، فبقيت «شوع» فأضمروا قبلها – لا يهوا اسم الله في العبرية – وإنما «يِهِي – يِهِي» (أي «هو يكون») فأصبح معناه عندهم «هو يكون الخلاص»، يريدون هو «المخلص المنجي»، لا «المخلص الناجي» كما فسر القرآن هذا الاسم في قوله عز وجل: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55] يعني الله مستخلصك (وهي نفسها – عبرانيًا – يهوشوع التي جاء منها «يشوع» اسم عيسى في الآية) أي مستوفيك كاملاً غير منقرص.
لم ير علماء المسيحية ضيرًا في هذا «الإبدال»، لأن «الابن» عندهم من جوهر «الآب»، وإذن فهو هو. بل إن الكلمة (أي المسيح) كما قال يوحنا في إنجيليه «كان عند الله، وكان الكلمة الله» (يوحنا 1/1). وقد كفر القرآن قاله هذه المقولة كما تعلم، وتبرأ منها المسيح عليه السلام في القرآن: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فيما توفيتني
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/274]
كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117]، لم يدع إليها هو، ولم تقل له وهو بين ظهرانيهم، ولكنها قيلت بعده.
فلماذا وكيف، تبدل الناس قولاً غير الذي قيل لهم؟
بعث عيسى عليه السلام ابن ثلاثين سنة رسولاً إلى بني إسرائيل حوالي سنة ست وعشرين ميلادية، وفلسطين يومئذ ولاية رومانية تحكمها روما مباشرة، وروما يومئذٍ والعالم القديم كله، وثني مشرك، إلا بني إسرائيل، الشعب الذي يعبد الواحد الأحد منذ إبراهيم. وقد تندهش كيف يبعث الله الرسل إلى شعب موحد، بل وكيف يخصه بجم غفير من رسله وأنبيائه، فلا يكاد يخلو منهم جيل إلا وقد كان معه طبيب يطببه ويداويه. ولكنك تستدرك على نفسك فتقول أن داء العارف الجاحد أعتى من ضلالة حائر يلتمس من يهديه.
كانت رسالة المسيح إذن – شأنه شأن من سبقه – قاصرة على هذا الجيل الضال من «بني الأنبياء» الذين حار فيهم طب النبوة، لا تعدوهم إلى غيرهم من أهل الأرض وثنيين ومشركين. نص المسيح على هذا في الأناجيل بعبارة قاطعة لا تحتملُ التأويل: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (متى 15/ 24).
لهذا، لم تكن رسالة المسيح إلى قومه رسالة إلى التوحيد، لأن دعوة التوحيد نداء واقر في سمع هذا الشعب من قديم، لا يحتاجون إلى من يدلهم عليه. وإنما كانت دعوته عليه السلام في قومه دعوة إلى توحيد من نوع آخر دأبوا على مخالفته والخروج عليه: التوحيد بين الظاهر والباطن، بين القلب والقول، بين الفكر والجوارح، بين الإيمان وبين العمل على مقتضى هذا الإيمان.
كان عليه السلام في دعوته – كما تنطق بهذا أقواله في الأناجيل – يبني على ما جاء به الذين تقدموه، موسى وإبراهيم، وما كان لك أن تنتظر غير هذا ممن قال ما جئت لأهدم الناموس والأنبياء، وإنما جئت لأكمل، ناهيك بأن تنتظر منه مقولة غير مسبوقة في توحيد الله عز وجل تضيف إليه عيسى وجبريل، كالتي صبغت من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/275]
بعده مرحلة بعد مرحلة في المجامع، مجمعًا بعد مجمع، تثلم هذا التوحيد الخالص الذي جاء به موسى وإبراهيم، فتبعض ذات الواحد إلى آب وابن وملك.
والذي ينبغي التنبيه إليه، أيا كان الدين الذي به تدين، أن كلمة الرسول في لب العقيدة وجوهرها لا تؤخذ من فم الشراح، تلاميذ وغير تلاميذ، كهنوتا وغير كهنوت، وإنما تؤخذ من فم صاحب الرسالة نفسه، يقولها جلية بينة فيفهم عنه سامعوه مباشرة، دون وسيط، عالمهم وجاهلهم سواء، ثم يتناقلونها من بعده خلفًا عن سلف، اللفظة باللفظة، والحرف بالحرف، لأن النبي لم يقل لهم هذا الكلام من عنده وإنما من عند الذي أرسله، أي من الله عز وجل، لا يجوز فيه التبديل، ولا تجوز فيه الإضافة ولو بقصد التفسير والتوضيح: النبي الذي يحتاج فهم مقولته إلى تفاسير شراح يجيئون بعده بقرون، يتفقون ويختلفون، ويتجادلون ويتناظرون، ثم يقترعون بأغلبية الأصوات في المجامع أيهم المخطيء وأيهم المصيب، ليس بنبي، لأنه لم يحسن تبليغ الرسالة كما أنزلت إليه.
لم يكن هذا بالطبع حال المسيح عليه السلام، حاشاه أن يكون. الذي أبلغ فأدى. يكفيك من محكم قوله في تأصيل عقيدة التوحيد الخالص «لا إله إلا الله» قوله المحفوظ في الأناجيل التي بين يديك حين سُئِل عن أعظم الوصايا في توراة موسى فأجاب: «إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها هي: «تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين»، فقال السائل: «جيدا يا معلم، بالحق قلت، لأنه الله واحد وليس آخر سواه». علم المسيح أن قد اطمأن قلب السائل فقال له: «لست بعيدا عن ملكوت الله»، ولم يجسر أحد بعد ذلك القول الفصل أن يسأله (راجع مرقس 12/ 28 – 34) فقد جاء المسيح على دين موسى.
استحسن السائل قول المسيح، واستحسن المسيح تعقيب السائل فبشره بأنه من الجنة قريب وكأنه يزكيه لقومه، من كان له مثل إيمان هذا السائل فعمل به، فدخل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/276]
الجنة: توحيد الله عز وجل والإحسان إلى الجار، ولو أحسن كل جار إلى جاره لكانت الحسنى في الخلق جميعًا.
بالتوحيد المطلق «لا إله إلا الله» قال المسيح كما رأيت من نص كلامه في هذه الأناجيل، وبالتثليث قال منتسبون إليه في المجامع، فأي الفريقين أولى بالاتباع؟
ولكنك لا تعدم من يقول لك إن التثليث أيضًا توحيد، لأن الآب والابن والروح القدس ثلاثة في واحد. إنهم ثلاثة أوجه للذات الإلهية أو ثلاثة أقانيم، تتمايز لنا نحن البشر، وتجتمع في الله الواحد. وليس هذا من وحي الله في شيء، وإنما هو من تهافت متفلسفة اللاهوت، يرقعون قولاً بقول، جرهم إليه القول بآب وابن وملك. وما كان بهم إلى هذا من حاجة لولا أنهم حكموا المتشابه في المحكم ولم يقيدوه به، ولولا إساءتهم فهم لفظتي الآب والابن العبرانيتين – الآراميتين كما سوف ترى.
وهل أحكم من قوله عليه السلام يردد قول موسى في التوراة: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد؟ أفيقول هذا لمن سأله عن الوصية الأولى والعظمى، وهو يضمر في نفسه أنه وجبريل إلهان إلى جوار الله عز وجل؟ أليس قد وعد المسيح هذا السائل بالجنة إن مات على توحيد الله عز وجل؟ فماذا لو قيل لهذا السائل من بعد المسيح إن الله ثالث ثلاثة؟ أفيصدقهم هم ويكذب المسيح؟ فمن يضمن له الجنة بقولهم؟ أفالضمان عليهم؟ فكيف يترك ضمان المسيح إلى ضمانهم هم؟ ب لمن يضمن لهؤلاء القائلين الجنة وقد خالفوا الوصية الأولى والعظمى التي لقنها المسيح هذا السائل؟
بل علام اتكأ القائلون هذه المقولة؟ أفي الأناجيل الأربعة التي بين يديك قول واحد قاله المسيح ينص على أن الله ثالث ثلاثة، أو ينص على أن الثلاثة في واحد؟
وإذا كان الثلاثة واحدًا، فلماذا يقال أصلاً ثلاثة وهم في النهاية واحد؟
وإذا كان الله اثنين فقط في مقولة أصحاب مجمع نيقية عام 325م، فلماذا، تثلث بإضافة جبريل بعد مجمع نيقية بخمسين سنة؟ وما شأن من قال باثنينية الآب والابن وناضل عنها وجادل بها ومات عليها قبل أن يتأله جبريل أيضًا؟
بل ما شأن موسى والنبيين من قبل ومن بعد الذين تقدموا المسيح وقد دعوا إلى التوحيد الخالص وماتوا عليه؟ أليسوا مع المسيح في الجنة؟ فلماذا تكتم الله
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/277]
التثليث عليهم وعلى من بعثوا فيهم فاستجابوا لهم وماتوا على ما دعوا إليه فدخلوا الجنة؟
أفقد ارتضى الله التوحيد الخالص من الخلق أجمع قبل عيسى، ثم أغلظ على الخلق من بعده فاشترط عليهم التثليث لدخول الجنة؟
وإذا كان القول بالتثليث هو وحده المدخل إلى الجنة كما يقول علماء المسيحية، فلماذا تكتمه المسيح على الناس؟ أفقد جاء ليضلهم عنه أم ليهديهم إليه؟
أفقد تكتمها على هذا السائل عن الوصية الأولى والعظمى، وأسرها في آذان بعض تلاميذه ليستعلنوا بها للناس من بعده؟ أفهو النبي أم هم الأنبياء؟
وهب أنه أسرها لتلاميذه وحوارييه ليعلنوها للناس من بعده، فكيف لم يسجلوها هم أو الآخذون عنهم في هذه الأناجيل وقد كتبت كلها بعد رحيله، أو يحذفوا منها جواب المسيح على هذا السائل عن الوصية الأولى والعظمى: «اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا رب واحد» وتعقيب السائل وقد اطمأن قلبه بهذا الجواب: «بالحق قلت، لأنه الله واحد، وليس آخر سواه!»؟ أليست هذه هي نفسها شهادة المسلم: «لا إله إلا الله»؟ فكيف خفيت على مجمع نيقية وعلى المجامع من بعد نيقية؟ بل كيف خفيت على أساقفة نجران في حوارهم ثلاث ليال مع خاتم النبيين في يثرب؟
هذا الذي أنكر أن يقال له «أيها المعلم الصالح» فقال «ليس صالحًا إلا واحد وهو الله»، الذي أبى أن يكون صالحًا مع الله، كيف يظن به أنه الله أو إله مع الله؟
الذي قال: «أيها الآب! كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس! ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت» (مرقس 14/ 36)، الذي سجلت الأناجيل له هذا الكلام، الذي يبتهل إلى «الآب» (وهو الرب كما قد علمت) ويسأله ويدعوه ويستغيثه، ثم يفوض الأمر إليه ويذعن للمشيئة، كيف يقال إنه «ابن الآب» وإنه والآب واحد، إله في الله، أو إله مع الله؟
هب أن المسيح صلب بالفعل وقبر ثم قام من قبره في اليوم الثالث كما يؤمن المسيحيون جميعًا، فلمن معجزة القيامة من بين الأموات؟ أللمقبور في قبره، الذي قال على الصليب: «يا أبتاه (يعني يا رباه كما قد علمت) في يديك أستودع روحي» (لوقا 23/ 46)، ولا فعل لميت، أم المعجزة لله الذي لا غله إلا هو الحي الذي لا يموت؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/278]
ولماذا يؤله المسيح وحده بهذه المعجزة؟ أليس سيقوم الخلق جميعًا، برهم وفاجرهم، يوم القيامة لله الواحد القهار؟
ولماذا لم يؤله «لعازر» الذي أحياه عيسى بإذن الله فانشق عنه القبر وخرج يدب على قدميه مدرجًا في أكفانه؟ ولماذا لم يؤله أيضًا عيسى يوم «أحيا» لعازر؟
ولماذا أيضًا لم يؤله نبي الله اليشع (اليسع) والصبي الذي «أحياه» كما تقرأ في العهد القديم (الملوك الثاني 4/ 17- 37)؟
ألأن المسيح ارتفع جسدًا حيًا أمام أعينهم إلى السماء؟ فلماذا لم يؤله أحد نبي الله إيليا (إلياس) الذي تقرأ في العهد القديم (الملوك الثاني 2/ 11- 12)، أنه ارتفع إلى السماء جسدًا حيًا تحت سمع وبصر تلميذه نبي الله اليشع (اليسع)؟
نعم، ثم فرق بين رفع إيليا ورفع المسيح: «أخذ» الله إيليا قبل أن يأخذه أعداؤه، لم يمسوه بسوء، أما المسيح في رواية الأناجيل فقد مكن الله منه أعداءه الذين رفعوه على الصليب حتى الموت، ثم دفن، ليبعثه الله من بعد يطمئن تلاميذه، ثم يأخذه الله إليه. ولكن أيهما أليق وأكرم؟ أفي صلب الأنبياء كرامة؟ ناهيك بأن يقال إن المسيح إله أو ابن إله، فكيف يصلب «الإله» أو يترك «ابنه» للصلب على أيدي بشر ممن خلق؟
لا بد لهذا من علة، هكذا قال مؤلهو المسيح على البنوة لله: شاءت محبة الله الفائقة للبشر الذين عصوه ويعصونه منذ أبيهم آدم، أن يكفر عنهم بقربان يعدل جسامة هذا العصيان، فلم يجد قربانا أكرم من المسيح يبذله فداء للبشر، فضحى بابنه الوحيد فداءً للخلق. وتستطيع أن ترد على هذا بقولك: فلماذا خلق الله جهنم للعصاة وهو ينتوي افتداءهم بالمسيح؟ وإذا كان المسيح قربانًا من ذات الله لله، فمن المضحي وهو نفسه الأضحية؟ وهل يُكَفِّرُ اللهُ المعاصي بالقرابين شأن آلهة الأساطير أم يُكَفِّرُها بالتوبة والطاعة؟ وهل كان الذين صلبوا المسيح يقدمون لله قربانًا، أم أن الله هو الذابح والذبيح؟ وإذا كان المسيح لم يضره هذا الصلب، ولم يفسد له جسد بل انبعث بجسده من قبره لم يمسسه سوء فبم كان الفداء؟ أليس قد شبه الله عليهم؟ وهل يليق بجلال الله عز وجل الذي وسع كرسيه السموات والأرض أن يتحيز في جسد بشر، أو تكون له أم تحنو عليه وترضعه وتفطمه وتغذوه؟ ربما قيل لك إن الله عز وجل إذا ارتضى أمرًا فعله، لا يحد من قدرته شيء، وما جاز لمردة سليمان في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/279]
قماقمهم أهون على الله عز وجل، الذي اتخذ من مريم العذراء جسدًا تلبس به زمنًا على الأرض، لا يعجزه تصريف ملكه من محبسه وتدبير ملكوته، لأنه سبحانه كُلِّيُ القدرة، يتعاظم فلا تدركه الأبصار، ويتضاءل إن شاء فيتلبس بالنملة والهباءة. هذا من تلبيس إبليس، يزينه لأوليائه. أما أن قدرته عز وجل لا تحد، ما شاء فعل، فهذا مسلم مقطوع به في جنب الله عز وجل بمقتضى ذات ألوهيته. ولكنك تحيل على الله المحال، لأن المحال عدم، والعدم غير مقدور، يعني لا تتعلق به قدرة أو عجز. والمحال في حقه جل وعلا أن يكون إلهًا وغير إله، الخالق والمخلوق، أن يحده الزمان والمكان وهو خالق الزمان والمكان، أن يجلد ويصلب مريدًا بذاته العلية الذلة والمهانة وهو العزيز الجبار، أن يموت ولو للحظة الحي الذي لا يموت، أو يتضع لخلقه الكبير المتعال. ولماذا المحال؟ لأن محبته «الفائقة» للبشر قد غلبته؟ ألا لو ظن هذا البشر فسحقًا للبشر أجمع.
ثم من قال أن الله «شاء» افتداء البشر من معاصيهم بقربان من ذاته يقدمه إليهم لا بقربان منهم يقدمونه إليه ثم يقال إن الله ما شاء فعل؟ من قال إن الله «شاء» هذا؟ لا يصح الخبر بمشيئة الله إلا لنبي، ولا يجوز التزيد على الأنبياء، فما بالك بخائضين في ذات الله يتركون محكم القول إلى متشابهه؟ قد قال المسيح في هذه الأناجيل أنه يأتي بعده أنبياء كذبة كثيرون تعرفونهم من ثمارهم، أي بما يدعون الناس إليه، بل وقال بالنص: «ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (متى 7/ 21- 23). ليس من يريب المسيح بداخل ملكوت السموات، وإنما يدخله «الذي يعمل إرادة أبي الذي في السموات»، يعني الذي يعمل مشيئة الله، الذي يأتمر بأمره وينفذ وصاياه، فكيف ينفذ وصايا الله الذي يخالف أولى وصاياه: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، أي الله واحد وليس آخر سوه، كما قال ذلك السائل المسيح عن الوصية الأولى والعظمى وأخذها من فم المسيح نفسه، لا يسأل عنها أحدًا بعده، فمات عليها، فدخل الجنة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/280]
كان هذا كله بالطبع مثار جدل عنيف بين المسيحيين من بعد المسيح، مؤلهين وغير مؤلهين. وليس لديك شاهد على ما قاله غير المؤلهين بلسانهم، فلم يحفظ لك التاريخ إلا مقولة المؤلهة وحدهم، الذين استقرت مقولتهم بعد قرون من رفع المسيح، واتهم مخالفوهم بالهرطقة، أن قالوا ليس الابن من ذات جوهر الآب، وطورد قائلو هذه الهرطقة وحرقت أناجيلهم فلم يعد لديك دليل مقطوع به من كتابتهم، كالشأن في تلاميذ يحيى بن زكريا عليهما السلام. ولكن الدليل على مقالتهم المخالفة لمقولة مجمع نيقية المنعقد سنة 325م للفصل في الخلاف حول طبيعة المسيح بن المسيحيين أنفسهم هو مجمع نيقية نفسه، ولو لم يكن على طبيعة المسيح خلاف بين أتباعه لما كانت هناك حاجة أصلاً إلى انعقاد هذا المجمع وما تلاه من مجامع.
هذا يدلك على حكمة الله عز وجل من فتنة الناس بالمسيح: أغزر على يديه الآيات منذ أنطقه في المهد مولودًا بغير أب، وتتابعت على يديه المعجزات حتى إحياء الميت، ثم شبه لهم قتله على الصليب حتى لم تبق لأحد شبهة في أنه الذي مات، ليتراءى لهم من بعد جسدًا حيًا يكلمهم ويؤاكلهم ثم يرتفع أمام أعينهم إلى السماء جسدًا حيًا.
وقد مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن الله عز وجل يفتنُ الناس في هذه الدنيا بما شاء، وكيفما شاء، بل ويفتنهم بالملائكة رضوان الله عليهم كما رأيت من قبل في الفتنة بهاروتَ وماروت، ومر بك أيضًا أن الفتنة من الله عز وجل هي على أصل معناها في اللغة، اختبار وتمحيص، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن بينة.
ولأن المسيح عليه السلام هو آخر رسل الله إلى بني إسرائيل، فقد شاءت حكمته عز وجل أن تكون الفتنة بالمسيح في شعب التوحيد منذ إبراهيم فتنة في هذا التوحيد نفسه الذي تعالوا به على جيرانهم من قديم، ولو كانت بعثة المسيح في شعب وثني يعدد آلهته لما كان لفتنهم بالمسيح من معنى أن أضافوا ابنا جديدًا لكبير آلهة الأولمب وذراريه. بل أراد الله عز وجل التمحيص الأخير لصدق إيمان الذين استتاب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/281]
موسى آباءهم من عبادة العجل في التيه. الذين قال لهم موسى: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد» (تثنية 6/ 4) فأجاب بها المسيح ذلك السائل عن الوصية الأولى في الناموس.
لا يستقيم هذا مع قول من قالوا الآب والابن واحد، ثم أضافوا إليهما من بعد جبريل، ثلاثة أوجه في ذات الواحد أو ثلاثة أقانيم. ترى ماذا يبقى من المسيح الذي عرفوه وقد فنى في ذات الله وفنى جبريل؟ ليس بعد هذا التشبيه تشبيه.
ليس هذا من قول المسيح في الأناجيل التي بين يديك، ومن ثم فهو لا يلزمك. فلا أحد يأخذ دينه من أفواه الفلاسفة أو الشعراء، وإنما يأخذه من فم صاحب الرسالة نفسه، المبلغ عن ربه، الذي قال في هذه الأناجيل يناجي ربه: «أنت الإله الحقيقي وحدك» (يوحنا 17/ 3). هذا هو الأصل المحكم الذي تقيس عليه كل أقوال المسيح في هذه الأناجيل التي بين يديك وإن شبه لك بعضها أو اشتبه عليك.
ترى ما يقول المسيح في «مجيئه الثاني» لهؤلاء الذين شبه لهم؟ أينكر عليهم أن قالوا فيه ما لم يقل، أم يأخذهم بما استحفظهم إياه فنسوه؟
أما أمثال هذا السائل المسيح عن الوصية الأولى والعظمى: الله واحد وليس آخر سواه، فعضوا عليها بالنواجذ، أولئك الذين استمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها، فطوبى لهم وحسن مآب.
كان موت المسيح على الصليب فتنة كبرى لمن شبه لهم وقوع الصلب على ذات المسيح، أعني جميع الذين شهدوا هذا الصلب: شانئو المسيح ومبغضوه وطالبو دمه، وأيضًا أنصاره ومحبوه الذين لو خيروا لافتدوه بأنفسهم وأبنائهم.
فأما شانئو المسيح ومبغضوه وطالبو دمه فقد أخذتهم العزة بالإثم أن قتلوا بأيديهم المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وتباهوا بها مستهزئين: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157]. وكم قتل اليهود من أنبياء العهد القديم، ثم ختموا بيحيى عليه السلام فيما تروى الأناجيل، فما قامت الدنيا وما قعدت، ولم يقل أحد في نبي قتل إنه أراد هذا القتل وسعى إليه وكان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/282]
محور رسالته، يُكَفِّر به عن خطايا البشر أو يفتديهم بدمه، كما قيل في المسيح، وإنما قال أتباع النبي المقتول إنه مات شهيدًا، دمه على قاتليه.
وأما أنصار المسيح ومحبوه فقد كان موته على الصليب محنة لهم أي محنة، بل كان فاجعة كبرى لا تعدلها مصيبة: أفقد مات الذي قال لهم إن الله أرجأه إلى قُرب انقضاء الدهر؟ ها هم يرونه بأعينهم يساقُ إلى الصلب مُهانا، ثم يرفع على الصليب مثقوب اليدين والقدمين، ويسلم الروح مطعون الجنب، ليدفنوه بأيديهم. أفقد مات الذي أحيا الميت؟ فلماذا لم ينقذ هو نفسه من القتل على الصليب؟ نعم، قد قطعوا رأس يحيى قبله ولكن ابن زكريا ما أحيا ميتًا ولا أبرأ أكمه أو أبرص، ولم يقل لتلاميذه إنه لا يموت إلى قُرب انقضاء الدهر كما سمعوا هم المسيح يقول. فلماذا تركه الله يموت؟ لِمَ لمْ يَقْبل الله ضراعته: «أيها الآب، نجني من هذه الساعة» (يوحنا 12/ 7) فلم ينجه؟ لماذا يتركه يموت وهو يناديه: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» (متى 27/ 46)، أفقد مات المسيحُ لا يدري بأي ذنب يقتل؟ أو يموت يتساءل لماذا تركه الله يموت؟
كلهم شك فيه، كما قال لهم ليلة القبض عليه كلكم تشكون في الليلة (مرقس 14/ 27). ترى لماذا شك التلاميذ في المسيح، وفيم كانت شكوكهم؟ أفي نبوته وقد علموا أن الأنبياء تقتل وتموت، وما رأس يحيى على طبق من الفضة ببعيد؟ أم شكوا في «ألوهيته» وقد علموا أن الآلهة خالدة لا تموت، ففيم الفاجعة إذن في «شبهة» إله يموت؟
أما الذي لم يشك فيه أحد، تلاميذ وغير تلاميذ، فهو أن الذي مات على الصليب هو نفسه المسيح. لم يرتب أحد ولو للحظة في أن المرفوع على الصليب ليس هو، وإنما هو يهوذا الذي أسلمه، شبه لهم.
كان التشبيه غاية في الإتقان، لا يستطيعه إلا خير الماكرين: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران: 54].
هذا المائت على الصليب ليس هو المسيح، يكفيك في هذا قول القرآن وليس بعده قول لقائل {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/283]
اختلفوا فيه لفي شك فيه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 157 – 158]. أما إن أردت الدليل من هذه الأناجيل التي بين يديك، فهاك الدليل من قول المائت على الصليب: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني!» (متى 27/ 46)، وقد حرص متى على إثبات هذه العبارة في إنجيليه بنصها الأصلي: «إيلي، إيلي، لما شبقتني» كأنه يؤكد للقارئ اليوناني أنها هكذا قيلت. وحرص أيضًا مرقس في إنجيله على إثبات نفس العبارة «إلهي إلهي لماذا تركتني» بنصيها الأصلي واليوناني (مرقس 15/ 34) وإن تحول مرقس بلفظة «إيلي» (أي إلهي) العبرية – الآرامية إلى نظيرتها العبرية القح «إلوهي» (بمد الكسر في الهاء وسكون الياء بعدها) ولكن قلمه اليوناني لم يستطع الهاء فحذفها «إلوي» التي مازلت تقرؤها في الترجمات العربية محذوفة الهاء تبركًا بالأصل اليوناني. وحرص الكاتبان كلاهما ألا يشتبه عليك مقصود المائت على الصيب فتظن أنه أراد «إيليا» (إلياس عليه السلام) ولم يرد «إيلي» أو «إلوهي» (أي إلهي) فقال كلاهما أن قوما من الحاضرين لما سمعوا العبارة ظنوا أنه ينادي إيليا (المرفوع حيًا قبله في العهد القديم) كي يأتي ويخلصه، وكأنهما يقولان لك لا تخطئ الفهم كما أخطأ هؤلاء، بل كان المصلوب ينادي «إلهه»!
فطن لوقا ويوحنا – اللذان كتبا إنجيليهما بعد متى ومرقس – إلى خطورة هذا الذي أثبته متى ومرقس في إنجيليهما على دعوى ألوهية المصلوب: كيف يستغيث إلهه؟ أفللإله إله، بل كيف يستغيث من الصلب وهو يعلم أنه لهذا جاء ويعلمه؟
أما لوقا فقد حذف هذه العبارة من إنجيليه وأثبت في موضعها: «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي» (لوقا 23/ 46)، وأما يوحنا فقد أسقط العبارة جملة ولم يثبت في موضعها شيئًا.
أنا أنت فتفطن إلى أخطر مما خشيه لوقا ويحونا: هذا المائت على الصليب، الذي يستغيث الله ولا مغيث، ليس بنبي. ولا عليك أن يقال إله أو ابن إله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/284]
على أن المقبوض عليه عشاء فصح اليهود فحوكم وأدين، ليس هو أيضًا المسيح. دليلك في هذا من الأناجيل عبارة ندت عنه وهو يحاكم، أثبتها متى في إنجيله وهو لا يدري مدى خطورتها في تحديد هوية الذي حوكم فأدين: «وأيضًا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان (يعني المسيح) جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء» (26/ 64) فكيف يكون الماثل أمامهم هو نفسه في عين الوقت الجالس عن يمين القوة الآتي في سحاب السماء؟ أليس قد أفلت الله المسيح قبل أن يحاكم أو يصلب؟ أفهل تفوتك عبارة «من الآن»؟ تجد مثل هذا في لوقا أيضًا أكثر وضوحًا: «إن كنت أنت المسيح فقل لنا. فقال لهم إن قلت لكم لا تصدقون. وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسًا عن يمين قوة الله. فقال الجميع أفأنت ابن الله. فقال أنتم تقولون إني أنا هو»، (لوقا 22/ 67- 70). مرقس وحده فطن إلى خطورة ما يخطه قلمه، فاسقط «منذ الآن»، وزيادة في الحيطة غير ما قيل في متى ولوقا في جواب الذي حوكم حين سئل هل هو المسيح. قال متى «قال له يسوع أنت قلت» (متى 26/ 64) وقال لوقا «أنتم تقولون» (لوقا 22/ 70)، وقال مرقس «فسأله رئيس الكهنة أيضًا وقال له أأنت المسيح ابن المبارك. فقال يسوع أنا هو» (مرقس 14/ 61- 62). أما يوحنا فقد أسقط هذا وذاك.
تُرىَ هل رُفِعَ المسيح لحظة جاءوا يقبضون عليه وشبه لهم يهوذا الاسخريوطي فأخذوه مكانه؟ هذا هو ما يقوله لك إنجيل برنابا الذي ينكره المسيحيون، ولكنك تجد مثله في إنجيل مرقس ولم يمحصه أحد: «وللوقت وفيما هو يتكلم أقبل يهوذا – واحدٌ من الإثنى عشر – ومعه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ. وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلاً الذي أقبله هو. أمسكوه وامضوا به بحرص. فجاء للوقت وتقدم إليه قائلاً يا سيدي يا سيدي. وقبله. فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه. فاستل واحدٌ من الحاضرين السيف وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فأجاب يسوع وقال لهم كأنه على لصٍ خرجتم بسيوف وعصى لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني. ولكن لكي تكمل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/285]
الكتب. فتركه الجميع وهربوا. وتبعه شابٌ لابسًا إزارًا على عريه فأمسكه الشبان. فترك الأزار وهرب منهم عريانًا» (مرقس 14/ 43- 52). والذي يتعين التنبيه إليه في خصوص هذا النص الإنجيلي المعتمد عند المسيحيين كافة، هو أن التلاميذ هربوا جميعًا لحظة القبض على المسيح، فلا تصح لهم شهادة على ما قاله المقبوض عليه للجند لحظة القبض عليه ولا على ما قيل له منذ لحظة القبض عليه، وما جرى له وما جرى منه أثناء المحاكمة التي جرت بين جدران مغلقة ولم تجر علنا، وكذلك ما قاله وقيل له عند هيرودس ملك اليهودية من قبل الرومان أو عند والي روما بيلاطس البُنطي كالذي تقرأ في الأناجيل الأربعة المعتمدة – وهو ما يفسر لك اختلاف الكتبة الأربعة لهذه الأناجيل اختلافًا كبيرًا فيما بينهم حول ما قيل أو حدث. لا تقبل شهادتهم لا لأنك تجرحهم، وإنما لأنهم كانوا عن هذا غائبين، والغائب لا يعتد بشهادته. ربما قلت أنهم أو بعضهم على الأقل شهد الجلد والصلب اللذين وقعا علنا. فتكتفي منهم بما سمعوا أو عاينوا منذ الجلد إلى الموت على الصليب. ولكنهم لم يسمعوا كل الذي قيل، دليلك في هذا تضاربهم فيما رووه، فتقطع بأنهم أكملوا ما لم يسمعوا، وكانت لكل منهم مصادره، وتفاوت قول الرواة، فتفاوتت أقوالهم. بل هناك ما تقطع بأنه لم يحدث، وإنما هو من قول الرواة، من هذا ومثله الحوار الهامس بين المائت على الصليب وبين زميليه، الذي انفرد به لوقا في إنجيله (لوقا 23/ 39- 42)، المختوم بقول المائت على الصليب للص التائب: الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس! أكان الثلاثة يتصارخون بهذا الحوار ليسمعه جمهور الحاضرين في الساحة مثلما صرخ المائت على الصيب لحظة أسلم الروح «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي»، التي وقعت في سمع متى ومرقس بلفظ: «إلهي إلهي لماذا تركتني؟» تصور أنت المسافة بين المرفوعين على الصليب وبين الجند، ثم بين الجند وبين الجمهور، واحكم بنفسك.
ولكن الذي نتوقف عنده هو هذا الشاب الذي رآه مرقس يتبع المقبوض عليه عريانًا إلا من إزار ائتزر به، فأرادوا إمساكه، ولكنه ترك إزاره في أيديهم ليفر عريانًا، ترى من كان هذا الشاب الواقف مباشرة خلف المقبوض عليه؟ أكان من التلاميذ؟ كيف وقد هربوا جميعًا كما يروى لك مرقس؟ أفكان من الجند؟ فكيف
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/286]
أرادوا إمساكه؟ أكان هو يهوذا، فكيف يهرب منهم وهو الذي جاء بهم؟ أكان عابر سبيل دفعه الفضول إلى السير في موكب الجند والمقبوض عليه مثلما يسير الناس في موكب الشرطة والجناة، فما خشيته من الجند وما خشية الجند منه؟ أفقد أمسكوا بالمتجمهرين جميعًا؟ فلماذا يحاولون الإمساك به وحده؟ أليس لأنه استفز شكوكهم التصاقه بالمقبوض عليه وهيئته بزي اللابس إزارًا على عريه؟ أفقد لمسوا إزاره فسقط عنه أم جبذوه به فتفلت منه؟ وكيف يخرج من إزاره فيستفزهم عريه ولا يلحقون به؟ كيف انسل من أيديهم ولم يلاحقوه؟ أليس هو المسيح نفسه الذي حاجزت عن الملائكة بعد أن ألقي شبهه على يهوذا المقبوض عليه لحظة «القبلة» لا تدري من قبل من؟ ألم يأخذ الملائكة لباس عيسى فوضعوه على يهوذا، لم يُبقوا له إلا إزارًا يأتزر به، ثم يتركه في أيديهم ليتلبس رداءً من نور لا يبصره إلا ملائكة من نور، محجوبون عن أعين الناس؟ هكذا غاب الشاب عن أعين طالبيه الذين قبضوا على يهوذا مكانه.
ربما قيل لك إن من مأثور المسيحيين غير المسطور في الأناجيل أن هذا الشاب اللابس إزارًا على عريه كان «يوحنا» التلميذ الذي كان المسيح يحبه. وليس بشيء لأن المكتوب في الأناجيل هو أن التلاميذ كلهم هربوا، لم يتبعه أحد منهم أو فكر في اتباعه لم يتبعه أحدٌ بعد هربهم ومضى الجند إلا بطرس الذي تبعهم من بعيد كما يقول لك متى ومرقس ولوقا. ولكن يوحنا يقول في إنجيله (وهو ليس يوحنا التلميذ المعني) إن بطرس لم يكن وحده، وإنما كان معه التلميذ الآخر (يُريد يوحنا) الذي كان معروفًا عند رئيس الكهنة فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة (يوحنا 18/ 15)، ولا يصح أن يكون هذا والذي فر عُريانًا هو نفس الشخص، إذ كيف يدخل عُريانًا على رئيس الكهنة؟ وكيف يستعيد ثيابه ويلحق الموكب؟
هذه المعجزة الكبرى، معجزة تشبيه عيسى لطالبي دمه وقضاته ومحاوريه وللجمهور الذي شهد الصلب، لم يشاهدها من دون المسيح والملائكة أحد قط إلا واحد، هو يهوذا المشبه به. وكيف تعمى عليه والجند الذين جاء هم بهم وسار معهم وكلمهم وكلموه، يقبضون عليه لا يشكون لحظة أنه هو نفسه عيسى الذي دلهم عليه: خرج من صفوفهم ليقبل المسيح فتركوا المسيح وقبضوا عليه هو؟ أليس قد أحس يهوذا أنه لم يزل هو يهوذا ولكن الجند يرونه هو المراد القبض عليه؟ الذي أصبح صوته كصوته وهيئته كهيئته ويتكلم بمثل كلامه، فيظن الجميع أنه هو هو، حتى التلاميذ
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/287]
الذين هربوا ظنًا منهم أن قد أخذ معلمهم؟ ولكنه لا يزال هو يهوذا لا شبهة عنده في ذلك، فما بال الناس قد سحروا؟
هناك يدرك يهوذا المقبوض عليه عمق الفاجعة: أغواه الشيطان فشك في نبوة معلمه، وزين له الشيطان أن يمتحن صدق المسيح في دعواه النبوة فدل عليه خصومه وطالبي دمه. قال في نفسه إن كان نبيًا فلن يمكنهم الله منه ويخلصه، وإن كان دعيًا محتالاً فبئس جزاء المحتال الدعي، وقد احتاط هو – يهوذا – لنفسه وحظى عند الكهنة. ويفجع يهوذا بالذي كان: أهكذا يخلص الله المسيح؟ أيخلصه ويوقعه هو في نفس المصير الذي أراده بمعلمه؟ أفقد أوقعه في الحفرة التي نصبها له؟ فمن ليهوذا بالذي يخلصه هو الآن وهو صفر اليدين مما أوتي عيسى، صاحب العجائب المعجزات؟ أفيقول له أنه ليس هو؟ فمن ذا يصدقه وهو هو عند كل من يراه أو يسمعه؟ ليس أمامه إلا أن يستسلم للمصير الذي أراده لمعلمه عساه يكفر بها عن عبث الشيطان به، ويرد سهمه في نحره. عساه بصمته يضيف تمويهًا إلى تمويه، فينجو المسيح بنفسه ويكتفوا هم به. عساه بافتدائه المسيح بنفسه أن تكتب له بها حسنة قد يمحو بها الله عنه إثم ما قد فعل. كانت لسان حاله عبارة حفظها لوقا في إنجيله حين سئل: إن كنت أنت المسيح فقل لنا! قال إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني، ولا تطلقونني. ويمضون به ويمضي معهم، وفي أذنيه فقرة من مزمور لداود: «عتا يدعتي كي هوشيع يهوا مشيحو! (الآن عرفت أن الله مخلص مسيحه!)» (مزمور: 20/ 7).
كيف خفيت هذه الفقرة السابعة من مزمور داود العشرين: «الله مخلص مسيحه»، على كتبة أناجيل جعلوا من مزامير داود نبوءات تحدث بسيرة المسيح ومصيره؟ أليس في هذه العبارة التي ترنم بها داود في المزمور «الله مخلص مسيحه»، التي هي بالعبرية «هوشيع يهوا مشيحو»، تحديدٌ لاسم هذا المسيح الذي يخلصه الله؟ أليست هوشيع يهوا هي مقلوب «يهوشوع» اسم المسيح «يشوع»؟ فلماذا لم يفطنوا إليها، بل قل لماذا أسقطوها؟ أليس لأنها على الضد مما يريدون الاستشهاد به على خذلان الله مسيحه؟ بل قل كيف خفى عليهم معنى الفقرات من مزمور داود الحادي والتسعين التي أثبتها لوقا في إنجيليه على لسان إبليس يغوي بها المسيح: «ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي بك ملائكته لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/288]
يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك» (لوقا 4/ 9- 11)؟ أليس إبليس يستشهد هنا للمسيح بفقرات من هذا المزمور؟ أليس في هذا دليل على أن لوقا يعتبر هذا المزمور في المسيح، فلماذا لم يلتفت لوقا إلى بقية ما قيل: «لأنك قلت أنت يا رب ملجئي، جعلت العلي مسكنك. لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة من خيمتك. لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك. على الأسد والصل تطأ. الشبل والثعبان تدوس. لأنه تعلق به أنجيه أرفعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق. أنقذه وأمجده. من طول الأيام أشبعه واريه خلاصي» (مزمور 91/ 9- 16)؟ أليس قد رفع الله المسيح قبل أن يصلب؟ أليس هكذا كان خلاص الله مسيحه؟ أكانت هذه في المائت على الصليب أم في الذي رُفِع؟
يهوذا وحده هو الذي علم وعاين. ولكن يهوذا لم يقل لأحد ممن شبه لهم.
كان يرجو بصمته أن يكتفي الله من عقابه بالإهانة والجلد، فمضى يحمل على كتفه صليبه وهو يردد: «اغفر لهم يا أبتاه، فإنهم لا يعلمون». نعم، لا يعلمون علم الذي يعلم. ولو علموه لشابت رؤوسهم، أو لخزيوا وذلوا أو لانفضوا من حوله وذهبوا يلتمسون المسيح الذي أفلت من أيديهم بآية من آيات الله. فليصطبر عليها. لا يئن وهم يثقبون بالمسامير يديه وقدميه، ولا يشكو وقد رفعوه على الصليب، ودماؤه تنزف، ونزع الموت يقترب. كانت ما تزال به نضاضة من أمل في عفو الله وقد احتمل ما احتمل. ولكن الأمل ينطفيء بمجيء ملك الموت يتراءى ليهوذا على الصليب فيصرخ يأسًا هو أفظع الألم: «إلهي، إلهي! لماذا تركتني!».
أفقد غفر الله ليهوذا فعلته؟ أفقد شاء برحمته أن يحتسبها له شهادة؟
الله عز وجل وجل بغيبه أعلم.
ولكنك تعلم الآن، وإن كنت غير مسلم لا يصدق بخبر القرآن ولا يعتد بأنباء القرآن، أن «يوشوع» قد كانت في المسيح «يشوع» اسمًا على مسمى، فقد خلص الله مسيحه ونجاه: إنه «المخلص الناجي»، لا الخلاص أو الذي يكون به الخلاص كما يفسره علماء أهل الكتاب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/289]
وسبحان العليم الخبير، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
أما جثمان يهوذا الذي قُبِر، ففي إنجيل متى ما يفسر لك مصيره:
«وفيما هما ذاهبتان إذا قوم من الحراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان (يعني أن المائت على الصليب قد قام من قبره الذي وجوده خاليًا من جثمانه). فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاورا وأعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين قولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام. وإذا سمع ذلك عند الوالي (أي إذا افتضح كذبكم أو حاسبكم على غفلتكم عنه) فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين. فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم. فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم» (متى 28/ 11- 15).
ما يدريك أن هذا بالضبط هو الذي حَدَث؟ ما دمت قد سلمت بأن المقبور هو يهوذا وليس المسيح؟ ولكن «السارقين» من اليهود يكتشفون المهزلة، فقد بطل التشبيه وعاد الجسد يهوذا الذي كان، فماذا يفعلون به، أفيعتلنون بفضيحتهم للناس أم يغيبون الجثمان بعيدًا عن القبر؟ ألقوا به من عل، ليظن أنه ندم فخنق نفسه كما قال متى، أو دفع بنفسه من حالق كما قال بطرس «وإذ سقط على وجه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها» (أعمال الرسل 1/ 18).
ونحن لا نجادل الأناجيل في كيفية الصلب الذي كان، فالصلب واقع وقع لقول القرآن: «ولكن شبه لهم»، أي حدث القتل وحدث الصلب، ولكنهما كانا في المصلوب الذي شبه لهم، لا في عيسى الذي رفع. ولا نجادل الأناجيل أيضًا في استشهادهم من المزامير على كيفية الصلب وما قاله المصلوب من مثل «ثقبوا يدي ورجلي»، «على ثيابي اقترعوا»، هذا كله في المصلوب، لا في شخصه. ولا يصح قصر «نبوءات المزامير» على المسيح وحده، بل منها ما هو في نجاته، ومنها في إيقاع الصلب على المشبه به، الذي أوقع به عند طالبي دمه فوقع إثمه على نفسه: «كرًا جبا، حفره، فسقط في الهوة التي صنع. يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه» (مزمور 7/ 15/ 16).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/290]
ونحن أيضًا لا نجادل الأناجيل في أن المسيح تراءى لتلاميذه بعد الصلب، أعني بعد نجاته من الصلب، بل هذا هو الأقرب إلى الصواب، الأشبه بما في القرآن: «إني متوفيك ورافعك إلي». وقد مر بك أن التوفي في الآية من «الاسيتفاء» بمعنى الاستخلاص كاملاً غير منقوص، وقع الاستخلاص أولاً ممن جاءوا للقبض عليه والمحاجزة بينه وبينهم على نحو ما قص عليك مرقس في إنجيله من حديث الشاب المؤتزر بإزار على عريه، الذي اختفى عن أعين طالبي الإمساك به فانسل من ردائه ولم يروه بعد. وما كان الله عز وجل ليرفع المسيح إليه إلا على أعين الحواريين، ليكونوا على رفعه شهودًا، كما سبق أن استشهد الله الحواريين على إنزال المائدة إليهم ليحاسبهم إن كفروا من بعد، حاشا الحواريين أن يكفروا بما استشهدهم الله عليه. وفي إنجيل متى أنه واعد الحواريين قبل محاولة القبض عليه في أورشليم، أي قبل القبض والصلب، أن يلتقي بهم في الجليل، وأن الأحد عشر (أي خلا يهوذا بالطبع) ذهبوا إليه في الجليل، ذهبوا وبعضهم شاك حتى بعد أن رأوه، مما يدلك على أن معجزة التشبيه شبهت عليهم أيضًا (متى 28/ 16- 17) أي كانوا ممن قال القرآن فيهم: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} [النساء: 157]، وكان لا بد للمسيح أن يرتفع إلى السماء أمامهم بعد أن كلمهم (مرقس 16/ 19) ليكونوا شهداءه على إعجاز الله في تخليص مسيحه.
أما ما قاله المسيح لهم قبل أن يرفعه الله إليه، فهو في الأناجيل التي بين يديك مقولة الذين شبه لهم شخص المصلوب، وهو أيضًا يتفاوت بتفاوت ما أراد الكاتب إثباته على لسان المسيح احتجاجًا لرأي الذي كتب، إن صدقت بإنجيل فقد كذبت بإنجيل، على ما ترى من قولهم على لسان المسيح في آية «يونان النبي» (يعني يونس عليه السلام) حين طلب منه الكتبة والفريسيون أن يروا منه آية فقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له إلا آية يونان النبي، ثم يمضي متَّى فيقول: «لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان (يعني المسيح) في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال» (متى 12/ 40). لا مفر لك إلا أن تقول إن متَّى أراد هنا الاحتجاجَ لصلب المسيح ودفنه في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال يبعث بعدها حيًا. ولا يصح هذا لن الذي صلب بإجماع الأناجيل الأربعة حتى متَّى نفسه، إنما مكث في قبره ليلتين فقط (الجمعة والسبت) وخرج منه فجر الأحد. ولا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/291]
يصح أن يقال هذا أيضًا على التشبيه بما كان عليه يونس في بطن الحوت، لأن يونس لم يمت في بطن الحوت ولم يلتقمه الحوت جسدًا ميتًا كحال المصلوب. ولو تمهل متى والمستشهدون بقوله في «آية يونان» لما قالوها ولما نسبوها إلى نبي يوحى إليه لا يقول إلا حقًا. هذا ومثله كثير لا نتصدى له، لأنه يخرج عن مقاصد هذا الكتاب.
على أننا نتصدى كما وعدناك لبعض تلك الشبه اللغوية الألصق بمباحث هذا الكاتب، والتي جرت في رأينا إلى ما جرت إليه، ولم يتوقف عندها أحد.
أول هذه الشبه، شبهة «نحوية»، وهي أن الإضافة دليل على «المغايرة»، يعني أن المضاف ليس هو المضاف إليه، بل هو غيره. إن قلت مثلاً «ملاك الرب» فهذا يعني أن الرب ليس هو الملاك، والعكس بالعكس. فلا يترتب الملاك لأنه مضاف إلى الرب، كما رببوا «ملاك الرب» جبريل. كذلك إن قلت «ابن الله» فهذا دليلٌ على أن «الابن» ليس هو «الله»، وأن «الله» ليس هو «الابن». وإن قلت مثلاً في إبراهيم أنه «خليل الله» فليس معنى هذا أن إبراهيم هو الله، أن انتمى إليه بالخلة، بل يظل الله هو الله ويظل إبراهيم هو إبراهيم. وإذا قلت «نبي الله» فلا يصح أن تفهم أن للنبي شركًا في الألوهية يستمده ممن أرسله. الإضافة دليلٌ على المغايرة، إلا أن تكون الإضافة لغوًا، كأن تضيف الشيء إلى نفسه فتقول مثلاً «نهر النيل» وقد علمت من قبل أن النيل نهر اسمه النيل. وما أيسر أن تكتشف اللغو في هذه الإضافة، حين تقلب المضاف والمضاف إليه إلى مبتدأ وخبر فتقول: النيل نهر. إن صح لك هذا، وهو صحيح في «نهر النيل»، اكتشفت أن المضاف هو نفسه المضاف إليه، وأنهما معًا عبارةٌ عن ذات واحدة. ولكن لا يصح لك هذا في مثل «الرب ملاك»، «الله ابن»، «الله خليل»، «الله نبي»، لأن اللفظين متغايران، ليس الواحد هو الآخر.
على أساس من هذه الشبهة النحوية قال أصحاب مجمع نيقية، الذين أخطأوا من قبل فهم عبارة «بار - أبا» بمعنى «ابن - الأب»، إن المسيح ابن لأب هو الله، وأسموه من بعد «ابن الله»، ورتبوا على هذا أن الابن من ذات جوهر الآب، وأنه والآب واحد، وهذا مرفوض بمنطق «النحو» وحده: من كان ابنا لله فليس هو الله، ناهيك بأن تلد الآلهة أو تولد.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/292]
وكما أله مجمع نيقية المسيح على البنوة لله، وقع في نفس الشبهة النحوية المجمع التالي الذي أله جبريل على «الملائكية» لله، أن كان جبريل «ملاك الرب» النافث في مريم كما قال لوقا في إنجيله. وقد جانب هذا المجمع التوفيق جملة في تأليه جبريل على أساس من الأناجيل التي بين يديك، فليس فيها قط أيما شبهة في تأليهه كما وقعت الشبهة في المسيح بإساءة فهم عبارة «بار - أبا» كما سترى لأنه إن جاز لمجمع نيقية القول بأن المسيح هو «ابن الله الوحيد» ليخرج من البنوة لله «آدم» المسمى ابنًا لله في إنجيل لوقا هو الآخر، فليس بمستطاع القول بأن جبريل هو «ملاك الرب الوحيد» لأن ملائكة الرب أكثر من أن تحصى، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، فلماذا يتخصص من دونهم جبريل بالتأله؟ وقد مر بك أن لفظة «الملاك» (وهي «ملاخ» العبرية – الآرامية) معناها الرسول المرسل على المفعولية من الجذر العبري – الآرامي «لأخ»، يعني أرسله برسالة، فكيف يكون المفعول هو الفاعل، أو يكون المخدوم هو الخادم، أو يكون العبدُ هو السيد، أوي كون الرسول هو نفسه الذي أرسله؟ وقد قال المسيح في هذه الأناجيل بالنص: ليس عبدٌ (يعني نفسه) بأعظم من سيده، وليس رسول بأعظم من الذي أرسله. وقال أيضًا: الآب أعظمُ من الابن. فكيف يقال إنه هو، المسيح أو جبريل. ولماذا اختير جبريل وحده من دون الملائكة ليكون هو من ذات جوهر الله؟ ألأن معنى اسمه كما مر بك هو «جبار الله» أو «رجل الله»؟ فماذا في «ميكائيل» الذي يقولون إن معنى اسمه «الذي هو كالله»؟ أليس ميكائيل بها أولى؟ ولكن ميكائيل لم يكن هو النافث في مريم. وقد ظنوا – وقد ألهوا «المنفوث» من قبل على البنوة لله – أن المنطق لا يستجيز أن يستعلى المنفوث على النافث، ولكن هل ألزمك أحد بتاليه المنفوث حتى تضطر إلى تأليه النافث؟
في مثل هذه الشبهة أيضًا وقع القائلون بتأليه مريم على المضاف والمضاف إليه، فهي «أم الله» - وإن سمعتها منهم «أم الإله» وكأنهم يخففون عليك من وقعها في أذنيك وكأن ألاله غير الله – ولكنك لا تستطيع أن تقول «الله أم» أو «الاله أم» فيمتنع التظنن في أن مريم هي الله أو الإله بمقتضى النحو وحده، ناهيك بامتناع الأمومة والبنوة في حق الله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/293]
وقد كان بالفعل أناس ألهوا مريم لمجرد أنها «أم عيسى» وقد ألهوه، فلا يصح أن تكون الوالدة أدنى من المولود. وقد أشار القرآن إلى هذا في نعيه على ما قيل في المسيح: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك} [المائدة: 116]، ولكن «عبادة مريم» لم تستقر طويلاً بعد نزول القرآن، بل نبذت واستبقيت لمريم كرامة الأمومة لله (mere de Dieu).
ولو أنصفوا لفعلوا نفس الشيء في باقي أفراد الثالوث الأقدس، فاستبقوا لعيسى كرامة النبوة والرسالة، واستبقوا لجبريل كرامة الملك المقرب، وأفردوا الواحد الصمد لا إله غيره بالربوبية لهذين وللبشر أجمع.
ولكنك لا تهدي من أحببت. إن قارعتهم بالمنطق قالوا لك وهل يؤخذ الدين من أفواه المناطقة؟ هذا هو الوحي الذي توارثناه كابرًا عن كابر.
لا يؤخذ الدين من أفواه المناطقة. هذا صحيح. ولكن لا يصح في مقابله أن يقال ليس في الدين منطق. لأن الدين هو المنطق. وهل تعبد الله البشر من دون الخلق إلا به؟
والدين وحي الله على رسله، نعم. فهلا استمسكوا بما قال موسى وعيسى والنبيون من قبل ومن بعد، الله واحد، وليس آخر سواه؟
أما الشبهة الثانية، فهي شبهة لغوية: ظنوا بلغتهم اليونانية (وقد علمت يونانية هذه الأناجيل) أن «آب»، «أبا»، «أبي» لا تعني في لغة المسيح إلا أبي الذي ولدني، وهي في لغة المسيح تعني «الربُّ» حين يقصد بها الله عز وجل.
لن أثقل عليك بالرجوع إلى معاجم اللغتين العبرية والآرامية لتستوثق مما أقوله لك أي لتقرأ فيها أن «الأب» في هاتين اللغتين تعني أيضًا الفاطر المبدع الباري، ولن أحيلك إلى قول المسيح في هذه الأناجيل اليونانية يكنى فيها عن الرب بالأب وقد مر بك، ولن أستشهد لك بتسمية حفيد سليمان بن داود «أبيا هو» أي «الله أبي» على معنى الله ربي التي تسمى بها أيضًا ابن لهرون أخي موسى عليهما السلام، وليس لك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/294]
أن تتصور قبول موسى هذا الاسم لابن أخيه، على معنى اللهُ أبي، وهرون هو أبوه. وإنما هي «الله ربي» لا يصح غيرها في اسم لابن أخي موسى.
ولكني سألدك على الشاهد اليقين الذي لا تصح فيه مماحكة من قول موسى عليه السلام نفسه في هذه التوراة التي بين يديك ترجمتها العربية التي أشرف على ترجمتها مسيحيون لا تشك في مسيحيتهم:
قال موسى في هذه التوراة التي بين يديك بلغته العبرية: ها ليهوا تجملوا – زوت عام نبال ولوحاخام؟ ها لو – هو أبيخا، قانيخا، هو عاسخا ويخونينخا؟ «وترجمته العربية المعتمدة»: «ألرب تكفائون بهذا يا شعبًا غبيًا وغير حكيم؟ أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؟» (تثنية 32/6).
ليس بعد هذا دليل، وموسى نفسه يجانس الأب على الرب.
هذه هي الشبهة اللغوية الأولى. أما الشبهة اللغوية الثانية فهي ظنهم أن «بار» العبرية – الآرامية تعني الابن المولود لأب، وهي تعني أيضًا بذات لفظها ورسمها في الخط العبري – الآرامي كما تقرأ في معاجم هاتين اللغتين: البار المبرور على معنى الصفى المختار. لا يفهم أيهما المقصود (البار أو الابن) إلا من السياق وحده. ومتى قد انتفت الأب بمعنى الوالد في حق الله عز وجل، وإنما هو «الرب»، فلا يصح لك أن تفهم من «بار - الرب» أنه ابن الرب وإنما تقول أنه «مختار الرب»، فلا يصح لك أن تفهم من «بار - الرب» أنه ابن الرب وإنما تقول أنه «مختار الرب» حين تسمع بالآرامية «بار - أبا»، لأن «بار» العبرية – الآرامية هي من الجذر العربي – الآرامي «برر» يعني اصطفى وتخير، فهو الصفي المختار.
ومن طريف ما تقرؤه في الأناجيل عبارة مرقس: «ولما رأى قائد المئة الواقف مقابله أنه (أي المسيح الذي على الصليب) صرخ هكذا وأسلم الروح قال حقًا كان هذا الإنسان ابن الله» (مرقس 15/39)، التي تجدها هي نفسها في لوقا: «فلما رأى قائد المئة ما كان، مجد الله قائلاً بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا» (لوقا 23/47). هذه المقابلة بين النصين في مرقس ولوقا تدلك بوضوح – والقائل هو القائل فيهما – على أن «بار» في مرقس فهمت بمعنى الابن، وفهمت على أصلها في لوقا بمعنى «البار».
عليك إذن أن تنحو نحو لوقا في هذا الفهم كلما قرأت «الابن» أو «ابن الله» في الأناجيل التي بين يديك حتى لا يستشكل عليك مراد المسيح عليه السلام منهما إن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/295]
قالها أو خوطب بها أو قيلت فيه من بعده، فلن يستشكل عليك أن يكون المسيح عليه السلام صفي الله أو مختار الله، وهل أنبياء الله ورسله إلا أصفياؤه ومختاروه؟ فالحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
والأطرف من هذا في الدلالة على أن «بار» المعنية ليست هي الابن، وإنما هي «البار» على معنى الصفي المختار، هو اسم ذلك الشقي «باراباس» الذي أبي اليهود طالبو دم المسيح افتداء المسيح به حين عرض عليهم بيلاطس البنطي أن يطلق لهم المسيح ويصلب «باراباس» مكانه. والذي قد لا تعلمه أن أصل هذا الاسم «باراباس» - لا تندهش – هو «ابن الله» على قول من قال إن «بار» يعني ابن، «أبا» يعني الرب: «باراباس» في أصلها الآرامي هي «بار – أبا». وأنت بالطبع مسيحيًا كنت أو مسلمًا لا تستجيز أن يكون معنى اسم هذا الشقي باراباس هو «ابن الرب» أو «ابن الآب» أو «ابن الله». عليك إذن أن تفهم معنى الاسم «باراباس» على أنه «مختار الرب»، أسماه به أبوه يوم ولد تيمنًا وتفاؤلاً، ثم خاب فيه فأله.
قال المسيح عليه السلام في القرآن يتشفع عند الله عز وجل للذين بدلوا بعده: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118].
لن تستطيع – مهما حاولت – أن تقول أبلغ من هذا القول الذي قاله المسيح في القرآن: لم يقل إنهم «عبيدك»، فأنت وما شئت فيمن خلقت، ولكنه قال «عبادك»، وكأنه يومئ إلى أنهم وغن خاضوا في جلال ذاتك فإنهم يريدون وجهك. افتتنوا بي حتى سفهوا، فارتفعوا بي عن ذليل مقامي منك إلى عزيز مقامك. وأنت القاهر فوق عبادك، عن تغفر لهم فأنت عليها قادر.
فماذا كان جواب العزيز الحكيم؟
قال يمتدح صدق المسيح في الذي قاله، ويتكتم على الخلق أجمع بماذا هو مجيبه: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} [المائدة: 119]، أي هذا لك يا عيسى ولمن صدق بك على الأصل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/296]
الذي قلت لهم. وذر القضاء لصاحب الملك: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} [المائدة: 120].
ألا هل بعد هذا بلاغ؟
فسبحان من بيده ملكوت كل شيء له الحمد وله الملك، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/263-297]


رد مع اقتباس
  #75  
قديم 5 جمادى الأولى 1443هـ/9-12-2021م, 03:51 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

(57) الإنجيل:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ((57) الإنجيل
يضم «العهد الجديد» الذي يتعبد به المسيحيون قبيل نزول القرآن وإلى اليوم سبعة وعشرين سفرًا، وهي إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا، وهي تحكي سيرة المسيح وأقواله وأفعاله ووصاياه منذ أن ولد حتى رُفِع، فهي أشبه بالسيرة النبوية عند المسلمين. بالإضافة إلى ثلاثة وعشرين سفرًا أخرى أولها «أعمال الرسل» أي أعمال الحواريين ومن دخلوا في عدادهم بعد رفع المسيح، وينسب هذا السفر إلى لوقا أيضًا، صاحب الإنجيل الثالث المسمى باسمه. تجيء بعد ذلك أربع عشرة رسالة تنسب إلى بولس (وهو من غير الحواريين بل لم يشهد المسيح ولم يسمع منه)، ثم رسالة تنسب إلى يعقوب الحواري، واثنتان منسوبتان إلى بطرس رئيس الحواريين، وثلاث منسوبة إلى يوحنا الحواري، واثنتان منسوبتان إلى بطرس رئيس الحواريين، وثلاث منسوبة إلى يوحنا الحواري، التلميذ الذي كان المسيح يحبه، وهو أصغر الحواريين سنًا، وليس هو صاحب الإنجيل الرابع المسمى بهذا الاسم، بل هو سمي له. ثم رسالة منسوبة إلى يهوذا الحواري (وهو غير يهوذا المتهم بخيانة المسيح). وأخيرًا «رؤيا يوحنا اللاهوتي»، وليس هو يوحنا الحواري على التحقيق. والأسفار الأربعة الأولى، أعني الأناجيل الأربعة، هي المعنية بلفظة الإنجيل على الإجمال، يكمل بعضها بعضًا وينقل بعضها عن بعض، هي المعنية بلفظة الإنجيل على الإجمال، يكمل بعضها بعضًا وينقل بعضها عن بعض، متساوية في الحجية عند المسيحيين. فلم تحفظ لك الكنيسة إنجيلاً آخر للمسيح غير هذه الأربعة.
ويقول مؤرخو المسيحية إن الأناجيل لم تكن في الصدر الأول أربعة فقط، وإنما كانت بالمئات، نحو ثلاثمائة إنجيل، يروى كل ما شهد أو سمع، أو ينقل عمن شهد أو سمع، أو يقص ما يحتج به لمقولته في المسيح. ولكن الكنيسة – بعد استقرار عقيدة التثليث في القرن الرابع – استبقت من هذه الأناجيل أربعة فقط، هي تلك التي بين يديك الآن، وحظرت ما عداها، الذي طورد وأعدم، لمخالفته بلا شك لمقولة الكنيسة في المسيح.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/298]
والمشهور أن مكتبة الفاتيكان احتفظت في خزائنها ببعض هذه الأناجيل المنكرة، المحظور تداولها بين الناس، وليس هذا بشيء وإن صح، لأنه ليس لك حجاج الكنيسة بالذي أنكرته من تلك الأناجيل. من هذه الأناجيل المنكرة عند الكنيسة الإنيجل المنسوب إلى برنابا الحواري كما يروى مكتشف هذا الإنجيل، الذي أنكرته الكنيسة غداة ظهوره في القرن الثامن عشر، ورمته بالزيف والانتحال، مكيدة كادها للكنيسة بعض خصومها وشانئيها. وليس لك أن تأخذ على الكنيسة إنكارها إنجيل «برنابا»، فهو يقول بمقالة القرآن في المسيح: أنه فحسب عبد الله ورسوله، ليس إلهًا أو ابن إله، بشر صريحًا بخاتم النبيين، وأرادوا قتله على الصليب فشبه لهم، ورفعه الله إليه جسدًا حيًا لا يموت حتى قُرْبِ الساعة، فينزل في الناس ليقطع شبهة الناس فيه.
ولسنا من القائلين بحجية إنجيل برنابا في مواجهة الكنيسة، إذ ليس لك حجاج الكنيسة بما تنكره، بل كلا يولي الله ما تولى. فحسبك هذه الأناجيل الأربعة التي بين يديك، وفيها رغم كل شيء الكفاية كل الكفاية.
وبعد، فليس برنابا الحواري إلا رواية بين رواة، كلهم كتب بغير لغة المسيح، لا تدري عن أي أصل نقل، ولا تدري هل أخطأ في الترجمة أم أصاب.
والذي ينبغي التنبيه إليه أنه ليس في هذه الأناجيل الأربعة إنجيل منسوب إلى حواري شهد وعاين، إلا إنجيل متى وحده، الأول في ترتيب أسفار العهد الجديد، عن قلت إنه «متى العشار» (واسمه في الأصل «لاوي» المعدود بين الاثني عشر على ما تجد في إنجيله (متى 10/3). أما كاتب الإنجيل الثاني، مرقس، فهو من تلاميذ بطرس الحواري، سمع منه ولم يشهد أو يعاين، شأن التابع والصحابي عند أهل الإسلام، وأما الإنجيل الثالث، لوقا، فهو يفصح لك في مفتتح إنجيله عن أنه لم يشهد ولم يعاين: «إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا في البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب إليك على التوالي أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به» (لوقا 1/1- 4)، فهو يوناني يكتب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/299]
إلى يوناني، والمشهور أنه سمع من بولس الذي تعلم بشهادته هو أنه لم يسمع ولم يعاين، فلوقا إذن ناقل عن ناقل. وأما الإنجيل الرابع، يوحنا، فقد قالت الكنيسة إنه يوحنا الحواري (التلميذ الذي كان المسيح يحبه)، كتبه وقد أسن قرب ختام المائة الأولى لميلاد المسيح، سألوه في كتابته ليرد على «بدع ظهرت» تجحد لاهوت المسيح، أو تنكر أن قد كان للمسيح وجود قبل مريم أمه، أو تلاميذ ليحيى بن زكريا يغالون به تلاميذ المسيح، فاستجاب لهم وكتب هذا الإنجيل إثباتًا للاهوت المسيح خاصة. وهذا يعني أن قد كان قبل كتابة هذا الإنجيل مسيحيون ماتوا مؤمنين بالمسيح رسولاً نبيًا ليس إلهًا أو ابن إله. وقد أصرت الكنيسة على نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري دعمًا لشهادته التي تجهر بتأليه المسيح. وليس هذا بصحيح، لا لأنك شهدت الكاتب الذي كتب هذا الإنجيل، وإنما ببساطة لأن الكاتب يُنْهي إنجيله بما تفهم منه صريحًا أنه ليس هو يوحنا الحواري، وإنما هو ناقل عن يوحنا: «هذا هو التلميذ (أي يوحنا) الذي يشهد بهذا وكتب هذا، ونعلم أن شهادته حق. وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة» (يوحنا 21/24- 25)، غنه يؤمن على أستاذه لا أكثر ولا أقل، لأن الضمير في «نعلم»، «لست أظن»، قاطع الدلالة على المغايرة بين هذا المتكلم الشاهد ليوحنا وبين يوحنا المشهود له.
والذي ينبغي التنبيه إليه أيضًا أن هذه الأناجيل الأربعة لم يكتب أي منها بلغة المسيح العبرية – الآرامية، وإنما كتبت كلها ابتداء بلغة يونانية متأخرة عرفت باليونانية الكنسية لاحتوائها ألفاظًا وتراكيب لم تسمع من اليونان قبل عصر المسيح، من مثل: إيفنجليون euaggelion يعني «الإنجيل»، فارقليط parakletos التي تترجم في الأناجيل العربية بلفظة «المعزي»، وليس كذلك، وإنما هي «أحمد» أو «محمد» كما سوف ترى. ولا يصح ما قيل من أنه قد كان لهذه الأناجيل اليونانية كلها أو بعضها أصل عبراني نقلت عنه، وبالذات إنجيل متى الذي كتبه كما يقال لليهود في فلسطين، ولكن هذا الأصل فقد. لا يصح هذا القول ليس فقط لأنه لا عبرة بأصل مظنون قد
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/300]
فُقِد، وإنما أولا وبالأخص لأن مَتَّى بالذات، بل ومرقس أيضًا الناقل عن بطرس، ذكرا في إنجيليهما كما تعلم عبارات بلغة المسيح العبرية – الآرامية حرصًا كلاهما على ترجمتها إلى اليونانية، ولو كانا يكتبان أصلاً بلغة المسيح لقارئ بلغة المسيح لما احتاجا إلى هذه الترجمة لأن قارئهما لا يحتاج إليها.
في هذه الأناجيل الأربعة إذن عناصر ثلاثة تحترز منها كل الاحتراز كي لا تسيء فهم ما نطق به المسيح الذي خاطب ربه في القرآن بقوله: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117]، وهذه العناصر الثلاثة هي:
1- عنصر الرواية، أعني صدق الراوي فيما روى، فلا تأخذ إلا بما أجمع عليه الرواة الأربعة، أو بما لا يتناقض مع ما أجمع عليه الرواة الأربعة.
2- عنصر الترجمة، أعني صحة الترجمة من لغة المسيح إلى لغة الأناجيل اليونانية، فتفهم «الآب» بمعنى «الرب» كما قالها موسى عليه السلام، وتفهم «الابن» بمعنى البار المبرور المتبرر أي «مختار الرب» لا ابن الرب، كما رأيت في تحليلنا لاسم ذلك اللص الذي رفض اليهود افتداء المسيح به، أعني «باراباس»، التي أصلها العبراني الآرامي «بار - أبا» يعني «مختار الرب» لا ابن الرب ولا ابن الأب.
3- عنصر الرأي، أي القول الذي زاده الكاتب من عنده يفسر برأيه شيئًا من قول المسيح أو فعله، أو يستشهد من العهد القديم بفقرات ينتقيها لإثبات مقولته هو في المسيح، مثلما مر بك في إنجيل متى من استشهاد في غير موضعه بيونس في بطن الحوت، أو يدبج بقلمه ديباجة يستعلن فيها برأيه هو في لاهوت المسيح كالذي تقرأ في مفتتح إنجيل يوحنا. ليس هذا من وحي الله على رسله، وإنما هو قول الكاتب، لا يلزمك.
تفعل هذا كمسلم يقرأ في هذه الأناجيل. أما الكنيسة فقد احتاطت لحجية المكتوب في هذه الأناجيل بالكلمة والحرف، فقالت بأنه وحي الله على كاتبيه بذات اللغة التي كتبوا بها، تنزل عليهم به الروح القدس ثالث الثلاثة في عقيدة التثليث، يعني جبريل صلوات الله عليه. وقالت أيضًا أن ما اختلفوا فيه يكمل بعضه بعضًا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/301]
كل إنجيل يقص ما وعى مما سمع. أما حين يصعب التوفيق بين النقيض ونقيضه مثل «ابن الإنسان»، «ابن الله»، وهما «بار - أنشا»، «بار - أبا» الآراميتين، فعندئذ يقال لك: في المسيح ناسوت ولاهوت، أو «الكلمة صار جسدًا وحل بيننا»، أو يقال لك أخيرًا «عظيم هو سر التقوى»، يعني أن هذا فوق العقل، تؤمن به كما علمت. وتؤمن أيضًا بأن آباء الكنيسة الذين صاغوا لك «قانون الإيمان» القائل بأن الله ثالث ثلاثة، وبأن الثلاثة واحد أحد، إنما قالوا ما قالوه هم أيضًا بوحي من الروح القدس بعد رفع المسيح، فهم معصومون بعصمة الله عز وجل من الوقوع في الخطأ.
هنا يمتنع الجدل ويمتنع الحوار.
ولكنك تقول ما قاله الله عز وجل في القرآن: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} [الكهف: 17]، أو تقول بقول القرآن: {قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} [الزمر: 46].
وقد قال نقاد أناجيل مسلمون أن «الإنجيل» المَعْنِيَّ في القرآن ليس هو تلك الأناجيل الأربعة المعتمدة وحدها عند المسيحيين يوم نزول القرآن، بل ثمة «إنجيل» آخر كتبه المسيح أو أملاه، ولكن أتباع المسيح أضاعوه.
وليس على هذا القول دليل، بل لديك من القرآن الدليلُ على عكسه، أعني أن القرآن ينظر إلى هذه الأناجيل الأربعة نفسها، التي فيها من وحي الله وفيها من قول الرواة، وأن الذي فيها من وحي الله على عيسى هو وحده المَعْنِيُّ بلفظة «الإنجيل» في القرآن، وما عداه ليس بإنجيل، لقوله عز وجل في هذا القرآن: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47]، وما كان الله ليعمي عليهم إنجيلاً غير الذي بين أيديهم، ولكنه طلب إليهم أن يتحروا ما أنزل الله فيه، وينبذوا ما زاد الرواة.
فكيف تميز أنت كمسلم بين ما قاله الله عز وجل في هذه الأناجيل الأربعة وبين ما زاد فيها الرواة؟ قد علمت أن الله عز وجل يخاطب الخلق على لسان أنبيائه، لا على لسان صحابة أو تابعين، ولا على لسان حواريين أو رواة لحواريين. فالذي قاله الله عز وجل في الأناجيل هو الذي نطق به المسيح نفسه مبلغًا عن ربه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/302]
حيثما وقعت في الأناجيل على قول محكي عن المسيح أنه قاله، عليك أن تضعه بين قوسين، أو تخط تحته سطرًا، ودعك من الباقي، فليس هو من المسيح نفسه ضربة لازب، وإنما هو من قول الكاتب، يحتج به لمقولته في المسيح، لا يلزمك، لأنه ليس من وحي الله على رسله.
خذ مثلاً تلك الديباجة الفخمة المفخمة التي افتتح بها يوحنا إنجيله، المكتوب بعد رفع المسيح بما لا يقل عن ستين سنة في أقرب التقديرات، يحتج به لعقيدته في لاهوت المسيح: «في البدء كان الكلمة. كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يوحنا 1/1- 5)، ويمضي فيقول: «كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيا إلى العالم. كان في العالم، وكون العالم به ولم يعرفه العالم. إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. الذين لا من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل ولكن من الله ولدوا» (يوحنا 11/9- 13). هذا الكلام العويص المبهم المفخم الذي قاله يوحنا في مفتتح إنجيله – أيا كان رأيك فيه – ليس من وحي الله على رسله، لأن قائله ليس المسيح، وإنما القائل هاهنا هو يوحنا الكاتب، يستعلن بعقيدته في ألوهية المسيح، وأن الله والمسيح واحد (وكان الكلمةُ الله)، ناسيًا أنه سيقول بعد ذلك على لسان المسيح يُناجي ربه: «أنت الإله الحقيقي وحدك» (يوحنا 17/3)، أفتأخذ بقول يوحنا وتترك قول المسيح؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/303]
أما وقد استصفيت أقوال المسيح في هذه الأناجيل فخذ بأحسنها، كالذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، معيارك في ذلك ألا تترك محكم القول إلى متشابهه، بل تحكم المحكم في المتشابه فتقيده به، لا تحكم المتشابه في المحكم وتفسر المحكم بالمتشابه الذي يضطرك إلى قول المحال على الله عز وجل، كالذي قيل في مجمع نيقية وما تلاه من مجامع.
وليس عليك بعد ذلك حرج أن كنت مسلمًا يقرأ في هذه الأناجيل، فقد وضح لك الطريق، واستبان المنهج.
والذي يعنينا بالدرجة الأولى في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، هو معنى لفظة «إنجيل». وقد قال علماء المسيحية إنها لفظة يونانية هي «أيفنجليون» euaggelion معناها الحرفي هو الخبر السار أو البشارة. ولكن بشارة بمن أو بماذا؟ أهي بشارة بشيء حدث أم بشيء سيحدث؟ إن كانت بشارة بشيء حدث فهي المسيح نفسه الذي «تنبأت الكتب» بمجيئه، فهو البشرى التي تحققت. ولكن علماء المسيحية لا يقولون بهذا، وإنما يقولون أن البشرى هي بشيء سيحدث، وأن رسالة المسيح هي البشارة بهذا الذي سيحدث. فما الذي جاء المسيح يبشر به؟ أعني ما هو الخبر السار الذي جاء يعلنه للناس، فسميت به الأناجيل «إنجيلا»؟
قال علماء المسيحية أن الذي جاء المسيح يبشر به في هذه الأناجيل هو قرب «ملكوت السموات»: «من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا! لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (متى 4/17). هذه العبارة، ملكوت السموات، وتجيء أيضًا بلفظ ملكوت الله، من العبارات الهائمة المبهمة في مصطلحات الأناجيل، استعصى فهمها حتى على الحواريين أنفسهم فما فتئوا يسائلون عنها المسيح وما فتئ هو يضرب لهم المثل تلو المثل في شرحها، حتى فهموا أخيرًا أنه يعني بها الحياة الآخرة، فريق في الجنة وفريق في السعير. إنها البشارة بقرب قيام الساعة. ولكن لماذا تسمى الساعة ملكوتًا، فيقولون في صلواتهم: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء فكذلك على الأرض» (متى 6/9- 10)؟ الذي يقرب لك المعنى إن كنت من أهل القرآن هو قوله عز وجل يوم يرث الأرض ومن عليها {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]. وربما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/304]
كني المسيح بلفظ «الملكوت» عن الجنة، فقال «أبناء الملكوت»، يعني الأبرار الداخلين في عفو الله ورحمته، المنعمين في رضوانه، أولئك «هم الوارثون» كما تجد في القرآن.
ولكن، كيف تصح البشارة بقرب قيام الساعة؟ قد كان يظن عصر كتابة متى إنجيله أن الساعة على الأبواب، لقوله في مرقس: «متى رأيتم هذه الأشياء صائرة فاعلموا أنه قريب على الأبواب. الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله» (مرقس 13/29 – 30)، لا يلبث المسيح أن يرفعه الله إليه حتى يعود في مجيئه الثاني فتقوم الساعة. ولكن مضت القرون ولم تأت الساعة. وقد قال لهم المسيح في نفس الموضع: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب» (مرقس 13/32)، وكفى بهذا إقرارًا من المسيح بأنه لا يعلم إلا ما علمه الله، أما الساعة فعلمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو، كالذي تقرأ في القرآن. فكيف يبشر المسيح بشيء لا يعلم موعده. لم يبشر المسيح باقتراب ملكوت السموات إذن، فقد مضت إلى اليوم قرون وقرون ولم تقم الساعة. بل لا يصح لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبشر بقيام الساعة. الأحرى أن ينذر بها ولا يبشر، فليست هي بالخبر السار إلا لمن ضمن الجنة، ولا يضمن أحد الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، وإنما هو يرجو عفو الله ومغفرته، فكل عمل في جنب الله قليل لم يقل المسيح: تهللوا! فالساعة قريب. وإنما قال: توبوا! فقد اقترب ملكوت السموات. إنه هنا نذير لا بشير.
لم يبشر المسيح إذن بملكوت السموات، إن فهمت ملكوت السموات بمعنى قُرب قيام الساعة، وإنما تستطيع أن تقول أنه أنذر بها. وقد قالها يوحنا قبله بنفس عبارته: «توبوا! لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (متى 3/2). ومن ثم لا يصح اختصاص المسيح وحده بهذه البشارة، أعني النذارة، حتى يسمي بها وحي الله عليه «الإنجيل»، فلم يغفل عن قولها من قبل ومن بعد نبي.
قيل أيضًا أن بشارة المسيح هي البشارة بمغفرة الخطايا، يعني أنه جاء خلاصًا للبشر من خطاياهم. وليس بشيء، لقوله في مرقس: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/305]
(مرقس 16 15- 16)، فليس هو إذن خلاصًا للبشر أجمع، وإنما الخلاص لمن آمن. وهذا صحيحٌ فيه وفي سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. فليست هي إذن بشارة تتخصص به. وقد دعا بها يوحنا قبله: «كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا» (مرقس 1/4). فلا مغفرة إلا بالإيمان والتوبة، أتباع يحيى وأتباع المسيح في هذا سواء. وما العماد على يد يحيى أو عيسى إلا عهد على إخلاص التوبة.
ها قد استبان لك بالتحليل النقدي وحده أن محور رسالة المسيح عليه السلام ليس هو البشارة بقيام الساعة – إن فهمت ملكوت السموات بمعنى يوم الحساب – فلا أحد يبشر بقيام الساعة ولا يطلبها في صلواته. وليس هو أيضًا «النذارة» بها، فهذا عامٌ في كل نبي لا يختص به المسيح وحده. بل حتى إن فهمت ملكوت السموات بمعنى الحياة الآخرة «الملك يومئذ لله»، فريق في الجنة وفريق في السعير، أو فهمت ملكوت السموات بمعنى الجنة فقط، فلا يستقيم لك هذا أو ذاك، لأن التبشير بالجنة والتنفير من النار هو قول الأنبياء جميعًا لم يغفل عن قوله نبي، ولا يختص به نبي دون نبي، لا يصح أن تنفرد به رسالةُ المسيح فيتسمى به «إنجيليه». ولا يصح أيضًا أن تكون رسالةُ المسيح هي «البشارة» بمغفرة الخطايا، فهذه هي بُشرى جميع الأنبياء من قديم لكل مؤمن تاب وأناب فأسلم وجهه لله مخلصًا له الدين.
ولا يصح بالذات ما قاله اللاهوتيون من بعد في تأصيل نظرية البشارة بمغفرة الخطايا: قالوا بل من الخطايا مكتسب وأصلي. فأما المكتسب فهو الذي يجترحه البشر في هذه الدنيا ويصح تكفيره بالاستغفار والتوبة. وأما الخطيئة الأصلية فهي خطيئة يولدون فيها ولا حيلة لهم في دفعها لأنهم ورثوها ولم يجترحوها. إنها خطيئة أبيهم آدم يوم نسى فأكل من الشجرة المنهي عنها، فباء بإثمها البشر جميعًا، الذين يولدون في دنس هذه الخطيئة منذ أن طرد أبوهم من الجنة حتى مجيء المسيح «ببشارة» افتدائه البشر منها بدمه المسفوح على الصليب، لأن «الآب» لا يقبل قربانا يعدل معصية آدم إلا دمًا زكيًا لم يولد في دنس هذه الخطيئة، وهو المسيح، ابن الله الوحيد الذي ولد لخلاص العالم. ولا يصح هذا، ليس فقط لأن الله تاب على آدم وزوجه قبل إهباطهم إلى الأرض كما قال القرآن: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/306]
عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]، ليس هذا فحسب، وإنما أولاً وبالذات لأن الخطيئة لا تورث، بل كل امرئ محاسب فحسب بما قدمت يداه، لا يسأل بما فعل آباؤه، ولا يؤخذ بفعل ذراريه. وثانيًا لأن معنى هذه المقولة هو أن الأبرار قبل المسيح – وفيهم أنبياء الله ورسله وصديقوه – ماتوا كلهم في خطيئة آدم، لا حظ لهم في الآخرة. ولا يصح هذا أخيرًا وبالذات لأن المسيح لم يقله في هذا الإنجيل الذي بين يديك، ولا يجوز التزيد على أنبياء الله ورسله، ولا سيما في أمر هو عمود الدين عند أصحاب هذا اللاهوت.
وقد جودل أصحاب هذه المقولة بمعظم هذا الذي قلناه، فأحيط بهم. ولكنهم استدركوا على أنفسهم فقالوا إن الأبرار قبل المسيح – وفيهم أنبياء الله ورسله وصديقوه ومنهم مريم عليها السلام – يُعفِيهم الله بسبق الاصطفاء من وزر الخطيئة الأصلية فلا يولدون في دنس خطيئة آدم، وإنما تحمل بهم أمهاتهم حملاً بريئًا من هذا الدنس، يرقعون كما ترى قولاً يقول، فما صح لهم هذا ولا ذاك، لأنه متى فسدت المقدمات فقد فسدت النتائج.
إذا كان المسيح لم يبشر بالساعة، ولم يبشر بمغفرة الخطايا مجانًا، ولم يبشر بنسخ الولادة في دنس خطيئة آدم، فبماذا بشر المسيح إذن في إنجيله إذا كانت «الإنجيل» تعني يونانيً البشارة أو الخبر السار؟
يقول أهل القرآن أن بشارة المسيح إنما كانت بختام النبوات على يدي الذي يأتي بعده، لقول المسيح في القرآن ينص على هذه البشارة: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6].
لا تقرأ هذا أو قريبًا منه في أناجيل متى ومرقس ولوقا، وإنما انفرد به «يوحنا» الذي جمع بين النقائض: أله المسيح جهرة في مفتتح إنجيله، وختمه بالنص على أن المسيح رُفِع ولم يَقُل بعد كل الذي يجب أن يقال، كما يتبين لك من قول يوحنا على
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/307]
لسان المسيح: «إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقولَ لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية» (يوحنا 16/12- 13). لم يرشد المسيح أتباعه إذن إلى «جميع الحق»، بل عليهم أن ينتظروا «الآخر»، متمم النبوات جميعًا، الذي يرشدهم إلى «جميع» الحق، فلا يبقى بعده من رسالات السماء شيء يقال.
هذه في الأناجيل هي شهادة عيسى للقرآن ولمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ختام النبوات به بعد ستة قرون من رَفْع المسيح، وهي بشارته بقائل جميع الحق. وهي كافية في ثبوت بشارة عيسى بخاتم النبيين، ولو قد تلبث عندها علماء المسلمين لكفتهم، ولكنهم أصروا على التماس اسم خاتم النبيين في الأناجيل صريحًا على لسان المسيح، وسيأتي.
على أن علماء المسيحية لم يسلموا لعلماء المسلمين بالذي قالوا، وهذا بديهي، وإلا لدخلوا ودخل معهم الخلق جميعًا في دين الله أفواجا. وإنما يقول شراح المسيحية وعلماؤها ولاهوتيوها أن هذا الآخر الذي يأتي بعد رفع المسيح ليرشد الناس إلى جميع الحق، أي ليقول لهم ما لم يقله المسيح، لأنهم لا يستطيعون احتماله، الذي نعته المسيح بروح الحق، ليس هو بشرا من أنبياء الله ورسله، وإنما هو «الروح القدس»، ثالث الثلاثة في عقيدة التثليث، يعنون ملك الله جبريل صلوات الله عليه. وهذا القول – إن تمعنت – مردود بما في إنجيل يوحنا نفسه الذي تجد فيه بالنص من كلام المسيح لتلاميذه قبل القبض عليه: «وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي. لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم. ولكني أقول لكم الحق إنه خيرٌ لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزّي (وهي الفارقليط Parakletos اليونانية). ولكن إن ذهبت أرسله إليكم» (يوحنا 16/5- 7)، وهذا صريح في أن المسيح وهذا الآتي من بعده لا يتعاصران على هذه الأرض. لا بدُ من رفع المسيح أولاً قبل مجيء هذا الآتي. بينما تقرأ في يوحنا أن هذا الروح القدس كان معهم قبل رفع المسيح، بل إن المسيح نفخ فيهم هذا الروح القدس قبل ارتفاع المسيح: «ولما قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس» (يوحنا 2/22). وهو مردود أيضًا بأن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/308]
«الروح القدس» عندهم إله (ولم يكن يوحنا يعلم بالطبع يوم كتب إنجيله أن جبريل سيتأله في الربع الأخير من القرن الرابع)، ولا يليق بإله ألا يتكلم من نفسه، بل ينتظر سماع ما يقال له ثم يقوله للناس، وإنما يصح هذا في أنبياء الله ورسله، يلقى إليهم وحيه فيتكلمون به، شأن محمد صلى الله عليه وسلم وهذا القرآن. بل لا يصح في جبريل بالذات وإن لم يتأله جبريل، لقول المسيح في يوحنا: «ومتى جاء المعزي (وهي الفارقليط Parakletos اليونانية) الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي» (يوحنا 15/36) لأن جبريل عليه السلام، ملك الله إلى أنبيائه ورسله قد سبق «انبثاقه»، لا ينتظر المسيح حتى يرسله من عند «الآب»، بل قد سبق انبثاقه مولد عيسى نفسه، لأنه النافخ في مريم، المؤيد للمسيح في المعجزات التي أجراها الله على يديه. ولو كان عيسى إلهًا بذاته لما احتاج إلى جبريل. ولو كان جبريل إلهًا بذاته لما احتاج إلى «السماع» من الآب ليتكلم بما يقوله له «آب» من ذات جوهره. ولو بقي جبريل ملكًا على أصله لما جاز أن يكون هو المبشر به، لأن الملائكة لا تتنزل على تلاميذ، وإنما تتنزل على أنبياء، كالشأن في جبريل ومحمد، صلوات الله وسلامه على ملائكته وأنبيائه. وأخيرًا – وهو الفاصل الحاسم – فإن هذا الذي تنزل على التلاميذ يوم الخمسين (أي بعد خمسين يوما من رفع المسيح كما تقرأ في سفر أعمال الرسل) لم يقل لهم شيئًا، لا من نفسه ولا سماعًا من الآب، كما قال المسيح في الآتي بعده، وإنما كان دوره هو تأييده ونصرتهم وإجراء العجائب على أيديهم كالذي تقرؤه في سفر أعمال الرسل. ليس هذا إذن هو الآتي بعد المسيح، الذي «شهد له»، وإنما الشاهد للمسيح هو هذا القرآن.
أما لفظة «الفارقليط» Parakletos التي سمى بها المسيح هذا الآتي بعده، فهي من اليونانية الكنسية التي لم تسمع قط من اليونان قبل عصر المسيح، يعني أنها منحوتة نحتًا لتسمية هذا الآتي، وقد قال علماء المسيحية إنها يسهل اشتقاقها على المفعولية من الفعل اليوناني Parakalein بمعنى استغاثه واستنصره واستعانه فهو إذن المستغاث، المستنصر، المستعان: أخذوا Kalein اليونانية بمعنى ناداه واستدعاه، وأخذوا المقطع اليوناني Para بمعنى إلي حوالي، وكأنك تقول «هلم إلي». ولا تزال Parakalo في اليونانية المعاصرة تفيد معنى الطلب والرجاء (أرجوك!) هذا التفسير المسيحي للفظة الفارقليط Parakletos بمعنى النصير الشفيع، تفسير متأثر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/309]
بالدور الذي اضطلع به «روح القدس» من بعد رفع المسيح من نصرة التلاميذ وتأييدهم بالعجائب التي أجراها على أيديهم على نحو ما تقرؤه في سفر «أعمال الرسل»، وإن لم يقل لهم شيئًا مما قال المسيح إنه سيرشدهم إليه، الذي يقول لهم «جميع» الحق. ومن ثم لا يتفق هذا التفسير مع دور هذا «الآتي» من بعد المسيح، لأنه ليس المعني بها.
ولا شك أن يوحنا الكاتب لهذا الإنجيل حين نص على أن الفارقليط هو نفسه روح القدس جبريل: «وأما الفارقليط الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم» (يوحنا 14/26)، كان متأثرًا بهذا الذي كان، فخلط قلمه بين «روح الحق»، «روح القدس» التي سمى بها الفارقليط مرة واحدة فقط في هذا الموضع وهي في كل المواضع الأخرى «روح الحق»، وليست روح الحق هي روح القدس كما ظن يوحنا المتأثر بالذي كان.
والذي ينبغي التنبيه إليه أن ترجمات الإنجيل بكل اللغات استبقت لفظة فارقليط على أصلها، تحاشيًا من التورط في ترجمة معناها إلى اللغة المترجم إليها، فقالت الترجمة العربية حتى أوائل هذا القرن «فارقليط»، وقالت الترجمة العبرانية «برقليط»، وقالت الفرنسية le Paraclet، إلخ. ولكن من اللغات الأوروبية من تصدت لهذه الترجمة فقالت الألمانية «المدافع» أو «الشفيع» المتشفع به Fürsprecher وتابعتها الإنجليزية على هذا المعنى فقالت «الناصح المشير» Counsellor وكأنها المحامي، وقالت الإنجليزية أيضًا «المعزي» المواسي Comforter وأخذتها عنها الترجمة العربية المعاصرة فقالت «المعزي»، لا تجد اليوم غيرها في ترجمات الإنجيل العربية. وليس هذا كله بصحيح من حيث اللغة، لا سيما «المعزي»، وإنما هو التفسير بالعقيدة، لا التفسير باللغة، فليس في Parakalein اليونانية شيء من معاني العزاء والمواساة، وليس فيها أيضًا شيء من معاني الشفاعة والمدافعة والمشورة، وإنما هي – إن اشتققتها من Parakalein كما يقول علماء المسيحية – تعني فقط المستغاث المستنصر المستعان، أو الذي تتوجه إليه بالرجاء، على معناها الباقي في اليونانية المعاصرة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/310]
أما علماء المسلمين فقد دلهم بعض السريان من قديم على أن «فارقليط» هذه تعني في اليونانية «أحمد» التي في القرآن اسمًا لخاتم النبيين الذي بشر به عيسى قومه في القرآن. فذهب بعض المفسرين إلى أن «الفارقليط» من أسمائه صلى الله عليه وسلم. وقد جادل بها المسلمون أهل الكتاب إلى هذا العصر. وانتبه علماء المسيحية إلى خطورة هذا حين يقرؤه المسيحيون العرب الذي يعرفون على التحقيق معنى الاسم «أحمد» أو «محمد» في لغتهم العربية، ولا علم لهم بتلك اللغة اليونانية التي كتبت بها أصول الأناجيل وصيغت بها لفظة Parakletos هذه التي استبقيت على أصلها «فارقليط» في الترجمات العربية حتى أوائل هذا القرن العشرين، فلا يستطيعون لمقولة علماء المسلمين هؤلاء دفعًا. قال علماء المسيحية إذن أن Parakletos اليونانية لا تعني قط «أحمد» وإنما تعني «المعزي» فحسب، معقبين بأنها في الأصل اليوناني Parakletos، وليست Perikliots، «فليس في المتن شيء من معاني الحمد». وتوقفت ترجمات الإنجيل العربية عن استخدام لفظة الفارقليط، ووضعت في موضعها لفظة «المعزي» قطعًا للجدل حول شبهة معنى «الحمد» في الاسم على مثال ما فعلت الترجمة الإنجليزية Comforter.
هذا الدفع «اللغوي» بأن الفارقليط لا تعني أحمد، دفع متأخر بطبيعة الحال، لم يعرف قبل مبعث خاتم النبيين المسمى «محمدا»، أو قل إنه لم يعرف قبل اطلاع الغربيين على معنى اسمه صلى الله عليه وسلم، فهبوا لمنع اشتباه اسمه باسم ذلك الآتي بعد المسيح، الذي إن لم ينطلق هو لا يجيء. ولكن هذا الدفع لم يطفيء الشبهة، بل زادها اشتعالاً: ها قد علم المسلمون أن في اليونانية «فريقليط» Periklitos بمعنى «أحمد» شبيهة كل الشبه بـ «فارقليط Parakletos المثبتة في الأصل اليوناني، فلم لا تكون هذه هي تلك، تحرفت على قلم يوحنا الكاتب في إنجيله؟
على أن علماء المسيحية أصحاب هذا الدفع اللغوي لم يوفقوا، فليس معنى فارقليط Parakletos اليونانية هو «المعزي» كما مر بك وكما يعلم دارسو اللغة اليونانية، ولا معنى للإصرار على أن الفارقليط يعني المعزي. وليس بصحيح أيضًا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/311]
أن Parakletos لا تعني «أحمد»، وأنها لو كانت أحمد لقيلت بلفظ Periklitos، بل Parakletos بذاتها ودون افتراض تحريف أو تحوير، تعني أحمد أيضًا، إن اشتققتها لا من Parakalein وإنما من Parakleiein، المقطع الأول Para بمعنى المبالغة وتجاوز الحد، والمقطع الثاني Kleiein فعل بمعنى مجده وحمده فهو المحمود أكثر من غيره، شأن «أحمد» التي جاءت في القرآن، وفي هذا تعليل لمجيئها على «أحمد» لا «محمد»، لأن القرآن ينظر إلى المكتوب في الأناجيل اليونانية لا إلى ما نطق به المسيح بلغته، وليس في اليونانية صيغة «مفعل» التي في العربية والعبرية، وإنما فيها المقطع Para الذي يفيد المبالغة وتجاوز الحد. والمحقق الذي لا يصح فيه جدل أن المسيح لم يقل فارقليط أو فريقليط، فهو لا يتكلم اليونانية، ولا يحدث تلاميذه بها، وإنما هي ترجمة من يوحنا الكاتب، لا تدري عما نقل، فلا تدري هل أخطأ أو أصاب.
هذا إن قلت أن «فارقليط» يونانية. ولكنك تستطيع أن تقول أيضًا وهذا هو الذي أرجحه أنا – إن «فارقليط» ليست يونانية، وإنما هي عبرية – آرامية «برق + ليط» على ما نطق به المسيح بلغته ونقلها على حالها يوحنا الكاتب حسبما استقام له نطقها بلسانه اليوناني. الذي يدلك على هذا أن العبرية المعاصرة تستخدم «برقليط» هذه بمعنى المحامي، لا اسم عندها للمحامي غيره. وقد تقدم القول في تضاعيف هذا الكتاب أن لفظة «برق + ليط» العبرية – الآرامية معناها كاشف الغشاوة أو واضع الإصر، وهو نعته صلى الله عليه وسلم في القرآن: {الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157]. والإنجيل المعني في هذه الآية هو بلا شك هذا الإنجيل اليوناني الذي بين أيديهم، فما كان الله ليعمي عليهم إنجيلاً آخر، وما كان القرآن ليقول إلا حقًا، لأنه هاهنا يتحدى أهل الكتاب بهذا الحق: إنه عندكم مكتوب في إنجيلكم فتلمسوه فيه، باسمه أو بنعته، لقوله عز وجل مباشرة بعد ذكرى بشرى المسيح قومه بمحمد في الآية 6 من سورة الصف: {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصف: 7 – 8].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/312]
هذا قاطع في بشارة الإنجيل بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، سواء قلت إنه «الفارقليط» المتنازع عليها، أو قلت أنه قائل جميع الحق الذي لا يبقى بعده شيء يقال كما وصفه المسيح صريحًا في هذا الإنجيل الذي بين يديك.
هذه هي «البشارة» إن قلت إن «الإنجيل» يونانيًا معناها البشارة.
على أننا لا نتلبث طويلاً عند هذا، فقد مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن رسالات الله عز وجل – من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه – إنما تستمد الدليل على صدقها من ذاتها لا من خارجها، لا تحتاج إلى نبوءات وبشارات في الكتب السابقة كالذي ألح عليه كتبة الأناجيل الأربعة. القرآن غني عن ذلك، فلم يبق قولاً لقائل من بعده. ولو كان بعد خاتم النبيين نبي – وهذا من إعجاز القرآن في أنباء القرآن – لما عدم الناس نبيًا جديدًا يقطع هذه الفترة المتطاولة – أربعة عشر قرنًا حتى الآن – التي لا سابقة لطولها في تاريخ الأديان بين نبي ونبي، لا شأن لك بالطبع بمن تطفل واقتحم فجاء بنفسه لم يرسله أحد، من أمثال تلك البهائيات والقاديانيات التي لم تأت بجديد إلا محاولة «المصالحة» بين اليهودية والنصرانية والإسلام، فضيعت على نفسها هذا وذاك.
على أن «الإنجيل» لا تعني يونانيًا البشارة أو الخبر السار كما سوف ترى: هذا على شهرته غير صحيح.
المتفق عليه بين علماء المسيحية جميعًا هو أن «الإنجيل» تعريب «إفنجليون» اليونانية euaggelion مركبة من مقطعين: eu + aggelion الأول هو البادئة eu التي تُفيد التقريظ والتحميد، والثاني aggelion قالوا أنه بمعنى «الخبر»، فهو «الخبر السار». وقد حرصت جميع الترجمات على استبقاء euaggelion على أصلها، فقالت الإيطالية Evangelo وقالت الفرنسية Evangile وقالت الألمانية Evangelium، إلخ. وقالت العربية «إنجيل» كما تعلم، وقال السريان «أنجليون» (التي حكاها عنهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/313]
القرطبي في تفسيره فرسمها بالكاف «أنكليون» لأن الجيم السريانية هي الجيم القاهرية، لا يصح عنده رسمها بجيم عربية القرآن). أما الإنجليزية فتصدت لترجمتها على ما شاعت به، فقالت Gospel (التي أصلها good + spell) بمعنى القول الطيب، تريد «البشارة». وأما الترجمة العبرانية للأناجيل اليونانية فقالت «بسورا» تعني البشارة حرفيًا. وهذا يدلك على أن ترجمات الأناجيل جميعًا ومنها العربية والسريانية استبقت اللفظ اليوناني على أصله، فيما عدا الإنجليزية والعبرانية اللتين تصدتا لترجمته، فأخطأتا كلتاهما كما سترى.
هذا الخطأ الشائع الذي وقع فيه المترجمان الإنجليزي والعبراني منشؤه أنهما ترجما «المفهوم» الذي شاع، لا «الأصل» اليوناني في لغته اليونانية. لأن المقطع الثاني في هذه اللفظة (إن حسبتها يونانية) هو «أنجليون» aggelion وهو مأخوذ من «أنجليو» aggelio يعني «الرسالة» اشتقاقًا من «أنجلوس» aggelos يعني الرسول المرسل (ويطلقها اليونان أيضًا على الملك واحد الملائكة ومنها angle الإنجليزية، مثلما تفعل العبرية والآرامية في «ملآخ» التي تستخدم بمعنى الملك واحد الملائكة وبمعنى الرسول واحد الرسل). «أنجليون» إذن معناها الرسالة لا الخبر. أما المقطع الأول eu فهو بادئة يحلى بها ما بعدها («أنجليون») فتفيد التقريظ والتحميد كما في eu – genis يعنس حسن التربية فهو المهذب، وكما في eu – geustos يعني حسن المذاق، فهو السائغ الشهي، أو تفيد الخير كما في eu – logia أي قول الخير، يعني المباركة والتبريك، أو تفيد المبالغة في تحقق الصفة في الموصوف كما في eu- pathis يعني الشديد الحساسية، فهو الهش الرقيق. من هنا تتيقن أن هذا اللفظ اليوناني المركب «إفنجليون eu – aggelion ليس معناه الخبر السار أو الخبر الحلو أو الخبر الطيب، أو الخبر نعم الخبر، وإنما هو محض «الرسالة» حلاها كتبة الأناجيل بهذه البادئة eu التي تفيد التقريظ والتحميد، أو ما شئت من معاني هذه البادئة اليونانية على ما أوردناه آنفًا.
وربما قيل لك أن «الرسالة» من معنى «الخبر» قريب، وما يدريك أن كتبة الأناجيل أرادوا معنى «الخبر» فقالوا في موضعه «رسالة»؟ ولا يصح هذا، أولا وقبل كل شيء لأنك تأخذ القائل بما قاله لا بما أبطنه. وثانيًا لأن الذي لا يفرق بين معنى الخبر ومعنى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/314]
الرسالة، لا يفقه من أمر لغته شيئًا، فلا تأتمنه على شيء مما كتب في هذه الأناجيل، وثالثًا لأنهم لو أرادوا الخبر الطيب أو الخبر السار لقالوا ببساطة kalo neo (مفرد kala nea اليونانية مكافئة good news الإنجليزية)، ولما تمحلوا هذه الصيغة المخصوصة euaggelion التي لم تسمع قط من اليونان قبل المسيح، ورابعًا، وهو الفاصل الحاسم، لأن «أفنجليون euaggelion هذه لو كانت تعني يونانيًا البشارة أية بشارة، أو الخبر السار أي خبر سار، لصلحت في اليونانية بهذا المعنى في غير اسم «إنجيل المسيح»، ولكنها جمدت في الاستعمال علمًا على ما جاء به عيسى، لا تصح في غيره كما يعرف علماء تلك اللغة.
لن تحتاج بالطبع إلى أن أدلك على الفرق بين معنى الرسالة ومعنى الخبر: الرسالة تقتضي «مرسلاً، «رسولاً»، «مرسلاً إليه»، والخبر لا يحتاج إلى أي عنصر من هذه العناصر الثلاثة، فقد ينتقل الخبر بذاته، وقد ينتقل ممن يحرص على إخفائه فيذهب لمن لا يعنيه الخبر ولا يأبه به. والرسالة لا تتضمن خبرًا بالضرورة، بل بالأحرى طلبًا أو تكليفًا، وهي في الغالب الأعم تشترط ردًا، ولكنها في أقل القليل تنتظر «استجابة». وليس الخبر أو النبأ من هذا كله في شيء.
وقد استشعر المترجم العربي حرجًا من إضافة «الإنجيل» إلى الله في مثل قول مرقس: «وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز بإنجيل الله» (مرق 1/14)، فقالت ترجمة الفاتيكان العربية «يكرز بإنجيل ملكوت الله»، أضافت من عندها لفظة «ملكوت» فاصلاً بين الإنجيل والله. أما ترجمة الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية فقالت «يكرز ببشارة ملكوت الله»، رفعت «إنجيل» ووضعت في موضعها «بشارة» وأضافت هي أيضًا لفظة «ملكوت» فاصلاً بين «البشارة» (التي هي الإنجيل) وبين «الله». أما حين جاءت لفظة «الإنجيل» منفردة في الفقرة التالية مباشرة: «ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس 1/15)، عندئذ تركت لفظة «الإنجيل» على أصلها في الترجمتين. هذا التحرج من إضافة «الإنجيل» إلى الله ناشيء عن فهمهم الإنجيل بمعنى الخبر السار أو البشارة، ولا يصح أن تكون لله بشارة، لأن عيسى هو «المبشر» لا الله، أو هو «الكاروز» أي البشير النذير آراميًا. ولو قد فهموا «إنجيل» بمعنى «الرسالة» على أصلها اليوناني، لاستقام الفهم واستقامت العبارة «يكرز برسالة الله».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/315]
ولولا أنني لا أقول بيونانية لفظة «إنجيل» على ما سيأتي بيانه، لقلت لك أن المعنى في عبارة مرقس «يكرز بإنجيل الله» يعني «يبشر بإنجيل الله»، هو البشارة التي في الأناجيل بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فتفهم من عبارة مرقس لا «يبشر بإنجيل الله» وإنما «يبشر برسول الله».
ولكنني لا أحتاج إلى هذا، لأنني أقول بأن المعنى بعبارة «ملكوت الله» التي في مرقس وأمثالها: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله» (مرقس 1/15) هو «رسول الله» تسمية بالمصدر على المبالغة والتفخيم، لأن «ملكوت» عبريًا وآراميًا كما يعرف علماء هاتين اللغتين (مع إبدال كافها خاءً في النطق لا في الرسم) تعني «الرسالة» لا «الملك»، فلا يبعد أن تشتبه على كتبة الأناجيل بلفظة «ملكوت» المكسورة اللام بدلاً من فتحها، والتي تعني الملك والمملكة، فترجموها باليونانية حيثما وردت بلفظة Basileia يعني «المملكة» التي حسنتها الترجمات العربية فقالت «ملكوت». فقد أراد المسيح إذن أن الزمان كمل واقترب مجيء الرسول الخاتم. تجد مثل هذا في قولهم في صلواتهم: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك» أي فليأت رسولك، قائل جميع الحق، خاتم النبوات. عليك كلما قرأت في هذه الأناجيل لفظة «الملكوت» منسوبة إلى الله عز وجل أن تفهم منها مباشرة رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم: إنها «أنجلوس» اليونانية في هذا الموضع بالذات Aggelos لا المملكة والملكوت Basileia. عندئذ يستقيم الفهم وتستقيم العبارة. لن يقبل هذا بالطبع علماء المسيحية، وإلا لآمنوا من قبل بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم. ولكنني أقول لك أنك كمسلم يقرأ في هذه الأناجيل ويريد أن يقع فيها على حقيقة وحي الله على عيسى، أقرب ما يكون إلى ما نطق به المبشر بخاتم النبيين.
عليك فقط أن تفهم الأب بمعنى الرب، والابن بمعنى البار أو الصفي المختار، وأن الملائكة التي في الأناجيل تجيء أحيانًا بمعنى الرسل، وأن الملكوت حين يبشر بمجيئه واقتراب زمانه إنما هو «رسول الله» محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأن تفهم لفظة euaggelion «الإنجيل» إن حسبتها يونانية لا بمعنى البشارة أو الخبر السار، وإنما بمعنى «الرسالة» أو «الرسول»، لا سيما أن زيادة النون في «أنجليو» التي أصبحت «أنجليون» تنسخ الاسمية على المصدر وتردها إلى الاسمية على الفاعل، فهي أقرب إلى الرسول منها إلى الرسالة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/316]
أما وقد وضح لك أن «أفنجليون» euaggelion لا تعني البشارة، وإنما تعني يونانيًا «الرسالة»، وهو المعنى الذي يقلب مفهوم «البشارة بمغفرة الخطايا» عند علماء المسيحية رأسًا على عقب، فليس أمامنا وأمامهم إلا القول بأن «الإنجيل» ليست في الأناجيل على الترجمة للفظ قاله المسيح بلغته، وإنما هي على أصلها العبري – الآرامي الذي نطق به المسيح، جاء في صورة يونانية.
نعم. هذا هو القول الذي به نقول: ليست «إنجيل» يونانية، وإنما هي عبرانية، كما سترى.
كان عيسى يتقن عبرية التوراة كما كان ينطقها موسى وهرون، صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا من تعليم الله عز وجل إياه: {وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [المائدة: 110]، فكان يجادل بالتوراة في الهيكل علماء التوراة وهو بعد حدث يافع. وهذا من آيات الله فيه، فقد فسدت عبرية التوراة على ألسنة الناس في فلسطين وآلت إلى رطانة آرامية على ما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. وهو أيضًا الذي نعنيه بأن لغة المسيح، ولغة «إنجيله» أيضًا، عبرية – آرامية، يختلط فيها هذا بذاك.
وضح لديك الآن أن لفظ «البشارة» (وهي «بسورا» عبريًا) لا يصح اسمًا لوحي الله على عيسى، ولا يصح أيضًا لفظ «الرسالة» (وهي «ملآخوت» عبريًا وآراميًا)، لأن الرسالة هي منصبة عليه السلام، لا وحي الله عليه، وإلا لتساوى في الاسم التوراة والإنجيل والقرآن، التي هي أعلام على وحي الله على موسى وعيسى ومحمد كل على حدة صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا. ومن ثم لا تصح «أنجليون» aggelion اليونانية، سواء أخذتها كما يقولون بمعنى البشارة أو كما نقول نحن بمعنى الرسالة، ولا معنى وراء هذين للفظة «أنجليون» اليونانية، اسمًا لوحي الله على عيسى. هنا تقطع بأن «أنجليون» اليونانية ليست يونانية، إن كانت هي اسم وحي الله على عيسى كما سماه الله أو سماه المسيح.
لا يبقى لديك إذن إلا أن «أنجليون» هذه لفظة بلغة المسيح، اسمٌ لوحي الله على عيسى، نقلها كتبة الأناجيل على أصلها بالخط اليوناني كما سمعت من المسيح
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/317]
نفسه، أخذوها على العلمية المجردة فلم يحتاجوا إلى تمحيص معناها في لغة المسيح، ولم يفسروها للقارئ مثلما فسروا «طاليثا قومي» (قومي يا صبية)، «إيلي إيلي لما شبقتني» (إلهي إلهي لماذا تركتني) وغيرهما، فبقيت لفظة «إنجيل» - كما بقيت التوراة وبقي القرآن – على أصلها في كل اللغات.
إن صح هذا – وهو الصحيح الذي لا يصح غيره بعد كل الذي قلناه ولأنك لا تتصور أن يتسمى وحي الله على عيسى اسمًا علمًا بغير لغة المسيح – فما هي تلك اللفظة العبرانية التي نطق بها المسيح في تسمية «إنجيله» فآلت عند كتبة الأناجيل اليونانية إلى «أنجليون» اليونانية؟
قد علمت أن اليونان يهمسون الهاء فلا تكاد تبين، وأنهم أيضًا لا يستطيعون تشديد الجيم، فيستبدلون من الجيم الأولى نونًا، يكتبون gg وينطقون ng.
ومر بك أيضًا في تضاعيف هذا الكتاب أن أداة التعريف في العبرية هي «ها»، تحذف ألفها عند الوصول ويشدد ما بعدها بديلاً من حذف الألف، كما تحذف أنت في العربية اللام من أداة التعريف «أل» وتشدد ما بعدها في مثل «ألشم» فتقول «أشمس». مثال ذلك في العبرية «تورا»: لا يقال عند التعريف «هاتورا» بل «هتورا».
هكذا يفعل العبرانيون في مثل لفظة «جليون» حين تزاد فيها أداة التعريف: لا يقال «ها جليون»، وإنما يقال «هجليون».
فكيف تنطق أنت «هجليون» العبرانية هذه إن كنت يونانيًا يهمس الهاء، ولا يشدد الجيم؟ تسقط الهاء، وتضع موضع الجيم المشددة الحرفين نج، ومن ثم تؤول عندك «هجليون» العبرانية أولاً إلى «أجليون» بإسقاط الهاء، ثم إلى «أنجليون» بتغيير الجيم المشددة (ج) إلى (نج)، فتكتب aggelion وتنطق angelion.
هذا هو بالضبط ما فعله كتبة الأناجيل اليونانية حين أرادوا نطق «هجليون» العبرانية التي سمعت من المسيح في تسمية «إنجيله»، فقالوا «أنجليون» aggelion.
أما البادئة (إفــ) eu التي ألصقوها بـ «أنجليون» فأصبحت «إفنجليون» وهي euaggelion التي تقرؤها في الأناجيل اليونانية، فهي على التقريظ والتحميد لوحي الله على عيسى، كما يقول المسلم على التمجيد في القرآن: «القرآن الكريم»، «القرآن العظيم»، ونحو ذلك. دليلك في هذا أن السريان حين أخذوا عن اليونان اسم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/318]
الإنجيل لم يقولوا «إفـ + أنجليون»، وإنما أسقطوا هذه البادئة تمامًا، وقالوها مباشرة على ما حكاه الثعلبي «أنجليون».
أما «جليون» العبرية هذه فهي زنة «فعلون» العبرانية من الجذر العبري «جلا» على معنى التجلية والجلاء والتبيين، كما قالوا من «يثر» يثرون (حمو موسى) وكما يقولون من «علا» العبرانية «عليون» على المبالغة في العلو والتسامي.
وفي العبرية المعاصرة «جليون» أخرى هي هي رسمًا ونطقًا، معناها «الصحيفة»، ومنها «جليون أشوم»، أي صحيفة الاتهام، يعني «بيان» التهم المسندة.
وفي عبرية التوراة أيضًا «جليون» مثلها (وقعت في سفر أشعيا بصورة الجمع، أي «هجليونيم»)،معناها «المرآة»، لأنها الجالية المجلوة.
ومن طريف ما ذكره «إنجيل برنابا» الذي أنكرته الكنيسة، قول المسيح لتلاميذه يصف إنجيليه وكأنه يفسر التسمية: «حينئذ قال التلاميذ حقًا إن الله تكلم على لسانك، لأنه لم يتكلم إنسان قط كما تتكلم. أجاب يسوع: صدقوني إنه لما اختارني الله ليرسلني إلى بيت إسرائيل أعطاني كتابا يشبه مرآةً نقية نزلت إلى قلبي حتى إن كل ما أقول يصدر عن ذلك الكتاب. ومتى انتهى صدور ذلك الكتاب من فمي أصعد عن العالم. أجاب بطرس: يا معلم هل ما تتكلم الآن به مكتوب في ذلك الكتاب؟ أجاب يسوع: إن كل ما أقوله لمعرفة الله ولخدمة الله ولمعرفة الإنسان ولخلاص الجنس البشري إنما هو جميعه صادر من ذلك الكتاب الذي هو إنجيلي» (برنابا 168/1 – 5).
ليس بعد هذا بيان في تفسير معنى «إنجيل» عبريًا على لسان صاحب الإنجيل: إنه «الكتاب – المرآة»، «هجليون» المرآة الجالية المجلوة. ولا يقدح في استشهادنا بإنجيل برنابا أنه إنجيل أنكرته الكنيسة، فلا مدخل هاهنا لإقرار الكنيسة أو إنكارها، لأن خصوم إنجيل برنابا أنفسهم يعترفون لكاتب هذا الإنجيل – أيا كان كاتبه – بأنه فقيه من فقهاء العبرية، ضليع متضلع من عبرية التوراة خاصة، حتى اتهموه بأنه يهوديٌ أسلم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/319]
الإنجيل إذن هي «هجليون» العبرية من الجلاء والتبيين، آلت على قلم كتبة الأناجيل اليونانية إلى «أنجليون».
وعلى معنى الجلاء والتبيين، فسرت لفظة «إنجيل» في القرآن كما سترى.
فسبحان العليم الخبير، القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
وردت لفظة «الإنجيل» في القرآن اثنتي عشرة مرة، هي: {وأنزل التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3]، {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [آل عمران: 48]، {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} [آل عمران: 65]، {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} [المائدة: 46]، {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47]، {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} [المائدة: 66]، {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل} [المائدة: 68]، {وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [المائدة: 110]، {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157]، {وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن} [التوبة: 111]، {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29]، {وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل} [الحديد: 27].
وأول ما تستظهره من هذه الآيات أن «الإنجيل» كتاب منزل، شأنه شأن التوراة والقرآن، ليس مجرد بشارة أو رسالة، لا تصح فيه معاني «أنجليون» اليونانية إن حسبتها يونانية، وقد مر بك نقضنا ليونانية «إنجيل»، وإنما هو مجمل وحي الله على عيسى، فيما بقى لك منه مما حفظته الأناجيل وصدقت فيه، أعني الذي صدقه القرآن والحديث الصحيح، ولا عليك مما ضاع منه، فحسبك القرآن المصدق المهيمن وفيه الكفاية. وليس معنى «الكتب المنزلة» أنها أنزلت «مكتوبة» في قراطيس،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/320]
وإنما المعنى أنها مكتوبة عند ربك في اللوح المحفوظ، يتنزل بها ملائكة الله على عباده الذين اصطفى.
وثاني ما تستظهره من هذه الآيات أن «الإنجيل» نزيل على ذات القوم الذين أنزلت فيهم التوراة من قبل، قلما يجيء إلا على الإلصاق بالتوراة قبله أو على التجاور مع هذه التوراة التي أنزل الله على موسى مقصودًا بها بنو إسرائيل، فهو «ملحق» على الأصل، تكملة لوحي الله على بني إسرائيل. وقد قالها المسيح بالنص في هذه الأناجيل: «ما جئت لأهدم الناموس والأنبياء، وإنما جئت لكمل»، فلا يصح أن يقال أن الإنجيل ناسخ للتوراة، وإنما هو وهي واحد، وإنما الإنجيل جلاء وتبيين. على أن المسيح عليه السلام جاء رحمة لليهود، يخفف عنهم بعض الذي شدد الله عليهم، ريثما يجيء الرسول الخاتم، الرحمة المهداة للخلق أجمعين. فهو من هذا الوجه موطئ لخاتم النبيين.
وثالث ما تستظهره من هذه الآيات أن «الإنجيل» الذي فيه هدى ونور، فيه أيضًا شريعة أحكام، لقوله عز وجل: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} ، وفي هذا لفتة بليغة إلى حظر الاعتداد بغير ما في الأناجيل من وحيه عز وجل، فلا عبرة بقول يقال من بعد رفع المسيح، كالذي قيل بإسقاط الختان واستحلال الخنزير، فلا وحي يتنزل على تلاميذ.
أما معنى لفظة «إنجيل» التي في القرآن، فقد قال المفسرون (راجع تفسير القرطبي للآية 3 من سورة آل عمران) إنها عربية من «النجل» بمعنى الأصل، فالإنجيل على هذا القول أصل لعلوم وأحكام، وقيل هو من نجلت الشيء إذا استخرجته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم، فقد استخرج الله به دارسًا من الحق عافيًا، وقيل من التناجل بمعنى التنازع، لتنازع الناس فيه. وليس هذا كله بشيء لما مر بك من عبرانية «إنجيل». وحكى الثعلبي فأصاب أنه في السريانية دإنكليون» (يريد «أنجليون» بالجيم القاهرية). ولكن المفسرين لم يقعوا على معنى «أنجليون» السريانية هذه، فلم يتصدوا لتفسيرها، لم يقولوا بشارة، ولم يقولوا أيضًا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/321]
رسالة. وهذا يدلك على أن معاصريهم من نصارى السريان، وفيهم من برع في الترجمة إلى العربية من اليونانية عبر السريانية عصر تفاسير القرآن، لم يحققوا أصل لفظة «أنجليون» هذه لا يونانيا ولا سريانيا، وإلا لذكره «الثعلبي» الذي حكى عنه القرطبي قوله بسريانية هذه اللفظة «أنكليون». وهو يدلك أيضًا على أن التفسير الذي نقوله نحن برد لفظة «إنجيل» إلى العبرانية «هجليون» على معنى الجلاء والتبيين، الكتاب – المرآة، الجالية المجلوة، تفسير جديد غير مسبوق، هدانا الله إليه بفضل منه ونعمة، له الفضل وله المن وحده.
والذي ينبغي التنبيه إليه أن القرآن لم يعرب «إنجيل» على الأصل العبراني الذي نقول به: «هجليون»، وإنما عربه ناظرًا إلى صورته اليونانية الشائعة على ألسنة الخلق جميعًا عصر نزول القرآن: «أنجليون»، فقال «الإنجيل»، وبقيت «الإنجيل» أعجمية تحتاج من القرآن إلى تفسير على منهجنا في هذا الكتاب.
فبماذا فسر القرآن «إنجيل»؟ فسره بأدق مرادف وأبنية: إنه «البينات»، أي «الجليات الواضحات»، وليس أقرب من هذا إلى العبرانية «جليون» الجلي المجلو. جاء بها القرآن بلفظ الجمع لإفادة إنزال الإنجيل على المسيح تباعًا، شأن القرآن، لا شأن التوراة المنزلة على موسى دفعة واحدة في الألواح.
لم يفسر الإنجيل في القرآن بالترادف على التجاور، وإنما رفع القرآن لفظة «إنجيل» من الآية ووضع في موضعها «البينات»، وكأن «البينات» من أسمائه، وهذا أبلغ التفسير في القرآن بالمرادف.
قال عز وجل في سورة المائدة: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور}[المائدة: 46].
وقال عز وجل يجانس البينات على إنجيل: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87]، ومثلها بذات نصها في نفس السورة (البقرة: 253). وأما الحاسمة القاطعة في أن «الإنجيل» هو المعني بلفظ «البينات» فقوله عز وجل: {ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون} [الزخرف: 63]، يصف فيها عيسى «البينات» التي جاء بها بأنها الحكمة وبيان الذي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/322]
اختلفوا فيه، لا يصح فيهم البينات في هذه الآية بالذات بمعنى المعجزات التي أجراها الله على يديه بتأييد من روح القدس، وإنما هي وحي الله على عيسى الذي في الإنجيل، إذ لا يصح وصف المعجزات بأنها «الحكمة» أو بأنها «بيان الذي اختلفوا فيه». وقد أوتي عيسى أمرين: البينات، أي الإنجيل، ثم المعجزات التي «أيده فيها الله بروح القدس» ، لا يصح الخلط بين هذا وذاك. وقد فسر القرطبي في تفسيره الآية 87 من سورة البقرة لفظ البينات بأنه الحجج والدلائل، وهذا جيد، فليس وحي الله على رسله إلا هذا، ولكنه لم يعلم معنى «الإنجيل» في أصله الأعجمي «هجليون» الجلي المجلو، ولو علمه لما تردد في تفسير البينات بالإنجيل نفسه، كتاب الله على عيسى.
ولكن، كيف تطلب من أهل التفسير على عهد القرطبي رحمه الله في القرن السابع الهجري أن يعلموا علم ما لم يعلمه أهل الإنجيل أنفسهم حتى كتابة هذا الكتاب الذي نكتب: معنى لفظة «إنجيل» في أصلها العبراني الذي نطق به المسيح عليه السلام؟
هذا الفضل من الله، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، والحمد لله رب العالمين).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 298-223]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأعجمي, العَلم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:37 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir