666- وعَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فمَاتَتْ فِيهِ، فسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عنها، فقالَ: ((أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وزادَ أَحْمَدُ والنَّسائِيُّ: في سَمْنٍ جَامِدٍ.
درجةُ الحديثِ:
زيادَةُ أحمدَ والنَّسائِيِّ وتَقْيِيدُها: "فِي سَمْنٍ جَامِدٍ" حَكَمَ عليها بالشُّذُوذِ الإمامُ الْبُخَارِيُّ وابنُ تَيْمِيَّةَ؛ وذلك لتَفَرُّدِ عبدِ الرحمنِ بنِ مَهْدِيٍّ بها، ومُخالَفَتِه لرِوايَةِ الجماعةِ عن الإمامِ مَالِكٍ.
وفي التلخيصِ الحَبِيرِ لابنِ حَجَرٍ: ذَكَرَ عِدَّةَ رِواياتٍ وطُرُقٍ تُقَوِّي هذهِ الزِّيادَةَ، وتُجَوِّدُ الحَدِيثَ، وكذلك في الفَتْحِ (9/669) لكنْ رَجَّحَ فيهِ الوَقْفَ.
مُفْرَداتُ الحديثِ:
-فَأْرَةً: بفتحِ الفاءِ تُهْمَزُ ولا تُهْمَزُ، الوَاحِدَةُ مِن الفَارِ، وتَقَعُ على الوَاحِدَةِ مِن الذَّكَرِ والأُنْثَى، وهو جِنْسُ حَيَوانٍ من الفَصِيلَةِ الفَأْرِيَّةِ، ورُتْبَةِ القَوَارِضِ.
-سَمْنٍ: بفتحِ السِّينِ وسُكونِ المِيمِ، هو سِلاءُ الزُّبْدُ، وهو مَا يُذَابُ ويَخْلُصُ منه بعدَ إغلائِه.
- جَامِدٍ: جَمُدَ الماءُ، وكُلُّ سَائِلٍ يَجْمُدُ جَمْداً وجُموداً - مِن بَابَيْ نَصَرَ وكَرُمَ؛ يَبِسَ، وضِدُّ ذَابَ.
667- وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِذَا وَقَعَتِ الفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِداً فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعاً فَلاَ تَقْرَبُوهُ)). رَوَاهُ أحمدُ وأبو دَاوُدَ.
وقدْ حَكَمَ عليهِ الْبُخَارِيُّ وأبو حَاتِمٍ بالوَهْمِ.
دَرَجةُ الحديثِ:
قالَ الشيخُ مُحَمَّدُ زَكَرِيَّا الكاندهلويُّ في شَرْحِه على المُوَطَّأِ ما خُلاصَتُه: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عن مَعْمَرٍ, عَنِ ابنِ شِهَابٍ, عن سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ, عن أبي هُرَيْرَةَ بلَفْظِ، "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ..." الحديثَ.
قالَ: حَكَى التِّرْمِذِيُّ عن الْبُخَارِيِّ أنَّه قالَ في رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: هذه خَطَأٌ. وقالَ ابْنُ أبي حَاتِمٍ: إِنَّها وَهْمٌ، وأشارَ التِّرْمِذِيُّ إلى أنَّها شَاذَّةٌ، وقدْ حَكَمَ الْبُخَارِيُّ وأبو حَاتِمٍ عليهِ بالوَهْمِ، وقالوا: إِنَّ مَعْمراً قَدْ غَلِطَ على الزُّهْرِيِّ؛ لأنَّ الصحيحَ هو الزُّهْرِيُّ عنْ عُبَيْدِ اللهِ, عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ, عن مَيْمُونَةَ.
مُفْرَداتُ الحديثِ:
- مَائِعٌ: يُقالُ: مَاعَ الشَّيْءُ يَمِيعُ مَيْعاً: سَالَ وَجَرَى، فالمَائِعُ خِلافُ الجَامِدِ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثَيْنِ:
1- يَدُلُّ الحديثانِ على نَجَاسَةِ الفَأْرَةِ، وأنَّها من الخَبَائِثِ، فلَقَدْ جَاءَ في الصحيحَيْنِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أمَرَ بقَتْلِها، وسَمَّاها فَاسِقَةً.
2- أنَّ الفَأْرَةَ إذا وَقَعَتْ في سَمْنٍ أو مَائِعٍ، ومَاتَتْ فيه نَجَّسَتْ ما حَوْلَها مِمَّا وَقَعَتْ فيهِ، فيَجِبُ إِلْقاؤُها وإلقاءُ ما حَوْلَها.
قالَ الحَافِظُ: لَمْ يَأْتِ تَحْدِيدُ مَا يُلْقَى، لَكِنْ أَخْرَجَ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ مِن مُرْسَلِ عَطَاءٍ: أنْ يَكُونَ قَدْرَ الكَفِّ، وسَنَدُه جَيِّدٌ لَوْلاَ أنَّه مُرْسَلٌ.
3- أنَّ بَقِيَّةَ السَّمْنِ أو اللَّبَنِ أو نَحْوِهما مِمَّا لَيْسَ حَوْلَها طَاهِرٌ، يَجُوزُ أكْلُه واستعمالُه، فلا تَسْرِي النَّجَاسَةُ إلى كُلِّ أَجْزَائِهِ.
4- أنَّ ذِكْرَ السَّمْنِ إِنَّما هو وَاقِعَةُ عَيْنٍ لمَيْمُونَةَ، وإلاَّ فالحُكْمُ عَامٌّ في كُلِّ المَائِعَاتِ من دُهْنٍ، وزَيْتٍ، ولَبَنٍ، وعَصِيرٍ، وغيرِ ذلك.
قالَ الحافِظُ: وإِلْحاقُ غَيْرِ السَّمْنِ بهِ في القِيَاسِ وَاضِحٌ.
5- قالَ الخَطَّابِيُّ: في الحديثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ المَائِعَاتِ لا تُزَالُ بِهَا النَّجَاسَةُ، وذلك أنَّها إِذَا لَمْ تَدْفَعْ عن نَفْسِها النَّجَاسَاتِ، فلأَنْ لا تَدْفَعَ عن غَيْرِها أَوْلَى.
6- في الحديثِ دَلالَةٌ على تحريمِ الأعْيانِ النَّجِسَةِ، وأنَّه لا يَجُوزُ الاستفادَةُ منها ولا استعمالُها، وتَقَدَّمَ مَثْلُه في حديثِ جَابِرٍ (661).
7- مفهومُ قَوْلِه: ((فمَاتَتْ فِيهِ)). أنَّها لو سَقَطَتْ فيهِ وخَرَجَتْ حَيَّةً أَنَّ السَّمْنَ لا يَنْجُسُ، فإنَّ الفُقهاءَ جَعَلُوا الهِرَّةَ وما دُونَها في الخِلْقَةِ طَاهِراً في حالِ الحَياةِ؛ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ)) وقِيسَ عليها الباقِي.
8- قولُه: ((كُلُوهُ)) لَيْسَ أمْراً، وإنَّما هو إبَاحَةٌ، وبَيانُ حُكْمِ طَهَارَتِهِ.
9-هذا الحُكْمُ ما لَمْ يَتَغَيَّرِ السَّمْنُ بالنَّجَاسَةِ في رِيحِه، أو طَعْمِهِ، أو لَوْنِه، فإنْ تَغَيَّرَ؛ فإنَّه نَجِسٌ لا يَجُوزُ استعمالُه ولا قُرْبُه، فإنَّ الماءَ وهو الطَّهُورُ إذا تَغَيَّرَ طَعْمُه أو رِيحُه أو لَوْنُه بالنَّجَاسَةِ نَجُسَ، فكَيْفَ بالمائعاتِ التي لا تَدْفَعُ عن نَفْسِها نَجَاسَةً.
10-الحديثُ عَامٌّ في السَّمْنِ: قَلِيلِه وكَثِيرِه، فلَيْسَ فيهِ تَقْيِيدٌ، فيَبْقَى علَى عُمُومِه أنَّ الفَأْرَةَ إِذَا وَقَعَتْ فيهِ وماتَتْ ولَمْ تُغَيِّرْهُ أنَّها تُلْقَى، ويُؤْكَلُ السَّمْنُ، كَثُرَ أو قَلَّ.
11- وفي الحديثِ: دَلالَةٌ على جَوازِ مُلامَسَةِ النَّجَاسَةِ لإِزالتِها، وتطهيرِ المَكانِ منها، ومن أَدِلَّةِ هذهِ المَسْأَلَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الاستنجاءِ، وغَسْلِ النَّجَاسَاتِ.
12-رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مُطْلَقَةٌ تَعُمُّ السَّمْنَ المَائِعَ والجَامِدَ، ورِوَايَةُ أحْمَدَ والنَّسائِيِّ تُقَيِّدُ ذلك في السَّمْنِ الجَامِدِ، ولكنَّ مُحَقِّقِي المُحَدِّثِينَ كالْبُخَارِيِّ وأبي حَاتِمٍ حَكَمُوا على رِوَايَةِ: (فِي سَمْنٍ جَامِدٍ) بالوَهْمِ.
قال التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ يقولُ: هو خَطَأٌ، والصَّوَابُ: ما رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ, عن عُبَيْدِ اللهِ, عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ, عن مَيْمُونَةَ. رَضِيَ اللهُ عنهُم.
وقالَ التِّرْمِذِيُّ: هو حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفوظٍ.
قالَ ابْنُ القَيِّمِ: اخْتَلَفَ العُلماءُ في هذا الحديثِ إِسْناداً ومَتْناً, ولكنَّ أَئِمَّةَ الحديثِ طَعَنُوا فيه، ولَمْ يَرَوْهُ صَحِيحاً، بل رَأَوْهُ خَطَأً مَحْضاً، فكَثِيرٌ مِن أَهْلِ الحديثِ جَعَلُوا هذهِ الرِّوَايَةَ: ((إِذَا كَانَ جَامِداً فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ، وَإِنْ كَانَ ذَائِباً فَلاَ تَقْرَبُوهُ)) مَوْهُومَةً مَعْلُولَةً، فإِنَّ الناسَ إِنَّمَا رَوَوْهُ عن سُفْيانَ, عن الزُّهْرِيِّ من غَيْرِ تَفْصِيلٍ، كما رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وغَيْرُه.