والأصلُ في الأخبارِ أنْ تُؤَخَّرَا = وَجَوَّزُوا التقديمَ إِذْ لاَ ضَرَرَا ([1])
الأصلُ تقديمُ المبتدأِ وتأخيرُ الخبرِ؛ وذلك لأنَّ الخبرَ وصفٌ في المعنَى للمبتدأِ، فاسْتَحَقَّ التأخيرَ كالوصفِ، ويَجُوزُ تقديمُه إذا لم يَحْصُلْ بذلكَ لَبْسٌ أو نحوُه على ما سَيُبَيَّنُ، فتقولُ: قائمٌ زيدٌ، وقائمٌ أبوه زيدٌ، وأبوه منطلِقٌ زيدٌ، وفي الدارِ زيدٌ، وعندَكَ عمرٌو.
وقدْ وَقَعَ في كلامِ بعضِهم أنَّ مذهَبَ الكُوفِيِّينَ مَنْعُ تقدُّمِ الخبرِ الجائزِ التأخيرِ عندَ البصريينَ، وفيه نَظَرٌ ([2])، فإنَّ بَعْضَهُم نَقَلَ الإجماعَ من البصريينَ والكُوفِيِّينَ على جَوازِ (في دارِه زيدٌ)، فنَقْلُ المنعُ عن الكُوفِيِّينَ مطلقاً ليسَ بصحيحٍ، هكذا قالَ بعضُهم، وفيه بَحْثٌ، نَعَمْ مَنَعَ الكُوفِيُّونَ التقديمَ في مثلِ: (زيدٌ قائمٌ، وزيدٌ قامَ أبوه، وزيدٌ أبوه منطلِقٌ)، والحقُّ الجوازُ؛ إذ لا مانِعَ من ذلك، وإليه أشارَ بقولِهِ: (وَجَوَّزُوا التقديمَ إذْ لاَ ضَرَرَا)، فتقولُ: (قائمٌ زيدٌ)، ومنه قولُهم: (مَشْنُوءٌ مَنْ يَشْنَؤُكَ)، فمَن مبتدأٌ ومَشْنُوءٌ خبرٌ مقدَّمٌ، و(قامَ أبوه زيدٌ)، ومنه قولُه:
49- قدْ ثَكِلَتْ أُمُّهُ مَنْ كُنْتَ وَاحِدَهُ = وباتَ مُنْتَشِباً فِي بُرْثُنِ الأَسَدِ ([3])
فـ(مَن كُنْتَ واحِدَهُ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، و(قد ثَكِلَتْ أُمُّهُ) خبرٌ مقدَّمٌ، و(أبوه منطلِقٌ زيدٌ)، ومنه قولُه:
50- إلى مَلِكٍ مَا أُمُّهُ مِن مُحَارِبٍ = أَبُوهُ ولاَ كَانَتْ كُلَيْبٌ تُصَاهِرُهْ ([4])
فـ(أبوه) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، و(ما أُمُّهُ مِن مُحَارِبٍ) خبرٌ مقدَّمٌ.
ونَقَلَ الشَّرِيفُ أبو السَّعَادَاتِ هِبَةُ اللهِ بنُ الشَّجَرِيِّ الإجماعَ من البصريينَ والكُوفِيِّينَ على جوازِ تقديمِ الخبرِ إذا كانَ جملةً، وليسَ بصحيحٍ، وقد قَدَّمْنَا نقلَ الخلافِ في ذلك عن الكُوفِيِّينَ.
فَامْنَعْهُ حِينَ يَسْتَوِي الجُزْآنِ = عُرْفاً ونُكْراً عَادِمَيْ بَيَانِ ([5])
كذا إذا ما الفِعْلُ كانَ الخَبَرَا = أو قُصِدَ اسْتِعْمَالُهُ مُنْحَصِرَا ([6])
أو كانَ مُسْنَداً لِذِي لاَمِ ابْتِدَا = أو لازِمِ الصَّدْرِ كمَنْ لِي مُنْجِدَا ([7])
يَنْقَسِمُ الخبرُ بالنظرِ إلى تقديمِه على المبتدأِ أو تأخيرِه عنه ثلاثةَ أقسامٍ:
قِسْمٌ يَجُوزُ فيه التقديمُ والتأخيرُ، وقد سَبَقَ ذِكْرُهُ.
وقِسْمٌ يَجِبُ فيه تأخيرُ الخبرِ.
وقِسمٌ يَجِبُ فيه تقديمُ الخبرِ.
فأشارَ بهذه الأبياتِ إلى الخبرِ الواجبِ التأخيرِ، فذَكَرَ مِنه خمسةَ مواضعَ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ كلٌّ مِن المبتدأِ والخبرِ معرفةً أو نَكِرَةً صَالحةً لجَعْلِهَا مبتدأً، ولا مُبَيِّنَ للمبتدأِ من الخبرِ، نحوُ: (زيدٌ أخوكَ، وأفضلُ مِن زيدٍ أفضلُ مِن عمرٍو)، ولا يَجُوزُ تقديمُ الخبرِ في هذا ونحوِه؛ لأنكَ لو قَدَّمْتَه فقلتَ: (أخوك، زيدٌ وأفضلُ من عمرٍو أفضلُ مِن زيدٍ) لكانَ المقدَّمُ مبتدأً ([8])، وأنتَ تُرِيدُ أنْ يكونَ خبراً مِن غيرِ دليلٍ يَدُلُّ عليه، فإنْ وُجِدَ دليلٌ يَدُلُّ على أنَّ المُتَقَدِّمَ خبرٌ جازَ؛ كقولِكَ: (أبو يُوسُفَ أبو حَنِيفَةَ)، فيَجُوزُ تَقَدُّمُ الخبرِ، وهو أبو حَنِيفَةَ؛ لأنَّه معلومٌ أنَّ المرادَ تشبيهُ أبي يُوسُفَ بأبي حَنِيفَةَ، لا تَشْبِيهُ أبي حنيفةَ بأبي يوسفَ، ومنه قولُهُ:
51- بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا = بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ ([9])
فقولُه: (بَنُونَا) خبرٌ مقدَّمٌ، و: (بنو أبنائِنا) مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ؛ لأنَّ المرادَ الحُكْمُ على بَنِي أبنائِهم بأنهم كَبَنِيهِم، وليسَ المرادُ الحُكْمَ على بَنِيهِم بأنهم كَبَنِي أبنائِهِم.
والثاني: أنْ يكونَ الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرِ المبتدأِ مستتراً، نحوُ: (زيدٌ قامَ)، فقامَ وفاعلُه المقدَّرُ ([10]) خبرٌ عن زيدٍ، ولا يَجُوزُ التقديمُ، فلا يقالُ: (قامَ زيدٌ) على أنْ يكونَ زيدٌ مبتدأً مؤخراً والفعلُ خبراً مقدماً، بل يكونُ (زيدٌ) فاعلاً لقامَ، فلا يكونُ من بابِ المبتدأِ والخبرِ، بل من بابِ الفعلِ والفاعلِ، فلو كانَ الفعلُ رافعاً لظاهِرٍ، نحوُ: (زيدٌ قامَ أبوه) جازَ التقديمُ، فتقولُ: (قامَ أبوه زيدٌ)، وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُ الخلافِ في ذلكَ ([11]).
وكذلك يَجُوزُ التقديمُ إذا رَفَعَ الفعلُ ضميراً بارزاً، نحوُ: الزيدانِ قاما، فيَجُوزُ أنْ تُقَدِّمَ الخبرَ فتقولُ: (قامَا الزيدانِ)، ويكونُ (الزيدانِ) مبتدأً مؤخَّراً، و(قاما) خبراً مقدَّماً، ومَنَعَ ذلكَ قومٌ.
وإذا عَرَفْتَ هذا فقولُ المصنِّفِ: (كذا إذا ما الفعلُ كانَ الخَبَرَ) يَقْتَضِي وجوبَ تأخيرِ الخبرِ الفعليِّ مطلقاً، وليسَ كذلكَ، بل إنما يَجِبُ تأخيرُه إذا رَفَعَ ضميراً للمبتدأِ مستتراً، كما تَقَدَّمَ.
الثالثُ: أنْ يكونَ الخبرُ محصوراً بإنما، نحوُ: (إنما زيدٌ قائمٌ)، أو بإلاَّ، نحوُ: (ما زيدٌ إلا قائمٌ)، وهو المرادُ بقولِهِ: (أو قُصِدَ اسْتِعْمَالُهُ مُنْحَصِرَا)، فلا يَجُوزُ تقديمُ قائمٌ على زيدٌ في المثاليْنِ، وقد جاءَ التقديمُ معَ إلاَّ شُذوذاً؛ كقولِ الشاعرِ:
52- فيا رَبِّ هَلْ إِلاَّ بِكَ النَّصْرُ يُرْتَجَى = عَلَيْهِمْ وهلْ إِلاَّ عَلَيْكَ المُعَوَّلُ ([12])
الأصلُ: وهلِ المُعَوَّلُ إلا عليكَ. فقَدَّمَ الخبرَ.
الرابعُ: أنْ يكونَ خبراً لمبتدأٍ قد دَخَلَتْ عليه لامُ الابتداءِ، نحوُ: (لَزيدٌ قائمٌ)، وهو المشارُ إليه بقولِهِ: (أو كانَ مُسنداً لِذِي لامِ ابْتِدَا)، فلا يَجُوزُ تقديمُ الخبرِ على اللامِ، فلا تقولُ: (قائمٌ لَزَيْدٌ)؛ لأنَّ لامَ الابتداءِ لها صدرُ الكلامِ، وقد جاءَ التقديمُ شذوذاً؛ كقولِ الشاعرِ:
53- خَالِي لأَنْتَ وَمَنْ جَرِيرٌ خَالُهُ = يَنَلِ العَلاَءَ وَيَكْرُمِ الأَخْوَالاَ ([13])
فـ(لأنتَ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، و(خالي) خبرٌ مقدَّمٌ.
الخامِسُ: أنْ يكونَ المبتدأُ له صدرُ الكلامِ كأسماءِ الاستفهامِ، نحوُ: (مَن لي مُنْجِداً)، فمَن مبتدأٌ، ولي خبرٌ، ومُنْجِداً حالٌ، ولا يَجُوزُ تقديمُ الخبرِ على مَن، فلا تقولُ: لي مَن مُنْجِداً.
وَنَحْوُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِي وَطَرْ = مُلْتَزَمٌ فِيهِ تَقَدُّمُ الْخَبَرْ ([14])
كذا إِذَا عَادَ عَلَيْهِ مُضْمَرُ = مِمَّا بِهِ عَنْهُ مُبِيناً يُخْبَرُ ([15])
كَذَا إِذَا يَسْتَوْجِبُ التَّصْدِيرَا = كَأَيْنَ مَنْ عَلِمْتُهُ نَصِيرَا ([16])
وخبرَ المحصورِ قَدِّمْ أَبَدَا = كما لَنَا إِلاَّ اتِّبَاعُ أَحْمَدَا ([17])
أشارَ في هذه الأبياتِ إلى القِسْمِ الثالثِ، وهو وجوبُ تقديمِ الخبرِ، فذَكَرَ أنه يَجِبُ في أربعةِ مواضِعَ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ المبتدأُ نكرةً ليسَ لها مُسَوِّغٌ إلاَّ تَقَدُّمُ الخبرِ، والخبرُ ظرفٌ أو جارٌّ ومجرورٌ، نحوُ: (عِندَكَ رَجُلٌ، وفي الدارِ امرأةٌ)، فيَجِبُ تقديمُ الخبرِ هنا، فلا تقولُ: (رَجلٌ عندَكَ)، ولا: (امرأةٌ في الدارِ).
وأَجْمَعَ النُّحَاةُ والعربُ على مَنْعِ ذلكَ، وإلى هذا أشارَ بقولِهِ: (وَنَحْوُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِي وَطَرْ) البيتَ، فإنْ كانَ للنكرةِ مُسَوِّغٌ جازَ الأمرانِ، نحوُ: (رَجلٌ ظَريفٌ عِندِي)، و(عندي رَجلٌ ظريفٌ).
الثاني: أنْ يَشْتَمِلَ المبتدأُ على ضميرٍ يعودُ على شيءٍ في الخبرِ، نحوُ: (في الدارِ صَاحِبُها)، فصاحِبُها مبتدأٌ، والضميرُ المُتَّصِلُ به راجعٌ إلى الدارِ، وهو جزءٌ مِن الخبرِ، فلا يَجُوزُ تأخيرُ الخبرِ، نحوُ: (صاحِبُها في الدارِ)؛ لئلاَّ يَعُودَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتبةً.
وهذا مرادُ المصنِّفِ بقولِهِ: (كذا إذا عادَ عليه مُضْمَرُ) البيتَ؛ أي: كذا يَجِبُ تقديمُ الخبرِ إذا عادَ عليه مُضْمَرٌ ممَّا يُخْبَرُ بالخبرِ عنه، وهو المبتدأُ، فكأنه قالَ: يَجِبُ تقديمُ الخبرِ إذا عادَ عليه ضميرٌ مِن المبتدأِ، وهذه عبارةُ ابنِ عُصْفُورٍ في بعضِ كُتُبِه، ولَيْسَتْ بصحيحةٍ؛ لأنَّ الضميرَ في قولِكَ: (في الدارِ صَاحِبُها) إنما هو عائدٌ على جُزْءٍ من الخبرِ، لا على الخبرِ، فيَنْبَغِي أنْ تُقَدِّرَ مضافاً محذوفاً في قولِ المصنِّفِ: (عادَ عَلَيْهِ)، التقديرُ: كذا إذا عادَ على مُلابِسِه.
ثمَّ حُذِفَ المضافُ الذي هو مُلابس، وأُقِيمَ المضافُ إليه - وهو الهاءُ - مُقَامَه، فصارَ اللفظُ: (كذا إذا عادَ عَلَيْهِ)، ومثلُ قولِكَ: (في الدارِ صاحِبُها) قولُهم: (على التَّمْرَةِ مِثْلُها زُبْداً)، وقولُه:
54- أَهَابُكِ إِجْلالاً وَمَا بِكِ قُدْرَةٌ = عَلَيَّ وَلَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا ([18])
فحَبِيبُها مبتدأٌ مؤخَّرٌ، ومِلْءُ عَيْنٍ خبرٌ مقدَّمٌ، ولا يَجُوزُ تأخيرُه؛ لأنَّ الضميرَ المتَّصِلَ بالمبتدأِ، وهو ها، عائدٌ على عَيْنٍ، وهو مُتَّصِلٌ بالخبرِ، فلو قلتَ: (حَبِيبُهَا مِلْءُ عَيْنٍ) عادَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتبةً، وقد جَرَى الخلافُ في جوازِ (ضَرَبَ غُلامُه زَيْداً) ([19])، معَ أنَّ الضميرَ فيه عائدٌ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتبةً، ولم يَجْرِ خلافٌ - فيما أَعْلَمُ - في مَنْعِ (صَاحِبُها في الدارِ)، فما الفرقُ بينَهما؟ وهو ظاهرٌ، فلْيُتَأَمَّلْ.
والفرقُ بينَهما أنَّ ما عادَ عليه الضميرُ وما اتَّصَلَ به الضميرُ اشْتَرَكَا في العاملِ في مسألةِ (ضَرَبَ غلامُه زيداً)، بخلافِ مسألةِ (في الدارِ صَاحِبُها)؛ فإنَّ العاملَ فيما اتَّصَلَ به الضميرُ وما عادَ عليه الضميرُ مُختلِفٌ ([20]).
الثالثُ: أنْ يكونَ الخبرُ له صَدْرُ الكلامِ، وهو المرادُ بقولِهِ: (كَذَا إِذَا يَسْتَوْجِبُ التَّصْدِيرَا)، نحوُ: (أينَ زيدٌ؟)، فزيدٌ مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وأينَ خبرٌ مقدَّمٌ، ولا يُؤَخَّرُ، فلا تقولُ: (زيدٌ أينَ؟)؛ لأنَّ الاستفهامَ له صدرُ الكلامِ، وكذلكَ (أينَ مَن عَلِمْتُه نَصيراً؟)، فأينَ خبرٌ مُقَدَّمٌ، ومَن مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، وعَلِمْتُه نصيراً صِلَةُ مَن.
الرابِعُ: أنْ يكونَ المبتدأُ محصوراً، نحوُ: (إنما في الدارِ زيدٌ، وما في الدارِ إلاَّ زيدٌ)، ومِثلُه: (ما لنا إلاَّ اتباعُ أحمدَ).
([1]) (والأصلُ) مبتدأٌ، (في الأخبارِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ به، (أنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، (تُؤَخَّرَا) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ منصوبٌ بأنْ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هي يعودُ إلى الأخبارِ، والألفُ للإطلاقِ، و(أنْ) وما دَخَلَتْ عليه في تأويلِ مصدرٍ خبرُ المبتدأِ، (وَجَوَّزُوا) فعلٌ وفاعلٌ، (التقديمَ) مفعولٌ به لجَوَّزُوا، (إِذْ) ظرفُ زمانٍ مُتَعَلِّقٌ بجَوَّزُوا، (لا) نافيةٌ للجِنْسِ، (ضَرَرَا) اسمُ لا، مبنيٌّ على الفتحِ في محَلِّ نصبٍ، والألفُ للإطلاقِ، وخبرُ لا محذوفٌ؛ أي: لا ضَرَرَ مَوْجُودٌ، والجملةُ مِن لا واسمِها وخبرِها في محَلِّ جرٍّ بإضافةِ إذ إليها.
([2]) في كلامِ الشارحِ في هذا الموضوعِ قَلَقٌ ورَكَاكَةٌ لا تَكَادُ تَتَبَيَّنُ مِنهما غَرَضَه واضحاً؛ فهو أوَّلاً يَنْقُلُ عن بعضِهم أنه ذَكَرَ أنَّ الكُوفِيِّينَ لم يُجَوِّزُوا تقديمَ الخبرِ على المبتدأِ.
ثم يَعْتَرِضُ على هذا النقلِ بقولِهِ: (وفيه نَظَرٌ)، ويَنْقُلُ عن بعضٍ آخرَ أنَّ الكُوفِيِّينَ يُجَوِّزُونَ عِبارةً ظَاهِرُ أَمْرِها أنها من بابِ تقديمِ الخبرِ، فيكونُ كلامُ الناقلِ الأوَّلِ على إطلاقِه باطلاً، وكانَ يَنْبَغِي ـ على ذلك ـ تَخْصِيصُه بما عَدَا هذه الصورةِ، ثم يَعْتَرِضُ على النقلِ الثاني بقولِه: (وفيه بحثٌ).
وظاهرُ المعنِيِّ من ذلكَ أنَّ هذه العبارةَ التي ظَنَّهَا ناقلُ المثالِ الثاني من بابِ تقديمِ الخبرِ لَيْسَتْ مِنه على وجهِ الجزْمِ والقَطْعِ؛ لأنَّه يجوزُ فيها أنْ يكونَ (زيدٌ) من قولِه: (في دارِه زيدٌ) فاعلاً بالجارِّ والمجرورِ، ولو لم يَعْتَمِدْ على نفيٍ أو استفهامٍ؛ لأنَّ الاعتمادَ ليسَ شرطاً عندَ الكُوفِيِّينَ، فيكونُ تجويزُ الكُوفِيِّينَ هذه العبارةَ ليسَ دليلاً على أنهم يُجَوِّزُونَ تقديمَ الخبرِ في صورةٍ مِن الصُّوَرِ، فقدْ رَجَعَ الشارِحُ على أوَّلِ كلامِهِ بالنَّقْضِ، هذا من حيثُ تَعْبِيرُه.
فأمَّا مِن حيثُ الموضوعُ في ذاتِهِ، فقد ذَكَرَ أبو البَرَكَاتِ بنُ الأنباريِّ في كتابِه (الإنصافِ في مسائلِ الخِلاَفِ) (ص 46 طبعة ثالثة بتحقيقِنا) أنَّ علماءَ الكوفةِ يَرَوْنَ أنه لا يَجُوزُ أنْ يَتَقَدَّمَ الخبرُ على المبتدأِ، مفرداً كانَ أو جملةً، وعَقَدَ في ذلك مسألةً خاصَّةً، وعلى هذا لا يَجُوزُ أنْ يكونَ قولُكَ: (في الدارِ زيدٌ) ـ إنْ صَحَّ عندَهم هذا التعبيرُ ـ من بابِ تقديمِ الخبرِ على المبتدأِ عندَهم.
فإنْ قلتَ: فهذا الخبرُ جارٌّ ومجرورٌ، والذي نَقَلْتَهُ عنهم عَدَمُ تجويزِ التقدُّمِ إذا كانَ الخبرُ مُفْرداً أو جُملةً.
فالجوابُ: أنَّ الجارَّ والمجرورَ ـ عندَ الجمهورِ خِلافاً لابنِ السَّرَّاجِ الذي جَعَلَه قِسماً برأسِهِ ـ لا يَخْلُو حالُه من أنْ يكونَ في تقديرِ المفردِ، أو في تقديرِ الجملةِ، وأيضاً فقد عَلَّلُوا عدمَ تجويزِ التقدُّمِ بأنَّ الخبرَ اشْتَمَلَ على ضميرٍ يعودُ على المبتدأِ، فلو قَدَّمْنَاهُ لَتَقَدَّمَ الضميرُ على مَرْجِعِه، وذلك لا يَجُوزُ عندَهم، وهذه العِلَّةُ نفسُها موجودةٌ في الجارِّ والمجرورِ، سواءٌ أَقَدَّرْتَ مُتَعَلِّقَه اسماً مُشْتَقًّا أم قَدَّرْتَهُ فِعْلاً.
([3]) البيتُ لشاعرِ سَيِّدِنَا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ:
اللغة: (ثَكِلَتْ أُمُّهُ) هو مِن الثُّكْلِ، وهو فَقْدُ المرأةِ وَلَدَها، (مُنْتَشِباً) عالِقاً داخِلاً، (بُرْثُنِ الأسدِ) مِخْلَبُه، وجَمْعُهُ بَرَاثِنُ، مثلُ بُرْقُعٍ وبَرَاقِعَ، والبَرَاثِنُ للسباعِ بمنزلةِ الأصابعِ للإنسانِ، وقالَ ابنُ الأعرابِيِّ: البُرْثُنُ: الكَفُّ بكمالِهَا معَ الأصابِعِ.
الإعرابُ: (قد) حرفُ تحقيقٍ، (ثَكِلَتْ)، ثَكِلَ: فعلٌ ماضٍ، والتاءُ تاءُ التأنيثِ، (أُمُّهُ) أمُّ: فاعلُ ثَكِلَتْ، وأمُّ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، والجملةُ من الفعلِ وفاعلِهِ في محَلِّ رفعِ خبرٍ مقدَّمٍ، (مَن) اسمٌ موصولٌ مبتدأٌ مؤخَّرٌ، (كُنْتَ) كانَ: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، والتاءُ ضميرُ المخاطَبِ اسْمُهُ مبنيٌّ على الفتحِ في محَلِّ رفعٍ، (وَاحِدَهُ) واحدَ: خبرُ كانَ، وواحدَ مضافٌ، والضميرُ مضافٌ إليه، والجملةُ مِن (كانَ) واسْمِهَا وخَبَرِها لا محَلَّ لها؛ صِلَةُ الموصولِ الذي هو مَن، (وَبَاتَ) الواوُ عاطفةٌ، باتَ: فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ، واسمُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو يعودُ إلى مَن، (مُنْتَشِباً) خبرُ باتَ، (في بُرْثُنِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمُنْتَشِبٍ، وبُرْثُنِ مضافٌ و(الأسدِ) مضافٌ إليه.
الشاهدُ فيه: قولُه: (قَدْ ثَكِلَتْ أُمُّهُ مَنْ كُنْتَ وَاحِدَهُ) حيثُ قَدَّمَ الخبرَ، وهو جملةُ (ثَكِلَتْ أُمُّهُ)، على المبتدأِ، وهو (مَنْ كُنْتَ وَاحِدَهُ)، وفي جملةِ الخبرِ المتقدِّمِ ضميرٌ يعودُ على المبتدأِ المتأخِّرِ، وسَهَّلَ ذلكَ أنَّ المبتدأَ ـ وإنْ وَقَعَ متأخِّراً ـ بمنزلةِ المتقدِّمِ في اللفظِ؛ فإنَّ رُتْبَتَهُ التقدُّمُ على الخبرِ؛ كما نُصَّ عليه في بيتِ الناظمِ وفي مَطْلَعِ شرحِ المؤلِّفِ لهذا الموضوعِ.
([4]) هذا البيتُ مِن كَلِمَةٍ للفَرَزْدَقِ يَمْدَحُ بها الوَلِيدَ بنَ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ.
اللغةُ: (مُحَارِبٍ) وَرَدَ في عِدَّةِ قَبَائِلَ:
أحدُها: مِن قُرَيْشٍ، وهو مُحَارِبُ بنُ فِهْرِ بنِ مَالِكِ بنِ النَّضْرِ.
والثاني: مِن قَيْسِ عَيْلاَنَ، وهو مُحَارِبُ بنُ خَصَفَةَ بنِ قَيْسِ عَيْلاَنَ.
والثالثُ: مِن عبدِ القَيْسِ، وهو مُحَارِبُ بنُ عَمْرِو بنِ وَدِيعَةَ بنِ لُكَيْزِ بنِ أَفْصَى بنِ عَبْدِ الْقَيْسِ.
(كُلَيْبٌ) ـ بزِنَةِ التصغيرِ ـ اسمٌ وَرَدَ في عِدَّةِ قَبَائِلَ أيضاًً:
أَحَدُها: في خُزَاعَةَ، وهو كُلَيْبُ بنُ حُبْشِيَّةَ بنِ سَلُولٍ.
والثاني: في تَغْلِبَ بنِ وَائَلٍ، وهو كُلَيْبُ بنُ رَبِيعَةَ بنِ الحَارِثِ بنِ زُهَيْرٍ.
والثالثُ: في تَمِيمٍ، وهو كُلَيْبُ بنُ يَرْبُوعِ بنِ حَنْظَلَةَ بنِ مَالِكٍ.
والرابِعُ: في النَّخَعِ، وهو كُلَيْبُ بنُ رَبِيعَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مَعَدِّ بنِ مَالِكِ بنِ النَّخَعِ.
والخامِسُ: في هَوَازِنَ، وهو كُلَيْبُ بنُ رَبِيعَةَ بنِ صَعْصَعَةَ.
الإعرابُ: (إلى مَلِكٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِه: (أَسُوقُ مَطِيَّتِي) في بيتٍ سابقٍ على بيتِ الشاهدِ، وهو قولُه:
رَأَوْنِي فَنَادَوْنِي، أَسُوقُ مَطِيَّتِي = بِأَصْوَاتِ هَلاَّلٍ صِعَابٍ جَرَائِرُهْ
(ما) نافيةٌ مُهْمَلَةٌ، أو تَعْمَلُ عَمَلَ ليسَ، (أُمُّهُ) أمُّس: مبتدأٌ أو اسمُ ما، وأُمُّ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (مِن مُحَارِبٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرُ المبتدأِ أو خَبَرُ (ما)، وجملةُ (ما) ومَعْمُولَيْهَا في محَلِّ رَفْعِ خبرٍ مقدَّمٍ، (أَبُوهُ) أبو: مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وأبو مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، وجملةُ المبتدأِ وخبرِه في محَلِّ جرِّ صفةٍ لِمَلِكٍ، (ولا) الواوُ عاطفةٌ، لا نافيةٌ، (كَانَتْ) كانَ: فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ، والتاءُ تاءُ التأنيثِ، (كُلَيْبٌ) اسمُ كانَ، (تُصَاهِرُهْ) تُصَاهِرُ: فعلٌ مضارِعٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هي يعودُ إلى كُلَيْبٌ، والضميرُ البارِزُ مفعولٌ به، والجملةُ مِن الفعلِ والفاعلِ في محَلِّ نصبِ خبرِ (كانَ)، وجملةُ كانَ واسمِها وخبرِها في محَلِّ جرِّ معطوفٍ على جملةِ الصفةِ.
الشاهدُ فيه: في هذا البيتِ شاهدٌ للنحاةِ وشاهدٌ لعلماءِ البلاغةِ:
فأمَّا النحاةُ فيَسْتَشْهِدُونَ به على تقديمِ الخبرِ؛ وهو جملةُ (مَا أُمُّهُ مِنْ مُحَارِبٍ)، على المبتدأِ؛ وهو قولُه: (أبوه)، والتقديرُ: إلى مَلِكٍ أَبُوهُ لَيْسَتْ أُمُّهُ مِن مُحَارِبٍ.
وأمَّا عُلَمَاءُ البلاغةِ فيَذْكُرُونَه شَاهِداً على التعقيدِ اللَّفْظِيِّ الذي سَبَبُه التقديمُ والتأخيرُ، ومثلُه في ذلكَ قولُ الفرزدقِ أيضاًً يَمْدَحُ إبراهيمَ بنَ هِشامِ بنِ إسماعيلَ المَخْزُومِيَّ، وهو خالُ هِشَامِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ:
وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكاً = أبو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ
التقديرُ: وما مثلُه في الناسِ حيٌّ يُقَارِبُه إلاَّ مُمَلَّكاً أبو أُمِّه أبوه.
([5]) (فَامْنَعْهُ) امْنَعْ: فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، والضميرُ البارِزُ - العائدُ على تقديمِ الخبرِ- مفعولٌ به لامْنَعْ، (حِينَ) ظرفُ زمانٍ مُتَعَلِّقٌ بامْنَعْ، (يَسْتَوِي) فعلٌ مضارِعٌ، (الجُزْآنِ) فاعلُ يَسْتَوِي، والجملةُ مِن الفعلِ والفاعلِ في محَلِّ جَرٍّ بإضافةِ (حينَ) إليها، (عُرفاً) تَمْيِيزٌ، (ونُكْراً) معطوفٌ عليه، (عَادِمَي) حالٌ من (الجزآنِ)، وعَادِمَي مضافٌ و(بيانِ) مضافٌ إليه، والتقديرُ: فامْنَعْ تقديمَ الخبرِ في وقتِ استواءِ جُزْأَيِ الجملةِ ـ وهما المبتدأُ والخبرُ ـ، مِن جهةِ التعريفِ والتنكيرِ، بأنْ يكونَا معرفتيْنِ أو نكرتيْنِ كلٌّ مِنهما صالِحَةٌ للابتداءِ بها، حالَ كَوْنِهما عادِمَي بَيَانٍ؛ أي: لا قَرِينَةَ معَهما تُعَيِّنُ المبتدأَ مِنهما مِن الخبرِ.
([6]) (كذا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بامْنَعْ، (إذا) ظرفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِن الزمانِ تَضَمَّنَ معنَى الشرطِ، (ما) زائدةٌ، (الفعلُ) اسمٌ لكانَ محذوفةٍ تُفَسِّرُها المذكورةُ بَعْدَها، والخبرُ محذوفٌ أيضاً، والجملةُ مِن كانَ المحذوفةِ واسمِها وخبرِها في محَلِّ جرٍّ بإضافةِ إذا إليها، (كانَ) فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، واسمُها ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو يعودُ إلى الفعلِ، (الخَبَرَا) الخبرَ: خبرُ (كانَ)، والألفُ للإطلاقِ، والجملةُ لا مَحَلَّّ لها؛ مُفَسِّرَةٌ، (أَوْ) عاطفةٌ، (قُصِدَ) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، (استعمالُه) استعمالُ: نائبُ فاعلِ قُصِدَ، واستعمالُ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (مُنْحَصِرَا) حالٌ مِن المضافِ إليه، وجازَ ذلك؛ لأنَّ المضافَ عاملٌ فيه.
([7]) (أوْ) عاطفةٌ، (كانَ) فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، واسمُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى الخبرِ، (مُسْنَداً) خبرُ كانَ، (لذي) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمُسْنَدٍ، وذي مضافٌ و(لامِ) مضافٌ إليه، ولامِ مضافٌ و(ابْتِدَا) مضافٌ إليه، (أوْ) عاطفةٌ (لازمِ) معطوفٌ على ذي، ولازِمِ مضافٌ و(الصَّدْرِ) مضافٌ إليه، (كمَنْ) الكافُ جارَّةٌ لقولٍ محذوفٍ كما تَقَدَّمَ مِراراً، (مَن) اسمُ استفهامٍ مبتدأٌ، (لي) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرِ المبتدأِ، (مُنْجِدَا) حالٌ من الضميرِ المُسْتَتِرِ في الخبرِ الذي هو الجارُّ والمجرورُ، وذلك الضميرُ عائدٌ على المبتدأِ الذي هو اسمُ الاستفهامِ.
([8]) إذا كانَتِ الجملةُ مُكَوَّنَةً من مبتدأٍ وخبرٍ، وكانا جميعاً مَعْرِفَتَيْنِ، فللنُّحاةِ في إعرابِها أربعةُ أقوالٍ:
أَوَّلُها: أنَّ المُقَدَّمَ مبتدأٌ والمؤَخَّرَ خَبَرٌ، سواءٌ أكانَا مُتَسَاوِيَيْنِ في درجةِ التعريفِ أمْ كانا مُتَفَاوِتَيْنِ، وهذا هو الظاهرُ مِن عبارةِ الناظمِ والشارحِ.
وثانيها: أنه يجوزُ جَعْلُ كلِّ واحدٍ مِنهما مبتدأً؛ لِصِحَّةِ الابتداءِ بكلِّ واحدٍ مِنهما.
والثالثُ: أنه إنْ كانَ أحدُهما مُشْتَقًّا والآخرُ جامِداً، فالمشتقُّ هو الخبرُ، سواءٌ أَتَقَدَّمَ أم تَأَخَّرَ، وإلاَّ - بأنْ كانا جامِدَيْنِ، أو كانَ كلاهما مُشْتَقًّا - فالمقدَّمُ مبتدأٌ.
والرابِعُ: أنَّ المبتدأَ هو الأعرفُ عندَ المخاطَبِ، سواءٌ أَتَقَدَّمَ أمْ تَأَخَّرَ، فإنْ تَسَاوَيَا عندَه فالمقدَّمُ هو المبتدأُ.
([9]) نَسَبَ جماعةٌ هذا البيتَ للفرزدقِ، وقالَ قومٌ: لا يُعْلَمُ قائلُه، معَ شُهْرَتِه في كُتُبِ النحاةِ وأهلِ المعاني والفَرْضِيِّينَ.
الإعرابُ: (بَنُونَا) بنو: خبرٌ مقدَّمٌ، وبنو مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (بَنُو) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وبنو مضافٌ وأبناءِ من (أبنائِنَا) مضافٌ إليه، وأبناءِ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (وَبَنَاتُنَا) الواوٌ عاطفةٌ، بناتُ: مبتدأٌ أوَّلُ، وبناتُ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (بَنُوهُنَّ) بنو: مبتدأٌ ثانٍ، وبنو مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (أَبْنَاءُ) خبرُ المبتدأِ الثاني، وجملةُ المبتدأِ الثاني وخبرِه في مَحَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ الأوَّلِ، وأبناءُ مضافٌ و(الرجالِ) مضافٌ إليه، (الأَبَاعِدِ) صفةٌ للرجالِ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (بَنُونَا بنو أَبْنَائِنَا) حيثُ قَدَّمَ الخبرَ؛ وهو (بَنُونَا)، على المبتدأِ؛ وهو (بَنُو أَبْنَائِنَا)، معَ استواءِ المبتدأِ والخبرِ في التعريفِ؛ فإنَّ كلاًّ مِنهما مضافٌ إلى ضميرِ المتكلِّمِ، وإنما ساغَ ذلك لوجودِ قرينةٍ معنويَّةٍ تُعَيِّنُ عندَ السامعِ المبتدأَ منهما؛ فإنَّكَ قد عَرَفْتَ أنَّ الخبرَ هو مَحَطُّ الفائدةِ، فما يكونُ فيه أساسَ التشبيهِ ـ وهو الذي تُذْكَرُ الجملةُ لأجلِهِ ـ فهو الخبرُ، فإذا سَمِعَ أحدٌ هذا البيتَ تَبَادَرَ إلى ذِهْنِهِ أنَّ المتكلِّمَ به يُرِيدُ تشبيهَ أبناءِ أبنائِهم بأبنائِهم، دونَ العكسِ.
وبعدُ، فقدْ قالَ ابنُ هِشامٍ يَعْتَرِضُ على ابنِ الناظِمِ استشهادَه بهذا البيتِ: (قد يُقالُ: إنَّ هذا البيتَ لا تَقديمَ فيه ولا تأخيرَ، وإنه جاءَ على التشبيهِ المقلوبِ؛ كقولِ ذِي الرُّمَّةِ:
فكانَ يَنْبَغِي أنْ يَسْتَشْهِدَ بما أَنْشَدَهُ في (شرحِ التسهيلِ) مِن قولِ حَسَّانَ بنِ ثابتٍ:
قبيلةٌ أَلأَمُ الأحياءِ أَكْرَمُها = وأَغْدَرُ الناسِ بالجِيرَانِ وَافِيهَا
إذِ المرادُ الإخبارُ عن أَكْرَمِها بأنه أَلأَمُ الأحياءِ، وعن وافِيها بأنه أَغْدَرُ الناسِ، لا العكسُ. اهـ كلامُ ابنِ هِشامٍ.
والجوابُ عنه من وجهيْنِ:
أحدُهما: أنَّ التشبيهَ المقلوبَ من الأمورِ النادرةِ، والحملُ على ما يَنْدُرُ وقوعُه لمجرَّدِ الاحتمالِ ممَّا لا يَجُوزُ أنْ يُصَارَ إليه، وإلاَّ فإنَّ كلَّ كلامٍ يُمْكِنُ تَطْوِيقُ احتمالاتٍ بعيدةٍ إليه، فلا تكونُ ثَمَّةَ طُمَأْنِينَةٌ على إفادةِ غرضِ المتكلِّمِ بالعِبارةِ.
وثانيهما: أنَّ ما ذَكَرَه في بَيْتِ حَسَّانَ مِن أنَّ الغرضَ الإخبارُ عن أكرمِ هذه القبيلةِ بأنه أَلأَمُ الأحياءِ، وعن أَوْفَى هذه القبيلةِ بأنه أَغْدَرُ الأحياءِ، هذا نفسُه يَجْرِي في بيتِ الشاهدِ، فيقالُ: إنَّ غرضَ المتكلِّمِ الإخبارُ عن أبناءِ أبنائِهم بأنهم يُشْبِهُونَ أبناءَهُم، وليسَ الغرضُ أنْ يُخْبِرَ عن بَنِيهم بأنهم يُشْبِهُونَ بني أبنائِهِم، فلَمَّا صَحَّ أنْ يكونَ غرضُ المتكلِّمِ مُعَيِّناً للمبتدأِ صَحَّ الاستشهادُ ببيتِ الشاهدِ.
ومثلُ بيتِ الشاهدِ قولُ الكُمَيْتِ بنِ زَيْدٍ الأَسدِيِّ:
كَلامُ النَّبِيِّينَ الهُدَاةِ كَلاَمُنَا = وأَفْعَالَ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ نَفْعَلُ
فإنَّ الغرضَ تَشْبِيهُ كلامِهم بكلامِ النبيِّين الهُدَاةِ، لا العَكْسُ.
([10]) أراد بالمُقَدَّرِ ههنا المُسْتَتِرَ فيه.
([11]) يريدُ خلافَ البَصْرِيِّينَ والكُوفِيِّينَ؛ حيثُ جَوَّزَ البَصْرِيُّونَ التقديمَ، ومَنَعَه الكُوفِيُّونَ، (واقْرَأِ الهامشةَ رَقْمَ 1 في ص 228).
([12]) البيتُ للكُمَيْتِ بنِ زَيْدٍ الأَسْدِيِّ، وهو الشاعرُ المُقَدَّمُ، العالِمُ بلُغَاتِ العربِ، الخبيرُ بأَيَّامِها، وأحدُ شُعَرَاءِ مُضَرَ المُتَعَصِّبِينَ على القَحْطَانِيَّةِ، والبيتُ مِن قصيدةٍ له من قصائدَ تُسَمَّى الهاشِمِيَّاتِ، قالَهَا في مَدْحِ بني هاشِمٍ، وأوَّلُها قولُه:
أَلاَ هَلْ عَمٍ فِي رَأْيِهِ مُتَأَمِّلُ = وهلْ مُدْبِرٌ بعدَ الإساءةِ مُقْبِلُ
اللغةُ: (عَمٍ) العَمَى: ذَهَابُ البَصَرِ مِن العَيْنَيْنِ جَمِيعاً، ولا يُقالُ: عَمى إلاَّ على ذلكَ، ويقالُ لمَن ضَلَّ عنه وجهُ الصوابِ: هو أَعْمى، وعمٍ، والمرأةُ عَمْياءُ وعَمِيَةٌ، (مُدْبِرٌ) هو في الأصلِ مَن وَلاَّكَ قَفَاهُ، ويُرادُ منه الذي يُعْرِضُ عنكَ ولا يُبَالِيكَ، (المُعَوَّلُ) تقولُ: عَوَّلْتُ على فُلانٍ، إذا جَعَلْتَه سَنَدَكَ الذي تَلْجَأُ إليه، وجَعَلْتَ أُمُورَكَ كُلَّها بينَ يَدَيْهِ، والمُعَوَّلُ ههنا مصدرٌ مِيمِيٌّ بمعنَى التعويلِ.
الإعرابُ: (يَا رَبِّ) يا: حرفُ نداءٍ، رَبِّ: مُنَادًى منصوبٌ بفتحةٍ مقدَّرَةٍ على ما قبلَ ياءِ المتكلِّمِ المحذوفةِ اكتفاءً بكسرِ ما قبلَها، (هلْ) حرفُ استفهامٍ إنكاريٌّ دالٌّ على النفيِ، (إلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغَاةٌ، (بِكَ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، (النَّصْرُ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، (يُرْتَجَى) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جَوَازاً تقديرُه هو يعودُ على (النَّصْرُ)، ويجوزُ أنْ يكونَ (بِكَ) مُتَعَلِّقاً بقولِه: يُرْتَجَى، وجملةُ يُرْتَجَى معَ نائبِ فاعلِهِ المُسْتَتِرِ فيه في مَحَلِّ رفعِ خبرٍ، (عَلَيْهِمْ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ في المعنَى بالنَّصْرُ، ولكنَّ الصناعةَ تَأْبَاهُ؛ لِمَا يَلْزَمُ عليه من الفصلِ بينَ العاملِ ومعمولِهِ بأجنبِيٍّ؛ لهذا يُجْعَلُ مُتَعَلِّقاً بيُرْتَجَى، (وهلْ) حرفُ استفهامٍ تَضَمَّنَ معنَى النفيِ، (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغَاةٌ، (عَلَيْكَ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، (المُعَوَّلُ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (بِكَ النَّصْرُ) و(عَلَيْكَ المُعَوَّلُ)؛ حيثُ قَدَّمَ الخبرَ المحصورَ بإلاَّ في الموضعيْنِ شُذُوذاًَ، وقد كانَ مِن حَقِّه أنْ يقولَ: هل يُرْتَجَى النصرُ إلاَّ بِكَ؟ وهلِ المعوَّلُ إلاَّ عليكَ؟ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ الاستشهادَ بقولِه: (بِكَ النصرُ) لا يَتِمُّ إلا على اعتبارِ أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ مقدَّمٌ، والنصرَ مبتدأٌ مؤخَّرٌ، فأمَّا على اعتبارِ أنَّ الخبرَ هو جملةُ (يُرْتَجَى) فلا شاهدَ في الجملةِ الأولَى مِن البيتِ لِمَا نحنُ فيه، ويكونُ الشاهدُ في الجملةِ الثانيةِ وحدَها، وعبارةُ الشارِحِ تُفِيدُ ذلكَ؛ فإنَّه تَرَكَ ذِكْرَ الاستشهادِ بالجملةِ الأولَى لاحتمالِها وجهاً آخَرَ، وقد عَلِمْتَ أنَّ الدليلَ إذا احْتَمَلَ وَجْهاً آخرَ سَقَطَ الاستدلالُ به.
والحكمُ بِشُذُوذِ هذا التقديمِ إطلاقاً ـ كما ذَكَرَه الشارِحُ ـ هو رأيُ جماعةِ النحاةِ، فأمَّا علماءُ البلاغةِ فيقولون: إنْ كانَتْ أداةُ القصرِ هي (إنما) لم يَسُغْ تقديمُ الخبرِ إذا كانَ مقصوراً عليه، وإنْ كانَتْ أداةُ القصرِ (إلاَّ) فإنْ قَدَّمْتَ الخبرَ وقَدَّمْتَ معَه (إلا) كما في هذه العبارةِ صَحَّ التقديمُ؛ لأنَّ المعنَى المقصودَ لا يَضِيعُ؛ إذ تقديمُ (إلا) معَه يُبَيِّنُ المرادَ.
وأنتَ لو جَعَلْتَ الخبرَ في صدرِ البيتِ هو جملةَ (يُرْتَجَى) وجَعَلْتَ الجارَّ والمجرورَ مُتَعَلِّقاً به كانَ في هذه العبارةِ تقديمُ معمولِ الخبرِ على المبتدأِ، وهم يَسْتَدِلُّونَ بتقديمِ المعمولِ على جوازِ تقديمِ العاملِ.
([13]) البيتُ من الشواهدِ التي لم يُعْرَفْ قائِلُها:
اللغةُ: (جَرِيرٌ) يُرْوَى في مكانِه: تَمِيمٌ، ويُرْوَى أيضاً: عُوَيْفٌ، (العَلاَءَ) بفتحِ العينِ المهملةِ ممدوداً: الشرفُ والرِّفعةُ، وقيلَ: هو مَصْدَرُ: عَلِيَ في المكانِ يَعْلَى، على وزنِ رَضِيَ يَرْضَى، وأما في المَرتبةِ فيقالُ: عَلاَ يَعْلُو عُلُوًّا، مثلُ: سَمَا يَسْمُو سُمُوًّا.
الإعرابُ: (خَالِي لأَنْتَ) يجوزُ فيه إعرابانِ:
أحدُهما: أن يكونَ (خالِ) مبتدأً، وهو مضافٌ وياءُ المتكلِّمِ مضافٌ إليه، واللامُ للابتداءِ، و(أنتَ) خبرُ المبتدأِ، وفيه ـ على هذا الوجهِ من الإعرابِ ـ شذوذٌ مِن حيثُ دخولُ اللامِ على الخبرِ، معَ أنها خاصَّةٌ بالدخولِ على المبتدأِ.
وثانيهما: أنْ يكونَ (خالي) خبراً مقدَّماً، و(لأنتَ) مبتدأً مؤخَّراً، وهذا الوجهُ هو الذي قَصَدَ الشارِحُ الاستشهادَ بالبيتِ من أجلِه، وليسَ شاذًّا من الجهةِ التي ذَكَرْنَاهَا أَوَّلاً، وإنْ كانَ فيه الشذوذُ الذي ذَكَرَه الشارِحُ، وسَنُبَيِّنُه عندَ الكلامِ على الاستشهادِ، (ومَن) الواوُ للاستئنافِ، مَن: اسمٌ موصولٌ مبتدأٌ، (جَرِيرٌ) مبتدأٌ، (خَالُهُ) خالُ: خبرُ المبتدأِ الذي هو جَرِيرٌ، وخالُ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، والجملةُ مِن جَرِيرٌ وخبرِه لا مَحَلَّ لها؛ صلةُ الموصولِ، (يَنَل) فعلٌ مضارِعٌ جُزِمَ تشبيهاً للموصولِ بالشرطِ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى مَن، (العلاءَ) مفعولٌ به لِيَنَل، وجملةُ الفعلِ والفاعلِ والمفعولِ في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، وهو مَن، (ويَكْرُم) الواوُ عاطفةٌ، يَكْرُم: فعلٌ مضارعٌ معطوفٌ على (يَنَلِ)، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى مَن، (الأَخْوَالاَ) قالَ العَيْنِيُّ: هو مفعولٌ به. وهو بَعِيدٌ كلَّ البعدِ، ولا يَسُوغُ إلاَّ على أنْ يكونَ يَكْرُم مضارِعَ أَكْرَمَ مَبْنِيًّا للمجهولِ، والأَوْلَى أنْ يَكونَ قولُه: (يَكْرُم) مضارِعَ كَرُمَ، ويكونَ قولُه: (الأَخْوَالاَ) تمييزاً: إما على مذهَبِ الكُوفِيِّينَ الذين يُجَوِّزُونَ دخولَ (ألِ) المُعَرِّفَةِ على التمييزِ، وإما على أنْ تكونَ ألْ زائدةً على ما قالَه البَصْرِيُّونَ في قولِ الشاعرِ:
الشاهدُ فيه: في هذا البيتِ ثلاثةُ شواهدَ للنحاةِ:
الأَوَّلُ: في قولِهِ: (يَنَلِ العلاءَ)؛ فإنَّ هذا فعلٌ مضارعٌ لم يَسْبِقْهُ ناصِبٌ ولا جازِمٌ، وقد كانَ من حَقِّهِ أنْ يَجِيءَ به الشاعِرُ مرفوعاً فيقولَ: (يَنَالُ العلاءَ)، ولكِنَّه جاءَ به مجزوماً، فحَذَفَ عينَ الفعلِ كما يَحْذِفُها في (لَمْ يَخَفْ) ونحوِه، والحاملُ له على الجزمِ تشبيهُ الموصولِ بالشرطِ؛ كما شَبَّهَهُ الشاعِرُ به حيثُ يقولُ:
كذاكَ الذي يَبْغِي على الناسِ ظَالِماً = تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعْ
وليسَ لكَ أنْ تَزْعُمَ أنَّ (مَن) في قولِهِ: (مَن جَرِيرٌ خَالُهُ) شرطيَّةٌ؛ فلذلكَ جَزَمَ المضارِعَ في جَوَابِها؛ لأنَّ ذلكَ يَسْتَدْعِي أنْ تَجْعَلَ جملةَ (جَرِيرٌ خَالُهُ) شَرْطاً، وهو غيرُ جائزٍ عندَ أحدٍ من النحاةِ؛ لأنَّ جملةَ الشرطِ لا تكونُ اسْمِيَّةً أصلاً، (وانْظُرْ ـ معَ ذلكَ ـ شرحَ الشاهدِ رَقْمِ 58 الآتِي).
والشاهدُ الثاني: في قولِهِ: (وَيَكْرُمِ الأَخْوَالاَ)؛ فإنَّه تمييزٌ على ما اخْتَرْنَاهُ، وقد جاءَ به مَعْرِفَةً، وهذا يَدُلُّ للكُوفيِّينَ الذين يَرَوْنَ جوازَ مَجِيءِ التمييزِ مَعْرِفَةً، والبصريونَ يقولونَ: ألْ في هذا زائدةٌ، لا مُعَرِّفَةٌ.
والشاهدُ الثالثُ: وهو الذي مِن أَجْلِهِ أَنْشَدَ الشارِحُ في البيتِ هنا في قَوْلِهِ: (خَالِي لأَنْتَ)؛ حيثُ قَدَّمَ الخبرَ، معَ أنَّ المبتدأَ متَّصِلٌ بلامِ الابتداءِ شُذُوذاً.
وفي البيتِ توجيهاتٌ أُخرَى أَشَرْنا إلى أحدِها في الإعرابِ.
والثاني: أنه أرادَ (لَخَالِي أَنْتَ) فأَخَّرَ اللامَ إلى الخبرِ ضرورةً.
والثالثُ: أنْ يكونَ أصلُ الكلامِ: (خالي لهُو أنتَ)، فخالي: مبتدأٌ أوَّلُ، والضميرُ مبتدأٌ ثانٍ، وأنتَ: خبرُ الثاني، فحُذِفَ الضميرُ، فاتَّصَلَتِ اللامُ بخَبَرِه، معَ أنها لا تَزَالُ في صدرِ ما ذُكِرَ مِن جُمْلَتِها.
ومثلُ هذا البيتِ في هذين التوجيهيْنِ قولُ الراجِزِ:
أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ = تَرْضَى مِن اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ
([14]) (ونحوُ) مبتدأٌ، (عِنْدِي) عندِ: ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، وعندِ مضافٌ وياءُ المتكلِّمِ مضافٌ إليه، (دِرْهَمٌ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، (ولِي) الواوُ عاطفةٌ، لي: جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، (وَطَرْ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، (مُلْتَزَمٌ) اسمُ مفعولٍ: خبرُ المبتدأِ الذي هو قولُه: (نحوُ) في أَوَّلِ البيتِ، (فيهِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمُلْتَزَمٌ، (تَقَدُّمُ) نائبُ فاعلٍ لقولِهِ: (مُلْتَزَمٌ)، وتَقَدُّمُ مضافٌ و(الخبرِ) مضافٌ إليه.
([15]) (كذا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صفةٍ لموصوفٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه ما قبلَه؛ أي: يُلْتَزَمُ تَقَدُّمُ الخبرِ الْتِزَاماً كهذا الالتزامِ، (إِذَا) ظرفٌ للمستقبَلِ من الزمانِ، تَضَمَّنَ معنى الشرطِ، (عادَ) فعلٌ ماضٍ، (عليهِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بعادَ، (مُضْمَرُ) فاعلُ عادَ، (مِمَّا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بعادَ أيضاًً، وما اسمٌ موصولٌ، (بِهِ عَنْهُ) مُتَعَلِّقَانِ بيُخْبَرُ الآتِي، (مُبِيناً) حالٌ من المجرورِ في (بِهِ)، (يُخْبَرُ) فعلٌ مضارِعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه، والجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ صلةُ (ما) وجملةُ (عادَ عليه مُضْمَرُ) في محَلِّ جرٍّ بإضافةِ إذا إليها، وهي شرطُ إذا، وجَوَابُها محذوفٌ يَدُلُّ عليه سابقُ الكلامِ، وتقديرُ البيتِ: يُلْتَزَمُ تَقَدُّمُ الخبرِ الْتِزَاماً كذلكَ الالتزامِ السابقِ إذا عادَ على الخبرِ ضميرٌ من المبتدأِ الذي يُخْبَرُ بذلكَ الخبرِ عنه حالَ كونِه مُبَيِّناً ـ أي: مُفَسِّراً ـ لذلكَ الضميرِ.
قالَ ابنُ غازِيٍّ: وهذا البيتُ معَ تَعَقُّدِهِ وتَشْتِيتِ ضمائرِه كانَ يُغْنِي عنه وعمَّا بعدَه أنْ يقولَ:
كذا إذَا عادَ عليه مُضْمَرُ = مِن مُبْتَداً، وما لهُ التَّصَدُّرُ
([16]) (كذا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ مِثْلُ سابقِه في أوَّلِ البيتِ السابقِ، (إذا) ظرفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ من الزمانِ، (يَسْتَوْجِبُ) فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى الخبرِ، (التَّصْدِيرَا) مفعولٌ به لِيَسْتَوْجِبُ، والجملةُ في محلِّ جرٍّ بإضافةِ (إذا) إليها، (كَأَيْنَ) الكافُ جارَّةٌ لقولٍ محذوفٍ، أينَ: اسمُ استفهامٍ مبنيٌّ على الفتحِ في محَلِّ رفعِ خبرٍ مقدَّمٍ، (مَن) اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محَلِّ رفعِ مبتدأٍ مؤخَّرٍ، (عَلِمْتُهُ) فعلٌ وفاعلٌ ومفعولٌ أَوَّلُ، (نَصِيرَا) مفعولٌ ثانٍ لعَلِمَ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ صِلَةٌ.
([17]) (وخبرَ) مفعولٌ مُقَدَّمٌ لـ (قَدِّمِ) الآتِي، وخبرَ مضافٌ و(المحصورِ) مضافٌ إليه، (قَدِّمْ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه أنتَ، (أَبَدَا) منصوبٌ على الظرفيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بقَدِّمْ، (كما) الكافُ جارَّةٌ لقولٍ محذوفٍ، (ما) نافيةٌ، (لنا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، (إلاَّ) أداةُ استثناءٍ ملغاةٌ، (اتِّبَاعُ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، واتباعُ مضافٌ و(أَحْمَدَا) مضافٌ إليه مجرورٌ بالفتحةِ نيابةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه ممنوعٌ من الصرفِ للعَلَمِيَّةِ ووَزْنِ الفِعْلِ، والألفُ للإطلاقِ.
([18]) هذا البيتُ قد نَسَبَهُ قومٌ ـ منهم أبو عُبَيْدٍ البَكْرِيُّ في شرحِهِ على الأمالي (ص 401) - لنصيبِ بنِ رَبَاحٍ الأكبرِ، ونَسَبَه آخرونَ ـ ومنهم ابنُ نُبَاتَةَ المِصْرِيُّ في كِتابِه (سرحِ العيونِ) (ص 191 بولاق) إلى مجنونِ بَنِي عامرٍ مِن أبياتٍ أَوَّلُها قولُه:
ونَادَيْتُ يَا رَبَّاهُ أَوَّلُ سُؤْلَتِي = لِنَفْسِيَ لَيْلَى، ثُمَّ أَنْتَ حَسِيبُهَا
دعَا المُحْرِمُونَ اللَّهَ يَسْتَغْفِرُونَهُ = بمَكَّةَ يَوْماً أَنْ تُمَحَّى ذُنُوبُهَا
اللغةُ: (أَهَابُكِ) مِن الهَيْبَةِ، وهي المَخَافَةُ، (إِجْلاَلاً) إعظاماً لقَدْرِك.
المعنى: إني لأَهَابُكِ وأخافُكِ، لا لاقْتِدَارِكِ عَلَيَّ، ولكِنْ إعظاماً لِقَدْرِكِ؛ لأنَّ العينَ تَمْتَلِئُ بِمَن تُحِبُّه فتَحْصُلُ المَهَابَةُ، وهو معنًى أَكْثَرَ الشعراءُ منه؛ انْظُرْ إلى قولِ ابنِ الدُّمَيْنَةِ:
وَإِنِّي لأَسْتَحْيِيكِ حَتَّى كَأَنَّمَا = عَلَيَّ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مِنْكِ رَقِيبُ
الإعرابُ: (أَهَابُكِ) أَهَابُ: فعلٌ مضارعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُه أنا، والضميرُ البارِزُ المتَّصِلُ مفعولٌ به، مبنيٌّ على الكسرِ في مَحَلِّ نصبٍ، (إجلالاً) مفعولٌ لأجلِه، (وما) الواوُ واوُ الحالِ، وما: نافيةٌ، (بِكِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، (قُدْرَةٌ) مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، (عَلَيَّ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقُدْرَةٌ، أو بمحذوفٍ نعتٍ لقُدْرَةٌ، (ولَكِنْ) حرفُ استداركٍ، (مِلْءُ) خبرٌ مقدَّمٌ، ومِلْءُ مضافٌ و(عينٍ) مضافٌ إليه، (حَبِيبُهَا) حبيبُ: مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وحبيبُ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه.
الشاهدُ فيه: قولُه: (مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا)؛ فإنَّه قَدَّمَ الخبرَ؛ وهو قولُه: (مِلْءُ عَيْنٍ) على المبتدأِ؛ وهو قولُه: (حَبِيبُها)؛ لاتصالِ المبتدأِ بضميرٍ يعودُ على مُلابِسِ الخبَرِ، وهو المضافُ إليه، فلو قَدَّمْتَ المبتدأَ ـ معَ أنَّكَ تَعْلَمُ أنَّ رُتْبَةَ الخبرِ التأخيرُ ـ لعادَ الضميرُ الذي اتَّصَلَ بالمبتدأِ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبَةً، وذلك لا يجوزُ، لكنَّكَ بتقديمِكَ الخبرَ قد رَجَّعْتَ الضميرَ على متقدِّمٍ لفظاً وإنْ كانَتْ رُتْبَتُه التأخيرَ، وهذا جائزٌ، ولا إشكالَ فيه.
([19]) مثلُ ذلكَ المثالِ: كلُّ كلامٍ اتَّصَلَ فيه ضميرٌ بالفاعلِ المتقدِّمِ، وهذا الضميرُ عائدٌ على المفعولِ المتأخِّرِ، نحوُ مثالِ ابنِ مالكٍ في بابِ الفاعلِ مِن الألفيَّةِ: (زَانَ نَوْرُهُ الشَّجَرَ) برفعِ (نَوْرُهُ) على أنه فاعلُ زانَ، ونَصْبِ (الشجرَ) على أنه مفعولُه ـ ونحوُ قولِ الشاعرِ:
جَزَى بَنُوهُ أَبَا الغِيلاَنِ عَنْ كِبَرٍ = وَحُسْنِ فِعْلٍ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ
ونحوُ قولِ الشاعرِ الآخَرِ:
كَسَا حِلْمُه ذَا الحِلْمِ أَثْوَابَ سُؤْدَدٍ = ورَقَّى نَدَاهُ ذَا النَّدَى في ذُرَى الْمَجْدِ
وسيأتي بيانُ ذلكَ وإيضاحُه في بابِ الفاعلِ.
([20]) وأيضاً فإنَّ المفعولَ قد تَقَدَّمَ على الفاعلِ كثيراً في سَعَةِ الكلامِ، نحوُ: (ضَرَبَ عَمْراً زيدٌ)، حتَّى لَيُظَنُّ أنَّ رُتْبَتَه قد صَارَتِ التقدُّمَ، بخلافِ الخبرِ؛ فإنَّه ـ وإنْ تَقَدَّمَ على المبتدأِ أحياناً ـ لا يَتَصَوَّرُ أحدٌ أنَّ رُتْبَتَهُ التقدُّمُ؛ لكونِهِ حُكْماً، والحُكْمُ في مَرْتَبَةِ التأخُّرِ عن المحكومِ عليه أَلْبَتَّةَ.
وأيضاً فإنَّ الفاعلَ والفعلَ المتعدِّيَ جَميعاً يُشْعِرَانِ بالمفعولِ، فكانَ المفعولُ كالمتقدِّمِ، بخلافِ الخبرِ المتَّصِلِ بمبتدئِه ضميرٌ يعودُ على مُلابِسِه؛ فإنَّ المبتدأَ إنْ أَشْعَرَ بالخبرِ لم يُشْعِرْ بما يُلاَبِسُ الخبرَ الذي هو مَرْجِعُ الضميرِ.