دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 2 ذو الحجة 1429هـ/30-11-2008م, 08:42 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي خطبة التدمرية

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ (الْعَالِمُ) الْعَلاَّمَةُ شَيْخُ الْإِسْلاَمِ مُفْتِي الْأَنَامِ، أَوْحَدُ عَصْرِهِ، وَفَرِيدُ دَهْرِهِ، نَاصِرُ السُّنَّةِ، وَقَامِعُ الْبِدْعَةِ، (تَقِيُّ الدِّينِ) أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ ( الشَّيْخِ ) الْإِمَامِ، الْعَلاَّمَةِ، شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ، الْعَلاَّمَةِ، شَيْخِ الْإِسْلاَمِ مَجْدِ الدِّينِ (أَبِي الْبَرَكَاتِ) عَبْدِ السَّلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ تَعَيَّنَتْ إِجَابَتُهمْ أَنْ أَكْتُبَ لَهُمْ مَضْمُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنِّي فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ، مِنَ الكَلاَمِ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ، وَفِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَكَثْرَةِ الِاضْطِرَابِ فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا مَعَ حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِمَا، وَمَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْعِبَادَةِ، لاَ بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الخَوَاطِرِ وَالْأَقْوَالِ مَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إِلَى بَيَانِ الْهُدَى مِنَ الضَّلاَلِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ خَاضَ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ تَارَةً وَبِالْبَاطِلِ تَارَاتٍ، وَمَا يَعْتَرِي الْقُلُوبَ فِي ذَلِكَ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي تُوقِعُهَا فِي أَنْوَاعِ الضَّلاَلاَتِ.


  #2  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 06:24 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين


في بيانِ سببِ تأليفِ هذِهِ الرِّسالَةِ
بَيَّنَ المؤلِّفُ سببَ تأليفِ هذِهِ الرِّسالةِ بقوْلِهِ:
أما بعدُ: فقدْ سألنيِ منْ تعيَّنَتْ إجابَتُهُمْ انْ أكْتُبَ لهمْ مضمونَ ما سَمِعوهُ منِّي في بعضِ المجالِسِ منَ الكلامِ في التَّوحيدِ والصِّفاتِ، وفي الشَّرْعِ والقدَرِ.
ثُمَّ علَّلَ وجوبَ إجابتِهِمْ بأمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَسيسُ الحاجةِ إلى تحقيقِ هذين الأصْلَينِ لأنَّهُ لابُدَّ أنْ يَخطُرَ على القلبِ في هذيْنِ الأصْلين ما يُحتاجُ معهُ إلى بيانِ الهُدى منَ الضَّلالِ، والحقِّ مِنَ الباطِلِ.
الثاني: كثرةُ اضْطِرابِ أقوالِ النَّاسِ فيهِمَا، والخَوْضِ فيهمَا بالحقِّ تارةً وبالباطلِ تاراتٍ فيَلتبِسَ الحقُّ بالباطلِ على كثيرٍ منَ النَّاسِ، ومنْ ثَمَّ احْتِيجَ إلى البيانِ.


  #3  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 06:25 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح مقاصد المصطلحات العلمية للشيخ: محمد بن عبد الرحمن الخميس


(1) (قَالَ) شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
"فَإِنَّهُمَا مع حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهَا..."

الشرحُ:
أَقُولُ: هذا الكلامُ فيهِ نَظَرٌ ولَعَلَّهُ مِن تحريفِ النُّسَّاخِ؛ لأَنَّهُ "لاَ يَسْتَقِيمُ نَحْوِيًّا، لأَنَّ الخَبَرَ غيرُ موجودٍ ولَعَلَّ الصوابَ:
"فإِنَّهَما أَصْلاَنِ مُهِمَّانِ مع حاجةِ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِمَا".


  #4  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 06:28 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


قَوْلُهُ:
قالَ الشيخُ الإمامُ، العالِمُ العَلاَّمَةُ، شيخُ الإسلامِ تَقِيُّ الدينِ أبو العَبَّاسِ، أحمدُ بنُ عبدِ الحليمِ ابنِ عبدِ السلامِ بنِ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.

الشرحُ:
(( الشيخُ )) جَمْعُهُ أشياخٌ وشيوخٌ، وهو إمَّا مصدرُ شَاخَ أو صِفَةٌ، وسُمِّيَ المُؤَلِّفُ شيخاً لِمَا حَوَى مِن كثرةِ المعاني؛ لأنَّ مَعْنَاهُ في الاصطلاحِ مَن بَلَغَ رُتْبَةَ أهلِ الفضلِ ولو صَبِيًّا، وأمَّا في اللغةِ فمعناهُ مَن جاوزَ الأربعينَ، وقولُهُ: (( الإمامُ )) معناهُ لغةً: المُقَدَّمُ على غيرِهِ، وفي الاصطلاحِ: مَن يَصِحُّ الاقتداءُ بهِ، ولهُ معانٍ أُخَرُ، و (( العالمُ )) كلُّ مَن اتَّصَفَ بالعلمِ, ولو كانَ مُبْتَدِئًا في الطَّلَبِ، و (( العلاَّمَةُ )) صفةُ مُبَالَغَةٍ، فلا يُوصَفُ بها إلا مَن حَازَ المعقولَ والمنقولَ، والمُرَادُ بها هنا كثيرُ العلمِ.

وقولُهُ: (( شيخُ الإسلامِ)) أيْ: عالمُ الإسلامِ وحُجَّةُ الإسلامِ، وذلكَ لِمَا امتازَ بهِ على غيرِهِ مِن فَرْطِ الذكاءِ، وسَيَلاَنِ الذِّهْنِ، وقوَّةِ الحافظةِ، وغزارةِ العلمِ، فقدْ كانَ إذا سُئِلَ عن فَنٍّ مِن العلمِ ظَنَّ الرَائِي والسامِعُ أَنَّهُ لا يَعْرِفُ غيرَ ذلكَ الفَنِّ، وحَكَمَ أنَّ أحدًا لا يَعْرِفُ مثلَهُ.
ولمْ يَبْرَحْ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في ازديادٍ من العلمِ، وتدريسِهِ، ونَشْرِهِ، والاجتهادِ في سبيلِ الخيرِ حتى انْتَهَتْ إليهِ الإِمَامَةُ في العلمِ، والعملِ، والزُّهْدِ، والوَرَعِ، والحِلْمِ، والأَنَاةِ، وبهذا اسْتَحَقَّ أنْ يُلَقَّبَ بِحَقٍّ شيخَ الإسلامِ، فهو كقولِهِمِ: حُجَّةُ الإسلامِ، ومعنى اللَّقَبَيْنِ: العالمُ بعلومِ الشَّرِيعَةِ والحُجَّةُ فيهَا.

وقولُهُ: (( تَقِيُّ الدِّينِ )) أيْ: صِينُهُ وَنَقِيُّهُ، فقدْ كانَ وَرِعاً، صَوَّاماً، قَوَّاماً، ذَاكِراً للهِ تعالى في جميعِ أحوالِهِ، عابِداً، ناسِكاً، وَقَّافاً عندَ حدودِ اللهِ.

وقولُهُ: ((أبو العَبَّاسِ، أحمدُ)): يعني ابنَ الشيخِ الإمامِ العلاَّمَةِ شِهابِ الدينِ أبي المحاسنِ عبدِ الحليمِ بنِ الشيخِ الإمامِ العلاَّمةِ شيخِ الإسلامِ مَجْدِ الدينِ أبي البَرَكاتِ عبدِ السلامِ بنِ أبي محمدٍ عبدِ اللهِ بنِ أبي القاسمِ الخَضِرِ بنِ محمدِ بنِ الخضرِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ ابنِ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ نَزِيلِ دِمِشْقَ.
وقدْ ذَكَرَ ابنُ خَلِّكَانَ فِي كتابِهِ ( وَفَياتِ الْأَعْيَانِ ) أنَّ المَسْؤُولَ عن اسمِ تَيْمِيَّةَ: هو محمدُ بنُ الخَضِرِ بنِ محمدِ بنِ الخَضِرِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ, فَعَلَى هذا يكونُ عبدُ السلامِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ محمدِ بنِ الخضرِ بنِ محمدِ بنِ الخضرِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ المعروفَ بابنِ تَيْمِيَّةَ.

قولُهُ: (ابنُ تَيْمِيَّةَ) سببُ نِسْبَتِهِ إلى تَيْمِيَّةَ هو ما ذَكَرَهُ أبو البركاتِ ابنُ المُسْتَوْفِي في تاريخِ (إِرْبِلَ) قالَ: سألْتُ محمداً – يَعْنِي: ابنَ الخضرِ - عن اسمِ تَيْمِيَّةَ ما مَعْنَاهُ؟ فقالَ: حَجَّ أبي أوجَدِّي - أَنَا أَشُكُّ أَيُّهُمَا قَالَ- وكانت امْرَأَتُهُ حَامِلاً، فَلَمَّا كانتْ بِتَيْمَاءَ رأَى جُوَيْرِيَةً حَسَنَةَ الوَجْهِ قد خَرَجَتْ مِن خِبَاءٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إلى حَرَّانَ وَجَدَ امْرَأَتَهُ قد وضَعَتْ جاريةً، فَلَمَّا رَفَعُوهَا إليهِ قالَ: ياتَيْمِيَّةُ ياتَيْمِيَّةُ، يَعْنِي: أنَّهَا تُشْبِهُ التي رَأَهَا بِتَيْمَاءَ فَسُمِّيَ بها, أو كلامًا هذا معناهُ.
وتَيْمَاءُ: بُلَيْدَةٌ في بدايةِ تَبُوكَ إذا خَرَجَ الإنسانُ مِن خَيْبَرَ إليها تكونُ على منتصفِ طريقِ الشامِ.
وتَيْمِيَّةُ نسبةً إلى هذهِ البُلَيْدَةِ، وكانَ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ تَيْمَاوِيَّةً؛ لأَنَّ النسبةَ إلى تَيْمَاءَ تَيْمَاوِيٌّ, لَكِنَّهُ هكذا قالَ, واشْتَهَرَ كما قالَ.

قولُهُ: (( الحَرَّانِيُّ)) نسبةً إلى حَرَّانَ، وهيَ مدينةٌ مشهورةٌ, ذَكَرَ ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في تاريخِهِ أنَّ هَارَّانَ عَمَّ إبراهيمَ الخليلِ - عليهِ الصلاةُ والسلامُ - عَمَرَهَا فَسُمِّيَتْ باسمِهِ، فقيلَ: هَارَّانَ، ثم إِنَّهَا عُرِّبَتْ، فقيلَ: حَرَّانَ، وَهَارَّانُ المذكورُ هو أبو سَارَةَ زَوْجَةِ إبراهيمَ، وكانَ لإبراهيمَ - عليهِ وعلى نبيِّنَا أفضلُ الصلاةِ والسلامِ - أخٌ يُسَمَّى هَارَّانَ أيضاً، وهو أبو لُوطٍ عليهِ السلامُ. وقالَ الجَوْهَرِيُّ في كتابِ الصِّحاحِ: حَرَّانُ اسْمُ بَلَدٍ, والنِّسْبَةُ إليهِ حَرْنَانِيٌّ على غيرِ قياسٍ، والقياسُ حَرَّانِيٌّ على ما عليهِ العامَّةُ.
وهذهِ الكلمةُ الوجيزةُ عبارةٌ عن تَقْدِمَةٍ تعريفيَّةٍ بالمُؤَلِّفِ تُشِيرُ إلى مكانتِهِ العلميَّةِ، ونَسَبِهِ، وَوَطَنِهِ، فهيَ مِن بعضِ تلاميذِهِ أو غيرِهِم مِمَّنْ نَسَخُوا هذه الرسالةَ، أمَّا صُلْبُ كلامِ المُؤَلِّفِ فَيَبْدَأُ مِن قولِهِ: الحمدُ للهِ نَحْمَدَهُ ونَسْتَعِينُهُ.
وقد وُلِدَ الشيخُ بِحَرَّانَ يَوْمَ الاثنينِ عاشِرٍ، وقيلَ: ثانيَ عَشَرَ مِن شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ سنةَ سِتِّمِائَةٍ وإِحْدَى وَسِتِّينَ هجريَّةً، وسافرَ والِدُهُ بهِ وبإخوتِهِ عندَ جَوْرِ التتارِ إلى دِمِشْقَ أثناءَ سنةِ سِتِّمِائَةٍ وسبعٍ وسِتِّينَ، وقدْ بَرَعَ في الفنونِ العديدةِ، وهو ابنُ بِضْعَ عَشْرَةَ سنةٍ، فانْبَهَرَ أهلُ دِمِشْقَ مِن فَرْطِ ذكائِهِ، وسَيَلاَنِ ذِهْنِهِ، وقُوَّةِ حافظَتِهِ، وسرعةِ إدراكِهِ.

وقد سَمِعَ العلمَ عن أكثرَ مِن مِائَتَيْ شيخٍ، وجهادُهُ بلسانِهِ وسِنَانِهِ في سبيلِ اللهِ مشهورٌ معروفٌ، وقد حَسَدَهُ مُنَافِسُوهُ, وَسَعَوْا في مَكِيدَتِهِ بَغْياً وَعُدْوَانًا، وَجَرَى لهُ مِن المِحَنِ أشياءُ كثيرةٌ؛ منها مِحْنَتُهُ بسببِ تأليفِهِ الحَمَوِيَّةَ، ومنها سِجْنُهُ بسببِ فُتْيَاهُ في الطلاقِ.
ولَمَّا كانَ في سنةِ سَبْعِمِائَةٍ وسِتٍّ وعشرينَ وَقَعَ الكلامُ في شَدِّ الرحالِ وإعمالِ المَطِيِّ إلى قبورِ الأنبياءِ والصالحينَ، فَأَفْتَى الشيخُ رَحِمَهُ اللهُ بالمَنْعِ عن شَدِّ الرحالِ، فَحَصَلَ ما حَصَلَ مِن قُضَاةِ عَصْرِهِ، وعلماءِ زمانِهِ، فَحُبِسَ بأمرٍ مِن السلطانِ بِقَلْعَةِ دِمِشْقَ، وقد بَقِيَ مُقِيماً بهذهِ القلعةِ سَنَتَيْنِ وثلاثةَ أَشْهُرٍ وأياماً، ثم تُوُفِّيَ إلى رحمةِ اللهِ ورضوانِهِ سنةَ سَبْعِمِائَةٍ وثمانٍ وعشرينَ، وكان في هذهِ المُدَّةِ مُكِبًّا على العبادةِ والتلاوةِ وتصنيفِ الكُتُبِ والرَّدِّ على المُخَالِفِينَ، فما حالُهُ مع خصومِهِ إلاَّ كَمَا قالَ الشاعِرُ:

فإنْ تَسْجِنُوا القَسْرِيَّ لاَ تَسْجُنُوا اسْمَهُ = وَلاَ تَسْجُنُوا مَعْرُوفَهُ في القبائلِ
وَإِذَا صَحَّ لَنَا أَنْ نَسْلُبَ مَعْنَى بَيْتِ الشاعرِ قُلْنَا:

فَإِنْ تَسْجِنُوا التَّيْمِيَّ لاَ تَسْجُنُوا اسْمَهُ = وَلاَ تَسْجُنُوا مَأْثُورَهُ فِي العَوَالِمِ

قولُهُ:
(( الحمدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِن شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأَشْهَدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لهُ، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

الشرحُ:
هذه خُطبةُ الحَاجَةِ التي كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهَا أصحابَهُ.
روَى الإمامُ أحمدُ والأربعةُ, مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قالَ: عَلَّمَنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ في الحَاجَةِ: (إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ من شرورِ أنْفُسِنَا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ) والحَاجَةُ هنا عامَّةٌ، تُقَالُ في النكاحِ وغيرِهِ، كما في الروايةِ التى عندَ البَيْهَقِيِّ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ: إذا أرادَ أحدُكُم أنْ يَخْطُبَ لِحَاجَةٍ من النكاحِ أو غيرِهِ فَلْيَقُلْ: (الحمدُ للهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ) إلخ.

ويَشْهَدُ لهذا ما رُوِيَ من حديثِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ رَجُلاً كَلَّمَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شَيْءٍ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونَسْتَعِينُهُ، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أمَّا بَعْدُ: ).

قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ: والأحاديثُ كلُّهَا مُتَّفِقَةٌ على أنَّ (نَسْتَعِينُهُ) و (نَسْتَغْفِرُهُ) و (نَعُوذُ بهِ) بالنونِ، والشهادتانِ بالإفرادِ، (أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ) وقدْ ذَكَرَ لهذا عِلَّةً وَجِيهَةً وَنُكْتَةً بَدِيعَةً، وهي قولُهُ: (لَمَّا كانتْ كلمةُ الشهادةِ لا يَتَحَمَّلُهَا أَحَدٌ عن أَحَدٍ، ولا تُقْبَلُ النيابةُ بِحَالٍ أَفْرَدَ الشهادةَ بها وَلَمَّا كانت الاستعانةُ والاستعاذةُ والاستغفارُ أموراً تَقْبَلُ النيابةَ، فَيَسْتَغْفِرُ الرجلُ لغيرِهِ، ويستعينُ اللهَ لهُ، ويستعيذُ باللهِ أَتَى فيها بلفظِ الجَمْعِ، ولهذا يقولُ: ( اللَّهُمَّ أَعِنَّا وأَعِذْنَا واغْفِرْ لَنَا) قالَ: (وفيهِ مَعْنًى آخَرُ: وهو أنَّ الاستعانةَ والاستعاذةَ والاستغفارَ طَلَبٌ وإنشاءٌ، فَيُسْتَحَبُّ للطالبِ أنْ يطلُبَهُ لنفسِهِ ولإخوانِهِ المؤمنينَ، وأمَّا الشهادةُ فهِيَ إخبارٌ عن شهادتِهِ للهِ بالوحدانيَّةِ ولنبيِّهِ بالرسالةِ، وهي خبرٌ يُطَابِقُ عَقْدَ القلبِ وَتَصْدِيقَهُ، وهذا إنِّمَا يُخْبِرُ بهِ الإنسانُ عن نفسِهِ لعلمِهِ بحالِهِ، بخلافِ إخبارِهِ عن غيرِهِ، فإنَّهُ إنَّمَا يُخْبِرُ عن قولِهِ ونُطْقِهِ لا عن عَقْدِ قلبِهِ، واللهُ أعلمُ), (وقدْ جاءَ لفظُ الحمدِ في بعضِ الرواياتِ بغيرِ نونٍ، وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: نَحْمَدُهُ بالنونِ مع أنَّ الحمدَ لا يَتَحَمَّلُهُ أَحَدٌ عن أَحَدٍ،وَلاَ يَقْبَلُ النيابَةَ، فَإِنْ كانتْ هذه اللفظةُ محفوظةً فيهِ فقدْ جاءَتْ بهذهِ الصِّيغَةِ لتكونَ ألفاظُ الحمدِ والاستعانةِ والتعوُّذِ والاستغفارِ على نَسَقٍ واحدٍ).


قولُهُ:
( مَن يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لهُ ومَن يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لهُ).

الشرحُ:
يَعْنِي: أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بِيَدِ اللهِ, يَهْدِي مَن يشاءُ بفضْلِهِ ورحمتِهِ، ويُضِلُّ مَن يشاءُ بعدلِهِ وحكمتِهِ، وهوَ أعلمُ بمواقعِ فضلِهِ وعدلِهِ، وهو أعلمُ بِمَن ضَلَّ عن سبيلِهِ، وهو أعلمُ بِمَن اهْتَدَى, ولهُ في ذلكَ الحكمةُ البالغةُ، والحُجَّةُ الدامِغَةُ, قالَ اللهُ تعالى: { مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ ومَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُو المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} وقالَ: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لهُ وَيَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقالَ: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِي ومَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} إلى أمثالِ هذهِ الآياتِ الكريماتِ الدالَّةِ على هذا المَعْنَى، فمِن العُبَّادِ الشَّقِيُّ,وهو مَن أَضَلَّهُ بعدلِهِ، ومنهم السعيدُ,وهو مَن وَفَّقَهُ وَهَدَاهُ بفضلِهِ، فللهِ الحمدُ على فضلِهِ وعدلِهِ.

وهذه الخطبةُ كثيراً ما يَفْتَتِحُ بها المُؤَلِّفونَ كُتُبَهُم؛ اقتداءً بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيثُ جاءَ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كانَ في غالبِ أحوالِهِ يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ بخطبةِ الحاجَةِ؛ وذلكَ - واللهُ أعلمُ - لِمَا اشْتَمَلَتْ عليهِ مِن صدقِ اللَّجْأِ إلى اللهِ، وطَلَبِ العَوْنِ منهُ، والاعتمادِ عليهِ، والتَّبَرِّي مِن الحولِ والقوَّةِ إلاَّ بهِ سبحانَهُ، والإقرارِ بوحدانِيَّتِهِ، وطَلَبِ المغفرةِ منهُ، والاستعاذةِ بهِ من شُرُورِ النفْسِ وسيئاتِ الأعمالِ.

قولُهُ:
أمَّا بَعْدُ: فقد سَأَلَنِي مَن تَعَيَّنَتْ إجابتُهُمْ أنْ أَكْتُبَ لَهُمْ مَضْمُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنِّي في بعضِ المجالسِ من الكلامِ (في التوحيدِ، والصفاتِ)، وفي (الشرعِ، والقَدَرِ)، لِمَسِيسِ الحاجةِ إلى تحقيقِ هذينِ الأصلينِ، وكثرةِ الاضطرابِ فيهما؛ فَإِنَّهُمَا مع حاجةِ كلِّ أَحَدٍ إليهما، ومع أنَّ أهلَ النظرِ، والعلمِ، والإرادةِ، والعبادةِ لاَ بُدَّ أنْ يَخْطُرَ لهم في ذلكَ من الخواطرِ، والأقوالِ ما يحتاجونَ معهُ إلى بيانِ الهُدَى مِن الضلالِ، لاَ سِيَّمَا مع كثرةِ مَن خَاضَ في ذلكَ بالحَقِّ تارةً, وبالباطلِ تاراتٍ، وما يَعْتَرِي القلوبَ في ذلكَ مِن الشُّبَهِ التي تُوْقِعُهَا فِي أنواعِ الضلالاتِ).

الشرحُ:
يُشِيرُ المؤلِّفُ إلى أنَّ هذه الرسالةَ عبارةٌ عن مجموعةِ تقريراتٍ سَمِعَهَا منهُ تلاميذُهُ فَعَزَّ عليهم أنْ تُتْرَكَ دونَ تقييدٍ لها مع دعاءِ الحاجةِ إلى ذلكَ.
والظاهرُ أنَّ التلاميذَ الذينَ سَأَلُوهُ كِتَابَتَهَا كانوا مِن أهلِ (تَدْمُرَ)، كَمَا قالَ تلميذُهُ ابنُ عبدِ الهادِي عندَ بيانِهِ لمصنفاتِ الشيخِ قال: (ورسالةٌ كَتَبَهَا لِأَهْلِ تَدْمُرَ) انْتَهَى، وَتَدْمُرُ: بَلْدَةٌ مِن بُلْدَانِ الشامِ مِن أعمالِ حِمْصَ، وهذا وَجْهُ نسبةِ الرسالةِ إليها.

وقد بَيَّنَ المُؤَلِّفُ الأسبابَ التي مِن أَجْلِهَا أَلَّفَ هذهَ الرسالةَ وهيَ:
أولاً: مَسِيسُ الحاجةِ إلى تحقيقِ الأَصْلَيْنِ.
ثانياً: كثرةُ الاضطرابِ فيهما.

وقولُهُ: (فَإِنَّهُمَا مَعَ حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِمَا وَمَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّظَرِ) إلخ.
الظاهرُ أنَّ خبرَ ( إنَّ ) في قولِهِ ( فإنَّهُمَا ) إلى قولِهِ ( مِن الشُّبَهِ التي تُوقِعُهَا في أنواعِ الضلالاتِ ) محذوفٌ تقديرُهُ لَفِي أَمَسِّ الحاجةِ إلى التحقيقِ والإيضاحِ الكاملِ والبيانِ الشافِي، وقدْ أشارَ المُؤَلِّفُ فيما بينَ ذلكَ إلى الأسبابِ المُوجِبَةِ للتحقيقِ والإيضاحِ وهيَ:

أولاً: حاجةُ الناسِ إلى هذينِ الأصلينِ؛ إذْ بهما قِوامُ الدينِ.

ثانياً: أنَّ أهلَ النظرِ والعلمِ والإرادةِ والعبادةِ يَحْصُلُ عندَهم من الخَلَجاتِ النفسيَّةِ في هذا البابِ ما يحتاجونَ معهُ إلى بيانِ الهُدَى من الضلالِ، خاصةً وأنَّ هذا البابَ قد خَاضَ فيهِ بعضُ الناسِ بالحقِّ تارةً, وبالباطلِ مراتٍ عديدةً؛ مِمَّا سَبَّبَ بَعْثَ الشُّبَهِ، وإدخالَ الشكوكِ إلى القلوبِ،والذين يقومونَ بهذا الخَوْضِ هم الذينَ انْدَسُّوا في عِدَادِ المسلمينَ, لا رَغْبَةً في الإسلامِ, بلْ لِيَكِيدُوا لهُ ولأهلِهِ، فإنَّ العقيدةَ السَّلَفِيَّةَ مازالتْ على مَنَصَّةِ العِزَّةِ وقِمَّةِ الكرامةِ، حتى استطاعَ أعداءُ الإسلامِ أن يَنْدَسُّوا بينَ ظَهْرَانِيِّ المسلمينَ، وأنْ يُلْبِسُوا الحقَّ بالباطلِ، ويُزَخْرِفُوا الشُّبُهاتِ والشكوكَ باسمِ الدينِ، وفي صورةِ تَنْزِيهِ اللهِ عَمَّا لا يَلِيقُ بهِ، فَرَدُّوا آياتِ اللهِ، وَحَرَّفُوا كتابَ اللهِ، وعَطَّلُوا صفاتِهِ العُلْيَا وأسماءَهُ الحُسْنَى التي وَصَفَ بها نفسَهُ، وَوَصَفَهُ بها نَبِيُّهُ محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَازَالُوا يَجْلُبُونَ بَنَظَرِيَّاتِ اليُونَانِ، ومقالاتِ الفُرْسِ والهِنْدِ، وآراءِ الجَعْدِ بنِ دِرْهَمٍ، والجَهْمِ بنِ صَفْوَانَ، وإخوانِهِمَا مِن أولئكَ الزائِغِينَ المُلْحِدِينَ حتى رَاجَتْ تلكَ التُّرَّهاتُ، ومَضَتْ في طريقِهَا إلى القلوبِ المريضةِ تَفْرَحُ بِهَا، وإلى الأقلامِ المَوْبُوءَةِ تُسَجِّلُهَا على الصُحُفِ، وتُسَوِّدُ بها وجوهَ الكُتُبِ، وتَنْقُلُهَا جراثيمُ فَسَادٍ وإِفْسَادٍ إلى الذينَ فُتِنُوا بها, فَتُلَوِّثُ العقولَ والفِطَرَ.

وإذاً فَثَالِثُ الأسبابِ لتحقيقِ هذينِ الأصلينِ: هو كثرةُ مَن خاضَ في هذا البابِ بالحَقِّ تارةً, وبالباطلِ تاراتٍ.
ورابِعُهَا: ما يَعْتَرِي القلوبَ مِن الشُّبَهِ التي تُوقِعُهَا في أنواعِ الضلالاتِ، ونتيجةٌ لذلكَ أَصْبَحَتْ كُتُبُ التوحيدِ بِحَاجَةٍ إلى مَن يُصَقِّلُهَا، ويُبْعِدُ عنها تلكَ الترهاتِ والشُّبَهَ التي دَسَّهَا هؤلاءِ المُغْرِضُونَ، بحيثُ يعودُ التوحيدُ صافياً نَقِيًّا لا لُبْسَ فيهِ، كما كانَ في عهدِ الرسالةِ، حيثُ كانَ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُ عن ربِّهِ, ثم يَنْقُلُ عنهُ صحابتُهُ ذلكَ التوحيدَ ناصِعَ البياضِ.

والمقصودُ: أنَّ هذينِ الأصلينِ - بعدَ خَلْطِ كُتُبِ التوحيدِ بِعِلْمِ الكلامِ ومقالاتِ الفُرْسِ واليونانِ - قد أَصْبَحَا في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى التحقيقِ وبيانِ الهُدَى من الضلالِ، ولقد أَحْسَنَ القائلُ:

لا تَخْشَ مِن بِدَعٍ لَهُمْ وَحَوَادِثَ = مَا دُمْتَ فِي كَنَفِ الكِتَابِ وَحِرْزِهِ
مَنْ كَانَ حَارِسَهُ الكتابُ وَدِرْعَهُ = لَمْ يَخْشَ مِن طَعْنِ العَدُوِّ وَوَخْزِهِ
لاَ تَخْشَ مِن شُبُهَاتِهِمْ وَاحْمِلْ إِذَا = مَا قَابَلَتْكَ بِنَصْرِهِ وَبِعِزِّهِ
واللهِ مَا هَابَ امْرُؤٌ شُبُهَاتِهِمْ = إِلاَّ لِضَعْفِ القَلْبِ منهُ وَعَجْزِهِ

و (( الشبهاتُ )) جَمْعُ شُبْهَةٍ، وهي: بَرْزَخٌ بينَ الحَقِّ والباطلِ, وقدْ جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ بينَ كلِّ مُتَبَايِنَيْنِ بَرْزَخاً، و (أهلُ النظرِ والعلمِ والإرادةِ والعبادةِ) هم قومٌ مِن أهلِ السلوكِ والسَّيْرِ إلى اللهِ, (والنَّظَرُ): هو التَّأَمُّلُ والتَّفَكُّرُ في آياتِ اللهِ الأُفُقِيَّةِ والنفسيَّةِ (والعلمُ): هو النورُ الذي يَقْذِفُهُ اللهُ في القلبِ، وذلكَ بأنْ يَتَحَقَّقَ انْتِفَاعُهُ مِمَّا دَعَتْهُ إليهِ الرُّسُلُ، وَتَضُرُّرُهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ, (والإرادةُ) هي العَقْدُ الجازِمُ على المَسِيرِ، ومفارقةُ كلِّ قاطعٍ وعائِقٍ، ومرافقةُ كلِّ مُعِينٍ ومُوَصِّلٍ، (والعبادةُ) هي كمالُ الذُّلِّ والخضوعِ للهِ والانكسارِ لهُ والافتقارِ إليهِ مع كمالِ الحُبِّ.
وكلُّ هذه الأوصافِ التي ذَكَرَهَا المؤلِّفُ هي منازلُ أهلِ السَّيْرِ إلى اللهِ.


  #5  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 06:30 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


خُطْبَةُ الحاجَةِ
قولُه: ( الحمدُ للَّهِ، نَحْمَدُه، ونَسْتَعِينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللَّهِ منْ شُرورِ أنْفُسِنَا ومنْ سَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِه اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآلِه وصَحْبِه وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا ).

التوضيحُ

اسْتَهَلَّ شيخُ الإسلامِ رِسالتَه الفَريدةَ بِخُطْبَةِ الحاجَةِ المأثورةِ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدْ أَكْثَرَ العُلماءُ منْ ذِكْرِ الفوائدِ فيها، وطَلَبًا للاختصارِ أَسْتَخْلِصُ منها ما يَلِي:

أَوَّلاً: معنى الْحَمْدِ:

الثَّناءُ باللسانِ خاصَّةً على الجميلِ الاختياريِّ منْ نِعمةٍ وغيرِها.
وللإتيانِ بالجملةِ الاسميَّةِ دونَ الفِعْلِيَّةِ فائدتانِ:

1- الاقتداءُ بالكتابِ الكريمِ في سورةِ الفاتحةِ.

2- لدَلاَلَةِ الاسمِ على الدوامِ والثَّبَاتِ.
ثانيًا: هلْ هناكَ فَرْقٌ بينَ الْحَمْدِ والشكْرِ؟
ثَمَّ خِلافٌ، والراجِحُ الفَرْقُ؛ فإنَّ الشكْرَ هوَ البَذْلُ في مقابِلِ النِّعمةِ، كما قالَ الناظِمُ:

الشكْرُ بَذْلُ العَبْدِ ما أَوْلاَهُ = مَوْلاَهُ منْ نَعْمَاهُ في رِضَاهُ

فبَيْنَ الحمْدِ والشكْرِ فَرْقٌ منْ جِهَتَيْنِ:

1- أنَّ الحمْدَ ثناءٌ باللسانِ خاصَّةً، والشكْرَ يكونُ باللسانِ والقلْبِ والجوارحِ . ودليلُ كَوْنِ الشكْرِ بالجوارحِ ما يَلِي:
من القرآنِ، قولُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} .
من السُّنَّةِ: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا))، وذلكَ عندَما كانَ يقومُ الليلَ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فسأَلَتْهُ عائشةُ عنْ ذلكَ، فأَجَابَها بالحديثِ .
ولذلكَ قالَ الناظِمُ:

أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثلاثةً = يَدِي ولِساني والضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا

2- أنَّ الحمْدَ ثَنَاءٌ في مقابِلِ النِّعَمِ وغيرِها من الصِّفاتِ الْحَسَنَةِ، كالعلْمِ والقوَّةِ، بينَما الشكْرُ لا يكونُ إلَّا في مُقَابِلِ النِّعَمِ.

الْخُلاصَةُ: أنَّ العَلاقةَ بينَ الحمْدِ والشكْرِ عَلاقَةُ عمومٍ وخصوصٍ وَجْهِيٍّ، أيْ: منْ وَجْهٍ .فالحمْدُ أَعَمُّ منْ حيثُ الْمُوجِبُ لهُ، وهوَ الجميلُ منْ نِعمةٍ وغيرِها، وأَخَصُّ منْ حيثُ الأداةُ، وهوَ اللسانُ. والشكْرُ أخَصُّ منْ حيثُ الْمُوجِبُ لهُ، وهوَ النِّعمةُ فقطْ، وأعَمُّ منْ حيثُ الأداةُ، وهيَ القَلْبُ واللسانُ والجوارحُ.
قالَ ابنُ متالي الشِّنْقِيطِيُّ في تلخيصِ ذلك:

ونِسبَةُ العمومِ والْخُصوصِ مِنْ = وجهٍ فقطْ للحَمْدِ والشكْرِ تَعِنّ
فالحمْدُ بالثناءِ مُطْلَقًا بَــدَا = كان جَزاءَ نِعمَةٍ أو ابْتَـــدَا
والشكْرُ ما كانَ جَزَاءً للنِّعَمْ = فالحمْدُ منْ ذا الوجْهِ وَحْدَهُ أَعَمّ
والشكْرُ يأتي عندَ كلِّ شارِحِ = بالقلْبِ واللسانِ والجوارحِ
والحمْدُ باللسانِ لا غيرَ وُسِمْ = فالشكْرُ منْ ذا الوجْهِ وَحْدَهُ أعَمّ

ثالثًا: ( نَسْتَعِينُه ونَسْتَغْفِرُه )
أفعالٌ يُفْهَمُ منْ لفظِها الإخبارُ، لكنَّها مُتَضَمِّنَةٌ للطلَبِ المفهومِ من التاءِ والسينِ.
رابعًا: سببُ إفرادِ لفظِ الشَّهادةِ دونَ غيرِه
في هذهِ الْخُطبَةِ وَرَدَت الأفعالُ بصيغةِ جَمْعِ المتكلِّمِ، إلَّا الشهادةُ فوَرَدَتْ بالْمُفْرَدِ، فاستَنْبَطَ شيخُ الإسلامِ منْ ذلكَ حِكْمَتَيْنِ:

الأُولى: أنَّ هذهِ الأفعالَ ( الاستعانةَ والاستغفارَ والاستعاذةَ ) تَصِحُّ فيها النيابةُ بخلافِ الشهادتينِ.

الثانيةُ: أنَّ هذهِ الأفعالَ طَلَبٌ وسُؤَالٌ، فيُسْتَحَبُّ فيها الطلَبُ لنفسِه ولإخوانِه فجُمِعَتْ، أمَّا الشَّهادَةُ فخَبَرٌ عمَّا في القلْبِ؛ لذلكَ أُفْرِدَتْ.
ولكِنْ يُشْكِلُ على هذينِ التَّعْلِيلَيْنِ لفظُ الحمْدِ؛ فقدْ جاءَ مجموعًا معَ أنَّهُ لا تَصِحُّ فيهِ النيابةُ، وكذلكَ فهوَ خَبَرٌ وليسَ بطَلَبٍ؛ فلذلكَ الظاهِرُ أنَّ إفرادَ هذهِ الكلمةِ لبيانِ عَظَمَتِها ودَلالَتِها على التوحيدِ واللَّهُ أعْلَمُ .

خامسًا: في قولِه {مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ}، الهدايةُ نوعانِ على الْمَشهورِ:

1- هدايةُ توفيقٍ وإلهامٍ.
2- هدايةُ دَلالةٍ وإرشادٍ.

والفرْقُ بينَ الْهِدَايَتَيْنِ ما يَلِي:
1- أنَّ هدايةَ الإلهامِ لا يَقْدِرُ عليها إلَّا اللَّهُ، كما في قولِه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }. أمَّا هدايةُ الدَّلالةِ فيَقْدِرُ عليها العَبْدُ، كما في قولِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وهذا سبيلُ الجمْعِ بينَ الآيتيْنِ.
1- هدايةُ الإلهامِ خاصَّةٌ بالمؤمنينَ، ومنها قولُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ}. أمَّا هدايةُ الدَّلالةِ فعَامَّةٌ لجميعِ الخلْقِ، ومنها قَوْلُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}، ومنها قولُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}، أمَّا قولُه: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فيَشْمَلُ النوعينِ؛ لحاجَةِ الإنسانِ إليهما جميعًا.

سادسًا: كلمةُ التوحيدِ مُشْتَمِلَةٌ على نَفْيٍ وإثباتٍ:
ولها ثمانيةُ شروطٍ مجموعةٌ في قولِ الشاعِرِ:

عِلْمٌ يَقِينٌ وإخلاصٌ وصِدْقٌ معَ = مَحَبَّةٍ وانقيادٍ والقَبولِ لهـــا
وزِيدَ ثامنُها الكُفْرانُ منكَ بما = سِوَى الإلهِ من الأوثانِ قدْ أُلِّهَا


وتَفصيلُ هذهِ الشروطِ كما يَلِي:

1- العِلْمُ بمعناها نَفْيًا وإثباتًا، والدليلُ قولُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}.
2- اليقينُ الْمُنَافِي للشَّكِّ والرِّيبةِ، قالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} .
3- الإخلاصُ الْمُنَافِي للشِّرْكِ، قالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} .
4- الصِّدْقُ الْمُنَافِي للكَذِبِ الْمَانِعِ من النِّفاقِ، قالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }.
5- الْمَحَبَّةُ لهذه الكلِمَةِ وَلِمَا دَلَّتْ عليهِ، قالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .
6- الانقيادُ بحقوقِها طَلَبًا لِمَرْضَاتِ اللَّهِ، قالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .
7- القَبولُ الْمُنَافِي للرَّدِّ، قالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} .
8- الكُفْرُ بما يُعْبَدُ منْ دونِ اللَّهِ، قالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، أيْ: بالتوحيدِ والإسلامِ.
سابعًا: الصلاةُ على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصَحُّ ما قِيلَ فيها: إنَّها من اللَّهِ الثناءُ عليهِ في الْمَلأَِ الْأَعْلَى كما ثَبَتَ عنْ أبي العَالِيَةِ في صحيحِ البخاريِّ، ومِن العِبادِ طَلَبُ هذا الثناءِ من اللَّهِ. فإذا قيلَ: إنَّ اللَّهَ يُصَلِّي على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أيْ: يُثْنِي عليهِ. وإذا قيلَ إنَّ الملائكةَ تُصَلِّي على النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أيْ: تَدْعُو اللَّهَ أنْ يُثْنِيَ عليهِ .
ثامنًا: اشْتَمَلَتْ خُطْبَةُ الحاجَةِ على أقسامِ التوحيدِ الثلاثةِ والقَدَرِ والرسالةِ
فتوحيدُ الأُلُوهيَّةِ في قولِه: نَستعينُه، أيْ: على عِبادتِه. وأصْلُ الاستعاذةِ والاستغفارِ عِباداتٌ.
والأسماءُ والصِّفاتُ في قولِه: نَحْمَدُهُ، أيْ: نُثْنِي عليهِ بأسمائِه الْحُسْنَى وصِفاتِه الْعُلَى.
والربوبيَّةُ في جميعِ ذلكَ؛ لأنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ للتَّوْحِيدَيْنِ السابقينِ.
والقَدَرُ في قولِه: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مُضِلَّ لهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لهُ.
والرسالةُ في قولِه: وأَشْهَدُ أنَّ محمَّدًا عَبْدُه ورسولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .



موضوعُ الرسالةِ وسببُ التأليفِ

قولُه: ( أَمَّا بَعْدُ، فقدْ سَأَلَنِي مَنْ تَعَيَّنَتْ إجابتُهم أنْ أكتُبَ لهمْ مَضمونَ ما سَمِعُوهُ مِنِّي في بَعْضِ المجالِسِ من الكلامِ في التوحيدِ والصِّفاتِ، وفي الشرْعِ والقَدَرِ؛ لِمَسِيسِ الحاجةِ إلى تحقيقِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وكثرةِ الاضطرابِ فيهما، فإنَّهُما معَ حاجةِ كلِّ أَحَدٍ إليهما. ومعَ أنَّ أهْلَ النظَرِ والعلْمِ والإرادةِ والعِبادةِ لا بُدَّ أنْ يَخْطِرَ لهمْ في ذلكَ من الخواطِرِ والأقوالِ ما يَحتاجونَ معهُ إلى بيانِ الْهُدَى من الضَّلالِ، لا سِيَّمَا معَ كَثرةِ مَنْ خاضَ في ذلكَ بالْحَقِّ تَارةً وبالباطلِ تاراتٍ، وما يَعْتَرِي القلوبَ في ذلكَ من الشُّبَهِ التي تُوقِعُها في أنواعِ الضَّلالاتِ ) .

التوضيحُ

( أمَّا بَعْدُ ): كلمةٌ يُؤْتَى بها للانتقالِ منْ جُملةٍ إلى جُملةٍ، ومن الْمُقدِّمَةِ إلى الموضـوعِ، وهيَ نائبةٌ عنْ قولِنا: ( مَهْمَا يكُنْ منْ شيءٍ ) بعدُ . لذلكَ قالَ ابنُ مالِكٍ:

أَمَّا كَمَهْمَا يَكُ منْ شيءٍ وَفَا = لِتِلْوِ تِلْوِهَا وُجُوبًا أُلِفَا

أيْ أنَّ تِلْوَ تِلْوِها، وهوَ ما يَأْتِي بعدَ كلمةِ ( بعدُ )، يَجِبُ اقترانُها بالفاءِ إلَّا في مواضعَ، وقيلَ: إنَّ أوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بها داوُدُ عليهِ السلامُ، وهيَ المقصودُ بفَصْلِ الْخِطابِ في قولِه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}، كما نُقِلَ عنْ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ والشَّعْبِيِّ . وفي معنى الآيةِ أقوالٌ أُخْرَى أَشْهَرُ منْ هذا القولِ، وقيلَ: أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بها قُسُّ بْنُ ساعِدَةَ في خُطْبَتِه الطويلةِ يومَ عُكاظٍ، وفيها: "أَعادَ وَأَبْدَى، وأَمَاتَ وأَحْيَا، وخَلَقَ الذكَرَ والأنثى، رَبُّ الآخِرَةِ والأُولى، أمَّا بَعْدُ: فيا مَعْشَرَ إيادٍ، أينَ ثمودُ وعادُ؟ وأينَ الآباءُ والأجدادُ؟...". وقيلَ: بل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في خُطْبَةِ الحاجَةِ السابِقَةِ، واللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي هذهِ الفِقرَةِ يَذْكُرُ شيخُ الإسلامِ أسبابَ التأليفِ وموضوعَ الرسالةِ، فأَبْدَأُ:

أوَّلاً:بموضوعِ الرسالةِ: وهوَ الكلامُ في أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ.

الأوَّلُ: التوحيدُ والصِّفاتُ.
الثاني: الشرْعُ والقَدَرُ.

ثانيًا: أسبابُ تأليفِ الرسالةِ: الذي يَظْهَرُ أنَّهما سَبَبَانِ أَساسيَّانِ.

الأوَّلُ: أهَمِيَّةُ السائلِ: وتَظْهَرُ أهَمِّيَّتُهم في قولِه: ( مَنْ تَعَيَّنَتْ إِجَابَتُهم )، أيْ: وَجَبَ علَيَّ عَيْنِيًّا أنْ أَستجيبَ لسؤالِهم لي، وهمْ بعضُ طُلَّابِ الْعِلْمِ منْ أهْلِ تَدْمُرَ، وإليهم نُسِبَت الرِّسالةُ. وقيلَ: سُمِّيَتْ تَدْمُرِيَّةً لتَدْمِيرِهَا لشُبُهَاتِ أهْلِ الباطلِ، ولكنَّ الأوَّلَ أظْهَرُ لُغَةً ووَاقِعًا.

الثاني: أَهَمِّيَّةُ المسْئُولِ عنهُ: وهما الْأَصْلاَنِ السابقانِ. وتَتَجَلَّى أهَمِّيَّتُهُما فيما يَلِي:

1- حاجةُ كلِّ إنسانٍ إليهما؛ فالإنسانُ بفِطْرَتِه مُتَطَلِّعٌ إلى إدراكِ حقائقِ الأمورِ.
2-كَثْرَةُ الاضطرابِ الواقِعِ فيهما بينَ أهْلِ الْمِلَّةِ كما سَيَتَّضِحُ أثناءَ الرسالةِ.
3- أنَّ أهْلَ الإسلامِ، وهمْ قِسمانِ: أهْلُ العلْمِ والنَّظِرِ، وأهْلُ الإرادةِ والسلوكِ والعِبادةِ، لا بُدَّ أنْ يَخْطِرَ لهم من الخواطِرِ والأقوالِ ما يَحتاجونَ معها إلى تَمييزٍ بينَ الْهُدَى والضَّلالِ، فأَهْلُ العلْمِ لهمْ عِنايةٌ بالقضايا العِلْمِيَّةِ، وأهلُ العِبادةِ لهم عِنايةٌ بالقضايا العَمَلِيَّةِ، وكُلَّمَا جَمَعَ الإنسانُ بينَهما كانَ أَكْمَلَ .

قولُه: ( أَهْلَ النَّظَرِ )، قدْ يَقْصِدُ بهما الْمُتَكَلِّمِينَ، وسُمُّوا بذلكَ لقولِهم بوجوبِ النظَرِ والاستدلالِ، أوْ لادِّعائِهم التحقيقَ والتدقيقَ في العِلْمِيَّاتِ .
4-كثرةُ مَنْ خاضَ في هذين الأَصْلَيْنِ إمَّا بالحَقِّ أوْ بالباطِلِ؛ فلذلكَ كانَ لِزَامًا الحُكْمُ بينَهُم.
5- كَثْرَةُ الشُّبُهَاتِ الواردةِ على القلوبِ في هذا البابِ والتي تُوقِعُ صاحبَها في أنواعِ الضَّلالاتِ.

ملحوظةٌ: قولُه: ( فإنَّهما معَ حاجَةِ كلِّ أحَدٍ ... )، هذهِ العبارةُ تَفْتَقِرُ إلى خبَرٍ لإنَّ، ولَعَلَّهُ سَقَطَ كما نَبَّهَ عليهِ بعضُ الشُّرَّاحِ؛ فإنَّهُ لا يَستقيمُ لُغةً، ولذلكَ يُقَدَّرُ الخبَرُ فيُقالُ: ( فإنَّهما مُهِمَّانِ معَ حاجةِ كلِّ أَحَدٍ ... )، أوْ نحوَ ذلكَ مِمَّا تَكْتَمِلُ بهِ الْعِبارةُ.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
التدمرية, خطبة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:58 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir