دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج الإعداد العلمي العام > برنامج الإعداد العلمي العام > منتدى الإعداد العلمي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25 رجب 1436هـ/13-05-2015م, 08:47 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي علاج الفتور في طلب العلم

بسم الله الرحمن الرحيم

علاج الفتور في طلب العلم

المحاضرة:
الجزء الأول: التذكير بأن إقامة الدين لا تكون إلا بالعلم والإيمان


الجزء الثاني: التذكير بسنة الابتلاء وكيد الشيطان لطالب العلم

الجزء الثالث: بيان أسباب الفتور في طلب العلم


الجزء الرابع: وصايا لمعالجة الفتور في طلب العلم
  #2  
قديم 26 رجب 1436هـ/14-05-2015م, 10:55 PM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم

تفريغ محاضرة: علاج الفتور في طلب العلم.
لفضيلة الشيخ: عبد العزيز الداخل حفظه الله.
إعداد التفريغ للأخت (نهال بنت القاضي)

- الملف الصوتي : (هنا)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرّف العلم وأهله، وخصّهم بالفضل العظيم، والمنزلة العالية الرفيعة، حتى جعلهم أئمة يهدون بأمره، ويفسرون كتابه، ويبينون هداه للناس، ويحفظون شريعته بأمره، والصلاة والسلام على أشرف الناس قدرًا، وأزكاهم نفسًا، وأحسنهم هديًا؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:

فإن طلب العلم لمن صحت نيته من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، والعلم فيه حياة للقلب، وزكاة للنفس، وفيه عزة للأمة، ونصر على الأعداء، ونجاة من مكائدهم.
وقد جعل الله تعالى رفعة هذه الأمة، وعزتها، ونجاتها لا تحقق إلا بالعلم والإيمان؛ كما قال الله تعالى: {
وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، والشرط الموجِبُ يتخلّف الحكم بتخلفه، وكلما ازداد العبد إيمانًا؛ زاد نصيبه من العلو والعزة، وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وهذا كما يتحقق في الفرد، فهو كذلك في الأمة بعمومها، فكلما كانت الأمة أكثر حظًا ونصيبًا من العلم والإيمان؛ كانت رفعتها وعزتها أظهر وأشهر، وكلما ضعف حظها منهما؛ كانت أكثر تخلفًا وانحطاطًا وذلًا، والتاريخ والواقع شاهدان على ذلك.
- فظهور الفرق الضالة، وظهور البدع والأهواء والخرافات التي ضل بسببها فئام من الناس، وقيام التيارات الفكرية المنحرفة التي رفعت راياتها، وتبوأت ما لم يكن لها أن تتبوأ، كل ذلك إنما سببه؛ ضعف العلم، وضعف القائمين به، وفشو الجهل؛ فحصل بقيام هذه الأمور ضلال كثير، وفساد كبير، وسبب ذلك؛ ضعف العلم، وضعف القائمين به، وفشو الجهل.
- وظهور المعاصي والمنكرات، واستحلال المحرمات، وخيانة الأمانات، والاستهانة بالفرائض والواجبات؛ كل ذلك سببه ضعف الإيمان، فبقدر ما يضعف العلم والإيمان؛ ينحط الفرد، وتنحط الأمة، وبقدر ما يزيد العلم والإيمان؛ يرتفع الفرد، وترتفع الأمة، فهذه المعادلة سنة كونية شرعية، دلائل إثباتها من الشريعة والتاريخ والواقع ظاهرة جليّة.

والدين لا يقوم إلا على أساس العلم والإيمان؛ فبالعلم يُعرف هدى الله جل جلاله، وبالإيمان يُتبع هذا الهدى؛ حتى تحصل العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، ومن قام بهذين الأمرين فقد أقام دينه، وكان له وعد من الله تعالى بالهداية والنصر، وإن خذله من خذله، وإن خالفه من خالفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَزَالُ مِنْ أمتي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ)) [رواه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وهذا لفظ البخاري].
فضَمِن الله تعالى لمن يقوم بأمره؛ أن لا يضره من يخذله ولا من يخالفه، مهما كانت درجة الخذلان، ومهما كانت درجة المخالفة.
وفقه هذه المسألة يفيد كل مؤمن قائم بأمر الله جل وعلا، ويفيد كل جماعة قائمة بأمر الله أنهم قد يبتلون بالخذلان من الناس، وقد يبتلون بالمخالفة، فإذا قاموا بأمر الله كما يحب الله؛ لم يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ لأن الله تعالى ينصرهم ويهديهم، كما قال الله تعالى: {
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}.
والمؤمنون هم أتباع الأنبياء، ينالهم من جنس ما ينال الأنبياء من الابتلاء، ويثابون بما وعدهم الله عز وجل على رسله إن اتبعوهم، وقد جعل الله الأنبياء أسوة لنا، وأمرنا أن نقتدي بهم.
وقد تكفل الله لأوليائه بالهداية والنصر؛ فبالهداية يسيرون في الطريق الصحيح، وبالنصر يتغلبون على أعدائهم ممن خذلهم وخالفهم، والنصر على الأعداء يشمل جميع الأعداء ممن نبصرهم، ومن لا نبصرهم، كما قال الله عز وجل: {
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}، وأعظم الانتصار؛ انتصار الإنسان على شيطانه الذي هو العدو المبين الذي يريد إضلاله.
وتقديم الهداية على النصر في الآية من باب تقديم العلم على العمل، لأن الهداية من ثمرات العلم، والنصر من ثواب العمل، والنصر -كما سبقت الإشارة- له معالم وأسباب؛ ونصر الله تعالى لعباده المؤمنين حق قد وعد الله به كما قال الله تعالى: {
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، فهو وعد صادق لا يتخلف، لكن قد يعجّل الله به، وقد يؤخره لحكمه، وشرط ضمان الهداية والنصر؛ هو القيام بأمر الله، فإذا قام العبد بأمر الله على ما يستطيع -لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها- فإن الله تعالى يضمن له الهداية ويضمن له النصر.
ومن تأمل هذا المعنى حق التأمل؛ تبين له أن الإنسان إذا لم يقم بأمر الله فهو على خطر عظيم، ولذلك قال سفيان بن عيينة -رحمه الله- كما في صحيح البخاري: "ما في القرآن آية أشد عليّ من {
لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}"
- لماذا كانت هذه الآية شديدة على سفيان بن عيينة؟
- لأن العبد الذي لا يقيم ما أنزل الله عليه ليس على شئ، فلا ضمان له من الله، ولا عهد، ولا أمان له، ولا سبب له إلى النجاة؛ فهو هالك لا محالة إلا أن يتوب إلى الله، ويقوم بأمره.
وإذا حصل له أصل القيام بأمر الله حصل له أصل ضمان النجاة، لكنه قد يتخلف عنه النجاة التامة، فلا ينجو من العذاب نجاةتامة بالأمان الذي يجعله الله عز وجل للمؤمنين، بل قد يُعذَّب في الدنيا أو في الآخرة على بعض ما اقترفه من المعاصي، وإخلاله بالقيام بأمر الله عز وجل، وقد يعفو الله عز وجل عنه، مادام أصل الدين قائمًا في نفسه.
وعلى قدر ما يقوم به العبد من أمر دينه؛ يكون نصيبه من النصر ومن الهداية:
- فمن الناس من يكون محسنًا في القيام بأمر الله، فهذا نصيبه من الهداية والنصر أحسن النصيب كما قال الله تعالى: {
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.
- و
من كان في قيامه بأمر الله بعض الإساءة، والتردد، والضعف؛ فإنه يتخلف عنه من الهداية والنصر بقدر ما فرّط وضيّع وأساء.
- أما من ضيّع أمر الله جملة كالكفار والمنافقين فهولاء ليسوا على شئ، كما قال الله تعالى لكفرة أهل الكتاب: {
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المشهور الصحيح: ((رَأْسُ الأَمْرِ:الْإِسْلَامُ،وَعَمُودُهُ: الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)). [رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه].
والله تعالى قد أمرنا بإقامة الدين، فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}. والمقصود أن إقامة الدين لا تكون إلا بالعلم والإيمان، وأن أهل العلم والإيمان هم أئمة المسلمين في الدنيا، قد كتب الله لهم الرفعة والعزة وأكرمهم وشرّفهم. وفي النصوص ما يدل على أن الله عز وجل يحبهم ويقربهم، وقد جعلهم أوليائه المقربين، وأجرى لهم من أسباب البركة، والفضل شيئًا كثيرًا مباركًا عظيمًا لا يخطرُ على القلوب حده، كما قال الله تعالى: {وَبَشِّرِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا}، فالتأكيد بأن هذا الفضل من الله، له رسالة عظيمة؛ لها أثر عظيم في قلوب المؤمنين:
· فمن ذلك: دلالتها على محبة الله تعالى لهم؛ بأن نص على أن هذا الفضل منه -جل وعلّا-، وأنه اختصاص خصّهم به، خصهم بهذا الفضل الكبير.
· ومن ذلك: دلالتها على أن هذا الفضل عظيم، جدّ عظيم؛ لأنه فضل من الله، وليس من غيره، والله تعالى عليم بما يُرضي عباده، وما تقر به عيونهم، وتحسن به عاقبتهم.
· ومن ذلك: أنه فضل يكفي عن وصفه وتعيين نوعه وأفراده، أنه فضل من الله؛ وكل عطية موعودة، يزنها الناس بقدر معطيها، ألا ترون أن الناس يستشرفون لأعطيات الكبراء من الملوك والتجّار، لمظنة أن أعطياتهم جزلة كثيرة؟!
فإذا وعد أحدهم بعطية وأبهمها، علم الناس أنه أبهمها لتعظيمها، فيحصل لهم من اليقين بعظمها بسبب هذا الإبهام، وتذهب آمالهم كل مذهب بسبب ثقتهم بقدرة أولئك الكبراء على الوفاء بالأعطيات العظيمة.
وهؤلاء الكبراء لا يساوون في ملك الله عز وجل شيئًا، ولو اجتمعوا جميعًا من أول ما خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة على أن يعطوا أعطية عظيمة؛ فإنهم لن يبلغوا في ملك الله تعالى نقرة عصفور في بحر عظيم، ولا ينقصون من ملك الله إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ثم أُخرج منه، فهذا القدر من الماء الذي يعلق بالإبرة بالنسبة للبحر العظيم لا يساوي شيئًا يذكر، فهذا مثل ما ينفقون ولو اجتمعوا عليه، فما ظنكم بفضل الله العظيم؟

والمقصود أن هذا الفضل من الله، والنص على أنه من الله، ووإبهام هذا الفضل؛ كل ذلك دليل على تعظيمه لتشرئب الأعناق إليه، وتتطلع النفوس إليه، ويزداد شوقها إليه، وزادهم الله عز وجل بيانًا وتشويقاً بأن وصف هذا الفضل بأنه كبير: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا}.
- وهذا التبشير من دلالته أيضًا؛ أنه يدل على عناية الله تعالى بالمؤمنين، ومحبته لهم، وأن هذه العناية لها آثارها، آثار عظيمة مباركة، فهي محبة من لا يعجزه شئ، ولا يخفي عليه شئ، ولا يغيض من ملكه كثرة عطائه.
ومما يدل على تأكيد عناية الله تعالى بهم ومحبته تبشيرهم؛ أنه كرر الأمر على نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن مرارًا أن يبشرهم، فورد قوله تعالى: {
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بهذا اللفظ في القرآن في خمسة مواضع، وورد أيضًا في موضعين: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا}، وفي موضعين: {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}.
- وجعل الله تعالى أهل العلم من الشهداء على أعظم كلمة، وأشرف قضية، وأجّل خصومة بين رسله وأعدائه، فقال تعالى: {
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وشرف القضية وجلالة قدرها، وإشهاد أهل العلم عليها؛ دليل عظيم على تشريف قدر أهل العلم، ومنزلتهم عند الله عز وجل، ومحبة الله تعالى لهم.
- ويوم القيامة يزيدهم الله شرفًا، بأن تكون لهم كلمةٌ مسموعة على الملأ، ومقامٌ محمود يتكلمون فيه بحجة الله تعالى، كما قال الله تعالى: {
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(56)}.
- فهذا الشرف العظيم في الدنيا والآخرة، والفضل الكبير الذي جعله الله عز وجل لأهل العلم والإيمان؛ من أعظم الأسباب الدافعة لطالب العلم أن يصدق الله عز وجل في طلبه للعلم، وأن يعلم أنه إن صدق الله عز وجل في طلبه العلم؛ فإنه على أبواب فضل كبير من الله عز وجل في الدنيا والآخرة.

- والعلم والإيمان محفوظان إلى أن يأتي أمر الله، ومن صدق في ابتغائهما؛ وجدهما بإذن الله عز وجل، وقد روى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وغيرهم من طريق أبي إدريس الخولاني، عن يزيد بن عميرة –رحمه الله تعالى-، وكان صاحب معاذ بن جبل، قال: "لمّا حضر معاذ بن جبل الموت، قيل يا أبا عبد الرحمن أوصنا. قال: اجلسوني، ثم قال: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما، وجدهما، كررها ثلاث مرات". وفي رواية: "إنالْعِلْمَ وَالإِيمَانَ مَكَانُهُمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنِ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا".
ومعاذ بن جبل سيد العلماء، وفي رواية في مستدرك الحاكم قال: "
ولَمَّا مَرِضَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مَرَضَهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، كَانَ يُغْشَى عَلَيْهِ أَحْيَانًا، وَيُفِيقُ أَحْيَانًا، حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ غَشْيَةً ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ قُبِضَ، ثُمَّ أَفَاقَ، قال يزيد: وَأَنَا مُقَابِلَهُ أَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَا كُنْتُ أَنَالُهَا مِنْكَ، وَلَا عَلَى نَسَبٍ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْكَ يَذْهَبُ، قَالَ: فَلَا تَبْكِ فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانَهُمَا، مَنِ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا فَابْتَغِهِ حَيْثُ ابْتَغَاهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ وَتَلَا: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}"، وهذه الرواية أخرجها الحاكم في مستدركه، وفي القصة رواية أخرى ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من الفتاوى.
والمقصود أن العلم والإيمان مكانهما، من صدق في طلبهما وجدهما -بإذن الله تعالى- ومن ابتغي الهدى من الله عز وجل؛ فإن الله عز وجل ييسره له، ومن عرف هذه الحقيقة دعاه ذلك إلى الجد والاجتهاد في طلب العلم، ودعاه ذلك أيضًا إلى الجد والاجتهاد في تصحيح الإيمان، وتقويته، واستكماله؛ فإن مدار سعادة الإنسان وفلاحه وفوزه على قيامه بأمر ربه، وسبيل ذلك العلم والإيمان. فالعلم بلا إيمان حجة على صاحبه، والإيمان لا يصح إلا بالعلم، فمن عبد الله على جهل، فقد خالف مقتضى الإيمان الصحيح وسار في طريق الضلالة.

ومما ينبغي أن يُعلم؛ أن هذه الفضائل العظيمة للعلم والإيمان قد جعل الله لها ثمنًا جليل القدر، فلا تنال هذه الفضائل بالتمني، ولا بالدعاوى الباطلة، ولا بالعزائم الواهية؛ وإنما تنال ببذل ثمنها، وسلعة الله غالية، يتميز ببذلها الصادق من الكاذب، والمؤمن المصدّق من المنافق المكذّب، ويتميز بها القوي الأمين من الضعيف المتردد، قد قال الله تعالى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}، والعلم كذلك ينبغي لطالبه أن يأخذه بقوة، وأن َيُعِدّ له عدته، وأن يبذل له أغلى ما يملك، وأعز أوقاته، وأنفس أمواله، وأن يجتهد له اجتهادًا يليق بمطلوبه العظيم؛ حتى يظفر طالب العلم بما رتّب على طلب العلم من الفضل العظيم.

وينبغي أن ندرك في هذا الأمر حقيقتين مهمتين:
· الحقيقة الأولى:سنة الابتلاء؛ فكما أسلفت أن فضائل العلم والإيمان لا تدرك بالأماني، ولا بالتشهي، وإنما يعترض طالبها من الابتلاء؛ ما يتميز به الصادق من الكاذب، ومن يثبت ومن لا يثبت. وهذا الابتلاء ليس ابتلاءً اختياريًا؛ إن شاء العبد أن يدخل الابتلاء دخله، وإن لم يشأ لم يدخله، فكل إنسان معرّضٌ للابتلاء، وأشرف الناس قدرًا، وأفضلهم؛ من كان ابتلائه في أشرف الأمور وأفضلها، وكل إنسان معرّض للابتلاء؛ الذي يكون نتيتجته إما الفوز بالسعادة الأبدية، أو الشقاء الأبدي. والله عز وجل يبتلي عباده بما يشاء، وكيف يشاء، لا اختيار للعبد في ذلك، وإنما على العبد أنه إذا ابتلي أن يتبع هُدى الله عز وجل في ذلك البلاء الذي ابتلي به. ومن توجهت عنايته، وسمت همته لطلب معالي الأمور، وطلب فضل العلم؛ فإنه قد يبتلي بما يناسب هذا المطلوب العظيم. فإذا اتبع هدى الله عز وجل، وصدق، وصبر؛ فإنه يرجى له أن يفتح له في العلم، وأن ينال به الفضل العظيم في الدنيا والآخرة، فإن مات وهو في طريق طلبه للعلم، ولمّا يظهر للناس أنه قد حصّل علمًا كثيرًا؛ فإن أجره على الله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}. وقد قصصنا عليكم في المحاضرة السابقة قصة طالب العلم الذي مات في المدينة فرؤيت فيه تلك الرؤية العظيمة، وأن الله عز وجل قد شرّفه ورفع منزلته بطلبه للعلم، حتى وإن كان قد مات وهو في أول طلبه للعلم. فإن من رحمة الله عز وجل، وفضله العظيم؛ أنه يثيب على النية، وعلى العزيمة الصادقة من العبد، والله تعالى ينظر إلى ما في قلوب الناس {فَعَلِمَ مَافِي قُلُوبِهِمْ}، وفي الحديث الصحيح: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلا إلى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)).
هذا تنبيه للحقيقة الأولى؛ أن طالب العلم ينبغي أن يتعقل، وأن يتفهم أنه في طلبه للعلم مُعرّضٌ للابتلاء. يبتلى بأنواع من الابتلاءات -طلاب العلم يبتلون بأنواع من الابتلاءات-، قد يَعظٌم الابتلاء على بعض الطلاب، ويشتد على بعضهم في جوانب، ويخفف عن بعضهم في جوانب أخرى، لكن محصّل ذلك، أن كل طالب علم معرضُ للابتلاء؛ فإذا ثبت -والمقصود من هذا الابتلاء أن يتميّز الصادق من الكاذب- فإذا ثبت، واتبع هدى الله عز وجل؛ فإن الله عز وجل يضمن له النصر، ويضمن له الهداية، ويضمن له أن لا يضّل، ولا يشقى، ولا يخاف، ولا يحزن؛ وهذاه البشارات عظيمة يُعطاها من صدق في اتباع هدى الله عز وجل.

· الحقيقة الثانية: وهي حقيقة مهمة، يجب على طالب العلم أن يكون على بيّنة منها، وأن يحعلها نصب عينيه؛ وهي أن هذه الفضائل العظيمة التي تفضي بالعبد إلى فضلٍ عظيم من الله عز وجل في الدنيا والآخرة، جُعلَ أمامه عدو يكيد له كيدًا عظيمًا ليحرمه من هذه الفضائل، وهذا العدو يراه من حيث لا يبصره العبد، وهذا العدو يحضر العبد عند كل شئ من شأنه، كما في صحيح مسلم من حديث جابر مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الشَّيطَانَ يَحضُرُأَحَدَكُم عِندَكُلِّ شَيْءٍمِنشَأنِهِ))، وقال الله عز وجل:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}.
فالشيطان يتعرض لطلاب العلم بأنواع من الحيل والمكايد، فيجب على طالب العلم أن يكون على حذر منه.
وقد قال شيخ الإسلام بن تيمية –رحمه الله تعالى- كلامًا عظيم القدر في هذا الباب إذ قال:
لشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه، والتقرب إليه والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم ويعرض لخاصة أهل العلم والدين، أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه؛ بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة؛ فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله، قال: قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به، تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقينًا، وطمأنينة، وشفاء، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}، وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}". انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
والمقصود من التنبيه على هذه الحقيقة؛ أن هذه العداوة من الشيطان لها آثارها، ولها مظاهرها، ولها صورها، ومن تأمل ما يصيب بعض طلاب العلم من الفتور، وجد كثير منه بسبب كيد الشيطان، وعلل النفس الخفية.

إذًا، نلخص ما سبق: أن طالب العلم ينبغي له أن يعرف هاتين الحقيقتين؛
أولًا: أنه يبتلى في طلبه للعلم.
والحقيقة الأخرى: أنه معرض لكيد عدوه.
فإذا سلم من كيد عدوه، ودفعه بما أمر الله عز وجل، وثبت في الابتلاء؛ حصلت له تلك الفضائل العظيمة بإذن الله عز وجل.
ومن ظن أنه يدرك طلب العلم بالأماني الباطلة، وبالتشهي، وبالعزيمة الواهية، وبالراحة والدعّة؛ فإنه قد أخطأ خطأً كبيرًا، فالسنة الماضية على العلماء من قبلنا أنهم عانوا الشدائد في تحصيل العلم حتى بلغوا ما بلغوا، وقد قال موسى عليه السلام كما حكى الله عز وجل عنه في رحلته لطلب العلم قال: {
لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا}، وقال يحيى ابن أبي كثير -رحمه الله-: "لا يُستطاع العلم براحة الجسم" [رواه الإمام مسلم بلفظٍ مقارب في صحيحه]. وقال البخاريُّ في صحيحِه في كتاب العلم؛ بابُ الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ: "وَ رَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ".
انظروا إلى المشقة في مسيرة شهر من السفر ليطلب حديثًا واحد، ليس له غرض إلا أن يسمع هذا الحديث.
وقال سعيد بن المسيب –رحمه الله-: "إن كنت لأسير ثلاثا في الحديث الواحد" يعني يسافر مسيرة ثلاثة أيام في الحديث الواحد.
وقال أبو العالية: "كنا نسمع الرواية عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالبصرة، فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم"
.
لم يختاروا الدعة، ولم يكتفوا بالنقل مع إمكان علو الإسناد، والتثبت من صحة ما نقله الراوي.
وهذا الصبر أورثهم فضلًا كبيرًا من الله عز وجل، ورفعة، وجعلهم الله عز وجل من حفظةِ دينه.
وقال علي بن المديني: "قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟"- كان الشعبي من كبار العلماء- "قال: بنفي الاعتماد، والسير في في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب" هذا من النهمة، والحرص على طلب العلم.
وكان شعبة –رضي الله عنه، ورحمه الله- يقول: "كم من عصيدةٍ فاتتني"كان إذا سمع بمجلس حديث خرج إليه، ولم ينتظر نضج الطعام؛ من تقديمه لطلب العلم وإيثاره له.
و
قال النضر بن شُميل: "لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع وينسى جوعه".
وهذا حاصل من غير تعمدٍ لدى كثيرٍ من طلاب العلم الجادين؛ فإنهم من شدة انهماكهم في طلب العلم، قد يغفلون عن أنفسهم، وربما يجوع أحدهم فيماطل نفسه حتى ينسى جوعه.
ومن العلماء من ذُكرت عنه قصص عجيبة في هذا الأمر، حتى إنه ذكر عن الشيخ الألباني -رحمه الله - أنه كان يصعد على السلم في مكتبته ليطالع الكتب، ويخرّج بعض الأحاديث؛ فيمكث على السلم مدة طويلة حتى إنه يوضع له طعامه ثم يبرد ثم يرفع وهو باقٍ على السلّم؛ من شدة حرصه وانهماكه في طلب العلم، وقد كان -رحمه الله- كثير القراءة، واسع الإطلاع.
وصبر العلماء على شدائد التحصيل، أمرٌ يطول الحديث عنه، وفيه قصص عجيبة، وأُرشد في هذا إلى كتاب مهم بعنوان: "صفحات من صبر العلماء على شدائد التحصيل" للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله-، ذكر فيها لما عانوه من التعرض للشدائد والأهوال، والتعرض للجوع، والتعرض لقطاع الطريق، وما يصيبهم في رحلاتهم من نفاذ الزاد، وقلة النفقة، ومن أنواعٍ من الابتلاءات، ويصبرون على ذلك حتى يحصلون ما حصلوا.
ومن عجائب القصص في ذلك؛ أن بقي بن مخلد الأندلسي –رحمه الله-؛ قد كان من الأندلس، وكان يسافر على قدميه، وكان كثير العبادة، كثير الصوم، كثير الصلاة، حريصًا على طلب العلم، وقد أًوتي جلدًا عجيبًا في ذلك.
هذا الإمام سافر من الأندلس إلى الشام، ومن الشام إلى العراق، فلمّا وصل إلى بغداد يريد السماع من الإمام أحمد بن حنبل، وافق مجيئة منع الإمام أحمد من التحديث، بسبب محنة القول بخلق القرآن، وقد مُنع الإمام أحمد من التحديث، وكان طلاب العلم يتجنبون الحديث عنه لأجل هذا المنع، واعتزل في داره، وأتاه بقي ابن مخلد يريد منه أن يحدثه، وعرف منه الجد والحرص على طلب العلم، فاعتذر له الإمام أحمد، وأخبره بأنه قد مُنع من التحديث، وأنه يخشى على بقي بن مخلد بسبب تردده على بيت الإمام أحمد لطلب الحديث، فاتفق هو والإمام أحمد، أن يأتي هو إلى الإمام أحمد على هيئة سائل يسأل –ما نطلق عليه في لساننا الشحاذ- يلبس لباس السائلين، ويقف أمام الباب يسأل، حتى يبعد التهمة عنه أنه طالب علم، وكان الإمام أحمد يخشى عليه أن يؤخذ بسبب طلبه للحديث عند الإمام أحمد، فكان يأتي إليه كل يوم، ويقول ما يقوله من العبارات التي يقولها السائلون عند الأبواب، فيخرج إليه الإمام أحمد، ويعطيه شيئًا مما في البيت، ويحدّثه ببعض الأحاديث؛ يمليها عليه؛ فيحفظها عنه بقي بن مخلد، فيعود إلى بيته فيكتبها، وداوم على ذلك مدّة حتى رُفع المنع عن الإمام أحمد، وانجلت تلك المحنة، فكان بقي بن مخلد بعد ذلك من خاصة طلاب الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد إذا رآه قال: "هذا يَصْدُق عليه أنه طالب علم"، لما رآه من حرصه على طلب العلم.
والمقصود أن بقي بن مخلد بارك الله عز وجل له في علمه؛ فكتب أكبر مسند في تاريخ الأمة الإسلامية؛ مسند بقي بن مخلد، وله كتاب في التفسير كتاب عظيم، سبقت الإشارة إليه في دورة تاريخ علم التفسير.

المقصود أن هذا الصبر على شدائد التحصيل ثمراته عظيمة، وبه يتبين الصادق من الكاذب، والجاد من غير الجاد، وصادق العزيمة من ضعيف العزيمة، وتكون العاقبة حسنة، وعظم الجزاء مع عظم البلاء؛ كلما كان البلاء أعظم، كان الثواب -بإذن الله عز وجل- أعظم وأعظم.
والقصص في ذلك كثيرة جدًا، ولو أردت أن أسهب في ذلك ربما مضى علينا وقت كثير في استعراض هذه القصص، لكن اذكر قصة من القصص التي قصّها علينا شيخنا -الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله- في ختام شرح متن فقهي، ذكر كلامًا يحثنا به على مواصلة طلب العلم، وعلى الصبر عليه، فكان من القصص التي أثّرت علينا كثيرًا، قصة رجل كان في وقت طلب الشيخ ابن جبرين للعلم، قال: " أتانا رجلٌ من أفريقيا" -وكان في الرياض في ذلك الوقت أكثر البيوت من الطين-،قال: "فلم يجد مأوى يسكن فيه، إلا -ما نسميه- بيت الدرج" هل تعرفون بيت الدرج؟
الذي تحت السلم الذي في الدار؛ يكون في عمارة لا يجد مكان إلا في هذا المكان يسكن فيه؛ تحت الدرج، قال: "-لم تكن آلات التصوير مشتهرة لديهم- فكان إذا أراد بعض الكتب، يستعيرها ثم ينسخها نسخًا، وكان يطلب العلم في المساجد في أوقات الحلق، وأوقات الدروس، فإذا جاء الليل سهر على كتابة كتب العلم، قال: " فأقام على ذلك خمس عشرة سنة وهو يطلب العلم، وهذا مسكنه الضيق". فانظروا إلى صبر العلماء على شدائد التحصيل، وهذا الصبر تكون له ثمراته، والشيخ لم يسمّ لنا اسم الرجل، لكن لا يضيع عند الله عز وجل أجر من يصبر على طلب العلم بنيةٍ صالحة.

[أسباب الفتور]
ننتقل بعد هذا إلى الحديث عن الفتور، وأسباب الفتور، وعلاج الفتور، وأنواع الفتور، وسأوجز الحديث فيها؛ لأن أكثر المقصود قد سبق الكلام عليه بإذن الله عز وجل، وما بقي إنما هو تعداد لبعض الأسباب، وطرق العلاج على سبيل التنبيه، والتفصيل المقتضب بإذن الله عز وجل؛ فأقول ما يعتري طالب العلم من الفتور على نوعين:
· النوع الأول: فتور تقتضيه طبيعة جسد الإنسان، وما جُبل عليه من الضعف والنقص؛ وهذا من طبائع النفوس، ولا يُلام عليه عليه الإنسان، وقد روى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح، عن عبد الله بن عمر بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَتِي فَقَدْ اهْتَدَى ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ)) [وأخرجه أيضًا الإمام أحمد، والطحاوي، وابن حبان]. ورُوي أيضًا من حديث أبا هريرة، وابن عباس، وأبي أمامة الباهلي، وجعد بن هبيرة بألفاظ متقاربة؛ فهذا الحديث يبيّن لنا أن كل عمل يعمله الإنسان فله فترة، فمن كانت كانت فترته إلى قصد واعتدال بما لا يخل بالفرائض؛ فهو هو غير ملوم، ومن كانت فترته إلى انقطاع، وإلى سلوك غير سبيل السنة؛ فهو مذموم، وهذا الفتور العارض هو بمثابة الاستراحة، وإجمام النفس، يعود العامل بعدها إلى ما كان يعمل بنشاط متجدد بإذن الله عز وجل.
وينبغي لطالب العلم أن يوطّن نفسه على أمر الفتور الطبيعي، وأن يعرف لنفسه حاجتها إلى الاستجمام والراحة؛ لأن الدأب على العمل بجد ونشاط لا انقطاع معه، أمرٌ غير ممكن، وإذا حمل الإنسان نفسه على ما لا يطيق؛ كان على خطرٍ من الانقطاع الطويل، بل ربما أضّر بنفسه ضررًا بالغًا، وقد روي من حديث عائشة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عُبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لا أَرْضًا قَطَعَ وَلاظَهْرًا أَبْقَى))، وهذا الحديث لا تخلو طرقه من ضعف، لكن معناه صحيح، ويشهد له ما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍمِنْ الدُّلْجَةِ)).
وكان من هدي الأئمة أنهم يجعلون لفترتهم بعض الأعمال المساعدة؛ من تهيئة الدفاتر، وبري الأقلام، وبعضهم ينشد الأشعار، ويقرأ في الدواوين وطرائف الأخبار، وبعضهم يتاعهد الرمي، وغير ذلك من الأعمال التي تُجّم النفس، وفيه نفع وفائدة لطالب العلم. والمقصود أن يفقه طالب العلم أن الفتور الطبيعي -الذي هو من طبيعة النفس-؛ هذا لا تكون معالجته بمغالبته بالجد والاجتهاد والقضاء عليه، فهذا خلاف فطرة الإنسان، وإنما يكون علاجه بإعطاء النفس حقها، من الراحة والاستجمام والقصد والاعتدال، وأن يجعل طالب العلم لحال فتورة من الأعمال ما يناسبها، حتى يتهيأ لمعاودة العمل بجدٍ، ونشاطٍ، وعزيمة، واستعداد؛ وأن يحرص في فترته أن يضبط ما يمكن أن نسميه بالحد الأدني لا يخل به، حتى يبقى مواظبًا على شئ من العلم، لا ينقطع عن العلم انقطاعًا كليًا، لكن يلزم نفسه بقدر معين، حتى يبقى مواصلًا لطلب العلم، فإذا عاد إليه نشاطه، فإذا هو لم يخسر في حال فترته كثيرًا. ولابن القيم كلامٌ حسن في أمر الفتور العارض، الفتور الطبيعي الذي يعرض للسالكين، وأن ذلك له حِكمٌ من الله عز وجل فقال -رحمه الله- في مدارج السالكين: " فتخلُّل الفترات للسَّالكين أمرٌ لازمٌ لا بدَّ منه، فمَن كانت فَتْرَته إلى مُقَاربة وتسديد، ولم تُخْرِجه مِن فرضٍ، ولم تُدْخِله في محرَّمٍ، رُجِي له أن يعود خيرًا ممَّا كان، قال عمر بن الخطَّاب: إنَّ لهذه القلوب إقبالًا وإدبارًا، فإذا أقبلت فخذوها بالنَّوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض، وفي هذه الفترات والغيوم والحُجُب -التي تَعْرِض للسَّالكين- مِن الحِكَم ما لا يعلم تفصيله إلَّا الله، وبها يتبيَّن الصَّادق مِن الكاذب، فالكاذب ينقلب على عقبيه، ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه، والصَّادق ينتظر الفرج، ولا ييأس مِن روح الله، ويُلقي نفسه بالباب طريحًا ذليلًا مسكينًا مستكينًا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتَّة، ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له، لا بسبب مِن العبد -وإن كان هذا الافتقار مِن أعظم الأسباب- لكن ليس هو منك، بل هو الذي مَنَّ عليك به، وجرَّدك منه وأخلاك عنك، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه؛ فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام؛ فاعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع؛ فاعلم أنه قلب مُضيَّع فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يردّه عليك، ويجمع شملك به، ولقد أحسن القائل:إذا ما وضعت القلب في غير موضع ... بغير إناء فهو قلب مضيع " انتهى كلامه -رحمه الله-. فالمقصود من هذا النوع من أنواع الفتور -وهو الفتور الذي تقتضيه طبيعة الإنسان-، هذا فتورٌ لا يُلام عليه العبد.
· النوع الآخر من الفتور- وهوالفتور الذي يُلام عليه العبد-: هو الفتور الذي يكون سببه ضعف اليقين وضعف الصبر.
وأسباب الفتور التي
يعددها كثير ممن يكتب في الفتور، وعلاجه وأسبابه، ومظاهره يمكن إرجاعها إلى هذين الأمرين؛ ضعف اليقين وضعف الصبر؛ لأنه ينتج عنهما آفات كثيرة:
- ضعف اليقين له آفات كثيرة، وهذه الآفات لها أسباب عديدة جدًا تؤدي إلى الفتور.
- وكذلك ضعف الصبر، إذا ضعف صبر الإنسان، دخلت عليه آفات كثيرة، وأسباب عديدة تؤدي به إلى الفتور.
وإذا ضعف اليقين والصبر؛ سلطت على الإنسان آفات من كيد الشيطان، وعلل النفس، وعواقب الذنوب، ولا سبيل لهم إلى الخلاص منها إلا بالاعتصام بالله تعالى، وبالإلحاح عليه في الدعاء أن يرزقه العلم والإيمان، وأن يصرف عنه كيد الشيطان، وأن يعيذه من شره نفسه، ومن سيئات أعماله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: ((وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَاوَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا)).
فكيد الشيطان، وشر النفس، وعواقب الذنوب، من أعظم الصوارف عن ما ينفع الإنسان في دينه ودنياه.
- وإذا ضعف اليقين؛ ضعفت العزيمة، ودنت الهمة، وسهلت، واحتجب عن العبد هدى الله عز وجل، واتبع المرء هواه، فافتتن بالدنيا، وغرّه طول الأمل، وغفل وقسى قلبه، والتفت إلى وساوس الشياطين، ودبّت إلى النفس آفات خطيرة تصرفه إلى طلب الدنيا ومتاعها العاجل؛ لأنه قصر نظره عن ما يجب عليه أن يقصده، فبدل أن يقصد بعلمه، وطلبه للعلم ما عند الله عز وجل من الثواب العظيم؛ صار نظر قلبه إلى عاجل مُتع الدنيا، وطلب زينتها، فافتتن بها، وحمله ذلك على الرياء لطلب الثناء، ومتاع الدنيا، وحمله أيضًا على العجب بما عنده؛ والعجب داء خطير، له آثار وأخطار ينبغي لطالب العلم أن يحذر منها، فإنه من أسباب محق بركة العلم، ويحمله ذلك أيضًا على كفران النعمة، وعدم شكر نعمة الله تعالى عليه بالعلم، وقد قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ} انظروا آتاه الله علمًا، فانسلخ منه، لم يتبع هدى الله عز وجل فيه، لو كان على يقين من هدى الله عز وجل لاتبعه، {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}هنا تسلط عليه الشيطان، حضر كيد العدو، ثم قال الله عز وجل: {فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ}كانت هذه النتيحة هي الغواية، قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. فالمقصود أن ضعف اليقين له آثار خطيرة، وينتج أسباب عديدة تؤدي إلى الفتور.
- وضعف الصبر كذلك له آثار خطيرة، تؤدي بالإنسان إلى أسباب عديدة تؤدي به إلى الفتور؛ فمنها: وهن النفس، وضعف العزيمة، وسرعة التأثر بالأعراض، وطلب الأمور العاجلة التي لا يحتاج المرء فيها إلى الصبر، فإن الفتن والذنوب، النار قد حفت بالشهوات، واتباع الهوى ما يحتاج فيه المرء إلى صبر، فإذا ضعف صبر الإنسان كان أسرع شيئًا إلى اتباع هواه، وإذا اتبع المرء هواه، وقسى قلبه، وطال أمله؛ دبت إليه آفات كثيرة تؤدي به إلى الفتور. والمقصود أن علاج ضعف اليقين، وضعف الصبر يكون علاجه؛ بتقوية اليقين، وحمل النفس على الصبر على استقامة وسداد.

وإذا حصل للمرء يقين صادق بما جعله الله تعالى لطالب العلم من الثواب العظيم، والرفعة في الدنيا والآخرة، وأنه سبب لبركات عظيمة لم تكن تخطر له على بال، ولا تدور له في خيال، ولا تقدر بثمن، بل هي خير من الدنيا وما فيها؛ فإنه يعرف قيمة كل ساعة يقضيها في طلب العلم. ذلك أن اليقين مادة تغذي القلب، ويدفعه للعمل، ولأضرب لكم مثالًا على ذلك؛ لو أن مسافرًا في الطريق يريد السفر إلى أناسٌ يحبهم محبة عظيمة، قد يكونون أهله، قد يكون أهله في مكان بعيد، ويريد أن يسافر إليهم سفرًا شاق، وعرض له في سفره عوارض، حتى ضاع الطريق، وسار لا يعرف الطريق، وهو على خطر من الهلاك، والطريق الذي يسير فيه طريق غير آمنة، واشتدت به الحال، ثم رأى أنه لا يهتدي إلى الطريق الذي يكون فيه النجاة؛ ألا يؤثّر ذلك على نفسه ويرجع إليه بالوهن، والضعف، وتسلط المخاوف، ووساوس الشيطان عليه؟ لأن الحال التي فيها حالٌ تعرض فيها لآفات كثيرة، وطريق النجاة غير معروف لديه، فاكتملت عليه دائرة المخاوف؛ لكن إذا آتاه مرشد، يعرف صدقه، وقال له طريق النجاة، وطريق الوصول إلى بلدك هو من هذا المكان، فهو يتبعه وهو لم يرى البلد، لكنّه عرف صدق من أرشده، واتبع طريقه، وعرف أنه إذا لم يتبع هذا الطريق، وهذه الخريطة الموصلة، فإنه سيتيه عن الطريق؛ فإنه بذلك سيكون حريصًا على اتباع خريطة الإرشاد التي أعطاها إياه هذا المرشد؛ ثم إذا سار على هذه الطريقة، وعلى هذا الإرشاد حتى أبصر علامات المدينة، وأعلامها، إذا أبصرها كيف يكون نشاطه وحرصه؟ يكون شديد الحرص، وشديد النشاط للوصول، ويذهب عن نفسه كثير من العناء، ويحل محل ما كان يشعر به سابقًا، يحل محله الفرح، والانبساط، وشدة الشوق، ورغبة النفس في الوصول السريع، إلى مطلوبه الذي يريده، وإلى البلد الذي يريده؛ فكذلك طالب العلم، إذا أيقن بعين البصيرة ثمرات طلب العلم، وفضله؛ فإنه لا يتلفت إلى وساوس الشيطان، بل يزداد حرصًا، ونهمًا في طلب العلم، حتى يحصل على مطلوبه بإذن الله عز وجل، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بْنَ نُبَاتَةَ –رحمه الله-:"أَعَاذِلَتِي عَلَى إِتْعَابِ نَفْسِي وَرَعْيِي فِي السُّرَى رَوْضَ السُّهَادِ إِذَا شَامَ الْفَتَى بَرْقَ الْمَعَالِي فَأَهْوَنُ فَائِتٍ طِيبُ الرُّقَادِ". وقد ضربت بذلك مثلًا آخر؛ لو قيل لرجل منّا -أو لو قيل لأحدنا- اذهب إلى ذلك المكان، وذلك المكان قد تكون أرض خالية مثلًا، وامكث فيها، ولك بكل دقيقة تمكث فيها ألف ريال، ماكثًا ما مكثت، إذا نفذ صبرك، وأردت الخروج أبلغني كم دقيقة مكثت، ولك بكل دقيقة ألف ريال، وينتهي هذا العرض، كم ترون أنه يمكث؟ الظن أنه لا يخرج منها إلا لحاجة ماسة، بل ربما حرم نفسه ما يستطيع، المقصود؛ أنه قد يحرم نفسه مما يستطيع حرمانه منه، من أجل أن يزداد طول مكثه، حتى يحصل على أكبر قدر ممكن من الأجر. فهذا مثل دنيوي، وشأن العلم –والله- أعظم من هذا، وثوابه والله أكثر، وكل ساعة، وكل دقيقة يقضيها طالب العلم في التعلم خير له من الدنيا وما فيها؛ ليست ألف ريال، خير من الدنيا وما فيها، وعند الصباح يحمد القوم السُّرَى. ويكفي أن تتأمل الآيات والأحاديث الواردة في فضل طلب العلم، وفضل أهله؛ حتى تتيقن هذه الحقيقة، بل يكفي طالب العلم يقينه بأن الملائكة تدعو لطالب العلم، وتستغفر له في حال طلبه لطلب العلم، وما كلّفهم الله بذلك وهم عباد مكرمون، إلا لشرف العلم وفضله، ومحبة الله تعالى للعلم وأهله؛ فإذا تحقق طالب العلم ذلك، تمنى أن لا تمضي عليه ساعة إلا وهو يطلب العلم.

إذًا ذكرنا أن السبب الجامع للفتور هو؛ ضعف اليقين، وضعف الصبر.
هل هناك أسباب أخرى للفتور؟
نعم هناك أسباب أخرى، لكنها تندرج في هذين السببين الكبيرين، فمثلًا: علل النفس الخفية؛ من العجب، والرياء، والحرص على المال، والشرف؛ هذا مما يورث الفتور في طلب العلم.

والعجب من أسباب حرمان طالب العلم من بركة العلم. وأذكر قصة قد قرأتها في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي، عن عالم من العلماء -لا أريد ذكر اسمه- لكنه غير مشهور، حتى لو ذكرت اسمه فهو غير مشهور، هذا من تلاميد ابن جرير الطبري، كان في زمانه قاضيًا، مفتيًا، مفسرًا، قارئًا، فقيهًا، لغويًا، ومحدثًا أيضًا؛ وكان يريد أن يؤسس لنفسه مذهبًا يتبعه الناس عليه؛ كمذهب الإمام أحمد، والشافعي، ومالك، وكان مستقلًا في اختياراته، ذكر الإمام الذهبي أنه حصّل علمًا كثيرًا، لكن أخمله العجب،؛ كان معجبًا بعلمه، فلم يعد له ذكر، إلا ما ندر، وربما كان ذكره على سبيل العظة والاعتبار.
المقصود أن طالب العلم، وإن حصّل علمًا كثيرًا، ينبغي له أن يحذر من آفة العجب، فإنها ماحقة لبركة العلم، وكذلك الرياء؛ الرياء ناتجٌ عن ضعف اليقين؛ لأن الذي يوقن بمراقبة الله عز وجل له، ويوقن بأن ثواب الله عز وجل خيرٌ وأبقى، ويوقن بأن الناس لا يملكون له نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله، فلأي شئٍ يصرف قلبه إليه؟!
فوجود الرياء في قلب طالب العلم هو من أسباب ضعف اليقين، وكذلك الحرص على المال، والشرف، وكذلك آفات كثيرة؛ هذه الآفات تؤدي به إلى الفتور عن طلب العلم لله عز وجل، وقد ينشط في طلب العلم إذا كان لأجل أن يمدحه الناس ويثنون عليه، ولأجل أن يتكسّب به شيئًا من متاع الدنيا؛ فهذا طلب العلم لغير الله عز وجل، ومن طلب العلم بهذه النية؛ فهو على خطرٍ عظيم، ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة؛ من طلب العلم ليُقال عالم –والعياذ بالله-.

المقصود أن علل النفس الخفية؛ هذه من أسباب الفتور في طلب العلم، وبعضها ناتج عن ضعف اليقين؛ مثل العجب، والرياء، والحرص على المال والشرف؛ وبعضها ناتج عن ضعف الصبر؛ مثل وهن العزيمة، وسرعة التأثر بالأعراض، والعوائق، والعوائد؛ هذه غالبًا تكون ناتجة عن ضعف الصبر، ولها تأثر أيضً بضعف اليقين.
· السبب الرابع: عواقب الذنوب؛ الإنسان قد يقترف بعض الذنوب الخطيرة، التي قد يعُاقب عليها؛ بالحرمان من فضل طلب العلم، والحرمان من بركة العلم؛ كالوقيعة في الأعراض، وخصوصًا أعراض العلماء. ينبغي لطالب العلم -بل يجب على طالب العلم- أن يحتاط لنفسه ويحذر آفات اللسان، وكم من إنسان حُرم العلم، وحُرم بركة العلم بسبب وقيعته في أعراض الناس؛ وخصوصًا الوقيعة في أعراض العلماء، ينبغي لطالب العلم أن يحذر من ذلك أشد الحذر. وكذلك التفاخر على الأقران؛ ينبغي لطالب العلم أن ينأى بنفسه عن ذلك، وأن لا يتفاخر على أقرانه، ولا يستكثر بما يمدح عليه، فإن ذلك يُخشى على صاحبه أن لا يُبارك له في علمه، وقد يقوده ذلك إلى العجب؛ والعجب آفة خطيرة.
· أيضًا من الأسباب التي قد تؤدي إلى الفتور: تحميل النفس ما لا تطيق؛ فإن من حمّل نفسه على ما لا تطيق؛ قد عرّضها للانقطاع عن طلب العلم.
· أيضًا من الأسباب التي قد تؤدي إلى الفتور: العوائد الخاطئة في طرق طلب العلم؛ فيعسّر طالب العلم على نفسه في طريقة طلبه للعلم، فينبغي لطالب العلم أن يسلك في طلبه للعلم طريقة ميسرة غير شاقة عليه، فإذا كان يرى من نفسه أن طريقته في طلب للعلم طريقة عَسِرة، ومشقتها غير محتملة؛ فليعد النظر في طريقته لطلب العلم، وليسأل عالمًا يتوصّل به إلى طريقةٍ، ميسرةٍ، نافعةٍ، وصحيحه في طلب العلم.
· أيضًا من العوائق التي أراها لدى بعض طلّاب العلم: الموازنات الجائرة؛ يوازن نفسه بكبار العلماء، يوازن نفسه بكبار القرّاء، يوازن نفسه بكبار الحفّاظ؛ فإذا يرى أنه لم يطق ما أطاقوه، ولم يتمكن من محاكاتهم ومجارتهم؛ عاد على نفسه باللوم والتعنيف، وربما قاده ذلك إلى الفتور والانقطاع؛ لأنه يرى أن بينه وبينهم مسافات طويلة لا يمكن أن يبلغها، وهذه حيلة من حيل الشيطان، ولو أن طالب العلم صبر على ما كان متيسرًا له ولم ينقطع؛ فإنه يُرجى له بتقدمه في طلب العلم، وتنمية مهارته، أن يصل إلى ما وصل إليه كثير من العلماء.
· أيضًا من أسباب الفتور: الرفقة السيئة؛ وإذا كان الإنسان في مجتمعٍ، أو لديه رفقة سيئة؛ فليحرص على أن يتقي شرهم، وتأثيرهم عليه في الفتور؛ وخصوصًا إذا كان في قلب المرء نوازع إلى الاستمتاع ببعض شهوات الدنيا، فإن تسلط الرفقة السيئة عليه يكون أكثر؛ لأنهم يأتونه من المواضع التي يضعف فيها، فيرغبونه في فضول المباحات، ثم في بعض المكروهات، ثم ربما جرّوه إلى المحرمات، وأقل ما يصيبه منهم أنهم يلهونه عن طلب العلم، ويلهونه بأمورٍ لا تنفعه في دينه ودنياه، فإذا ابتلي بذلك فليحرص على تجنب ذلك ما استطاع، ما لم يكن فيه قطيعة من رحم، وإن كان لهم ما يوجب الحق من الرحم ونحوه، فليقتصر من خلطتهم على قدر ما يتأدى به الواجب، ويجتنب تأثيرهم عليه، كما سبق التنبيه عليه.
· أيضًا من الأسباب: افتتان الإنسان بالدنيا وتطلعه إلى متاعها وزينتها؛ ينبغي لطالب العلم أن يزهد في الدنيا، هذا أمرٌ مهم؛ لأن الافتتان بالدنيا إذا دخل في قلب العبد أفسده، وليأخذ من الدنيا ما يجعله بلاغًا له إلى طاعة الله عز وجل، والتقرب إليه، وليعرف لهذه الدنيا قدرها؛ فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فينبغي أن يعرف حقيقة الدنيا، والزهد في الدنيا من أسباب محبة الله عز وجل للعبد، كما في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ))كلما كان الإنسان أزهد في الدنيا على استقامة وسداد؛ كان أقرب إلى نيل محبة الله عز وجل.
إذًا؛ هذه الأسباب هي غالب الأسباب التي تؤدي إلى الفتور.
· هناك سبب آخر: وهو التذبذب في مناهج طلب العلم؛ يعني طالب العلم يتذبذب؛ مرةً يقرأ في كتاب، ومرةً يقرأ في كتاب آخر، ومرةً يقرأ عند شيخ، ومرة أخرى عند شيخٍ آخر في نفس العلم؛ ولا يكمل عند هذا، ولا عند هذا؛ ولا يتم هذا الكتاب، ولا بيتم هذا الكتاب، وتمضي عليه الأيام والشهور والسنين، وهو لم يحصّل شيئًا، فيفتر عن طلب العلم، وينقطع؛ وهذا قد أوتي من ضعف البصيرة في طريقة طلب العلم؛ ينبغي لطالب العلم إذا صار على خطةٍ صحيحة في طلب العلم، أن يثبت عليها حتى تؤتي أُكلها بإذن الله عز وجل.
نأتي بعد ذلك إلى التنبيه على علاج الفتور:
والكلام في علاج الفتور، هو نتيجة للكلام على أسباب الفتور؛ فأعظم ما يعالج به الفتور تحصيل اليقين وتحصيل الصبر؛ هذا أعظم ما يعالج به الفتور، وهو أصل العلاج، بقيّة العلاجات الأخرى تبعٌ لهذا العلاج، وهي مما يُستعان به على تحصيل الصبر، ومما يُستعان به على تحصيل اليقين، فيقصد طالب العلم إلى الأصل –أصل العلاج-؛ وهو تحصيل الصبر، وتحصيل اليقين. فاليقين هو أساس العلاج، يعني إذا قارنا بين الصبر واليقين، نجد أن اليقين هو الأصل؛ لأن صاحب اليقين يسهل له الصبر أكثر ممن ضعف يقينه.
واليقين أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده. روى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن أبي شيبة، والنسائي، والترمذي، وغيرهم، من طرق؛ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام خطيبًا على المنبر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة فقال: "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامِي هَذَا عَامَ الْأَوَّلِ ثم بَكَى أَبُو بَكْر،ٍ ثم قَالَ: سَلُوا اللَّهَ العَفوَ وًالْعَافِيَةَ فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ، وعَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مَعَ الْبِرِّ وَهُمَا فِي الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ وَهُمَا فِي النَّارِ، وَلَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ عزّ جل" فانظروا قال: "فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ"، فكانت نعمة اليقين أعظم من نعمة العافية، وبيان ذلك أن اليقين يُثمر في قلب الموقن قوة العلم، حتى يكاد يستوي عنده الغيب والشهادة من قوة التصديق؛ التصديق بالثواب، والتصديق بالعقاب، فيكون في قلبه من الرغبة، والرهبة، والخشية، والإنابة ما يجعل ذلك القلب صالحًا بإذن الله تعالى، فتصلح الجوارح كلها، يصلح العمل كله، ومما يبين ذلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين، لاحظوا هذا الأمر في المنافقين: ((أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ))موضع الشاهد: ((وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوهُمَا وَلَوْ
حَبْوًا))، هؤلاء المنافقيون لو كان عندهم يقين بما أعدّ الله عز وجل للمصلين في صلاة العشاء، وصلاة الفجر؛ لأتوهما ولو حبوًا -انظروا- ولو لم يجدوا إلا أن يحبوا حبوًا، مشقة الحبو في المسير من البيت إلى المسجد هذه مشقة كبيرة؛ ولو لم يجدوا إلا أن يحبوا لحبوا؛ هذا لو علموا علمًا يقينًا بالثواب. فالمؤمن لديه يقين بالثواب يدفعه إلى أن يستيقظ من نومه، وأن يقوم، ويدع طيب الفراش، وطيب النوم، ويقوم، ويخرج إلى المسجد في ظلمة الليل، ويصلي؛ ليقينه بثواب الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))المقصود من هذا؛ أن المنافقين لما غاب عنهم اليقين بالثواب، والعقاب؛ هان عليهم ترك السبب؛ ولو كان هذا العلم يقينًافي قلوبهم، لأتوهما ولو حبوًا.
مما يعين على اكتساب اليقين: إقبال القلب على الله تعالى؛ وطلب الهدى منه جل وعلى، وكثرة الذكر والتذكر، ومعاودة التفكر والتدبر، حتى يكون العلم يقيني يقر في قلب صاحبه، فيحيى به، ويبصر به، ويمشي به، ويتكلم به، ويقوم به {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فالعلم المراد هنا هو علم اليقين؛ وهو مستمد من التصديق الذي هو حقيقة الإيمان.
وأما الصبر فينال بالتصبر، وفي الحديث: ((وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ))، وقال الله عز وجل لنبيه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وهذا مما يعين على الصبر؛ اليقين بأن الله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ولايضيع أجر كل حسنة، وإن كانت مثقال ذرة، قال الله عز وجل: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، ولذلك ينبغي لطالب العلم أنه إن وجد في نفسه ضعفًا فليصبر، وليكن على يقين أن الله عز وجل لا يضيع أجر مكثه في طلب العلم، ولا قراءته، ولا كتابته للعلم، ولا تفهمه له، ولو كانت كلمة واحدة؛ فينبغي لطالب العلم أن يستحضر ذلك، فمن يتصبر يصبره الله، وإنما ينال الصبر بالتصبر، ومطالعة الأجر، واليقين به يعين على الصبر.
· أيضًا من الأسباب المعينة على علاج الفتور: هناك سببان مهمان، وهما يندرجان في اليقين، لكن إفرادهما مهم، وهو من جهة له تأثير عظيم في باب التوفيق والخذلان، وهو من وثيق الصلة بباب القضاء والقدر؛ فإن الله عز وجل قد قدر القدر خيره وشره، وجعل لتقدير الخير أسبابًا، ولتقدير الشر أسبابًا. من أعظم أسباب تقدير الخير –وهذه احفظوها-: الفرح بفضل الله؛ من أعظم أسباب تقدير الخير، الفرح بفضل الله، وشكر نعمة الله؛ هاتان الخصلتان إذا كانتا عند طالب العلم، ورسخت في قلبه، وانتهجها في عمله؛ فليبشر بخير عظيم، وبركات كثيرة؛ فإن الله عز وجل يحب من يفرح بفضله -الفرح المحمود- {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، والله عز وجل ينظر إلى قلب العبد إذا آتاه الهدى؛ هل يفرح به أو لا يفرح به؟ هل يرفع به رأسه، أو لا يرفع به رأسه؟ هل يعرف له قدره، أو لا يعرف له قدره؟ فإذا كان طالب العلم يعرف لهدى الله عز وجل قدره، ويفرح به، يرفع به رأسه، ويدعو إليه، ويبينه للناس؛ فإن الله عز وجل يحب منه هذا العمل، وإذا أحبه الله عز وجل منه؛ توالت عليه زيادات هذا العمل، وكذلك إذا كان العبد يشكر الله عز وجل؛ الشكر بالثناء، الشكر بالعمل، الشكر بطلب المزيد؛ فإن الله عز وجل يعطيه، ويزيده، ولا حدود لعطاء الله عز وجل، كل ما يخطر في بالك، لا يمكن أن تحصر به فضل الله عز وجل، يعطيك ما لا يخطر على بالك، إذا أنت تفرح بفضل الله عز وجل، وتشكر نعمة الله، وقد قال الله عز وجل في القرآن العظيم كما في سورة الأنعام: {أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَاۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} تأملوا هذه الآية جيدًا، وتأملوا آثارها في إعطيات الله عز وجل، وآثارها في إنعام الله عز وجل بالهدى على بعض القلوب؛ لأنه يعلم أنها قلوب شاكرة؛ قلوب تشكر لله عز وجل، فيزيدها الله من عطائه، ويحبها الله، ويحب أن يُنعم عليها؛ لأنه يعلم أن إنعامه عليها؛ إنعام على محل قابل، وعلى أرضٍ طيبة تثمر، وتشكر، وتفرح بعطاء الله عز وجل، ويظهر أثر هذا العطاء عليها، ليس كالأرض النكدة، والقلوب الكافرة التي تجحد فضل الله، ولا يُرى له أثر عليها، ولا تُثني به على الله، ولا تعرف له قدره، ولا تعرف له حقًا، قال الله عز وجل: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّنَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}. فهاتان الوصيتان احفظوهما، وأبشروا بخيرٍ عظيم؛ وهو من أعظم ما يعالج به الفتور.
· أيضًا مما يعالج به الفتور: تذكير النفس بفضل العلم وشرفه؛ وقد مضى التنبيه على فضل العلم، ومعاودة طالب العلم لتذكر فضائل طلب العلم، هذا مما يزيده يقينًا، ويزيل عنه حجاب الغفلة، وطول الأمد، وما يحصل له من نسيان بعض فضائل طلب العلم، فإنه بالتذكر يعالج كثيرًا من الآفات بإذن الله عز وجل.
· أيضًا من الأسباب المهمة لعلاج الفتور –وهو سببٌ عظيمٌ أيضًا-: الإعراض عن اللغو؛ الإعراض عن اللغو مهم جدًا لعلاج الفتور، ولا يستقيم لطالب العلم حصول طلب العلم على الوجه الصحيح المرضي، وهو لا يعرض عن اللغو، والإعراض عن اللغو من أعظم أسباب الفلاح، جعله الله عز وجل بعد الصلاة مباشرة في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون} بعد الصلاة مباشرةً {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون} فمن أعظم أسباب الفلاح؛ الإعراض عن اللغو، والجمع بين الصلاة والإعراض عن اللغو؛ هذا فيه تنبيه على أن النفس كالنبات، تحتاج إلى غذاءٍ يقويها، وإلى وقاية تحميها؛ فالصلاة غذاءٌ للروح، والإعراض عن اللغو حماية؛ بل هو أصل الحمايات؛ الإعراض عن اللغو، وكثير من الآفات إنما تتسلط على الإنسان بسبب عدم اعراضه عن اللغو؛ اتباعه لفضول الكلام، لفضول المخالطة، لفضول كذا، لفضول كذا، كثيرٌ من اللغو يجر إلى معاطب، فاجتنابه، وإعراضه عن اللغو من أوله؛ يسهّل له النجاة والسلامة من آفات كثيرة.
· أيضًا مما يعالج به الفتور: معرفة قدر النفس، وعدم تحميلها ما لا تطيق؛ ينبغي لطالب العلم أن يعرف قدر نفسه، قدر ما تطيقه، فيأخذ من الأمور بما يطيق {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}، ويحرص على أن يجتهد فيما يطيق، وفيما ييسره الله عز وجل، فإنه بعد ذلك تنفتح له أبواب العلم بإذن الله عز وجل، ويحصل منها على ما ييسره الله عز وجل له، وإذا كان سائرًا في طريقه طلب العلم على شكر نعمة الله عز وجل؛ فإن الله تعالى يزيده، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
· أيضًا مما يعالج به الفتور: الحذر من علل النفس الخفية؛ التي قد يحرم بسببها من بركة العلم، ومن مواصلة طلب العلم؛ كالعجب، والغرور، والمراءاة، والتسميع، وحب الرياسة، والعلو في الأرض، والمراء، والتعالي، واستكثار العلم، والتفاخر، ونحو ذلك.
· أيضًا مما يعالج به الفتور: تنظيم الوقت؛ وتقسيم الأعمال إلى أقسام، حتى ينجز في كل وقت منها قدرًا ويحصل له بتجزئة الأعمال؛ إتمام أعمال كثيرة بإذن الله عز وجل؛ وشعور المرء بالإنجاز؛ يدفعه إلى المواصلة في طلب العلم، وإلى أيضًا علاج الفتور، لأنه يجد أن لعمله ثمره، وأنه قد حصّل شيئًا من ثمرة العمل، فيدفعه ذلك إلى الاستكثار من العمل، وقد سُئل الشوكاني –رحمه الله- وكان كثير التأليف، كتبه كثيرة جدًا -رحمه الله تعالى- سُئل عن سبب كثرة مؤلفاته، وأنه كيف حصّل الوقت الذي يكتب فيه كل هذه الكتب، فقال: " أنا اكتب كل يوم، لا يمر علي يوم إلا واكتب فيهن ولو شيئًا يسيرًا"، يعني يجعل على نفسه –كما نقول- نظرية المحافظة على الحد الأدنى، كل يوم يكتب ولو شيئًا يسيرًا. الدكتور بشّار عوّاد –المحقق العراقي المعروف- أنا أتعجب صراحة من كثرة تحقيقاته! حقق كتب ومجلدات كثيرة، والتحقيق كما تعلمون عملٌ شاق، قراءة المخطوطات وحده عمل شاق، والموازنة بينها عملٌ شاق، والتوثق من المخطوطات، وكتابة التراجم، وتخريج الأحاديث، وترجمة الرواة، والتهيئة للطباعة؛ هذا عمل شاق، فإذا كان هذا الرجل بورك له في وقته بكثرة تحقيقاته، محقق مجلدات كثيرة، فسأل عن ذلك في لقاء أُجري معه، فقال: " أنا الزم نفسي ألّا يقل إنتاجي اليومي عن ملزمة" -16 صفحة-، هذا الحد الأدني، يواظب عليه "وإذا حصل لي ظرف أو مرض عوضت ما قصرت فيه عن الحد الأدنى"، ومع مواصلة العمل سيجد الإنسان أنه أنجز شيئًا كثيرًا بإذن الله عز وجل.
· مما يعين على علاج الفتور: أن يسلك طالب العلم في طلبه للعلم منهجًا صحيحًا موصلًا إلى غايته بإذن الله؛ وأن يحذر من التذبذب بين المناهج، والكتب، والشيوخ، وأن يسير على خطة منتظمة، فكلما وجد من نفسه جدًا، ونشاطًا؛ سار مرحلة فيها حتى يتمها، وإذا عرض له فتور، فإنه عرف الموضع الذي وصل إليه، فإذا عاوده النشاط، والجد؛ واصل طلبه من حيث انتهى حتى يصِل بإذن الله عز وجل.
· أيضًا مما يعالج به الفتور: اختيار صحبةٌ صالحة؛ هذا مهم جدًا، ومعين على طلب العلم، وكما سبق أن درستم، أن اختيار الرفقة الصالحة، واختيار الزمالة في الدراسة له آداب، وله شروط، وأيضًا له آفات ينبغي أن يحذرها طالب العلم.
· أيضًا مما يعالج به الفتور: الحرص على بذل العلم؛ فإن العلم يزكو بتبلغيه، وتعليمه، وتبليغ العلم، وتعليمه، يدفع طالب العلم إلى الاستكثار من العلم، بالبحث، والسؤال، والتنقيب؛ لأنه يكون عرضةً لسؤال من يتوسّم فيه خيرًا، فيسأله، فقد لا يكون الجواب حاضرًا لديه، فيقول اذهب وابحث في المسألة، وأفيدك بإذن الله، أو اسأل وأفيدك، وما يحصل له من العناية بهذا الأمر، وكثرة الإفادة، والسؤال والتثبت، المهم أن يكون فيما يفيده متثبتًا، يعني لا يتكلم بغير علم، لكنه يفيد بالعلم، وإذا سئل عما ما لا يعلم، لا يعجل بالجواب، بل يسأل؛ يقول: المسألة تحتاج إلى بحث، تحتاج إلى تثبت، لا أحب أن أجيبك بجواب المتعجل، ثم يبحث في المسألة، ويحررها، ويفيده بذلك. مع كثرة هذه الإفادات، سيجد طالب العلم أنه بعض مٌضي فترة من الوقت، قد يكون أجاب على مائة سؤال، مائتين سؤال، ألف سؤال، ألفين سؤال؛ فيجد أن لديه علم كثير بهذا؛ سببه مواصلة الإفادات، والإجابة على أسئلة طلاب العلم، ومن يتوسم فيه خيرًا.
· أيضًا مما يعالج به الفتور: قراءة سير العلماء السابقين؛ فإنها تشحذ الهمة، وتجدد العزيمة، ولها آثار على النفس لا تخفى، فينبغي لطالب العلم أن يعتني بها.
· أيضًا مما يعالج به الفتور: الحرص على أسباب التوفيق؛ وهذا سببٌ خفي، من الأسباب التي يبارك لطالب العلم فيها، الحرص على أسباب التوفيق؛ من البر بالوالدين، وصلة الأرحام، والعطف على الضعفاء والمساكين، وصدقة السر، وكثرة الاستغفار، ودوام الالتجاء إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة؛ كل ذلك من أسباب التوفيق، فليحرص طالب العلم أن يكون على نصيبًا وافر من أسباب التوفيق، وليختم ذلك بدوام التضرع إلى الله عز وجل أن يسره بحسن طلب العلم، وحسن العمل به، وحسن تعليمه.
اسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من أهل العلم والإيمان، وأن يصرف عنّا كيد الشيطان، وأن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يدخلنا في رحمة منه وفضل، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيمًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجميعن.


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 12:27 AM
تهاني عايض تهاني عايض غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
المشاركات: 322
افتراضي

تم الاستماع للمحاضرة


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12 شعبان 1436هـ/30-05-2015م, 05:56 PM
أسماء المطيري أسماء المطيري غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Feb 2015
المشاركات: 245
افتراضي

http://www.afaqattaiseer.net/vb/show...384#post206384

تم أداء المطلوب .

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 9 رجب 1437هـ/16-04-2016م, 11:16 PM
رمضان إمام رمضان محمد علي رمضان إمام رمضان محمد علي غير متواجد حالياً
طالب علم
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
الدولة: مصر - القاهرة
المشاركات: 320
افتراضي

الحمد لله تم الاستماع للمحاضرة - وقراءة تفريغها - زرق الله شيخنا الجليل وكل من شارك في هذا الجهد الكبير المفيد الجنة بسلام امين

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 11 رجب 1437هـ/18-04-2016م, 09:49 PM
لطيفة الحوشاني لطيفة الحوشاني غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Feb 2016
المشاركات: 63
افتراضي

1- ان في طلب من افضل الاعمال واحبها الي الله.
2-ان الدين يقوم الاعلى اساس العلم والايمان.
3-الفتور على نوعين
النوع الاول من الفتور هو تقتضيه طبيعه جسد الانسان.
النوع الثاني من الفتور هو الفتور الذي يلام عليه العبد.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الفتور, علاج


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:23 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir