دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > لمعة الاعتقاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 2 ذو القعدة 1429هـ/31-10-2008م, 11:40 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي خطبة لمعة الاعتقاد


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمْدُ لِلَّهِ المحَمُودِ بِكُلِّ لِسَانٍ، المَعْبودِ في كُلِّ زَمَانٍ، الَّذِي لاَ يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ، وَلاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، جَلَّ عَنِ الأشْبَاهِ والأَنْدَادِ، وَتَنَزَّهَ عنِ الصَّاحِبَةِ والأَوْلادِ، ونَفَذَ حُكْمُهُ في جَميعِ العِبَادِ، ولا تُمَثِّلُهُ العُقُولُ بِالتَّفْكِيرِ، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ القُلوبُ بالتَّصْوِيرِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
لَهُ الأسماءُ الحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ العُلَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَقَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزّةً وَحُكْمَاً، ووَسِعَ كلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}.

مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِه نَفْسَهُ في كِتَابهِ العَظِيمِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة والتسليم.


  #2  
قديم 4 ذو القعدة 1429هـ/2-11-2008م, 09:43 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح لمعة الاعتقاد للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

(1)مَا تَضَمَّنَتْهُ خُطْبَةُ الكِتَابِ:
تَضَمَّنَتْ خُطْبَةُ المؤلِّفِ في هذا الكتابِ مَا يأتِي:

1 -البَداءةُ بالبَسْمَلَةِ اقْتِدَاءً بكتابِ اللهِ العظيمِ(1)، واتِّبَاعًا لسنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2).
وَمَعْنَى: (بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ): أيْ: أفْعَلُ الشيءَ مُسْتَعِينًا ومُتَبَرِّكًا بكُلِّ اسمٍ منْ أسماءِ اللهِ تعالى الموصوفِ بالرحمةِ الواسِعَةِ.
ومعنى (اللهِ): المأْلُوهُ؛ أي: المعبودُ حبًّا وتَعْظِيمًا، وتَأَلُّهًا وشَوْقًا.
و(الرحمنِ): ذو الرحمةِ الواسِعَةِ.
و(الرحيمِ): المُوصِلُ رحمتَهُ مَنْ شاءَ منْ خَلْقِهِ.
فالفرقُ بينَ (الرحمنِ والرحيمِ) أن الأوَّلَ باعتبارِ كونِ الرحمةِ وَصْفًا لهُ، والثانيَ باعتبارِها فِعْلاً لهُ يُوصِلُها مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِهِ(3).
2 -الثناءُ على اللهِ بالحمدِ.
و(الحمدُ): ذِكْرُ أوصافِ المحمودِ الكامِلَةِ وأفعالِهِ الحميدَةِ، معَ المَحَبَّةِ لَهُ والتعظيمِ(4).
3 -أنَّ اللهَ محمودٌ بكُلِّ لسانٍ، ومعبودٌ بكُلِّ مَكَانٍ؛ أيْ: مُسْتَحِقٌّ وجائِزٌ أنْ يُحْمَدَ بكلِّ لُغَةٍ، ويُعْبَدَ بكلِّ بُقْعَةٍ.
4 -سَعَةُ عِلْمِ اللهِ بكونِهِ لا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مكانٌ، وكمالُ قُدْرَتِهِ وإحاطَتِهِ حيثُ لا يُلْهِيهِ أمْرٌ عَن أَمْرٍ.
5 -عَظَمَتُهُ وكِبْرِيَاؤُهُ وتَرَفُّعُهُ عنْ كلِّ شَبِيهٍ ونِدٍّ مُمَاثِلٍ لكمالِ صفاتِهِ مِنْ جميعِ الوُجوهِ.
6 -تَنَزُّهُهُ وتَقَدُّسُهُ عنْ كلِّ زَوْجَةٍ وَوَلَدٍ؛ وذلكَ لكَمَالِ غِناهُ.
7 -تَمامُ إرادَتِهِ وسُلْطَانِهِ بنفوذِ قضائِهِ في جميعِ العِبادِ، فلا يَمْنَعُهُ قوَّةُ مُلْكٍ، ولا كَثْرَةُ عَدَدٍ ومَالٍ.
8 -عَظَمَةُ اللهِ فوقَ ما يُتَصَوَّرُ، بحيثُ لا تَسْتَطِيعُ العُقُولُ لهُ تَمْثِيلاً، ولا تَتَوَهَّمُ القلوبُ لهُ صُورَةً(5)؛ لأنَّ اللهَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
9 -اخْتِصَاصُ اللهِ بالأسماءِ الحُسْنَى والصفاتِ العُلَى.
10 -استواءُ اللهِ على عرْشِهِ، وهوَ عُلُوُّهُ واسْتِقْرَارُهُ عليهِ على الوجْهِ اللاَّئِقِ بهِ.
11 -عمومُ مُلْكِهِ للسماواتِ والأرضِ وما بينَهما وما تحتَ الثَّرَى.
12 -سَعَةُ عِلْمِهِ وقُوَّةُ قَهْرِهِ وحُكْمِهِ، وأنَّ الخَلْقَ لا يُحِيطُونَ بهِ عِلْمًا؛ لقُصُورِ إدراكِهم عمَّا يَسْتَحِقُّهُ الربُّ العظيمُ مِنْ صفاتِ الكمالِ والعظمةِ.


حاشية الشيخ : صالح العصيمي على شرح ابن عثيمين
(1)الاقتداء الذي ذكره المصنف ـ رحمه الله ـ تبعاً لغيره إما أن يكون متعلقاً بتنزيل القرآن أو تدوينه، فأما تنزيل القرآن فليس أوله (بسم الله الرحمن الرحيم) بل أوله
{اقرأ باسم ربك الذي خلق}، وأما تدوين القرآن فلم يقع لنا مكتوباً مجموعاً على صورته المعروفة إلا في عهد الصحابة، فالمعتمد إذن اتباع آثار الصحابة في استفتاحهم للقرآن لما رسموه بالبسملة، وتحقيق الكلام على هذه المسألة ذكرناه في غير هذا الموضع.
(2)في مكاتباته ومراسلاته لا خطبه فإنما كان يستفتحها بالحمد.
(3)فالرحمن دالٌّ على صفة رحمة الله حيث تعلقت بذاته، والرحيم دالٌّ عليها حيث تعلقت بالمخلوقين فوصلت إليهم كما حققه
ابن القيم في " بدائع الفوائد " (1/24).
وإلى هذا أشرت بقولي:


ورحمـةٌ لـلـه مـهمـا عُلقتْ =بـذاته فالاسم رحمنٌ ثبـتْ

أو عُلِّقت بخلقه الذي رحمْ= فسمه الرحيمَ فاز من سَلِمْ


(4)وهذا الذكر باللسان مواطئاً للقلب فهو إخبار بمحاسن المحمود مع حبه وتعظيمه.
(5)سبق تقرير معنى ما يقع في القلوب من توهم أسماء الله وصفاته، والتفريق بين المعنى الكلي المشترك لها وما زاد على ذلك.


  #3  
قديم 4 ذو القعدة 1429هـ/2-11-2008م, 11:36 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين


(1)نَبْدَأُ في شرحِ هذهِ المقدِّمةِ ثمَّ ما بعدَها:
فقدْ ذَكَرْنَا في مقدِّمةِ الشَّرحِ سببَ تأليفِهِ لهذا، وهو أنَّهُ فَقِيهٌ أَشْغَلَ وَقْتَهُ في الفقهِ، وَيَظْهَرُ ذلكَ في مُؤَلَّفاتِهِ، ولكنْ لمْ يَمْنَعْهُ انْشِغَالُهُ بالفقهِ أنْ يَكْتُبَ في العقيدةِ، فألَّفَ فيها عِدَّةَ مؤلَّفاتٍ، ولكنَّها نَبْذَةٌ صغيرةٌ.

وهُوَ أبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، صاحبُ المؤلَّفاتِ في الفقهِ؛ (كالمُغْنِي) و (الكافِي) و (المُقْنِعِ) و (العُمْدَةِ) و (الرَّوْضَةِ) وغيرِهَا من المؤلَّفاتِ.
يقولُ في هذهِ المقدِّمةِ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ المحمودِ بكلِّ لسانٍ، المعبودِ في كلِّ زمانٍ، الَّذي لا يَخْلُو منْ عِلْمِهِ مَكَانٌ، ولا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عنْ شأنٍ).
أوَّلاً:ابْتَدَأَ كَغَيْرِهِ بالبسملةِ : اقْتِدَاءً بالكتابِ العزيزِ، حيثُ بَدَأَ بالبسملةِ، وَبَدَأَ بالحمدِ للهِ عَمَلاً بالحديثِ المشهورِ: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللهِ))، وفي روايةٍ: ((بِالْحَمْدِ للهِ))، ((فَهُوَ أَبْتَرُ))، ((أَقْطَعُ)) ، ((أَجْذَمُ))، والمَعْنَى: أنَّهُ ناقِصُ البركةِ.
يَذْكُرُ المؤلِّفونَ هذا الحديثَ في مقدِّماتِ شُرُوحِهِم كَمَا ذَكَرَهُ الْبَهْوَتِيُّ في مُقَدِّمةِ شرحِهِ على زادِ المُسْتَقْنِعِ، وَشَرْحِهِ على الإقناعِ، وشَرْحِهِ على المُنْتَهَى وغيرِهِ.
ثمَّ بَعْدَ ذلكَ ابْتَدَأَ بالحمدِ للهِ :
والحمدُ في اللُّغةِ : الثَّناءُ على الإنسانِ، كالثَّناءِ عليهِ بِخِصَالِهِ الحميدةِ، وبِعَقْلِهِ، وَبِدِيَانَتِهِ، وبأمانتِهِ، وبكَرَمِهِ، وبجُودِهِ، وبحِلْمِهِ، وبصَفْحِهِ، وبصِدْقِهِ، وأمانتِهِ، يَعْنِي: بالخصالِ الَّتي يُحْمَدُ عليها، الَّتي يُبَالَغُ في الثَّناءِ عليهِ لأَِجْلِهَا، فهذا الثَّناءُ يُسَمَّى حَمْدًا.
فإذا أَثْنَى عليهِ بأشياءَ لا صُنْعَ لهُ فيها، كما لوْ أَثْنَى عليهِ بأنَّهُ جميلٌ، أوْ طويلٌ، أوْ قصيرٌ، أوْ لجمالِ صورتِهِ، وطولِ قَامتِهِ، وفصاحتِهِ، وذكائِهِ، ونحوِ ذلكَ، فهذا الثَّناءُ يُسَمَّى مَدْحًا.
والفرقُ بينَ المدحِ والحمدِ:
الحمدُ :الثَّناءُ بالصِّفاتِ الَّتي يَتَخَلَّقُ بها؛ كالصِّدقِ، والأمانةِ، والعلمِ، والحِلْمِ، وما أَشْبَهَهَا.
وأمَّا المدحُ: فهوَ الثَّناءُ عليهِ بالصِّفاتِ الَّتي جُبِلَ عليها، ولا صُنْعَ لهُ فيها كالجمالِ، والطُّولِ، والخِلْقَةِ، وما أَشْبَهَ ذلكَ.
فاللهُ تَعَالَى يُثْنَى عليهِ بكلِّ الصِّفاتِ ؛ فَيُثْنَى عليهِ بصفاتِ الكمالِ ، وبصفاتِ الجمالِ ، وبصفاتِ الأفعالِ ، فَيَسْتَحِقُّ أنْ يُثْنَى عليهِ بكلِّ الصِّفاتِ، فهو أهلٌ للحمدِ، وهو المُسْتَحِقُّ لهُ ؛ ولأجلِ ذلكَ حَمِدَ نفسَهُ في كثيرٍ من السُّوَرِ كالفاتحةِ ، وسورةِ الأنعامِ ، وسورةِ الكهفِ ، وسورةِ سبأٍ ، وسورةِ فاطرٍ ، ابْتَدَأَهَا اللهُ بالحمدِ للهِ ربِّ العالمينَ.
وكذلكَ أَخْبَرَ بأنَّهُ المُسْتَحِقُّ للحمدِ ، وبأنَّهُ يُثْنَى عليهِ بالحمدِ في قولِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وغيرِ ذلكَ.
وكثرةُ ذِكْرِ الحمدِ دليلٌ على أنَّهُ ذِكْرٌ يُذْكَرُ بهِ اللهُ، وَيُمْدَحُ بهِ، وَيُثْنَى عليهِ بهِ، وأنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُحِبُّ مَنْ يَحْمَدُهُ، وَيُحِبُّ مَنْ يُثْنِي عليهِ وَيُثِيبُهُم على ذلكَ، وأنَّهُ أهلٌ للحمدِ وأهلٌ للثَّناءِ.
أمَّا تَعْرِيفُ الحمدِ في الاصطلاحِ ، فَذُكِرَ لهُ تَعْرِيفَانِ:
التعريفُ الأوَّلُ : أنَّ الحمدَ فِعْلٌ يُنْبِئُ عنْ تَعْظِيمِ المُنْعِمِ بسببِ كونِهِ مُنْعِمًا على الحامدِ وغيرِهِ، وهذا كأنَّهُ يَخْتَصُّ بحمدِ المُنْعِمِ، يَعْنِي: لا يُحْمَدُ إلاَّ بِسَبَبِ كونِهِ مُنْعِمًا، وأنَّ الحمدَ فِعْلٌ يُنْبِئُ عنْ تَعْظِيمِهِ.
ولا شَكَّ أنَّهُ مُسْتَحِقٌّ للتَّعظيمِ،ولا شَكَّ أنَّ الحمدَ تَعْظِيمٌ، ولكنَّ الصَّحيحَ أنَّ اللهَ تَعَالَى يُحْمَدُ على كلِّ حالٍ؛ يُحْمَدُ على الخيرِ، ويُحْمَدُ على الضَّرَرِ، وذلكَ أنَّهُ إنَّما يُسَلِّطُ الضررَ والشرَّ أو البلاءَ لِحِكَمٍ هوَ أَعْلَمُ بها؛ فَلأَِجْلِ ذلكَ يُحْمَدُ على الخيرِ، وَيُحْمَدُ على الشرِّ.
ولا يُحْمَدُ على الشرِّ سِوَاهُ،وذلكَ أنَّهُ لا يَبْتَلِي بالشرِّ كالمَصَائِبِ والآفاتِ والفقرِ والأذَى والأمراضِ وَنَحْوِهَا إلاَّ لِحِكَمٍ ومصالحَ؛ فَلأَجْلِ ذلكَ تَحْمَدُهُ إذا أَصَابَكَ مرضٌ وألمٌ، وإنْ أَصَابَكَ فَقْرٌ أوْ أذًى فإنَّكَ تَحْمَدُهُ على ذلكَ، وإنْ أَصَابَكَ سَجْنٌ أوْ جَلْدٌ أوْ أذًى منْ خلقٍ يُسَلِّطُهُم اللهُ عليكَ، فإنَّكَ تَحْمَدُ اللهَ على ذلكَ.
وإنْ كانَ ذلكَ لا يَسْتَدْعِي الفرحَ بذلكَ، ولا الرِّضا بهِ.
وبكلِّ حالٍ فهذا يُبَيِّنُ أنَّ في هذا التعريفِ شَيْئًا من الخَلَلِ، هُوَ قولُهُم : إنَّهُ فِعْلٌ يُنْبِئُ عنْ تعظيمِ المُنْعِمِ بسببِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا على الحامدِ وغيرِهِ، فاللهُ تَعَالَى يُعَظَّمُ لكونِهِ مُنْعِمًا، ولكونِهِ مُبْتَلِيًا.
التعريفُ الثاني للحمدِ : أنَّ الحمدَ ذِكْرُ مَحَاسِنِ المحمودِ معَ حُبِّهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلاَلِهِ.
ولعلَّ هذا التعريفَ أَسْلَمُ ، ولكنَّ الحمدَ لا يَسْتَلْزِمُ أنْ تَذْكُرَ المحاسنَ كُلَّهَا، ولكنْ إنَّما يُحْمَدُ حَمْدًا مُطْلَقًا، فتقولُ : الحمدُ للهِ. ولوْ لمْ تَذْكُرْ محاسِنَهُ الَّتي حَمِدْتَهُ عليها، فَقَوْلُهُم: (ذِكْرُ محاسنِ المحمودِ) كأنَّهم يَقُولُونَ: إنَّ ذلكَ على وجهِ الإجمالِ.
نَحْمَدُهُ : أيْ نَذْكُرُ محاسنَهُ سَوَاءً بالقلبِ أوْ باللسانِ.
فَمَثَلاً في أوَّلِ سورةِ الفاتحةِ ابْتَدَأَهَا اللهُ بقولِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، هذا منْ مَحَاسِنِهِ .

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذا منْ محاسنِهِ .
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} هذا منْ مَحَاسِنِهِ .
وكذلكَ في سورةِ الأنعامِ: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، هذا منْ مَحَاسِنِهِ.
وفي أوَّلِ سورةِ الكهفِ: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} ، هذا منْ محاسنِهِ ، {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}، هذا منْ محاسنِهِ، وَأَشْبَاهِ ذلكَ.
والحمدُ : هوَ ذِكْرُ مَحَاسِنِ المحمودِ وَذِكْرُ فَضَائِلِهِ، وَذِكْرُ صِفَاتِهِ الحميدةِ معَ حُبِّهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلاَلِهِ.
أيْ : أَنَّ الحَمْدَ يَسْتَدْعِي من الحامدِ هذهِ الثلاثةَ؛ الحُبَّ، والتَّعظيمَ، والإجلالَ.
فَهَذَانِ التعريفانِ اصْطَلاَحِيَّانِ للحمدِ.
ولا شَكَّ أنَّهُ سُبْحَانَهُ أهلُ الحمدِ كما شَرَعَ ذلكَ في الصَّلاةِ، فالمُصَلِّي إذا رَفَعَ من الركوعِ يَقُولُ الإمامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، والمَأْمُومُونَ والإمامُ كُلُّهُم يَحْمَدُونَ اللهَ، ويقولونَ: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)). وفي بعضِ الرِّواياتِ: ((اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ)) ، كلُّ ذلكَ في صفةِ الحمدِ.
ولا شَكَّ أنَّ العبدَ إذا حَمِدَ اللهَ كانَ قدْ عَبَدَهُ بهذهِ الكلمةِ (الحَمْدُ للهِ) ، وَاجْتَمَعَ كَوْنُهُ مُعَظِّمًا لهُ، وَمُحِبًّا، وَمُجِلاًّ لهُ بهذهِ الكلمةِ ، فقدْ أَدَّى عِبَادَةً، وأيَّ عبادةٍ.
وإنْ كانَ للحمدِ أيضًا أسبابٌ ، إذا تَجَدَّدَتْ نِعْمَةٌ ، فإنَّكَ تَحْمَدُهُ عليها ، ونِعَمُ اللهِ تَتَجَدَّدُ بالغُدُوِّ والآصالِ، كما في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الأُكْلَةَ أَوْ يَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا)) ، وأيُّنَا يَسْتَغْنِي عن الأكلِ والشربِ في اليومِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ .
إذاً: فَإِذَا تَجَدَّدَتْ هذهِ النِّعمةُ فإنَّكَ تَحْمَدُهُ عليها.
كذلكَ أيضًا تَقُولُ بعدَ الفراغِ من التَّخَلِّي:((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذَاقَنِي لَذَّتَهُ، وَأَبْقَى فِيَّ مَنْفَعَتَهُ، وَأَذْهَبَ عَنِّي أَذَاهُ)) ، أوْ بعدَ الخروجِ من الخَلاَءِ فَتَقُولُ: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَذَى وَعَافَانِي)) ، فَلاَ يَسْتَغْنِي الإنسانُ أنْ يَحْمَدَ اللهَ في كلِّ الحالاتِ.
إذاً: فَاللهُ تَعَالَى مَحْمُودٌ دَائمًا؛ إمَّا بلسانِ الحالِ، وإمَّا بلسانِ المقالِ .
وقولُهُ :(الحمدُ للهِ المحمودُ بكلِّ لسانٍ) : قدْ تَقُولُ:كيفَ يَكُونُ ذلكَ معَ أنَّ كثيرًا من الأَلْسُنِ لا يَعْرِفُونَ اللهَ ، أوْ لا يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِهِ فَضْلاً عنْ أنْ يَحْمَدُوهُ ؟
والجوابُ: أنَّ الأَلْسُنَ ناطقةٌ بِحَمْدِهِ ؛ إمَّا بلسانِ الحالِ ، وإمَّا بِلِسَانِ المَقَالِ ، فَأَلْسِنَةُ الكَفَرَةِ ولوْ كانتْ لا تَذْكُرُ اللهَ، ولوْ كَانُوا يَنْسِبُونَ النِّعَمَ إلى غيرِ اللهِ، ولوْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بهِ وَبِنِعَمِهِ، ولوْ كانوا يَصْرِفُونَ العبادةَ لغيرِهِ ، ولكنَّ لسانَ حالِ أحدِهِم مُعْتَرِفٌ بأنَّهُ مُحْتَاجٌ إلى رَبٍّ ، وأنَّهُ لا يَسْتَغْنِي عنهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، لِسَانُ حالِ أحدِهِم مُعْتَرِفٌ بأنَّهُ مخلوقٌ مُفْتَقِرٌ إلى الخالقِ ، وذلكَ الخالقُ لهُ الفضلُ عليهِ، فَلاَ بُدَّ أنْ يَكُونَ صاحبُ الفضلِ أهلاً أنْ يُثْنَى عليهِ ، وأهلاً أنْ يُحْمَدَ ، إذًا فهوَ حامدٌ بلسانِ حالِهِ شاءَ أمْ أَبَى .
فهذا دليلٌ على أنَّ اللهَ تَعَالَى محمودٌ بكلِّ لسانٍ ؛ منْ لسانِ حالٍ ، أوْ لسانِ مَقَالٍ.
وقدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أنَّ جميعَ المخلوقاتِ ذليلةٌ لهُ كما في قولِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} ، إلى آخرِ آياتِ السُّجودِ.
والتسبيحُ لا شَكَّ أنَّهُ عِبَادةٌ ، وأنَّها قَطْعِيَّةُ الحصولِ ولوْ كَرْهًا ؛ ولهذا قالَ تَعَالَى في آيةِ الرَّعدِ : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ} ، يَعْنِي : وإنْ لم يَسْجُدُوا فإنَّهُ يَسْجُدُ ظِلاَلُهُم ، إذًا فَهُمْ يَعْتَرِفُونَ شَاءُوا أمْ أَبَوْا بأنَّهُم خاضِعُونَ وَذَلِيلُونَ للهِ تَعَالَى .
(2) لا شَكَّ أنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ أنْ يُعْبَدَ في كلِّ زمانٍ ، وما ذَاكَ إلاَّ أنَّهُ ربُّ العِبَادِ في كلِّ الأزمنةِ، والرَّبُّ هوَ المعبودُ؛ ولأجلِ ذلكَ أَمَرَ عِبَادَهُ أن يَعْبُدُوهُ لِكَوْنِهِ رَبًّا، يقولُ اللهُ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} بَدَأَ بِكَوْنِهِ رَبًّا ، وما دامَ أنَّ الخلقَ كلَّهُم مَرْبُوبُونَ ، فإنَّ عليهم أنْ يَعْبُدُوا رَبَّهُم، فالرَّبُّ تَعَالَى معبودٌ في كلِّ زمانٍ ، وإنْ كانَ هُنَاكَ مَنْ لا يَعْبُدُ اللهَ عِبَادَةً حقيقيَّةً كالكُفَّارِ والمنافقِينَ ونحوِهِم ، ولكنَّهُم في الأصلِ عَبِيدٌ للهِ لا يَسْتَغْنُونَ عن التَّعَبُّدِ لهُ.
وأيضًا فَمَعْلُومٌ أنَّ كلَّ زمانٍ من الأزمنةِ لا يَخْلُو فيها الأرضُ عنْ أنْ يُوجَدَ فيهِ عِبَادٌ عَابِدُونَ ، ولوْ خَلَتْ بلادٌ لم تَخْلُ البلادُ الأُخْرَى ، ولوْ خَلاَ يومٌ فَلَمْ يَخْلُ اليومُ الثاني ، فَلاَ بُدَّ في زمانٍ وساعةٍ مِنْ وُجودِ منْ يَعْبُدُ اللهَ، فاللهُ تَعَالَى مَعْبُودٌ في كلِّ زمانٍ.
(3) فَهَذَا مَبْدَأُ الدُّخُولِ في الصِّفَاتِ:
بَدَأَ في صفاتِ اللهِ تَعَالَى بهذهِ الجملةِ : (لاَ يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ) ، مَعْلُومٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أنَّ ربَّنَا سُبْحَانَهُ وتَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَيْنَا وعالِمٌ بِأَحْوَالِنَا وَيَعْلَمُ أَسْرَارَنَا وَعَلاَنِيَّتَنَا؛ فَلأَِجْلِ ذلكَ يَذْكُرُ دَائِمًا هذا الأمرَ، مثلَ قولِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيْدِ}.
يَعْلَمُ اللهُ خَطَرَاتِ النَّفسِ وَوَسَاوِسَ الصَّدرِ وَهَوَاجِسَ القلبِ، بلْ يَعْلَمُ أَخْفَى مِنْ ذلكَ .
فَسَّرَ بعضُ العلماءِ قولَهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ، أنَّ السِّرَّ: ما أَضْمَرَهُ العبدُ في قلبِهِ ولم يُحَرِّكْ بهِ شَفَتَيْهِ فَضْلاً عنْ أنْ يَتَكَلَّمَ بهِ عندَ أَحَدٍ ، وَأَخْفَى من السِّرِّ هوَ ما سَوْفَ يَخْطُرُ لهُ فيما بعدُ، قبلَ أنْ يُحَدِّثَ بهِ نَفْسَهُ، ولكنَّ اللهَ يَعْلَمُ أنَّهُ سَيَفْعَلُهُ فيما يُسْتَقْبَلُ أوْ سَيَخْطُرُ بِبَالِهِ .

إذاً: فاللهُ تَعَالَى لا يَخْلُو منْ عِلْمِهِ مَكَانٌ أيُّ مَكَانٍ، صغيرٌ أوْ كبيرٌ ، يَعْلَمُ ما يَكُونُ فيهِ ، يَعْلَمُ مَنْ يَكُونُ في هذا المكانِ وَعَدَدَهُم ، وَنِيَّاتِهِم ، وَأَسْرَارَهُم وَعَلاَنِيَّتَهُم ، لا يَشْغَلُهُ هذا عن المكانِ الثَّاني وعن البلادِ الثَّانيةِ ، وعنْ أهلِ السَّماواتِ وعنْ أهلِ الأرضِ ، فإنَّهُ كلَّ يَوْمٍ هوَ في شأنٍ ، لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عنْ شأنٍ ، يَعْلَمُ كلَّ مكانٍ وما يَحْدُثُ فيهِ.

قُلْتُ : إنَّ هذا أَوَّلُ ما بَدَأَ في الصِّفاتِ ؛ حَيْثُ ذَكَرَ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى ، وأنَّهُ وَاسِعٌ وَمُحِيطٌ بالأشياءِ ، وَعَلِيمٌ بها .
وَيُفَسِّرُ ابنُ قُدَامَةَ رَحِمَهُ اللهُ بهذهِ الكلمةِ (الآياتِ الَّتي فيها المَعِيَّةُ) ، يُشِيرُ إلى أنَّها مَحْمُولَةٌ على العِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}.
ذلكَ مَعِيَّةُ العلمِ والاطِّلاعِ ، والقُرْبِ والهَيْمَنَةِ والقُدْرَةِ ، والنَّظَرِ والرُؤْيَةِ ، هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم يُرَاقِبُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْكُم ، وَيَعْلَمُ أَسْرَارَكُم ، وَيَعْلَمُ أَعْمَالَكُم ، وكذلكَ قولُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} ، النَّجوى الكلامُ الخَفِيُّ بينَ ثلاثةٍ يَعْلَمُهُم، فَكَأَنَّهُ رَابِعُهُم أوْ خَامِسُهُم ، {وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} ، يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَهُ وَمَا يَتَنَاجَوْنَ بهِ.
وَلَعَلَّ ابنَ قُدَامَةَ رَحِمَهُ اللهُ يَرُدُّ بهذهِ الجملةِ على المعتزلةِ والحُلُولِيَّةِ والفلاسفةِ والكثيرِ من الصوفيَّةِ والجَهْمِيَّةِ، فهؤلاءِ عَقِيدَتُهُم والعياذُ باللهِ إنكارُ صفةِ العُلُوِّ ، وادِّعاءُ أنَّ اللهَ بذاتِهِ في كلِّ مكانٍ ؛ فَلِذَلِكَ قالَ: (لاَ يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ) رَدًّا على مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ بِذَاتِهِ في كلِّ مكانٍ ، وهذا قولُ الحُلُوليَّةِ الَّذينَ يَدَّعُونَ أنَّهُ حالٌّ بذاتِهِ في المخلوقاتِ كُلِّها ، وهذا عَيْنُ الكفرِ وعينُ الجحودِ ؛ فإنَّ الربَّ تَعَالَى بَائِنٌ منْ خَلْقِهِ معَ كونِهِ مُسْتَوِيًا على عرشِهِ.
(4) يَقُولُ بعضُ الخطباءِ في الثَّناءِ على اللهِ تَعَالَى: " لا تَشْتَبِهُ عليهِ اللُّغاتُ، ولا تُغْلِطُهُ كثرةُ المسائلِ معَ اختلافِ اللُّغاتِ وَتَفَنُّنِ المَسْئُولاَتِ ".
هذا معنَى (لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عنْ شَأْنٍ) ، لا يَشْتَغِلُ بسماعِ هذا عنْ هذا، بلْ يَدْعُوهُ مِئَاتُ الألوفِ وأُلوفُ الألوفِ في لحظةٍ واحدةٍ ، وَيَسْمَعُ دُعَاءَهُم ، وَيَعْرِفُ حَاجَاتِهِم ، وَيَعْرِفُ مَطَالِبَهُم ، وَيُجِيبُ مَنْ يُجِيبُهُ منهم ، وَيُعْطِيهِ سُؤْلَهُ ، وَلاَ شَكَّ أنَّ هذا يَسْتَلْزِمُ أنَّهُم يُعَظِّمُونَهُ إذا عَرَفُوا أنَّهُ المُسْتَحِقُّ لهذا التَّعظيمِ ، وأنَّهُ بهذهِ الصِّفةِ بحيثُ لا يَشْغَلُهُ شأنٌ عنْ شأنٍ ، فإنَّ ذلكَ يَحْمِلُهُم على أنْ يُطِيعُوهُ وأنْ يُعَظِّمُوهُ وَيُجِلُّوهُ ، وَيَعْتَقِدُوا أنَّهُ رَبُّهُم وَمَالِكُهُم، وأنَّهُ هوَ المعبودُ وحدَهُ.
(5) هذهِ الجملةُ يُؤْخَذُ منها صفاتُ السَّلْبِ وصفاتُ النَّفْيِ:
فإنَّ صفاتِ اللهِ تَعَالَى صِفَاتٌ سلبيَّةٌ ، أوْ صفاتٌ ثُبُوتِيَّةٌ ، ولكنْ إذا أَتَت الصِّفاتُ السَّلْبِيَّةُ اسْتَلْزَمَت الصِّفاتِ الثبوتيَّةَ ، وإلاَّ فَالسَّلبُ المَحْضُ لا يَمْدَحُ اللهُ بهِ نفسَهُ حتَّى يَتَضَمَّنَ صِفَةَ ثبوتٍ يُمْتَدَحُ بها.

فإنَّ المدحَ إنَّما هوَ بالصِّفاتِ المُثْبَتَةِ لا بالصِّفاتِ المنفيَّةِ، فإذا قالَ مثلاً: (جلَّ عن الأشباهِ والأندادِ، وَتَنَزَّهَ عن الصَّاحبةِ والأولادِ) فهذا نَفْيٌ، وقدْ نَفَى اللهُ ذلكَ عنْ نَفْسِهِ في عِدَّةِ آياتٍ، كقولِهِ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا} ، وكقولِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، وكقولِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا} ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ}، وكقولِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وكقولِهِ تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.
هذهِ كلُّها نَفْيٌ وسَلْبٌ، ولكنْ يَمْدَحُ نفسَهُ بهذا السَّلبِ ؛ لأنَّهُ يَتَضَمَّنُ ثبوتَ أضْدَادِ هذهِ الصِّفاتِ ، وكذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا} ، وكقولِهِ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}.
كلُّ ذلكَ يَسْتَدْعِي صفةً ثُبُوتيَّةً هيَ التفرُّدُ والوحدانيَّةُ الَّتي تَسْتَلْزِمُ الكمالَ ، فإنَّهُ إذا كانَ وَاحِدًا فَرْدًا صَمَدًا تَصْمُدُ إليهِ القلوبُ ، وَتَتَوَجَّهُ إليهِ الرَّغَبَاتُ ، ومعَ ذلكَ هوَ مُحِيطٌ بالمخلوقاتِ ، وعالمٌ بها ، ومعَ ذلكَ هوَ خَالِقُهَا ، وَمُدَبِّرُهَا وَحْدَهُ ، أليسَ ذلكَ دليلَ العظمةِ ؟ أليسَ ذلكَ دليلَ الكبرياءِ؟ لا شَكَّ أنَّهُ إذا تَنَزَّهَ عنْ أنْ يَحْتَاجَ إلى صاحبةٍ - يَعْنِي: زَوْجَةٍ - لا يَحْتَاجُ إلى ولدٍ، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وقدْ نَزَّهَ اللهُ نَفْسَهُ عن الولدِ، وَأَخْبَرَ بأنَّ هذهِ فِرْيَةٌ قالَهَا المشركونَ ، وأنَّها أَعْظَمُ فِرْيَةٍ وَأَكْبَرُهَا ، قالَ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}.
يَعْنِي: أنَّ مَقَالَتَهُم هذهِ تَكَادُ أنْ تَتَفَطَّرَ لها السَّماواتُ ، وَتَنْشَقَّ لها الأرضُ ، وَتَخِرَّ لها الجبالُ ، وَتَتَفَطَّرَ لها المخلوقاتُ العظيمةُ لِعِظَمِ شَنَاعَتِهَا ، حيثُ جَعَلُوا للهِ تَعَالَى وَلَدًا معَ أنَّهُ مُسْتَغْنٍ عن الولدِ والوالدِ والشَّريكِ والنَّظيرِ والمَثِيلِ والنِّدِّ والْكُفْءِ ؛ لِمَاذا؟
لأنَّ هذهِ الأشياءَ تَسْتَلْزِمُ الحاجةَ ، أوْ تَسْتَلْزِمُ الْمِثْلِيَّةَ ، تَسْتَلْزِمُ أنَّهُ بحاجةٍ إلى الولدِ كالإنسانِ الَّذي بِحَاجَةٍ إلى وَلَدِهِ يُسَانِدُهُ وَيُسَاعِدُهُ، ويقومُ مَقَامَهُ، وَيُعِينُهُ عندَ عَجْزِهِ، وَيَخْلُفُهُ بعدَ مَوْتِهِ .
والرَّبُّ تَعَالَى ليسَ كَذَلِكَ ، وليسَ بحاجةٍ إلى الولدِ ولا إلى الزَّوجةِ ، ولا إلى شريكٍ ، فهوَ لهُ الكمالُ المُطْلَقُ .
إذاً : فَنَفْيُ الصاحبةِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الحاجةِ وَيُثْبِتُ الغِنَى، وكذلكَ نَفْيُ الولدِ يَلْزَمُ منهُ إثباتُ الكمالِ، وكذلكَ نَفْيُ الشَّريكِ، وَنَفْيُ النِّدِّ، ونَفْيُ المَثِيلِ، وما أَشْبَهَ ذلكَ .
ورَدَّ أَيْضًا على مَنْ أَثْبَتَ ذلكَ من المُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِم، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالَتِ الْيَهُوْدُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ} ، وقولِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ، وقولِهِ تَعَالَى :{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى البَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، وكقولِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}.
زَعَمَ بعضُ جَهَلَةِ العربِ أنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ ، وأنَّ بَيْنَهُ وبينَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ، تَعَالَى اللهُ عنْ قَوْلِهِم ذلكَ كلِّهِ ؛ فَرَدَّ عَلَيْهِم وَأَثْبَتَ وَحْدَانِيَّتَهُ ، فَبِذَلِكَ نَعْرِفُ أنَّ كلَّ نَفْيٍ فإنَّهُ يَسْتَدْعِي ثُبُوتًا ، وإلاَّ فَالنَّفْيُ المَحْضُ ليسَ بِمَدْحٍ .
رَدَّ شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ في رِسَالَتِهِ " التَّدْمُرِيَّةِ " في قاعدةٍ من القواعدِ على مَنْ يَصِفُ اللهَ تَعَالَى بالصِّفاتِ السلبيَّةِ الَّتي هيَ عَدَمٌ مَحْضٌ ، وكذلكَ في كثيرٍ منْ كُتُبِهِ ، وَأَخْبَرَ في " الحَمَوِيَّةِ " أنَّ اللهَ بَعَثَ رُسُلَهُ بِنَهْيٍ مُجْمَلٍ وإثباتٍ مُفَصَّلٍ ، وأنَّ الإثباتَ يُقْصَدُ بذاتِهِ ، والصِّفاتِ الثبوتيَّةَ مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا.
وأمَّا الصِّفَاتُ السلبيَّةُ فَمَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا ، واللهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ بقولِهِ تَعَالَى :{مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا} ، {بَدِيْعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شِيْءٍ}. فَإِذَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عنْ مثلِ هذا دَلَّ على صفةِ الكمالِ ، وَتَنَزَّهَ عن الشُّرَكَاءِ والأمثالِ ، وذلكَ يُثْبِتُ وَحْدَانِيَّتَهُ حتَّى لا يُعْبَدَ غَيْرُهُ .

وفي الآيةِ الَّتي في سورةِ سبأٍ يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: " إنَّها قَطَعَتْ جُذُورَ الشِّرْكِ - يَعْنِي عُرُوقَهُ - وهيَ قولُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُوْنَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.

فَنَفَى أربعَ حالاتٍ : المِلْكُ مِلْكَ استقلالٍ ، فأمَّا ما تَمْلِكُهُ أنتَ منْ مَتَاعِكَ أوْ مَنْزِلِكَ فَلَيْسَ مِلْكَ استقلالٍ ؛ لأنَّكَ أنتَ وَهُوَ مِلْكٌ لِرَبِّكَ وَخَالِقِكَ، أيْ لاَ يَمْلِكُونَ ولوْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، فَكَيْفَ يُعْبَدُونَ؟!
وقدْ يَقُولُ قائلٌ : نُسَلِّمُ أنَّهم لا يَمْلِكُونَ، وأنَّ المُلْكَ للهِ، قالَ تَعَالَى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، لكن يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لهم شَرِكَةٌ، أيْ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ، فَنَفَى ذلكَ بِقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} ، ولوْ شَرَاكَةٍ في مِثْقَالِ الذَّرَّةِ.
وقدْ يَقُولُ قائلٌ : نُسَلِّمُ أنَّهُم لا يَمْلِكُونَ وَلَيْسُوا شُرَكَاءَ ، ولكنْ يُمْكِنُ أنَّهُم أَعْوَانٌ للهِ، أيْ:أنَّهم أَعَانُوا اللهَ في إيجادِ الموجوداتِ ، فَنَفَى ذلكَ بقولِهِ تَعَالَى : {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} ، أيْ: مِنْ مُعِينٍ ، ليسَ للهِ تَعَالَى مُظَاهِرٌ ولا مساعدٌ ، ولا مُعِينٌ في إيجادِ الموجوداتِ ، بلْ هوَ المُنْفَرِدُ بذلكَ وَحْدَهُ ، وإذا كانَ كذلكَ فإنَّهُ المُسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ ، ثمَّ نَفَى الشفاعةَ عِنْدَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لهُ حتَّى لا يَقُولُوا: هؤلاءِ شُفَعَاؤُنَا عندَ اللهِ.
فإذا انْتَفَى الشريكُ ، وانْتَفَى الولدُ ، وانْتَفَى المُعِينُ ، وَنُفِيَت الصَّاحبَةُ ، ونُفِيَ النِّدُّ والنَّظيرُ والْكُفْءُ ، أُثْبِتَتْ صفاتُ الوَحْدَانيَّةِ والتَّفَرُّدِ ، فهذا مُقْتَضَى هذهِ الصِّفةِ ، وهيَ أنَّنَا نَنْفِي هذهِ النَّقائصَ حتَّى نُثْبِتَ الوحدانيَّةَ الَّتي هيَ صِفَةُ كمالٍ ، لا يُشَارِكُهُ في هذا الكمالِ ولا في هذهِ الوحدانيَّةِ أَحَدٌ ؛ وَلأَِجْلِ ذلكَ منْ أسماءِ اللهِ (الواحدُ) ، ومنْ أسمائِهِ (الأَحَدُ) ، فقولُهُ تَعَالَى: {وَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} ، إثباتٌ للوحدانيَّةِ، وقولُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، إثباتٌ لِلأَحَدِيَّةِ، والأحدُ مُبَالَغَةٌ في الوحدانيَّةِ، يَعْنِي: هيَ أَبْلَغُ منْ أنْ يَقُولَ: {قُلْ هُوَ اللهُ وَاحِدٌ} .
أَحَدٌ: أيْ: مُنْفَرِدٌ بالأَحَدِيَّةِ لا يُشَارِكُهُ في هذهِ الصِّفةِ غَيْرُهُ.
فإذا اعْتَقَدَ المسلمُ ذلكَ عَرَفَ أنَّهُ المُسْتَحِقُّ لأَنْ يُعْبَدَ، جَلًّ وَتَنَزَّهَ عن الشَّريكِ، وعن الصَّاحبةِ، وعن النِّدِّ والنَّظيرِ والْمَثِيلِ.
(6) هذهِ صِفَةٌ ثُبُوتيَّةٌ :
فبعدَما ذَكَرَ الصِّفاتِ السلبيَّةَ ذَكَرَ الصِّفةَ الثُّبُوتيَّةَ، وهيَ أنَّ حُكْمَهُ ذاهبٌ في جميعِ العِبَادِ، قالَ تَعَالَى: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ للهِ}.
(حُكْمُهُ): أَمْرُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَتَصَرُّفُهُ، لا رَادَّ لِحُكْمِهِ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، ولا لِقَضَائِهِ، نَفَذَ حُكْمُهُ في جميعِ البلادِ، وفي جميعِ العبادِ، ولهُ الحُجَّةُ في ذلكَ، وللَّهِ الحُجَّةُ البالغةُ : {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}. فَكَوْنُهُ يَحْكُمُ فيهم بما يَشَاءُ مَعْنَاهُ أنَّهُ يَتَصَرَّفُ في مُلْكِهِ ؛ لأنَّهم خَلْقُهُ ، ولأنَّهم مِلْكُهُ ، ولأنَّهُ المُتَصَرِّفُ بهم وَحْدَهُ، فإذا كَانُوا مِلْكَهُ فلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، ولا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَحُكْمُهُ نَافِذٌ فيهم شَاءُوا أمْ أَبَوْا، هذا هوَ الأصلُ في أنَّ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى نافذٌ في الخلقِ كلِّهِم أوَّلِهِم وَآخِرِهِم .
هذهِ كما قُلْنَا صفةٌ ثُبُوتيَّةٌ تُثْبِتُ أنَّ الحُكْمَ للهِ .
ويُعَرِّفُ الفقهاءُ والأُصُولِيُّونَ الحُكْمَ بأنَّهُ : إثباتُ أمرٍ لأمرٍ ، أوْ نَفْيُهُ عنهُ .
أمَّا حُكْمُ اللهِ: فهوَ تَقْدِيرُهُ وَتَنْفِيذُ قَدَرِهِ.
فإذا قَدَّرَ أَمْرًا نَفَذَ قَدَرُهُ أَيًّا كانَ تَقْدِيرُهُ وَتَدْبِيرُهُ ، وَتَصَرُّفُهُ هذا هوَ حُكْمُهُ ، وَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ، وإنْ كانَ قدْ يَأْمُرُ مَنْ لا يَفْعَلُ ، فَقَدْ أَمَرَ الكُفَّارَ بالإيمانِ فَمَا آمَنُوا ، وَأَمَرَ العُصَاةَ بالطَّاعةِ فَعَصَوْا ، فَهَلْ يُسَمَّى هذا حُكْمًا؟ نُسَمِّيهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا لا حُكْمًا قَدَرِيًّا ، بِمَعْنَى أنَّ الحُكْمَ النافذَ الَّذي لا بُدَّ منْ وُجُودِهِ هوَ الحكمُ القَدَرِيُّ، وهوَ الحُكْمُ الَّذي قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ في الأَزَلِ، وَحَكَمَ بِوُجُودِهِ، فَلاَ رَادَّ لهُ .
وأمَّا الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ : وهوَ أنَّهُ شَرَعَ هذهِ الأحكامَ ، وَشَرَعَ الأوامرَ والنَّواهِيَ وشَرَعَ الطَّاعاتِ وَحَرَّمَ المُحَرَّمَاتِ ، فهذا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَنْفُذُ في مَنْ قَدَّرَ اللهُ إِيمَانَهُم، لا فِي مَنْ قَدَّرَ اللهُ عِصْيَانَهُم.
(7) مِنْ هنا أَخَذَ أيضًا يَبْدَأُ في الصِّفاتِ السلبيَّةِ:
نَعْرِفُ قبلَ ذلكَ أنَّ قاعدةَ أهلِ السُّنَّةِ ، أنَّ اللهَ تَعَالَى لا يُوصَفُ إلاَّ بما وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وذلكَ لأِنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَأَعْلَمُ بِخَلْقِهِ ، وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ بِمَنْ أَرْسَلَهُ، فَيُقْتَصَرُ في بعضِ الصِّفاتِ ثُبُوتِيَّةً أوْ سلبيَّةً على ما وَرَدَ.
فَقَوْلُهُ:(لاَ تُمَثِّلُهُ العقولُ بالتَّفكيرِ) : معناهُ :أنَّ القلوبَ تَعْجَزُ عنْ أنْ تَصِلَ إلى مثلِ تَمْثِيلِهِ ، وَلَعَلَّ الدليلَ على ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ، أيْ: مَهْمَا فَكَّرُوا ، وَمَهْمَا سَأَلُوا لا يُحِيطُونَ بهِ عِلْمًا ، يَعْجَزُونَ عنْ أنْ يُحِيطُوا بهِ ، يَعْنِي: أنْ يُحِيطُوا بِمَعْرِفَتِهِ، أوْ يُحِيطُوا بِذَاتِهِ ، يَعْجَزُونَ عنْ أنْ يُمَثِّلُوا بِعُقُولِهِم ذَاتَهُ سُبْحَانَهُ.
كذلكَ لا تُحِيطُ بهِ الظُّنونُ ولا العقولُ بالتَّفكيرِ ، ومنْ أَدِلَّةِ ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} ، أيْ: لا يَصِلُونَ إلى عِلْمٍ منْ صِفَتِهِ إلاَّ بِمَا أَوْصَلَهُ إليْهِم ، فإذا لمْ يَشَأْ لَنْ يَسْتَطِيعُوا أنْ يَصِلُوا إليهِ ، وكيفَ يَعْلَمُونَ صِفَةَ ذَاتِهِ سُبْحَانَهُ معَ أنَّهُ قد احْتَجَبَ عنْ أنْ تَصِلَ إليهِ العُلُومُ ، أو الأوهامُ ، أو التَّفكيراتُ ، أوْ نَحْوُهَا ، وَأَخْبَرَ بِعَدَمِ مُمَاثَلَتِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ بقولِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وقدْ ضَرَبَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ مَثَلَيْنِ في التَّدْمُرِيَّةِ يُبَيِّنُ فِيهِمَا عَجْزَ الإنسانِ عنْ أنْ يَصِلَ تَفْكِيرُهُ إلى تَكْيِيفِ الذاتِ الرَّبَّانِيَّةِ.
المثالُ الأَوَّلُ : مَخْلُوقَاتُ الْجَنَّةِ معَ أنَّها مَخْلُوقَاتٌ ، ولكنْ لا نَدْرِي ما كَيْفِيَّتُهَا، قَصُرَتْ عنها أَفْهَامُنَا، فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ أنَّ أَنْهَارَ الجنَّةِ تَجْرِي في غيرِ أُخْدُودٍ ، وهذا لا تُدْرِكُهُ أَفْهَامُنَا وَلاَ تَخَيُّلاَتُنَا ، كيفَ يَجْرِي الماءُ على وجهِ الأرضِ ، ولا يَسِيحُ ولا يَنْبَسِطُ في الأرضِ ، أَمْرُ اللهِ أعظمُ ، وَقُدْرَةُ اللهِ أعظمُ ، وكذلكَ جَمِيعُ ما ذَكَرَ في الجنَّةِ.
المثالُ الثاني : الرُّوحُ الَّتي بها حياةُ البَدَنِ عَجَزَت الظُّنونُ عندَ تَفْكِيرِهِم فيها ، وَعَجَزَت العقولُ عنْ إدراكِ مَاهِيَّتِهَا، فَرَدُّوا عُقُولَهُم ، وَوَقَفُوا عندَ قولِهِ تَعَالَى : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. نَحْنُ نَعْرِفُ أنَّ الإنسانَ مُرَكَّبٌ منْ جَسَدٍ وَرُوحٍ ، فإذا خَرَجَت الرُّوحُ بَقِيَ الجسدُ جُثَّةً ليسَ فيهِ رُوحٌ ، وما هيَ هذهِ الرُّوحُ ؟ لا نَدْرِي عنْ مَاهِيَّتِهَا ، وَلاَ نَدْرِي ما كَيْفِيَّتُهَا ، عَجَزْنَا عنْ إدراكِهَا ، فكذلكَ بِطَرِيقِ الأَوْلَى عَجَزَتْ عُقُولُنَا عنْ إدراكِ كَيْفِيَّةِ ذاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ ، فهذا مَعْنَى كونِهِ لا تُمَثِّلُهُ العقولُ ولا القلوبُ بالتَّفكيرِ ، ولا تَتَوَهَّمُهُ ، ولا تَتَخَيَّلُهُ ، ولا تَصِلُ إلى كيفيَّةِ ذاتِهِ ، بلْ كلُّ ما خَطَرَ منْ صفةٍ للرَّبِّ في بَالِكَ فإنَّهُ على خلافِ ذلكَ.
ومَهْمَا خَطَرَ في بالِكَ أنَّ اسْتِوَاءَهُ كذا ، وأنَّ كَيْفِيَّةَ نزولِهِ كذا ، وأنَّ كيفيَّةَ ذاتِهِ كذا وكذا ، فإنَّ الرَّبَّ بِخِلاَفِ ذلكَ ؛ لِيَكُونَ ذلكَ دَلِيلاً على عَجْزِ هذهِ المخلوقاتِ عنْ إدراكِ كُنْهِ ذاتِهِ ، وعنْ مَعْرِفَةِ ماهيَّةِ ذاتِهِ ، فَضْلاً عنْ تَحَقُّقِهَا .
ومعلومٌ أنَّ جميعَ الَّذينِ يَدِينُونَ بالإسلامِ، أوْ يَدِينُونَ بالعبوديَّةِ للهِ تَعَالَى - مُسْلِمٌ وَكِتَابيٌّ وغيرُهُم - يَعْتَقِدُونَ أنَّ هذا الوجودَ لا بُدَّ لهُ منْ مُوجِدٍ ، وأنَّ المُوجِدَ الَّذي أَوْجَدَهُ واجبُ الوجودِ ، وَقَد اطَّلَعْنَا على ذلكَ ، ولكن باصْطِلاحَاتٍ وبعباراتٍ فَلْسَفِيَّةٍ مَنْطِقِيَّةٍ ، وَيَكْفِي أنْ نَسْتَدِلَّ على ذلكَ بقولِهِ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ، فإذا لم يَكُونُوا خُلِقُوا منْ غيرِ شيءٍ، ولم يَكُونُوا هم الخالقِينَ تَعَيَّنَ أنَّ لَهُم خَالِقًا، والخالقُ لا بُدَّ أنْ يكونَ غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ، وَمَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إليهُ.
وإذا كانَ كذلِكَ فإنَّ الخالقَ سبحانَهُ لا يُمْكِنُ أنْ يُشَابِهَ المخلوقَ الَّذي تَعْتَرِيهِ الآفاتُ والتَّغَيُّرَاتُ والنواقصُ الَّتي تَنَزَّهَ عنها الخالقُ سبحانَهُ .
نَزَّهَ نَفْسَهُ عن الموتِ كما في قولِهِ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} ، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عن النَّومِ وعن النُّعَاسِ، قالَ تَعَالَى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} .
السِّنَةُ : هِيَ النُّعَاسُ ، وهو مُقَدِّمَةُ النَّومِ، وما أَشْبَهَ ذلكَ.


  #4  
قديم 4 ذو القعدة 1429هـ/2-11-2008م, 11:38 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي (تابع) الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

فهذهِ صفاتٌ تُبَيِّنُ تَنَزُّهَهُ عنْ مُشَابَهَةِ المَخْلُوقَاتِ ، وَتَنَزُّهَهُ عنْ أنْ تُدْرِكَهُ عقولُ المخلوقِينَ ، أنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ منْ صفاتِهِ، فَضْلاً عنْ كَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ.
ثمَّ اسْتَدَلَّ بقولِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصْيرُ} ، فهذهِ الآيةُ رَدَّ اللهُ فيها على الطَّائفتَيْنِ : المُمَثِّلَةِ والمُعَطِّلَةِ.
أوَّلُهَا رَدٌّ على المُمَثِّلَةِ : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وآخرُهَا: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ردٌّ على المُعَطِّلَةِ ؛ ولأجلِ ذلكَ كانَ آخِرُهَا ثَقِيلاً على هؤلاءِ المُعَطِّلَةِ ، حتَّى رُوِيَ عنْ رئيسٍ منْ رُؤَسَائِهِم ، وهوَ ابنُ أبي دُؤَادٍ ، أنَّهُ قالَ للخليفةِ المَأْمُونِ : أُحِبُّ أنْ تَكْتُبَ على الكعبةِ ، أوْ على كِسْوَةِ الكعبةِ : {ليسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ هُوَ العزيزُ الحكيمُ} ، أَرَادَ أنْ يُحَرِّفَ القرآنَ ؛ لأنَّ كلمةَ {وهُوَ السَّميعُ البصيرُ} تَطْعَنُ في مُعْتَقَدِ ابنِ أبي دُؤَادٍ الَّذي يُنْكِرُ السَّمعَ والبصرَ ، بلْ يُنْكِرُ كلَّ الصِّفاتِ الذاتيَّةِ والصِّفاتِ الفعليَّةِ ؛ فلذلكَ ذَكَرَ ابنُ قُدَامَةَ في مقدِّمةِ كتابِهِ هذهِ الآيةَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
والمُمَثِّلَةُ : هم الَّذينَ يَقُولُونَ : إنَّ صفاتِ اللهِ كصفاتِ المخلوقِينَ . فَيَجْعَلُونَ للهِ يَدًا كَيَدِنَا ، وللَّهِ وَجْهًا كَوَجْهِنَا ، ولِلَّهِ قَدَمًا كَقَدَمِنَا ، ولِلَّهِ كذا وكذا ، تَعَالَى اللهُ عنْ ذلكَ ، فَرَدَّ اللهُ عليهم بهذهِ الآيةِ وبآياتٍ أُخْرَى ، كقولِهِ تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ، يَعْنِي: شَبِيهًا وَمَثِيلاً ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى :{فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ} ، وَيُنَزِّهُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ عنْ أنْ يكونَ لهُ مِثْلٌ .
وقدْ تَكَلَّمَ العلماءُ على هذهِ الآيةِ، وَقَالُوا في (كافِ) { لَيْسَ كَمِثْلِهِ} : إنَّ الكافَ صِلَةٌ لتأكيدِ النَّفْيِ ، وإنَّ المُرَادَ بالمِثْلِ الذَّاتُ ، كما يَقُولُونَ لِمَنْ يَمْدَحُونَهُ : مِثْلُكَ لاَ يَغْضَبُ ، وَمِثْلُكَ يَحْلُمُ ، ومِثْلُكَ يُعْطِي ، وَيُرِيدُونَ أنتَ ، فَالْمَعْنَى : ليسَ كَهُوَ شَيْءٌ، لَيْسَ شيءٌ كَهُوَ ، أيْ : مُمَاثِلاً لهُ .
وعَبَّرَ بَعْضُهُم بالزِّيادةِ في قولِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، أنَّ الكافَ زَائِدَةٌ حتَّى لا يُفْهَمَ أنَّ للهِ مِثْلاً ، يَعْنِي : أنَّهُ قدْ يُخَافُ أنَّ للهِ تَعَالَى مِثْلاً ، فَيُقَالُ: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِ اللهِ شَيْءٌ.
والصَّحيحُ : أنَّهُ لاَ يُقَالُ في القرآنِ زَائِدٌ ، ولاَ لَغْوٌ ، فالقرآنُ كُلُّهُ حَقٌّ ، وَكُلُّ حَرْفٍ منهُ فيهِ فائدةٌ .
فإذًا نَقُولُ: إنَّ الكافَ صِلَةٌ لتأكيدِ النَّفْيِ، نَفْيِ المِثْلِيَّةِ.
وَسَمِعْتُ مِنْ بعضِ المشايخِ في التَّعبيرِ عن الزِّيادةِ يقولُ:



وَسمِّ مَا يُزَادُ لـَغْوًا أوْ صِلَه = أوْ قُلْ مؤَكدًا وَكُلٌّ قيلَ له
لكنَّ زَائِدًا وَلغوًا يُجْتَنبْ = إِطْلاَقُهُ فِي مُنْزَلٍ فَذَا وَجَبْ

يَعْنِي أنَّهُ يُعَبَّرُ عنها بأربعِ عباراتٍ : زائدٌ ، أوْ لَغْوٌ ، أوْ صِلَةٌ ، أوْ مُؤَكِّدٌ ، ولكنْ لا يُطْلَقُ في القرآنِ كلمةُ لَغْوٍ ولا كلمةُ زائدٍ ؛ تَنْزِيهًا للقرآنِ أنْ يَكُونَ فيهِ شيءٌ زائدٌ يُمْكِنُ الاستغناءُ عنهُ ، ومعَ ذلكَ تَجِدُونَ كَثِيرًا من المفسِّرينَ يُطْلِقُونَ فيهِ الزِّيادةَ ، وَمِنْهُم صاحبُ تفسيرِ الْجَلاَلَيْنِ ( جَلاَلُ الدِّينِ المَحَلِّيُّ ) عِنْدَمَا أَتَى عَلَى هذهِ الآيةِ قالَ : الكافُ زَائِدَةٌ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى لا مِثْلَ لهُ ، فَلَوْ قالَ: مُؤَكِّدَةٌ ، أوْ قالَ: صِلَةٌ لِتَقْوِيَةِ النَّفْيِ ، لَكَانَ أَبْلَغَ .
وبكلِّ حالٍ ، فالآيةُ أَفْصَحَتْ عنْ نَفْيِ المِثْلِ للهِ تَعَالَى ، ولكنْ أَفْصَحَتْ أَيْضًا عنْ إثباتِ صفةِ السَّمعِ وصفةِ البصرِ ، وَتَجِدُونَ في كُتُبِ النُّفَاةِ تَكْرَارَ هذهِ الآيةِ : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ؛ لأنَّهُ ليسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ ، ولا يَأْتُونَ بِآخِرِهَا ؛ لأنَّهُ حُجَّةٌ عليهم .
وَبِكُلِّ حالٍ ، الأصلُ أنْ نَصِفَ اللهَ تَعَالَى بِمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ ، وَبِمَا وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنُثْبِتَ للهِ صفاتِ الكمالِ، وَنُنَزِّهَهُ عنْ صفاتِ النَّقصِ .
(8) هذا منْ جملةِ العقيدةِ : نَدِينُ بأنَّ لهُ الأسماءَ الحُسْنَى، والصِّفاتِ العُلَى ، وَنَعْتَقِدُ أنَّ أسماءَ اللهِ تَعَالَى كُلَّهَا حُسْنَى ، وأنَّ صِفَاتِهِ كُلَّهَا عُلْيَا ، أيْ : رفيعةُ المَعْنَى ، ورفيعةُ المَدْلُولِ.
ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أنَّ لهُ الأسماءَ الحُسْنَى في ثلاثةِ مواضعَ ؛ في سورةِ الأعرافِ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، وفي سورةِ طه: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وفي سورةِ الْحَشْرِ: {هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
يَعْتَقِدُ أهلُ السُّنَّةِ أنَّ اللهَ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ بأسماءٍ ، وَسَمَّاهُ بها رُسُلُهُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وأنَّها كُلَّهَا حُسْنَى .

والحُسْنَى : مُبَالَغَةٌ في الحُسْنِ ، أيْ : أنَّها حَسَنَةٌ رفيعةُ المَعْنَى جَلِيلَةُ القَدْرِ .
وقدْ وَرَدَ في الحديثِ المشهورِ الَّذي في الصَّحيحِ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ)) ، ثمَّ في روايةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ سَرَدَ الأسماءَ إلى أنْ وَصَلَتْ إلى تِسْعَةٍ وتسعينَ ، ابتداءً بالأسماءِ الَّتي في آخِرِ سورةِ الحَشْرِ : الرَّحمنُ الرَّحيمُ المَلِكُ القدُّوسُ، إلى آخرِهَا.
ورَجَّحَ العلماءُ أنَّ سَرْدَهَا ليسَ مَرْفُوعًا ، وإنَّمَا هوَ منْ بعضِ الرُّواةِ جَمَعُوهَا من القرآنِ ومِن الأحاديثِ ، وقدْ تَتَبَّعَهَا كثيرٌ من العلماءِ من الأَدِلَّةِ والنُّصوصِ ، وَجَمَعُوا ما فيها من الأسماءِ كما فَعَلَ ذلكَ ابنُ القَيِّمِ في " الصَّواعِقِ المُرْسَلَةِ "، وقَبْلَهُ البَيْهَقِيُّ في " الأسماءِ والصِّفَاتِ "، وَتَبِعَهُمَا الحافظُ الْحِكَمِيُّ في " مَعَارِجِ الْقَبُولِ شَرْحُ سُلَّمِ الوُصُولِ "، وَجَمَعَهَا أيضًا ابنُ حَزْمٍ في " الْمُحَلَّى "، ولكنَّهُ اقْتَصَرَ على ما صَحَّ عندَهُ ، وَأَدْخَلَ فيها بعضَ الأسماءِ الَّتي لمْ تَثْبُتْ أنَّها أسماءٌ ، أَخَذَ منْ قولِهِ : ((وَأَنَا الدَّهْرُ)) . أنَّ اللهَ يُسَمَّى بالدَّهرِ ، وهذا خَطَأٌ.

وَبِكُلِّ حَالٍ ، يَعْتَقِدُ المُسْلِمُونَ أنَّ الأسماءَ كُلَّها حُسْنَى، وأنَّهُ يُدْعَى بها، وَيَعْتَقِدُ المسلمونَ أنَّ أسماءَ اللهِ كَثِيرَةٌ لا تَنْحَصِرُ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى أَجْمَلَهَا في هذهِ الآياتِ، ولم يَذْكُرْ لها عَدَدًا.
وأمَّا الحديثُ : فَلَيْسَ فيهِ أنَّها مَحْصُورَةٌ في تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ اسْمًا ، وإنَّما أَخْبَرَ بأنَّ منْ أسمائِهِ وَمِمَّا تَسَمَّى بهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا ، اخْتُصَّتْ بأنَّ إِحْصَاءَهَا سَبَبٌ لدخولِ الجنَّةِ ، وإلاَّ فَلِلَّهِ أَسْمَاءٌ كثيرةٌ كما في الحديثِ الَّذي في مُسْنَدِ الإمامِ أَحْمَدَ ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَصْحَابَهُ دُعَاءً يَدْعُونَ بهِ ، وَأَوَّلُهُ: ((اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ)) .
فَأَخْبَرَ بأنَّ للهِ أسماءً اسْتَأْثَرَ بها في علمِ الغيبِ ، فَدَلَّ على أنَّ أسماءَ اللهِ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً ، بلْ هيَ كثيرةٌ .
ثمَّ المُرَادُ بِإِحْصَائِهَا في قولِهِ : ((مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ)) لَيْسَ هوَ مُجَرَّدَ حِفْظِهَا ، لكنَّهُ اعْتِقَادُ صِحَّتِهَا ، والعَمَلُ بها ، واعتقادُ مَدْلُولِهَا ، فإنَّ كلَّ اسمٍ دالٌّ على صفةٍ .
ذَكَرَ العلماءُ أنَّ كلَّ اسمٍ منْ أسماءِ اللهِ لهُ ثلاثُ دلالاتٍ:
- دَلاَلَةٌ على الذَّاتِ.
- ودلالةٌ على الصِّفةِ المُشْتَقَّةِ مِنْهُ.

- ودلالةٌ على بَقِيَّةِ الصِّفاتِ.
وتُسَمَّى دَلالَتُهُ على الذَّاتِ (دلالةَ مُطَابَقَةٍ) ، ودلالتُهُ على الصِّفةِ المُسْتَنْبَطَةِ منهُ (دلالةَ تَضَمُّنٍ) ، والدَّلالةُ على بَقِيَّةِ الصِّفاتِ (دلالةَ الْتِزَامٍ) .
فمثالُ ذلكَ: منْ أسماءِ اللهِ (الرَّحْمَنُ) ، كما سَمَّى نَفْسَهُ بهِ في عِدَّةِ مَوَاضِعَ ، هذا الاسمُ لا يَنْطَبِقُ إلاَّ على اللهِ ، إذا قِيلَ: الرَّحْمَنُ ، انْصَرَفَت الأفهامُ إلى الرَّبِّ تَعَالَى ، فهوَ دَالٌّ على ذاتِ الرَّبِّ بِالْمُطَابَقَةِ ، أيْ: أنَّهُ اسمٌ للذَّاتِ الربَّانِيَّةِ لا يَدُلُّ إلاَّ على اللهِ ، ولا يَصِحُّ إلاَّ للهِ تَعَالَى ، كَمَا إذا قُلْنَا: (مُحَمَّدٌ) على الإطلاقِ ، فإنَّهُ يَنْصَرِفُ إلى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَدَلاَلَتُهُ عليهِ دلالةُ مُطَابَقَةٍ .
كما أنَّ دلالةَ الرَّحْمَنِ والرَّبِّ والعزيزِ على اللهِ تَعَالَى دلالةُ مُطَابَقَةٍ ، فالنَّظرُ في الرَّحمنِ أَلَيْسَ دَالًّا على صفةٍ ؟ إنَّهُ مُشْتَقٌّ من الرَّحمةِ ، فدلالتُهُ على الرَّحمةِ الَّتي هوَ مُشْتَقٌّ منها نُسَمِّيهَا دلالةَ تَضَمُّنٍ ، أيْ: في ضِمْنِ هذا الاسمِ (الرَّحمةُ) ، كما أنَّ العزيزَ فيهِ صِفَةُ العِزَّةِ ، والغَفُورَ فيهِ صِفَةُ المَغْفِرَةِ ، والحكيمَ فيهِ صفةُ الحِكْمَةِ ، والوَهَّابَ والرزَّاقَ والحَكَمَ والعدلَ ، كلُّ اسمٍ منها دالٌّ على صفةٍ اشْتُقَّتْ منهُ ، فهذهِ دلالةُ تَضَمُّنٍ ، أيْ : هذهِ الصِّفةُ في ضِمْنِ هذا الاسمِ .
أمَّا دَلاَلَتُهُ على بَقِيَّةِ الصِّفاتِ وعلى بقيَّةِ الأسماءِ ، فإنَّكَ تَقُولُ مَثَلاً: إذا سُمِّيَ اللهُ تَعَالَى بالعليمِ فإنَّ ذلكَ يَسْتَلْزِمُ الغِنَى والغُفْرَانَ والسَّمعَ والبصرَ ، وهكذا يَلْزَمُ من اتِّصَافِهِ مثلاً بالسَّميعِ أنْ يكونَ بَصِيرًا ، وَيَلْزَمُ من اتِّصَافِهِ بالسَّميعِ أنْ يَكُونَ غَنِيًّا ، وأنْ يَكُونَ رَحِيمًا ، وأنْ يَكُونَ حَكِيمًا ؛ لأنَّهُ إذا لمْ يَتَّصِفْ بذلكَ كانَ ذلكَ نَقْصًا في صفةِ الرَّحمةِ .
أيْ: كيفَ يَكُونُ رَحِيمًا وليسَ بِغَنِيٍّ ، وكيفَ يَكُونُ رَحِيمًا وليسَ بعزيزٍ ، وكيفَ يَكُونُ رَحِيمًا وليسَ بسميعٍ بَصِيرٍ ، وكيفَ يكونُ رَحِيمًا وليسَ بِمُتَكَلِّمٍ ، وكيفَ يَكُونُ رَحِيمًا وليسَ بِحَكِيمٍ ؟! وهكذا ، فهذهِ دلالةُ الْتِزَامٍ .
إذا آمَنَ المسلمُ بهذهِ الأسماءِ الحُسْنَى ، فَمَعْنَاهُ أنَّهُ يَعْتَقِدُ دَلاَلَتَهَا ، يَعْتَقِدُ أنَّ اللهَ مُسَمًّى بالرَّحمنِ ، وأنَّهُ مُتَّصِفٌ بالرَّحمةِ ، وَتَسَمَّى بالعزيزِ واتَّصَفَ بالعِزَّةِ ، وَتَسَمَّى بالحكيمِ واتَّصَفَ بالحكمةِ ، وتَسَمَّى بالسَّميعِ البصيرِ واتَّصَفَ بالسَّمعِ والبصرِ، فَيَعْتَقِدُ ذلكَ كلَّهُ.

فإذا فَعَلَ ذلكَ فَقَدْ أَحْصَى هذهِ الأسماءَ ، وإذا أَحْصَاهَا وَاعْتَقَدَ مَعْنَاهَا لَزِمَ منْ ذلكَ أنْ يَدِينَ بِمُقْتَضَاهَا ؛ لأنَّهُ إذا دَانَ أنَّ اللهَ سَمِيعٌ وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ ، ماذا تَكُونُ حَالَتُهُ ؟ أَلَيْسَ يَخَافُ اللهَ وَيَرْجُوهُ ؟ وإذا دَانَ أنَّ اللهَ بَصِيرٌ لا يَسْتُرُ بَصَرَهُ حِجَابٌ، ماذا تكونُ حَالَتُهُ ؟ أليسَ يُرَاقِبُهُ وَيَعْبُدُهُ ، وَيَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ ، وَيُطِيعُهُ وَيَبْتَعِدُ عنْ مَعْصِيَتِهِ ؟ إذا فَعَلَ ذلكَ ، فإنَّهُ تَقِيٌّ نَقِيٌّ يكونُ مِمَّنْ يُرْجَى لهُ الجنَّةُ والنَّجاةُ منْ عذابِ اللهِ ، فَعُرِفَ بذلكَ أنَّ إِحْصَاءَهَا الْتِزَامُ جميعِ الطاعاتِ ، والبُعْدُ عنْ جميعِ المعاصِي .
(9) إنَّ صفاتِ اللهِ تَعَالَى تَلِيقُ بهِ ، وقدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بصفاتٍ كلُّهَا عُلَى ، ولكنْ مَعْلُومٌ أنَّ هذهِ الصِّفاتِ تَخْتَصُّ بالموصوفِ بها ، فلا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ كَصِفَاتِ الخلقِ الَّتي هيَ ناقصةٌ وَيَعْتَرِيهَا التَّغْيِيرُ ، وَيَعْتَرِيهَا الفَقْدُ ، فَكَمْ منْ إنسانٍ قَوِيٍّ عَاقِلٍ ذَكِيٍّ ، ولكنْ يَنْقُصُهُ صِفَاتٌ أُخْرَى كالغِنَى أو الجُودِ أو الحِكْمَةِ والقُوَّةِ ، أيْ: هوَ ضعيفٌ وفقيرٌ وضريرٌ وأصمُّ وأبكمُ…، فقدْ تَعْتَرِي الإنسانَ صِفَاتُ النَّقصِ ، ولكنَّ صفاتِ اللهِ تَعَالَى لا يَعْتَرِيهَا نقصٌ ولا تَغْيِيرٌ ، بلْ هيَ غايةُ الكمالِ .
فإذا وَصَفْنَا اللهَ تَعَالَى بالسَّمعِ والبصرِ ، فإنَّا نَقُولُ: إنَّ سَمْعَهُ ليسَ كَسَمْعِ خَلْقِهِ ، وَبَصَرَهُ ليسَ كَبَصَرِ الخلقِ ، فالإنسانُ لا يُبْصِرُ ما وَرَاءَ الحُجُبِ ، ولا مَا وَرَاءَ الحِيطَانِ ونَحْوِهَا ، فإنَّهُ يَسْتُرُ بَصَرَهُ أَدْنَى سَاتِرٍ ، والرَّبُّ تَعَالَى لا يَسْتُرُ بَصَرَهُ حُجُبٌ ، والإنسانُ سَمْعُهُ مَقْصُورٌ على ما قَرُبَ منهُ ، ولا يَسْمَعُ ما بَعُدَ ، وَتَشْتَبِهُ عليهِ اللُّغاتُ ، وَتَشْتَبِهُ عليهِ الكلماتُ ، والرَّبُّ تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ .
وإذا وَصَفْنَا اللهَ تَعَالَى بالصِّفاتِ الفِعْلِيَّةِ ، فإنَّها كُلَّهَا صِفَاتٌ رَفِيعَةٌ ، إذا وَصَفْنَاهُ بأنَّهُ هوَ العَلِيُّ ، فَقُلْنَا : لهُ العُلُوُّ بجميعِ أنواعِهِ ؛ عُلُوُّ ذاتٍ ، وعُلُوُّ قَدْرٍ ، وعُلُوُّ قَهْرٍ .
إذا وَصَفْنَاهُ بالفَوْقِيَّةِ فكذلكَ ، إذا وَصَفْنَاهُ مَثَلاً بالغِنَى وبالعطاءِ وبالْجُودِ وبالكَرَمِ وبالحِلْمِ وبالمغفرةِ ، فَكُلُّها في غايةِ الرِّفْعَةِ والمَنَعَةِ ، هذا هوَ مُعْتَقَدُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ .
وقدْ خَالَفَ في ذلكَ الأشاعرةُ : معَ شُيُوعِ مَذْهَبِهِم وَشُهْرَتِهِ ، فهم يُقِرُّونَ بِسَبْعِ صفاتٍ ، وهيَ : السَّمعُ ، والبصرُ ، والكلامُ ، والقُدْرَةُ ، والعلمُ ، والحياةُ ، والإرادةُ ، وَيُنْكِرُونَ بَقِيَّتَهَا ، فَلاَ يَقُولُونَ : إنَّ اللهَ مَوْصُوفٌ بالصِّفاتِ العُلَى جَمِيعًا الَّتي وَصَفَ بها نَفْسَهُ .
وهذا تَنَقُّصٌ للهِ ؛ لأَِنَّهم أَنْكَرُوا صفاتٍ أَثْبَتَهَا اللهُ لِنَفْسِهِ ، ولكنَّهُم يُقِرُّونَ بالأسماءِ جَمِيعًا ، وإنْ كانوا يُنْكِرُونَ دلالةَ بَعْضِهَا .
أمَّا المُعْتَزِلَةُ : فإنَّهم يُنْكِرُونَ الأسماءَ وَيَتَأَوَّلُونَهَا ، أوْ يُنْكِرُونَ دَلاَلَتَهَا ، فَيَقُولُونَ : إنَّها مُجَرَّدُ أعلامٍ ، كما لوْ أنَّ إِنْسَانًا سُمِّيَ بعدَّةِ أسماءٍ ، وتلكَ الأسماءُ مُجَرَّدُ أعلامٍ يُعْرَفُ بها شَخْصُ ذلكَ الرَّجلِ ، يَعْنِي قدْ يُسَمَّى الإنسانُ بأسماءٍ ولا تَنْطَبِقُ عليهِ صِفَاتُهَا ، أيْ: ليسَ كلُّ مَنْ سُمِّيَ سَعْدًا منْ أهلِ السَّعادةِ ، وليسَ كلُّ مَنْ سُمِّيَ صَادِقًا يكونُ منْ أهلِ الصِّدقِ ، وليسَ كلُّ مَنْ سُمِّيَ طَاهِرًا يكونُ مُطَهَّرًا ، وليسَ كلُّ مَنْ سُمِّيَ مُبَارَكًا تكونُ فيهِ البَرَكَةُ ، وقدْ يُسَمَّى الإنسانُ بِسَعْدٍ وخالدٍ وزيدٍ ، وَيُسَمَّى بِعِدَّةِ أسماءٍ ، ولا تكونُ مَعَانِيهَا مُنْطَبِقَةً أوْ مُجْتَمِعَةً فيهِ ، وَإنَّما سُمِّيَ بها حتَّى يَتَمَيَّزَ عنْ غيرِهِ ، كما يُوصَفُ بِلَقَبٍ أوْ بِنَسَبٍ إلى قَبِيلَةٍ ، ونِسْبَةٍ إلى بلدٍ ونحوِ ذلكَ ، فَيُقَالُ مَثَلاً : سَعِيدُ بنُ زَيدِ بنِ دِرهَمٍ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ ، اسمٌ لشخصٍ واحدٍ سُمِّيَ بهِ حتَّى تُعْرَفَ ذَاتُهُ .
والمعتزلةُ يقولونَ : هذهِ الأسماءُ إنَّمَا هيَ لأَجْلِ معرفةِ الذَّاتِ ، لا أَنَّها دَالَّةٌ على صفاتٍ ، وَيُصَرِّحُ كَثِيرٌ منهم بِنَفْيِ الصِّفاتِ ويقولونَ : سَمِيعٌ بلا سَمْعٍ ، بصيرٌ بلا بَصَرٍ ، عليمٌ بلا عِلْمٍ ، حكيمٌ بلا حكمةٍ ، رحيمٌ بلا رحمةٍ ، تَعَالَى اللهُ عنْ قولِهِم .

وإذا قَرَأْتَ القرآنَ تَجِدُ أنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتِمُ آيةَ الرَّحمةِ باسمِ الرَّحيمِ ، وَيَخْتِمُ آيةَ النِّقْمَةِ باسمِ العزيزِ ، أوْ ما أَشْبَهَ ذلكَ ؛ مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ مَعَانِيَهَا مَقْصُودَةٌ ، هذا ما يَدِينُ بهِ المُسْلِمُونَ .
(10) هذهِ الآياتُ منْ سورةِ طه دَالَّةٌ على صفاتٍ:
الأُولَى على اسمِ الرَّحمنِ ، وأنَّهُ على العرشِ اسْتَوَى استواءً يَلِيقُ بهِ .
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ، هذهِ أيضًا منْ صفاتِ الكمالِ، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} مُلْكًا وَخَلْقًا وعَبِيدًا ، إذا قُلْتَ: لِمَاذَا عَبَّرَ بِـ (مَا) الَّتِي لِغَيْرِ العاقلِ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ، معَ أنَّهُ وَرَدَ في آياتٍ: {لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}.
فالجوابُ : أنَّ (ما) قدْ تَأْتِي للعاقلِ ، كقولِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ، أوْ أنَّهُ عَبَّرَ بِـ (ما) نَظَرًا للكثرةِ ، فإنَّ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ يَدْخُلُ فيهِ الدَّوابُّ والحيواناتُ ؛ دَوَابُّ البَحْرِ ، وَدَوَابُّ البَرِّ ، والطيورُ ، والوحوشُ ، وجميعُ المخلوقاتِ ، وَيَدْخُلُ فيهِ النباتاتُ معَ اخْتِلاَفِهَا ، ويَدْخُلُ فيهِ الجماداتُ ؛ الجبالُ ، والأوديةُ ، والدُّورُ ، والقصورُ ، والأشجارُ ، وما أَشْبَهَ ذلكَ ؛ فَلِذَلِكَ قالَ تَعَالَى:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، أيْ: ما بينَ السَّماءِ والأرضِ من المخلوقاتِ ، وما بينَ السَّماواتِ من المخلوقاتِ ، كلُّ ذلكَ لهُ ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا لهُ ، أيْ: مِلْكٌ لهُ ، وهوَ الَّذي خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا ، هُوَ الَّذي يُفْنِيهَا إذا شَاءَ ، وَيُغَيِّرُهَا وَيُبَدِّلُ فيها ما يَشَاءُ ، وَيَتَصَرَّفُ فيها كَمَا يَشَاءُ ؛ يَمْنَعُ وَيُعْطِي ، يُرِيشُ وَيَبْرِي ، يُمِيتُ ويُحْيِي ، يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ، يَصِلُ وَيَقْطَعُ ، يَتَصَرَّفُ فيها ، فهيَ إذًا لهُ ، أيْ : مِلْكُهُ .

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}، قيلَ الثَّرَى : هوَ التُّرابُ الَّذي فيهِ النَّدَاوَةُ والرُّطوبةُ ، فَفُسِّرَ ما تَحْتَ الثَّرَى - تَحْتَ التُّرابِ ، أوْ مَا تَحْتَ التُّرابِ النَّدِيِّ - بالمياهِ في جوفِ الأرضِ، ولا يَعْلَمُ ما تَحْتَهُ إلاَّ اللهُ ، أوْ ما تَحْتَ الأَرَضِينَ معَ سَعَتِهَا، لهُ كلُّ ذلكَ.
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ، هذا أيضًا من الصِّفَاتِ، يَعْنِي: أنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ سِرَّ الأَمْرِ وَخَفِيَّهُ.
السِّرُّ : ما يُضْمِرُهُ الإنسانُ وَيُكِنُّهُ في نَفْسِهِ .

أَخْفَى من السِّرِّ : ما لَمْ يَخْطُرْ في بَالِهِ ، ولكنْ عَلِمَ اللهُ أنَّهُ سَيَخْطُرُ في بالِهِ فيما بَعْدُ ، وسَيُحَدِّثُ بهِ نفسَهُ ، أوْ سَيَفْعَلُهُ ، وإنْ لمْ يَكُنْ قدْ نَوَاهُ ، يَعْلَمُ ذلكَ ، كأنَّهُ قالَ : إنْ تَجْهَرُوا أوْ تُخْفُوا لا يَخْفَى عليهِ أَمْرُكُمْ .
والجَهْرُ: هوَ رَفْعُ الصوتِ ، {وإنْ تَجْهَرْ بالقولِ} يَعْنِي : وإنْ جَهَرْتَ بالقولِ أوْ أَسْرَرْتَ بهِ ، فالجميعُ مَسْمُوعٌ للهِ تَعَالَى وَمَعْلُومٌ لهُ .
ثمَّ وَحَّدَ نَفْسَهُ: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، كلمةُ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) لَهَا شروطٌ، ولها أركانٌ، ولها دلالاتٌ يَطُولُ بِنَا أَنْ نُفَصِّلَهَا، وَشُرُوحُهَا والحمدُ للهِ واضحةٌ ، ومعناهَا: لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلاَّ اللهُ .
وقدْ ذَكَرْنَا أنَّ الأسماءَ الحُسْنَى عَامَّةٌ فيما سَمَّى اللهُ تَعَالَى بهِ نفسَهُ من الأسماءِ ، أوْ وَرَدَ في الأحاديثِ الصحيحةِ .
(11) الصِّفةُ الأُولَى : الإحاطةُ ، هذهِ أَيْضًا منْ صفاتِ الكمالِ، وهيَ من الدَّلالةِ على صفةِ العلمِ ونحوِهِ ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى في آخرِ سورةِ الطَّلاقِ:{وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} .
والإحاطةُ في الأصلِ : هيَ الاستيلاءُ على الشَّيءِ منْ كلِّ جهاتِهِ ، كأنَّهُ أُحِيطَ منْ كلِّ جِهَاتِهِ بِحِيطَانٍ مَنِيعَةٍ فَاسْتُولِيَ عليهِ ، ولكنْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الإتيانِ على الشِّيءِ منْ كلِّ جهاتِهِ ؛ أَحَطْتُ بهذا ، يَعْنِي : وَصَلْتُ إلى نِهَايَتِهِ ، أيْ : أَتَيْتُ عليهِ حتَّى اسْتَوْلَيْتُ عَلَيْهِ وَعَرَفْتُهُ وَصَارَتْ تَفَاصِيلُهُ ظاهرةً عِنْدِي .
فاللهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَةِ الإحاطةِ ، فقالَ: {وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} ، يَعْنِي: مُحِيطٌ بالخلقِ ، أيْ : مُسْتَوْلٍ عليهم ، وكذلكَ مُحِيطٌ بِعُلُومِهِم ، ومُحِيطٌ بِجَمِيعِ المخلوقاتِ ، وما يَحْصُلُ منها .
وأمَّا المَخْلُوقُونَ فَعَاجِزُونَ عنْ ذلكَ إلاَّ بِمَا فَتَحَهُ اللهُ عليهم، قالَ تَعَالَى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} ، أيْ: لا يَقْدِرُونَ على أنْ يُحِيطُوا بشيءٍ من العلومِ الَّتي يَعْلَمُهَا ، أو الَّتي يُمْكِنُ تَعَلُّمُهَا إلاَّ بِمَا يَشَاؤُهُ ، فَلاَ يَعْلَمُونَ المُغَيَّبَاتِ الخَفِيَّةَ ، بلْ ولا يَعْلَمُونَ البعثَ وما بَعْدَهُ ، والحشرَ وَتَفَاصيلَهُ إلاَّ بما عَلَّمَهُم ، وبما فَتَحَ عَلَيْهِم .
والحاصلُ أنَّ اللهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بأنَّهُ بكلِّ شيءٍ محيطٌ ، كما أَخْبَرَ بذلكَ في عِدَّةِ آياتٍ ؛ في سورةِ البروجِ ، وفي سورةِ فُصِّلتْ ، وفي آخرِ سورةِ الطَّلاقِ ، وَنَحْوِهَا .
هذا معنَى الإحاطةِ ، وَيَدْخُلُ في ذلكَ علومُ الخَلْقِ ، أيْ أنَّهُ عالمٌ بهم وَبِمَعْلُومَاتِهِم ، وكذلكَ أَيْضًا أنَّهُ معَ عِلْمِهِ بها فإنَّهُ قدْ أَثْبَتَهَا ، وهذا يَأْتِينَا إنْ شاءَ اللهُ في الكلامِ على القَدَرِ ؛ أنَّ اللهَ عَلِمَ الأشياءَ قَبْلَ وُجُودِهَا ، ثمَّ كَتَبَهَا في اللَّوْحِ المحفوظِ ؛ حيثُ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِلْقَلَمِ: ((اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) . ومعلومٌ أنَّهُ لا يَكْتُبُ إلاَّ ما أَمَرَهُ اللهُ بهِ ، فكلُّ شيءٍ كائنٌ قدْ سُطِّرَ في اللَّوْحِ المحفوظِ ، فاللهُ قدْ أَحَاطَ بكلِّ شيءٍ عِلْمًا ، هذهِ صفةُ كمالٍ .
الصِّفةُ الثانيةُ : العِلْمُ، وقولُهُ : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا }: وَسِعَ كُلَّ شيءٍ رحمةً ، وَوَسِعَ كلَّ شيءٍ عِلْمًا .
مَعْلُومٌ أنَّ السَّعَةَ والاتِّساعَ والتفسُّحَ بِمَعْنًى واحدٍ.
وَسِعَ : يعني: امْتَدَّ إلى ما لا نهايةَ لهُ ، فاللهُ تَعَالَى وَسِعَ سَمْعُهُ الأصواتَ ، وَوَسِعَ عِلْمُهُ المعلوماتِ والمخلوقاتِ كلَّهَا ، وَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ المخلوقاتِ ، يَعْنِي: اتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ فَرَحِمَ الخلقَ كلَّهُم ؛ أوَّلَهُم وآخرَهُم ، وكذلكَ اتَّسَعَ حِلْمُهُ للخلقِ كُلِّهِم ، فَحَلُمَ عنهم كما يَشَاءُ .
ومعروفٌ أنَّ هذهِ الصِّفاتِ الفعليَّةَ ،كصفةِ الرَّحمةِ وصفةِ الحلمِ ، مِمَّا يُثْبِتُهَا أهلُ السُّنَّةِ ، أمَّا الأشاعرةُ وَنَحْوُهُم فَيُنْكِرُونَ الصِّفاتِ الفعليَّةَ كالرَّحمةِ والحلمِ ونحوِ ذلكَ .
فمِنْ أسماءِ اللهِ تَعَالَى: (الحليمُ) ، وقدْ وَرَدَ في عِدَّةِ آيَاتٍ ؛ منها قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} ، والحليمُ هوَ الَّذي لا يَعْجَلُ ، الحليمُ الَّذي يَحْلُمُ عن الخلقِ ، بِمَعْنَى : أنَّهُ لا يُعَاقِبُهُم ؛ أيْ: يَعْفُو عنْهُم ولا يُعَاجِلُهُم العقوبةَ .
والحليمُ من النَّاسِ هوَ المُتَأَنِّي ، يُقَالُ : فلانٌ معهُ حِلْمٌ ، يَعْنِي: تَأَنٍّ في الأمورِ وَتَثَبُّتٌ ، وَعَدَمُ تَسَرُّعٍ ، وَعَدَمُ مُعَاجَلَةٍ بِالْعُقُوبَةِ على أيَّةِ ذَنْبٍ صغيرٍ أوْ كبيرٍ ، بلْ يَحْلُمُ عنْ هذا .
حَلُمْتُ عنْ فلانٍ لَمَّا ظَلَمَنِي ، ولَمَّا أَسَاءَ إليَّ ، أنا أَحْلُمُ عَمَّنْ ظَلَمَنِي : لا أَسْتَعْجِلُ العقوبةَ لِمَنْ أَسَاءَ إليَّ .
فالحِلْمُ صفةٌ شريفةٌ ، وإذا كانتْ منْ أفضلِ الصِّفاتِ ، فاللهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بكلِّ الصِّفاتِ الَّتي هيَ صفاتُ الكمالِ ، هذا هوَ مَعْنَى الحِلْمِ .
الصِّفةُ الثالثةُ: القهرُ ، وقولُهُ: (وَقَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزَّةً وَحُكْمًا).

انْظُرْ كيفَ فَرَّقَ هناكَ (رَحْمَةً وَعِلْمًا) لَمَّا ذَكَرَ السَّعَةَ، وهنا (عِزَّةً وَحُكْمًا) لَمَّا ذَكَرَ القَهْرَ.
القهرُ: هوَ القوَّةُ والغَلَبَةُ ، قَهَرَهَا يَعْنِي : غَلَبَهَا وَقَوِيَ عليها واسْتَوْلَى عليها ، وَصَارَتْ تحتَ سُلْطَانِهِ وَتَحْتَ سَيْطَرَتِهِ وتحتَ تَصَرُّفِهِ ، لا تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا أيَّ نوعٍ منْ أنواعِ التَّصَرُّفِ إلاَّ بإذنِ اللهِ تَعَالَى ؛ فهيَ مخلوقةٌ وذليلةٌ ومَهِينَةٌ ، فاللهُ تَعَالَى هوَ الَّذي يَتَصَرَّفُ فيها كما يشاءُ ، ولا يَخْرُجُ أحدٌ عنْ قهرِ اللهِ .
وإذا قُلْتَ : إنَّ هناكَ مَنْ طَغَى وَبَغَى ، وهناكَ مَنْ تَجَبَّرَ وَعَتَا ، وهناكَ مَنْ كَفَرَ وَنَفَرَ ، وهناكَ مَنْ تَعَدَّى طَوْرَهُ ؛ فَأَيْنَ هَؤُلاَءِ مِنْ قَهْرِ اللهِ ، أَلَيْسُوا مَقْهُورِينَ ؟ أَلَيْسُوا يَلِينُونَ لِعِزَّةِ اللهِ وَيَذِلُّونَ لَهَا ؟ أَلَيْسُوا مُهَانِينَ ؟ أَلَيْسُوا مَمْلُوكِينَ تَحْتَ مُلْكِ اللهِ تَعَالَى ؟ فما هذا الطُّغْيَانُ ؟ وما هذا العَسْفُ ؟ وما هذا التَّجَبُّرُ ؟ وما هذا الظُّلمُ الَّذي صَدَرَ مِنْهُم ؟ وما هذا العُتُوُّ والعُدْوَانُ على عِبَادِ اللهِ الَّذي نُشَاهِدُهُ من الكَفَرَةِ وَنَحْوِهِم ؟ أينَ قَهْرُ الخالقِ تَعَالَى لهم ؟ أَيْنَ إِذْلاَلُهُ لهم ؟ أَيْنَ السَّيْطَرَةُ عَلَيْهِم ؟
الجوابُ: أنَّ هذا لا يُنَافِي كونَهُ سبحانَهُ قَاهِرًا لكلِّ مخلوقٍ قَهْرًا قَوِيًّا ، ولهُ سبحانَهُ الغَلَبَةُ والسَّيطرةُ على المخلوقاتِ ، ولكنْ تَأَمَّلْ كلامَنَا السَّابقَ عنْ صفةِ الحِلْمِ ، وأنَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى يَحْلُمُ ولا يُعَجِّلُ ، يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ ، يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ أَفْعَالَهُم وَتَعَدِّيَهُم ، ولكنَّهُ يُمْهِلُهُمْ إلى أجلٍ وإلى حينٍ ، فعندَ ذلكَ يَنْتَقِمُ منهم ، وهوَ العزيزُ ذُو الانتقامِ ، فلا يَغْتَرُّ الظَّالمُ بِجَبَرُوتِهِ وَبِقُوَّتِهِ وَسَيْطَرَتِهِ ، وَبِمَا أُعْطِيَ من القُوَّةِ ؛ فإنَّهُ مَقْهُورٌ وَمُسْتَوْلًى عليهِ ، وَلاَ بُدَّ أنْ يُؤْخَذَ الحقُّ منهُ .



أَيَحْسَبُ الظَّالِمُ فِي ظُلْمِهِ = أَهـْمـَلـَهُ الـقَادِرُ أمْ أَمـْهــَلاَ
مـَاأَهْمـَلَهُم بلْ لَهُم مـَوْعِدٌ = لـَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونـِهِ مَوْئِلاَ

فلا يَحْسَبُ أنَّهُ مُهْمَلٌ ، بلْ إنَّ اللهَ تَعَالَى يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ ، يُمْهِلُهُم إلى أجلٍ ، قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)) ، ثمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}، وقالَ في حديثٍ آخَرَ: ((إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ)) ، ثمَّ تَلاَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.
وقالَ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، فاللهُ تَعَالَى يُمْلِي لهم وَيُمْهِلُهُم سَنَوَاتٍ وعشراتِ السِّنينَ ، ولكنْ إذا أَخَذَهُم أَخَذَهُم أَخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِرٍ ، فإمَّا أنْ يَبْطِشَ بهم ، وإمَّا أنْ يُسَلِّطَ عليهم مَنْ هوَ أَقْوَى منهم .
إذًا: فَهَذِهِ الصِّفةُ صفةٌ صحيحةٌ ثابتةٌ للهِ تَعَالَى نَدِينُ بها ، ولا نَقُولُ : إنَّ هناكَ مَنْ خَرَجَ عنْ قَهْرِ اللهِ ، أوْ خَرَجَ عنْ غَلَبَةِ اللهِ ، ولا إنَّ هُنَاكَ مَن اغْتَرَّ بِنَفْسِهِ وليسَ للهِ قُدْرَةٌ عليهِ ، فَلِلَّهِ تَعَالَى قُدْرَةٌ على الجميعِ ، فاللهُ تَعَالَى قادرٌ على كلِّ شيءٍ ، وكلُّ الخلقِ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ ، وفي قبضتِهِ ، وَيَنْتَقِمُ منهم إذا شاءَ ، وَيُسَلِّطُ عليهم مَنْ يَنْتَقِمُ منهم ، أوْ يَعُمُّهُم بالعقوبةِ .
إذًا: فَلاَ يَغْتَرُّوا بالإمهالِ ، يا أيُّها الظَّالمُ في فِعْلِهِ ، يا مَنْ تَمَادَيْتَ وَاعْتَقَدْتَ أنَّكَ من الناجِينَ ، لا تَغْتَرَّ بذلكَ ؛ فالظُّلمُ مَرْدُودٌ على مَنْ ظَلَمَ ، واللهُ تَعَالَى يَنْتَقِمُ من الظَّالمِ ، وَيَأْخُذُهُ أَخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِرٍ ، هذا معنَى قولِهِ : (قَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزَّةً وَحُكْمًا).
قولُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ، هذهِ الآيةُ مُشْتَمِلَةٌ أَيْضًا على صِفَةٍ من الصِّفاتِ الفعليَّةِ الذاتيَّةِ ؛ فإنَّ العلمَ صِفَةٌ ذاتيَّةٌ فِعْلِيَّةٌ ، بِمَعْنَى: أنَّ اللهَ لا يُمْكِنُ أنْ يَتَّصِفَ بِفَقْدِ العلمِ ، فالعلمُ صفةٌ ذَاتيَّةٌ للهِ تَعَالَى ، قالَ سبحانَهُ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} ، معرفةُ ذلكَ سَهْلَةٌ يسيرةٌ على اللهِ تَعَالَى ، كذلكَ قالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} في عِدَّةِ آياتٍ.
وقدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ، بأنَّهُ ما قدْ مَلَكُوهُ ،{وَمَا خَلْفَهُمْ} ، ما سَوْفَ يَحْصُلُونَ عليهِ وَيَتَمَلَّكُونَ عليهِ.
وَفُسِّرَ {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ، يَعْنِي : الخلقَ الَّذينَ قدْ مَضَوْا ، {وَمَا خَلْفَهُمْ} ، الَّذينَ سَوْفَ يُخْلَقُونَ فيما بعدُ. وَفُسِّرَ {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، يعني: ما أَمَامَهُم مِمَّا يُشَاهِدُونَهُ، {وَمَا خَلْفَهُم } ، أيْ : ما وَرَاءَ ظُهُورِهِم مِمَّا لا يُشَاهِدُونَهُ .
والأقربُ أنَّ الآيةَ عَامَّةٌ ، وأمَّا الأصلُ فإنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما قَبْلَهُم وما بَعْدَهُم ، وَيَعْلَمُ ما أَحَاطُوا بهِ الآنَ ، وما سَوْفَ يَعْمَلُونَهُ فيما بعدُ ، يَعْلَمُ ذلكَ كلَّهُ .
قولُهُ:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} أيْ: لا يَعْلَمُونَ عِلْماً يَقِينِيًّا بذاتِ اللهِ تَعَالَى ، أيْ: لا يَعْلَمُونَ عِلْمَ الرَّبِّ ، وإنَّما يَعْلَمُونَ منْ صفاتِهِ ما أَطْلَعَهُم عليهِ ، هذا هوَ الأصلُ .
(12) تَتَكَرَّرُ هذهِ العبارةُ في كُتُبِ العقائدِ ، وَيَدِينُ بها أهلُ السُّنَّةِ ، يقولونُ : إنَّ اللهَ تَعَالَى لا يُوصَفُ إلاَّ بما وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ في كتابِهِ ، وعلى لسانِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وإذا قُلْنَا ذلكَ فَإِنَّنا نَعْتَرِفُ بهذهِ الصِّفاتِ الَّتي وَصَفَ بها نَفْسَهُ ، وَنَصِفُهُ بها ولا نَتَحَاشَى ، بلْ نَجْسُرُ عليها وَنَتَكَلَّمُ بها ما دَامَ أنَّهُ أَخْبَرَ بها عنْ نفسِهِ ، ولوْ كانَ في ذلكَ ما يَكُونُ ، ولو اسْتَنْكَرَهَا مَنْ يَسْتَنْكِرُهَا ، ولا عِبْرَةَ بِمَنْ يَسْتَوْحِشُ عندما تُذْكَرُ صفاتُ اللهِ تَعَالَى كصفةِ العُلُوِّ ، وصفةِ الاستواءِ ، وصفةِ النزولِ كما يَشَاءُ ، وصفةُ اليدِ ، وصفةُ الوجهِ ، وصفةُ الرَّحمةِ ، وصفةُ المَحَبَّةِ ، وما أَشْبَهَ ذلكَ.
فاللهُ تَعَالَى قدْ أَثْبَتَ هذهِ الصِّفاتِ ، وكذلكَ أَثْبَتَهَا نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فإذا كانتْ ثَابِتَةً أَفَلاَ يُثْبِتُهَا المسلمُ ؟!
لا شَكَّ أنَّ إِثْبَاتَهَا منْ دينِ الإسلامِ ، وذلكَ لأنَّ الدليلَ عليها قَطْعِيُّ الثُّبوتِ ، وَقَطْعِيُّ الدَّلالةِ ، وهوَ ما أُثْبِتَ في القرآنِ ، فَهَلْ هناكَ شيءٌ أَصَحُّ من القرآنِ ؟ ثمَّ يَلِيهِ الكُتُبُ الصَّحيحةُ كالصَّحيحَيْنِ وغيرِهِمَا من الكُتُبِ الَّتي تَعْتَنِي بالصَّحيحِ .
وهذهِ الكُتُبُ مُشْتَمِلَةٌ على صفاتٍ ثابتةٍ قطعيَّةِ الثُّبوتِ ، ثمَّ هيَ أيضًا قَطْعِيَّةُ الدَّلالةِ ، دَلاَلَتُهَا صريحةٌ يَعْرِفُهَا كلُّ عَرَبِيٍّ فَاهِمٍ لِلُّغَةِ ، يَعْرِفُ ما تَدُلُّ عليهِ .

فمَن الَّذي يَشُكُّ في أنَّ العرشَ سَرِيرُ المُلْكِ ؟!
أَثْبَتَ اللهُ لِنَفْسِهِ العرشَ ، فَنُثْبِتُ أنَّ للهِ عَرْشًا .

وكذلكَ مَن الَّذي يَشُكُّ أنَّ العُلُوَّ هوَ الارتفاعُ لُغَةً ؟! فَنُثْبِتُ للهِ العُلُوَّ .
ومَن الَّذي يَشُكُّ في أنَّ العِزَّةَ هيَ الغَلَبَــةُ والقوَّةُ ؟!
مَن الَّذي يَشُكُّ في أنَّ السَّمعَ هوَ إِدْرَاكُ الأصواتِ؟!
وأنَّ البصرَ هوَ إدراكُ المَرْئِيَّاتِ؟!
مَعْرُوفٌ أنَّ هذهِ الصِّفاتِ لَفْظُهَا وَاضِحٌ من اللُّغةِ .
فإذا سَمِعْنَا هذهِ الصِّفاتِ تَجَرَّأْنَا على أنْ نُثْبِتَهَا للهِ ولا نَتَحَاشَى ، بلْ نَجْسُرُ على إِثْبَاتِهَا ولوْ شَنَّعَ عليْنَا مَنْ شَنَّعَ ، ولوْ أَنْكَرَ علينا مَنْ أَنْكَرَ ؛ وَمَا ذَاكَ إلاَّ لأنَّ دَلاَلَتَهَا واضحةٌ لا تَحْتَمِلُ خَفَاءً ، وليسَ فيها غُمُوضٌ .
فطريقةُ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ اللهَ لا يُوصَفُ إلاَّ بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ في كتابِهِ ، وبما وَصَفَهُ رسولُهُ وجميعُ الأنبياءِ في كُتُبِهِم المُنَزَّلَةِ وفي شرائِعِهِم وَسُنَنِهِم ؛ وذلكَ لأنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ ، وَرُسُلَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ أَرْسَلَهُم ، فإذا وَصَفَ نفسَهُ بصفةٍ وَأَثْبَتَهَا لنفسِهِ ، فكيفَ نَنْفِيهَا ، وكيفَ نُنْكِرُهَا ؟! ما الدَّليلُ على ذلكَ ، وما السَّببُ في رَدِّهَا ؟!
لا شَكَّ أنَّها إذا كانتْ قَطْعِيَّةً وَرَدَدْنَاهَا وقُلْنَا: إنَّ العقلَ يُنْكِرُهَا وَيَسْتَبْعِدُهَا ، كنَّا قدْ حَكَّمْنَا العقولَ في شرعِ اللهِ ، وهذا لا شَكَّ أنَّهُ جُرْأَةٌ على اللهِ تَعَالَى ، وَتَحْكِيمٌ للعقلِ الضعيفِ -الَّذي يَعْتَرِيهِ التَّغَيُّرُ- في ذاتِ الرَّبِّ تَعَالَى الَّذي أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كلَّ كمالٍ ، وَنَفَى عنْ نفسِهِ كلَّ نَقْصٍ .
وبكلِّ حالٍ ، فمعنَى هذهِ الجملةِ: أنَّ اللهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بما وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ في كتابِهِ ، وبما وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سُنَّتِهِ ، وأنَّ كلَّ ما ثَبَتَ فَإِنَّنا نَقُولُ بهِ .
وأمَّا ما رُوِيَ من الأدلَّةِ الَّتي لم تَثْبُتْ ، فلا نَقُولُ بهِ لضعفِ المُتَمَسِّكِ ، فإذا كانَ هُنَاكَ أحاديثُ ضعيفةٌ مُشْتَمِلَةٌ على بعضِ الصِّفاتِ ، فلا تُثْبَتُ بها الصِّفاتُ ، وإنَّما تُثْبَتُ الصِّفاتُ بالأحاديثِ الصَّحيحةِ ، ولوْ لم تَبْلُغْ حَدَّ التَّواترِ ، ما دَامَ أنَّها مُتَلَقَّاةٌ بالقَبُولِ ، وثابتةٌ بالأسانيدِ الصَّحيحةِ ، فإنَّا نُثْبِتُ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ .
فمثلاً : صفةُ النزولِ : (( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ …)) إلخ الحديثَ .
ذَكَرَ بعضُ العلماءِ أنَّهُ مَرْوِيٌّ عنْ نَحْوِ عَشَرَةٍ من الصَّحابةِ منْ طُرُقٍ بَعْضُهَا في الصَّحيحَيْنِ ، فكيفَ نَرُدُّهَا بِمُجَرَّدِ العقولِ ؟! إنَّ كثيرًا مِمَّنْ يُنْكِرُ الصِّفاتِ منْ أشاعرةٍ وَنَحْوِهِم إذا سَمِعُوا هذا الحديثَ نَفَرُوا منهُ ، حتَّى إنَّهُ حَدَّثَنِي بعضُ التَّلاميذِ من الَّذينَ اعْتَقَدُوا العقيدةَ الصَّحيحةَ ، أنَّهُ تَكَلَّمَ مَرَّةً بعدَ صلاةِ الجُمُعَةِ وأَخَذَ يُرَغِّبُ في قيامِ الليلِ ، وَأَوْرَدَ هذا الحديثَ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ )). فقالَ: إنَّ هذا فيهِ حَثٌّ على قيامِ اللَّيلِ ، فلمَّا سَمِعَ الإمامُ - وكانَ أَشْعَرِيًّا - هذا الحديثَ هَرَبَ وَخَرَجَ اسْتِنْكَارًا لهُ ؛ حيثُ إنَّهم يقولونَ : إنَّهُ لا يَدُلُّ على صفةٍ ، وإنَّهُ لا يُسْتَدَلُّ بهِ ؛ لكونِهِ ليسَ بِمُتَوَاتِرٍ ، ونحوَ ذلكَ .
واصْطَلَحَ هؤلاءِ الأشاعرةُ وَنَحْوُهُم - الَّذينَ سَمَّوْا عِلْمَهُم بِعِلْمِ الكلامِ - على أنَّ الصِّفاتِ لا تَثْبُتُ بالأحاديثِ إلاَّ إذا كانتْ مُتَوَاتِرَةً ، وأمَّا أحاديثُ الآحادِ فلا تُقْبَلُ في الصِّفاتِ ؛ لأنَّهم اصْطَلَحُوا على أنَّ المُتَوَاتِرَ يُفِيدُ اليَقِينَ ، وأنَّ الآحادَ تُفِيدُ الظَّنَّ ، وقالوا: لا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ صِفَاتُ اللهِ دَلاَلَتُهَا دَلاَلَةُ ظَنٍّ ، فلا نُثْبِتُهَا بالأحاديثِ الَّتي لم تَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّواترِ ، بَلْ نَرُدُّ كلَّ حديثٍ في الصِّفاتِ إذا لمْ يَبْلُغْ حَدَّ التواتُرِ .
ونحنُ إذا نَظَرْنَا لم نَجِد الأحاديثَ المتواترةَ إلاَّ قليلةً ، مثلَ أحاديثِ الشَّفاعةِ ، معَ أنَّ المعتزلةَ رَدُّوا أحاديثَ الشَّفاعةِ وقدْ بَلَغَتْ حَدَّ التَّواترِ ، فلم يَعْمَلُوا باصطلاحِهِم ، وأحاديثُ النزولِ رَدُّوهَا ؛ لأَِنَّها في نَظَرِهِم آحَادٌ ، وكذلكَ بَقِيَّةُ الصِّفاتِ مثلَ حديثِ الْعُجْبِ ، وحديثِ الضَّحِكِ، وحديثِ النِّداءِ ، وحديثِ الكلامِ ، وحديثِ الصَّوتِ ، كلُّهَا رَدُّوهَا وقالوا : إنَّها ظَنِّيَّةٌ ؛ لأنَّها آحادٌ ، فلا نَقْبَلُ إلاَّ ما هوَ متواترٌ ، سُبْحَانَ اللهِ ! أَلَسْتُمْ قَبِلْتُمُوهَا في الأحكامِ ، وفي الأوامرِ والنَّواهِي ، وفي الحلالِ والحرامِ ؟! فَلِمَاذَا تَقْبَلُونَهَا هُنَا وَتَرُدُّونَهَا هُنَاكَ ؟! أَلَسْتُمْ في هذا كَمَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الكتابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ؟! أَلَسْتُمْ كَمَنْ يَقُولُ: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}.
هذهِ طَرِيقَتُهُم ، أمَّا طَرِيقَتُكَ - أيُّها المسلمُ - فإنَّكَ تَأْخُذُ كلَّ ما ثَبَتَ ، وإنَّكَ تَقْبَلُهُ وَتَتَقَبَّلُهُ وَتُؤْمِنُ بهِ إِيمَانًا كَامِلاً ؛ حتَّى لا يَعْتَرِيَكَ في ثُبُوتِهِ شَكٌّ ، وأنَّهَا صِفَاتٌ ثابتةٌ للهِ تَعَالَى ، أَثْبَتَهَا اللهُ الَّذي هوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ ، وَأَثْبَتَهَا لهُ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذي هوَ أَعْلَمُ بِمُرْسِلِهِ.


  #5  
قديم 4 ذو القعدة 1429هـ/2-11-2008م, 11:39 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح معالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)

القارئ:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لِلَّهِ المحَمُودِ بِكُلِّ لِسَانٍ ، المَعْبودِ في كُلِّ زَمَانٍ، الَّذِي لاَ يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ، وَلاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، جَلَّ عَنِ الأشْبَاهِ والأَنْدَادِ، وَتَنَزَّهَ عنِ الصَّاحِبَةِ والأَوْلادِ، ونَفَذَ حُكْمُهُ في جَميعِ العِبَادِ، ولا تُمَثِّلُهُ العُقُولُ بِالتَّفْكِيرِ، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ القُلوبُ بالتَّصْوِيرِ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لَهُ الأسماءُ الحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ العُلَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ،أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ، وَقَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزّةً وَحُكْماً ، ووَسِعَ كلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وعِلْماً ، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِه نَفْسَهُ في كِتَابهِ العَظِيمِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة والتسليم.
الشيخ:
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنَا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين ، أمَّا بعدُ:
فهذه الرِّسالةُ الموسومةُ بـ: (لمعةِ الاعتقادِ) من نُبَذِ العقيدةِ ، يعني : من متونِهَا المختصرةِ ، وقد ضمَّتْ مباحثَ الاعتقادِ ، وأثنى عليها العلماءُ بعدَ الموفَّقِ رحمه اللهُ تعالى ، وهي حقيقةٌ بأنْ تُفصَّلَ كلماتُها وجملُها ، وأن تُبيَّنَ مباحثُها بشيءٍ من التّفصيلِ ، ولمَّا كانت هذه الأيامُ الثَّلاثةُ الَّتي نستقبلُها لا تكفي ولا تفي بأن تُشرحَ هذه العقيدةُ شرحاً وافياً ، لهذا سنمرُّ عليها مروراً فيه إيضاحُ كثيرٍ من مسائلِهَا على شكلِ ووجهِ الإيجازِ .
وهذه الخطبةُ الَّتي ذكر المؤلِّفُ بين يدي كتابِهِ ورسالتِهِ ؛ فيها ما يسمِّيه علماءُ البلاغةِ براعةَ الاستهلالِ، وبراعةُ الاستهلالِ يعتني بها أهلُ العلمِ .
ومعناها: أن يُضمِّنوا الخطبةَ الَّتي بين يدي كتبِهِم أو بين يدي كلامِهِم وخُطَبِهِم ، يضمِّنوهَا ما سيتكلَّمُون به أو يفصِّلونَهُ .
فلمَّا كان بحثُ هذا الكتابِ في الاعتقادِ ، وفي تنزيهِ اللهِ - جلّ وعلا - وما يستحقُّه جلَّ وعلا ، وهذا أعلى وأعظمُ ما في مباحثِ الاعتقادِ ، ضمّن هذه الخطبةَ الثَّناءَ على اللهِ - جلّ وعلا - وذكْرَ استوائِهِ - جلَّ وعلا - على عرشِهِ ، وذكْرَ علمِهِ - جلَّ وعلا - وإحاطتِهِ بكلِّ شيءٍ ، وذَكَرَ أنَّهُ - جلَّ وعلا - موصوفٌ بما وصفَ به نفسَهُ ، وغيرَ ذلك ممَّا بيَّنَه في هذه الخطبةِ .
وأمَّا خطبةُ الحاجةِ المشهورةُ الَّتي وردت في حديثِ ابنِ مسعودٍ وغيرِهِ من أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقولُ بين يدي حاجاتِهِ : (( إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ... إلى آخرِهِ )) ، فهذه مشروعةٌ بين يدي الحاجاتِ ، وكثيراً مَّا كان يقولُهَا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، ولكنْ ليس هذا أمراً مطرداً ، ولهذا أهلُ العلمِ تارةً يبدءون كتبَهُم وخطبَهُم ومؤلَّفاتِهِم بتلك الخطبةِ المعروفةِ بخطبةِ الحاجةِ .
وتارةً يجعلون خطبَهم مذكورةً بما يريدون ذكرَهُ في خطبتِهِم ، أو مؤلَّفِهم ، أو رسالتِهِم ، وهذا هو الَّذي أسلفْتُ لك أنَّه يُسمَّى براعةَ الاستهلالِ ، ولهذا يجتهدُ أهلُ العلمِ في الابتداءِ بمثل هذا اللفظِ العظيمِ الموجزِ الَّذي يدلُّ على المرادِ ، بل ويتَنافَسُ العلماءُ في أن يُضمِّنُوا صدورَ خطبِهِم لكتبِهِم ولغيرِهَا ما يريدون إيضاحَهُ في كتبِهِم ، أو في خطبِهِم، ونحوِ ذلك .
المسألةُ الثَّانيةُ: أنَّ مباحثَ الاعتقادِ عند أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ مَبْنِيَّةٌ على شرحِ أصولِ الإيمانِ السّتَّةِ، ألا وهي: الإيمانُ باللهِ، وملائكتِهِ، وكتبِهِ، ورسلِهِ، واليومِ الآخرِ، وبالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ من اللهِ تعالى.
فالإيمانُ باللهِ يشملُ:
- الإيمانَ بأنَّهُ - جلّ وعلا - واحدٌ في إلهيتهِ، مستحقٌّ للعبادةِ دون ما سواه.
- والإيمانَ بأسمائِهِ - جلَّ وعلا - وصفاتِهِ ، وأنَّه واحدٌ في أسمائِه وصفاتِه لا شبيهَ له ، ولا مثيلَ في أسمائِهِ وصفاتِه .
وهذا البحثُ - أعني الكلام على الإيمان باللهِ - لم يكن في أوَّلِ الإسلامِ - يعني : في القرونِ الأولى- لم يكنْ ثمَّ حاجةٌ إلى إفرادِ الكلامِ عن توحيدِ الألوهيَّةِ بخصوصِهِ ، وإنَّما كانوا يكتفون بالإجمالِ فيه ؛ لأجلِ عدم وقوعِ الشِّركِ في هذه الأمَّةِ وعدمِ ظهورِهِ ، فكانت جُلُّ مباحثِ الاعتقادِ فيما يتَّصلُ بمبحثِ الإيمانِ باللهِ عن الأسماءِ والصِّفاتِ ، وغيرُهَا يُعرضُ له بشكلٍ من الإجمالِ ، لكنْ لمَّا ظهر الشِّركُ وفشا كان لزاماً أن يفردَ هذا بالتَّصنيفِ.
ولهذا لا تجدُ في مباحثِ الاعتقادِ الَّتي في هذه الرِّسالةِ الكلامَ مُفصَّلاً عن توحيدِ العبادةِ ، وعن توحيدِ الإلهيَّةِ بما اعتنى به العلماءُ من بعدُ ، وإنَّما تجدُ الكلامَ مفصَّلاً في مباحثِ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ ، وهذا لأجلِ الحاجةِ إليه في زمنِ تَأليفِ مثلِ تلك الرِّسالةِ ، فكلَّما كانت حاجةُ العبادِ إلى إيضاحِ أمرٍ أكثرَ ، كلما اعتنى به أهلُ العلمِ وأظهروه .
إذاً : كتب توحيد الإلهية - توحيد العبادة - من مثل (كتاب التَّوحيد) و (كشف الشّبهات) و (ثلاثة الأصولِ) ونحوها من الكتبِ ؛ هذهِ فيها بيانٌ لتوحيدِ الإلهيَّةِ ، الَّذي هو أحدُ مباني العقيدةِ في ركنِهِ الأوَّلِ ، وهو الإيمانُ باللهِ .
ثمَّ يذكرُ الإيمانَ بالملائكةِ ، والكتبِ ، والرُّسلِ ، كما سيأتي إيضاحُه إن شاء اللهُ تعالى ، ثمَّ الإيمانَ باليومِ الآخرِ ، وهذا يدخلُ فيه الإيمانُ بالغيبيَّاتِ ، إذا أتى أهلُ العلمِ للكلامِ على اليومِ الآخرِ والإيمانِ بهِ ، فإنَّهُم يذكرون الكلامَ على الغيبيَّاتِ وما يجبُ على المسلمِ اعتقادُهُ فيها ، وطريقةُ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ فيها المخالفةِ والمنابذةِ لطرقِ أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ والبدعِ ، ثمَّ الإيمانَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ .
فإذا تمَّ بيانُ أركانِ الإيمانِ السّتَّةِ ، ذكروا ما يتبعُ ذلك من أمورِ الاعتقادِ الَّتي اعتنى بها أهلُ السّنَّةِ والجماعةِ ، وهي في أصلِهَا ليست من مسائلِ الاعتقادِ ، لكنها أُدرجتْ في مسائلِ الاعتقادِ لأجلِ الحاجةِ إليها ، من جهةِ أنَّ أهلَ السّنّةِ والجماعةِ خالفوا فيها أهلَ الزَّيغِ والضَّلالِ وأهلَ البدعةِ والفرقةِ ، من مثل الكلامِ في الصَّحابةِ - رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين - ومن مثلِ الكلامِ في أُمَّهاتِ المؤمنين ، وحقُّ أمهاتِ المؤمنين جميعاً على المؤمنين بعامّةٍ .
ومن مثلِ الكلامِ في الإمامةِ وما يجبُ من طاعةِ أولي الأمرِ في المعروفِ ، وأنَّ الإمامةَ واجبةٌ ، وأنَّ البيعةَ للإمامِ الذي بويعَ أنها مُتَعيِّنةٌ ، ولا يجوزُ الخروجُ على الأئمَّةِ بجورِهِم ، وتجبُ الصَّلاةُ خلفَهُم ، والجهادُ معهم ، ونحوُ ذلك من مباحثِ الإمامةِ الَّتي خالفَ بها أهلُ السّنّةِ والجماعةِ الخوارجَ ، والمعتزلةَ ، ومن شابهَهُم .
كذلك يذكرون من مباحثِ الاعتقادِ : مثلَ المسحِ على الخفينِ ، وذلك مخالفةً لمن لا يرى المسحَ على الخفينِ .
كذلك يذكرون في مباحثِ الاعتقادِ : كراماتِ الأولياءِ ، وما يُجري اللهُ على أيديهم من أنواعِ العلومِ والمكاشفاتِ ، وأنواعِ القدرةِ والتَّأثيراتِ كما هو معلومٌ ، ويبسطون ذلك لأجلِ وجودِ من يخالفُ في الأولياءِ وفي كراماتِهم من جهةِ إنكارها تارةً كما فعلتِ المعتزلةُ ، ومن جهةِ الغلوِّ في الأولياءِ ، حتى جعلتهم طائفةٌ فوقَ منزلةِ الأنبياءِ ، وهكذا مسائلُ الأخلاقِ تذكرُ ضمنَ مسائلِ اعتقادِ أهلِ السنةِ والجماعةِ .
إذاً : فمعتقدُ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ يشمل هذه الأمورَ جميعاً ، وليس معتقدُ أهلِ السنةِ والجماعةِ خاصّاً بالاعتقادِ في اللهِ - جلَّ وعلا - وأسمائِهِ وصفاتِه واليومِ الآخرِ والقدرِ كما قد يُظنُّ ، بل معتقدُ أهلِ السنةِ والجماعةِ يشمل هذا جميعاً ؛ لأنَّه به فارقوا أهلَ البدعِ والزَّيغِ الَّذين يردُّون النّصوصَ ولا يلتزمونَ بالسّنّةِ، ولا يخضعون لها ويحكِّمونَهَا على أنفسِهم تحكيماً تامّاً، وبهذا التَّوجُّهِ تميّزَ أهلُ السّنَّةِ بأنَّهُم يعظِّمونَ السّنّةَ ويعظّمون أهلَها ، وينبذون من خالفها أو خالفَ أئمَّتها.
إذاً: فنحن فيما نستقبلُ - إن شاءَ اللهُ تعالى- سنعرضُ بإيجازٍ لهذه المباحثِ التي سيذكرها المؤلِّفُ بدونِ تطويلٍ ولا تفصيلٍ ، مع أنَّه كان ينبغي أن تُفصَّلَ ، لكنْ لمَّا كان الوقتُ قصيراً ، فإنَّنا نكتفي بإشاراتٍ مجملةٍ .


  #6  
قديم 4 ذو القعدة 1429هـ/2-11-2008م, 11:42 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
Post شرح الشيخ:صالح الفوزان .حفظه الله (مفرغ)

بَدَأَ رَحِمَهُ اللهُ كتابَه: بِبِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ واقتداءً بالقرآن الكريم عَمَلاً بالسنَّةِ، في أنَّ (بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ) يُبْدَأُ بها في كلِّ أمْرٍ ذِي بالٍ، يعنِي: في كلِّ أمْرٍ له شَأْنٌ وأَهَمِّيَّةٌ، يُبْدَأُ فيه بِـ (بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ)، يُبْدَأُ بها بالنطْقِ، ويُبْدَأُ بها في الكتابَةِ، كما بَدَأَ اللهُ سبحانَه وتعالَى بها كِتابَه (القُرْآنَ الكريمَ)، وبَدَأَ بها كلَّ سورةٍ مِن القرآنِ الكريمِ، وكمَا كتَبَها سليمانُ ـ عليه السلامُ ـ في رِسالَتِهِ إلى بِلْقِيسَ، مَلِكَةِ سَبَأٍ:{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأَُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
وهي آيةٌ مِن كتابِ اللهِ؛ لأنها: نَزَلَتْ معَ القرآنِ، لكنَّها آيةٌ مُسْتَقِلَّةٌ على الصحيحِ إِلاَّ في سورةِ النملِ؛ فإنَّها بعضُ آيةٍ وإِلاَّ فهي آيةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لَيْسَتْ مِن الفاتِحَةِ ولا غَيْرِها مِن السُّوَرِ، وإنما تُقْرَأُ قبلَ السورةِ، تُبْدَأُ بها السورةُ، وإلاَّ فهي آيةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، ليْسَتْ مِن سورةٍ مُعَيَّنَةٍ إِلاَّ في النمْلِ فهي بعضُ آيَةٍ.
وقولُه: (بِسْمِ اللهِ) الجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوف، تقديرُه: أَسْتَعِينُ باسم اللهِ أو أَتَبَرَّكُ باسم اللهِ، والاسمُ: مأخوذٌ مِن السُّمُوِّ؛ وهو: الارْتِفاعُ، أو مِن السِّمَةِ؛ وهي العلامَةُ، وهو ما يَتَمَيَّزُ به الشيءُ؛ فإنَّ اللهَ سُبْحَانَه وتَعالَى وَضَعَ الأسماءَ وعَلَّمَهَا آدَمَ، كما قالَ تعالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}أي: أسماءَ الأشياءِ، كلُّ شيءٍ له اسمٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ.
وقولُه: (بِسْمِ اللهِ) مضافٌ، ومضاف إليه اسمِ: مضافٌ، واللهِ: مضافٌ إليه، والمرادُ: جميعُ أسماءِ اللهِ، سُبْحَانَه وتَعالَى؛ لأنَّ المُفْرَدَ إذا أُضيفَ فإِنَّه يَعُمُّ، فقولُه: (بِسْمِ اللهِ) أي: بِجميعِ أسماءِ اللهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، أَسْتَعِينُ بِهَا، وأَتَبَرَّكُ بها، وأسماءُ اللهِ كثيرةٌ، لا يَعْلَمُهَا إلا هو سُبْحَانَه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
واللهُ: علَمٌ على الذاتِ المُقَدَّسَةِ، لا يُسَمَّى بهذا الاسمِ إلاَّ هو سبحانَه وتعالى، فلا يُطْلَقُ هذا الاسمُ " اللهُ " إلاَّ على " اللهِ " سُبْحَانَه وتَعالَى، على الرَّبِّ، ومعناهُ المعبودُ؛ لأن اللهَ مِن الألوهِيَّةِ؛ وهي العبودِيَّةُ، فهو المعبودُ ـ سُبحانه وتعالى ـ المَأْلُوهُ، الذي تَأْلَهُهُ القُلُوبُ وتُحِبُّه؛ إجلالاً وتعظيماً.
(الرحمنِ الرحيمِ): اسمانِ مِن أسمائِهِ سُبْحَانَه وتَعالَى يَتَضَمَّنَانِ الرحمةَ، والرحمةُ صِفَةٌ مِن صفاتِهِ سُبْحَانَه وتَعالَى تَلِيقُ بجَلاَلِه لا تشبه صفات المخلوقين.
والرحمنُ: أيضاً لا يُسَمَّى به إلا اللهُ سُبْحَانَه وتَعالَى، وأما الرحيمُ: فقد يُسَمَّى به بعضُ الخَلْقِ، كما في قولِه تعالى في وَصْفِ نَبِيِّه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
والرحمنُ أعمُّ مِن الرحيمِ؛ لأنَّ الرحمنَ رَحْمَةٌ عامَّةٌ لجميعِ المخلوقاتِ، وأمَّا الرحيمُ فهو رَحْمَةٌ خاصَّةٌ بالمؤمِنين، كما في قولِه تعالى: {وَكَانَ بالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} فهما اسمانِ عظيمانِ يَتَضَمَّنانِ وَصْفَ اللهِ سُبْحَانَه وتَعالَى بالرحمةِ على ما يَلِيقُ بجلالِهِ سُبْحَانَه وتَعالَى
ثُمَّ بَدَأَ بالحمدِ بَعْدَ: بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، قالَ: (الْحَمْدُ للهِ) وهذا أيضاً مِن السنَّةِ أن يُبْدَأَ الكلامُ بـ الحمدُ للهِ، كما كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ يَفْعَلُ ذلك في كتبه، وكمَا بدَأَ اللهُ كتابَه بـ " الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ " في سُورةِ الفاتِحَةِ.
والحمدُ، معناه: الثناءُ، فاللهُ جلَّ وعلا يُثْنَى عليه، ويُحْمَدُ لذاتِه ولأسمائِهِ، وصفاتِه، ولأفعالِه، جلَّ وعلا، يُحْمَدُ عليها، ويُثْنَى عليه بها.
وقولُه: (الحمدُ) الألِفُ واللامُ للاسْتِغْرَاقِ، أي: جميعُ المحامِدِ للهِ عزَّ وجلَّ، فهو المُسْتَحِقُّ للحَمْدِ على الإطلاقِ، والحمدُ أعمُّ مِن الشكْرِ؛ لأن الشكرَ يكونُ على الأفعالِ فقَطْ، وأمَّا الحمدُ فيكونُ على أوْسَعَ مِن ذلك؛ على الأسماءِ والصفاتِ والأفعالِ، فقولُه: (الحَمْدُ للهِ) أي: الثناءُ الكامِلُ مُسْتَحَقٌّ للهِ عزَّ وجلَّ وَحْدَه لا شريكَ له؛ لأنه هو المُنْعِمُ على عِبادِهِ.
المَتْنُ/ (الْمَحْمُودُ بِكُلِّ لِسَانٍ).
الشرْحُ/ (الْمَحْمُودُ بِكُلِّ لِسَانٍ) أي: المُثْنَى عليه سُبْحَانَه وتَعالَى بكلِّ لُغَةٍ مِن اللغاتِ التي علَّمها مخلوقاتِه، فكلُّ المخلوقاتِ تَحْمَدُه وتُسَبِّحُه سُبْحَانَه وتَعالَى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} فكلُّ المخلوقاتِ تَحْمَدُهُ سبحانَه وتعالى بِلُغاتِها، التي يَعْلَمُها سُبْحَانَه وتَعالَى دون غيره.
المَتْنُ/ (المعبودُ في كُلِّ زَمانٍ).
الشرحُ/ (المَعْبُودُ فِي كُلِّ زَمَانٍ) أي: المُسْتَحِقُّ للعِبَادَةِ سُبْحَانَه وتَعالَى دائماً وأبَداً، ولاَ يَزالُ خَلْقُه يَعْبُدونه سُبْحَانَه وتَعالَى إلى أنْ تَقُومَ الساعَةُ، فلا يَخْلُو زمانٌ مِن وُجُودِ عُبَّادٍ للهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، يَعْبُدونَه ويُوَحِّدُونه إلى أنْ تَقُومَ الساعَةُ.
(المعبودُ في كلِّ زمانٍ) وكذلك وفي كلِّ مكانٍ؛ فإنَّ اللهَ سُبْحَانَه وتَعالَى يُعْبَدُ في السماواتِ، ويُعْبَدُ في الأرْضِ كما قالَ اللهُ تعالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} أي: مَعْبُودٌ، فهو معبودٌ في السماءِ سبحانه، ومعبودٌ في الأرضِ، يَعْبُدُه العالَمُ العُلْوِيُّ والعالَمُ السفْلِيُّ، والجِنُّ والإنسُ في كلِّ مكانٍ مِن مخلوقاتِه سُبْحَانَه وتَعالَى، فلا تَخْتَصُّ عبادَتُه بمكانٍ دونَ مكانٍ، ولهذا يقولُ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً)).
ولكنَّ اللهَ خَصَّ بَعْضَ الأماكِنِ بِمَزِيدِ فَضْلٍ لعبادَتِه سُبْحَانَه وتَعالَى، وإِلاَّ فإنه يُعْبَدُ سبحانَه في كلِّ مكانٍ مِن أرْضِه وسَمائِه.

المَتْنُ/ (الَّذِي لاَ يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ، وَلاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ).

الشرحُ/ (الَّذِي لاَ يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ) يَعْلَمُ ما في السماواتِ وما في الأرْضِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وِلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
فهو يَعْلَمُ سُبْحَانَه وتَعالَى ما كانَ وما يكونُ، ويَعْلَمُ كلَّ شيءٍ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ}.
عَلِمَ ذلك سُبْحَانَه وتَعالَى في الأَزَلِ، ثُمَّ كَتَبَ في اللوحِ المحفوظِ كلَّ شَيْءٍ، وهو يَعْلَمُ سُبْحَانَه وتَعالَى دائِماً وأبداً، لا يَنْفَكُّ عن عِلْمِه سُبْحَانَه وتَعالَى، فالعلم صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أبديَّةٌ للهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، عِلْمُه في كلِّ مكانٍ، هو سُبْحَانَه وتَعالَى في السماءِ فَوْقَ العَرْشِ، وعِلْمُه في كلِّ مكانٍ جلَّ وعلا، لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِن مخلوقاتِهِ، وأرْضِه، وسماواتِهِ، ولاَ في الماضِي، ولا في المُسْتَقْبَلِ، يَعْلَمُ ما كانَ وما يكونُ، وأينَ يكونُ، وكيفَ يكونُ، لا يَخْفَى على عِلْمِهِ شيءٌ {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
ففَرْقٌ بينَ ذاتِه سبحانه وعِلْمِه؛ ذاتُه: في العُلُوِّ فوْقَ السماواتِ، وأما عِلْمُه فهو في كلِّ مكانٍ، لا يَخْلُو مِنه مكانٌ.
المتنُ: (ولاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عن شَأْنٍ).
الشرحُ: (وَلاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عن شأنٍ) يعني: عَمَلٌ عن عَمَلٍ، يَخْلُقُ، ويَرْزُقُ، ويُحْيِي، ويُمِيتُ، ويُعِزُّ، ويُذِلُّ، ويُفْقِرُ، ويُغْنِي.
فهو سُبْحَانَه وتَعالَى يُدَبِّرُ أمْرَ مخلوقاتِه، ولا يَشْغَلُه عَمَلٌ عن عمَلٍ، بخلافِ المخلوقِ؛ فإن المخلوقَ إذا اشْتَغَلَ بعمَلٍ فإنه لا يُمْكِنُ أن يَنْشَغِلَ بعمَلٍ آخَرَ، أمَّا اللهُ جلَّ وعلا فَلاَ يَشْغَلُه عمَلٌ عن عمَلٍ؛ وذلك لكمالِ قُدْرَتِه سُبْحَانَه وتَعالَى وكمالِ عِلْمِه.
المتنُ: (جَلَّ عَنِ الأَشْبَاهِ وَالأَنْدَادِ).
الشرحُ: جلَّ: أي: تنزه وعَظُمَ شأْنُه سبحانَه عن الأشباهِ، فلاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِن مخلوقاتِه.
والأندادُ: جَمْعُ نِدٍّ، وهو الشبيهُ أيضاً، فلا شَبيهَ له، ولا نِدَّ له ولا نظير له ولا مثل له، ولا كُفْءَ له سُبْحَانَه وتَعالَى، لا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
المتنُ: (تَنَزَّهَ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالأَوْلاَدِ).
الشرحُ: (تَنَزَّهَ عن الصاحبةِ) وهي الزوجةُ، (تَنَزَّهَ): يعني، تَقَدَّسَ سُبْحَانَه وتَعالَى عن الصاحِبَةِ وهي الزوجةُ، (والأولاِد)؛ لغِناه سُبْحَانَه وتَعالَى عن خلْقِه؛ لأنه لا يَحْتاجُ للزوجةِ والأولادِ إلا المخلوقُ؛ لضَعْفِه، وحاجَتِه إلى مَن يُعِينُه، فاللهُ جل وعلا غَنِيٌّ عن خَلْقِهِ، ليسَ بِحَاجَةٍ إلى الصاحِبَةِ، وهي الزوجةُ، ولا إلى الوَلَدِ، ولأن الوَلَدَ جُزْءٌ مِن الوالِدِ، فاللهُ جلَّ وعلا لا شَبِيهَ له، ولا نِدَّ له، ولا كُفْءَ له، فهو غَنِيٌّ عن خَلْقِهِ، ولا شَبِيهَ له مِن خَلْقِه، {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ} فاللهُ جلَّ وعلا {لَم يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
وهذا في آياتٍ كثيرةٍ، نَزَّهَ نفسَه عن الوَلَدِ؛ رَدًّا على الذين وَصَفُوه بأنَّ له وَلَداً، كالنصارَى الذين قالوا: المسيحُ ابنُ اللهِ، واليهودِ الذين قالوا: عُزَيْرٌ ابنُ اللهِ، وكأهلِ الجاهِلِيَّةِ مِن المُشْرِكينَ، الذين يَقُولون: الملائِكَةُ بناتُ اللهِ. اللهُ جلَّ وعلا مُنَزَّهٌ عن ذلك كلِّه {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} يعني: زوجةٌ، فهو مُنَزَّهٌ عن ذلك، وإنما هذا لائِقٌ بالمخلوقِين، هم الذين يَحْتاجُون إلى التزَاوُجِ، ويَحْتاجُونَ إلى الذرِّيَّةِ والأولادِ.
أمَّا اللهُ جلَّ وعلا فإِنَّه غنِيٌّ عن خَلْقِه، وخَلْقُه مُحْتاجُون إليه.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلْرَحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}.
كلُّهم عبيدُه، ليس أحَدٌ منهم وَلَداً للهِ سُبْحَانَه وتَعالَى, كما يقولُه الكافِرونَ والضالُّونَ؛ مِن اليهودِ، والنصارَى، والمُشْرِكِين.
المتنُ: (نَفَذَ حُكْمُهُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادِ).
الشرحُ: (نَفَذَ حُكْمُه) أي: قَضَاؤُه وقَدَرُه، المرادُ بالحُكْمِ هنا الحُكْمُ القَدَرِيُّ، الكوني الذي هو نافِذٌ في جميعِ العِبادِ، فلا أحَدَ يَسْتَعْصِي على قضاءِ اللهِ وقدَرِهِ؛ المؤمنُ والكافِرُ، الحيُّ والجمَادُ، وجميعُ المخلوقاتِ، كلُّها يَنْفُذُ فيها قضاءُ اللهِ وقَدَرُه، لا أَحَدَ يَسْتَعْصِي على ذلك، أو يَمْتَنِعُ مِن ذلك، فأَحْكَامُه القَدَرِيَّةُ نافِذَةٌ في خَلْقِهِ سُبْحَانَه وتَعالَى لا مَحِيدَ لهم عنها.
المتنُ: (لاَ تُمَثِّلُهُ الْعُقُولُ بِالتَّفْكِيرِ، ولا تَتَوَهَّمُهُ القلوبُ بالتصْوِيرِ).
الشرحُ: لا تُمَثِّلُه العقولُ بالتفكيرِ، ولا النفوسُ بالتصويرِ؛ فإنه سُبْحَانَه وتَعالَى لا مِثْلَ له ولا شَبِيهَ له، ولا أحَدَ يَعْلَمُ ذاتَه سبحانَه إلا هو سُبْحَانَه وتَعالَى، فلا يَجُوزُ لأحَدٍ أنْ يَتَصَوَّرَ اللهَ أنه كذا وكذا، أو يُشَبِّهَ اللهَ بكذا وكذا، لا يَجوزُ هذا، ولا يُمْكِنُ هذا أيضاً، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} سُبْحَانَه وتَعالَى.
المتنُ: (لا تُمَثِّلُه العُقُولُ بالتفكيرِ، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ القلوبُ بالتصويرِ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}).
الشرحُ: هذه الآيةُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هذا نَفْيٌ لِلْمُمَاثَلَةِ عنه سُبْحَانَه وتَعالَى، فلا أَحَدَ يُمَاثِلُهُ وَلاَ أَحَدَ يُشْبِهُهُ، ولاَ أَحَدَ يُكَافِيه سُبْحَانَه وتَعالَى؛ لأنه أَعْظَمُ مِن كلِّ شَيْءٍ؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وهذا فيه: اسْتِغْرَاقٌ للنَّفْيِ؛ لأن النكِرَةَ إذا ذُكِرَت في سِياقِ النفْيِ تَعُمُّ؛ فلا أَحَدَ يُشْبِهُ اللهَ عَزَّ وجلَّ مِن جميعِ المخلوقاتِ؛ لِعَظَمَتِهِ وكِبْرِيائِهِ سُبْحَانَه وتَعالَى وغِناهُ وقُدْرَتِهِ، فلا أحَدَ يُشْبِهُ اللهَ عزَّ وجلَّ مِن الخَلْقِ.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وصَفَ نفسَه بالسمعِ والبصَرِ، ونفَى عن نفسِه المُشَابَهَةَ، فدَلَّ على أن إثباتَ الصفاتِ للهِ عزَّ وجلَّ لاَ يَقْتَضِي التشبيهَ، كما يقولُه أهلُ الضلالِ؛ فالله سبحانه نفَى عن نفسِه المشابَهَةَ وأثْبَتَ لنفسِه السمْعَ والبَصَرَ؛ فدلَّ على أنه لا تَلاَزُمَ بينَ إثباتِ الصفاتِ وبينَ المُشابَهَةِ، وإنْ كانَت أسماءُ هذه الصفاتِ موجودةً في المخلوقِين؛ السمعُ، والبصَرُ، والكلامُ، والقدْرَةُ، والوَجْهُ، واليدانِ، موجودةٌ في المخلوقِين، ولكنْ هذه خاصَّةٌ بالمخلوقِين لائقة بهم مناسبة لضعفهم وافتقارهم.
وأما صفاتُ اللهِ جلَّ وعلا فهي لائِقَةٌ به، لا تُشَابِهُها صفاتُ المخلوقين، وإنِ اتَّفَقَت في الاسْمِ والمعنَى، إلا أنها في الحقيقةِ والكيفيَّةِ مُخْتَلِفَةٌ ومُتباينةٌ.
المتنُ: (له الأسماءُ الحُسنَى والصفاتُ العُلَى).
الشرحُ: (له الأسماءُ الحُسنَى) هذا فيه إثباتُ الأسماءِ للهِ عزَّ وجلَّ كما أثْبَتَها لنفسِه: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فأَخْبَرَ أنَّ له الأسماءَ، وأخْبَرَ أنها كلَّها حُسنى، حُسنى, يعني: تامَّةٌ، كامِلَةٌ، لا يَعْتَرِيها نَقْصٌ.
المتنُ: (والصفاتُ العُلَى).
الشرحُ: (والصفاتُ العُلَى) أي: العَلِيَّةُ، والصفاتُ كالرحمةِ، والعِلْمِ، والقُدْرَةِ، والإرادةِ، هذه الصفاتُ، والسمعِ، والبصرِ، هذه يُقالُ لها: الصفاتُ، أما السميعُ، البصيرُ، القديرُ، فهذه أسماءٌ، وكلُّ اسمٍ مِنها يُشْتَقُّ مِنه صفةٌ للهِ جلَّ وعلا، فالقديرُ فيه إثباتُ القُدْرَةِ، والسميعُ فيه إثباتُ السمْعِ، والبصيرُ فيه إثباتُ البَصَرِ، والعليمُ فيه إثباتُ العِلْمِ، والحكيمُ فيه إثباتُ الحِكْمَةِ، وهكذا، كلُّ اسْمٍ مِن أسمائِه فإِنه يَتَضَمَّنُ صفةً مِن صفاتِه سُبْحَانَه وتَعالَى.
له الأسماءُ الحسنَى التي سَمَّى بها نفسَه، أو سَمَّاه بها رسولُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وله الصفاتُ العُلَى العَلِيَّةُ، الرفيعةُ، التي لا يُشْبِهُها شيءٌ.
المتنُ: قالَ تَعالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}.
الشرحُ: هذه الآياتُ مِن أوَّلِ سورةِ (طَه)، كما قال سبحانَه: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} أي: القرآنُ، القرآنُ مُنَزَّلٌ مِن عندِ اللهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، وهو كلامُه.
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. الرحمنُ، هذه الآيةُ هي إحدَى الآياتِ السبْعِ التي أثْبَتَ اللهُ فيها اسْتِوَاءَه على العرْشِ، استواءً حَقِيقِيًّا يَلِيقُ بجلالِهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، وهو عُلُوُّه على العرْشِ، والعرْشُ مخلوقٌ مِن مخلوقاتِه سُبْحَانَه وتَعالَى.
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} استوَى, أي: اسْتَقَرَّ وعلا وارْتَفَعَ سُبْحَانَه وتَعالَى، ارْتَفَعَ عليه، وعلا عليه، واسْتَقَرَّ عليه جلَّ وعلا، لكنَّ كلَّ هذه المعانِي تَلِيقُ بجلالِه سُبْحَانَه وتَعالَى، ليس كاسْتِقرارِ المخلوقِ على المخلوقِ، أو عُلُوِّ المخلوقِ على المخلوقِ، أو ارْتِفاعِ المخلوقِ على المخلوقِ، المخلوقُ إذا ارْتَفَعَ على شيءٍ, فإنه بحاجَةٍ إلى هذا الشيءِ؛ لئلاَّ يَسْقُطَ، أما اللهُ جلَّ وعلا فليْسَ بحاجَةٍ إلى العرْشِ، ولا إلى السماواتِ، بلِ العَرْشُ محتاجٌ إليه، والسماواتُ مُحْتَاجَةٌ إليه؛ فهو الذي يُمْسِكُها سُبْحَانَه وتَعالَى، وهو الذي خَلَقَها فهي بحاجَةٍ إليه، وهو ليسَ بحاجَةٍ إليها، فلا يُشْبِهُ استواؤُه على العَرْشِ اسْتِواءَ المخلوقِ على المخلوقِ، وإن كانَ المعنَى واحِداً، لكنَّ الكيفِيَّةَ والحقيقةَ مُخْتَلِفَةٌ.
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} هذا خبَرٌ مِنه سُبْحَانَه وتَعالَى في آياتٍ سَبْعٍ، كلُّها مُطَّرِدَةٌ بهذا اللفْظِ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} كلُّها بهذا اللفْظِ مُطَّرِدَةٌ.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} السبعِ مِن المخلوقِين، مِن الملائِكَةِ وغيرِهم.
{وَمَا في الأَرْضِ} مِن المخلوقاتِ، كلُّها له سُبْحَانَه وتَعالَى مِن آدمِيِّينَ، وبهائِمَ، وجِنٍّ، وإِنْسٍ، وحَيَوَانَاتٍ، وطُيُورٍ، وغيرِ ذلك، كلُّ ما يَدُبُّ على الأرْضِ، ويَمْشِي على الأرضِ، ويُوجَدُ على الأرْضِ فإِنَّه مِلْكٌ للهِ سُبْحَانَه وتَعالَى يَتَصَرَّفُ فيه، ويُدَبِّرُهُ، ويَرْزُقُه سُبْحَانَه وتَعالَى.
{وَمَا بَيْنَهُمَا} ما بينَ السماواتِ والأرْضِ مِن المخلوقاتِ التي لا يَعْلَمُها إلاَّ هو، فهي مِلْكٌ له سُبْحَانَه وتَعالَى.
{وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} وما تَحْتَ أَديمِ الأرْضِ، وسطْحِ الأرضِ مِن المخلوقاتِ، ومِن المعادِنِ، ومِن الأمْوَاتِ، كلُّها للهِ سُبْحَانَه وتَعالَى هي مِلْكُه، وهو الذي خَلَقَها.
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} يَسْتَوِي في عِلْمِه سُبْحَانَه وتَعالَى الجَهْرُ والسِّرُّ، يَسْمَعُ الجهرَ، ويَسْمَعُ السرَّ، ويَعْلَمُ ذلك سُبْحَانَه وتَعالَى؛ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَىَ} أي: ما هو أَخْفَى مِن السرِّ، [ وهو حديث النفس ] لا يَخْفَى عليه شيءٌ
سُبْحَانَه وتَعالَى.

{اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} لا معبودَ بحقٍّ سِوَاه، {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} هذا إثباتُ الأسماءِ للهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، وأنها حُسْنَى، كلُّها حُسنَى، تامَّةٌ، كاملةٌ، مُنَزَّهَةٌ عن النقْصِ والعَيْبِ.



المتنُ: (أحاطَ بكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).
الشرحُ: (أَحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلْماً)، أحاطَ عِلْمُه بكلِّ شيءٍ، ممَّا كانَ، وما يكونُ في الماضِي، وفي المستَقْبَلِ، وفيما لا يَعْلَمُه إلا هو سُبْحَانَه وتَعالَى، كلُّ شيءٍ بعِلْمِه سُبْحَانَه وتَعالَى، لا يكونُ شيءٌ إلاَّ بِعِلْمِه.
المتنُ: (وَقَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزَّةً وَحُكْماً).
الشرحُ: (قَهَرَ كلَّ مخلوقٍ). أي: أخْضَعَه لسلطانِه سُبْحَانَه وتَعالَى.
(كلَّ مخلوقٍ) لا يُسْتَثْنَى مِن هذا أيُّ مخلوقٍ، من الأغنياءِ، والفقراءِ، والملوكِ، والصعَالِيكِ، والأنبياءِ، والرُّسُلِ، وجميعِ المخلوقاتِ، كلُّها مقهورَةٌ للهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، تحتَ تَصَرُّفِهِ وقَهْرِهِ وتَدْبِيرِهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، لا أَحَدَ يَخْرُجُ عن ذلك.
ففي هذا ردٌّ على الذين يَزْعُمُونَ أن هناك مِن الأولياءِ والأقْطابِ مَن يَتَصَرَّفُون في الكوْنِ, كما يقولُه الملاحِدَةُ من الصُّوفِيَّةِ.
(عِزَّةً). أي: قُوَّةً، العِزَّةُ: القوَّةُ.
(قَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزَّةً وَحُكْماً) حَكَمَه سُبْحَانَه وتَعالَى، وأَخْضَعَه له سُبْحَانَه وتَعالَى، يَتَصَرَّفُ فيه، ويُدَبِّرُه، لا يَسْتَعْصِي شيءٌ عليه سُبْحَانَه وتَعالَى
المتنُ: (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً).
الشرحُ: (وسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلماً) أي: وَسِعَتْ رَحْمَتُه كلَّ شيءٍ؛ قالَ تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
وعِلْمُه أيضاً وَسِعَ كلَّ شيءٍ، كما سَبَقَ تقديره؛ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}.
فلا يخفى عليه شيء سُبْحَانَه وتَعالَى، عِلْمُه وَسِعَ الأشياءَ كلَّها، بخلافِ المخلوقِ؛ فإِنَّه يَعْلَمُ شيئاً ويَجْهَلُ أشياءَ كثيرةً، أمَّا اللهُ جلَّ وعلا فإنه يَعْلَمُ كلَّ شيءٍ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ، كلُّ الأشياءِ يَعْلَمُها سُبْحَانَه وتَعالَى، ورَحْمَتُه وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، حتى الكفارَ وَسِعَتْهُم رحمةُ اللهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، بمعنى: أنَّ اللهَ يَرْزُقُهم، ويُعَافِيهم، ويُعْطِيهم ما يَحتاجُون إليه، هذا مِن رحمتِه سُبْحَانَه وتَعالَى.
وحتى الحيواناتِ تعيشُ تحتَ رحمةِ اللهِ سُبْحَانَه وتَعالَى، يُعْطِيها، ويَرْزُقُها، ويُعَافِيها، ويَشْفِيها مِن الأمراضِ، ويُسَخِّرُها للعَطْفِ على أولادِها، معَ أنها لا تَرْجُو مِن أولادِها شيئاً، ومعَ هذا تُشْفِقُ على أولادِها، وتَحِنُّ، وتَحْنُو على أولادِها؛ رحمةً مِن اللهِ سُبْحَانَه وتَعالَى.
هذا مِن رحمةِ اللهِ التي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ؛ الحيواناتِ، والمؤمنين، والكفَّارَ، هذا في الدنيا، وأمَّا في الآخِرَةِ فإنَّ رَحْمَتَه خاصَّةٌ بالمؤمنين سُبْحَانَه وتَعالَى، أمَّا الكفَّارُ فَلاَ طَمَعَ لَهُم برحمةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
المتنُ: ({يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}).
الشرحُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي: ما مَضَى، يَعْلَمُ ما مضَى.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} يعني: ما يأتِي في المُسْتَقْبَلِ.
{وَلاَ يُحِيطُونَ} لا يُحِيطُ العبادُ باللهِ عزَّ وجلَّ به عِلماً، أي: لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته وأسمائه إلاَّ مَا أَطْلَعَ اللهُ العبادَ عليه مِن أجلِ أن يَعْرِفُوه سُبْحَانَه وتَعالَى، ويَعْبُدُوه وَحْدَه لاَ شَريكَ له.
فلا عِلْمَ لَهم إلاَّ ما عَلَّمَهُمُ اللهُ جلَّ وعلا، حتى الملائِكَةُ يقولونَ: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}.
المتنُ: (مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ).
الشرحُ: موصوفٌ سُبْحَانَه وتَعالَى بما وَصَفَ به نفسَه في كتابِه الكريمِ؛ وهو القرآنُ، وبما وَصَفَه به نبيُّه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ في سُنَّتِه؛ فالأسماءُ والصفاتُ تَوْقِيفِيَّةٌ، لا يَجُوزُ لنا أن نُثْبِتَ له اسماً لم يُثْبِتْه لنفسِه، ولم يُثْبِتْه له رسولُه، ولا أنْ نُثْبِتَ له صِفةً لم يَصِفْ بها نفسَه، ولم يَصِفْه بها رسولُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
هذا معنى قولِه: (مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ به نفسَه في كتابِه الكريمِ، وبما وَصَفَه به نبيُّه العظيمُ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ)؛ لأنه لا أعْلَمَ باللهِ مِن اللهِ، ولاَ أعْلَمَ باللهِ بعدَ اللهِ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فنحنُ مُتَّبِعُون، ومُقْتَدُون، لا نُحْدِثُ شيئاً مِن عندِ أنْفُسِنا، واسْتِحْسَانَاتِنَا، وأفكارِنا، وعُقولِنا، هذا ممنوعٌ في حقِّ اللهِ سُبْحَانَه وتَعالَى.


  #7  
قديم 4 ذو القعدة 1429هـ/2-11-2008م, 11:45 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
Post تيسير لمعة الاعتقاد للشيخ: عبد الرحمن بن صالح المحمود .حفظه الله (مفرغ)

بدأ الشيخ – رحمه الله تعالى – رسالته هذه بما يبدأ به المصنفون من أئمة الإسلام – رحمهم الله تعالى – فقال : (( بسم الله الرحمن الرحيم )) .
والكلام على البسملة منتشر في كافة شروح الكتب في جميع الفنون ؛ في اللغة , وفي النحو , وفي كتب العقائد , وفي الفقه وغيرها , لا يكاد مَنْ شرح كتاباً من هذه الكتب إلا وتكلم عن البسملة ؛ معناها , وما دلت عليه من أسماء الله - سبحانه وتعالى - : الله , الرحمن , الرحيم , وكذلك الكلام حول قوله : (( بسم )) وبأي شيء يتعلق الجار والمجرور .
ونحن نشير إشارة مجملة فنقول : قال المؤلف رحمه الله تعالى : (( بسم الله الرحمن الرحيم )) بسم : المعنى أبتدئ كتابي مستعيناً بالله تبارك وتعالى , فبسم : جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره أبدأ , ذلك بالنسبة لمن يؤلف كتاباً كإمامنا هنا , وإذا كان القارئ يقرأ القرآن وقال بسم الله الرحمن الرحيم , تكون بسم جاراً ومجروراً متعلقاً بمحذوف تقديره أقرأ بسم , وإذا كان الإنسان مثلاً يدخل بيته أو يدخل مكاناً ويقول بسم الله , يكون معناها أدخل هذا المكان بسم الله الرحمن الرحيم , أي مستعيناً بالله تبارك وتعالى .
ولفظ الجلالة (( الله )) الصحيح فيه أنه مشتق وليس بجامد ؛ لأن العلماء وأهل اللغة اختلفوا في لفظ الجلالة (( الله )) فبعضهم قال : إنه علم جامد وغير مشتق , وبعضهم قال : إنه مشتق , ثم اختلفوا في الاشتقاق , هل هو من ألُه يَألَه فهو مألوه , أو من ألُهَ يَألَه فهو آلِه .
فذهب بعض المتكلمين إلى أنه من أله يأله فهو آلِه , أي إن الله يأله عباده فهو الذي خلقهم , وهو الذي يرزقهم إلى آخره .
وبناءً على هذا التفسير وقع خطأ كبير عند كثير من المتكلمين حين فسروا كلمة الشهادة : لا إله إلا الله , حيث فسروها بأن معناها : لا خالق إلا الله , بناءً على هذا الفهم في الاشتقاق , لكن القول الثاني هو الصحيح , أنها من ألُه يَأله فهو مألوه أي معبود , أي أن الله سبحانه وتعالى هو الله , أي هو المستحق للعبودية ومن ثم جاء تفسير كلمة الشهادة : لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى , وهذا هو توحيد العبادة وهو الصحيح أيضاً في اشتقاق كلمة (( الله )).
و (( الرحمن الرحيم )) اسمان من أسماء الله تبارك وتعالى .
(( الرحمن )) : صيغة مبالغة خاص بالله سبحانه وتعالى , لا يوصف به مخلوق . و (( الرحيم )) : أيضاً اسم من أسمائه تبارك وتعالى , لكن قد يوصف المخلوق بأنه رحيم , واسمه تبارك وتعالى الرحمن والرحيم دال على صفة الرحمة , وهو أي هذا الاسم وكذلك أيضاً اسم الله (( الرحمن )) نثبتهما لله تبارك وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته , من غير مشابهة للمخلوقين . ولابن القيم رحمه الله تعالى في أول كتاب ((مدارج السالكين )) كلام طيب جداً حول الفاتحة , وحول اسمه تعالى (( الرحمن الرحيم )) , فمن أراد الفائدة فليرجع إليه بتمامه فإن فيه فوائد جمة .

بعد هذا يقول الشيخ رحمه الله تعالى : (( الحمد لله المحمودِ بكل لسان )) .
(( ال )) في (( الحمد )) للاستغراق . والمقصود بقول القائل (( الحمد لله )) ذكر أوصاف المحمود , والاعتراف بها , والثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى هنا : (( بكلِّ لسانٍ )) يدل على أمر مهم , وهو أن الله سبحانه وتعالى فطر جميع الخلق على حمده سبحانه وتعالى , والاعتراف له بالربوبية , ومن ثم فقوله (( المحمود بكل لسان )) يشمل لسان الحال , ويشمل أيضاً لسان المقال الذي يعم جميع المخلوقات كما قال تعالى :
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم} [الإسراء: من الآية44] .
لسان الحال : فإن الله سبحانه وتعالى يحمده جميع المخلوقات .
ولسان المقال : فإنه سبحانه وتعالى المحمود على جميع الألسنة , فمهما اختلفت اللغات , فإن الله سبحانه وتعالى يحمده أهل تلك اللغة بما علموا من أوصافه سبحانه وتعالى وبما هو أهل ه , وهذا من خصائص الألوهية والربوبية التي لاتكون لأحد إلا الله سبحانه وتعالى .
يقول رحمه الله تعالى (( المعبود في كل زمان )) أي أنه سبحانه وتعالى له العبودية. والعبودية قسمان :
القسم الأول : عبودية عامة شاملة , لا يخرج عنها أحد , تشمل جميع الخلق كما قال سبحانه : )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً( [مريم: 93] , وهو سبحانه وتعالى معبود وتلك العبودية هي مقتضى الربوبية , فهو معبود عند جميع الخلق ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو خالقهم ورازقهم , وهو الذي أحياهم ثم يميتهم , وهو ربهم تبارك وتعالى الربوبية الكاملة , لهذا فإن هذه العبودية العامة الشاملة لا يخرج منها أحد , لا من إنس ولا من جن , ولا مؤمن ولا كافر , ولا من بشر ولا ملك , ولا من شمس ولا قمر , ولا من أرض ولا سماء , ولا من بحر ولا من هواء , فالكل عبيد لله سبحانه وتعالى , مسخرون له تبارك وتعالى , مطيعون له سبحانه شاؤوا أم أبوا .
وهذا مما دلت عليه النصوص الكثيرة , فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق , وهو الذي يأمرهم , وهو الذي يقدِّر لهم ما يشاء , وهم خاضعون لـه , حتى بني آدم , الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى عقولاً هم أيضاً في نشأتهم في هذه الأرض , وفي حياتهم فيها , بل وفي رزقهم , وأجلهم , وموتهم , وألوانهم ، وأطوالهم , وما يجري داخل أجسامهم من حركات القلب والدم والهضم إلى آخره , كل ذلك هم خاضعون فيه لله سبحانه وتعالى , فليس للإنسان إرادة في أن يختار كيفية معيشته , ولا كيفية نَفَسه , ولا كيفية ضخِّ الدم في عروقه , ولا كيفية قضاء حاجته , إلى غير ذلك , وإذا كان هذا في الإنسان العاقل المكلف , فكيف بغيره من المخلوقات ؟
هذه هي العبودية الشاملة التي لا يخرج عنها أحد .
القسم الثاني : العبودية الخاصة ؛ وهذه العبودية هي التي يتميز بها المؤمنون عن الكفار , فالمؤمنون هم الذين يعبدون الله تبارك وتعالى مخلصين لـه على وفق شريعته التي أمر بها على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .
فقول المؤلف رحمه الله تعالى : (( المعبود في كل زمان )) قد يدخل فيه العبودية العامة , وقد يدخل فيه العبودية الخاصة بالمؤمنين .


وقوله : (( في كلِّ زمانٍ )) يشمل أيضاً كلِّ مكان , والمعنى أنه لا يخلو زمان أو مكان من وجود من يعبد الله سبحانه وتعالى , وهذا الذي علمناه من أخبار رسل الله الكرام ومما أخبرنا به رسول الله r في قوله : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق , لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم , حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى )) (1) , وما قبل ذلك فإن الملائكة عباد لله , وآدم أهبط إلى الأرض وهو على التوحيد .
ثم يقول الشيخ رحمه الله تعالى : (( الذي لا يخلو من علمه مكان )) في هذا إثبات شمول علم الله سبحانه وتعالى , فلا يخلو من علمه أي مكان , سواء كان هذا المكان ظاهراً أو باطناً , في جوف البحار , أوفي جوف الأرض , أو تحت صخور الجبال , أو فيما هو ظاهر , فعلم الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل مكان , قال تعالى : {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59] .
وعلمه سبحانه وتعالى أحاط بكل شئ : )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ( [غافر:19] .
قال : (( ولا يشغله شأن عن شأن )) وذلك لكمال صفاته جل وعلا , فالمخلوق لضعفه وقصور صفاته – فيما قد يكون عنده من بعض الصفات – لا يستطيع أن يشتغل بأكثر من عمل في وقت واحد , ويندر أن يجمع إنسان قواه
العقلية لتكون في عملين متكافئين في وقت واحد , وإنما غاية ما يحصل عن الإنسان أن يشتغل بعمل يُعمِل فيه ذهنه , ثم يشتغل بيده أو برجله بعمل آخر لا يحتاج إلى إعمال فكرٍ . أما ما عدا ذلك فلا يستطيع .
أما الله سبحانه وتعالى فقد وسع سمعه السموات والأرض , فيسمع في وقت واحد دعاء الداعين وأقوالهم , على اختلاف الزمان والمكان ومهما بلغت كثرة الداعين والسائلين , وهو سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن , ولا يشغله شأن عن شأن , فيغفر لهذا ، و يتوب على هذا , ويستجيب لهذا , ويرزق هذا , ويحيي هذا , ويميت هذا , سبحانه وتعالى وتقدس ؛ لأنه كامل الصفات , فلا يقاس بغيره .
وهذا هو حقيقة فهم أئمة أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى لأسمائه وصفاته , كانوا يفهمونها كما يليق بجلاله وعظمته دون مشابهة المخلوقين , ومن ثم فلا يحتاجون إلى تأويل .
أما أهل الكلام الباطل فهم أولاً يقعون في التشبيه , فإذا سمعوا صفةً من صفات الله تبارك وتعالى ظنوا أنها كصفة فلان أو فلان من البشر , ثم يضطرون إلى التأويل للهروب من هذا التشبيه الذي توهموه , فيقعون في الجحود والتعطيل . أما أهل السنة والجماعة فيثبتون لله الصفات كما يليق بجلاله وعظمته , ولا يحتاجون إلى تأويل , ولا إلى تحريف , ولا إلى تعطيل .
قال رحمه الله تعالى :(( جلَّ )) أي تقدس وتنزه (( عن الأشباه والأنداد )) الأشباه والشبيه هو المُشَابِه من بعض الوجوه دون بعض , وهو سبحانه وتعالى جل عن أن يشبه شيئاً من خلقه , لا في ذاته , ولا في أي صفة من صفاته تبارك وتعالى .
كما أنه أيضاً جل وتقدس عن الند والمثيل , سواء في الربوبية , أو في الألوهية , أو في صفة من الصفات , أو غير ذلك ، فهو الرب المعبود وحده لا شريك له .
قال : (( وتنزه عن الصاحبة والأولاد )) وهذا دلت عليه النصوص من القرآن والسنة في سورة الإخلاص وغيرها , فهو سبحانه وتعالى لم يتخذ صاحبة ولا ولداً , وفي ذلك نقض لما ادعاه المشركون حينما زعموا أن الملائكة إناث , وأنهم بنات الله , تعالى الله عن ذلك . أو النصارى حينما يقولون : إن المسيح ابن الله . أو اليهود حينما يقولون : إن العزيز ابن الله . والابن يحتاج إلى صاحبة , والله سبحانه وتعالى تنزه عن الصاحبة والولد , تعالى عما يقول هؤلاء جميعاً علواً كبيراً .
قال : (( ونفذ حكمه في جميع العباد )) الأصل في هذا الحكم النافذ في جميع العباد أنه حكمه القدري , فما شاء الله كان , وما لم يشأ لم يكن , وهذا الذي نفذ في الجميع المؤمن والكافر , فجميع العباد نفذ فيهم حكم الله سبحانه وتعالى , فهم جاءوا إلى هذه الدنيا بأمر الله , ويحيون بأمر الله , ويموتون بأمر الله , فحكمه فيهم نافذ وقد يدخل في عموم هذا الكلام : أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يحكم بين العباد في الدنيا بشرعه وأمره وفي الآخرة بجزائه وحسابه . كما قال تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
والخلق : هو (( التقدير )) , والأمر : هو نفاذ شرع الله سبحانه وتعالى , فهو سبحانه وتعالى الذي يحكم بين عباده , ويُشَرِّعُ لهم بما يشاء , فبما أنه سبحانه هو


القاهر فوق عباده , وبما أن حكمه القدري ُّهو النافذ , فهو أيضاً سبحانه وتعالى الذي له الشرع والحكم بين عباده . قال تعالى : )وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً( [الكهف: 26] , وقال تعالى :)وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ([الأحزاب: من الآية36] , وقول سبحانه وتعالى : )وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ( [القصص: 65،66] , إلى أن قال تعالى بعد ذلك : )وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ( [القصص: 68] , يخلق ويختار , كقوله : )أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ( [لأعراف: 54] , فهو الذي ينفذ حكمه في جميع العباد قدراً , وهو الذي يجب أن ينفذ حكمه في جميع العباد أمراً وشرعاً .
قال رحمه الله تعالى : (( لا تمثله العقول بالتفكير )) أي أنه سبحانه وتعالى في ذاته وصفاته , لا يمكن أن تمثله أو تشبهه العقول بالتفكير , أي مهما بلغ العقل في فهمه وسعة خياله أو نحو ذلك , فلا يستطيع أن يمثل أو يشبه ذات الله , أو صفة من صفات الله تبارك وتعالى .
وكيف يستطيع عقل الإنسان القاصر الصغير أن يمثل ذاتَ الله أو صفةً من صفاته ؟ والله سبحانه وتعالى يقول عن نفسه في آية – هي مما يجب أن يقف عندها الإنسان دائماً وهو يتكلم عن صفات الله سبحانه وتعالى - : )وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه(ِ [الزمر: من الآية67] تصور هذا !! فأنى لهذا الإنسان الذي هو خلق صغير جداً يجري على هذه الأرض , وهذه الأرض بالنسبة لكون الله الشاسع لا تمثل إلا ذرة صغيرةجداً , ومع ذلك فإن الأرضين والسموات بكواكبها ومجراتها وسعتها كما قال الله سبحانه وتعالى :)وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه( [ الزمر: 67] , فكيف يأتي العقل ليمثِّل صفات الله سبحانه وتعالى ؟
فهو سبحانه وتعالى لا تمثله العقول بالتفكير .
وقوله : (( ولا تتوهمه القلوب بالتصوير )) ؛ الوهم : قوة من شأنها إدراك الجزئيات , والمعنى أن القلب مهما توهم , لا يمكن أن يصل إلى وَهَمٍ معين بتصوير ذات الله سبحانه وتعالى أو صفاته .
ولهذا قطع أئمة السلف رحمهم الله تعالى أن كيفية صفات الله سبحانه وتعالى لا تعرف , ولا يحاط بها , ولذا فإن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات ، لكن الكيفية يكلون أمرها إلى الله ، كما قال الله تبارك وتعالى عن نفسه:)لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ( [الأنعام: من الآية103] ؛ أي أنه سبحانه وتعالى وإن كان يرى , حيث يراه المؤمنون يوم القيامة رؤيا عيانية حقيقية , إلا أنهم مع رؤيتهم له لا يدركونه , ولا يحيطون به سبحانه وتعالى .
وفرقٌ بين الرؤية وبين الإدراك , ولله المثل الأعلى فنحن الآن مثلاً نرى السماء , ونرى الشمس , ونرى القمر , لكننا لا نستطيع أن ندرك هذه المخلوقات , بل في الأرض نرى الجبل , إلا أننا لا نستطيع أن ندرك تفاصيل هذا الجبل ونحو ذلك , ولله المثل الأعلى , فالله يرى , ولكن مع ذلك لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير , فهو سبحانه وتعالى لا تتوهمه القلوب بتصوير معين , سواء كان هذا التصوير مما يتوهمه القلب أو العقل لصفة ذاتية لله سبحانه وتعالى , أو لصفة معنوية أو لصفة فعلية .
ثم ذكر الشيخ رحمه الله تعالى قاعدة من قواعد أهل السنة مستنبطة من
كتاب الله تبارك وتعالى : )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(
, وهذا هو منهاج أهل السنة والجماعة , فقوله : (ليس كمثله شيء ) رد على المشبهة والممثلة , فهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء , فلا يماثل أحداً من خلقه , ولا تماثل صفاته صفات أحد من خلقه , ولذا قال : ليس كمثله شيء , و((شيء)) هنا تعم لأنها نكرة في سياق نفي بقوله (( ليس )) ؛ والكاف في قوله (( كمثله )) جاءت للتأكيد , والأصل فيه (( ليس مِثْلَهُ شيء )) , فأكدها بقوله (( ليس كمثلهِ شيء)) .
وبعض العلماء قالوا : إن الكاف بمعنى (( مِثْل )) فيكون المعنى ((ليس مِثْلَ مِثْلِهِ شيءٌ)) قالوا وهذا من باب المبالغة أي : أنه إذا كان مثل المثل ليس كمثله سبحانه , فإن المِثْل من باب أولى .
وقوله تعالى : )وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( هذا لبيان إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى , فهو رد على المعطلة ؛ لأن قوله تعالى : )وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( اسمان لله دالان على صفتي السمع والبصر له تبارك وتعالى , و(( السميع البصير )) اسمان لله لا يمكن أن يثبتا إلا بإثبات ما دلاّ عليه وهو صفة السمع والبصر .
ولذا اقترح بعض المعتزلة على أحد خلفاء بني العباس في زمن تسلط المعتزلة أن يكتب على سترة الكعبة وكان مكتوباً عليها ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) اقترح عليه أن يمحوها ويكتب (( ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم )).
فبعضهم يقول : ما الفرق بين السميع البصير والعزيز الحكيم ؟ ونقول : إن هذا المعتزلي لا مانع عنده من أن يثبت أن الله عزيز حكيم ؛ لأن هذين الاسمين قد يرجعهما إلى ربوبيته ونحو ذلك , لكنه أراد أن يمحو السميع البصير , حتى ينفي ما دلا عليه من صفة السمع والبصر نظراً لتوهمه التشبيه .
قال الشيخ رحمه الله تعالى : (( له الأسماء الحسنى )) الحسنى هي الحسنة , التي بلغت في الحسن غايته , وهذا قد ورد بنص القرآن قال تعالى :)وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا( [لأعراف: 180] , فأسماؤه سبحانه وتعالى كلها حسنة , بالغة الكمال في الحسن , (( والصفات العُلَى )) أي أن له سبحانه وتعالى الصفات العالية الكاملة , ذات القَدْر والعظمة ؛لأنها صفةُ عظيم , فهي صفات كاملة .
ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى أراد أن يمثل في بداية هذه العقيدة لبيان منهاج السلف رحمهم الله تعالى , ببعض الصفات التي قد وقع فيها خلاف أو كلام أو نحو ذلك بين الفرق والطوائف , فقال : )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( [طـه:5] , وقد ساقها رحمه الله تعالى مساق المدح والثناء على الله سبحانه وتعالى , لأن السياق يدل على ذلك فقد قال رحمه الله : (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير , له الأسماء الحسنى والصفات العلى )) , ثم قال : (( الرحمن على العرش استوى )) فجمع رحمه الله تعالى بين الثناء على الله بما هو ثابت من صفاته , مثل صفة الاستواء على العرش , وسيأتينا إن شاء الله في أثناء هذا الشرح الكلام على صفة الاستواء ومدلولها .
والشيخ هنا إنما أراد أن يشير في هذه الآية إلى ما دلت عليه من صفات , لكن أيضاً أراد بيان منهاج السلف رحمهم الله تعالى في إثبات الصفات .
وأهل السنة والجماعة يثبتون صفة الاستواء لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته ؛ لأن استواء الله على العرش , ورد في كتاب الله تبارك وتعالى في


سبعة مواضع , أما من فسره أو تأوله بالاستيلاء أو نحو ذلك , فتأويله باطل , وسيأتي إن شاء الله تعالى مناقشة ذلك .
ثم يقول الشيخ مستشهداً :)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى( [طـه:6] , وهذا لبيان كمال صفاته . له ما في السموات وما في الأرض , فهو مالك الملك . ولا أحد مِن المخلوقين يملك شيئاً , وحتى ملوك الدنيا يملكون ملكاً ناقصاً من جهتين : من جهة أنه ملك لا يستطيع هو أن يحوزه ويتصرف فيه كما يشاء . ومن جهة أخرى أن ملكه هذا ناقص ومنقطع لأنه إما أن يرحل هو عنه , أو يرحل عنه ملكُه . أما مالك الملك الذي له ما في السموات وما في الأرض , فهو الخالق له وهو المالك تبارك وتعالى .
قال :) وَمَا بَيْنَهُمَا ( أي ما بين السموات والأرض : )وَمَا تَحْتَ الثَّرَى( الثرى : هو التراب وهذا لبيان أن الله سبحانه وتعالى له كلُّ شيء , في العلو والسفل وما بينهما .
قال : )وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى( [طـه:7] وهذا لبيان كمال الله سبحانه وتعالى في سمعه وعلمه . وقوله تعالى : )وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ ( لبيان أن الجهر بالقول والعلانية عنده سواء , ولذا جاء التعليل بقوله : {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي أخفى من السر , والسرُّ : قيل هو ما يُسره الإنسان لشخص آخر , فيقال : سارَّه بكذا , كلَّمه سراً بينه وبينه .
فقوله تعالى : )وَأَخْفَى( أي أخفى من هذا السر الذي يكون بين اثنين .
وقيل : إن قوله : )فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ ( أي ما يسره الإنسان في نفسه ,
فيكون معنى قوله تعالى : )وَأَخْفَى( أي ما هو أخفى من السر , أي مما يجهله الإنسان من نفسه هو , فإن الإنسان يسرُّ أمراً فيعلمه , لكن قد يكون في نفسه أمور هي أخفى مما يسره , فالله سبحانه وتعالى يعلمها , فكيف بما فوق السر من الجهر بالقول ؟ لاشك أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء كما قال تعالى : )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(. [المجادلة:7].
ولذا قال الشيخ هنا : (( أحاط بكل شيء علماً )) وهذا العموم المطلق هو مدلول هذه الآية ؛ أي : أن الله تعالى أحاط بكل شيء علماً : فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ويعلم السر وأخفى , فقد أحاط بكل شيء علماً تبارك وتعالى , وهذا نصُّ آية وهو قوله تعالى : )لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً( . [الطلاق: 12] .
وقوله : ((بكل شيء)) , هذه نكرة في سياق النفي فتعمُّ , أي أن علمه أحاط بكل شيء , مهما دق أو صغر أو خفي , في ليل أو نهار , في داخل البحار , أو تحت الثرى أو أخفى من ذلك , قد أحاط الله بكل شيء تبارك وتعالى وتقدس .
قال : (( وقهر كل مخلوق عزة وحكماً )) ؛ أي أنه سبحانه وتعالى قهر الجميع عزة وحكماً ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو العزيز وهو الحكيم ؛ العزيز في ملكه , الحكيم في خلقه وأمره وشرعه , فهو سبحانه وتعالى قهر كل مخلوق , وهذا واضح جداً , فالكل داخل تحت مشيئته سبحانه وتعالى , وقد سبق قبل قليل أن بينا أن كل مخلوق سائر على ما يقدره الله سبحانه وتعالى , ولنضرب أمثلة بمن قد يُظَن أنهم أوتوا قدرة , كرجل أوتي قوة عضلية , أو أوتي قوة مال ,
أو قوة سلطان , أو قوة في قيادة الجيش أو نحو ذلك من القوى .
انظر إلى حال هذا الإنسان بذاته , تجده فعلاً بالنسبة لربه مقهوراً ؛ يأتيه المرض فلا يستطيع أن يرده , يأتيه الهرم فلا يستطيع أن يوقفه , ويأتيه الموت فيعجز هو ومن في الأرض جميعاً عن أن يؤخروا أجله لحظة . إذن هو مقهور في كل ذلك , بل إنه مقهور في وجوده في هذه الأرض , حيث وجد بغير إرادة منه , ولا تدخل في ولادته , ولا في تحديد لونه وطوله ونحو ذلك .
والأمر في ذلك واضح جداً , ولذا قال الشيخ رحمه الله تعالى : (( ووسع كل شيء رحمة وعلماً )) أي أنه سبحانه وتعالى قهر عباده , ووسعهم برحمته , وسع كل شيء رحمة وعلماً , كما أنه وسعهم علماً فهو وسعهم رحمة , ورحمة الله سبحانه وتعالى امتدت ووسعت كل شيء , حتى البهائم , والحشرات , وحتى الكفار , لأننا نشاهد أن الكفار يرحم بعضهم بعضاً , ويرحمون أولادهم , والحيوانات كذلك , فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء , كما أن علمه تبارك وتعالى وسع كل شيء .
ثم يقول الشيخ مستشهداً :)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً( , وهذا مؤكد لما قلناه قبل ذلك , فهو سبحانه وتعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم , يعلم ما أمامهم مما سيعملونه , سواء عملوه بتخطيط منهم وإرادة , أو غير ذلك مما يقع لهم من مقدورات الله سبحانه وتعالى المستقبلية , كما أنه يعلم ما خلفهم مما عملوه , أحصاه الله سبحانه وتعالى , وعلمه , وكتبه .
وعلى هذا فإن علم الله أحاط بكل شيء سابق ولاحق , والله تبارك وتعالى علم ما كان , وما يكون , وما لم يكن لو كان كيف يكون , كما قال تعالى عن الكفار في الدنيا وحينما يقفون بين يديه تبارك وتعالى يطلبون الرجعة . قال الله تعالى : )وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ( [لأنفال: من الآية23] , هذا في الدنيا . وقال عنهم في الآخرة : )وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ( [الأنعام: 28] .
ولاتظنوا أن هذا من باب التقدير , بل هذا من باب العلم اليقيني , العلم الكامل لله تعالى : أن الكافر وهو واقف بين يدي الله يوم القيامة , يشاهد العذاب , ويوقن بالحقيقة التي لا مراء فيها , يرى الحقيقة بأم عينيه , البعث , والجزاء , والحساب , والنار , والجنة , قال الله عنه : )وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ( أي أن هذا الكافر لوعاد إلى الدنيا , لعاد إلىكفره وشركه , فيقول :
ها قد قلنا لكم إن الأمر غير صحيح , ها نحن قد رجعنا إلى الدنيا مرة أخرى . فقوله تعالى: )وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه( هو من باب العلم , العلم بما لم يكن لو كان كيف كان يكون . فهو سبحانه وتعالى علم ما كان وما لم يكن .
ثم بدأ الشيخ رحمه الله تعالى , بذكر قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات , فقال رحمه الله تعالى عن الله : (( موصوفٌ بما وصف به نفسه في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم )) أي أنه تبارك وتعالى موصوف بما وصف به نفسه من صفات الكمال والجلال في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم .
وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ؛ يصفون الله بما وصف به نفسه , أو وصفه به رسوله r , من غير أن يعطلوا الصفات أو يشبهوها , أو يحرفوها , أو يتأولوها تأ ويلاً يبعد بها عن معانيها اللائقة بالله , مع قولهم واعتقا دهم ويقينهم وإيمانهم بأن كيفية هذه الصفات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى , وهذه هي قاعدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب :
إثبات الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى كما وردت في الكتاب والسنة , وكما يليق بجلال الله وعظمته . وهذه القاعدة هي التي سار عليها المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه هذا , وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر تفصيل ما ورد من أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته , وبقية مسائل الاعتقاد .



(1) أخرجه مسلم رقم (1920) كتاب الإمارة من حديث ثوبان رضي الله عنه
وهو متفق عليه بنحوه من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .



  #8  
قديم 5 محرم 1430هـ/1-01-2009م, 11:54 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح فضيلة الشيخ: يوسف بن محمد الغفيص

شرح صوتي للشيخ: يوسف الغفيص حفظه الله لــ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمْدُ لِلَّهِ المحَمُودِ بِكُلِّ لِسَانٍ، المَعْبودِ في كُلِّ زَمَانٍ، الَّذِي لاَ يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ، وَلاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، جَلَّ عَنِ الأشْبَاهِ والأَنْدَادِ، وَتَنَزَّهَ عنِ الصَّاحِبَةِ والأَوْلادِ، ونَفَذَ حُكْمُهُ في جَميعِ العِبَادِ، ولا تُمَثِّلُهُ العُقُولُ بِالتَّفْكِيرِ، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ القُلوبُ بالتَّصْوِيرِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
لَهُ الأسماءُ الحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ العُلَىالرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَقَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عِزّةً وَحُكْمَاً، ووَسِعَ كلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}.




شرح صوتي للشيخ: يوسف الغفيص حفظه الله لــ :

مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِه نَفْسَهُ في كِتَابهِ العَظِيمِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة والتسليم.






شرح مقدمة لمعة الاعتقاد

قال الموفق رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:5-8] ، أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]] . هذه عبارات مجملة في تقرير مقام الربوبية، وهي وأمثالها مما يذكر في كتب أصول الدين، وليس فيها شيء من النزاع بين المسلمين، بل جميع المسلمين يقرون بهذه الجمل من حيث معناها الكلي، وإن كانوا على درجات متفاوتة في تحقيقها، بحسب قربهم من السنة وهدي صاحبها، وإنما مبتدأ التقرير المقصود سيأتي في كلام الموفق رحمه الله عند قوله: (موصوف بما وصف به نفسه). ......
مواضع الاتفاق والافتراق بين طوائف المسلمين في مسائل الاعتقاد


لقد بدأ المصنف بذكر مسألة الصفات، وهي فرع عن مسألة الربوبية؛ لأهميتها وحصول النزاع فيها، ولهذا فإن العلماء يقولون: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، رغم أن توحيد الأسماء والصفات هو من جملة توحيد الربوبية، والذي درج عليه كثير من أهل العلم قبل ذكر هذا التقسيم، أنهم يقسمون التوحيد إلى: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، ويجعلون توحيد المعرفة هو توحيد الربوبية، وباب الأسماء والصفات متضمن له. وسواء قسموا التوحيد إلى قسمين أو إلى ثلاثة أقسام، فهذا كله اصطلاح لا مشاحة فيه، إذا صحت المعاني واتفقت، فمثل هذه المصطلحات ليست من السنة اللازمة التي يجب على جميع المسلمين الالتزام بها، وإنما الذي يجب على المسلمين أن يلتزموا به هو: تحقيق التوحيد. وعلى كل حال، فجملة توحيد الربوبية ليس فيه نزاع بين المسلمين، وإن كانوا يختلفون في تحقيقها بحسب قربهم من السنة. وكذلك جملة توحيد الألوهية، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ليس فيه خلاف بين فرق المسلمين، -أعني: الخلاف النظري- فلا يوجد هناك طائفة من طوائف المسلمين تقرر حقائق الشرك. بل مناط هذا التوحيد الذي مقصوده إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وأن من صرف عبادة لغير الله فقد كفر وأشرك - هو قدر مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين: من أهل السنة، والمتكلمين؛ معتزلتهم وأشعريتهم... إلى غير ذلك. وإن كان هذا الكلام لا يلزم منه أن الطوائف الخارجة عن السنة والجماعة تكون محققة لهذا المناط، بل ثمة صور من الشرك تقع عند جملة من الطوائف: كغالية الشيعة، وغالية الصوفية، فإن بعضهم يقع في الشرك الأكبر، ولكن من حيث المناط النظري ليس بين المسلمين نزاع في توحيد الألوهية. وقد قال كثير من أهل العلم أن المتكلمين -ولا سيما المعتزلة والأشاعرة الغالية في علم الكلام- لا يهتمون بذكر مسألة توحيد الألوهية، وهناك من


يقول: إنهم لا يعرفونها، وهذا فيه تجاوز، بل توحيد الألوهية معروف عند المعتزلة والأشاعرة، لكن عندهم تقصير في تقريره وتحقيقه، وفي بيان أنه أول الواجبات.. هذا كله متحقق، ولكنهم موافقون في أصله، فإن عدم ذكر هذا التوحيد في كتبهم فليس معناه أنهم لا يقولون به ولا يعرفونه؛ لأن إفراد الله بالعبادة مستقر عند عامة طوائف المسلمين، وإن كان هذا الاستقرار تدخل عليه هفوات إلى حد الشرك الأكبر عند قوم من غالية الشيعة والمتصوفة، أما جماهيرهم وعامتهم فإنهم يثبتون أصل التوحيد ويحققونه من جهة كونه أصلاً. وخلاصة القول: أن توحيد الألوهية من حيث الأصل مُسلم به عند سائر المسلمين، ولا أحد من المسلمين يقول: إن صرف العبادة لغير الله صحيح، أو مما يؤذن فيه، أو مما يسوغ. وإن كان أهل البدع قد فتحوا المجال للأقوال والأفعال الشركية بتوسعهم في باب التأويل، ولا سيما عند الطائفتين اللتين سبق ذكرهما. وأما ما يتعلق بباب الأسماء والصفات، فإن المسلمين اختلفوا في مناطه اختلافاً معروفاً، وإن كان أصل بابه مجمعاً عليه بين المسلمين. فإن قيل: فما الفرق بين أصل بابه وبين مناطه؟ قيل: المراد بأصل باب الأسماء والصفات هو: أن الله سبحانه وتعالى مستحق للكمال، منزه عن النقص، وهذا القدر مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين، ولا أحد من المسلمين يقول: إن الله موصوف بشيء من النقص؛ لا معتزلة، ولا أشاعرة، ولا ماتريدية؛ فهو قدر مجمع عليه، ولا يقول بمعارض هذا الأصل إلا زنديق كافر؛ فلو قال قائل: إن الله يوصف بما هو نقص، أو قال: إن الله ليس مستحقاً للكمال والتمام، فإنه لا يمكن أن يكون مسلماً ينتسب لطائفة من طوائف المسلمين، حتى ولو كانت طائفة بدعية. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد اتفق المسلمون على أن الله سبحانه مستحق للكمال منزه عن النقص، وإنما اختلفوا في تحقيق المناط، ومعنى اختلافهم في تحقيق المناط أن المسلمين اختلفت


طوائفهم: ما هو الكمال؟ وما هو النقص؟ فالذي عليه الصحابة رضي الله عنه والأئمة من بعدهم أن تحقيق الكمال هو بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن ينفى عنه سبحانه وتعالى كل نقص، مما صرح الله بذكره في كتابه أو لم يصرح بذكره، فهذا هو الكمال عند أهل السنة والجماعة. وذهبت المعتزلة إلى أن الكمال: هو في نفي الصفات. وذهبت الأشاعرة إلى أن الكمال في نفي صفات الأفعال التي يسمونها: حلول الحوادث... إلى غير ذلك من الطرق التي ابتدعت، وحصل بها شر، وفتنة، وبلاء، وغلط في مسائل أصول الدين عند المسلمين. ولكن مع ما يقرر من غلط هذه الطوائف، وخروجها عن السنة والجماعة إلى أقوال محدثة منكرة -كثير منها يصل إلى حد الكفر من حيث هو قول، وإن كان القائل به لا يلزم أن يكون كافراً- فإن أصل هذا الباب كان متفقاً عليه بين المسلمين، وإنما حصل الخلاف بدخول مادة التأويل.
التسلسل التاريخي لحصول النزاع في مسائل أصول الدين بين المسلمين



جاء النبي صلى الله عليه وسلم بتقرير مسائل أصول الدين، وذكر مسائل الفروع، وأحكم الشريعة عليه الصلاة والسلام وأكملها، وذهب وتوفي على هذا التمام والكمال الذي قال الله فيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] ، ومضى الناس على هذا في خلافة الصديق رضي الله عنه ، ثم جاءت خلافة عمر على مثل ذلك، ثم في آخرها ظهرت مقدمات الفتنة، وهي مقتله رضي الله عنه ، فإن حذيفة رضي الله عنه لما ذكر الفتنة الكبرى لعمر رضي الله عنه -كما في الصحيح- قال: (إن بينك وبينها باباً مغلقاً) ولما سأله عمر : (أيفتح الباب أم يكسر؟ قال حذيفة : بل يكسر)، وكان كسره هو مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. ثم لما كانت خلافة عثمان رضي الله عنه فكثر الشر والفتنة من مسلمة الفتوح، من أهل العراق وغيرهم. ثم جاءت خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فزادت الفتنة، وحصل ما حصل مما هو معروف، وكان أول نزاع بين المسلمين في مسائل أصول الدين هو في مسألة الإيمان: ما هو الإيمان؟ ومتى يكون الرجل مؤمناً؟ ومتى يكون مسلماً؟ ومتى يكون كافراً؟ وأول من أظهر المخالفة والخروج عن السنة والجماعة هم الخوارج، وقد حدَّث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بشأنهم، قال الإمام أحمد رحمه الله: «صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه». وحديثهم متواتر، فقد روى مسلم في صحيحه عشرة أوجه من حديث الخوارج، وأخرج البخاري طرفاً منها، وهو حديث متفق عليه بين أهل العلم بالحديث من حديث علي بن أبي طالب ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وجماعة من الصحابة، وذلك في قصة قسم النبي صلى الله عليه وسلم لذهب من اليمن، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: (اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل! فقام خالد بن الوليد -وفي رواية في الصحيح: عمر بن الخطاب - وقال: دعني أضرب عنقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون

يصلي، قال: وكم من مصلِّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال عليه الصلاة والسلام: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم، ثم نظر إليه وهو مقفٍ، فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفي رواية: (قتل ثمود)، وفي رواية: (قاتلوهم فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله)، وفي رواية: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له من الأجر، لنكل عن العمل).وخرج هؤلاء في خلافة علي بن أبي طالب ، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة من المسلمين كافر مخلد في النار. ثم قارب الخوارج المعتزلة بعد ذلك، ثم ظهر ما يقابلهم، وهم طوائف المرجئة، الذين صاروا على النقيض من مذهب الخوارج والمعتزلة. والمرجئة طوائف، وقد ذكر الأشعري في مقالاته أنهم ثنتا عشرة طائفة، أشدهم إرجاءً جهم بن صفوان ، وأبو الحسين الصالحي ، وأخفهم إرجاءً مرجئة الفقهاء؛ أتباع حماد بن أبي سليمان الإمام السلفي الفقيه المعروف، لكنه زلَّ رحمه الله وغلط في مسألة الإيمان، وإلا فهو من أئمة السنة والجماعة، وغلطه -كما قال شيخ الإسلام - من بدع الأقوال وليس من بدع العقائد، وتابعه على غلطه أبو حنيفة ، وعلى هذا اشتهر قول مرجئة الفقهاء بتقلد أبي حنيفة له، فشاع في أتباعه من الحنفية. ولما مضت خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين، وجاءت إمارة بني أمية، ظهرت بعض الفرق؛ ففي الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبني أمية -أثناء خلافة يزيد بن معاوية وبعدها- خرجت القدرية في العراق، وهم قوم يقولون: لا قدر، والأمر أنف، وجملة مذهب هؤلاء: أنهم ينكرون خلق أفعال العباد، وغلاتهم ينكرون علم الرب بها قبل وقوعها من العباد. وهؤلاء القدرية الغلاة المنكرون لعلم الرب هم قوم من الزنادقة من أهل فارس، وإنما أظهروا الإسلام نفاقاً، وليسوا من المسلمين في شيء، وقد أجمعت المعتزلة


القدرية -لا نقول أهل السنة- على تكفير هؤلاء الغلاة، فضلاً عن إجماع جملة طوائف المسلمين. وأما غير الغلاة من القدرية فإنهم أهل بدعة، وقولهم كفر، وإن كانوا ليسوا كفاراً، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذا النوع من القدرية ما علمت أحداً من السلف نطق بتكفيرهم). فالمقصود: أن الأصل الثاني الذي حصل فيه نزاع هو القدر، فظهرت القدرية، وقابلتهم الجبرية الذين يقولون بجبر العباد، وكان هذا في آخر عصر الصحابة، وبعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين. وأما المسائل الإلهية فإن عصر الصحابة انقرض ولم يحصل فيها نزاع بين أهل القبلة. وفي المائة الثانية بعد عصر الصحابة؛ ظهر قوم ينتحلون علم الكلام، وهو علم مولَّد من فلسفة اليونان وغيرها من الفلسفات، وأظهروا تعطيل الصفات؛ كالجعد بن درهم و الجهم بن صفوان وأمثالهمها. فهؤلاء القوم ضلوا في هذا الباب ضلالاً مبيناً، ولهذا كان السلف رحمهم الله يرون أن قول الجهمية كفر، وقد أجمع السلف على جملة من أقوال الجهمية أنها كفر، وإن كانوا لا يلتزمون تكفير أعيانهم. فلكون هذه المسألة هي أشرف المسائل التي حصل فيها النزاع؛ قصد المؤلف رحمه الله إلى تعظيم شأنها، وذِكرها على التفصيل في مبدأ رسالته.

شرح لمعة الاعتقاد [2]
?عقيدة أهل السنة في صفات الباري جل وعلا تعتبر من أخص أصولهم، فهم يؤمنون بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مخالفين في ذلك مسلك المعطلة الذين عطلوا صفات الله وتأولوها على معان مجازية، ومخالفين -ثانياً- مسلك المشبهة الذين يشبهون صفات الله بصفات خلقه، ومخالفين -ثالثاً- مسلك المفوضة الذين يقولون بالعمل بالألفاظ مع السكوت عن معانيها.
?عقيدة أهل السنة في صفات الباري سبحانه وتعالى



قال الموفق رحمه الله: [موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم] . أي أن الله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولهذا كان من أخص أصول أهل السنة والجماعة في هذا الباب هو: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الإمام أحمد : «نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث». وأحياناً يقع إشكال لدى بعض طلبة العلم في بداية الطلب؛ فإنهم تارة يقولون: يوصف الله بما وصف به نفسه في كتابه أو سنة نبيه، وتارة يقولون: الكتاب والسنة والإجماع. وهذا ليس فيه إشكال؛ لأنه لا ينعقد الإجماع إلا تبعاً لنص، ولهذا لا فرق بين أن يقال: الكتاب والسنة، أو يقال: الكتاب والسنة والإجماع. وقد جاءت صفات الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة بالنفي والإثبات؛ كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهذا نفي.. وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وهذا إثبات، ومن قواعد باب الأسماء والصفات: أن الله موصوف بالنفي والإثبات. فإن قيل: ما الفرق بين المقامين؟ قيل: مقام الإثبات أصل ذكره في القرآن والحديث على التفصيل، وأما مقام النفي فإن الأصل في ذكره الإجمال، ولهذا فإن الله تعالى فصل ذكر الأسماء والصفات، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء في القرآن في هذا الباب إثبات مجمل، ونفي مفصل، لكننا نقول: إن الأصل في النفي هو الإجمال.. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وإنما أُجمل النفي كهذا الحرف من كتاب الله؛ لأنه أبلغ في تحقيق الكمال والتنزيه من المفصل، فإن قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] أي: ليس كمثله شيء موجود أو متخيل أو مفروض في الذهن، تعالى سبحانه وتعالى عن كل شيء، فهذا عموم تام في النفي. وكذلك فُصل في الإثبات؛ لأنه أبلغ في تحقيق الكمال، ولأنه ليس من المستحسن الاستطراد في تفصيل النفي، أو


الإجمال في ذكر الإثبات، وإنما كان ذكر مجمل الإثبات لبيان شموله وتمامه، قال الله تعالى في ذكر مجمل أسمائه: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180] وهذا إثبات مجمل، وأما المفصل في أسماء الله، فهو كقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23] الآية، والصفات مفصلها كقوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] .. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] ، وكل اسم ذكر في القرآن فإنه يتضمن صفة، وهذا كله تفصيل للصفات، ومن المجمل في الصفات قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] أي: الوصف الأكمل، وهذا إجمال في إثبات الصفات. إذاً: الأسماء والصفات ذكرت مجملة ومفصلة، وذكرت مثبتة ومنفية، فالنفي المجمل هو الأصل، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، والنفي المفصل قليل كقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] .. لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، ولهذا فإن كل نفي مفصل يتضمن ثبوتاً، وليس في القرآن ولا السنة نفي مفصل يقصد به النفي المحض، فمثلاً قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] لا يقصد به النفي المحض، بل جاء متضمناً لثبوت الكمال: كمال الربوبية والقيومية، ولهذا كانت هذه الآية -على طريقة طائفة من مثبتة الرؤية: كأهل السنة، ومحققي الأشاعرة كالأشعري وغيره- دليلاً على إثبات الرؤية، فهذا هو المستعمل. أما من حيث الإثبات فالأصل فيه هو التفصيل، ولا يثبت لله سبحانه وتعالى شيء من الأسماء أو الصفات إلا ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو باب توقيفي على التفصيل، فلا يجتهد في إثبات اسم أو صفة، بل هو موقوف على تفصيل النصوص له، وأما النفي فهو في الجملة توقيفي كذلك، لكن ثمة معنىً مهم ذكره ابن تيمية رحمه الله ، وهو أن يقال: إن الله

منزه عن كل نقص؛ فهل يلزم أن هذا النقص الذي ينزه الرب عنه قد صُرح بنفيه في القرآن أو السنة؟ الجواب: لا يلزم، فصار المقام الأول: مقام الإثبات؛ لا يمكن أن نثبت لله اسماً أو صفة ليس في الكتاب والسنة. والمقام الثاني: مقام النفي؛ يمكن أن ينفى عن الله نقص لم يصرح بنفيه في القرآن. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولا يقتصر في باب النفي على ما ذكر تفصيلاً في القرآن أو في السنة، فإنه يسير، بل كل نقص فإنه ينفى عن الله). فمثلاً: لا يوجد في كتاب الله تصريح بنفي الجهل، وذلك لأن ذكر العلم صفة، واسمه له سبحانه وتعالى (العليم) يدل على نفي الجهل. ومن هنا استخلص العلماء قاعدة وهي: (أن كل إثبات يتضمن نفي ضده) وهذه قاعدة مطردة؛ لأن المتقابلين يمتنع اجتماعهما في العقل، ولهذا إذا قال قائل: لِمَ لَمْ يذكر الرب سبحانه وتعالى في كتابه تنزهه عن الجهل وغيره من صفات النقص؟ قيل: هذا مذكور على طريقة من التمام والبلاغة، وهو أنه ذكر إثبات المقابل، فعلم أن ضده يلزم أن يكون منفياً عنه، ومبايناً له سبحانه وتعالى. إذاً: نخلص إلى قاعدة وهي: أن باب الأسماء والصفات باب توقيفي، وأنه متحصل بالإثبات والنفي على القاعدة السالفة. ......



  #9  
قديم 9 محرم 1430هـ/5-01-2009م, 11:47 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post العناصر


- سبب تأليف المؤلف لهذه الرسالة .
- ذكر بعض مؤلفات الإمام ابن قدامة رحمه الله .
- أهمية متن لمعة الاعتقاد .
- مباحث الاعتقاد مبنية على شرح أصول الإيمان الستة .
- عرض مجمل لمباحث الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة .
- خطبة المؤلف .
- سبب بدء المؤلف رسالته بالبسملة .
- معنى البسملة .
- تضمن خطبة الماتن لبراعة الاستهلال .
- معنى براعة الاستهلال .
- خطبة الحاجة مشروعة بين يدي الحاجات .
- ذكر ما تضمنته خطبة المؤلف رحمه الله تعالى .
- شرح قول المؤلف ( الحمد لله المحمود بكل لسان ) .
- بيان معنى الحمد .
- تعريف الحمد لغة .
- تعريف الحمد اصطلاحاً .
- حَمْدُ الله تعالى عبادة .
- الله سبحانه أهل للحمد .
- بيان ما يستدعيه الحمد من الحامد .
- الله تعالى يثنى عليه بكل صفاته .
- الفرق بين الحمد والمدح .
- شرح قوله: ( المعبود بكل زمان) .
- شرح قوله: (الذي لا يخلو من علمه مكان) .
- شرح قوله: ( ولا يشغله شأن عن شأن) .
- شرح قوله : ( جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد) .
- شرح قوله: ( ونفذ حكمه في جميع العباد) .
- شرح قوله: ( لا تمثله العقول بالتفكير ...) .
- بيان مذهب الممثلة .
- معنى الكاف في قوله تعالى: { ليس كمثله شيء}.
- دلالة قوله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } على بطلان مذهب الممثلة والمعطلة .
- شرح قوله: ( له الأسماء الحسنى) :
- أنواع دلالات الأسماء الحسنى .
- شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تسعة وتسعين اسماً...) الحديث .
- شرح قوله: ( وله ... الصفات العلى ) .
- تفسير قول الله تعالى: { الرحمن على العرش استوى...} الآيات
- معنى صفة العلم .
- معنى صفة الإحاطة .
- معنى صفة القهر .
- شرح قوله: ( موصوف بما وصف به نفسه...) .

  #10  
قديم 9 محرم 1430هـ/5-01-2009م, 11:48 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Question الأسئلة

الأسئلة
س 1: بين معنى (الحمد) لغة واصطلاحاً.
س2: بين الفرق بين الحمد والمدح.
س3: اذكر ما يستدعيه الحمد من الحامد.
س4: هل الحمد عبادة؟ وضح إجابتك بالدليل.
س5: اشرح قول المؤلف رحمه الله: (الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان).
س6: اشرح قول المؤلف رحمه الله: (ولا يشغله شأن عن شأن).
س7: اشرح قول المؤلف: (لا تمثله العقول بالتفكير) .
س8: ما هو مذهب الممثلة ؟
س9: اذكر تفسيراً مختصراً لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} مع بيان معنى (الكاف) في قوله تعالى: {كمثله} ، وبين دلالة الآية على بطلان مذهب الممثلة والمعطلة.
س10: اشرح قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً)) الحديث ، مبيناً معنى إحصاء أسماء الله تعالى ، وهل يدل هذا الحديث على حصر أسماء الله تعالى في تسعة وتسعين اسماً؟ وضح إجابتك مع ذكر الدليل .
س11: اذكر أنواع دلالات الأسماء الحسنى مع التمثيل .
س12: بين معنى الصفات التالية مع ذكر الدليل:
أ - الإحاطة. ب - العلم. جـ - القهر.
س13: ما معنى لمعة الاعتقاد ؟
س14: اشرح البسملة بإيجاز ، مع بيان سبب بدء المؤلف رسالته بالبسملة.
س15: ما معنى براعة الاستهلال ؟
س16: اذكر عرضاً مجملاً لمباحث الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة.
س17: اذكر بعض مؤلفات الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى .
س18: اذكر تفسيراً مختصراً لقول الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى (5) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى (6) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7)}.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
لمعة, خطبة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:50 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir