دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > عمدة الأحكام > كتاب الجنائز

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ذو القعدة 1429هـ/7-11-2008م, 12:48 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي [تحريم النياحة واتخاذ القبور مساجد]

وعن أبِي موسى –عبدِ اللهِ بنِ قَيْسٍ- رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بَرِئَ مِن الصَّالِقَةِ، وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ.
الصَّالِقَةُ: التي تَرْفَعُ صَوْتَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ.
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا قالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لهَا: مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا أتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ - فَذَكَرَتَا مِن حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وقالَ: ((أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فيهمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيه تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ)).
وعنهَا رَضِيَ اللهُ عنهَا قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم –في مَرَضِهِ الذي لمْ يَقُمْ مِنْهُ-: ((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)).
قالَتْ: وَلَولا ذَلِكَ لأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مسْجدًا.
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قَالَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَن ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ)).

  #2  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 03:12 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الثاني: التصحيح اللغوي)

قولُه : أن أمَّ حبيبةَ وأمَّ سلَمةَ ذَكرتا كَنيسةً رَأَيْنَها بأرضِ الحبشةِ.
هكذا وَقَعَ في الروايةِ رأينها وهو في التحقيقِ ضَميرُ جماعةِ المؤنَّثِ يُقَدَّرُ أن يكونَ أَجْرَى الاثنين مَجْرَى الجمْعِ كقولِه تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } قالَه أبو البقاءِ .
قولُه : وتصاويرَ فيها .
هو بنصبِ الراءِ لأنه غيرُ منصرِفٍ .
قولُه : غيرَ أنه خَشِيَ بفتْحِ الخاءِ .
قالَ القاضي عِياضٌ : ورُوِيَ بالضمِّ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه والصوابُ الأوَّلُ .

  #3  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 03:14 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي خلاصة الكلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابٌ في تحريمِ التَّسَخُّطِ بالفعلِ والقولِ

الْحَدِيثُ الستُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
وعنْ أبِي موسى –عبدِ اللَّهِ بنِ قَيْسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، ((أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِئَ مِن الصَّالِقَةِ، وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ)).

الْحَدِيثُ الحادي والستُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ)).

المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (الصَّالِقَةِ). التي تَرْفَعُ صَوْتَهَا عندَ المُصِيبَةِ بالنَّوْحِ والعَوِيلِ.
قَوْلُهُ: (الحَالِقَةِ). التي تَحْلِقُ شَعْرَهَا من الجَزَعِ.
قَوْلُهُ: (الشَّاقَّةِ). أي: التي تَشُقُّ جَيْبَهَا أوْ ثَوْبَهَا تَسَخُّطًا منْ قضاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ). هيَ النِّيَاحَةُ.

فِيهِمَا مَسَائِلُ:
الأُولَى: تَحْرِيمُ التَسَخُّطِ منْ أقدارِ اللَّهِ المُؤْلِمَةِ بِقَوْلٍ أوْ فعلٍ، وأنَّهُ من الكبائرِ.
الثَّانِيَةُ: تحريمُ تقليدِ أهلِ الجاهليَّةِ بأمورِهِم التي لم يُقِرَّهَا الشَّرْعُ.
الثَّالِثَةُ: لا بأسَ بالحزنِ والبكاءِ؛ لأنَّهُ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى، لا تُنَافِي الصبرَ على قضاءِ اللَّهِ.


الْحَدِيثُ الثاني والستُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا قالَتْ: ((لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لهَا: مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ أتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ- فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فيهمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيه تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تحريمُ الغناءِ على القبورِ؛ لأنَّهُ منْ وسائلِ الشركِ.
الثَّانِيَةُ: تحريمُ التصويرِ لذي الرُّوحِ لا سِيَّمَا أهلُ الصلاحِ الذينَ يُخْشَى الغُلُوُّ بِهِمْ.
الثَّالِثَةُ: أنَّ مَنْ عَمِلَ هذا فَهُوَ منْ أَشَرِّ خلقِ اللَّهِ.
الْحَدِيثُ الثالثُ والستُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
وعنهَا قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –في مَرَضِهِ الذي لمْ يَقُمْ مِنْهُ-: ((لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)).
قالَتْ: وَلَولا ذَلِكَ لأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مسْجدًا.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: النَّهْيُ الْأَكِيدُ والوَعِيدُ الشديدُ من اتِّخَاذِ القُبُورِ مَسَاجِدَ، وَقَصْدِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا فهوَ منْ فعلِ اليهودِ والنصارَى.
الثَّانِيَةُ: أنَّ الصلاةَ عندَ القبرِ منْ وسائلِ الشركِ.
الثَّالِثَةُ: أنَّ اللَّهَ صَانَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ عنْ أنْ يَعْمَلَ شيئًا من البِدَعِ، فَأَلْهَمَ أصحابَهُ ومَنْ بَعْدَهُ أنْ يُحَجِّرُوا قَبْرَهُ الشريفَ عنْ موطنِ الصلاةِ.

  #4  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 03:17 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تيسير العلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بَابٌ في تَحْرِيمِ التَّسَخُّطِ
بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ
الحديثُ الحادي والستونَ بعدَ المائةِ
وعن أبي مُوسى – عبدِ اللهِ بنِ قيْسٍ - رَضِي اللهُ عَنْهُ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ، وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ)).
قال المُصَنِّفُ: الصَّالِقَةُ: التي ترْفَعُ صوْتَها عندَ المُصيبَةِ.
الحديثُ الثاني والستونَ بعدَ المائةِ
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بدَعْوَى الجاهِلِيَّةِ)) .
(161-162) الغَريبُ:
1ـ " الصَّالِقَةُ " : التي تَرفَعُ صوْتَها عندَ المُصِيبَةِ، بالنَّوْحِ والعَوِيلِ.
2ـ " الْحَالِقَةُ " : التي تَحْلِقُ شعرَها أو تنْتِفُه من شِدَّةِ الجَزَعِ والهَلَعِ.
3ـ " الشَّاقَّةُ " : التي تَشُقُّ جَيْبَها أو ثَوْبَها تَسَخُّطاً على قضاءِ اللهِ.
4ـ " دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ " : وذلك بالتَّفَجُّعِ على الميِّتِ والنِّياحةِ عليه بأنَّه قاتلُ النّفوسِ وكَهْفُ العشِيرةِ، وكافِلُ الأيتامِ . إلى غيرِ ذلك من المناقِبِ التي كانوا يَعُدُّونَها، ومِثْلُهُ النُّدْبَةُ كـ [ يا سَنَدَاهُ].
وَ[انقطاعَ ظَهْرَاهُ] وكلُّ قوْلٍ يُنْبِئُ عن السَّخَطِ والجَزَعِ من قدَرِ اللهِ تعالى وحِكمتِهِ.
5ـ " ضَرَبَ الْخُدُودَ " : لطَمَهَا، وقد جاء بالجَمْعِ مُناسَبَةً لِما بعدَه.
6ـ " الْجَيْبُ ": ما شُقَّ من الثَّوبِ لإدخالِ الرّأسِ.
المعنَى الإجماليُّ:
للهِ ما أخذَ وله ما أَعْطَى، وفي ذلك الحِكمةُ التّامَّةُ، والتَّصرُّفُ الرّشيدُ.
ومَن عارضَ في هذا ومانَعَه فكأنَّما يعْتَرِضُ على قَضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ الذي هو عينُ المصلْحَةِ والْحِكمَةِ ، وأساسُ العدْلِ والصّلاحِ.
ولذا فإن النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أنه من تَسَخَّطَ وجَزِعَ مَن قضاءِ اللهِ فهو على غيرِ طريقَتِه المحمودةِ ، وسُنَّتِهِ المنْشُودَةِ؛ إذ قد انْحَرَفَتْ به الطّريقُ إلى ناحيةِ الذين إذا مسَّهُم الشَّرُّ جزِعوا وهلَعوا ؛ لأنهم متعلِّقونَ بهذه الحياةِ الدّنيا، فلا يَرجونَ بصبْرِهم على مُصيبَتِهم ثوابَ اللهِ ورضوانَه.
فهو بَرِيءٌ مِمَّن ضَعُفَ إيمانُهم فلم يَحتمِلُوا وقْعَ المُصِيبَةِ حتَّى أخرجَهم ذلك إلى التَّسخُّطِ القوليِّ بالنِّياحةِ والنَّدبِ، أو الفِعْلِيِّ ، كَنَتْفِ الشُّعورِ، وشقِّ الجُيُوبِ، إحياءً لعادةِ الجاهليَّةِ.
وإنَّما أولياؤُه الذين إذا أصابتهم مُصيبةٌ سَلَّموا بقضاءِ اللهِ، وقالوا: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) سُورَةُ البقرةِ، الآيتانِ156-157.
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1ـ تَحريمُ التَّسخُّطِ من أقدارِ اللهِ المؤْلِمَةِ، وإظهارِ ذلك بالنّياحةِ أو النَّدبِ أو الحلْقِ أو الشَّقِّ أو غيرِ ذلك كحثْيِ التُّرابِ على الرّأسِ.
2ـ تَحريمُ تقْليدِ الجاهليَّةِ بأمورِهم التي لم يُقِرَّهُمْ الشَّارعُ عليها، ومِن جُملتِها دَعاوِيهم الباطلةُ عندَ المصائِبِ.
3ـ أن هذا الفعلَ وهذا القولَ من الكبائرِ؛ لأن النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرَّأَ مِمَّنْ عَمِلَ ذلك، ولا يَتَبَرَّأُ إلا من فعلِ كبيرةٍ.
4ـ لا بأسَ من الحُزنِ والبُكاءِ، فهو لا يُنافي الصَّبرَ على قضاءِ اللهِ، وإنما هو رحمةٌ جعلها اللهُ في قُلوبِ الأقاربِ والأحِبَّاءِ.
والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِنَ وذَرَفَتْ عيناه وقال : ((لاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِي الرَّبَّ)). وبعضُهم استحبَّ البُكاءَ.
وللعلماءِ العارفينَ في هذا البابِ آراءٌ يذهبونَ فيها حسْبَما تُوحِي إليهم نزعاتُهم الدِّينِيَّةُ.
فائِدتانِ:
الأولى: الإيمانُ باللهِ تعالى ، وحُسنُ رجاءِ العبدِ برَبِّهِ ومثُوبتِهِ، ظِلٌّ ظليلٌ يأْوِي إليه كلُّ مَن لَفَحَتْهُ سمائِمُ الحياةِ المُحرِقَةُ، فإنَّه يجدُ فيه الرَّاحةَ والأُنْسَ والأمْنَ، لِما يَرجُوه من ثوابِ اللهِ تعالى وجَزِيلِ عطائِه للصابرينَ.
فتَرْخُصُ عندَه الحياةُ وتَسْهُلُ عليه الأمورُ ، ولذا قيل: مَن عَرَفَ اللهَ هَانَتْ عليه مُصِيبَتُهُ.
والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((عَجَباً لِلْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ عَجَبٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ، كَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ ، كَانَ خيْراً لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ)).
ولَمَّا فقد النَّاسُ هذا الظِّلَ الوارفَ من الإيمانِ بربِّهِم والرِّجَاءِ لحُسْنِ جَزَائِهِ والأملِ في كريمِ مثوبتِه صِرْنَا في هذا الزّمنِ نرَى ـ والعياذُ باللهِ ـ كَثرةَ حوادثِ الانْتحارِ ممَّن لم يدخلِ الإيمانُ في قلوبِهمْ ، فيقتُلونَ أنْفُسَهم ، ويَجعلونَ بأنْفُسِهم إلى النّارِ؛ لأنهم لم يَسْتَرْوِحُوا هذا الظِّلَّ الذي يَجِدُه المؤمنُ بربِّه، الواثقُ بوعدِه.
بل عندَ أتْفَهِ الأسبابِ يَئِدُونَ أعمارَهم ، ولا يَدرونَ بأنهم بِتَعُجُّلِهِم المُزْرِي ينتقلونَ إلى عذابٍ أشدَّ مما هم فيه، وأنهم كالمستنْجِدِ من الرَّمضاءِ بالنّارِ.
فليس لديهم قلبُ المؤمنِ الرّاضِي الذي تهونُ عندَه المصائبُ بجانبِ ما عندَ اللهِ من الجزاءِ الكريمِ.
الثانيةُ: مذْهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ ، أنَّ المسلمَ لا يخرجُ من دائرةِ الإسلامِ بمُجرَّدِ فعلِ المعاصي , وإن كَبُرَتْ، كقتْلِ النّفسِ بغيرِ حقٍّ.
ويُوجدُ كثيرٌ من النُّصوصِ الصَّحيحةِ تُفيدُ بظاهرِها خروجَ المسلمِ من الإسلامِ لفعلِه بعضَ الكبائرِ، وذلك كهذينِ الحديثينِ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَربَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ)) إلخْ.
وأن النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ)) ، ومِثْلِ : ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأِخِيهِ مَا يُحِبُّ لنِفْسِهِ)) وكحديثِ: ((واللهِ لاَ يُؤْمِنُ، واللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، واللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)) وحديثِ: ((لاَ يَزْنِي الزّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) وغيرُ هذا كثيرٌ.
وقد اختلفَ العُلماءُ في المُرادِ منها.
فمنهم مَن رأى السُّكوتَ عنها، وأن تُمَرَّ كما جاءت، وذلك أنه يُرادُ بها الزّجرُ والتّخويفُ، فتبقى على تهويلِها وتخويفِها، ومنهم مَن أوَّلَها.
وأحسنُ تأويلاتِهِم ما قاله شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ مِن أنَّ الإيمانَ نوعانِ:
أ ـ نوعٌ يمنعُ من دخولِ النَّارِ.
ب ـ ونوعٌ لا يمنعُ من الدُّخولِ، ولكن يَمنعُ من الخلودِ فيها.
فمَن كمُلَ إيمانُه ، وسارَ على طريقِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدْيِه الكاملِ، فهو الذي يمنعُه إيمانُه من دخولِ النّارِ.
وقال رحمه اللهُ: إنَّ الأشياءَ لها شروطٌ وموانعُ، فلا يتمُّ الشّيءُ إلا باجتماعِ شروطِه وانتفاءِ موانِعِه.
مثالُ ذلك: إذا رُتِّبَ العذابُ على عملٍ، كان ذلك العملُ مُوجِباً لحصُولِ العذابِ ما لم يُوجدْ مانعٌ يمنعُ من حُصُولِه.
وأكبرُ الموانعِ وجودُ الإيمانِ، الذي يمنعُ من الخلودِ في النّارِ.

الحديثُ الثالثُ والستونَ بعدَ المائةِ
عن عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهُا قالت: لَمَّا اشْتَكَى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لهَا: مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: ((أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فيهم الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيه تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ)) .
(163) الغَريبُ:
" اشْتَكَى " : من الشّكْوى ، أي: المرضِ .
" الْكَنِيسَةُ " : مُتعبَّدُ النَّصارى ، وتُجمعُ على كنائسَ .
" شِرَارُ " : جمعُ شَرٍّ ، وهي صفةٌ مُشبَّهةٌ مثلَ بَرٍّ .
المعنَى الإجماليُّ:
كانت [ أُمُّ سلمةَ ] و[ أمُّ حبيبةَ ] من المُهاجراتِ إلى أرضِ الحبشةِ ، قبلَ أن يتزوَّجَ بهما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلمَّا كان في مرضِهِ الذي تُوُفِّيَ فيه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ذكرَتا له ما رأَتاه من كنيسةٍ في مُهاجَرِهِما الأوَّلِ، وما فيها من حُسْنِ الزَّخرفةِ والتَّصاويرِ، فلم يَشغلْه مرضُه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أن يُبيِّنَ ما في عملِهم في كنائِسِهم ، وفي موْتاهم من المَحاذيرِ .
لذا رفَع رأسَه وقال : (( إِنَّ هؤلاءِ الذين تَذْكُرانِ من كنائِسِهم وتصاوِيرِهم كانوا يتعدَّوْنَ الحدودَ، ويغلُونَ في موتاهم، فإذا مات الرَّجُلُ الصَّالحُ بَنَوْا على قبرِه مسجداً ، وصوَّروا تلك الصُّورَ)).
وبما أن عملَهم هذا مُنافٍ للتَّوحيدِ، الذي هو أوجبُ الواجباتِ، وضررُه لا يقتصرُ على مَن هم عليه، بل يتعدَّاهم إلى غيرِهم من المغرورِينَ الجاهلينَ، فإنَّ فاعلِيه شرُّ الخلقِ عندَ اللهِ تعالى.
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1ـ تحريمُ البناءِ على القبرِ، وأنه من التَّشبُّهِ بالمشركينَ، ومن وسائلِ الشِّركِ.
2ـ تحريمُ التَّصويرِ لذي الرُّوحِ، لا سيَّما لأهلِ الصَّلاحِ الذين يُخْشَى من صورِهم الفتنةُ.
قال ابنُ دَقِيقِ الْعِيدِ -رحمه اللهُ- في دليلِ تحريمِ مثلِ هذا الفعلِ: وقد تظاهرت دلائلُ الشَّريعةِ على المنعِ من التَّصويرِ والصُّورِ، ولقد أبعدَ غايةَ البُعدِ مَن قال: إن ذلك محمولٌ على الكراهةِ، وأنَّ هذا التَّشديدَ كان في ذلك الزَّمانِ، لقُربِ عهدِ النَّاس بعبادةِ الأوثانِ، وهذا الزّمانُ حيثُ انتشرَ الإسلامُ وتمهَّدت قواعدُه لا يُساويه في هذا المعنى، فلا يُساوِيه في التَّشديدِ. وهذا القولُ عندَنا باطلٌ قطعاً.
وصوَّبَ الصَّنعانيُّ قولَ ابنِ دَقِيقِ الْعِيدِ.
وقال النَّوَوِيُّ: تصويرُ الحيوانِ من الكبائرِ؛ لأنَّه تُوُعِّدَ عليه هذا الوعيدُ الشَّديدُ ، إلا أنَّ الممنوعَ ما كان له ظِلٌّ، وأما ما لا ظِلَّ له فلا بأسَ باتِّخاذِه. قال الصّنعانيُّ: وهو مذْهبٌ باطلٌ، فإن السِّترَ الذي أنكرَه النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت الصُّورةُ فيه بلا ظِلٍّ بغيرِ شكٍّ. وأيَّدَ ابنُ حَجَرٍ القولَ بتحريمِ ما له ظلٌّ وما ليس له ظلٌّ أخْذاً بحديثٍ أخرجه أحمدُ، عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((أَيُّكُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلاَ يَدَعُ فِيهَا صُورَةً إِلاَّ انْتَزَعَهَا)).
3ـ أنَّ مَن عمِل هذا، فهو من شرِّ خلقِ اللهِ لِمَا في عملِه من المحاذيرِ الكثيرةِ والعواقبِ الوخيمةِ عليه وعلى غيرِه.
4ـ فيه كمالُ نُصحِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لم يصرِفْه عن الموعظةِ ما يُقاسِيه من الألمِ.

الحديثُ الرابعُ والستونَ بعدَ المائةِ
عن عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهُا قالت: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في مَرَضِهِ الذي لم يَقُمْ مِنْهُ -:
((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)).
قالت: وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأُبْرِزَ قبرُه، غيرَ أنه خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مسْجداً .
(164) المعنَى الإجماليُّ:
كانت عائشةُ رَضِي اللهُ عَنْها، هي التي مرَّضت النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مرَضَه الذي تُوُفِّيَ فيه، وهي الحاضرةُ وقتَ قبْضِ رُوحِه الكريمِ.
فذكرت أنَّه في هذا المرضِ الذي لم يقُمْ منه، خَشِيَ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُتَّخَذَ قبرُه مسجداً، يُصلَّى عندَه، ،فَتَجُرُّ الحالُ إلى عبادتِه من دونِ اللهِ تعالى. فقال : ((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصارى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) يُحذِّرُ من عملِهِم.
ولذا عَلِمَ الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنْهُم مُرادَه، فجعلوه في داخلِ حُجرةِ عائشةَ.
ولم يُنقَلْ عنهم، ولا عن مَن بعدَهم من السَّلفِ، أنهم قَصدوا قبرَه الشَّريفَ ليدخلوا إليه فيُصَلُّوا ويَدْعوا عندَه.
حتَّى إذا تَبدَّلت السُّنَّةُ بالبِدْعَةِ، وصارت الرِّحلةُ إلى القبورِ، حفِظَ اللهُ نَبِيَّهُ ممَّا يكرهُ , أن يُفعلَ عند قبرِه، فصانه بثلاثةِ حُجُبٍ متينَةٍ، لا يَتَسنَّى لأيِّ مُبْتَدِعٍ أن يَنْفُذَ خلالَها.
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1ـ النَّهيُ الأكيدُ، والتّحريمُ الشَّديدُ، من اتِّخاذِ القبورِ مساجدَ، وقصدِ الصَّلاةِ عندَها.
قال الصَّنعانيُّ رحمه اللهُ تَعالَى: إن ذلك ذريعةٌ إلى تعظيمِ الميِّتِ والطَّوافِ بقبرِه والتَّمسحِ بأركانِه والنِّداءِ باسمِه، وهذه بدعةٌ عظيمةٌ عمَّت الدُّنيا ، وعبدَ النَّاسُ القبورَ ، وعظَّموها بالمشاهِدِ والقِبابِ، وزادوا على فعلِ الجاهليةِ ، فأسْرَجُوها ، وجعلوا لها نصيباً من أموالِهم كما قال تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ) سُورةُ النَّحلِ، آيةُ56.
وذُكِر أنه قد وردت بعضُ الأحاديثِ التي تدُلُّ على أن قبرَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَفْعَلْ به السَّلفُ شيئاً من هذا القبيلِ فقد أخرجَ أبو داودَ ، عن القاسمِ بْنِ محمدٍ أنه دخل على عائشةَ فكشَفَت له عن ثلاثةِ قبورٍ لا مُشْرِفَةٍ، ولا لاَطِئَةٍ؛ أي: قبرِه وقبرَيْ صاحبيْه، وذَكَرَ الصّنعانيُّ أن ذلك غيرُ جائزٍ , سواءٌ أكانَ القبرُ في قِبلةِ المسجدِ أَمْ غيرِها.
2ـ أن هذا من فعلِ اليهودِ والنَّصارى، فمَن فَعَلَه فقد اقْتَفَى أثَرَهم، وترك سُنَّةَ محمدٍ عليه الصَّلاةُ والسلامُ.
3ـ أن الصَّلاةَ عندَ القبرِ، سواءٌ كانت بمسجدٍ أو بغيرِ مسجدٍ، من وسائلِ الشِّركِ الأكبرِ.
4ـ أن اللهَ تعالى صان نَبِيَّهُ عليه الصَّلاةُ والسلامُ عن أن يُعْمَلَ الشِّركُ عندَه، فألْهم أصحابَه ومَن بعدَهم، أن يصونوه.
5ـ أن هذا من وصاياه الأخيرةِ التي أعدَّها لآخرِ أيَّامِه لِتُحْفَظَ.

  #5  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 03:18 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي إحكام الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد

166 - الحديثُ العاشرُ: عن أبِي موسى - عبدِ اللهِ بنِ قيسٍ - أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ والحَالِقَةِ والشَّاقَّةِ.
قال رحمه اللهُ: ((الصَّالِقَةُ)): التي تَرفَعُ صوْتَها عِنْدَ المُصِيْبَةِ.
فيه دليلٌ على تحريمِ هذه الأفعالِ، والأصلُ ((السَّالقة)) بالسِّينِ، وهوَ رفعُ الصوتِِ بالعويلِ والنَّدبِ، وقريبٌ منهُ قولهُ تعالى: (سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) [الأحزابِ: 19] والصادُ قد تُبدَلُ من السِّينِ، و((الحَالِقَةُ)) حَالقَةُ الشَّعرِ، وَفِي معناه: قطعُه مِن غيرِ حلقٍ، و((الشَّاقَّةُ)) شاقَّةُ الجَيْبِ، وكلُّ هذهِ الأفعالِ مشعرٌ بعدمِ الرِّضَى بالقضاءِ والتَّسَخُّطِ لهُ، فامتنَعَتْ لذلكَ.
167 - الحديثُ الحادي عشرَ: عن عائشةَ ـ رضي اللهُ عنها ـ قالت: لَمَّا اشْتَكَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيْسَةً رَأَيْنَها بأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لها: مَارِيَةُ - وَكَانَتْ أمُّ سَلَمَةَ وأُمُّ حَبِيَبَةَ أَتَتا أَرْضَ الحَبَشَةِ - فَذَكَرَتا مِنْ حُسْنِها وَتَصَاويرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ: ((أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِه مَسْجِدًا، ثمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرارُ الخلْقِ عِنْدَ اللهِ)).
فيهِ دليلٌ على تحريمِ مثلِ هذا الفعلِ، وقد تظاهرتْ دلائلُ الشَّريعةِ على المنعِ مِن التَّصويرِ والصُّوَرِ، ولَقدْ أَبْعَدَ غايةَ البُعدِ مَن قال: إنَّ ذلكَ محمولٌ على الكراهةِ، وإنَّ هذا التَّشديدَ كانَ فِي ذلكَ الزَّمانِ، لقربِ عهدِ النَّاسِ بعبادةِ الأوثانِ، وهذا الزمانُ - حيثُ انتشرَ الإسلامُ، وتمهَّدتْ قواعدُهُ - لا يُساويهِ فِي هذَا المعنَى فَلا يُساويهِ فِي هذا التَّشدِيدِ - هذا أو معناهُ - وهذا القولُ عندنَا باطلٌ قطعًا؛ لأنَّهُ قد وردَ فِي الأحاديثِ الإخبارُ عن أمرِ الآخرةِ بعذابِ المصوِّرينَ، وأنَّهمْ يقالُ لهمْ: ((أحْيُوا ما خلقتمْ))، وهذهِ عِلَّةٌ مُخالِفَةٌ لمَا قالهُ هذا القائلُ، وقدْ صرَّحَ بذلكَ فِي قولِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((المُشَبِّهُونَ بخلقِ اللهِ)) وهذهِ علَّةٌ عامَّةٌ مسْتقلَّةٌ مناسبةٌ، لا تَخُصُّ زمانًا دونَ زمانٍ، وليسَ لنا أنْ نتصرَّفَ فِي النُّصوصِ المتظاهِرَةِ المتضافِرَةِ بمعنَى خياليٍّ، يمكنُ أنْ يكونَ هو المرادَ، مع اقتضاءِ اللفظِ التعليلَ بغيرِه، وهو التشبُّهُ بخلقِ اللهِ.
قولهُ عليهِ الصَّلاةُ وَالسلامُ: ((بَنَوْا على قبرِهِ مَسْجِدًا)) إشارةٌ إِلَى المنعِ من ذلكَ، وقد صرَّحَ به الحديثُ الآخرُ: ((لعنَ اللهُ اليهودَ والنصارَى اتَّخَذُوا قبورَ أنبيائِهِمْ مساجِدَ))، ((اللهمَّ لا تجعلْ قبرِي وثنًا يُعبَدُ)).
168 - الحديثُ الثاني عشرَ: عن عائشةَ ـ رضي اللهُ عنها ـ قَالتْ: قَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: ((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ والنَّصَارَى اتَّخَذَوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) قالتْ: وَلَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خُشِي أَنْ يُتَّخَذَ مسْجِدًا)).
هذا الحديثُ: يدلُّ على امتناعِ اتخاذِ قبرِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجدًا، ومنهُ يفهمُ امتناعُ الصَّلاةِ على قبرهِ، ومن الفقهاءِ مَن استدلَّ بعدمِ صلاةِ المسلمينَ على قبرهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعدمِ الصلاَةِ على القبرِ جملةً، وأُجيبُوا عن ذلك بأنَّ قبرَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخصوصٌ عن هذَا بما فُهِمَ منْ هذا الحديثِ من النَّهيِ عن اتِّخاذِ قبرهِ مسجدًا, وبعضُ الناسِ أجازَ الصَّلاةَ على قبرِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كجوازِهَا على قبرِ غيرهِ عندَهُ وهو ضعيفٌ، لتطابقِ المسلمينَ على خِلافهِ، ولإشعارِ الحديثِ بالمنعِ منهُ، واللهُ أعلمُ.
169 - الحديثُ الثالثَ عشرَ: عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ)).
حديثُ ابنِ مسعودٍ يدلُّ عَلَى المَنْعِ مِمَّا ذُكرَ فيهِ، وقد اشْتَركَ - مع ما قبلَهُ - فِي شقِّ الجيوبِ، وانفردَ بضربِ الخدودِ، والتصريحِ بدعوى الجاهليَّةِ فيهِ، وهي أحدُ ما يدخلُ تحتَ لفظِ: ((الصَّالقةِ)) فِي الحديثِ السَّابقِِ، و((دعوى الجاهليةِ)) يطلقُ عَلَى أمرينِ، أحدُهما: ما كانت العربُ تفعلهُ فِي القتالِ من الدعوَى. والثاني: - وهو الذي ينبغِي أنْ يُحملَ عليهِ هذا الحديثُ - هو ما كانت العربُ تقولُه عندَ موتِ الميِّتِ، كقولِهِمْ: واجَبَلاهُ، واسَنَدَاهُ, واسَيِّدَاهُ، وأشباهِهَا.

  #6  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 03:21 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (مفرغ)

والحديث الرابع حديث أبي موسى الأشعري – عبد الله بن قيس – رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة.
النبي صلى الله عليه وسلم حذر من النياحة على الموتى وشق الثياب وضرب الخدود وبرئ من الصالقة، وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة، هذه يقال لها صالقة، وهي النائحة. والشاقة هي التي تشق ثوبها أو خمارها، فالرسول صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة، والحالقة هي التي تحلق شعرها أو تنتفه، كل هذا ممنوع ولو كان من الكبائر، فيجب الحذر من ذلك. فلا يجوز شق الثياب على الموتى، ولا لطم الخدود، ولا رفع الأصوات بالنياحة، ولا حلق الرؤوس ولا نتفها، كل هذا لا يجوز، بل هذا من الجزع المحرم.
الحديث الثاني حديث ابن مسعود رضي الله عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية.
فالواجب على المؤمن الصبر، وهكذا المؤمنة، عليهم الصبر والاحتساب، والحذر من الجزع، والجزع يكون بشق الثياب أو رفع الصوت بالبكاء أو لطم الخدود أو حلق الشعر أو ما أشبه ذلك مما يدل على الجزع والتسخط.
أما البكاء من دون صوت، ودمع العين فلا بأس، والنبي صلى الله عليه وسلم لما مات ولده إبراهيم قال: " العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون "، ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب

... عنها قالت: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعض نسائه رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنا وتصاوير فيها، فرفع رأسه صلى الله عليه وسلم وقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما قيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين. ولمسلم: أصغرهما مثل أحد.
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد / فهذه الأحاديث الأربعة بعضها يتعلق بالبناء على القبور واتخاذ المساجد عليها وبيان شدة التحريم في ذلك، وبعضها يتعلق بالجزع من المصيبة وعدم الصبر، والرابع يتعلق بشهود الصلاة على الجنازة واتباعها.
في الحديث الأول ذكر بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة في أرض الحبشة، وكانت أم سلمة وأم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما رأتاها في أرض الحبشة، وكانتا ممن هاجر إلى الحبشة كل واحدة تبع زوجها، وهي الهجرة الأولى قبل الهجرة إلى المدينة.
فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم ما رأتا من حسنها وتصاوير فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: " أولئك إذا مات فيهم الجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله " يخاطب المرأة التي ذكرت له كلاما.
هذا يبين لنا أن البناء على القبور من جهل النصارى واليهود، ومن أعمالهم الخبيثة، وأنهم بهذا من شرار الخلق، فينبغي للمؤمن الحذر من ذلك، و(من) أن يتشبه بأعداء الله اليهود والنصارى بالبناء على القبور واتخاذ المساجد عليها، ووضع الصور فوقها، كل هذا من أعمالهم الخبيثة ومن وسائل الشرك , ولهذا قال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله " لأنهم فعلوا أشياء تجر الناس إلى الشرك، فإن البناء على القبور من وسائل الشرك، فلهذا نهى النبي عن هذا ولعن من فعله عليه الصلاة والسلام.
ولهذا في الحديث الثاني كان في مرض موته عليه الصلاة والسلام جعل يقول: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، وهو في مرض موته، خوفا على أمته أن تقع في ما وقع فيه أولئك الأشرار، ومع هذا التحذير واللعن وقع كثير من الناس في هذا البلاء، فبنوا على القبور وبنوا عليها مساجد، كما في دول كثيرة حتى عبدت من دون الله، وصارت وثنا تعبد من دون الله نعوذ بالله من ذلك.
فالواجب على أهل الإسلام أن يحذروا من ذلك وأن يزيلوا ما على القبور من المساجد وأن يتركوها ظاهرة شامسة تحت السماء ليس عليه بناء كما كانت القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في البقيع وغيره هكذا، لأن بناء المساجد عليها والصلاة عندها، كل هذا من وسائل الشرك، ومن وسائل عبادتها من دون الله عز وجل، كما وقع ذلك في دول كثيرة وفي جهات كثيرة، عظموا القبور وبنوا عليها المساجد وجصصوها...... ها، فعبدت من دون الله عز وجل، صارت أوثانا تعبد من دون الله، نسأل الله السلامة.
وفي الحديث الثالث يقول عليه الصلاة والسلام: ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية، وقد جاء في اللفظ الآخر: ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية كلها من أعمال الجاهلية: ضرب الخدود جزعا عند المصيبة، شق الثوب كذلك، حلق الشعر كذلك، نتفه، الدعاء بدعوى الجاهلية من الكلام الرديء: وا ناصراه، وا كاسياه، وا عضداه، وا فجعة قلباه، وا، وا، كل هذا من دعاء الجاهلية والبغي، فيجب على المؤمن إذا وقعت عليه حادثة – وهكذا المؤمنة – الصبر والاحتساب وعدم الجزع، لا.................... ولا ينتف شعره ولا حلقه، ولا بكلامه السيئ كلام الجاهلية، ولكن يصبر ويحتسب، ولا بأس بدمع العين، دمع العين لا يضر، و..... القول لا يضر، إنما المنكر رفع الصوت والنياحة، أو شق الثياب أو لطم الخدود أو نتف الشعر، أو حلقه، هذا هو المنكر الذي من أعمال الجاهلية، ولهذا لما مات إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام قال عليه الصلاة والسلام: " العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " فدمع العين لا يضر، رحمة، ولما هوى ابن لإحدى بناته ونفسه تقعقع دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام رحمة له، فسأله بعض الصحابة: تبكي عليه؟ قال: نعم إنها رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، فدمع العين من الرحمة. إنما المنكر الصياح وشق الثياب ولطم الخدود، الكلام السيئ بدعوى الجاهلية. في حديث أبي موسى يقول صلى الله عليه وسلم: أنا برئ من الصالقة والحالقة والشاقة، كما تقدم، تبرأ من صلق وحلق وشق، الصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة، الشاقة تشق ثوبها عند المصيبة نسأل الله السلامة.

  #7  
قديم 17 ذو الحجة 1429هـ/15-12-2008م, 01:56 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح عمدة الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)

أما الحديث بعده فيتعلق بالنهي عن النياحة , النياحة رفع الصوت عند الميت بالندب والصراخ والصياح ونحو ذلك, في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بريء من السالقة والحالقة والشاقة , وفسره الصحابي أن السالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة . والحالقة: التي تحلق شعرها أو تنتفه . والشاقة: التي تشق ثوبها , جيبها أو شيئا من ثيابها من حر المصيبة .
وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) وهذا يعم الرجال والنساء , يعني أن النياحة ليست خاصة بالمرأة , بل إذا ناح الرجل وصاح وشق ثوبه ونتف شعره من حر المصيبة في زعمه دخل في الوعيد وعيد شديد ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) ، كانت الجاهلية يدعون عند الميت بالويل والثبور , إذا مات لهم ميت يقولوا: وا ثبوراه , وا ويلاه , أو دعوى الجاهلية أن يندب ذلك الميت يندبه إما باسمه كأن يقول: وا سعداه وا محمداه , وإما بقرابته كأن يقول: وا ولداه وا أخواه , وإما بصفته كأن يقول: وا مطعماه وا كاسياه , هذه من دعوى الجاهلية . وهي داخلة في الصياح الذي بريء منه النبي صلى الله عليه وسلم من السالقة التي ترفع صوتها والشاقة التي تشق ثوبها والحالقة أو الناتفة التي تنتف شعرها , ويعم ذلك الرجال والنساء .
فإذا عرفنا أن ذلك منهي عنه نعرف الحكمة فيه: ذلك لأن المصيبة مقدرة , الله تعالى قدر على الإنسان هذه المصيبة وقضاها , ولا راد لقضائه , فإذا علم العبد أنه لا منجى له من هذه المصيبه فليرضى بذلك ، الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم , هذا تعليل .
وتعليل ثان: نقول لهذا النادب وهذا الصائح: ماذا ينفعك هذا الصياح؟! وماذا يزيدك ؟! وماذا يؤثر فيك ؟! هل يرد فائتا ؟! هل يحيا ميتك ؟! هل يرد عليك ما فقدته منه ؟! لا يفيدك بل يضرك , يفوتك أجر الصبر الذي هو الاحتساب وطلب الأجر , فأنت إذا لم تصبر على هذه المصيبة كان ذلك مفوتا لك , حارما لك من أجر المصيبة . الله تعالى قد وعد على الصبر بأجر عظيم في قوله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} فالذي يجزع هذا الجزع يفوته هذا الأجر .

القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة ، يقال لها: مارية , وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة ، فذكرتا من حسنها وتصاوير ما فيها . فرفع رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ، ثم صوروا فيه تلك الصور , أولئك شرار الخلق عند الله)) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت: ولولا ذلك أبرز قبره صلى الله عليه وسلم ، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ((ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية )).
الشيخ: الحديثان الأولان يتعلقان بالعمل عند القبور ، وفتنة القبور ، وما كان لها من الآثار بسبب الجهل .
في الحديث الأول أم سلمة هند بنت أبي أمية إحدى أمهات المؤمنين ، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية إحدى أمهات المؤمنين ، كلاهما هاجرت مع زوجها إلى الحبشة . أبو سلمة رجع بأم سلمة وتوفي بالمدينة . تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعده . أم حبيبة توفي زوجها بالحبشةوتزوجها النبي صلى عليه وسلم بالحبشة ، وأرسل عمرو بن أمية الضمري فجاء بها .
ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته تلك الكنيسة ، الكنيسة هي: معبد النصارى ، المعابد التي يتعبدون فيها يسمونها كنائس ، ولا تزال تسمى كنائس إلى اليوم ، ولا يزالون يتعبدون في كنائسهم . تلك الكنيسة فيها تصاوير , فيها تصاوير وفيها قبور ، أخبرت بما فيها من حسن وبما فيها من تصاوير ، ولكن ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر . أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في مرض موته ، أخبر بأن هذه الكنيسة أقيمت على صور وقبور ، كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح من نبي أو رجل صالح من أهل الصلاح ودفنوه صوروا صورته ونصبوها في تلك الكنيسة ، وبنوا على قبره مسجدا ، أو جاؤوا به إلى تلك الكنيسة المبنية ودفنوه فيها ، بنوا على قبور الصالحين أبنية وهي المعابد ، وصوروا فيها صورهم , هذا قبر الولي فلان وهذه صورته , وهذا قبر الولي فلان أو النبي فلان و هذه صورته ، فيتعبدون في تلك الكنائس التي قد ملئت بتلك القبور وبتلك الصور .
يقول ابن القيم .. أو ينقل عن بعض السلف: هؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة الصور ، وفتنة القبور . لا شك أن القبور إذا بني عليها وإذا تعبد حولها اتخذت أوثانا ، ولا شك أن الصور إذا نصبت وعظمت اتخذت أوثانا كما حصل من قوم نوح ، لما أنهم صوروا تصاوير أولئك الصالحين طال عليهم الأمد فعبدوهم , قال تعالى: {ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا}
هذه أسماء رجال صالحين ، كانوا في قوم نوح ، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى أوليائهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها صورا أو تماثيل ، سموها بأسمائهم ، فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت ، جاءهم الشيطان قال: ما صوروها إلا لعبادتها ، فصاروا يعبدونها ،تمسحون بها ، ويخضعون لها . إذا دخلوا ركعوا يعني شبه ركوع , وكانوا يدعون أصحابها ، يهتفون بهم .
كذلك أيضا كانوا يذبحون لهم ، وينذرون لها ، ونحو ذلك , فمثل هذا خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ، ففي مرض موته خشي أن يفعل أصحابه به كما فعلوا , من نصب صورته مثلا منحوتة أو منقوشة ، ومن قبره يعني البناء على قبره ونحو ذلك ، فذكرت عائشة في الحديث الثاني أنه لما مرض المرض الذي مات فيه ولم يقم عنه ، قال: ((لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا ، تقول: ولولا ذلك لأبرز قبره ، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا .
في بعض الروايات أنه لما نزل به الأجل ، وصار في سياق الموت ، طفق يطرح خميصة له على وجهه ، الخميصة: كساء له أعلام , فإذا اغتم بها كشفها ، فقال وهو كذلك: ((لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته ، ثم إنه لعن في السياق من فعل ذلك ، ثم قال: والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبنى مسجدا ، وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدًا يعني مصلى ، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا على قبره لو كان بارزا مسجدا . فكل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجد ، بلكل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا , قال صلى الله عليه وسلم: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)) ، يعني موضعا للصلاة .
والحاصل أن في هذا دليل على أنه لا يجوز البناء على القبور ، وخصوصا قبور الصالحين ؛ وذلك لأن البناء عليها ورفعها سبب لتعظيمها ، وإذا عظمت صرف لها شيء من حق الله ، مع أن أصحابها أموات قد انقطع أملهم ، فليس لهم ملكية تصرف .
ولما تمادى الجهل واستمر في الأمة مَن يعظم القبور عُبدت القبور ، ولا تزال إلى الآن في كثير من البلاد , التي تتسمى بأنها بلاد إسلامية ، يبنون عليها بيوتًا ، أو يأتون بالصالحين ويدفنونهم في المساجد التي يصلى فيها ، وكلما صلوا جاؤوا إلى القبر وتمسحوا به ، أو أخذوا من ترابه , أو قصدوا الصلاة عنده وزعموا أن الصلاة عنده تقبل ، أو يضاعف فيها الأجر ، أو نحو ذلك . فكانوا بذلك متسببين في أن عظموا مخلوقا غير الله ، ولا شك أن هذا التعظيم يؤول بهم إلى الشرك والكفر ؛ لأنه عبادة لغير الله , وصرف العبادة لغير الله شرك . هذا هو السبب في أنه عليه الصلاة والسلام لعنهم على هذا .
أخبر في الحديث الأول بأنهم شرار الخلق . لا شك أن هذا ذم لهم , ولم يذكر لهم ذنب إلا أنهم يبنون على القبور ويصورون صور الصالحين , هذا ذنبهم الذي صاروا به شرار الخلق .
وذكر في الحديث الثاني اللعن: ((لعن الله اليهود والنصارى)) ولم يذكر ذنبهم ، إلا أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . عرفنا أن المساجد المراد بها مصلى ، سواء كانت مبينة ، يعني كهيئة المساجد ذوات المحاريب أو الكنائس والصوامع والديارات التي يتعبدون فيها ، أو كانت مقصودة للصلاة عندها وإن لم يكن هناك مسجد , بل يقصدونها لأداء الصلاة عندها , فهؤلاء كلهم قد تشبهوا باليهود الذين يقصدون القبور ويسمونها مشاهد ويعمرونها بالصلاة عندها , قد تشبهوا باليهود،قد استحقوا ما استحقه اليهود من اللعن: ((لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدا)) قال ذلك في آخر حياته ، لما علم أن أجله قد قرب خشي أن يتخذ قبره مسجدا .
وأما إدخال القبر في المسجد كما هو عليه الآن فهذا حصل بعد ذهاب الصحابة ، بعد موت الصحابة بالمدينة كلهم ، وفي عهد أحد خلفاء بني أمية لما أرادوا توسعة المسجد ، واضطرإلى توسعته من الجهات كلها - أدخل في ذلك حجر أمهات المؤمنين ، ورأى أن ذلك من الضرورة لتوسعته ، ولكن جعلوا القبر في زاوية من زواياه ، وجعلوا عليه ثلاثة جدارن على هيئة المثلث حتى لا يتمكن أحد من استقباله ؛ وذلك لأنهصلى الله عليه وسلم قد دعا الله بقوله: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد)) فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران .
وبكل حال لا يزال بحمد الله محفوظا ، لا أحد يعبده ولا يطوف به ، ولا يتمسح به ، ولا يهتف باسمه ، ولا غير ذلك , ولو كان في جانب المسجد , والمسجد معروف انفصاله ومعروف أصله على . كل حال لا يقال: إنه وقع ما حذر منه ، بل هو دفن في حجرته التي مات فيها والتي هي حجرة عائشة ، ودفن معه أبوها أبو بكر ثم دفن معه عمر ، فالثلاثة دفنوا في حجرة عائشة ، وكانت منفصلة عن المسجد , ولولا أنه خاف أنه إذا أبرز يأتي إليه الجهلة ويتمسحون به ويطوفون به ، ويذبحون عنده ونحو ذلك ، ويتخذونه وثنا ، أو يصورون صورته وينصبونها ينحتونها أو نحو ذلك ، لولا ذلك لأبرز قبره ، لما أنهم سمعوا تحذيره من فعل اليهود والنصارى لم يبرزوه خوفا عليه , بل تركوه في مكانه حتى يكون محفوظا مراقبا من جهة أهل المسجد ومن جهة سكان الحجرات ، ونحو ذلك .
هذا يدل على أنه لا يجوز البناء على القبور . وردت أدلة كثيرة في النهي عن البناء على القبور ، والنهي عن اتخاذ السرج عليها ، والنهي عن تجصيص القبر وتشييده , وكل ذلك مخافة أن يغتر به الجهلة , الجهلة إذا رأوا هذا القبر مشيدا مرفوعا مجصصا قالوا: هذا دليل على أنه قبر شريف ، قبر فيه صالح ، فينخدعون بذلك ويتمسحون به , ويصرفون له شيئا من حق الله تعالى .
أما الحديث بعده ، يتعلق بالنهي عن الأفعال الجاهلية التي يفعلونها عند المصيبة ، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) هذا من أحاديث الوعيد التي يشدد فيها صلى الله عليه وسلم على بعض المعاصي ؛ حتى يكون أبلغ في الزجر ؛ وذلك لأن هذه الأفعال كانت منتشرة في الجاهلية , والجاهلية: ما قبل الإسلام ، سميت بذلك لكثرة جهلهم ، وعبادتهم صادرة عن جهالة ، فمنها أنهم كانوا إذا مات الميت فمن حزنهم عليه ومن شدة وجدهم يضرب أحدهم خده ، أو يضرب صدره ، على وجه الحزن ، وعلى وجه التشكي .
ضرب الخدود تسخط لقضاء الله ، فالذي يفعل ذلك كأنه سخط قضاء الله وقدره و لم يرض بما قدره ولا بما أصابه , وذلك ينافي الصبر ، والله تعالى أمر بالصبر عند المصيبة في قوله: {الذين إذا أصابتهم مصيبة}بعد قوله:{يا أيها الذين آمنوااستعينوا بالصبر والصلاة}إلى قوله: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} فكونه مثلا يضرب خده بيديه ، أو صدره أو فخذه أو جنبه ، يظهر بذلك التسخط ، هذا ينافي الرضا ، وينافي الإيمان بالقدر والقضاء ، وينافي الصبر .
كذلك قوله: ((من شق الجيوب)) الجيب هو مدخل الرأس ، الفتحة التي يدخل منها الرأس معروف ،كما في قوله:{وليضربن بخمرهن على جيوبهن} العادة أنه إذا سمع بالمصيبة أو سمعت المرأة بالمصيبة ، أنه مات فلان أو مات أخوه أو أخوها ، فأقرب شيء جيبه يمسكه ويشقه حتى يشق الثوب كله ، ربما بقي عريانًا إذا لم يكن عليه سراويل أو إزار ، وقد يشق غير الجيب ، يشق الأكمام مثلا ، أو يشق الثوب من أسفله أو من أحد جانبيه , وكل ذلك تسخط لقضاء الله ، وكذلك لو شق مثلا عباءته ، أو شق عمامته ، أو نحو ذلك كل ذلك من التسخط , لا شك أن هذا ينافي الصبر . وكذلك دعوى الجاهلية يعني التشكي باللسان ؛ وذلك لأنه ينافي الصبر .
قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه دمعت عيناه ، فكأن الصحابة استنكروا منه . فقال: ((إن الله لا يعذب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا أو يرحم)) وأشار إلى لسانه ، يعني أن العذاب على التسخط باللسان ، وعلى الصياح والنياحة ونحو ذلك ، فالصياح والكلام الرفيع يسمى نياحة ، النائح: هو الذي يدعو بدعوى الجاهلية ، هو الذي ينوح ويندب ويصيح بأعلى صوته ؛ لحر المصيبة في زعمه وفي قلبه.
دعوى الجاهلية سميت بذلك ؛ لأنهم هم الذين يفعلونها ، وسميت دعوة ، وتسمى أيضا ندبا ، و تسمى نياحة . ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) السربال: هو الثوب الذي يلبسه المقاتل ، وكذلك الدرع من حديد يلبس في القتال ، من حديد , يقول: إنه يلتصق بجلدها ، هذا السربال الذي يستر البدن كله ، والدرع الذي يستر البدن إلى نصفه مثلا إلى الحقوين ، أو نحو ذلك . والقطران: معروف , هو هذا الذي تطلى به الإبل ، وهو مادة سوداء شديدة الحر التصقت بالجلد تمزق الجلد , يطلى بها البعير إذا أصابه الجرب، ينسلخ شعره في حينه , معروف باسمه القطران . والجرب: معروف , الذي يتشقق به الجلد ، حكة تكون في الدواب يتشقق منها الجلد .
وبكل حال هذا من العذاب الذي يعذب به النائح . والنياحة كما فسرت هي الندب ، ندب الميت إما باسمه كأن يقول مثلا: وامحمداه ، وا إبراهيماه ، وا سعداه ، ونحو ذلك ، يناديه باسمه , وإما بقرابته منه ، كأن يقول: وا أبواه ، وا أخواه ، وا والداه ، وا صديقاه وما أشبه ذلك , وإما بصفه يصفه بها كأن يقول: وامطعماه ، وا كاسياه ، وا كافلاه ، وا ناصراه ، يصفه بأنه كذلك .
وورد في بعض الأحاديث أن الميت يتألم من هذا الندب ، كلما قالوا له: وا مطعماه يُضرب أو يوبخ ، ويقال: هل أنت المطعم ؟ ، هل أنت الكاسي ؟ ، هل أنت الكافل ؟ هل أنت الناصر؟ فيؤلمه ذلك ، يؤلمه كلام أهله . وبكل حال فهذا ونحوه دليل على الزجر عن أفعال الجاهلية من النياحة ومن الصياح ونحو ذلك .


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الوجادة, تحريم

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:55 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir