دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > الأدب > بانت سعاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15 محرم 1430هـ/11-01-2009م, 01:35 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي شرح جمال الدين محمد بن هشام الأنصاري

مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
وبه ثِقَتِي.. أَمَّا بعدَ حَمْدِ اللهِ الْمُنْعِمِ بإلهامِ الْحَمْدِ لعَبيدِه، حَمْدًا مُوافِيًا لِنِعَمِه، ومُكَافِئًا لِمَزِيدِه، والصلاةُ والسلامُ على الْمَبعوثِ رَحمةً للعالمينَ، وقُدوةً للعَامِلِينَ، مُحَمَّدٍ النبيِّ الأُمِّيِّ، والرسولِ العربيِّ، حَبيبِ الرحمنِ وخَليلِه، ورسولِه الْمُؤْتَمَنِ على تَبليغِ رِسالاتِه وأَداءِ تَنزيلِه، الداعي بالْحِكمةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ إلى سَبيلِه، وعلى آلِه وأَصحابِه مَصابِيحِ الظُّلَمِ، ويَنابِيعِ الْحِكَمِ، وشَآبِيبِ الكَرَمِ، فإني مُورِدٌ في هذا الكتابِ قَصيدةَ كَعبِ بنِ زُهَيْرٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه التي مَدَحَ بها سَيِّدَنَا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وأَنْشَدَها بِحَضْرَتِه الشريفةِ، وبِحَضْرَةِ أصحابِه الْمُهاجِرِينَ والأنصارِ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم أَجْمَعِينَ ومُرْدِفٌ كلَّ بيتٍ منها بشَرْحِ ما يُشْكِلُ مِن لُغتِه وإعرابِه ومَعناه، ومُعْطٍ للقولِ في ذلك كُلِّه حَقَّه إن شاءَ اللهُ تعالى.
والذي دَعانِي إلى هذا التأليفِ غَرضانِ سَنِيَّانِ:
أحدُهما: التَّعَرُّضُ لبَرَكاتِ مَن قِيلَتْ فيه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
والثاني: إسعافُ طالِبِي عِلْمِ العربيَّةِ بفَوائدَ جَليلةٍ أُورِدُها، وقواعدَ عَديدةٍ أَسْرُدُها، وباللهِ تعالى الْمُستعانُ، وعليه التُّكْلَانُ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ.
ولْنُقَدِّمْ بينَ يَدَيْ ذلك الكلامَ في فَصْلَيْنِ:
أحدُهما : ذِكْرُ شيءٍ مِن أخبارِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه، وسَببِ قولِه هذه القصيدةَ، فنقولُ:
هو كَعبُ بنُ زُهيرِ بنِ أبي سُلْمَى -بضَمِّ السينِ- واسمُ أبي سُلْمَى: ربيعةُ بنُ رِياحٍ- بكَسْرِ الراءِ- بعدَها ياءٌ آخِرَ الحروفِ، أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ، كان مِن فُحولِ الشُّعراءِ هو وأبوه، وكان عمرُ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه لا يُقَدِّمُ على أبيه أَحَدًا، ويقولُ: أشعَرُ الناسِ الذي يَقولُ: ومَن ومَن ومَن ، يُشيرُ في مُعَلَّقَتِه الْمَشهورةِ: ( البحْر الطويل )
ومَن هابَ أسبابَ الْمَنايا يَنَلْنَهُ = ولو رامَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ
ومَن يَكُ ذا مالٍ فيَبْخَلْ بِمَالِهِ = على قومِه يُسْتَغْنَ عنه ويُذْمَمِ
ومَن لا يَزَلْ يَسْتَحْمِلُ الناسَ نَفْسَه = ولا يُغْنِها يومًا مِن الدهْرِ يَنْدَمِ
ومَن يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُوًّا صَدِيقَهُ = ومَن لا يُكْرِمْ نفسَه لا يُكْرَمِ
ومَن لا يَذُدْ عن حَوْضِه بسِلاحِهِ = يُهَدَّمْ ومَن لا يَظْلِمِ الناسَ يُظْلَمِ

ومَن لا يُصَانِعْ في أُمورٍ كَثيرةٍ = يُضَرَّسْ بأنيابٍ ويُوْطَأْ بِمَنْسِمِ


الْمَنْسِمُ: بفَتْحِ الميمِ وكسْرِ السينِ: طَرَفُ خُفِّ البَعيرِ.
ومِمَّا يُسْتَحْسَنُ مِن شِعْرِ كعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قولُه.
( البحْر البسيط ) :
لو كنتُ أَعْجَبُ من شيءٍ لأَعْجَبُ مِن = سَعْيِ الْفَتَى وهو مَخبوءٌ له الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لأمورٍ ليس يُدْرِكُها = والنفسُ واحدةٌ والْهَمُّ مُنْتَشِرُ
والمرءُ ما عاشَ مَمْدُودٌ له أَمَلٌ = لا تَنتَهِي العينُ حتى يَنْتَهِي الأَثَرُ

وقولُه: ( البحر السريع )
إن كنتَ لا تَرْهَبُ ذَمِّي لِمَا = تَعْرِفُ مِن صَفْحِي عن الْجَاهِلِ
فاخْشَ سُكُوتِي إذ أنا مُنْصِتُ = فيك لَمَسموعٌ خَنَا القائلِ
فالسامِعُ الذمَّ شَريكٌ لهُ = ومُطْعِمُ المأكولِ كالآكِلِ
مَقَالَةُ السَّوءِ إلى أَهْلِها = أَسْرَعُ مِن مُنْحَدَرٍ سائلِ
ومَن دعا الناسَ إلى ذَمِّهِ = ذَمُّوهُ بالْحَقِّ وبالباطِلِ

ووَلَدَ كعبٌ عُقبةَ بنَ كَعْبٍ، وكان أيضًا شاعرًا مُجِيدًا، ووَلَدَ عُقبةُ بنُ كَعْبٍ العَوَّامَ بنَ عُقبةَ بنِ كَعبٍ، وكان أيضًا شاعرًا مُجِيدًا، وهو الذي يقولُ: ( البحر الطويل )
ألا ليتَ شِعْرِي هل تَغَيَّرَ بَعْدَنا = مَلاحَةُ يُمْنَى أمِّ عَمْرٍو وجِيدُها
وهل بَلِيَتْ أَخْلَاقُها بعدَ جِدَّةٍ = ألا حَبَّذَا أخلاقُها وجَدِيدُهَا

وكان مِن خَبَرِ قولِ كَعْبٍ هذه القَصيدةَ فيما روى مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ، وعبدُ الْمَلِكِ بنُ هِشامٍ وأبو بكرٍ مُحَمَّدُ بنُ القاسِمِ بنِ بَشَّارٍ الأنباريُّ، وأبو الْبَرَكَاتِ عبدُ الرحمنِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أبي سعيدٍ الأنباريُّ، دَخَلَ حَديثُ بعضِهم في حَديثِ بعضٍ أنَّ كَعْبًا وبُجَيْرًا ابْنَيْ زُهَيْرٍ خَرَجَا إلى أَبْرَقِ العَزَّافِ، فقالَ بُجَيْرٌ لكَعْبٍ: اثْبُتْ في الغَنَمِ حَتَّى آتِيَ هذا الرَّجُلَ ـ يعني النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ فأَسْمَعَ كَلامَه، وأَعْرِفَ ما عِنْدَه، فأقامَ كَعْبٌ، ومَضَى بُجَيْرٌ، فأتى رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسَمِعَ كَلامَه، فآمَنَ به، وذلك أنَّ زُهَيْرًا فيما زَعَمُوا كان يُجالِسُ أهلَ الكتابِ، فيَسمَعُ منهم أنه قد آنَ مَبْعَثُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأى زُهَيْرٌ في مَنامِه أنه مُدَّ سببٌ مِن السماءِ، وأنه مَدَّ يَدَهُ ليَتَنَاوَلَه، ففَاتَه، فأَوَّلَه بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يُبْعَثُ في آخِرِ الزمانِ، وأنه لا يُدْرِكُه، وأَخْبَرَ بَنِيهِ بذلك، وأَوْصَاهُمْ إنْ أَدْرَكُوا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُسْلِموا، ولَمَّا اتَّصَلَ خبرُ إسلامِ بُجَيْرٍ بأخيه كَعْبٍ، أَغْضَبَه ذلك، فقالَ: ( البحر الطويل ).
ألا أَبْلِغَا عني بُجَيْرًا رَسَالَةً = فهل لك فيما قُلتَ وَيْحَكَ هل لَكَا
سَقاكَ بها المأمونُ كأسًا رَوِيَّةً = فأَنْهَلَكَ المأمونُ منها وَعَلَّكَا
ففارَقْتَ أسبابَ الْهُدَى واتَّبَعْتَهُ = على أيِّ شيءٍ وَيْبَ غيرِك دَلَّكَا
على خُلُقٍ لم تُلْفِ أُمًّا ولا أَبًا = عليه ولم تَعْرِفْ عليه أَخًا لَكَا
فإنْ أَنْتَ لم تَفْعَلْ فلَسْتُ بآسِفٍ = ولا قائلٍ إمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا

وأَرْسَلَ بها إلى بُجَيْرٍ، فلَمَّا وَقَفَ عليها، أَخْبَرَ بها النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلَمَّا سَمِعَ عليه الصلاةُ والسلامُ قولَه: " سَقاكَ بها المأمونُ "، قالَ: " مأمونٌ واللهِ " وذلك أنهم كانوا يُسَمُّونَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المأمونَ، ولَمَّا سَمِعَ قولَه: " عَلَى خُلُقٍ ـ ويُرْوَى: على مَذْهَبٍ ـ لم تُلْفِ أُمًّا ولا أَبًا البيتَ، قال : " أَجَلْ لم يُلْفِ عليه أَباهُ ولا أُمَّهُ ".
ثم إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : " مَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ " وذلك عندَ انصرافِه عليه الصلاةُ والسلامُ عن الطائفِ، فكَتَبَ إليه أَخُوهُ بُجَيْرٌ هذه الأبياتَ: ( البحر الطويل ).

مَن مُبْلِغٌ كَعْبًا فهل لك في التي = تَلومُ عليها باطلًا وهي أَحْزَمُ
إلى اللهِ لا الْعُزَّى ولا اللاتِ وَحْدَهُ = فتَنْجُو إذا كان النَّجَاءُ وتَسْلَمُ
لَدَى يومِ لا يَنْجُو وليس بِمُفْلِتٍ = من الناسِ إلا طاهرُ القلبِ مُسْلِمُ
فدِينُ زُهَيْرٍ وهو لا شيءَ دِينُهُ = ودِينُ أبي سُلْمَى علَيَّ مُحَرَّمُ

وكَتَبَ بعدَ هذه الأبياتِ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أَهْدَرَ دَمَك، وأنه قَتَلَ رجالًا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كان يَهْجُوهُ، ويُؤْذِيهِ، وأنَّ مَن بَقِيَ مِن شُعراءَ كابنِ الزَّبَعْرَى، وهُبَيْرَةَ بنِ أبي وَهْبٍ قد هَرَبُوا في كلِّ وَجْهٍ، وما أَحْسَبُك ناجيًا، فإنْ كان لك في نفسِك حاجةٌ، فَطِرْ إليه، فإنه يَقْبَلُ مَن أَتاهُ تَائبًا، ولا يُطَالِبُه بما تَقَدَّمَ الإسلامَ.
فلَمَّا بَلَغَ كَعْبًا الكتابُ، ضاقَتْ عليه الأرضُ، وأَتَى إلى مُزَيْنَةَ لتُجِيرَهُ من النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَتْ ذلك عليه، فحينئذٍ ضَاقَتْ عليه الأرضُ، وأَشْفَقَ على نفسِه، وأَرْجَفَ به مَن كان مِن عَدُوِّه، فقالَ: هو مقتولٌ، فقالَ هذه القَصيدةَ يَمْدَحُ بها النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويَذْكُرُ خَوْفَه، وإرجافَ الوُشاةِ به مِن عَدُوُّهِ.
ثم خَرَجَ حتى قَدِمَ المدينةَ، فنَزَلَ على رَجُلٍ مِن جُهَيْنَةَ كانت بينَه وبينَه مَعْرِفَةٌ، فأتى به إلى الْمَسْجِدِ، ثم أشارَ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قالَ: هذا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُمْ إليه، فاسْتَأْمِنْهُ، وعَرَفَ كعبٌ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصفَةِ التي وَصَفَهُ له الناسُ، وكان مَجْلِسُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن أصحابِه مِثلَ مَوْضِعِ الْمَائدةِ مِن القومِ، يَتَحَلَّقُون حولَه حَلْقَةً ثم حَلْقَةً، فيُقْبِلُ على هؤلاءِ فيُحَدِّثُهم، ثم يُقْبِلُ على هؤلاءِ فيُحَدِّثُهُم، فقامَ إليه حتى جَلَسَ بينَ يَدَيْهِ، فوَضَعَ يَدَهُ في يَدِه، ثم قالَ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ كَعْبَ بنَ زُهيرٍ قد جَاءَكَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْكَ تائبًا مُسْلِمًا، فهل أنتَ قابِلٌ منه إن أنا جِئْتُكَ به؟ قالَ: نعمْ. قالَ: أنا يا رسولَ اللهِ كعبُ بنُ زُهَيْرٍ. فقالَ: الذي يقولُ ما يَقولُ، ثم أَقْبَلَ على أبي بَكْرٍ، فاسْتَنْشَدَه الشعرَ، فأَنْشَدَه أبو بكرٍ: سَقاكَ بها الْمَأمونُ كأسًا رَوِيَّةً فقالَ كَعْبٌ: لم أَقُلْ هكذا، وإنما قُلْتُ:
سقاكَ أبو بكرٍ بكَأْسٍ رَوِيَّةٍ
وأَنْهَلَكَ المأمونُ ....................
فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَأْمُونٌ وَاللهِ ".
ووَثَبَ عليه رَجُلٌ مِن الأنصارِ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، دَعْنِي وعَدُوَّ اللهِ أَضْرِبْ عُنَقَهُ، فقالَ: " دَعْهُ عَنْكَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا " فغَضِبَ كَعْبٌ على هذا الحيِّ من الأنصارِ لِمَا صَنَعَ به صاحبُهم، قالَ ابنُ إسحاقَ: فلذلك يقولُ: " إِذَا غَرَّدُ السُّودُ التَّنَابِيلُ " يُعَرِّضُ بِهِمْ.
وفي روايةِ أبي بكرِ بنِ الأنباريِّ: أنه لَمَّا وَصَلَ إلى قولِه:
إنَّ الرسولَ لسَيْفٌ يُستضاءُ بهِ = مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللهِ مَسلولُ

رَمَى عليه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدَةً كانت عليه، وأنَّ مُعاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه بَذَلَ له فيها عَشرةَ آلافِ دِرْهَمٍ، فقالَ: ما كنتُ لِأُوثِرَ بثَوْبِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدًا، فلَمَّا ماتَ كَعْبٌ، بَعَثَ مُعاوِيَةُ إلى وَرَثَتِه بعشرينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فأَخَذَها منهم. قالَ: وهي الْبُردَةُ التي عندَ السلاطينِ إلى اليومِ.
قالَ عبدُ الْمَلِكِ بنُ هِشامٍ: ويُقالُ: إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ له بعدَ ذلك: " أَوَلَا ذَكَرْتَ الْأَنْصَارَ بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ أهلٌ لذلك " فقالَ: ( البحر الكامل )
مَن سَرَّهُ شَرَفُ الحياةِ فلا يَزَلْ = في مِقْنَبٍ مِن صالِحِي الأنصارِ
وَرِثُوا الْمَكارِمَ كابرًا عن كَابِرٍ = إنَّ الْخِيارَ هُمُو بنو الأخيارِ
الْمُكْرِمِينَ السَّمْهَرِيَّ بأَدْرُعٍ = كسوالِفِ الْهِنْدِيِّ غيرِ قِصَارِ
والناظِرِينَ بأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ = كالجَمْرِ غيرِ كَليلةِ الإبصارِ
والبائعينَ نفوسَهم لنَبِيِّهِمْ = للموتِ يومَ تَعَانُقٍ وكِرارِ
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَه نُسُكًا لَهُمْ = بدِماءِ مَن عَلِقُوا مِن الْكُفَّارِ
وإذا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إليهمُ = أصْبَحْتَ عندَ مَعاقِلِ الأَعْفَارِ
لو تَعْلَمُ الأقوامُ عِلْمِي كُلَّهُ = فيهم لصَدَّقَنِي الذين أُمَارِي

في أبياتٍ أُخْرَى اخْتَصَرْتُها.
شرْحُ الشعْرِ الواقعِ في هذا الْخَبَرِ:
قولُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه: " أَلَا أَبْلِغَا ": يَحْتَمِلُ أن يكونَ بالنونِ لَفْظًا على أنها نونُ التوكيدِ الخفيفةُ، وبالألِفِ خَطًّا لأَجْلِ الوَقْفِ، ويَحْتَمِلُ أنه بالألِفِ لَفْظًا وخَطًّا، إمَّا على أنه خِطابٌ للاثنينِ، أو للواحدِ، وكثيرًا ما يُخاطَبُ الواحدُ بما يُخاطَبُ به الاثنانِ.
وقولُه: " فهلْ لكَ " يَحْتَمِلُ كونَ الفاءِ زائدةً عندَ مَن جَوَّزَ زِيادتَها، فتَكونُ الْجُملةُ بعدَها مُفَسِّرَةً للرسالةِ، فلا مَوْضِعَ لها على قولِ الجمهورِ: إنَّ الْمُفَسِّرَةَ لا مَوْضِعَ لها، أو مَوْضِعُها نَصْبٌ على قولِ الشَّلَوْبِينِ: إنَّ الجملةَ الْمُفَسِّرَةَ بِحَسْبِ الْمُفَسَّرِ، ويَحْتَمِلُ كونُها عاطِفةً " أَبْلِغَا " والمعطوفُ مَحذوفٌ، أي: فقُولاَ له: هل لك، وكثيرًا ما يُحْذَفُ القولُ، ويَبْقَى الْمَقولُ، حتى قالَ الفارسيُّ: حَذْفُ القولِ من حديثِ البحرِ قُلْ ولا حَرَجَ والأصلُ: هل لك رأيٌ أو إرادةٌ، أي: هل قُلْتَ ذلك عن قَصْدٍ واعتقادٍ، أو قُلتَه لأَمْرٍ ما؟ والمرفوعُ المحذوفُ خَبَرُه في الظرْفِ، لا فاعلٌ بالظرْفِ لاعتمادِه كما في نحوِ: { أَفِي اللهِ شَكٌّ }؛ لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ، ويأتي هذا البَحْثُ في قولِه تعالى: { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } أي: هل لك مَيْلٌ أو انقيادٌ، وتَعَلُّقُ الجارِّ وهو " في "، " وإلى " في البيتِ والآيةِ بذلك المحذوفِ.
وقولُه: " وَيْحَكَ " وَيْحَ: كلمةٌ تُقالُ لِمَن وَقَعَ في هَلَكَةٍ لا يَسْتَحِقُّها، فيُتَرَحَّمُ عليه، ويُرْثَى له لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: " وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" وويلٌ: كلمةٌ تُقالُ لِمَن يَستَحِقُّ الْهَلَكَةَ كقولِه تعالى: { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ } وعن عليٍّ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه: " الْوَيْحُ بابُ رحمةٍ والويلُ بابُ عذابٍ" وهل لك الثانيةُ تَوكيدٌ وتَكميلٌ وتَحصيلٌ للقافِيَةِ.
وقولُه: " سَقَاكَ بها " يَحْتَمِلُ ضَميرُه المجرورُ خَمسةَ أَوجُهٍ:
أَحَدُها: أن يَعودَ إلى الْمَقالَةِ المفهومةِ مِن " قلتُ " كما عادَ الضميرُ من " قد سَأَلَها " المؤنَّثُ إلى المسألةِ المفهومةِ من قولِه تعالى : { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } ومِن " سئلت " في قولِ الشاعرِ: ( البحر الكامل ).
وإذا سُئِلْتَ الخيرَ فاعْلَمْ أنها = حُسْنَى تُخَصُّ بها مِن الرحمنِ
ولو كان الضميرُ في الآيةِ عائدًا على " أشياءَ " لعُدِّيَ إليه بـ" عن " لا بنَفْسِه، ولكنه مفعولٌ مُطْلَقٌ لا مفعولٌ به.
الثاني: أن يعودَ على الْمَقالَةِ الْمَفهومةِ مِن " قلتُ " على أنْ تُقَدَّرَ ما مَصدرِيَّةً. الثالثُ: أن يعودَ على نفسِ " ما" على أن يكونَ مَوصولًا اسْمِيًّا حُذِفَ عائدُه، أي: في التي قُلْتُها.
والرابعُ: أن يعودَ على الكلمةِ التي قالَها التي دَلَّ عليها قَرينةُ الحالِ، أَعْنِي: كَلمةَ الشَّهادةِ.
وعلى هذه الأَوْجُهِ فتَحْتَمِلُ الباءُ وَجهينِ:
أحدُهما: الزيادةُ، أي: سَقَاكَهَا، فيكونُ قولُه: " كأسًا" إمَّا حالًا مُوَطِّئَةً، كما تقولُ: لَقِيتُ زيدًا رَجُلًا صالِحًا، وإمَّا بَدَلًا من الضميرِ على الْمَوْضِعِ، كما تقولُ: ما رأيتُ من أَحَدٍ مُنْصِفًا.
الثاني: أن يكونَ بمعنى " مِن " التبعيضيَّةِ، وهو قولُ الكُوفِيِّينَ والأَصْمَعِيِّ والفارسيِّ، وبه قالَ الشافعيُّ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه في قولِه تعالى: { فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ } ويُرَجِّحُه قولُه: " فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا"، وعلى هذا فكأسًا مفعولٌ به.
والوجهُ الخامسُ: أن يعودَ إلى الكأسِ، فيَحْتَمِلُ إعرابُه وَجهينِ:
أحدُهما: أن يكونَ بَدَلًا من الضميرِ على الْمَوْضِعِ، كما تقولُ: مَرَرْتُ به زيدًا، وعودُ الضميرِ على الظاهِرِ الْمُبْدَلِ منه جائزٌ بإجماعٍ، هكذا نَقَلَ ابنُ مالِكٍ عن ابنِ كَيْسَانَ، ومِن شَواهدِه قولُه: اللهمَّ صَلِّ عليه الرؤوفِ الرحيمِ.
والثاني: أن يكونَ تَمييزًا، وعَوْدُ الضميرِ على تَمييزِه مُتَّفَقٌ عليه في بابَيْ " رُبَّ " و " نِعْمَ " كقولِه تعالى: " { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } وقولِ الشاعرِ:

" وَرُبَّه عَطَبًا أَنْقَذَتْ مَن عَطَبَهْ"

ولم يَخُصَّهُ الزمخشريُّ بذلك، بل قالَ به في قولِه تعالى: { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ }.
وقولُه: " المأمونُ " المرادُ به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت قريشٌ تُسَمِّيهِ المأمونَ والأمينَ فهو كما قيلَ: ( البحر الكامل ).
ومَلِيحَةٍ شَهِدَتْ لها ضَرَّاتُها = والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأَعداءُ
والكأسُ: القَدَحُ إذا كان فيه شرابٌ، وهي مُؤَنَّثَةٌ، ولهذا أَنَّثَ صِفتَه، ومِثلُهُ قولُه تعالى: { بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ }.
وقولُه: " رَوِيَّةٍ " وهي فَعيلةٌ بمعنى مَفعولةٍ, أي: مَرْوِيَّةٍ، والنَّهَلُ، بالتحريكِ: الشُّرْبُ الأَوَّلُ، والْعَلَلُ: الشُّرْبُ الثاني.
ووَيْبٌ مثلُ وَيْلٍ في المعنى ـ وقد مَضَى ـ وفي الْحُكْمِ، وهي إن أُضِيفَتْ نُصِبَتْ، وقد تُرْفَعُ، وإن نُوِّنَتْ رُفِعَتْ وقد تُنْصَبُ.
وقولُه: " على خُلُقٍ " مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه مُتَعَلِّقُ قولِه: " على أيِّ شيءٍ " وهو قولُه : " دلك ".
وقولُه: " لم تُلْفِ أُمًّا " أُمُّهما: كَبشةُ بنتُ عَمَّارٍ مِن بني سُحَيْمٍ.
وقولُه: " لَعًا " كلمةٌ تُقالُ للعَاثِرِ دُعاءً له بالإقالةِ مِن عَثْرَتِه، فإذا دُعِيَ عليه، قيلَ: لا لعًا، قالَ الشاعِرُ:
فلا لَعًا لبَنِي ذُبيانَ إذ عَثَرُوا
وقولُ بُجَيْرٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه: " مَن مُبْلِغٌ " فيه خَرْمٌ بالراءِ الْمُهْمَلَةِ ـ وأَصْلُه: فمَن مُبْلِغٌ.
وقولُه: " النَّجَاءُ " يقالُ: نَجَوْتُ مِن كذا نَجاةً، بالقَصْرِ والتأنيثِ، ونَجاءً بالْمَدِّ والتذكيرِ.
وفي البيتِ الثاني تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديرُه: إلى اللهِ لا إلى الْعُزَّى ولا اللاتِ.
وقولُه في البيتِ الثالثِ: " طاهِرُ القلبِ " صفةٌ مُشَبَّهَةٌ مُجارِيَةٌ للمُضارِعِ وهي مَطلوبةٌ في الْمَعْنَى لـ يَنْجُو فاعلًا ولـ ليس اسْمًا، ولم يَتنازَعَاهَا، بل المسألةُ مِن الْحَذْفِ ومِثلِه: " ما قامَ وقَعَدَ إلا زيدٌ " لأنه لو كان مِن التنازُعِ لأُضْمِرَ في أحدِهما ضميرُ الْمُتنازَعِ فيه، فيَفْسُدُ المعنى لاقتضائِه حينئذٍ نفيَ الفعلِ عنه، وإنما هو مَنْفِيٌّ عن غيرِه، مُثْبَتٌ له.
وقولُه في البيتِ الأخيرِ: " فَدِينُ زُهَيْرٍ " مُبتدأٌ مُضافٌ إليه، وقولُه: " ودِينُ أبي سُلْمَى " معطوفٌ عليه وقولُه: عَلَيَّ مُحَرَّمٌ " خَبَرٌ، وما بينَهما اعتراضٌ، وهو اعتراضٌ حَسَنٌ بَديعٌ، ويَحْتَمِلُ إفرادُه الخبرَ مع تَعَدُّدِ الْمُخْبَرِ عنه وَجهينِ:
أحدُهما: أن يكونَ الأصلُ: فاتِّباعُ دِينِ زُهيرٍ ودِينِ أبي سُلْمَى، ثم حَذَفَ الْمُضافَ، ونظيرُه الحديثُ: " إنَّ هذينِ حَرَامٌ على ذُكورِ أُمَّتِي " أي: أنَّ استعمالَ هذين، أي: الذهَبِ والحريرِ.
والثاني: أنَّ دِينَ زهيرٍ ، ودِينَ أبي سُلْمَى واحدٌ، وإنما أُعيدَ الْمُضافُ تَوكيدًا كقولِ الشاعِرِ وهو قيسُ بنُ عاصمٍ: ( البحر الطويل)
أَيَا ابنةَ عبدِ اللهِ وابنةَ مالِكٍ = ويا ابنةَ ذي الْبُرْدَيْنِ والفَرَسِ الوِرْدِ
إذا ما وَضَعْتِ الزادَ فالْتَمِسِي له = أَكيلًا فإني لستُ آكِلَه وَحْدِي
قَصِيًّا كريمًا أو قَريبًا فإنني = أَخافُ مَذَمَّاتِ الأحاديثِ مِن بَعْدِي
وكيف يُسِيغُ المرءُ زادًا وجَارُهُ = خفيفُ الْمِعَا بادِيَ الْخَصَاصَةِ والْجَهْدِ
ولَلموتُ خَيرٌ مِن زِيارةِ باخِلٍ = يُلاحِظُ أطرافَ الْأَكيلِ على عَمْدِ
وإني لعَبدُ الضيفِ ما دامَ نَازِلًا = ومالِي خِلالٌ غيرُها شِيمةُ الْعَبْدِ

الشاهِدُ في البيتِ الأَوَّلِ، وأشارَ باشتراطِ الكَرَمِ في البعيدِ دونَ القريبِ إلى أنَّ ذوي القَرابةِ كُلَّهم كِرامٌ وفي قولِه: " مالي خِلالٌ ... البيتَ احتراسٌ " كقولِه تعالى: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }.
ويُرْوَى: فدِينُ زُهيرٍ وهو لا شيءَ غيرُه.
قالَ أبو بكرِ بنُ الأنباريِّ: قالَ عِكرمةُ: معناه: فدِينُ زُهيرٍ غيرُه، أي غيرُ الحقِّ، وهو لا شيءَ انتهى، وعلى هذا قولُه: " مُحَرَّمٌ " خَبَرٌ عن شيءٍ واحدٍ في اللفظِ والتقديرِ وهو دِينُ أبي سُلْمَى فلا إشكالَ.
الفصلُ الثاني

في بيانِ بَحْرِ هذه القصيدةِ وعَرُوضِها وضَرْبِها وقافِيَتِها وما اشْتَمَلَتْ عليه مِن المعاني إجمالًا.
فنقولُ: هي مِن بحرِ البسيطِ، وهو ثمانيةُ أَجزاءٍ كالطويلِ، إلا أنَّ سُبَاعِيَّه مُقَدَّمٌ على خُمَاسِيَّه فإنه مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ أربعَ مَرَّاتٍ، والطويلُ: فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ أربعَ مَرَّاتٍ، وعَروضُها مَخْبُونَةٌ، أي: مَحذوفةُ الأَلِفِ، فتَصيرُ: فَعِلُنْ بتحريكِ العينِ كما كانت قبلَ حَذْفِ الألِفِ وهي العَروضُ الأُولَى مِن أَعارِيضِ البسيطِ الثلاثةِ وبَيْتُها مِن ( البحر البسيط )
يا حَارُ لا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بدَاهيةٍ = لم يَلْقَها سُوقةٌ قَبْلِي ولا مَلَكُ
وضَرْبُها مَقطوعٌ، أي: محذوفٌ مِن وَتَدِه المجموعِ حرْفٌ متَحَرِّكٌ أو زِنَةُ حَرْفٍ مُتَحَرِّكٍ، فيَبْقَى على فالِنْ فيُنْقَلُ إلى فَعْلِنْ بسكونِ العينِ، وهذا الضَّرْبُ الثاني مِن أَضْرُبِ البسيطِ الستَّةِ ومِن ضَرْبِ العَروضِ الْمَخبونةِ والرِّدْفُ لازمٌ لهذا الضَّرْبِ، وبيتُه: والقائلُ أبو دُؤَادٍ الإياديُّ والبحر البسيط:
قد أَشْهَدُ الغَارةَ الشعواءَ تَحْمِلُنِي = جَرْدَاءُ مَعروفةُ اللَّحْيَيْنِ سُرْحُوبُ

ولْنُقَطِّعِ البيتَ الأوَّلَ ليُقاسَ عليه نَظائِرُهُ:
بانَتْ سُعَا: مُسْتَفْعِلُنْ، دُ فَقَلْ: فَعِلُنْ، دَخَلَه الْخَبْنُ بحَذْفِ ألِفِ فَاعِلُنْ، وهو زِحافٌ جائزٌ في حَشْوِ هذا البحرِ، بِلْيَوْمَ مَتْ: مُسْتَفْعِلُنْ، بُولُو: فَعْلُنْ محذوفٌ، مُتَيَّمُنْ: مُتَفْعِلُنْ، إِثْرَهَا: فاعِلُنْ، لم يَفْدِ مَكْ: مُسْتَفْعِلُنْ: بُولُو: فَعْلُنْ، محذوفٌ مَقطوعٌ مُرْدَفٌ فإن قلتَ: الحذْفُ في الضَّرْبِ واقعٌ على ما ذَكَرْتَ، فما بالُ العَروضِ جاءتْ مَحذوفةً أيضًا، وإنما ذَكَرْتَ أنها مَخبونةً؟ قلتُ: تَصريعُ البيتِ أَوْجَبَ ذلك، ومعنى التصريعِ: أن تَجْعَلَ العَروضَ الْمُخالِفَةَ للضَّرْبِ كالضَّرْبِ في الوَزْنِ والإعلالِ، مع تَحْلِيَتِها بحَرْفِ الرَّوِي.
وقافيةُ هذه القَصيدةِ مِن الْمُتَوَاتِرِ، وهو الذي يَقعُ بينَ ساكِنَيْهِ حَرْفٌ واحدٌ مُتَحَرِّكٌ، شاهِدُه ـ قالَ ابنُ الدُّمَيْنَةِ: ( البحر الطويل )
ألا يا صَبَا نَجْدٍ متى هِجْتَ مِن نَجْدِ = لقد زَادَنِي ذِكراكَ وَجْدًا على وَجْدِ
وأَوَّلُ شيءٍ اشْتَمَلَتْ عليه هذه القَصيدةُ التشبيبُ، وهو عندَ الْمُحَقِّقِينَ مِن أَهلِ الأَدَبِ جِنْسٌ يَجْمَعُ أربعةَ أنواعٍ:
(أحدُها) : ذِكْرُ ما في المحبوبِ مِن الصفاتِ الْحِسِّيَّةِ والْمَعنوِيَّةِ كحُمرةِ الْخَدِّ، ورَشاقةِ الْقَدِّ، وكالجلالَةِ والْخَفَرِ.
والثاني: ذِكْرُ ما في الْمُحِبِّ مِن الصفاتِ أيضًا، كالنُّحولِ والذُّبولِ، والْحُزْنِ والشَّغَفِ.
والثالثُ: ذِكْرُ ما يَتَعَلَّقُ بهما مِن هَجْرٍ ووَصْلٍ، وشَكْوَى واعتذارٍ، ووَفاءٍ وإخلافٍ.
والرابعُ: ذِكْرُ ما يَتَعَلَّقُ بغيرِهما بسبَبِهما، كالوُشاةِ والرُّقباءِ.
ويُسَمَّى النوعُ الأَوَّلُ تَشبيبًا أيضًا، وبيانُ التشبيبِ فيها أنه ذَكَرَ مَحبوبتَه، وما أصابَ قَلبَه عندَ ظَعْنِها، ثم وَصَفَ مَحاسِنَها، وشَبَّهَهَا بالظَّبْيِ، ثم ذَكَرَ ثَغْرَها ورِيقَها، وشَبَّهَها بخَمْرٍ مَمزُوجَةٍ بالماءِ، ثم إنه اسْتَطْرَدَ مِن هذا إلى وَصْفِ ذلك الماءِ، ثم مِن هذا إلى وَصْفِ الأَبْطَحِ الذي أُخِذَ منه ذلك الماءُ، ثم رَجَعَ إلى ذِكْرِ صِفاتِها، فوَصَفَها بالصَّدِّ، وإخلافِ الوَعْدِ، والتلَوُّنِ في الوُدِّ، وضَرَبَ لها عُرقُوبًا مثلًا، ثم لامَ نفسَه على التَّعَلُّقِ بِمَواعِيدِها، ثم أشارَ إلى بُعْدِ ما بَينَه وبينَها، وأنه لا يُبَلِّغُه إلا ناقةٌ مِن صِفتِها كَيْتَ وكَيْتَ، وأطالَ في وَصفِ تلك الناقةِ على عادَةِ العرَبِ في ذلك، ثم إنه اسْتَطْرَدَ مِن ذلك إلى ذِكْرِ الوُشاةِ، وأنهم يَسْعَوْنَ بجَانِبَيْ نَاقَتِه، ويُحَذِّرُونَه القتلَ، وأنَّ أَصدقاءَه رَفَضُوه، وقَطَعُوا حَبْلَ مَوَدَّتِه، وأنه أَظْهَرَ لهم الْجَلَدَ، واسْتَسْلَمَ للقَدَرِ، وذَكَرَ لهم أنَّ الموتَ مَصيرُ كلِّ ابنِ أُنْثى، ثم خَرَجَ إلى المقصودِ الأعظمِ، وهو مَدْحُ سَيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى الاعتذارِ إليه، وطَلَبَ منه العَفْوَ والتَّبَرِّيَ مما قيلَ عنه، وذَكَرَ شِدَّةَ خَوْفِه مِن سَطْوَتِه، وما حَصَلَ له مِن مَهابَتِه ثم إلى مَدْحِ أصحابِه الْمُهاجرينَ رَضِىَ اللهُ عنهم أَجْمَعينَ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مقدمات, شرح

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:08 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir