دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب الإقرار

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 02:37 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله

كِتَابُ الإِقْرَارِ
يَصِحُّ مِنْ مُكَلَّفٍ، مُخْتَارٍ، غَيْرِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَلاَ يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى وَزْنِ مَالٍ فَبَاعَ مُلْكَهُ لِذَلِكَ صَحَّ، وَمَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِشَيْءٍ فَكَإِقْرَارِهِ فِي صِحَّتِهِ، إِلاَّ فِي إِقْرَارِهِ بِالْمَالِ لِوَارِثٍ فَلاَ يُقْبَلُ، وَإِنْ أَقَرَّ لاِمْرَأَتِهِ بِالصَّدَاقِ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالزَّوْجِيَّةِ لاَ بِإِقْرَارِهِ، ..............
قوله: «الإقرار» مصدر أقر يقر، وهو اعتراف الإنسان بما عليه لغيره من حقوق مالية، أو بدنية، أو غير ذلك، وأخَّر المؤلف الكلام على الإقرار وإن كان له علاقة بالبيع وغيره؛ تفاؤلاً بأن يختم له بالإقرار بالتوحيد، وسلك كثير من الفقهاء هذا المسلك، وبعضهم ختم كتاب الفقه بكتاب العتق تفاؤلاً بأن يعتقه الله تعالى من النار، ولكلٍّ وجه، لكن الإقرار أتم؛ لأن من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة[(268)]، فمن كان أخر كلامه الإقرار بالتوحيد دخل الجنة، ودخـول الجنة أبلغ من العتق من النار، وإن كان يلزم من العتق من النار دخول الجنة.
وللإقرار شروط أشار إليها المؤلف بقوله:
«يصح من مكلف» هذا الشرط الأول، فلا يصح إلا من مكلف، وهو البالغ العاقل، فالمجنون لا يصح إقراره؛ سواء أقر بمال، أو بعقد، أو بطلاق، أو بغير ذلك؛ لأنه لا حكم لقوله، إذ هو صادر بغير قصد، وكذلك الصغير لا يصح إقراره؛ لأنه غير مكلف إلا فيما يصح تصرفه فيه فإنه يصح إقراره ويؤاخذ به، فالضابط في إقرار الصغير أن ما صح منه إنشاؤه صح به إقراره مثل: إذا أُعطي شيئاً يتصرف فيه ببيع من الأمور التي جرت العادة بأنه يتصرف فيها، كالتصرف في الدجاجة ـ مثلاً ـ، والبيضة، والشيء اليسير، فالإقرار هنا يصح؛ لأنه واقع ممن يصح منه العقد فصح الإقرار به، فإطلاق المؤلف ـ رحمه الله ـ كلمة «مكلف» فيه شيء من النظر، وقد يقال: إن صحة تصرف الصغير بما ذُكر لا يمنع من الإطلاق؛ وذلك لأنه مفهوم، والمفهوم كما يقولون: ليس له عموم؛ لأن قوله: «من مكلف» مراده مَنْ يصح منه، فمفهومه أن غير المكلف لا يصح، وحكم المخالفة يصدق بصورة واحدة، فإذا وجدت صورة واحدة يصدق عليها حكم المخالفة فلا ضرر، المهم أن هذا النقاش يتعلق بأصول الفقه، وهو أن يقال: مفهوم قول المؤلف «من مكلف» أن غير المكلف لا يصح إقراره، فيشمل المجنون والصغير، أما المجنون فلا استثناء فيه، وأما الصغير ففيه استثناء.
فإذا قال قائل: إذا كان فيه استثناء، فلماذا لم يستثنِ المؤلف؟ فالجواب من وجهين: إما أن يقال: بأن المفهوم لا عموم له، ويصدق حكمه بصورة واحدة، فإذا وجدت صورة واحدة يختلف فيها الحكم عن المنطوق كفى، أو يقال: إن المؤلف أطلق؛ لأن الأمر معلوم بأن من صح تصرفه في شيء صح إقراره به وعليه، وقد مَرَّ علينا في كتاب البيع أنه يصح البيع من صغير بما جرت به العادة كالأشياء اليسيرة.
قوله: «مختار» هذا الشرط الثاني، وضده المكره، فلا بد أن يكون المقر مختاراً لإقراره ولما أقر به، فإن كان أقر باختياره بمائة وأكره على أن يقر بمائتين، فالإقرار لا يصح بالمائتين لكن يصح بالمائة، وإن كان لا يقر بشيء فأكره على أن يقر بمائة لم يصح إقراره مطلقاً؛ لأنه لا بد أن يكون مختاراً، والدليل قوله تعالى: {{إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] ، فكل العقود لا بد فيها من التراضي، فالمكره لا يقع منه أي عقد أو إقرار.
قوله: «غير محجور عليه» هذا هو الشرط الثالث، والمحجور عليه هو الممنوع من التصرف، ثم هو قسمان: محجور عليه لحظ نفسه، وهم ثلاثة: الصغير، والمجنون، والسفيه، وقد سبق الكلام عليهم، الثاني: المحجور عليه لحظ غيره، وهو المفلس، الذي دَيْنُهُ أكثر من موجوداته، كرجل عليه مائة ألف درهم ديناً، وماله ثمانون ألف درهم يعني عنده أثاث وموجودات تساوي قيمتها ثمانون ألف درهم، وطلب الغرماء الحجر عليه من أجل توزيع موجوداته عليهم، فهذا يحجر عليه.
هذا المحجور عليه لا يصح إقراره في أعيان ماله؛ لأنه ممنوع من التصرف فيها، ويصح إقراره في ذمته؛ لأنه لا ضرر على الغرماء في هذا الإقرار.
فلو قال مثلاً بعد أن حجر عليه: هذه السيارة لفلان، لا نقبل منه؛ لأنها تعلق بها حق الغير، فالآن هي محبوسة لحق الغرماء، أما لو قال: في ذمتي لفلان، نقول: هي في ذمتك، وبعد الحجر يطالبك من أقررت بها له.
قوله: «ولا يصح من مكره» أي: لا يصح الإقرار من مكره، وهذا تصريح بمفهوم قوله: «مختار» فلا يصح من مكره؛ لما سبق من قوله تعالى: {{إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] ، ولأن الله رفع حكم الكفر عن المكره في قوله: {{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}} [النحل: 106] فكذلك نفوذ تصرفه مرفوع عنه؛ لأنه مكره.
ولكن لو أكره على شيء فأقر بخلافه عيناً أو وصفاً فإنه يؤاخذ بإقراره، ما لم نعلم أنه أراد المبالغة؛ فلو أكره على أن يقر بمائة فأقر بثمانين ثبت الإقرار؛ لأنه ما أكره على الثمانين، بل أكره على المائة، ولو أكره على أن يقر بمائة فأقر بمائتين أخذ بذلك؛ لأنه على خلاف ما أكره عليه، ولو أُكره على أن يقر بهذه السيارة لفلان فأقر بالسيارة الأخرى يؤْخذ بها، ولو أكره على أن يقر بمائة صاع بر رديء فأقر بمائة صاع بر نقي أخذ به، المهم إذا أُكره على شيء فأقر بخلافه عيناً أو وصفاً أخذ بإقراره، ما لم نعلم أنه يريد المبالغة، مثل أن يكرهوه على أن يقر بمائة ويضربوه، فإذا ضربوه وآلموه بالضرب قال: إن أردتم أقر لكم بأن في ذمتي له ألفاً، فهذا خلاف ما أكره عليه، لكن للمبالغة من أجل الفكاك والخلاص من هؤلاء الذين أكرهوه، وصاروا يؤلمونه بالضرب أقر بأكثر مما قالوا.
كذلك لو قالوا: هذه السيارة داتسون موديل سبعة وسبعين وأكرهوه على أن يقر بها لفلان، فقال: أنا أقر أن هذه السيارة «البيوك» لفلان، فإذا علمنا من قرينة الحال أنه أراد المبالغة فهذا لا يؤخذ به؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» [(269)] وقوله: «إنما أقضي بنحو ما أسمع» [(270)]، والإنسان الذي يسمع مثل هذا ويعلم أن الرجل أراد المبالغة لا يمكن أن يقضى عليه.
وهل يصح الإقرار من السكران؟ المذهب أنه يصح، مع أنه غير مختار، لكنهم يقولون: إن الإقرار ناتج عن شرب محرم، ولا ينبغي أن نتساهل مع هذا الرجل، بل نعامله بأقسى المعاملتين، فإذا كان سكران وجاءه شخص يُضحكه، ويزيد في نشوته، قال: ألم أسلفك عشرة آلاف، قال: بلى أنت صاحبي، وسلفتني عشرة آلاف، فالمذهب يؤاخذ به، والصحيح أنه لا يؤاخذ بذلك؛ لأنه لا عقل له، ولهذا لم يؤاخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين قال له: هل أنتم إلا عبيد لآبائي؟![(271)].
قوله: «وإن أكره على وزنِ مالٍ فباعَ ملكَهُ لذلك صح» هذه مسألة فيها نوع شبه ممن أكره على إقرار بشيء، فقوله: «أكره على وزن مال» يعني على دراهم، وعبَّر عنها بالوزن؛ لأن الدراهم يتعامل بها وزناً وعدداً، فإذا أكره على وزن نقدٍ، ذهبٍ أو فضةٍ، بأن قالوا له: سلِّم لفلان خمسين أوقية من الفضة، قال: ما عندي شيء، قالوا: سلِّم وإلا حبسناك، فباع ملكه ليسدد ما أكره عليه، فهل يصح البيع؟ يقول المؤلف: يصح؛ لأنه ما أكره على البيع، إنما أكره على مال، فباع لدفع الإكراه؛ ووجه ذلك أنه لو أتى بهذه الخمسين الأوقية من شخص قرضاً، ودفعها يجزئ، فهم يقولون: هو ما أكره على البيع، إنما أكره على أن يدفع خمسين أوقية من الفضة، سواء جاء بها من بيع، أم من قرض، أم من أي شيء.
ولكن هل يصح الشراء منه؟ نعم، إذا صح البيع صح الشراء.
وهل يكره الشراء منه؟ الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يقولون: إن الشراء منه مكروه؛ لأن بيعه بيع اضطرار، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع المضطر[(272)]، وهذا الرجل مضطر إلى بيعه، ولكن الصحيح أنه لا كراهة؛ لأننا لو كرهنا ذلك لكان هذا سبباً لزيادة العقوبة عليه، فإذا قلنا للناس: لا تشتروا منه، وهؤلاء يضربونه صباحاً ومساءً على أن يسدد لهم خمسين أوقية من الفضة، فستبقى عليه عقوبة الإكراه دائماً، فالصحيح أنه لا يكره الشراء منه، بل لو قيل باستحباب الشراء منه؛ من أجل فكاكه من هذا الألم لكان له وجه، وأما النهي عن بيع المضطر، فالمراد به أن يُضطر إنسانٌ لشيء يجب عليك بذله له، فلا تعطه إلا ببيع، فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، لا من باب إضافة المصدر إلى فاعله.
قوله: «ومن أقرَّ في مرضه بشيء فكإقرارِهِ في صحته» المرض مرضان: مرض مخوف، ومرض غير مخوف، فالمرض المخوف ما لا يستغرب الناس الموتَ به، وغير المخوف عكس ذلك، فمثلاً: المرأة إذا أخذها الطلق فمرضها مخوف؛ لأنها لو ماتت من هذه الولادة ما استغرب الناس، والإنسان المصاب بذات الجنب، وبالكوليرا، وبالسرطان وما أشبهها، لو مات الإنسان بهذا المرض لقال الناس: هذا مرض يقتل عادة فلا يستغرب، أما مَنْ مرضه غير مخوف كصداع يسير، وزكام، ورشح، وما أشبه ذلك، فهذا تصرفه كتصرف الصحيح تماماً، في الإقرارات، في البيوع، في الوقف، في الرهن، في كل شيء؛ لأن هذا الإنسان المتصرف يتصرف وهو يشعر بأنه حي لا ميت أو قريب من الموت، أما الذي مرضه مخوف فهذا هو الذي تصرفه مقيد، فلا يتصرف بأزيد من الثلث على سبيل التبرع، ولا يعطي أحداً من الورثة؛ لأنه في حكم الميت، فهو المراد بقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان»[(273)]. فالمراد بقول المؤلف: «إذا أقر في مرضه» المرض المخوف بدليل الاستثناء الآتي.
وقوله: «فكإقراره في صحته» إذا أقر بدين عليه أثبتناه، وإذا أقر ببيع أثبتناه، وإذا أقر بإجارة أثبتناه، وإذا أقر برهن أثبتناه، هكذا كل ما يقر به، فإقراره كإقرار الصحيح، واستثنى المؤلف فقال:
«إلا في إقراره بالمال لوارث فلا يقبل» إذا أقر لوارثه بمال فإنه لا يقبل، سواء كان هذا الوارث يرث بفرض، أو تعصيب، أو رحم، وسواء كان بسبب الزوجية، أو القرابة، أو الولاء، فأي وارث لا يقبل إقراره له بالمال، مثاله: شخص مريض مرضاً مخوفاً، فقال: اشهدوا بأن في ذمتي لولدي فلان عشرة آلاف ريال، وله عدة أولاد، فإقراره هنا غير مقبول؛ لأنه متهم، ولأننا لو أثبتنا هذا الإقرار لكان في ذلك تعدٍّ لحدود الله ـ عزّ وجل ـ في قسمة المواريث؛ لأن هذا الابن سوف يزيد على إخوته بما أقر به والده.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان لسبب معلوم، مثل أن يُعلم بأن هذا الرجل اشترى من أحد ورثته سيارة بعشرة آلاف ريال، ونعلم ذلك باستمارتها، وشهودها، فظاهر كلام المؤلف أنه لو أقر لهذا الوارث بعشرة آلاف ريال فإنه لا يقبل، ولكن في هذا نظر؛ لأن إقراره هنا مبني على سبب معلوم، والأصل عدم التسليم، فنقول: هذا الإنسان أقر للوارث بشيء أحاله على سبب معلوم، والأصل بقاء الثمن في ذمته وعدم قبضه، فالصحيح هنا أنه يصح؛ لأن الأصل في علة منع الإقرار للوارث في مرض الموت المخوف التهمة، والتهمة هنا مفقودة.
وظاهر قوله: «فكإقراره في صحته» أنه لو أقر لأجنبي بما زاد على الثلث ثبت الإقرار، مثال ذلك: قال: أشهدكم بأن نصف مالي لفلان، وهو غير وارث، فظاهر كلام المؤلف أن ذلك صحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى أن إقراره بما زاد على الثلث لا يصح، كما أنه لو أقر لوارث لم يصح؛ وذلك بناء على أن الوصية بما زاد على الثلث لا تصح، وللوارث لا تصح، فالإنسان في مرض موته المخوف ممنوع من التصرف أو التبرع بما زاد على الثلث.
ولكن ما ذهب إليه المؤلف أولى؛ لأن الإنسان ربما يكون في حياته وفي صحته جاحداً لما يجب عليه لشخص من الناس، فإذا رأى أن الأجل قريب تاب إلى الله وأقر، ولنفرض أن هذا الرجل قد عقد مشاركة مع شخص مناصفة، ثم إن الرجل أنكر الشركة، ولما مُرِضَ مرض الموت ندم وتاب وأقر بشركة هذا الرجل، وهذا أمر واقع، فما ذهب إليه المؤلف من صحة الإقرار لغير الوارث مطلقاً صحيح، إلا إذا علمنا بقرينة قوية أن الرجل أراد حرمان ورثته، فحينئذٍ نقول: ما زاد على الثلث لا ينفذ، مثل أن يكون ورثته بني عمه، وبينه وبين بني عمه عداوة، وله صديق حميم، رجل طيب، وماله مائة ألف، فقال: أشهدكم بأن تسعة وتسعين ألفاً وتسعمائة وتسعة وتسعين لفلان صديقي، فهذا الرجل يظهر من إقراره حرمان الورثة، أولاً: لأنه ما أبقى من المائة ألف إلا ريالاً واحداً، ثانياً: لأنه معروف أن بينه وبين بني عمه عداوة وشحناء وبغضاء، ففي هذه الحال نقول: لا يصح الإقرار إلا بالثلث فقط؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم منع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن يتصدق بما زاد على الثلث[(274)].

وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَبَانَهَا فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَسْقُطْ إِرْثُهَا. وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ أَجْنَبِيّاً لَمْ يَلْزَمْ إِقْرَارُهُ لا أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ أَوْ أَعْطَاهُ صَحَّ، وَإِنْ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثاً، ....
قوله: «وإن أقر لامرأته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره» «أقر» الفاعل يعود على الزوج المريض مرضاً مخوفاً، قال: أشهدكم بأن في ذمتي مهر زوجتي، فلها مهر المثل بالزوجية، لكن قوله: «مهر زوجتي» إن عيَّن بأن قال: في ذمتي خمسون ألفاً مهراً للزوجة، فإن كان أقل من مهر المثل وصدقت أعطيت الخمسين، وإن كان مثل مهر المثل وصدقت أعطيت الخمسين، وإن زاد على مهر المثل فليس لها إلا مهر المثل؛ لأن إقراره غير معتبر؛ لأن الزوجة وارثة، لكننا أوجبنا مهر المثل؛ لأن النكاح لا يصح إلا بمهرٍ، وإذا تزوجت امرأة ثبت لها ما عُيِّن وإن لم يثبت المعين ثبت مهر المثل، ولهذا قلنا: إن هذا الرجل إما أن يقول: أشهدكم بأن في ذمتي مهر امرأتي، أو يقول: في ذمتي كذا وكذا مهراً للمرأة، فعلى الأول يلزمه مهر المثل؛ لأنه لم يعين شيئاً، وعلى الثاني نقول: إن كان ما عيَّنه أقل من مهر المثل، أو مساوياً لمهر المثل أعطيته المرأة، وإن كان أكثر لم تعطه؛ لأنه إقرار بالمال لوارثه، وهذه المسألة تدل على ما سبق من قولنا: إنه إذا وجد لإقراره بالمال للوارث سبب يمكن إحالة الحكم عليه فإنه يقبل إقراره بالمال للوارث. كما لو عرف بأن هذه السيارة منتقلة من أحد ورثته.
قوله: «ولو أقر أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها» «ولو أقر» الفاعل يعود على المريض؛ لأنه قال: «ومن أقر في مرضه» يعني إن أقر المريض لامرأته أنه كان أبانها في صحته أي: قبل أن يُمْرَضَ، والبينونة أن يفارقها مفارقة تبين بها، إما أن يكون بطلاقٍ ثلاث، يعني آخر تطليقات ثلاث، وإما بفسخ، وإما بغير ذلك، فيقول المؤلف: «لم يسقط إرثها» ؛ لأنه متهم، بل يبقى إرثها في ماله إلا إذا صدَّقته، والأمر ظاهر؛ لأنه متهم، فهذا الرجل أقر بأنه أبان زوجته قبل أن يمرض من أجل أن يحرمها من الإرث، نقول: هذا الإقرار لا يقبل؛ لأنه متهم بقصد حرمانها، فكما أنه لو طلقها في هذه الحال طلاقاً بائناً لم يسقط إرثها، فكذلك إذا أقر بأنه أبانها في صحته لم يسقط إرثها، فإن أتى ببينة، أو أقرت هي بما أقر به الزوج فإن إرثها يسقط.
قوله: «وإن أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره، لا أنه باطل» «إن أقر» الفاعل يعود على المريض مرض الموت المخوف، فإذا أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً، يعني غير وارث، فإن إقراره لا يلزم اعتباراً بحال الإقرار لا بحال الموت، مثاله: رجل مات عن زوجة وعم شقيق وأم، فللزوجة الربع، وللأم الثلث، والباقي للعم الشقيق، فهذا المريض أقر لعمه الشقيق بمال، ثم إن أمه ولدت لهذا المريض أخاً شقيقاً، ثم مات المريض بعد أن ولد أخوه الشقيق، فالذي يرثه بالتعصيب الأخ الشقيق، فهل نقول في هذه الحال: إن العم يعطى ما أقر له به أو لا؟ يقول المؤلف: إنه لا يعطى اعتباراً بحال الإقرار؛ لأن حال الإقرار هي حال التهمة فإن بقي العم هو الوارث، فهل يعطى أو لا يعطى؟ لا يعطى من باب أولى؛ لأنه أقر لوارث، فالمهم إذا أقر المريض لوارث ثم صار عند الموت غير وارث فإن الإقرار لا يصح، لكن المؤلف يقول:
«لم يلزم إقراره لا أنه باطل» يعني لا يلزم أن يعطى ما أقر به، ولكنه ليس بباطل، بمعنى أن الورثة لو أجازوا له ذلك فإنه يجوز، ويعطى إياه بالإقرار، ولو قلنا: إنه باطل ما صح إقراره ولو بإجازة الورثة، ولهذا يجب أن نعرف الفرق بين أن نقول: إن إقراره باطل، أو نقول: إن إقراره غير لازم؛ لأننا إذا قلنا: إنه غير لازم، صار موقوفاً على إجازة الورثة، فإن أجازوه أعطي، وإن قلنا: إنه باطل صار غير صحيح ولو أجازوه؛ لأنه بطل.
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ أَوْ أَعْطَاهُ صَحَّ وَإِنْ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثاً» هاتان مسألتان:
الأولى: شخص أقر لأخيه وله ابن، ثم مات ابنه فصار الأخ وارثاً، فيصح هذا الإقرار ويعطى أخوه ما أقر به له.
الثانية: إذا أعطاه وهو غير وارث فصار عند الموت وارثاً، أعطاه يعني وهبه، لكن العلماء يسمون الهبة في مرض الموت المخوف عطية، مثاله: مُرض هذا الرجل مرض الموت فكلم أخاه وقال: خذ يا أخي هذه عشرة آلاف ريال، عطية، ثم إن ابنه مات فهل تصح هذه العطية أو لا؟ المؤلف يرى أنها تصح كالإقرار.
والقول الثاني ـ وهو المذهب ـ: أن العطية كالوصية، والمعتبر في الوصية حال الموت لا حال الإيصاء، وبناء على المذهب فإن عطيته لأخيه لا تلزم إلا بإجازة الورثة بناء على أن المعتبر في العطية حال الموت لا حال الإعطاء فالإقرار، إذا أقرَّ لغير وارث ثم صار عند الموت وارثا فحكمه: أنه صحيح ولازم ويعطى ما أقر به الميت، أما العطيه فهي كالإقرار على ما مشى عليه المؤلف ـ رحمه الله ـ وإذا كانت كالإقرار فمقتضاه: أنها تصح وتسلم لهذا المعطى، والقول الثاني: أنها لا تلزم إلا بإجازة الورثة، مثاله: مريض مرض الموت دعا أخاه، وقال له: يا أخي بلغني أنك ستتزوج، خذ هذه عشرة الآلاف مساعدة، ثم إن المريض توفي ابنه فصار الوارثَ الأخُ فعلى ما مشى عليه المؤلف العطية صحيحة وتكون من رأس المال، وليس للورثة فيها تصرف كالإقرار؛ لأن المعتبر حال الإعطاء، أما المذهب فيقولون: لا، المعتبر حال الموت، وعلى هذا فنقول: لما مات ابن المعطي وصار الأخ وارثاً، فإن هذه العطية لا تلزم إلا بإجازة الورثة كالوصية.
فعندنا ثلاثة أشياء: إقرار، ووصية، وعطية، فالإقرار المعتبر به حال الإقرار قولاً واحداً؛ لأن الإقرار إنما ينسب الشيء إلى أمر سابق لا إلى أمر حدث في مرض موته، والوصية المعتبر بها حال الموت، قولاً واحداً؛ لأن الوصية ما تكون إلا بعد الموت، والعطية فيها خلاف، المذهب أنها ملحقة بالوصية، وكلام المؤلف أنها ملحقة بالإقرار؛ لأنها لمَّا كانت بَيْنَ بَيْنَ يحتمل أنه إنشاء عطية، ويحتمل أنه عطية لأمرٍ سابق، صار فيها الخلاف، والأرجح أنها كالوصية؛ لأنها يحتمل أنه أراد أن يبره بذلك الشيء، وقد يقول قائل: كيف ترجحون أنها كالوصية وهو حين الإعطاء غير وارث، فالتهمة منتفية في الواقع، أما الوصية فلا تكون وصية إلا بعد الموت والتهمة موجودة؟ وهذا يجعلنا نتوقف في ترجيح أن تكون العطية كالوصية، وكونها عطاء في مرض الموت يرجح أن نجعلها كالوصية.
إذاً القاعدة الأولى: إذا أقر المريض لوارث لم يقبل إقراره، وإن شئت فقل: لم يلزم إلا بإجازة الورثة، وقيل: لا يقبل مطلقاً.
ثانياً: إذا أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً لا يتغير الحكم، فلا يصح إقراره اعتباراً بحال الإقرار.
ثالثاً: إذا أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثاً صح إقراره؛ لأن العبرة حال الإقرار.
فإن قال قائل: لماذا لا تعتبرون الحال بالموت؟ قلنا: لأن حال الإقرار هي حال التهمة، أما إذا تغيرت فالإنسان لا يعلم الغيب فلا يكون متهماً في عمل لم يوجد سببه.

وَإِنْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ عَلَى نَفْسِهَا بِنِكَاحٍ وَلَمْ يَدَّعِهِ اثْنَانِ قُبِلَ، وَإِنْ أَقَرَّ وَلِيُّهَا الْمُجْبِرُ بِالنِّكَاحِ، أَوِ الَّذِي أَذِنَتْ لَهُ صَحَّ، وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، فَإِنْ كَانَ مَيْتاً وَرِثَهُ، وَإِذَا ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ فَصَدَّقَهُ صَحَّ.
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّت امْرَأَةٌ على نفسها بِنِكَاحٍ وَلَمْ يَدعِهِ اثْنَانِ قُبِلَ» كإنسان أمسك امرأة وقال: هذه زوجتي، فقالت: نعم، فإنها تكون زوجته، ويقبل إقرارها؛ لأن النكاح حق على الزوجة، فإذا أقرت به قبل إقرارها، والدليل على أنه حق عليها قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *}} [الأحزاب] ، هذا إذا كان المدعي واحداً.
وقوله: «ولم يدعه اثنان» مفهومه أنه إذا ادعاه اثنان لم يقبل إقرارها؛ لأن في إقرارها إبطالاً لحق المدعي الثاني، فهذه امرأة أمسكها رجلان، كل واحد منهما يقول: هذه زوجتي، زيد يقول: هذه زوجتي، وعمرو يقول: هذه زوجتي، فذهبوا إلى القاضي فأقرت بأنها زوجة زيد، فعلى المذهب لا يقبل إقرارها لزيد؛ لأن في ذلك إبطالاً لحق المدعي الثاني.
ومعلوم أن هذا الحكم إذا لم يكن هناك بينة، أما إذا وجدت بينة لإحداهما فهي لصاحب البينة، وإن أقام كل واحد بينة بأنها زوجته، ينظر التاريخ فالسابق هو الزوج، ولهذا قال في الروض[(275)]: «إن أقاما بينتين قدم أسبق النكاحين فإن جهل فقول وليها فإن جهل الولي فسخا ولا ترجيح بيد» هذه ادعاها اثنان إن لم يكن لهما بينة فعلى كلام المؤلف لا يقبل، أما إن أقرت لهما جميعاً، أو لم تقر بشيء فلا بد من البينة على ما قاله صاحب الروض، ولا تستغرب هذا الأمر، فهذا ربما يقع، ويقال: إن بعض النساء ـ والعياذ بالله ـ تتزوج وهي ذات زوج.
قوله: «وَإِنْ أقَرَّ وَلِيُّهَا المجبر بِالنِّكَاحِ أَو الَّذِي أَذِنَتْ لَهُ صَح» يعني ادعِيَ على امرأة أنها زوجة فلان، وقد سبق أنها إذا أقرت يقبل إقرارها، فإذا أقر وليها فالولي قسمان على المذهب ـ أيضاً ـ قسم مُجْبِر وهو أبو البكر، وقسم لا يُجْبِر وهو من سواه، فإذا كانت من النساء اللاتي يجبَرن، وأقر وليها المجبِر فكإقرارها؛ وذلك لأنه يملك إنشاء العقد فَمَلَكَ الإقرارَ عليه؛ فالأب له أن يزوج ابنته وإن لم ترضَ وإن لم تعلم على المذهب، فإذا أقر أن فلانة زوجة فلان، فإن الزوجية تثبت، سواء أقرت ووافقت على هذا، أم لم تقر؛ لأنه يملك إنشاء العقد فملك الإقرار عليه.
أما إذا كان غير مجبِر وهو غير الأب، فننظر إن كانت قد أذنت له صح إقراره وإلا فلا، فإذا أقر هذا الولي كالأخ ـ مثلاً ـ بأنها زوجة فلان، زوَّجَها إياه، فإننا نسألها: هل أنت أذنتِ له؟ إن قالت: نعم، قلنا: إقراره صحيح، ونعلل بما عللنا من قبل؛ لأنه يملك إنشاء العقد لكونه قد أُذن له فملك الإقرار عليه، فإن قالت: ما أذنت له لم نقبل إقراره ـ يعني الولي ـ؛ لأنه لا يملك إنشاء العقد فلم يملك الإقرار عليه، فصار عندنا ثلاثة أشخاص: المرأة، والولي المجبِر، والولي غير المجبر، فالذي يصح إقراره بالنكاح من هؤلاء المرأة بكل حال إلا أن المؤلف اشترط ألا يدعيه اثنان، والولي المجبِر يقبل إقراره بكل حال سواء أذنت أم لم تأذن، والولي غير المجبر يقبل إقراره إن ثبت أنها أذنت له؛ وذلك لأنه لا يملك العقد عليها إلا بإذنها.
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ» «إن أقر» الفاعل «مُقِرٌّ» لأنه إذا لم يوجد مرجع بَيِّن أخذ اسم فاعل من مصدر الفعل، فنقول: إن أقر مُقِرٌّ بنسب صغير أو مجنون لحقه، كإنسان معه ولد صغير لم يبلغ، فقال: هذا ابني، يقول المؤلف: يلحقه النسب، أو قال: هذا أخي، يلحقه النسب، أو قال: هذا عمي، يلحقه النسب، لكن المؤلف يقول: «بنسبِ صغيرٍ أو مجنون» فإذا كان بنسب بالغ عاقل يختلف الحكم، ولذلك نقول في تقرير هذه المسألة: الإقرار بالنسب يثبت به النسب بشروط أربعة:
الأول: إمكان ذلك.
الثاني: ألا يدفع به نسباً معروفاً. يعني لا يمسك أحد من الناس فلان بن فلان المعروف نسبه ويقول: هذا ابني.
الثالث: أن يصدقه المُقَرُّ بِهِ إن كان بالغاً عاقلاً، وإن لم يكن بالغاً عاقلاً فإنه لا يشترط.
الرابع: أن يكون مجهول النسب.
فالشرط الأول: إمكان ذلك، فإن لم يمكن فإنه لا يقبل، فلو ادعى شخص قال: هذا ابني وعمره عشرون سنة، وعمر المُقِر خمس وعشرون سنة فلا يقبل؛ لأنه لا يمكن للذي له خمس سنين أن ينجب ولداً.
الثاني: ألا ينفي به نسباً معروفاً، وذلك بأن لا يعرف أن هذا الرجل فلان ابن فلان، فإن عرف بأنه فلان ابن فلان فإن المقر لا يمكن أن يقبل إقراره؛ لأن هذا يبطل نسباً معروفاً، ولو فتح الباب لكان كل واحد يعجبه شخص من الناس، يقول: هذا ابني.
الثالث: أن يصدقه المقَرُّ به بشرط أن يكون بالغاً عاقلاً، فإن كان غير بالغ ولا عاقل فإنه لا يشترط أن يصدقه، ولكن إذا أنكر الصغير أو المجنون بعد البلوغ والعقل فهل يقبل إنكارهما أو لا؟ فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: لا يقبل إنكارهما؛ لأن النسب ثبت والنسب لحمة لا يتغير، وإذا كان الولاء الذي يُلحق بالنسب لا يمكن أن ينقل إلى غير من هو له، فكذلك النسب لما ثبت لهذا الصغير أو المجنون لا يمكن رفعه.
ويرى بعض العلماء أنهما إذا أنكرا بعد البلوغ والعقل لم يثبت النسب؛ لأننا اشترطنا تصديق البالغ العاقل، وهذان لا يعتبر تصديقهما فإذا حصل البلوغ والعقل وجب التصديق، لكن المذهب أنه ليس بشرط.
الرابع: أن يكون مجهول النسب، فإن كان معلوم النسب، بأن عرف أن هذا الرجل من قبيلة كذا، والآخر من قبيلة أخرى، فإنه لا يصدق لأنه يدفع به نسباً معروفاً.
فإذا كان المقِرُّ حياً ولكن المقر به ميت فهل يرثه أو لا؟ يقول المؤلف:
«فَإِنْ كَانَ مَيِّتاً وَرِثَهُ» وإنما نَصَّ على ذلك مع أنه إذا ثبت النسب ثبت الإرث؛ لأن من العلماء من يقول: إنه إذا كان ميتاً لا يرثه؛ لأنه متهم، فهذا رجل مجهول النسب ولا يعرف له نسب مات وخَلَّفَ خمسين مليون ريال فجاء رجل بعد موته، وقال: هذا أخ شقيق لي، ما لي فيه منازع يقول المؤلف: يثبت النسب ويرثه، وهو متهم غاية الاتهام، أعتقد أن لو لم يخلف إلا الكفن، ما قال: إنه أخي يخشى أن ينقص الكفن ويلزم بتتميمه، لكن إذا خلف خمسين مليون ريال ففيه اتهام قوي، وهم يقولون ـ رحمهم الله ـ: الإرث هنا فرع عن النسب، والشارع يتشوف إلى ثبوت النسب وعدم ضياع الأنساب، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»[(276)] ، حتى لو كان الإنسان يغلب على ظنه أن هذا الولد من الزنا، وهي ذات زوج فهو لزوجها، حتى لا يكون الناس أولاد زنا وبغاء والشارع له تشوف إلى إلحاق الناس في أنساب معلومة.
والقول الثاني: أنه إذا كان ميتاً لا يرثه؛ لأنه متهم، لا سيما إذا كان يشاهده كل يوم وليلة، وربما لا يسلم عليه وليس بينهما صلة، ولا يعرف أحدهما الآخر، ثم لما مات جاء يقول: هذا أخي؛ لأننا نقول: أين أنت هذه المدة؟! ما عرفته إلا لما مات، وخَلَّف هذا المال العظيم، جئت تقول: إنه أخي، وبناء على هذا ينبغي أن يتوسط بين القولين، ويقال: إن وجدت قرينة تدل على أن متهم فإنه لا يرثه، وإلا ورث، فلو كان هذا الإنسان غائباً في بلد، والشخص الذي ادعى أنه أخوه في بلد آخر، ولم يتصل به، ولكن لما مات أراد أن يأخذ نصيبه منه ولا يذهب المال إلى بيت المال، فهذا ربما يقال: إن هذا الإقرار صحيح، لكن لو أنه في البلد وربما كان قريباً منه في المكان، وفي الجوار، وفي المسجد وما أشبه ذلك، ولا يعرفه ولا يسلم أحدهما على الآخر، فإذا مات قال: هذا أخي!! فلا شك أن التهمة قوية جداً، فيقال له: أين أنت هذه المدة؟! ما عرفت أخاك؟ فيكون هذا قولاً وسطاً بين القولين.
فإذا قال قائل: هل يجوز إحداث مثل هذا القول؟
الجواب: نعم، يجوز إحداث مثل هذا القول، ولا يعتبر هذا خارجاً من الإجماع، يعني لو فرض أن هذه المسألة إجماعية، إما كذا وإما كذا، ولا يوجد قول ثالث، فإن التفصيل لا يعتبر خرقاً للإجماع؛ لأنه يوافق من أبطل الإقرار في وجه، ويوافق من أقر الإقرار من وجه آخر، وهذه الطريق يستعملها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أحياناً، فمثلاً يقول: الوِتْر اختلف فيه العلماء، هل هو واجب، أو سنة؟ ثم يقول: من كان له ورد من الليل فيجب عليه الوتر، ومن لم يكن له ورد فلا يجب، ثم قال: وهو بعض قول من يوجبه مطلقاً؛ لأنه لا يجب إلا في حال دون أخرى، فالمهم أنه إذا ورد خلاف بين العلماء، وتوسط أحد من الناس بتفصيل يوافق هؤلاء من وجه ويوافق الآخرين من وجه، فإن هذا ليس خرقاً للإجماع، ولا خروجاً عن أقوال أهل العلم.
قوله: «وإِذا ادَّعى عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ فَصَدَّقَهُ صَحَّ» هذه مسألة قد يقول قائل: إنها كقول الإنسان: السماء فوقنا والأرض تحتنا، أو قول الآخر:
كأننا والماء من حولنا
قوم جلوس حولهم ماء
وهذا تحصيل حاصل يعني يأتي إنسان ويقول: أنت عندك لي عشرة دراهم، فقال: نعم.
يقول المؤلف إذا صار الأمر كهذا صح الإقرار، ولكن أراد المؤلف بذلك أن الإقرار يصح بأي لفظ كان، فسواء قلت: أقر أن لفلان عندي كذا وكذا، أو يأتي فلان ويقول: عندك لي كذا وكذا فتقول: نعم، وليس مراد المؤلف أن يبين أن الإنسان إذا ادُّعِيَ عليه فأقر بما ادعي عليه أنه تصح الدعوى ويعطى المدعي ما ادعاه؛ لأن هذا أمر واضح، ولا إشكال فيه. لكن قصده أنه يصح إقراراً.
مسألة: إذا ألحقت القافة الولد بأبوين فهل يلحق بهما؟
على المذهب يمكن أن يلحق بأبوين إن رأت القافة ذلك، لكن إن ألحقته بأحدهما لحقه.
وصورة المسألة أن يطأ المرأة رجلان بشبهة كل منهما يظنها زوجته فحملت من هذا الوطء فإذا ألحقته القافة بهما لحقهما.
وكيف يسمى الولد الذي ألحق بأبوين؟
إن كان اسم الأبوين واحداً مثل: محمد ومحمد فنسميه ـ مثلاً ـ عبد الله ابن المحمدين، وإن كان يختلف فلا بد من ذكر اسم كل أب منهما على حدة فنقول ـ مثلاً ـ عبد الله بن محمد وصالح، وهكذا.


[268] أخرجه أحمد (5/233)، وأبو داود في الجنائز/ باب في التلقين (3116) عن معاذ رضي الله عنه.
[269] سبق تخريجه ص(153).
[270] سبق تخريجه ص(316).
[271] أخرجه البخاري في المساقاة/ باب بيع الحطب والكلأ (2375)، ومسلم في الأشربة/ باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب... (1979) عن علي رضي الله عنه.
[272] أخرجه أحمد (1/116)، وأبو داود في البيوع/ باب في بيع المضطر (3382)، والبيهقي (6/17) عن علي رضي الله عنه.
[273] أخرجه البخاري في الزكاة/ باب فضل صدقة الشحيح الصحيح (1419)، ومسلم في الزكاة/ باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (1032) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند البخاري «تأمل الغنى» بدل «تخشى الفقر» .
[274] سبق تخريجه ص(226).
[275] الروض المربع مع حاشية ابن قاسم مع الروض المربع (7/637).
[276] أخرجه البخاري في الفرائض/ باب القائف (6770)، ومسلم في الرضاع/ باب العمل بإلحاق القائف الولد (1459) عن عائشة رضي الله عنها.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الإقرار, كتاب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:53 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir