دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > ألفية العراقي

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16 ذو القعدة 1429هـ/14-11-2008م, 07:35 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي المرسل

الْمُرْسَلُ

(120) مَرفوعُ تابِعٍ على الْمَشهورِ = مُرْسَلٌ او قَيِّدْهُ بالكبيرِ
أو سَقْطُ راوٍ منه ذو أَقوالِ = والأوَّلُ الأكثَرُ في استعمالِ
واحْتَجَّ مالِكٌ كذا النُّعمانُ = وتابِعُوهُما به ودَانُوا
ورَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقَّادِ = للجَهْلِ بالساقِطِ في الإسنادِ
وصاحِبُ التمهيدِ عنهم نَقَلَهْ = ومسلِمٌ صَدْرَ الكِتابِ أَصَّلَهْ
(125) لكنْ إذا صَحَّ لنا مَخْرَجُهُ = بمسنَدٍ أو مرْسَلٍ يُخْرِجُهُ
مَن ليس يَرْوِي عن رجالِ الأَوَّلِ = نَقْبَلْهُ قُلتُ الشيخُ لم يُفَصِّلِ
والشافعيُّ بالكِبارِ قَيَّدَا = ومَن رَوَى عن الثِّقاتِ أَبَداً
ومَن إذا شارَكَ أهْلَ الْحِفْظِ = وافَقَهم إلا بنَقْصِ لَفْظِ
فإنْ يُقَلْ فالمسنَدُ الْمُعْتَمَدُ = فقُلْ دليلانِ بهِ يَعْتَضِدُ
(130) ورَسَمُوا مُنْقَطِعاً عن رَجُلِ = وفي الأصولِ نَعْتُهُ بالْمُرْسَلِ
أمَّا الذي أَرْسَلَه الصَّحابِي = فحُكمُه الوَصْلُ على الصَّوابِ


  #2  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 01:56 PM
مسلمة 12 مسلمة 12 غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,159
افتراضي شرح الناظم

الْمُرْسَلُ
(120) مَرفوعُ تابِعٍ على الْمَشهورِ مُرْسَلٌ او قَيِّدْهُ بالكبيرِ
(121)أو سَقْطُ راوٍ منه ذو أَقوالِ والأوَّلُ الأكثَرُ في استعمالِ
اخْتُلِفَ في حَدِّ الحديثِ الْمُرْسَلِ (فالمشهورُ) أنه ما رَفَعَه التابِعِيُّ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، سواءٌ أكانَ مِن كِبارِ التابعينَ كعُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الْخِيَارِ وقَيْسِ بنِ أبي حازِمٍ وسعيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ وأمثالِهم، أمْ مِن صِغارِ التابعينَ كالزُّهْرِيِّ وأبي حازِمٍ ويحيى بنِ سعيدٍ الأنصارِيِّ وأَشْبَاهِهم.
(والقولُ الثاني) أنه ما رَفَعَه التابِعِيُّ الكبيرُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ وهذا معنى قولِه: (أو قَيِّدْهُ بالكبيرِ) أيْ: بالكبيرِ مِن التابعينَ، فهذه الصورةُ لا خِلافَ فيها كما قالَ ابنُ الصَّلاحِ. أمَّا مَراسيلُ صِغارِ التابعينَ فإنها لا تُسَمَّى مُرسَلَةً على هذا القولِ بل هي مُنقطِعَةٌ، هكذا حكاهُ ابنُ عبدِ الْبَرِّ عن قومٍ مِن أهْلِ الحديثِ؛ لأنَّ أكْثَرَ رِوَايَتِهم عن التابعينَ، ولم يَلْقَوْا مِن الصحابةِ إلاَّ الواحِدَ والاثنينِ.
قلتُ: هكذا مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ صِغارَ التابعينَ بالزُّهْرِيِّ ومَن ذَكَرَ، وذَكَرَ في (التعليلِ) أنهم لم يَلْقَوْا مِن الصحابةِ إلاَّ الواحِدَ والاثنينِ، وليس ذلك بصحيحٍ بالنِّسبةِ إلى الزُّهْرِيِّ فقد لَقِيَ مِن الصحابةِ اثْنَيْ عَشَرَ فأكثَرَ وهم: عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وأنَسُ بنُ مالِكٍ، وسهْلُ بنُ سَعْدٍ، وربيعةُ بنُ عَبَّادٍ وعبدُ اللهِ بنُ جَعفرٍ، والسائِبُ بنُ يَزيدَ، وسِنينُ أبو جَميلةَ، وعبدُ اللهِ بنُ عامرِ بنِ ربيعةَ، وأبو الطُّفَيْلِ، ومحمودُ بنُ الربيعِ، والْمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ، وعبدُ الرحمنِ بنُ أزْهَرَ، ولم يَسْمَعْ مِن عبدِ اللهِ بنِ جَعفرٍ بل رآهُ رؤيةً.
وقيلَ: إنه سَمِعَ مِن جابرٍ، وقد سَمِعَ مِن محمودِ بنِ لَبيدٍ، وعبدِ اللهِ بنِ الحارثِ بنِ نَوْفَلٍ وثعلبةَ بنِ أبي مالِكٍ القُرَظِيِّ وهم مختَلَفٌ في صُحْبَتِهم، وأنكَرَ أحمدُ ويحيى سَمَاعَه مِن ابنِ عمرَ، وأَثْبَتَه عليُّ بنُ الْمَدِينِيِّ.
و(القولُ الثالثُ) أنه ما سَقَطَ راوٍ مِن إسنادِه فأَكْثَرُ مِن أيِّ مَوْضِعٍ كانَ، فعلى هذا الْمُرْسَلُ والمنقَطِعُ واحدٌ. قالَ ابنُ الصَّلاحِ: والمعروفُ في الفِقْهِ وأصولِه: أنَّ ذلك يُسَمَّى مُرْسَلاً وبه قطَعَ الخطيبُ، قالَ الخطيبُ: إلاَّ أنَّ أكثَرَ ما يُوصَفُ بالإرسالِ مِن حيثُ الاستعمالِ ما رواه التابِعِيُّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ وقَطَعَ الحاكمُ وغيرُه مِن أهْلِ الحديثِ: أنَّ الإرسالَ مخصوصٌ بالتابعينَ، وسيَجيءُ في فَصْلِ التدليسِ: أنَّ ابنَ القَطَّانِ قالَ: إنَّ الإرسالَ روايتُه عمَّن لم يَسْمَعْ منه، فعلى هذا مَن روى عمَّن سَمِعَ منه ما لم يَسْمَعْه منه بل بَيْنَه وبَيْنَه فيه واسطةٌ ليس بإرسالٍ بل هو تدليسٌ، وعلى هذا فيكونُ هذا (قولاً رابعاً) في حَدِّ الْمُرْسَلِ.
(122) واحْتَجَّ مالِكٌ كذا النُّعمانُ وتابِعُوهُما به ودَانُوا
(123)ورَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقَّادِ للجَهْلِ بالساقِط في الإسنادِ
(124)وصاحِبُ التمهيدِ عنهم نَقَلَهْ ومسلِمٌ صَدْرَ الكِتابِ أَصَّلَهْ
اختَلَفَ العلماءُ في الاحتجاجِ بالمرْسَلِ فذَهَبَ مالِكُ بنُ أنَسٍ، وأبو حَنيفةَ النُّعمانُ بنُ ثابِتٍ وأتباعُهما في طائفةٍ إلى الاحتجاجِ به، فقولُه: (وتابِعُوهُما) أي التابعونَ لهما (ودَانُوا) أيْ: جَعَلُوه دِيناً يَدِينُونَ به، وذَهَبَ أكثَرُ أهْلِ الحديثِ إلى أنَّ الْمُرْسَلَ ضعيفٌ لا يُحْتَجُّ به، وحكاهُ ابنُ عبدِ الْبَرِّ في مُقَدِّمَةِ (التمهيدِ) عن جماعةٍ مِن أصحابِ الحديثِ.
وقالَ مسلِمٌ في صَدْرِ كتابِه الصحيحِ: المرسَلُ في أصْلِ قولِنا وقولِ أهلِ العلْمِ بالأخبارِ ليس بِحُجَّةٍ.
هكذا أطْلَقَ ابنُ الصلاحِ نقْلَه عن مسلِمٍ، ومسلِمٌ إنما ذَكَرَه في أثناءِ كلامِ خَصْمِه الذي رَدَّ عليه اشتراطَ ثُبوتِ اللقاءِ فقالَ: فإنْ قالَ: قُلْتُه لأني وَجَدْتُ رُواةَ الأخبارِ قَديماً وحَديثاً كلَّهم يَرْوِي أحَدُهم عن الآخَرِ الحديثَ ولَمَّا يُعَايِنْه وما سَمِعَ منه شيئاً قطُّ، فلَمَّا رأيتُهم استَجَازُوا روايةَ الحديثِ بينَهم هكذا على الإرسالِ مِن غيرِ سَمَاعٍ، والمرسَلُ مِن الراوياتِ في أصْلِ قولِنا وقولِ أهْلِ العلْمِ بالأخبارِ ليس بِحُجَّةٍ - احْتَجْتُ لِمَا وَصَفْتُ مِن العِلَّةِ إلى البحْثِ عن سماعِ راوِي كلِّ خَبَرٍ عن راوِيهِ. إلى آخِرِ كلامِه، فهذا كما تَراهُ حَكاهُ على لسانِ خَصْمِه، ولكنه لَمَّا لم يَرُدَّ هذا القدْرَ منه حين رَدَّ كلامَه كان كأنه قائلٌ به، فلهذا نَسَبَه ابنُ الصلاحِ إليه.
وقولُه: (للجَهْلِ بالساقِطِ) هو تعليلٌ لِرَدِّ المرسَلِ، وذلك أنه تَقَدَّمَ أنَّ مِن شرْطِ الحديثِ الصحيحِ ثِقَةَ رجالِه والمرسَلُ سَقَطَ منه رجُلٌ لا يُعْلَمُ حالُه فعُدِمَ معرِفَةُ عدالةِ بعضِ رُواتِه وإنِ اتَّفَقَ أنَّ الذي أرْسَلَه كان لا يَرْوِي إلاَّ عن ثِقَةٍ، فالتوثيقُ في الرجُلِ الْمُبْهَمِ غيرُ كافٍ، كما سيأتِي إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
(125) لكن إذا صَحَّ لنا مَخْرَجُهُ بمسنَدٍ أو مرْسَلٍ يُخْرِجُهُ
(126)مَن ليس يَرْوِي عن رجالِ الأَوَّلِ نَقْبَلْهُ قُلتُ الشيخُ لم يُفَصِّلِ
(127)والشافعيُّ بالكِبارِ قَيَّدَا ومَن رَوَى عن الثِّقاتِ أَبَداً
(128)ومَن إذا شارَكَ أهْلَ الْحِفْظِ وافَقَهم إلا بنَقْصِ لَفْظِ
هذا استدراكٌ لكونِ الْمُرْسَلِ يُحْتَجُّ به إذا أُسْنِدَ مِن وجهٍ آخَرَ أو أرْسَلَه مَن أَخَذَ العلْمَ عن غيرِ رجالِ المرسَلِ الأوَّلِ.
وقولُه: (نَقْبَلْهُ) هو مجزومٌ جوابٌ للشرْطِ على مَذهبِ الكُوفِيِّينَ والأخفَشِ كقولِ الشاعرِ:
وإذا تُصِبْكَ مُصيبةٌ فاصْبِرْ لها وإذا تُصِبْكَ خَصاصةٌ فتَجَمَّلِ
وقولُه: (قلتُ الشيخُ) إلى آخِرِ الأبياتِ الأربعةِ مِن الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، وهو اعتراضٌ عليه في حِكايتِه لكلامِ الشافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه قالَ ابنُ الصَّلاحِ: اعلَمْ أنَّ حُكْمَ الْمُرْسَلِ حُكْمُ الحديثِ الضعيفِ، إلاَّ أنْ يَصِحَّ مَخْرَجُه بمجيئِه مِن وجهٍ آخَرَ كما سَبَقَ بيانُه في نوعِ الْحَسَنِ.
والذي ذَكَرَ أنه سَبَقَ أنه حُكِيَ هناك نصُّ الشافعِيِّ في مَراسيلِ التابعينَ أنه يَقْبَلُ منها الْمُرْسَلَ الذي جاءَ نحوُه مُسْنَداً، وكذلك لو وافَقَه مُرْسَلٌ آخَرُ أرْسَلَه مَن أخَذَ العلْمَ عن غيرِ رجالِ التابعِيِّ الأُوَلِ في كلامٍ له ذَكَرَ فيه وُجوهاً مِن الاستدلالِ على صِحَّةِ مَخرَجِ المرسَلِ بمجيئِه مِن وجْهٍ آخَرَ. انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ.
ووجهُ الاعتراضِ عليه أنه أطْلَقَ القولَ عن الشافِعِيِّ بأنه يَقبلُ مُطْلَقَ الْمُرْسَلِ إذا تَأَكَّدَ بما ذَكَرَه.
والشافعيُّ إنما يَقبلُ مَراسِيلَ كِبارِ التابعينَ إذا تَأَكَّدَتْ مع وُجودِ الشرْطَيْنِ المذكورَيْنِ في كلامِي كما نَصَّ عليه في كتابِ (الرسالةِ) ومِمَّنْ رَوى كلامَ الشافِعِيِّ كذلك أبو بكرٍ الْخَطيبُ في (الكِفايةِ) وأبو بكرٍ البَيهَقِيُّ في (الْمَدْخَلِ) بإسنادَيْهِما الصحيحينِ إليه أنه قالَ: والْمُنْقَطِعُ مُخْتَلِفٌ فمَن شاهَدَ أصحابَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن التابعينَ فحَدَّثَ حديثاً منْقَطِعاً عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ اعتُبِرَ عليه بأمورٍ (منها) أنْ يُنْظَرَ إلى ما أَرْسَلَ مِن الحديثِ فإنْ شَرَكَه فيه الْحُفَّاظُ المأمونونَ فأَسْنَدُوهُ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بِمِثْلِ معنى ما روى كانتْ هذه دَلالةً على صِحَّةِ ما قِيلَ عنه وحَفِظَه، وإن انْفَرَدَ بإرسالِ حديثٍ لم يَشْرَكْهُ فيه مَن يُسْنِدُه قبلَ ما يَنْفَرِدُ به مِن ذلك ويُعْتَبَرُ عليه بأنْ يُنْظَرَ هل يُوَافِقُه مُرْسَلٌ وغيرُه مِمَّنْ قَبِلَ العلْمُ مِن غيرِ رجالِه الذين قُبِلَ عنهم.
فإن وُجِدَ ذلك كانتْ دَلالةً تُقَوِّي له مُرْسَلَه وهي أضْعَفُ مِن الأُولَى، وإنْ لم يُوجَدْ ذلك نُظِرَ إلى بعضِ ما يُرْوَى عن بعضِ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- قولاً له، فإنْ وُجِدَ يُوَافِقُ ما رُوِيَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانتْ في هذا دَلالةٌ على أنه لم يَأْخُذْ مُرْسَلَه إلاَّ عن أصْلٍ يَصِحُّ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
وكذلك إنْ وُجِدَ عَوَامٌّ مِن أهْلِ العلْمِ يُفتونَ بِمِثلِ معنى ما رَوَى عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ثم يُعْتَبَرُ عليه بأنْ يكونَ إذا سَمَّى مَن روَى عنه لم يُسَمِّ مجهولاً ولا مَرغوباً عن الروايةِ عنه فيُستَدَلُّ بذلك على صِحَّتِه فيما رُوِيَ عنه، ويكونُ إذا شَرَكَ أحداً مِن الْحُفَّاظِ في حديثِه لم يُخالِفْهُ فإنْ خالَفَه بأنْ وُجِدَ حديثُه أنْقَصَ كانت في هذه دلائلُ على صِحَّةِ مَخْرَجِ حديثِه، ومتى خالَفَ ما وَصَفْتُ أضَرَّ بحديثِه حتى لا يَسَعَ أحَداً قَبولُ مرسَلِه.
قالَ: وإذا وُجِدَت الدلائلُ بصِحَّةِ حديثِه بما وَصَفْتُ أحْبَبْنَا أنْ نَقبلَ مُرْسَلَه ثم قالَ: فأمَّا مَن بعدَ كِبارِ التابعينَ فلا أعْلَمُ أحداً يُقبلُ مُرسَلَه لأمورٍ (أحَدُها) أنهم أَشَدُّ تَجَوُّزاً فيمَن يَرْوُونَ عنه، والآخَرُ أنهم وُجِدَ عليهم الدلائلُ فيما أرْسَلُوا لضعْفِ مَخْرَجِه، والآخَرُ كثرَةُ الإحالةِ في الأخبارِ، وإذا كَثُرَت الإحالةُ كان أمْكَنَ للوَهْمِ وضعْفِ مَن يُقْبَلُ عنه.
قالَ البَيهَقِيُّ: وقولُ الشافِعِيِّ: أحْبَبْنَا أنْ نَقبلَ مُرسَلَه. أرادَ به اخْتَرْنَا ، انتهى.
فقولِي: (ومَن رَوَى عن الثِّقاتِ أَبَداً) أيْ: إذا أرْسَلَ وسَمَّى مَن أرْسَلَ عنه لم يُسَمِّ إلاَّ ثِقةً فيكونُ المرادُ: ومَن رَوَى ما أَرْسَلَه عن الثِّقاتِ ويَحْتَمِلُ: ومَن رَوَى مُطْلَقاً عن الثِّقاتِ الْمَرَاسِيلَ وغيرَها. وعِبارةُ الشافعيِّ مُحْتَمِلَةٌ للأمرينِ فلْيُحْمَل النظْمُ على أرجَحِ مَحْمَلَيْ كلامِ الشافِعِيِّ، رَضِيَ اللهُ عنه.
(129) فإنْ يُقَلْ فالمسنَدُ الْمُعْتَمَدُ فقُلْ دليلانِ بهِ يَعْتَضِدُ
أيْ: فإنْ قِيلَ قولُكم يَقْبَلُ المرسَلَ إذا جاءَ مُسْنَداً مِن وجهٍ آخَرَ لا حاجةَ حينئذٍ إلى المرسَلِ بل الاعتمادُ حينئذٍ على الحديثِ المسنَدِ، فالجوابُ أنه بالمسنَدِ تَبَيَّنَّا صِحَّةَ الْمُرْسَلِ وصارَا دليلينِ يُرَجَّحُ بهما عندَ معارَضَةِ دليلٍ واحدٍ فقولُه: (به) أيْ: بالْمُسْنَدِ يَعْتَضِدُ المرسَلُ.
(130) ورَسَمُوا مُنْقَطِعاً عن رَجُلِ وفي الأصولِ نَعْتُهُ بالْمُرْسَلِ
أيْ: إذا قِيلَ في إسنادٍ عن رجُلٍ أو عن شيخٍ. أو نحوُ ذلك، فقالَ الحاكِمُ: لا يُسَمَّى مُرْسَلاً بل مُنْقَطِعاً، وكذا قالَ ابنُ القَطَّانِ في كتابِ (بيانِ الوهْمِ والإيهامِ) إنه منْقَطِعٌ، وفي (الْبُرهانِ) لإمامِ الْحَرَمَيْنِ قالَ: وقولُ الراوِي: أخْبَرَنِي رجُلٌ أو عَدْلٌ مَوثوقٌ به مِن المرسَلِ أيضاً قالَ: وكذلك كتَبَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ. التي لم يُسَمَّ حامِلُها، وفي (المحصولِ) أنَّ الراوِيَ إذا سَمَّى الأَصْلَ باسْمٍ لا يُعْرَفُ به فهو كالمرسَلِ.
قلتُ: وفي كلامِ غيرِ واحِدٍ مِن أهْلِ الحديثِ أنه مُتَّصِلٌ في إسنادِه مجهولٌ وحَكاهُ الرشيدُ العَطَّارُ في الغُرَرِ المجموعةِ عن الأكثرينَ، واختارَه شَيْخُنا الحافِظُ أبو سعيدٍ العلائِيُّ في كتابِ (جامعِ التحصيلِ).
(131) أمَّا الذي أَرْسَلَه الصَّحابِي فحُكمُه الوَصْلُ على الصَّوابِ
أيْ: أمَّا مَراسيلُ الصحابةِ فحُكْمُها حُكْمُ الْمَوصولِ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ: ثم إنَّا لم نَعُدَّ في أنواعِ المرسَلِ ونحوِه ما يُسَمَّى في أصولِ الفِقهِ مُرْسَلَ الصحابِيِّ مِثلَ ما يَرويهِ ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه مِن أحداثِ الصحابةِ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ولم يَسمعوهُ منه لأنَّ ذلك في حكْمِ الموصولِ المسنَدِ؛ لأنَّ رِوايتَهم عن الصحابةِ ، والْجَهَالَةُ بالصحابِيِّ غيرُ قادِحَةٍ لأنَّ الصحابةَ كلَّهم عُدولٌ.
قلتُ: قولُه: لأنَّ رِوايتَهم عن الصحابةِ. فيه نَظَرٌ، والصوابُ أنْ يُقالَ: لأنَّ غالِبَ رِوايتِهم. إذ قد سَمِعَ جَماعةٌ مِن الصحابةِ مِن بعْضِ التابعينَ، وسَيأتِي في كلامِ ابنِ الصلاحِ في روايةِ الأكابِرِ عن الأصاغِرِ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ وبَقِيَّةَ العَبَادِلَةِ رَوَوْا عن كعْبِ الأحبارِ وهو مِن التابعينَ.
وروى كعْبٌ أيضاً عن التابعينَ ولم يَذْكُر ابنُ الصلاحِ خِلاَفاً في مُرْسَلِ الصحابِيِّ ، وفي بعضِ كُتُبِ الأصولِ للحَنَفِيَّةِ أنه لا خِلافَ في الاحتجاجِ به ، وليس بِجَيِّدٍ ، فقدْ قالَ الأستاذُ أبو إسحاقَ الإسفرايِنِيُّ: إنه لا يُحْتَجُّ به والصوابُ ما تَقَدَّمَ.

  #3  
قديم 23 ذو الحجة 1429هـ/21-12-2008م, 11:17 AM
مسلمة 12 مسلمة 12 غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,159
افتراضي فتح الباقي لأبي زكريا الأنصاري

المرْسَلُ

مَرفوعُ تابِعٍ على الْمَشهورِ مُرْسَلٌ او قَيِّدْهُ بالكبيرِ
أو سَقْطَ راوٍ منه ذو أَقوالِ والأوَّلُ الأكثَرُ في استعمالِ
ويُجْمَعُ على مَراسيلَ ومَرَاسِلَ، مأخوذٌ مِن الإرسالِ وهو: الإطلاقُ؛ كقولِه تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
فكأنَّ المرْسِلَ أطْلَقَ الإسنادَ ولم يُقَيِّدْه بجميعِ الرُّواةِ.
(مرفوعُ تابعٍ) أيْ: ما رَفَعَه تابِعِيٌّ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؛ صريحًا أو كِنايةً (على المشهورِ) عند أئِمَّةِ الْمُحَدِّثِينَ (مُرْسَلٌ).
وقَيَّدَه شَيْخُنَا بما لم يَسْمَعْهُ مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ليُخْرِجَ مَن لَقِيَهُ كافرًا فسَمِعَ منه ثم أَسْلَمَ بعدَ مَوتِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ وحَدَّثَ بما سَمِعَ منه كالتَّنُوخِيِّ رسولِ هِرَقْلَ - ورُوِيَ قَيْصَرَ - فإنه مع كَوْنِه تابِعِيًّا محكومٌ لِمَا سَمِعَه بالاتِّصالِ لا بالإرسالِ.
وخَرَجَ بالتابعِيِّ مُرْسَلُ الصحابِيِّ وسيأتي آخِرَ البابِ، ولا فَرْقَ في التابِعِيِّ بينَ الكبيرِ والصغيرِ.
(او) بالدَّرْجِ (قَيِّدْه) أيْ: أو الْمُرْسَلُ مرفوعُ تابعِيٍّ مُقَيَّدٌ (بالكبيرِ) فمرفوعُ الصغيرِ لا يُسَمَّى مُرْسَلاً بل مُنْقَطِعًا. وظاهِرٌ أنَّ ذِكْرَ الكبيرِ هنا وفيما يَأْتِي جَرَى على الغالِبِ، والمرادُ مَن كانَ جُلُّ رِوايتِه عن الصحابةِ، وفي كلامِهم ما يُشيرُ إليه. (أو سَقْطَ رَاوٍ منه) أيْ: أو الْمُرْسَلُ: ما سَقَطَ مِن سَنَدِه رَاوٍ واحدٌ أو أكْثَرُ؛ سواءٌ أكانَ مِن أوَّلِه أمْ آخِرِه، أمْ بينَهما، فيَشْمَلُ المنقَطِعَ والمعْضَلَ والمعَلَّقَ. وهذا ما حكاه ابنُ الصلاحِ عن الفُقهاءِ والأُصُولِيِّينَ، والخطيبِ.
وكذا قالَ النَّوَوِيُّ: المرسَلُ عندَ الفُقهاءِ والأُصولِيِّينّ والخطيبِ وجماعةٍ مِن الْمُحَدِّثِينَ: ما انقَطَعَ إسنادُه على أيِّ وجهٍ كانَ، وخالَفَنَا أكثرُ الْمُحَدِّثِينَ فقالوا: هو روايةُ التابِعِيِّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
فالمرسَلُ (ذو أقوالِ) ثلاثةٍ، الثاني أضْيَقُها، والثالثُ أوْسَعُها (والأوَّلُ الأكثَرُ في استعمالِ) أهْلِ الحديثِ.
وما رَواهُ تابعُ التابِعِيِّ يُسَمُّونَه مُعْضَلاً.
قالَ الناظِمُ: وسيَجِيءُ في التدليسِ عن ابنِ القَطَّانِ أنَّ الإرسالَ: رِوايتُه عمَّن لم يَسْمَعْ منه. فعليه مَن روى عمَّن سَمِعَ منه ما لم يَسْمَعْ منه بل بَيْنَه وبَيْنَه فيه واسِطَةٌ - ليس بإرسالٍ بل تدليسٌ، وعليه فيكونُ هذا قولاً رابعًا. انتهى.
والأَوْجَهُ أنْ يُجْعَلَ مُقَيِّدًا للثالثِ بأنْ يُقالَ: ما سَقَطَ منه راوٍ فأكثَرُ وخَلاَ عن التدليسِ.
نَعَمْ قِيلَ: المرسَلُ هو المنقطِعُ، وهو: ما سقَطَ منه راوٍ واحدٌ؛ فعليه هذا يكونُ رابعًا.
واحْتَجَّ مالِكٌ كذا النُّعمانُ وتابِعُوهُما به ودَانُوا
ورَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقَّادِ للجَهْلِ بالساقِط في الإسنادِ
وصاحِبُ (التمهيدِ) عنهم نَقَلَهْ ومسلِمٌ صَدْرَ الكِتابِ أَصَّلَهْ
(واحْتَجَّ) الإمامُ (مالِكٌ) هو ابنُ أنَسٍ في المشهورِ عنه، و(كذا) أبو حَنيفةَ (النُّعمانُ) بنُ ثابتٍ (وتابِعُوهُما) مِن الفُقهاءِ والأُصُولِيِّينَ والْمُحَدِّثِينَ (به) أيْ: بالمرسَلِ، واحتَجَّ به أيضًا أحمدُ في أشْهَرِ الروايتينِ عنه (ودَانُوا) به أيْ: جَعَلُوهُ دِينًا يَدِينُونَ به في الأحكامِ وغيرِها.
(ورَدَّهُ) أيِ: الاحتجاجَ به (جَمَاهِرُ) بحَذْفِ الياءِ تَخفيفًا جَمْعُ جُمهورٍ أيْ: مُعْظَمُ (النُّقَّادِ) مِن الْمُحَدِّثِينَ كالشافعِيِّ، وحَكَمُوا بضَعْفِه (للجهْلِ بالساقِطِ في الإسنادِ).
فإنه يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ تابِعِيًّا، ثم يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ ذلك التابِعِيُّ ضَعيفًا، وبتقديرِ كونِه ثِقَةً يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ روى عن تابِعِيٍّ أيْضًا فيَحْتَمِلُ أنْ يكونَ ضَعيفًا، وهكذا إلى الصحابِيِّ، وإنِ اتَّفَقَ أنَّ الذي أرْسَلَه كانَ لا يَرْوِي إلاَّ عن ثِقَةٍ؛ إذ التوثيقُ في الْمُبْهَمِ غيرُ كافٍ كما سيأتي.
(وصاحبُ التمهيدِ) وهو ابنُ عبدِ الْبَرِّ (عنهم) أيْ: عن الْمُحَدِّثِينَ (نَقَلَهْ) أيْ: ضعْفَ المرسَلِ.
(ومسلِمٌ صَدْرَ الكتابِ) الذي صَنَّفَه في الصحيحِ (أصَّلَه) أيْ: جَعَلَ رَدَّ الاحتجاجِ به أصْلاً؛ حيثُ قالَ على وَجْهِ الإيرادِ على لسانِ خَصْمِه الذي رَدَّ هو عليه اشتراطَ ثُبوتِ اللقاءِ: والمرسَلُ في أصْلِ قولِنا وقولِ أهلِ العلْمِ بالأخبارِ ليس بحُجَّةٍ، وأَقَرَّه حينَ رَدَّ كلامَه.
وما احْتَجَّ به للقولِ الأوَّلِ مِن أنه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ أَثْنَى على عصْرِ التابعينَ وَشَهِدَ له بالخيريَّةِ، ثم للقَرنينِ بعدَ قَرْنِ الصحابةِ، ومِن أنَّ تعاليقَ البخاريِّ المجزومةَ محكومٌ بصِحَّتِها.
رُدَّ بأنَّ الحديثَ محمولٌ على الغالِبِ، وإلاَّ فقد وُجِدَ في القَرنينِ مَن هو مُتَّصِفٌ بالصفاتِ المذمومةِ، وتعاليقُ البخاريِّ قد عُلِمَتْ صِحَّتُها مِن شَرْطِه في الرجالِ وتَقييدِه بالصحَّةِ، بخِلافِ التابعينَ.
لكن إذا صَحَّ لنا مَخْرَجُهُ بمسنَدٍ أو مرْسَلٍ يُخْرِجُهُ
مَن ليس يَرْوِي عن رجالِ الأَوَّلِ نَقْبَلْهُ قُلتُ: الشيخُ لم يُفَصِّلِ
والشافعيُّ بالكِبارِ قَيَّدَا ومَن رَوَى عن الثِّقاتِ أَبَداَ
ومَن إذا شارَكَ أهْلَ الْحِفْظِ وافَقَهم إلا بنَقْصِ لَفْظِ
(لكنْ إذا صَحَّ لنا) أيْ: أَيُّها الْمُحَدِّثُونَ خُصوصًا الشافعيَّةُ تَبَعًا لإمامِهم (مَخْرَجُهُ) أيِ: اتِّصَالُ المرسَلِ (بمسنَدٍ) يَجيءُ مِن وَجْهٍ آخَرَ صحيحٍ أو حسَنٍ أو ضعيفٍ يَعْتَضِدُ به (أو مرسَلٍ) آخَرَ (يُخْرِجُه) أيْ: يُرْسِلُه (مَن ليسَ يَرْوِي عن رِجالٍ) أيْ: شيوخِ راوِي المرسَلِ (الأوَّلِ) حتى يُظَنَّ عدَمُ اتِّحَادِهما (نَقْبَلْهُ) بجَزْمِه جوابًا لـ (إذا) على مَذهبِ الكُوفيِّينَ والأخفَشِ، وعلى مَذهَبِ غيرِهم للوزْنِ؛ كقولِ شاعِرٍ:
وإِذَا تُصِبْكَ مُصيبةٌ فاصْبِرْ لها وإذا تُصِبْكَ خَصاصةٌ فتَحَمَّلِ
وكذا نَقْبَلُه إذا اعْتَضَدَ بموافَقَةِ قَوْلِ بعضِ الصحابةِ، أو بفَتْوَى عَوَامِّ أهْلِ العلْمِ، وقُوَّةُ هذه الأربعةِ مُتَرَتِّبَةٌ بتَرتيبِها المذكورِ.
(قلتُ: الشيخُ) ابنُ الصلاحِ (لم يُفَصِّل) في المرسَلِ المعتَضِدِ بينَ كِبارِ التابعينَ وصِغارِهم، وكأنه بَناهُ على المشهورِ في تعريفِه كما مَرَّ.
(و) الإمامُ (الشافعِيُّ) الذي أخَذَ ابنُ الصلاحِ مِن كلامِه ذلك (بالكِبارِ) منهم (قَيَّدَا) المعتَضِدَ، (ومَن) أيْ: وقَيَّدَه أيضًا بِمَن (رَوَى) مِنهم (عن الثِّقاتِ أبَداَ)؛ بحيث إذا سَمَّى مَن روى عنه لم يُسَمِّ مَجهولاً ولا مَرغوبًا عن الروايةِ عنه.
ولا يَكْفِي قولُه: لم آخُذْ إلاَّ عن الثِّقاتِ, كما تَقدَّمَتِ الإشارةُ إليه، ولا فرْقَ في ذلك بينَ مرْسَلِ سعيدِ بنِ المسَيِّبِ ومُرْسَلِ غيرِه.
قالَ النوويُّ في (مَجموعه): وما اشْتَهَرَ عندَ فُقهاءِ أصحابِنا مِن أنَّ مرسَلَ سعيدٍ حُجَّةٌ عندَ الشافعِيِّ - ليس كذلك، بل مُرْسَلُه كمُرْسَلِ غيرِه، والشافعيُّ إنما احْتَجَّ بِمَراسيلِه التي اعتَضَدَتْ بغيرِها، كما قالَه البَيهقيُّ والخطيبُ البَغداديُّ وغيرُهما.
ثم قالَ: وأمَّا قولُ القَفَّالِ: قالَ الشافعيُّ: مُرْسَلُ سعيدٍ عندَنا حُجَّةٌ - فمَحمولٌ على التفصيلِ الذي قَدَّمْنَاهُ عن البَيهقيِّ والخطيبِ والْمُحَقِّقِينَ
قالَ البَيهقيُّ: وزِيادةُ سعيدٍ في هذا البابِ على غيرِه فيه أنه أصَحُّ التابعينَ إرسالاً فيما زعَمَ الْحُفَّاظُ.
(ومَن) أيْ: ومَن قَيَّدَه أيضًا بِمَن (إذا شارَكَ) منهم (أهْلَ الْحِفْظِ) في أحاديثِهم (وافَقَهُم) فيها ولم يُخَالِفْهم (إلاَّ بنَقْصِ لَفْظ) مِن ألفاظِهم؛ بحيثُ لا يَخْتَلُّ به المعنى، فإنه لا يَضُرُّ في قَبولِ مُرْسَلِه، وهذا آخِرُ زيادةِ الناظِمِ.
ثم المرسَلُ لا يَنحصِرُ اعتضادُه فيما ذُكِرَ، بل يَعْتَضِدُ بغيرِه؛ كقِياسٍ، وفعْلِ صحابِيٍّ، وعَمَلِ أهْلِ العصْرِ.
وكلُّ ما اعْتَضَدَ به المرسَلُ فهو دالٌّ على صِحَّةِ مَخْرَجِه فيُحْتَجُّ به، ولا يُحْتَجُّ بما لم يَعْتَضِدْ.
نعمْ، قالَ التاجُ السبْكِيُّ: إنْ دَلَّ على مَحظورٍ ولم يُوجَدْ غيرُه، فالأظهَرُ وُجوبُ الانكفافِ.
يَعنِي احتياطًا، وفي كلامِ الإمامِ ما يُؤَيِّدُه.
فإنْ يُقَلْ فالمسنَدُ الْمُعْتَمَدُ فقُلْ: دليلانِ بهِ يَعْتَضِدُ
ورَسَمُوا مُنْقَطِعاً عن رَجُلِ وفي الأصولِ نَعْتُهُ بالْمُرْسَلِ
أمَّا الذي أَرْسَلَه الصَّحابِيْ فحُكمُه الوَصْلُ على الصَّوابِ
(فإنْ يُقَلْ): إذا اعْتَضَدَ المرسَلُ بمسنَدٍ (فالمسنَدُ) هو (الْمُعْتَمَدُ) عليه في الاحتجاجِ به فلا حاجةَ للمرسَلِ.
(فقُلْ) أَخْذًا مِن كلامِ ابنِ الصلاحِ: هما (دَليلانِ)؛ إذ المسنَدُ إن كان يُحْتَجُّ به منْفَرِدًا دليلٌ برأسِه، والمرسَلُ (به) أيْ: بالمسنَدِ (يَعْتَضِدُ) ويَصيرُ دليلاً آخَرَ، فَيُرْجَّحُ بهما عندَ معارَضَةِ حديثٍ واحدٍ.
على أنَّ الإمامَ الرازيَّ خَصَّ الكلامَ بمسنَدٍ لا يُحْتَجُّ به منْفَرِدًا كما نقلَه شيخُنا عنه.
وعليه يكونُ اعتضادُه به كاعتضادِه بمرسَلٍ آخَرَ، فيكونُ كلٌّ منهما معتَضِدًا بالآخَرِ وحُجَّةً به.
(ورَسَمُوا) أيْ: سَمَّى جماعةٌ مِن الْمُحَدِّثِينَ (مُنْقَطِعًا) قولَهم: (عن رجُلِ) أو شيخٍ، أو نحوِه مما هو مُبْهَمٌ، فلم يُسَمُّوه بالمرسَلِ (وفي) كتُبِ (الأصولِ) كـ (البُرهانِ) لإمامِ الْحَرَمَيْنِ (نَعْتُه) أيْ: تَسميتُه (بالمرسَلِ).
قالَ الناظِمُ: وكلٌّ مِن هذينِ القولَيْنِ خِلافُ ما عليه الأكثَرُ، فإنَّ الأكثَرَ على أنَّ هذا مُتَّصِلٌ في إسنادِه مجهولٌ؛ أيْ: مُبْهَمٌ، لكنه مُقَيَّدٌ بما إذا لم يُسَمَّ المبهَمُ في روايةٍ أُخرى، وإلاَّ فلا يكونُ مَجهولاً، وبما إذا صَرَّحَ مَن أَبْهَمَه بالتحديثِ ونحوِه، وإلاَّ فلا يكونُ حديثُه مُتَّصِلاً، لاحتمالِ أنْ يكونَ مُدَلِّسًا.
هذا كلُّه إذا كانَ الراوي عنه غيرَ تابِعِيٍّ، أو تابعيًّا ولم يَصِفْهُ بالصحبةِ، وإلا فالحديثُ صحيحٌ؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهم عُدولٌ.
ووَقَعَ في كلامِ البَيهَقِيِّ تَسميتُه أيضًا مرسَلاً، ومُرادُه مُجَرَّدُ التسميةِ، وإلاَّ فهو حُجَّةٌ كما صَرَّحَ به في مَوْضِعٍ كالبخاريِّ.
لكنْ قَيَّدَه أبو بكرٍ الصَّيْرَفِيُّ مِن الشافعيَّةِ بأنْ يُصَرِّحَ التابعيُّ بالتحديثِ ونحوِه، فإنْ عَنْعَنَ فمُرْسَلٌ؛ لاحتمالِ أنه رَوَى مِن تابِعِيٍّ.
قالَ الناظِمُ: وهو حسَنٌ مُتَّجِهٌ، وكلامُ مَن أَطْلَقَ محمولٌ عليه.
وتَوَقَّفَ فيه شَيْخُنا؛ لأنَّ التابِعِيَّ إذا كان سالِمًا مِن التدليسِ حُمِلَتْ عَنْعَنَتُهُ على السماعِ.
(أمَّا) الحديثُ (الذي أَرْسَلَه الصحابِيْ) بأنْ لم يَسْمَعْهُ مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ إلاَّ بواسِطَةٍ كبيرًا كان كابنِ عمرَ، وجابرٍ، أو صغيرًا كابنِ عبَّاسٍ، وابنِ الزُّبَيْرِ (فحُكْمُه) وإنْ كان مُرْسَلاً (الوصْلُ) فيُحْتَجُّ به (على الصوابِ)؛ لأنَّ غالِبَ رِوايتِه عن الصحابةِ وهم عُدولٌ لا تَقْدَحُ فيهم الْجَهَالةُ بأعيانِهم.
وقولُ الأستاذِ أبي إسحاقَ الإسفرايِنِيِّ وغيرِه: (إنه لا يُحْتَجُّ به) ضعيفٌ كما أشارَ الناظِمُ إلى حِكايتِه ورده بتعبيرِه بالصوابِ.
نعمْ: مَن أُحْضِرَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ غيرَ مُمَيِّزٍ كعُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الْخِيَارِ فمُرْسَلُه غيرُ صحيحٍ فلا يُحْتَجُّ به.

  #4  
قديم 26 ذو الحجة 1429هـ/24-12-2008م, 05:30 PM
مسلمة 12 مسلمة 12 غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,159
افتراضي فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي

المرسَلُ
مَرفوعُ تابِعٍ على الْمَشهورِ مُرْسَلٌ او قَيِّدْهُ بالكبيرِ
أو سَقْطُ راوٍ منه ذو أَقوالِ والأوَّلُ الأكثَرُ في استعمالِ
واحْتَجَّ مالِكٌ كذا النُّعمانُ وتابِعُوهُما به ودَانُوا
ورَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقَّادِ للجَهْلِ بالساقِطِ في الإسنادِ
وصاحِبُ التمهيدِ عنهم نَقَلَهْ ومسلِمٌ صَدْرَ الكِتابِ أَصَّلَهْ
لكنْ إذا صَحَّ لنا مَخْرَجُهُ بمسنَدٍ أو مرْسَلٍ يُخْرِجُهُ
مَن ليس يَرْوِي عن رجالِ الأَوَّلِ نَقْبَلْهُ قُلتُ الشيخُ لم يُفَصِّلِ
والشافعيُّ بالكِبارِ قَيَّدَا ومَن رَوَى عن الثِّقاتِ أَبَداً
ومَن إذا شارَكَ أهْلَ الْحِفْظِ وافَقَهم إلا بنَقْصِ لَفْظِ
فإنْ يُقَلْ فالمسنَدُ الْمُعْتَمَدُ فقُلْ دليلانِ بهِ يَعْتَضِدُ
ورَسَمُوا مُنْقَطِعاً عن رَجُلِ وفي الأصولِ نَعْتُهُ بالْمُرْسَلِ
أمَّا الذي أَرْسَلَه الصَّحابِي فحُكمُه الوَصْلُ على الصَّوابِ

وجَمْعُه "مَراسِيلُ" بإثباتِ الياءِ وحَذْفِها أيضاً، وأَصْلُه كما هو حاصِلُ كلامِ العَلاَئِيِّ: مأخوذٌ مِن الإطلاقِ، وعَدَمِ المنْعِ؛ كقولِه تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ فكأنَّ المرسِلَ أطْلَقَ الإسنادَ، ولم يُقَيِّدْه براوٍ معروفٍ، أو مِن قولِهم: ناقةٌ مِرسالٌ، أيْ: سريعةُ السَّيْرِ؛ كأنَّ المرسِلَ أسْرَعَ فيه عَجِلاً، فحَذَفَ بعضَ إسنادِه.
قالَ كعبٌ:
أمْسَتْ سُعادُ بأرضٍ لا يُبَلِّغُهَا إلا العِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَراسِيلُ
أو مِن قولِهم: جاءَ القوْمُ أَرسالاً، أيْ: مُتَفَرِّقِينَ؛ لأنَّ بعضَ الإسنادِ منْقَطِعٌ مِن بَقِيَّتِه.
وأمَّا في الاصطلاحِ فـ (مَرفوعُ) أيْ: مُضافٌ (تابِعٍ) مِن التابعينَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتصريحِ أو الكِنايةِ (على المشهورِ) عندَ أئمَّةِ الْمُحَدِّثينَ (مُرْسَلٌ) كما نَقَلَه الحاكِمُ وابنُ عبدِ الْبَرِّ عنهم، واختارَه الحاكِمُ وغيرُه، ووافَقَهم جماعةٌ مِن الفُقهاءِ والأُصُولِيِّينَ.
وعَبَّرَ عنه بعضُهم كالقَرَافِيِّ في (التنقيحِ) بإسقاطِ الصحابِيِّ مِن السنَدِ، وليس بِمُتَعَيِّنٍ فيه، ونَقَلَ الحاكِمُ تَقييدَهم له باتِّصالِ سَنَدِه إلى التابِعِيِّ، وقَيَّدَهُ في "الْمَدْخَلِ" بما لم يَأتِ اتصالُه مِن وَجهٍ آخَرَ، كما سيأتي كُلٌّ منهما.
وكذا قَيَّدَه شيخُنا بما سَمِعَه التابِعِيُّ مِن غيرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَخْرُجَ مَن لَقِيَهُ كافراً فسَمِعَ منه، ثم أَسْلَمَ بعدَ وَفاتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحَدَّثَ بما سَمِعَه منه، كالتَّنُّوخِيِّ رسولِ هِرقلَ؛ فإنه مع كونِه تابِعيًّا مَحكومٌ لِمَا سَمِعَه بالاتِّصالِ لا الإرسالِ، وهو مُتَعَيِّنٌ، وكأنهم أعْرَضُوا عنه لنُدُورِه.
وخَرَجَ بقَيْدِ التابعِيِّ مُرْسَلُ الصحابِيِّ؛ كبيراً كانَ أو صَغيراً، وسيأتي آخِرَ البابِ، وشَمِلَ إطلاقُه الكبيرَ مِنهم، وهو الذي لَقِيَ جماعةً مِن الصحابةِ وجالَسَهم، وكانتْ جُلُّ رِوايتِه عنهم، والصغيرَ الذي لم يَلْقَ منهم إلاَّ العددَ اليسيرَ، أو لَقِيَ جماعةً، إلا أنَّ جُلَّ رِوايتِه عن التابعينَ (وقَيِّدْهُ بـ) التابعِيِّ (الكبيرِ) كما هو مُقتضَى القولِ بأنَّ مرفوعَ صغيرِ التابعينَ إنما يُسَمَّى منْقَطِعاً.
قالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ في مُقدِّمَةِ (التمهيدِ): المرسَلُ أوْقَعُوهُ بإجماعٍ على حديثِ التابِعِيِّ الكبيرِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَثَّلَ بجماعةٍ مِنهم قالَ: وكذلك مَن دُونَهم ويُسَمَّى جماعةً؟؟.
قالَ: وكذلك يُسَمَّى مَن دونَهم أيضاً ممن صَحَّ له لِقاءُ جَماعةٍ مِن الصحابةِ ومُجالَسَتِهم قالَ: ومِثلُه أيضاً مرْسَلُ مَن دونَهم، فأشارَ بهذا الأخيرِ إلى مَراسيلِ صِغارِ التابعينَ، ثم قالَ: وقالَ آخَرونَ: لا يَعنِي لا يكونُ حديثُ صِغارِ التابعينَ مرْسَلاً، بل يُسَمَّى مُنْقَطِعاً؛ لأنهم لم يَلْقَوْا مِن الصحابةِ إلا الواحِدَ أو الاثنينِ، فأَكْثَرُ رِوايتِهم عن التابعينَ.
وإلى هذا الاختلافِ أشارَ ابنُ الصلاحِ بقولِه: (وصُورتُه التي لا خِلافَ فيها حديثُ التابعِيِّ الكبيرِ).
قالَ شيخُنا: (ولم أَرَ التقييدَ بالكبيرِ صَريحاً عن أحَدٍ، نَعَمْ قَيَّدَ الشافعيُّ المرسَلَ الذي يُقْبَلُ إذا اعْتَضَدَ -كما سيأتي- بأنْ يكونَ مِن رِوايةِ التابعِيِّ الكبيرِ، ولا يَلزَمُ مِن ذلك أنه لا يُسَمِّي ما رواه التابعِيُّ الصغيرُ مُرْسَلاً، بل الشافعيُّ مصَرِّحٌ بتَسميةِ رِوايةِ مَن دونَ كِبارِ التابعينَ مُرسَلَةً، وذلك في قولِه: ومَن نَظَرَ في العلْمِ بخِبْرَةٍ وقِلَّةِ غفْلَةٍ، استَوْحَشَ مِن مُرْسَلِ كُلَّ مَن دُونَ كِبارِ التابعينَ بدلائلَ ظاهرةٍ.
(أو سَقْطُ راوٍ منه) أيْ: المرسَلُ ما سَقَطَ راوٍ مِن سَنَدِه؛ سواءٌ كانَ في أوَّلِه أو آخِرِه، أو بينَهما واحدٌ أو أكثرُ، كما يُومِئُ إليه تَنكيرُ "راوٍ"، وجَعَلَهُ اسمَ جنْسٍ؛ ليَشملَ -كما صرَّحَ به الشارِحُ- سقوطَ راوٍ فأكثرَ؛ بحيثُ يَدخُلُ فيه المنقَطِعُ والمعضَلُ والمعلَّقُ، وهو ظاهِرُ عبارةِ الخطيبِ؛ حيثُ أطلَقَ الانقطاعَ، فإنه قالَ في (كِفايتِه): المرسَلُ هو ما انْقَطَعَ إسنادُه؛ بأنْ يكونَ في رِوايةِ مَن لم يَسمعْه ممن فوقَه.
وكذا قالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ منها: لا خِلافَ بينَ أهْلِ العلْمِ أنَّ إرسالَ الحديثِ الذي ليس بِمُدَلَّسٍ، هو روايةُ الراوي عمَّن لم يُعاصِرْه؛ كالتابعينَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وابنِ جُريجٍ عن عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ، ومالِكٍ عن القاسمِ بنِ محمَّدِ بنِ أبي بكرٍ الصدِّيقِ، أو عمَّن عاصَرَه ولم يَلْقَهُ؛ كالثوريِّ، وشُعبةَ عن الزُّهْرِيِّ.
قالَ: وما كانَ نحوَ ذلك، فالحكْمُ فيه وكذا فيمَن لَقِيَ مَن أضافَ إليه، وسَمِعَ منه، إلا أنه لم يَسمَعْ منه ذلك الحديثَ- واحدٌ.
وحاصِلُه التسويةُ بينَ الإرسالِ الظاهِرِ والخفِيِّ، والتدليسِ في الحكْمِ، ونحوُه قولُ أبي الحسَنِ بنِ القَطَّانِ في (بيانِ الوهْمِ والإيهامِ) كما سيأتِي في التدليسِ-: الإرسالُ: رِوايةُ الراوِي عمَّن لم يَسمعْ منه، وهو الذي حَكاه ابنُ الصلاحِ عن الفُقهاءِ والأُصولِيِّينَ، بل وعن الخطيبِ، فإنه قالَ: والمعروفُ في الفِقهِ وأصولِه أنَّ ذلك كلَّه -أي: المنقطِعَ والمعضَلَ- يُسمَّى مُرْسَلاً.
قالَ: وإليه ذَهَبَ مِن أهْلِ الحديثِ الخطيبُ، وقَطَعَ به، ونحوُه قولُ النوويِّ في (شَرْحِ مسلِمٍ): المرسَلُ عندَ الفُقهاءِ والأُصُولِيِّينَ والخطيبِ وجماعةٍ مِن الْمُحَدِّثِينَ -: ما انقَطَعَ إسنادُه على أيِّ وَجهٍ كَان، فهو عندَهم بمعنى الْمُنْقَطِعِ؛ فإنَّ قولَه: (على أيِّ وجهٍ كانَ) يَشملُ الابتداءَ والانتهاءَ، وما بَيْنَهما، الواحدَ فأكثَرَ.
وأَصْرَحُ منه قولُه في (شرْحِ الْمُهَذَّبِ): ومُرادُنا بالمرسَلِ هنا: ما انقطَعَ إسنادُه، فسَقَطَ مِن رُواتِه واحِدٌ فأكثرُ، وخالَفَنا أكثَرُ الْمُحَدِّثِينَ، فقالوا: هو رِوايةُ التابعِيِّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. انتهى.
وممن صَرَّحَ بنحوِه مِن الْمُحَدِّثِينَ الحاكمُ؛ فإنه قالَ في (الْمَدْخَلِ) وتَبِعَه البَغَوِيُّ في (شَرْحِ السنَّةِ): وهو قولُ التابعِيِّ أو تابِعِ التابعِيِّ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبَيْنَه وبينَ الرسولِ قَرْنٌ أو قَرنانِ، ولا يَذكرُ سماعَه مِن الذي سَمِعَه، يَعنِي في روايةٍ أُخرى، كما سيأتِي أواخِرَ البابِ، ولكنَّ الذي مَشى عليه في (علومِه) خِلافُ ذلك، وكذا أَطْلَقَ أبو نُعيمٍ في (مُستَخْرَجِهِ) على التعليقِ مُرْسَلاً.
ومِمَّن أطْلَقَ المرسَلَ على المنقَطِعِ مِن أئمَّتِنا أبو زُرعةَ، وأبو حاتمٍ، ثم الدارقُطنيُّ، ثم البَيهقيُّ، بل صَرَّحَ البُخاريُّ في حديثٍ لإبراهيمَ بنِ يَزيدَ النَّخَعِيِّ عن أبي سَعيدٍ الْخُدرِيِّ؛ بأنه مرسَلٌ؛ لكونِ إبراهيمَ لم يَسمعْ مِن أبي سَعيدٍ.
وكذا صَرَّحَ هو وأبو دَاودَ في حديثٍ لعَوْنِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ بنِ مَسعودٍ عن ابنِ مَسعودٍ؛ بأنه مُرسَلٌ؛ لكونِه لم يُدْرِكِ ابنَ مسعودٍ، والتِّرْمِذِيُّ في حديثٍ لابنِ سِيرينَ عن حَكيمِ بنِ حِزامٍ؛ بأنه مُرسَلٌ، وإنما رواه ابنُ سِيرينَ عن يُوسُفَ بنِ ماهِكٍ عن حَكيمٍ، وهو الذي مَشَى عليه أبو داودَ في (مَراسِيلِه) في آخَرينَ، وأمَّا أبو الحسَنِ بنُ القَطَّانِ مِن مُتَقَدِّمِي أئِمَّةِ أصحابِنا؛ فإنه قالَ: المرسَلُ: أنْ يَرْوِيَ بعضُ التابعينَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَبراً، أو يكونَ بينَ الراوِي وبينَ رَجُلٍ رَجُلٌ.
وقالَ الأستاذُ أبو مَنصورٍ: المرسَلُ: ما سَقَطَ مِن إسنادِه واحدٌ، فإنْ سقَطَ أكثَرُ فهو مُعضَلٌ، ثم إنه على القولِ بشُمولِه المعضَلَ والمعَلَّقَ، قد تَوَسَّعَ مَن أطْلَقَه مِن الْحَنَفِيَّةِ على قولِ الرجُلِ مِن أهْلِ هذه الأعصارِ: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كذا.
وكان ذلك سلَفَ الصَّفَدِيِّ؛ حيثُ قالَ في (تَذْكِرَتِهِ) حِكايةً عن بعضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: المرسَلُ: ما وقَعَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن غيرِ عَنعنةٍ، والمسنَدُ: ما رَفَعَ رَاويهِ بالعَنعنةِ؛ فإنَّ الظاهِرَ أنَّ قائلَه أرادَ بالعَنعنةِ الإسنادَ، فهو كقولِ ابنِ الحاجِبِ تَبعاً لغيرِه مِن أئمَّةِ الأصولِ: المرسَلُ قولُ غيرِ الصحابِيِّ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنه يَتناوَلُ ما لو كَثُرَتِ الوسائطُ.
ولكنْ قد قالَ العَلائيُّ: إنَّ الظاهِرَ عندَ التأمُّلِ في أثناءِ استدلالِهم أنهم لا يُريدونَه، بل إنما مُرادُهم ما سَقَطَ منه التابِعِيُّ مع الصحابِيِّ، أو ما سقَطَ منه اثنانِ بعدَ الصحابِيِّ، ونحوُ ذلك، ويَدُلُّ عليه قولُ إمامِ الْحَرَمينِ في (البُرهانِ)، مِثالُهُ أنْ يَقولَ الشافعيُّ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كذا، وإلا فيَلْزَمُ مِن الإطلاقِ المتقَدِّمِ بُطلانُ اعتبارِ الأسانيدِ التي هي مِن خَصائصِ هذه الأُمَّةِ، وترْكُ النظَرِ في أحوالِ الرُّواةِ، والإجماعُ في كلِّ عصْرٍ على خِلافِ ذلك، وظُهورُ فَسادِه غَنِيٌّ عن الإطالةِ فيه. انتهى.
ولذلك خَصَّهُ بعضُ الْمُحَقِّقِينَ مِن الحنفيَّةِ بأهْلِ الأعصارِ الأُوَلِ- يَعنِي القُرونَ الفاضِلَةَ - لِمَا صَحَّ عنه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنه قالَ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)). قالَ الراوِي: فلا أَدْرِي أذَكَرَ بعدَ قَرْنِه قَرنينِ أو ثلاثةً؟ وفي رِوايةٍ: جَزَمَ فيها بثلاثةٍ بعدَ قَرْنِه بدونِ شَكٍّ، ((ثم يَفْشُو الكذِبُ)).
وفي روايةٍ: (ثم ذَكَرَ قَوماً يَشهدونَ ولا يُسْتَشْهدونَ، ويَخونونَ ولا يُؤْتَمنونَ، ويَنْذِرونَ ولا يُوفُونَ)، وحينئذٍ فالمرسَلُ (ذو أقوالِ) الثالثُ أَوْسَعُها، والثاني أضْيَقُها (والأوَّلُ الأكثرُ في استعمالِ) أهلِ الحديثِ؛ كما قالَه الخطيبُ، وعبارتُه عَقِبَ حكايةِ الثالثِ مِن (كِفايتِه) إلاَّ أنَّ أكثرَ ما يُوصَفُ بالإرسالِ مِن حيث الاستعمالُ ما رَواهُ التابعِيُّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أمَّا ما رواه تابعُ التابعِيِّ فيُسَمُّونَه المعضَلُ.
بل صَرَّحَ الحاكمُ في (علومِه) بأنَّ مَشايخَ الحديثِ لم يَختلِفوا أنه هو الذي يَرويهِ المحدِّثُ بأسانيدَ متَّصِلَةٍ إلى التابعِيِّ، ثم يقولُ التابعِيُّ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووافَقَه غيرُه على حكايةِ الاتِّفاقِ.
(واحتَجَّ) الإمامُ (مالِكٌ) هو ابنُ أنَسٍ في المشهورِ عنه و(كذا) الإمامُ أبو حَنيفةَ (النُّعمانُ) بنُ ثابتٍ (وتابِعُوهُما) المقَلِّدُونَ لهما، والمرادُ الجمهورُ مِن الطائفتينِ، بل وجماعةٌ مِن الْمُحَدِّثِينَ، والإمامُ أحمدُ في روايةٍ حَكاها النوويُّ وابنُ القَيِّمِ وابنُ كثيرٍ وغيرُهم (به) أيْ: بالمرسَلِ (ودانُوا) بِمَضمونِه، أيْ: جَعَلَ كلُّ واحدٍ منهم ما هو عندَه مُرْسَلٌ دِيناً يَدِينُ به في الأحكامِ وغيرِها، وحَكاهُ النوويُّ في (شرْحِ المهذَّبِ) عن كَثيرينَ مِن الفُقهاءِ أو أَكثرِهم، قالَ: ونَقَلَه الغزالِيُّ عن الجماهيرِ.
وقالَ أبو داودَ في (رِسالتِه): وأمَّا الْمَراسيلُ فقد كان أكثَرُ العُلماءِ يَحتَجُّونَ بها فيما مَضَى، مِثلُ سُفيانَ الثورِيِّ ومالِكٍ، وتابَعَه عليه أحمَدُ وغيرُه. انتهى.
وكأَنَّ مَن لم يَذكرْ أحمدَ في هذا الفريقِ رَأَى ما في (الرسالةِ) أقْوَى، معَ ملاحَظَةِ صَنيعِه في (العِلَلِ)، كما سيأتِي قَريباً، وكونِهِ يَعمَلُ بالضعيفِ الذي يَندرِجُ فيه المرسَلُ، فذاك إذا لم يَجِدْ في البابِ غيرَه كما تَقدَّمَ، ثم اخْتَلَفُوا أهو أعلَى مِن المسنَدِ، أو دُونَه، أو مِثلُه؟ وتَظهرُ فائدةُ الْخِلافِ عندَ التعارُضِ.
والذي ذَهَبَ إليه أحمدُ، وأكثَرُ المالكيَّةِ، والْمُحَقِّقُونَ مِن الحنفيَّةِ - كالطحاويِّ وأبي بكْرٍ الرازيِّ - تَقديمُ المسنَدِ.
قالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ: (وشَبَّهُوا ذلك بالشهودِ، يَكونُ بعضُهم أفْضَلَ حَالاً مِن بعضٍ، وأَقْعَدَ وأَتَمَّ مَعرِفَةً، وإنْ كان الكلُّ عُدولاً جَائِزِي الشهادةِ). انتهى.
والقائلونَ بأنه أعْلَى وأَرْجَحُ مِن المسنَدِ، وجَّهُوهُ بأنَّ مَن أسنَدَ، فقدْ أحالَكَ على إسنادِه، والنظَرِ في أحوالِ رُواتِه والبحْثِ عنهم، ومَن أرْسَلَ مع عِلْمِه ودِينِه وإمامتِه وثِقتِه، فقد قَطَعَ لك بصِحَّتِه، وكفاكَ النظَرَ فيه، ومَحَلُّ الْخِلافِ فيما قِيلَ: إذا لم يَنضَمَّ إلى الإرسالِ ضَعْفٌ في بعضِ رُواتِه، وإلا فهو حِينئذٍ أسْوَأُ حَالاً مِن مُسنَدٍ ضَعيفٍ جَزْماً.
ولذا قيلَ: إنهم اتَّفَقُوا على اشتراطِ ثِقةِ المرسَلِ، وكونِه لا يُرسِلُ إلاَّ عن الثِّقاتِ، قالَه ابنُ عبدِ الْبَرِّ، وكذا أبو الوليدِ الباجِيُّ مِن المالكيَّةِ، وأبو بكْرٍ الرازيُّ مِن الْحَنفيَّةِ.
وعِبارةُ الثاني: لا خِلافَ أنه لا يَجوزُ العمَلُ بالمرسَلِ، إذا كان مُرْسِلُه غيرَ مُتَحَرِّزٍ، بل يُرسِلُ عن غيرِ الثِّقاتِ أيضاً، وأمَّا الأوَّلُ فقالَ: لم تَزَلْ الأئمَّةُ يَحْتَجُّونَ بالمرسَلِ، إذا تَقارَبَ عصْرُ المرسِلِ والمرسَلِ عنه، ولم يُعْرَفِ المرسِلُ بالروايةِ عن الضُّعفاءِ.
وممن اعْتَبَرَ ذلك مِن مُخَالِفِيهِم الشافعيُّ، فجَعَلَه شَرْطاً في المرسَلِ المعْتَضَدِ، ولكنْ قد تَوَقَّفَ شيخُنا في صِحَّةِ نقْلِ الاتِّفاقِ مِن الطَّرَفَيْنِ قَبولاً ورَدًّا، قالَ: (لكنَّ ذلك فيهما عن جُمهورِهم مَشهورٌ). انتهى.
وفي كلامِ الطحاويِّ ما يُومِئُ إلى احتياجِ المرسَلِ ونحوِه إلى الاحتفافِ بقَرينةٍ؛ وذلك أنه قالَ - في حديثِ أبي عُبيدةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ أنه سُئِلَ: كان عبدُ اللهِ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليلةَ الْجِنِّ؟ قالَ: لا - ما نَصُّهُ: فإنْ قيلَ هذا منْقَطِعٌ؛ لأن أبا عُبيدةَ لم يَسمعْ مِن أَبيهِ شيئاً.
يُقالُ: نحن لم نَحتَجَّ به مِن هذه الْجِهةِ، إنما احتَجَجْنا به؛ لأنَّ مِثلَ أبي عُبيدةَ على تَقَدُّمِه في العلْمِ، ومَوْضِعِه مِن عبدِ اللهِ، وخُلطَتِه بخاصَّتِه مِن بعدِه- لا يَخْفَى عليه مِثلُ هذا مِن أمورِه، فجَعَلْنا قولَه حُجَّةً لهذا، لا مِن الطريقِ التي وَصَفْتَ.
ونحوُه قولُ الشافعيِّ رَحِمَه اللهُ في حديثٍ لطَاوُسٍ عنْ مُعاذٍ: طَاوُسٌ لم يَلْقَ مُعاذاًَ، لكنه عالِمٌ بأمْرِ مُعاذٍ، وإنْ لم يَلْقَهُ؛ لكثرةِ مَن لَقِيَهُ ممن أَخَذَ عن مُعاذٍ، وهذا لا أعْلَمُ مِن أحَدٍ فيه خِلافاً، وتَبِعَه البَيهقيُّ وغيرُه.
ومِن الْحُجَجِ لهذا القولِ: أنَّ احتمالَ الضعْفِ في الواسِطَةِ؛ حيثُ كانَ المرسِلُ تابِعيًّا لاسيما بالكذِبِ بَعيدٌ جِدًّا؛ فإنه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَثْنَى على عصْرِ التابعينَ، وشَهِدَ له بعدَ الصحابةِ بالخيريَّةِ، ثم للقَرنينِ - كما تَقدَّمَ - بحيث استُدِلَّ بذلك على تَعديلِ أهْلِ القرونِ الثلاثةِ، وإنْ تَفاوتَتْ مَنازِلُهم في الفضْلِ فإرسالُ التابعِيِّ، بل ومَن اشتمَلَ عليه باقي القرونِ الثلاثةِ الحديثَ بالجزْمِ مِن غيرِ وُثوقٍ بمن قالَه - مُنافٍ لها، هذا مع كونِ المرسَلِ عنه ممن اشتَرَكَ معهم في هذا الفضْلِ.
وأَوْسَعُ مِن هذا قولُ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنه: (الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلاَّ مَجْلُوداً فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّباً عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلاَءٍ أَوْ قَرَابَةٍ).
قالوا: فاكتَفَى رَضِيَ اللهُ عنه بظاهِرِ الإسلامِ في القَبولِ، إلاَّ أنْ يُعْلَمَ منه خِلافُ العَدالةِ، ولو لم يَكن الواسطةُ مِن هذا القَبيلِ، لَمَا أرْسَلَ عنه التابعِيُّ، والأصْلُ قَبولُ خَبَرِه حتى يَثْبُتَ عنه ما يَقتضِي الردَّ، وكذا أَلْزَمَ بعضُهم المانعينَ بأنَّ مُقتضَى الحكْمِ لتعاليقِ البخاريِّ المجزومةِ بالصحَّةِ إلى مَن عَلَّقَ عنه- أنَّ مَن يَجْزِمُ مِن أئمَّةِ التابعينَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحديثٍ يَستلزِمُ صِحَّتَه مِن بابِ أَوْلَى، لاسيما وقد قيلَ: إنَّ المرسِلَ لو لم يَحْتَجَّ بالمحذوفِ، لَمَا حَذَفَه، فكأنه عَدَّلَه.
ويُمْكِنُ إلزامُهم أيضاً بأنَّ مُقتضَى تَصحيحِهم في قولِ التابعِيِّ: (مِن السنَّةِ) وقْفَه على الصحابِيِّ- حَمْلُ قوْلِ التابعِيِّ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، على أنَّ المحدِّثَ له بذلك صحابِيٌّ؛ تَحسيناً للظنِّ به، في حُجَجٍ يَطولُ إيرادُها، لاستلزامِه التعَرُّضَ للردِّ، مع كونِ (جامعِ التحصيلِ) في هذه المسألةِ للعَلائيِّ مُتَكفِّلاً بذلك كلِّه، وكذا صَنَّفَ فيها ابنُ عبدِ الهادي جُزءاً.
(ورَدَّهَ) أي: الاحتجاجَ بالمرسَلِ (جَماهِرُ) بحذْفِ الياءِ تَخفيفاً جَمْعُ جُمهورٍ؛ أيْ: مُعظَمُ (النقَّادِ) مِن المحدِّثينَ؛ كالشافعيِّ وأحمدَ وغيرِهما مِن المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ، وَحَكَموا بضَعْفِه (للجهْلِ بالساقطِ في الإسنادِ)؛ فإنه يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ تابِعِيًّا لعدَمِ تَقَيُّدِهم بالروايةِ عن الصحابةِ، ثم يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ ضَعيفاً؛ لعدَمِ تَقَيُّدِهم بالثقاتِ، وعلى تقديرِ كونِه ثِقةً يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ روى عن تابعِيٍّ أيضاً يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ ضَعيفاً، وهَلُمَّ جَرًّا إلى سِتَّةٍ أو سبعةٍ، فهو أكثرُ ما وُجِدَ مِن رواية بعضِ التابعينَ عن بعضٍ، واجتماعُ سِتَّةٍ في حديثٍ يَتعلَّقُ بسورةِ الإخلاصِ.
(وصاحبُ التمهيدِ) وهو أبو عمرَ بنُ عبدِ الْبَرِّ (عنهم) يعنِي المحدِّثينَ (نَقَلَهْ)، بلْ حَكَى الإجماعَ على طَلَبِ عَدالةِ المخبِرِ (ومسلِمٌ) وهو ابنُ الْحَجَّاجِ (صَدْرَ الكتابِ) الشهيرِ الذي صَنَّفَه في الصحيحِ (أَصَّلَهْ) أيْ: رَدَّ الاحتجاجَ به، فإنه قالَ في أثناءِ كلامٍ ذَكَرَه في مُقدِّمَةِ الصحيحِ على وجْهِ الإيرادِ على لسانِ خَصْمِه: والمرسَلُ مِن الرواياتِ في أصْلِ قولِنا، وقولِ أهْلِ العلْمِ بالأخبارِ - ليس بحُجَّةٍ. وأقرَّهُ ومَشَى عليه في كتابِه.
وكذا أحمَدُ في (العِلَلِ) حيث يُعِلُّ الطريقَ المسنَدَةَ بالطريقِ المرسَلِةِ، ولو كانَ المرسَلُ عندَه حُجَّةً لازمةً، لَمَا أَعَلَّ به، ويَكفِينَا نقْلُ صاحبِه أبي داوُدَ أنه تَبِعَ فيه الشافعيَّ، كما تَقَدَّمَ.
وكذا حُكِيَ عن مالِكٍ، وهو غَريبٌ، فالمشهورُ عنه الأوَّلُ، ومِمَّنْ حَكَى الثاني عن مالِكٍ الحاكمُ، وقالَ النوويُّ في (شرْحِ الْمُهَذَّبِ): المرسَلُ لا يُحْتَجُّ به عندَنا، وعندَ جُمهورِ الْمُحَدِّثين، وجماعةٍ مِن الفُقهاءِ، وجماهيرِ أصحابِ الأصولِ والنظَرِ.
قالَ: وحَكاهُ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ عن سعيدِ بنِ الْمُسَيِّبِ ومالِكٍ وجماعةِ أهْلِ الحديثِ والفقهاءِ. انتهى.
وبسعيدٍ يُرَدُّ على ابنِ جَريرٍ الطَّبريِّ مِن الْمُتقدِّمينَ، وابنِ الحاجبِ مِن المتأخِّرينَ ادِّعاؤُهما إجماعَ التابعينَ على قَبولِه؛ إذ هو مِن كِبارِهم، مع أنه لم يَنفرِدْ مِن بينِهم بذلك، بل قالَ به منهم ابنُ سِيرينَ والزُّهْرِيُّ.
وغَايتُه أنهم غيرُ مُتَّفِقِينَ على مَذهَبٍ واحدٍ، كاختلافِ مَن بعدَهم، ثم إنَّ ما أَشْعَرَ به كلامُ أبي داودَ في كونِ الشافعيِّ أوَّلَ مَن تَرَكَ الاحتجاجَ به - ليس على ظاهِرِه، بل هو قولُ ابنِ مَهدِيٍّ ويحيى القَطَّانِ، وغيرِ واحدٍ مِمَّنْ قَبْلَ الشافعيِّ، ويُمكِنُ أنَّ اختصاصَ الشافعيِّ لِمَزيدِ التحقيقِ فيه.
وبالجملةِ فالمشهورُ عن أهْلِ الحديثِ خاصَّةً القولُ بعدَمِ صِحَّتِه، بل هو قولُ جُمهورِ الشافعيَّةِ، واختيارُ إسماعيلَ القاضي وابنِ عبدِ الْبَرِّ وغيرِهما مِن المالكيَّةِ، والقاضي أبي بكرِ بنِ البَاقِلاَنِيِّ وجماعةٍ كثيرينَ مِن أئمَّةِ الأصولِ.
وبالَغَ بعضُهم في التضييقِ، فرَدَّ مَراسيلَ الصحابةِ، كما بالَغَ مَن تَوَسَّعَ مِن أهلِ الطرَفِ الآخَرِ، فقَبِلَ مَراسيلَ أهْلِ هذه الأعصارِ وما قبلَها، وبيَّنَّا هناك رَدَّه، وسَنُبَيِّنُ رَدَّ الآخَرِ آخِرَ البابِ، وما أَوْرَدْتُه مِن حُجَجِ الأَوَّلِينَ مَردودٌ.
أمَّا الحديثُ فمحمولٌ على الغالِبِ، والأكثريَّةِ، وإلا فقدْ وُجِدَ فيمَن بعدَ الصحابةِ مِن القَرنينِ مَن وُجِدَتْ فيه الصِّفاتُ المذمومةُ، لكنْ بقِلَّةٍ؛ بخِلافِ مَن بعدَ القرونِ الثلاثةِ؛ فإنَّ ذلك كَثُرَ فيهم واشْتَهَرَ.
وقد رَوَى الشافعيُّ عن عَمِّه: ثنا هشامُ بنُ عُروةَ عن أبيهِ قالَ: إني لأسْمَعُ الحديثَ أَسْتَحْسِنُه، فما يَمنعُنِي مِن ذِكْرِه إلا كَراهيةُ أنْ يَسمعَه سامعٌ فيَقتَدِيَ به، وذلك أَنِّي أَسْمَعُه مِن الرجُلِ لا أَثِقُ به، فقد حَدَّثَ به عمَّن أثِقُ به، أو أَسْمَعُه مِن رَجُلٍ أثِقُ به قد حَدَّثَ به عمن لا أَثِقُ به.
وهذا - كما قالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ-: يَدُلُّ على أنَّ ذلك الزمانَ - أيْ: زمانَ الصحابةِ والتابعينَ - كان يُحَدِّثُ فيه الثِّقَةُ وغيرُه.
ونحوُه ما أخْرَجَه العُقَيْلِيُّ مِن حديثِ ابنِ عَوْنٍ، قالَ: ذَكَرَ أيُّوبُ السِّختيانِيُّ لمحمَّدِ بنِ سِيرينَ حديثاً عن أبي قِلاَبَةَ، فقالَ: أبو قِلابَةَ رجُلٌ صالحٌ، ولكنْ عمَّن ذكَرَه أبو قِلاَبَةَ.
ومِن حديثِ عِمرانَ بنِ حُديرٍ أنَّ رَجُلاًَ حَدَّثَه عن سُليمانَ التَّيْمِيِّ عن محمدِ بنِ سيرينَ: ((أنَّ مَن زارَ قَبراً أو صَلَّى إليه، فقد بَرِئَ اللهُ منه)).
قالَ عِمرانُ: فقُلتُ لمحمَّدٍ عن أبي مِجْلَزٍ: إنَّ رَجُلاً ذَكَرَ عنكَ كذا، فقالَ أبو مِجْلَزٍ: كنتُ أحْسَبُك يا أبا بَكْرٍ أشَدَّ اتِّقاءً، فإذا لَقِيتَ صاحبَك، فأَقْرِئْهُ السلامَ وأَخْبِرْهُ أنه كَذَبَ. قالَ: ثم رأيتُ سليمانَ عندَ أبي مِجْلَزٍ، فذكَرْتُ ذلك له، فقالَ: سُبحانَ اللهِ، إنما حَدَّثَنِيهِ مُؤَذِّنٌ لنا، ولم أَظُنَّه يَكذِبُ. فإنَّ هذا والذي قَبلَه فيهما رَدٌّ أيضاً على مَن يَزعمُ أنَّ الْمَراسيلَ لم تَزَلْ مَقبولةً مَعمولاً بها.
ومِثلُ هذه حديثُ عاصمٍ عن ابنِ سِيرينَ قالَ: كانوا لا يَسألونَ عن الإسنادِ، حتى وَقعَتِ الفِتنةُ بعدُ، وأعلى مِن ذلك ما رُوِّيناه في (الْحِليةِ) مِن طريقِ ابنِ مَهدِيٍّ عن ابنِ لَهيعةَ أنه سَمِعَ شيخًا مِن الخوارجِ يقولُ بعدَ ما تابَ: إنَّ هذه الأحاديثَ دِينٌ، فانْظُروا عمَّن تَأخذونَ دِينَكم، فإنَّا كُنَّا إذا هَوِينَا أمْراً، صَيَّرْنَاهُ حَديثاً. انتهى.
ولذا قالَ شيخُنا: إنَّ هذه واللهِ قاصِمَةُ الظهْرِ للمُحْتَجِّينَ بالمرسَلِ؛ إذ بِدعةُ الخوارجِ كانتْ في مَبدأِ الإسلامِ، والصحابةُ مُتوافِرونَ، ثم في عَصْرِ التابعينَ فمَن بعدَهم، وهؤلاءِ كانوا إذا استَحْسَنوا أمْراً، جَعَلُوه حَديثاً وأَشَاعُوه، فرُبَّما سَمِعَ الرجُلُ الشيءَ فحَدَّثَ به، ولم يَذكُرْ مَن حَدَّثَه به؛ تَحسيناً للظنِّ، فيَحمِلُه عنه غيرُه، ويَجيءُ الذي يَحتَجُّ بالمقاطيعِ، فيَحْتَجُّ به مع كونِ أصْلِه ما ذَكرتُ، فلا حَولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ.
وأمَّا الإلزامُ بتعاليقِ البُخاريِّ، فهو قد عُلِمَ شَرْطُه في الرجالِ، وتَقَيُّدُه بالصحَّةِ، بخِلافِ التابعينَ، وأمَّا ما بعدَه، فالتعديلُ الْمُحَقَّقُ في المبهَمِ لا يَكفِي على المعتمَدِ، كما سيأتي في سادسِ فُروعِ مَن تُقبَلُ رِوايتُه، فكيف باسترسالٍ إلى هذا الْحَدِّ.
نعم قد قالَ ابنُ كثيرٍ: الْمُبْهَمُ الذي لم يُسَمَّ، أو سُمِّيَ ولم تُعرَفْ عينُه - لا يَقبَلُ رِوايتَه أحَدٌ عَلِمْناه، ولكنه إذا كان في عَصْرِ التابعينَ والقرونِ المشهودِ لها بالخيرِ، فإنه يُستأنَسُ بروايتِه، ويُستضاءُ بها في مَواطِنَ، وقد وقَعَ في (مُسنَدِ أحمدَ) وغيرِه مِن هذا القَبيلِ كثيرٌ، وكذا يُمْكِنُ الانفصالُ عن الأخيرِ؛ بأنَّ الموقوفَ لا انحصارَ له فيما اتَّصَلَ، بخِلافِ الْمُحْتَجِّ به.
وبهذا وغيرِه مما لم نُطِلْ بإيرادِه قَوِيَتْ الْحُجَّةُ في رَدِّ المرسَلِ، وإدراجِه في جُملةِ الضعيفِ (لكنْ إذا صَحَّ) يَعنِي ثَبَتَ (لَنَا) أهْلِ الحديثِ، خُصوصاً الشافعيَّةَ، تَبَعاً لنَصِّ إمامِهم (مَخرَجُهُ) أيْ: اتِّصالُ المرسَلِ (بمسنَدٍ) يَجيءُ مِن وجهٍ آخَرَ صحيحٍ أو حَسَنٍ أو ضَعيفٍ يَعْتَضِدُ به.
(أو) بـ (مرسَلٍ) آخرَ (يُخْرِجُهُ) أيْ: يُرْسِلُه (مَن ليس يَرْوِي عن رِجالِ) أيْ: شُيوخِ راوِي المرسَلِ (الأوَّلِ) حتى يَغْلِبَ على الظنِّ عَدَمُ اتِّحادِهما (نَقبَلْهُ) بالجزْمِ جَواباً لـ"إذا" الشرطيَّةِ؛ كما صَرَّحَ ابنُ مالِكٍ في (التسهيلِ) بجوازِه في قَليلٍ مِن الكلامِ، وهو ظاهِرُ كلامِ ابنِه الشارحِ، ولكنَّ نصوصَ مَشاهيرِ النُّحاةِ على اختصاصِه بضرورةِ الشعْرِ، على أنه لو قالَ: "متى" بَدَلَ "إذا"، و"يُقْبَلْ" بدَلَ "نَقبلْه" - كما قالَ شيخُنا - لكانَ أحسَنَ، وكذا يَعتَضِدُ بما ذكرَه مع هذين الشافِعَيَّيْنِ - كما سيأتي - مِن مُوافَقَةِ قولِ بعضِ الصحابةِ، أو فَتْوَى عوامِّ أهْلِ العلْمِ، مع كونِ الاعتضادِ بها في الترتيبِ هكذا.
وقد نَظَمَ الزائدَ بعضُ الآخذينَ عن الناظِمِ فقالَ:
أو كان قولَ واحدٍ مِن صَحْبِ خيرِ الأنامِ عَجَمٍ وعَرَبِ
أو كان فَتْوى جُلِّ أهْلِ العِلْمِ وشيخُنا أهْمَلَه في النظْمِ
(قلتُ: الشيخُ) ابنُ الصلاحِ (لم يُفَصِّلِ) في المرسَلِ المعتَضِدِ بينَ كِبارَ التابعينَ وصِغارِهم، بل أَطْلَقَ كما تَرَى، وكأنه بِناءً على المشهورِ في تَعريفِه كما تَقَدَّمَ (والشافعيُّ) الذي اعتَمَدَ ابنُ الصلاحِ مَقالَه في ذلك (بالكِبارِ مِنهم قَيَّدَا) المعتَضِدَ، وتَبِعَ ابنَ الصلاحِ في الإطلاقِ النوويُّ في عامَّةِ كُتُبِه.
ثم تَنَبَّهَ للتقييدِ في شرْحِه لـ (الوَسيطِ) وهو مِن أواخِرِ تَصنيفِه؛ فإنه قالَ فيه: وأمَّا الحديثُ المرسَلُ فليس بحُجَّةٍ عندَنا، إلا أنَّ الشافعيَّ كان يَرى الاحتجاجَ بمرسَلِ الكِبارِ مِن التابعينَ، بشرْطِ أنْ يَعتضِدَ بأحَدِ أمورٍ أربعةٍ، وذكَرَها.
(و) كذا قَيّدَه الشافعيُّ بِـ (مَن رَوى) مِنهم (عن الثقاتِ أَبَدَا)؛ بحيث إذا عُيِّنَ شيخُه في مرسَلِه في روايةٍ أخرى، أو في مطلَقِ حديثِه حسبَ ما يَحتمِلُها كلامُ الشافعيِّ الآتي: لا يُسَمَّى مَجهولاً، ولا مَرغوباً عن الروايةِ عنه، ولا يَكفِي قولُه: (إنه لم يَكنْ يَأخُذُ إلا عن الثِّقاتِ) كما جاءَ عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ وغيرِه.
فالتوثيقُ مع الإبهامِ لا يَكفِي- على ما سيأتِي- نعمْ قد قالَ الشافعيُّ في سعيدٍ بخصوصِه: (إنه ما عَرَفَه روى إلا عن ثِقةٍ) وأجابَ بذلك مَن عارَضَه في قَبولِ مَراسيلِه خَاصَّةً، بل وزادَ (أنه لا يَحْفَظُ له مُنْقَطِعاً إلا وَجَدَ ما يَدُلُّ على تَسديدِه).
ولهذا قالَ ابنُ الصلاحِ عَقِبَ العاضِدِ بمجيئِه مِن وجهٍ آخرَ: (ولهذا احتَجَّ الشافعيُّ بِمُرسَلاتِ سعيدٍ؛ فإنها وُجِدَتْ مَسانيدَ مِن وُجوهٍ أُخَرَ). قالَ: (ولا يَختَصُّ ذلك عندَه بإرسالِ ابنِ المسيِّب). انتهى.
وتَبِعَه أحمدُ، فنَقَلَ الْمَيمونيُّ وحَنبلٌ معاً عنه أنه قالَ: مَراسيلُ سعيدٍ صِحاحٌ، لا نَرى أصَحَّ مِن مُرسَلاتِه.
وقالَ ابنُ مَعينٍ: هي أحَبُّ إليَّ مِن مرسَلاتِ الحسَنِ، ولكنْ قد قالَ النوويُّ في (الإرشادِ): اشتَهَرَ عندَ فُقهاءِ أصحابِنا أنَّ مُرسَلَ سعيدٍ حُجَّةٌ عندَ الشافعيِّ، حتى إنَّ كثيراً منهم لا يَعْرِفونَ غيرَ ذلك، وليس الأمرُ على ذلك، ثم بَيَّنَه بما ذَكَرَ مَعناه في (شَرْحِ المهذَّبِ)؛ فإنه قالَ فيه - عقِبَ نقْلِه عن الشافعيِّ في (المختَصَرِ) مما رواه عنه الربيعُ أيضاً: إرسالُ ابنِ المسيِّبِ عندَنا حسَنٌ - ما نَصُّه: اختَلَفَ أصحابُنا الْمُتَقَدِّمون في مَعناهُ على وَجهينِ، حَكاهما الشيخُ أبو إسحاقَ في (اللُّمَعِ)، والخطيبُ في كتابَيْهِ (الفَقيهِ والْمُتَفَقِّهِ) و(الكفايةِ) وآخَرونَ:
أحدُهما: أنها حُجَّةٌ عندَه، بخِلافِ غيرِها مِن المراسيلِ، قالوا: لأنها فُتِّشَتْ فوُجِدَتْ مُسندَةً.
ثانيهما: أنها ليستْ بحُجَّةٍ عندَه، بل هي كغيرِها على ما ذَكَرْناه، قالوا: وإنما رَجَّحَ الشافعيُّ بمرسَلِه، والترجيحُ بالمرسَلِ جائزٌ.
قالَ الخطيبُ في كتابِه (الفقيهِ والمتفَقِّهِ): والصوابُ الثاني، وأمَّا الأوَّلُ، فليس بشيءٍ، وكذا قالَ في (الكفايةِ): إنَّ الثاني هو الصحيحُ؛ لأنَّ في مَراسيلِ سعيدٍ ما لم يُوجَدْ بحالٍ مِن وَجهٍ يَصِحُّ.
قالَ البَيهقيُّ: وقد ذَكَرْنا لابنِ المسيِّبِ مَراسيلَ لم يَقبَلْها الشافعيُّ حين لم يَنْضَمَّ إليها ما يُؤَكِّدُها، ومَراسيلَ لغيرِه قالَ بها حينَ انْضَمَّ إليها ما يُؤَكِّدُها.
قالَ: وزيادةُ ابنِ المسيِّبِ في هذا على غيرِه أنه أَصَحُّ التابعينَ إرسالاً فيما زَعَمَ الْحُفَّاظُ.
قالَ أي: النوويُّ: وأمَّا قولُ القَفَّالِ الْمَرْوَزِيِّ في أوَّلِ كتابِه (شرْحِ التلخيصِ) قالَ الشافعيُّ في "الرهْنِ الصغيرِ": مرسَلُ سعيدٍ عندَنا حُجَّةٌ- فهو محمولٌ على التفصيلِ الذي قدَّمْناه عن البَيهقيِّ والخطيبِ والْمُحَقِّقِينَ.
إذا عُلِمَ هذا، فلم يَنفرِدْ سعيدٌ بهذا الوصْفِ فقط، قالَ أبو داودَ في (سُنَنِه): سَمِعتُ محمَّدَ بنَ حُميدٍ يقولُ: سمعتُ يَعقوبَ بنَ عبدِ اللهِ القُمِّيَّ يقولُ: كلُّ شَيءٍ حَدَّثْتُك عن جَعفرٍ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - فهو مسنَدٌ عن ابنِ عبَّاسٍ، ولكن هذا خاصٌّ.
ونحوُه قولُ ابنِ سِيرينَ الْمَحْكِيُّ قُبيلَ المرسَلِ، (و) قَيَّدَه أيضاً بـ (مَن إذا شارَكَ) مِنهم (أهْلَ الحفْظِ) في أحاديثِهم (وافَقَهم) فيها ولم يُخالِفْهم (إلاَّ بنَقْصِ لفْظِ) الْحُفَّاظِ بكلمةٍ فأَزْيَدَ، مما لا يَخْتَلُّ معه المعنَى؛ فإنَّ ذلك لا يَضُرُّ في قَبولِ مُرْسَلِه، وكلٌّ مِن هذه -أَعنِي رِوايتَه عن الثِّقاتِ، ومُوافَقَةَ الْحُفَّاظِ، وكونَه مِن الكِبارِ- صِفةٌ للمرسِلِ بكسْرِ المهمَلَةِ، دالَّةٌ على صِحَّةِ مُرْسَلِه الْمَرْوِيِّ عنه.
وثانيها: جارٍ في كلِّ راوٍ أَرْسَلَ أو أسْنَدَ، كما قِيلَ: إنَّ المحتَجَّ بالمرسَلِ أيضاً يَشْتَرِطُ أوَّلَها، كما تَقدَّمَ مع النِّزاعِ فيه.
وهذا سِياقُ نَصِّ الشافعيِّ؛ ليُعْلَمَ أنَّ الشارِحَ وغيرَه ممن أوْرَدَه أخَلَّ منه بأشياءَ مُهِمَّةٍ، فرَوَى البَيهقيُّ في (الْمَدْخَلِ) عن شيخِه الحاكمِ عن الأصَمِّ عن الربيعِ عنه أنه قالَ: والمنقَطِعُ مُختلِفٌ، فمَن شاهَدَ أصحابَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن التابعينَ، فحَدَّثَ حَديثاً منْقَطِعاً عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اعْتُبِرَ عليه بأمورٍ: منها أنْ يُنْظَرَ إلى ما أَرسَلَ مِن الحديثِ، فإنْ شَرِكَهُ الْحُفَّاظُ المأمونونَ، فأَسْنَدُوهُ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمِثْلِ معنى ما رَوَى، كانت هذه دَلالةً على صِحَّةِ ما قِيلَ عنه وحَفِظَه، وإنِ انْفَرَدَ بإرسالِ حديثٍ لم يَشْرَكْه فيه مَن يُسنِدُه، قُبِلَ ما يَنفرِدُ به مِن ذلك، ويُعتبَرُ عليه بأنْ يُنظَرَ هل يُوافِقُه مُرْسَلُ غيرِه ممن قَبِلَ العلْمَ مِن غيرِ رِجالِه الذين قُبِلَ عنهم، فإنْ وُجِدَ ذلك كانت دَلالةً تُقَوِّي له مرْسَلَه، وهي أضْعَفُ مِن الأُولَى، وإنْ لم يُوجَدْ ذلك، نُظِرَ إلى بعضِ ما يَرْوِي عن بعضِ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قولاً له، فإنْ وُجِدَ يُوافِقُ ما رُوِيَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كانت هذه دَلالةً على أنه لم يَأخُذْ مرسَلَه إلا عن أصْلٍ يَصِحُّ إنْ شاءَ اللهُ.
وكذلك إنْ وُجِدَ عَوامٌّ مِن أهْلِ العلْمِ يُفْتُونَ بمِثْلِ معنى ما رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثم يُعْتَبَرُ عليه بأنْ يكونَ إذا سَمَّى مَن رَوَى عنه، لم يُسَمِّ مَجهولاً، ولا مَرغوباً عن الروايةِ عنه، فيُسْتَدَلُّ بذلك على صِحَّتِه فيما يَرْوِي عنه، ويكونَ إذا شَرِكَ أحَداً مِن الْحُفَّاظِ في حديثٍ لم يُخالِفْهُ، فإنْ خالَفَه ووُجِدَ حديثُه أنْقَصَ، كانت في هذه دلائلُ على صحَّةِ مَخرَجِ حديثِه.
ومتى خالَفَ ما وَصَفْتُ، أضَرَّ بحديثِه حتى لا يَسَعَ أحَداً منهم قَبولُ مُرسَلِه.
قالَ: وإذا وُجِدَت الدلائلُ لصِحَّةِ حديثِه بما وَصفتُ، أحْبَبْنَا- يَعنِي اخْتَرْنَا- كما قالَه البَيهقِيُّ- أنْ نَقبلَ مُرسَلَه، ولا نَستطيعُ أنْ نَزعُمَ أنَّ الْحُجَّةَ تَثْبُتُ به ثُبوتَها بالمؤْتَصِلِ؛ وذلك أنَّ معنى المنقَطِعَ مُغَيَّبٌ يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ حُمِلَ عمَّن يُرغَبُ عن الروايةِ عنه إذا سُمِّيَ وإنَّ بعضَ الْمُنقَطِعَاتِ، وإنْ وافَقَه مُرْسَلٌ مثلُه- فقد يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ مَخْرَجُهما واحداً مِن حديثِ مَن لو سُمِّيَ لم يُقْبَلْ.
وإنَّ قولَ بعضِ أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا قالَ برأْيِهِ لو وَافَقَه، لم يَدُلَّ على صحَّةِ مَخْرَجِ الحديثِ دَلالةً قَوِيَّةً إذا نُظِرَ فيها، ويُمْكِنُ أنْ يكونَ إنما غَلِطَ به حينَ سَمِعَ قولَ بعضِ أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يوافِقُه، ويَحْتَمِلُ مثلُ هذا فيمَن وافَقَه بعضُ الفُقهاءِ.
قالَ: فأمَّا مَن بعدَ كِبارِ التابعينَ الذين كَثُرَتْ مُشاهَدَتُهم لبعضِ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - فلا أعْلَمُ مِنهم واحداً يُقبَلُ مرسَلُه؛ لأمورٍ:
أحدُها: أنهم أشَدُّ تَجَوُّزاً فيمَن يَرْوُونَ عنه، والآخَرُ: أنهم تُوجَدُ عليهم الدلائلُ فيما أَرْسَلُوا بضَعْفِ مَخرَجِه، والآخرُ: كثرةُ الإحالةِ للأخبارِ، وإذا كثُرَتِ الإحالةُ، كانَ أمْكَنَ للوَهْمِ، وضُعِّفَ مَن يَقْبَلُ عنه.
وكذا رواه الخطيبُ في (الكفايةِ) مِن طريقِ أحمدَ بنِ موسى الْجَوْهَرِيِّ ومحمَّدِ بنِ حَمدانَ الطَّرَائِفِيِّ، كِلاَهُما عن الربيعِ به بزيادةِ قولِه في أواخِرِه: (عن التابعينَ الذين كَثُرَتْ مُشاهَدَتُهم لبعضِ الصحابةِ)، فليس عندَ البَيهقِيِّ، وهو يُفيدُ فائدةً جَليلةً.
وقد زادَ بعضُهم: (مما يَعْتَضِدُ به المرسَلُ) فعْلَ صحابِيٍّ، أو انتشاراً، أو عمَلَ أهلِ العصْرِ، أو قِياساً مُعْتَبَراً.
ويُمْكِنُ رُجوعُها إلى كلامِ الشافعيِّ بتَكَلُّفٍ في بَعْضِها، ثم إنَّ ما تَقدَّمَ عن الشافعيِّ مِن عَدَمِ الاحتجاجِ بالمرسَلِ إلا إِنْ اعْتَضَدَ- هو المعتمَدُ، وإن زعَمَ الماورديُّ أنه في الجديدِ يَحْتَجُّ بالمرسَلِ إذا لم يُوجَدْ دليلٌ سِواهُ، وكذا نَقَلَه غيرُه، فلَقَدْ رَدَّهُ ابنُ السَّمْعَانِيِّ بإجماعِ النَّقَلَةِ مِن العِراقِيِّينَ والْخُراسَانِيِّينَ للمسألةِ عنه، على أنه عندَه غيرُ حُجَّةٍ.
نعمْ قالَ التاجُ السُّبْكِيُّ ما معناه: إنه إذا دَلَّ على مَحظورٍ ولم يُوجَدْ سِواهُ، فالأظهَرُ وُجوبُ الانكفافِ؛ يَعنِي احتياطًا، وقَريبٌ منه ما ذَهَبَ إليه إمامُ الْحَرَمينِ في الجزْمِ بوُجوبِ الانكفافِ بخَبَرِ المستورِ؛ كما سيأتي فيه مع النِّزاعِ في الوُجوبِ بكلامِ النوويِّ.
(فإنْ يُقَلْ) على وَجْهِ الْخَدْشِ في الاعتضادِ بمسنَدٍ: (فالمسنَدُ) هو (المعتمَدُ) حينئذٍ ولا حاجةَ إلى المرسَلِ، (فقُلْ) مُجِيباً بما هو حاصِلُ كلامِ ابنِ الصلاحِ: إِنَّ المرسَلَ تَقَوَّى بالمسنَدِ، وبَانَ به قُوَّةُ الساقِطِ منه، وصَلاحِيَتُه للحُجَّةِ.
وأيضاً فكما قالَ النوويُّ -وعليه اقْتَصَرَ الناظِمُ- لتَضَمُّنِه إبداءَ فائدةِ ذلك: هما (دَليلانِ)؛ إذِ المسنَدُ دليلٌ برأسِه، والمرسَلُ (به) أي: المسنَدِ (يَعتَضِدُ)، ويَصيرُ دَليلاً آخَرَ، فيُرَجَّحُ بهما الخبَرُ عندَ مُعارَضَةِ خبرٍ ليس له سِوَى طريقٍ مسنَدٍ.
قالَ غيرُه: وربما يكونُ المسنَدُ حَسَناً، فيَرتقِي بالمرسَلِ عن هذه الْمَرتبةِ، ولكنَّ هذا الإيرادَ إنما يَأتي إذا كان المسنَدُ بمفْرَدِه صالحاً للحُجَّةِ، أمَّا إذا كان مما يَفتقِرُ إلى اعتضادٍ فلا؛ إذ كلٌّ منهما اعتَضَدَ بالآخَرِ، وصارَ به حُجَّةً.
ولذا قَيَّدَه الإمامُ الفخْرُ الرازيُّ في (المحصولِ) بقولِه: (هذا في مُسْنَدٍ لم تَقُمْ به الْحُجَّةُ إذا انْفَرَدَ)، أفادَه شيخُنا، وحينَئذٍ فيكونُ اعتضادُه بهذا المسنَدِ كاعتضادِه بمرسَلٍ آخَرَ؛ لاشتراكِهما في عَدَمِ الصَّلاحِيَةِ للحُجَّةِ، ويَجيءُ القولُ بعدَمِ الفائدةِ في ذلك؛ لأنه انضمامٌ غيرُ مَقبولٍ إلى مِثْلِه، فهو بِمَثابةِ شَهادةِ غيرِ العدْلِ إذا انْضَمَّتْ إلى مِثْلِها.
ولكنْ قد أُجيبَ بأنَّ القُوَّةَ إنما حَصَلَتْ مِن هيئةِ الاجتماعِ؛ إذ بانضمامِ أحَدِهما إلى الآخَرِ، قَوِيَ الظنُّ بأنَّ له أَصْلاً، كما تَقَدَّمَ في تَقريرِ الحسَنِ لغيرِه؛ أنَّ الضعيفَ الذي ضَعْفُه مِن جِهَةِ قِلَّةِ حفْظِ رَاوِيهِ وكَثرةِ غَلَطِه لا مِن جِهةِ اتِّهامِه بالكذِبِ - إذا رُوِيَ مثْلُه بسنَدٍ آخَرَ نَظيرُه في الروايةِ، ارْتَقَى إلى دَرجةِ الحسَنِ؛ لأنه يَزولُ عنه حِينئذٍ ما يُخافُ مِن سُوءِ حفْظِ الراوِي، ويَعْتَضِدُ كلٌّ مِنهما بالآخَرِ، ويَشهدُ لذلك أفرادُ المتواتِرِ.
والتشبيهُ بالشهادةِ ليس بِمَرْضِيٍّ؛ لافتراقِهما في أشياءَ كثيرةٍ (ورَسَمُوا) أيْ: سَمَّى جُمهورُ أهْلِ الحديثِ (مُنْقَطِعاً) قولَهم (عن رَجُلٍ) أو شيخٍ أو نحوِ ذلك مما يُبْهَمُ الراوي فيه، وأمثلتُه كثيرةٌ.
وممن صَرَّحَ بذلك ابنُ القَطَّانِ في (الوَهْمِ والإيهامِ) له، ومِن قَبْلِه الحاكمُ، وأشارَ إلى أنه لا يُسَمَّى مُرْسَلاً، و (في) كُتُبِ (الأصولِ) كـ (البرهانِ) لإمامِ الْحَرَمَيْنِ (نَعْتُه) يَعنِي تَسميتُه (بالمرسَلِ)؛ وذلك أنه جَعَلَ مِن صُوَرِه أنْ يقولَ رجُلٌ: عن فُلانٍ الراوي، مِن غيرِ أنْ يُسَمِّيَهُ.
أو: أَخْبَرَنِي مَوثوقٌ به رَضيٌّ، قالَ: وكذلك إسنادُ الأخبارِ إلى كُتُبِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ملْحَقٌ بالمرسَلِ؛ للجهْلِ بناقِلِ الكتابِ، بل في (المحصولِ) أنَّ الراوِيَ إذا سَمَّى الأصْلَ باسمٍ لا يُعرَفُ به، فهو كالمرسَلِ، وهذا يَشمَلُ المهمَلَ؛ كعن محمَّدٍ، وهو يَحتَمِلُ جماعةً يُسَمَّوْنَ بذلك، وكذا المجهولُ؛ إذ لا فَرْقَ.
وممن أَخْرَجَ الْمُبهَمَاتِ في الْمَراسيلِ أبو داودَ، وكذا أَطْلَقَ النوويُّ في غيرِ مَوْضِعٍ على رِوايةِ المبهَمِ مُرْسَلاً، وكلٌّ مِن هَذينِ القَولينِ خِلافُ ما عليه الأَكْثَرُ؛ فإنَّ الأكثرينَ مِن عُلماءِ الروايةِ وأربابِ النقْلِ - كما حكاه الرشيدُ العَطَّارُ في كتابِه (الغُرَرِ المجموعةِ) عنهم - على أنه مُتَّصِلٌ في إسنادِه مجهولٌ، واختارَه العَلائيُّ في (جامعِ التحصيلِ)، وأشارَ إليه بعضُ تَلامِذَةِ الناظمِ بقولِه:
قلتُ: الأصَحُّ أنه مُتَّصِلُ لكنَّ في إسنادِه مَن يُجْهَلُ
ولكنْ ليس ذلك على إطلاقِه، بل هو مُقَيَّدٌ بأنْ يكونَ الْمُبْهِمُ صَرَّحَ بالتحديثِ ونحوِه؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ مُدَلِّساً وهو ظاهِرٌ، وكذا قُيِّدَ القولُ بإطلاقِ الْجَهالةِ؛ بما إذا لم يَجِئْ مُسَمًّى في روايةٍ أُخْرَى.
وإذا كانَ كذلك، فلا يَنبغِي الْمُبادَرَةُ إلى الحكْمِ عليه بالْجَهالةِ، إلا بعدَ التفتيشِ؛ لِمَا يَنشأُ عنه مِن تَوَقُّفِ الفقيهِ عن الاستدلالِ به للحكْمِ مع كونِه مُسَمًّى في روايةٍ أُخْرَى، وليس بإسنادِه ولا مَتْنِه ما يَمنَعُ كونَه حُجَّةً، ولذا كان الاعتناءُ بذلك مِن أهَمِّ الْمُبْهَمَاتِ، كما سيأتِي.
وكلامُ الحاكِمِ في المنقَطِعِ يُشيرُ إليه؛ فإنه قالَ: وقد يُرْوَى الحديثُ وفي إسنادِه رجُلٌ غيرُ مُسَمًّى، وليسَ بمنقَطِعٍ، ثم ذَكَرَ مِثالاً مِن وَجهينِ، سُمِّيَ الراوي في أحَدِهما، وأُبْهِمَ في الآخَرِ، كما وَقَعَ للبُخاريِّ؛ فإنه أوْرَدَ حديثاً مِن وَجهينِ إلى أيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، قالَ في أحَدِهما: عن رَجُلٍ عن أنَسٍ، وفي الآخَرِ: عن أبي قِلاَبَةَ عن أنَسٍ.
ثم قالَ الحاكمُ: وهذا لا يَقِفُ عليه إلا الحافظُ الفَهِمُ المتبَحِّرُ في الصَّنْعَةِ، وبذلك صَرَّحَ في المعضَلِ كما سيأتي، ثم إنَّ صورةَ المسألةِ في وُقوعِ ذلك مِن غيرِ التابعِيِّ، فأمَّا لو قالَ التابعِيُّ: عن رجُلٍ، فلا يَخلُو إمَّا أنْ يَصِفَه بالصُّحْبَةِ أمْ لا، فإنْ لم يَصِفْهُ بها، فلا يكونُ ذلك مُتَّصِلاًَ؛ لاحتمالِ أنْ يكونَ تابِعِيًّا آخَرَ، بل هو مرسَلٌ على بابِه.
وإنْ وَصَفَه بالصُّحبةِ، فقد وَقَعَ في أماكنَ مِن (السنَنِ) وغيرِها للبَيهقيِّ تَسميتُه أيضاً مرْسَلاً، ومُرادُه مُجَرَّدُ التسميةِ، فلا يَجرِي عليه حكْمُ الإرسالِ في نَفْيِ الاحتجاجِ، كما صَرَّحَ بذلك في القِراءةِ خلْفَ الإمامِ مِن "مَعرِفَتِه" عقِبَ حَديثٍ رَواهُ عن محمَّدِ بنِ أبي عائشةَ عن رجُلٍ مِن الصحابةِ؛ فإنه قالَ: وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وأصحابُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كلُّهم ثِقَةٌ، فتَرْكُ ذكْرِ أسمائِهم في الإسنادِ لا يَضُرُّ، إذا لم يُعارِضْه ما هو أصَحُّ منه. انتهى.
وبهذا القَيْدِ ونحوِه يُجابُ عمَّا تُوُقِّفَ عن الاحتجاجِ به مِن ذلك، لا لكونِه لم يُسَمَّ ولو لم يُصَرَّحْ به، ويَتأيَّدُ كونُ مِثْلِ ذلك حُجَّةً بما رَوَى البخاريُّ عن الْحُمَيْدِيِّ قالَ: إذا صَحَّ الإسنادُ عن الثِّقاتِ إلى رجُلٍ مِن الصحابةِ، فهو حُجَّةٌ وإنْ لم يُسَمَّ.
وكذا قالَ الأَثْرَمُ: قلتُ لأحمدَ: إذا قالَ رجُلٌ مِن التابعينَ: حدَّثَنِي رجُلٌ مِن الصحابةِ ولم يُسَمِّه، فالحديثُ صحيحٌ؟ قالَ: نعمْ، ولكنْ قَيَّدَه ابنُ الصَّيْرَفِيِّ بأنْ يكونَ صَرَّحَ بالتحديثِ ونحوِه، أمَّا إذا قالَ: عن رَجُلٍ مِن الصحابةِ، وما أَشْبَهَ ذلك، فلا يُقْبَلُ.
قالَ: لأنِّي لا أعْلَمُ أسَمِعَ ذلك التابعِيُّ منه أمْ لا؟ إذ قد يُحَدِّثُ التابعِيُّ عن رَجُلٍ، وعن رَجُلينِ عن الصحابِيِّ، ولا أَدْرِي هل أمْكَنَ لِقاءُ ذلك الرجُلِ أمْ لا، فلو عَلِمْتُ إمكانَه فيه، لَجَعَلْتُه كمُدْرِكِ العصْرِ.
قالَ الناظِمُ: وهو حسَنٌ مُتَّجِهٌ، وكلامُ مَن أطْلَقَ محمولٌ عليه.
وتَوَقَّفَ شيخُنا في ذلك؛ لأنَّ التابعِيَّ إذا كان سالِماً مِن التدليسِ، حُمِلَتْ عَنْعَنَتُهُ على السماعِ، وهو ظاهِرٌ.
قالَ: ولا يُقالُ: إنما يَتَأَتَّى هذا في حَقِّ كِبارِ التابعينَ الذينَ جُلُّ رِوايتِهم عن الصحابةِ بلا واسِطَةٍ، وأمَّا صِغارُ التابعينَ الذينَ جُلُّ رِوايتِهم عن التابعينَ؛ فلا بُدَّ مِن تَحَقُّقِ إدراكِه لذلك الصحابِيِّ، والفرْضُ أنه لم يُسَمِّهِ؛ حتى نَعلمَ هل أدْرَكَه أمْ لا؟ لأنَّا نقولُ: سلامتُه مِن التدليسِ كافيةٌ في ذلك؛ إذ مَدارُ هذا على قُوَّةِ الظنِّ، وهي حاصلةٌ في هذا الْمَقامِ.
(أمَّا) الخبَرُ (الذي أرْسَلَهُ الصحابِي) الصغيرُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ كابنِ عبَّاسٍ وابنِ الزُّبيرِ ونحوِهما ممن لم يَحفَظْ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلاَّ اليسيرَ، وكذا الصحابِيُّ الكبيرُ فيما ثَبَتَ عنه أنه لم يَسمعْه إلاَّ بوَاسِطَةٍ.
(فحُكْمُه الوصْلُ) المقتضِي للاحتجاجِ به؛ لأنَّ غالِبَ روايةِ الصِّغارِ مِنهم عن الصحابةِ، ورِوايتِهم عن غيرِهم -كما قالَ النوويُّ في (شَرْحِ المهذَّبِ)- زيادةٌ، فإذا رَوَوْها بَيَّنُوها، وحيثُ أطْلَقُوا، فالظاهِرُ أنهم عَنَوْا الصحابةَ. انتهى.
ولا شَكَّ أنهم عُدولٌ لا يَقدَحُ فيهم الْجَهالةُ بأعيانِهم، وأيضاً فما يَرويهِ عن التابعينَ، غالِبُه بل عامَّتُه إنما هو مِن الإسرائيلياتِ، وما أَشْبَهِها مِن الحكاياتِ، وكذا الموقوفاتُ، والحكْمُ المذكورُ (على الصوابِ) المشهورِ، بلْ أهْلُ الحديثُ وإنْ سَمَّوْهُ مُرْسَلاً، لا خِلافَ بينَهم في الاحتجاجِ به، وإنْ نَقَلَ ابنُ كثيرٍ عن ابنِ الأثيرِ وغيرِه فيه خِلافاً.
وقولُ الأستاذِ أبي إسحاقَ الإِسْفِرَائِينِيِّ وغيرِه مِن أئمَّةِ الأصولِ: أنه لا يَحْتَجُّ به -ضَعيفٌ، وإنْ قالَ ابنُ بَرهان في (الأوسطِ): إنه الصحيحُ؛ أيْ لا فَرْقَ بينَ مَراسيلِ الصحابةِ، ومَراسيلِ غيرِهم.
وقالَ القاضِي عبدُ الْجَبَّارِ: إنَّ مَذهبَ الشافعيِّ، أنَّ الصحابِيَّ إذا قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كذا، قُبِلَ إلا إنْ عُلِمَ أنه أَرْسَلَه، وكذا نَقَلَه ابنُ بَطَّالٍ في أوائلِ (شرْحِه للبُخاريِّ) عن الشافعِيِّ؛ فالنقْلُ بذلك عن الشافعيِّ خِلافُ المشهورِ مِن مَذهبِه، وقد صَرَّحَ ابنُ بَرْهان في (الوَجيزِ) أنَّ مَذهبَه أنَّ المراسيلَ لا يَجوزُ الاحتجاجُ بها، إلا مَراسيلَ الصحابةِ، ومَراسيلَ سعيدٍ، وما انعَقَدَ الإجماعُ على العمَلِ به.
أمَّا مَن أُحْضِرَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غيرَ مُمَيِّزٍ؛ كعُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الْخِيَارِ، فإنه ليس له سِوَى رُؤيةٍ، كما قالَه ابنُ حِبَّانَ، ونحوُه قولُ البَغَوِيِّ: بَلَغَنِي أنه وُلِدَ على عهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ولذا حَمَلَ شيخُنا ما في البُخاريِّ مِن أنَّ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قالَ له: يا ابنَ أخِي، أدْرَكْتَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قال: لا، على أنَّ مُرادَه أنه لم يُدْرِكِ السماعَ منه.
وكمحمَّدِ بنِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ فإنه وُلِدَ عامَ حَجَّةِ الوداعِ، فهذا مرسَلٌ، لكنْ لا يُقالُ: إنه مَقبولٌ؛ كمَراسيلِ الصحابةِ؛ لأنَّ رِوايةَ الصحابةِ إمَّا أنْ تكونَ عن النبي ِّصَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو عن صحابِيٍّ آخَرَ، والكلُّ مَقبولٌ.
واحتمالُ كونِ الصحابِيِّ الذي أدرَكَ وسَمِعَ يَرْوِي عن التابعينَ - بعيدٌ جِدًّا، بخِلافِ مَراسيلِ هؤلاءِ؛ فإنها عن التابعينَ بكثرةٍ، فقَوِيَ احتمالُ أنْ يكونَ الساقِطُ غيرَ الصحابِيِّ، وجاءَ احتمالُ كونِه غيرَ ثِقَةٍ.
واعْلَمْ أنه قد تَكَلَّمَ العُلماءُ في عِدَّةِ الأحاديثِ التي صَرَّحَ ابنُ عبَّاسٍ بسَمَاعِها مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكانَ مِن الغريبِ قَولُ الغزالِيِّ في (الْمُستصْفَى) وقَلَّدَه جماعةٌ: إنها أربعةٌ ليس إلاَّ.
وعن يحيى القَطَّانِ، وابنِ مَعينٍ، وأبي دَاوُدَ صاحِبِ (السنَنِ): تِسعةٌ، وعن غُنْدَرٍ: عشرةٌ، وعن بعضِ الْمُتأخِّرينَ: أنها دُونَ العِشرينَ مِن وُجوهٍ صِحاحٍ.
وقد اعْتَنَى شيخُنا بجَمْعِ الصحيحِ والحسَنِ فقط مِن ذلك، فزَادَ على الأربعينَ، سِوَى ما هو في حكْمِ السماعِ؛ كحكايةِ حُضورِ شيءٍ فُعِلَ بحَضْرَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأشارَ شيخُنا لذلك، عَقِبَ قولِ البخاريِّ في الحديثِ الثالثِ مِن بابِ الحشْرِ مِن الرَّقائقِ: هذا مما يُعَدُّ أنَّ ابنَّ عَبَّاسٍ سَمِعَه.
خاتِمَةٌ: المرسَلُ مَراتِبُ: أعْلاَهَا: ما أَرْسَلَه صحابِيٌّ ثَبَتَ سماعُه، ثم صحابِيٌّ له رُؤيةٌ فقط، ولم يَثْبُتْ سماعُه، ثم الْمُخَضْرَمُ، ثم الْمُتْقِنُ؛ كسعيدِ بنِ المسيِّبِ، ويَلِيهَا مَن كانَ يَتَحَرَّى في شيوخِه؛ كالشَّعْبِيِّ ومجاهِدٍ، ودونَها مَراسيلُ مَن كانَ يَأخُذُ عن كلِّ أحَدٍ كالحسَنِ.
وأمَّا مَراسيلُ صِغارِ التابعينَ؛ كقَتادةَ والزُّهريِّ وحُميدٍ الطويلِ- فإنَّ غالِبَ روايةِ هؤلاءِ عن التابعينَ.
وهل يَجوزُ تَعَمُّدُهُ؟ قالَ شيخُنا: إنْ كانَ شيخُه الذي حَدَّثَه به عَدْلاً عندَه وعندَ غيرِه فهو جائزٌ بلا خِلافٍ، أوْ لا فممنوعٌ بلا خِلافٍ، أو عدْلاً عندَه فقط أو عندَ غيرِه فقط، فالجوازُ فيهما محتَمَلٌ، بحسَبِ الأسبابِ الحاملةِ عليه، الآتي في التدليسِ الإشارةُ لشيءٍ منها.
وقد بَسَطْنَا الكلامَ في هذا النوعِ بالنِّسبةِ لِمَا قَبْلَه؛ لكَوْنِه - كما قالَ النوويُّ في (الإرشادِ) - مِن أجَلِّ الأبوابِ، فإنه أحكامٌ مَحْضَةٌ، ويَكْثُرُ استعمالُه بخِلافِ غيرِه.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المرسل

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:30 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir