جعل- الحبيب- جمعا كالخليط والفريق، يقال: عاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا، وأرى اللفظة من أعشار الجزور، لأنها مقاسمة ومخالطة ومخالقة جميلة، فأمر الله تعالى الرجال بحسن صحبة النساء، وإلى هذا ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم: فاستمتع بها وفيها عوج، ثم أدب تعالى عباده بقوله: {فإن كرهتموهنّ } إلى آخر الآية، قال السدي:« الخير الكثير في المرأة الولد » ، وقال نحوه ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:« ومن فصاحة القرآن العموم الذي في لفظة شيء لأنه يطرد هذا النظر في كل ما يكرهه المرء مما يجمل الصبر عليه، فيحسن الصبر، إذ عاقبته إلى خير، إذا أريد به وجه الله»). [المحرر الوجيز: 2/498-502]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا أيّها الّذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلّا أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنةٍ وعاشروهنّ بالمعروف فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل اللّه فيه خيرًا كثيرًا (19) وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا (21) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلّا ما قد سلف إنّه كان فاحشةً ومقتًا وساء سبيلًا (22) }
قال البخاريّ: حدّثنا محمّد بن مقاتل، حدّثنا أسباط بن محمّدٍ، حدّثنا الشّيباني عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ -قال الشّيبانيّ: وذكره أبو الحسن السّوائي، ولا أظنّه ذكره إلّا عن ابن عبّاسٍ-: {يا أيّها الّذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا} قال: «كانوا إذا مات الرّجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوّجوها، وإن شاؤوا لم يزوّجوها، فهم أحقّ بها من أهلها» ، فنزلت هذه الآية في ذلك.
هكذا رواه البخاريّ وأبو داود، والنّسائيّ، وابن مردويه، وابن أبي حاتمٍ، من حديث أبي إسحاق الشّيبانيّ -واسمه سليمان بن أبي سليمان-عن عكرمة، وعن أبي الحسن السّوائيّ واسمه عطاءٌ، كوفيٌّ أعمى-كلاهما عن ابن عبّاسٍ بما تقدّم.
وقال أبو داود: حدّثنا أحمد بن محمّد بن ثابتٍ المروزي، حدّثني عليّ بن حسين، عن أبيه، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «{لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنةٍ} وذلك أنّ الرّجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتّى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم اللّه تعالى عن ذلك، أي نهى عن ذلك».
تفرّد به أبو داود وقد رواه غير واحدٍ عن ابن عبّاسٍ بنحو ذلك، فقال وكيع عن سفيان، عن عليّ بن بذيمة، عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ: « كانت المرأة في الجاهليّة إذا توفّي عنها زوجها فجاء رجلٌ فألقى عليها ثوبًا، كان أحقّ بها، فنزلت: {يا أيّها الّذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا}».
وروى عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا} قال: «كان الرّجل إذا مات وترك جاريةً، ألقى عليها حميمه ثوبه، فمنعها من النّاس. فإن كانت جميلةً تزوّجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها».
وروى العوفيّ عنه: « كان الرّجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته، فورث نكاحها ولم ينكحها أحدٌ غيره، وحبسها عنده حتّى تفتدي منه بفديةٍ »: فأنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا}.
وقال زيد بن أسلم في الآية {لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا}«كان أهل يثرب إذا مات الرّجل منهم في الجاهليّة ورث امرأته من يرث ماله، وكان يعضلها حتّى يرثها، أو يزوّجها من أراد، وكان أهل تهامة يسيء الرّجل صحبة المرأة حتّى يطلّقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلّا من أراد حتّى تفتدي منه ببعض ما أعطاها، فنهى اللّه المؤمنين عن ذلك». رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا موسى بن إسحاق، حدّثنا عليّ بن المنذر، حدّثنا محمّد بن فضيلٍ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن محمّد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيفٍ، عن أبيه قال:« لمّا توفّي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوّج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهليّة»، فأنزل اللّه: {لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا}.
ورواه ابن جريرٍ من حديث محمّد بن فضيلٍ، به. ثمّ روي من طريق ابن جريج قال: « أخبرني عطاءٌ أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا هلك الرّجل وترك امرأةً، حبسها أهله على الصّبيّ يكون فيهم»، فنزلت: {لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا} الآية.
قال ابن جريجٍ: وقال مجاهدٌ: « كان الرّجل إذا توفي كان ابنه أحقّ بامرأته، ينكحها إن شاء، إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه».
قال ابن جريجٍ: وقال عكرمة:« نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس، توفّي عنها أبو قيس ابن الأسلت، فجنح عليها ابنه، فجاءت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللّه، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح»، فنزلت هذه الآية.
وقال السّدّيّ عن أبي مالكٍ:«كانت المرأة في الجاهليّة إذا مات زوجها، جاء وليّه فألقى عليها ثوبًا، فإن كان له ابنٌ صغيرٌ أو أخٌ حبسها حتّى يشب أو تموت فيرثها، فإن هي انفلتت فأتت أهلها، ولم يلق عليها ثوبًا نجت»، فأنزل اللّه: تعالى {لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا}
وقال مجاهدٌ في الآية: «كان الرّجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته، فيتزوّجها أو يزوّجها ابنه». رواه ابن أبي حاتمٍ. ثمّ قال: وروي عن الشّعبيّ، وعطاء بن أبي رباحٍ، وأبي مجلز، والضّحّاك، والزّهريّ، وعطاءٍ الخراسانيّ، ومقاتل بن حيّان -نحو ذلك.
قلت: فالآية تعمّ ما كان يفعله أهل الجاهليّة، وما ذكره مجاهدٌ ومن وافقه، وكلّ ما كان فيه نوعٌ من ذلك، واللّه أعلم.
وقوله: {ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ} أي:« لا تضارّوهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقًّا من حقوقها عليك، أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد».
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {ولا تعضلوهنّ} يقول: «ولا تقهروهنّ » {لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ} يعني: «الرّجل تكون له امرأةٌ وهو كارهٌ لصحبتها، ولها عليه مهرٌ فيضرها لتفتدي».
وكذا قال الضّحّاك، وقتادة وغير واحدٍ واختاره ابن جريرٍ.
وقال ابن المبارك وعبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ قال: أخبرني سماك بن الفضل، عن ابن البيلماني قال: «نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهليّة، والأخرى في أمرالإسلام». قال عبد اللّه بن المبارك: يعني قوله: {لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا} في الجاهليّة {ولا تعضلوهنّ} في الإسلام.
وقوله: {إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنةٍ} قال ابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وسعيد بن المسيّب، والشّعبيّ، والحسن البصريّ، ومحمّد بن سيرين، وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وعطاء الخراسانيّ، والضّحّاك، وأبو قلابة، وأبو صالحٍ، والسّدّي، وزيد بن أسلم، وسعيد بن أبي هلالٍ:« يعني بذلك الزّنا، يعني: إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصّداق الّذي أعطيتها وتضاجرها حتّى تتركه لك وتخالعها »، كما قال تعالى في سورة البقرة: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به} الآية.
وقال ابن عبّاسٍ، وعكرمة، والضّحّاك: « الفاحشة المبيّنة: النّشوز والعصيان».
واختار ابن جريرٍ أنّه يعم ذلك كلّه: الزّنا، والعصيان، والنّشوز، وبذاء اللّسان، وغير ذلك.
يعني: «أنّ هذا كلّه يبيح مضاجرتها حتّى تبرئه من حقّها أو بعضه ويفارقها، وهذا جيّدٌ، واللّه أعلم»، وقد تقدّم فيما رواه أبو داود منفردًا به من طريق يزيد النّحويّ عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما في قوله: {لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنةٍ} قال: «وذلك أنّ الرّجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتّى تموت أو تردّ إليه صداقها، فأحكم اللّه عن ذلك، أي نهى عن ذلك».
قال عكرمة والحسن البصريّ: «وهذا يقتضي أن يكون السّياق كلّه كان في أمر الجاهليّة، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام».
قال عبد الرّحمن بن زيدٍ:«كان العضل في قريشٍ بمكّة، ينكح الرجل المرأة الشّريفة فلعلّها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تزوّج إلّا بإذنه، فيأتي بالشّهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلّا عضلها». قال: فهذا قوله: {ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ} الآية.
وقال مجاهدٌ في قوله: {ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ} هو كالعضل في سورة البقرة.
وقوله: {وعاشروهنّ بالمعروف} أي: طيّبوا أقوالكم لهنّ، وحسّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحبّ ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: {ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف} وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:«خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» وكان من أخلاقه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطّف بهم، ويوسّعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتّى إنّه كان يسابق عائشة أمّ المؤمنين يتودّد إليها بذلك. قالت: «سابقني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللّحم، ثمّ سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال: «هذه بتلك» ويجتمع نساؤه كلّ ليلةٍ في بيت الّتي يبيت عندها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فيأكل معهنّ العشاء في بعض الأحيان، ثمّ تنصرف كلّ واحدةٍ إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعارٍ واحدٍ، يضع عن كتفيه الرّداء وينام بالإزار، وكان إذا صلّى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلّى اللّه عليه وسلّم وقد قال اللّه تعالى: {لقد كان لكم في رسول اللّه أسوةٌ حسنةٌ}.
وأحكام عشرة النّساء وما يتعلّق بتفصيل ذلك موضعه كتاب "الأحكام"، ولله الحمد.
وقوله تعالى: {فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} أي: فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهنّ وكراهتهنّ فيه، خيرٌ كثيرٌ لكم في الدّنيا والآخرة. كما قال ابن عبّاسٍ في هذه الآية: هو أن يعطف عليها، فيرزق منها ولدًا. ويكون في ذلك الولد خيرٌ كثيرٌ وفي الحديث الصّحيح: « لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً، إن سخط منها خلقا رضي منها آخر»). [تفسير القرآن العظيم: 2/239-243]