سورة الذاريات
فإن قيل: كيف قال تعالى: (إنّما توعدون لصادقٌ) والصادق وصف الواعد لا وصف الوعد؟
قلنا: قيل صادق بمعنى مصدوة كـ (عيشة راضية) و(ماء دافق) وقيل: معناه لصدق، فإن المصدر قد جاء على وزن اسم الفاعل كقولهم: قمت قائمًا، (وقولهم): لحقت بهم اللائمة: أي اللوم.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (إنّ المتّقين في جنّاتٍ وعيونٍ) والمتقون لا يكونون في الجنة في العيون؟
قلنا: معناه أنهم في الجنات والعيون الكثيرة محدقة بهم من كل ناحية
وهم في مجموعها لا في كل عين، ونظيره قوله تعالى: (إنّ المتّقين في جنّاتٍ ونهرٍ) لأنه بمعنى أنهار، إلا أنه عدل عنها رعاية للفواصل.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (وتركنا فيها آيةً للّذين يخافون العذاب الأليم) أي في قرى قوم لوط عليه السلام، وقرى قوم لوط ليست موجودة، فكيف توجد فيها العلامة؟
قلنا: الضمير في قوله تعالى: "فيها" عائد إلى تلك الناحية والبقعة لا إلى مدائن قوم لوط، الثاني: أنه عائد إليها، ولكن " في" بمعنى
[أنموذج جليل: 487]
من كما في قوله تعالى: (ويوم نبعث من كلّ أمّةٍ شهيدًا) وقوله تعالى: (وارزقوهم فيها) ويؤيد هذا الوجه مجيئه مصرحًا به في سورة العنكبوت بلفظ من في قوله تعالى: (وتركنا فيها آيةً للّذين يخافون العذاب الأليم) ثم قيل الآية آثار منازلهم الخربة، وقيل: هي الحجارة التي أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة، وقيل: هي الماء الأسود الذي يخرج من الأرض.
فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجين) أي صنفين، مع أن العرش والكرسي والقلم واللوح لم يخلق منها إلا واحد؟
قلنا: قيل معناه ومن كل حيوان خلقنا ذكرًا أو أنثى، وقيل: معناه ومن كل شيء تشاهدونه خلقنا صنفين كالليل والنهار، والصيف والشتاء، والنور والظلمة، والخير والشر، والحياة والموت، والبحر والبر، والسماء والأرض، والشمس والقمر، ونحو ذلك.
فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (ففرّوا إلى اللّه) وقال سبحانه في موضع آخر: (ويحذّركم اللّه نفسه)؟
قلنا: معنى قوله تعالى: (ففرّوا إلى اللّه) أي الجئوا إليه
[أنموذج جليل: 488]
بالتوبة، وقيل: معناه ففروا من عقوبته إلى رحمته، ومعنى قوله: (ويحذّركم اللّه نفسه) أي يخوفكم عذاب نفسه أو عقاب نفسه.
وقال الزجاج: معنى نفسه إياه كأنه قال تعالى: ويحذركم الله إياه، كما قال سبحانه وتعالى: (يريدون وجهه)
أي إياه، فظهر أنه لا تناقض بين الآيتين.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون) وإذا قلنا، خلقهم للعبادة كان مريدًا لها منهم فكيف أرادها منهم ولم توجد منهم؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه عام أريد به الخاص وهم المؤمنون، بدليل خروج البعض منه بقوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس) ومن خلق لجهنم لا يكون مخلوقًا للعبادة، الثاني: إنه على عمومه، والمراد بالعبادة التوحيد، وقد وحده الكل
يوم أخذ الميثاق، وهذا الجواب يختص بالإنس، لأن أخذ الميثاق مخصوص بهم بالآية، وقيل: معناه إلا أن يكونوا عبيدًا لي، وقيل: معناه إلا ليذلوا ويخضعوا وينقادوا لما قضيته وقدرته عليهم
فلا يخرج عنه أحد منهم، وقيل: معناه إلا لعبيدون إن اختاروا لا قرأ وإلجاء، وقيل: إلا ليعبدون العبادة المرادة في قوله تعالى:
[أنموذج جليل: 489]
(وللّه يسجد من في السّماوات والأرض طوعًا وكرهًا)
والعموم ثابت في الوجوه الخمسة.
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وما أريد أن يطعمون) بعد قوله: (ما أريد منهم من رزقٍ)؟
قلنا: معناه ما أريد منهم من رزق لأنفسهم، وما أريد أن يطعمون: أي أن يطعموا عبيدي، وإنما أضاف الإطعام إلى ذاته المقدسة لأن الخلق عياله وعبيده، ومن أطعم عيال غيره فكأنه أطعمه، ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، أي استطعمك عبدي فلم تطعمه.
[أنموذج جليل: 490]