دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > لمعة الاعتقاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 2 ذو القعدة 1429هـ/31-10-2008م, 11:41 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تحريم التعرض لمعاني الصفات بالتأويل والتحريف

وَمَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ إِثْبَاتُهُ لَفْظًا وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِمَعْنَاهُ، وَنَرُدُّ عِلْمَهُ إِلى قَائِلِهِ، وَنَجْعَلُ عُهْدَتَهُ عَلَى نَاقِلِهِ، اتِّبَاعاً لِطَرِيقِ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ أَثْنَى اللهُ سبحانه عَلَيْهِمْ في كِتَابِهِ المُبِينِ بِقَولِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فيِ الْعِلمِ يقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا}[آل عمران: 7].


  #2  
قديم 17 ذو القعدة 1429هـ/15-11-2008م, 10:00 PM
محمد العاني محمد العاني غير متواجد حالياً
هيئة التدريس
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 32
افتراضي شرح الشيخ ابن عثيمين

(1) تَقْسِيمُ نُصُوصِ الصِّفَاتِ وطريقةُ الناسِ فيها:
تَنْقَسِمُ نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ الوارِدَةُ في الصفاتِ إلى قِسْمَيْن: واضِحٌ جَلِيٌّ، ومُشْكِلٌ خَفِيٌّ .
فالواضِحُ: ما اتَّضَحَ لَفْظُهُ ومعْناهُ، فيَجِبُ الإِيمانُ بهِ لَفْظًا وإثباتُ معناهُ حقًّا، بلا رَدٍّ ولا تَأْوِيلٍ، ولا تَشْبِيهٍ ولا تَمْثِيلٍ؛ لأنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بهِ فَوَجَبَ الإِيمانُ بهِ وتَلَقِّيهِ بالقَبُولِ والتسْلِيمِ.
وأمَّا المُشْكِلُ: فهوَ ما لَم يَتَّضِحْ مَعْناهُ لإِجمالٍ في دلالَتِهِ، أوْ قِصَرٍ في فَهْمِ قارِئِهِ، فيجِبُ إثباتُ لَفْظِهِ لوُرودِ الشرعِ بهِ، والتوَقُّفُ في معناهُ، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لهُ(1) ؛ لأنَّهُ مُشْكِلٌ لا يُمْكِنُ الحُكْمُ عليهِ، فَنَرُدُّ عِلْمَهُ إلى اللهِ ورسولِهِ.
وقد انْقَسَمَتْ طُرُقُ الناسِ في هذا المُشْكِلِ إلى طريقتَيْنِ:
الطريقةُ الأُولَى: طريقةُ الراسخينَ في العِلْمِ الذينَ آمَنُوا بالمُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ وقالوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، وَتَرَكُوا التَّعَرُّضَ لِمَا لا يُمْكِنُهم الوصولُ إلى معرِفَتِهِ والإحاطَةِ بِهِ؛ تَعْظِيمًا للهِ ورسولِهِ، وتَأَدُّبًا معَ النصوصِ الشرعيَّةِ، وهم الذينَ أثْنَى اللهُ عليهم بقولِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عِمْرَان:7]

الطريقةُ الثانيَةُ: طريقَةُ الزائِغِينَ الذينَ اتَّبَعُوا المُتشابِهَ طَلَبًا للفِتْنَةِ ، وَصَدًّا للناسِ عنْ دينِهم وعنْ طريقَةِ السَّلَفِ الصالحِ، فحاولُوا تأويلَ هذا المتشابِهِ إلى ما يُرِيدُون ، لا إلى ما يُرِيدُهُ اللهُ ورسولُهُ ، وضَرَبوا نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ بعضَها ببَعْضٍ ، وحاولوا الطعْنَ في دِلالَتِها بالمعارَضَةِ والنقْصِ؛ ليُشَكِّكُوا المسلمينَ في دلالَتِها ، ويُعْمُوهم عنْ هِدَايَتِها، وهؤلاء هم الذينَ ذمَّهم اللهُ بقولِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} [آل عِمْرَان:7]
تحريرُ القولِ في النصوصِ منْ حيثُ الوضوحُ والإِشْكَالُ:
إنَّ الوضُوحَ والإِشكالَ في النصوصِ الشرعيَّةِ أمْرٌ نِسْبِيٌّ، يَخْتَلِفُ فيه الناسُ بحَسَبِ العِلْمِ والفَهْمِ، فقدْ يكونُ مُشْكِلاً عندَ شَخْصٍ ما هوَ واضِحٌ عندَ شَخْصٍ آخَرَ، والواجِبُ عندَ الإِشكالِ اتِّبَاعُ ما سَبَقَ مِنْ تَرْكِ التَّعَرُّضِ لهُ والتخَبُّطِ في معناهُ.
أمَّا مِنْ حيثُ واقعُ النصوصِ الشرعيَّةِ فليسَ فيها بحَمْدِ اللهِ ما هوَ مُشْكِلٌ لا يَعْرِفُ أحَدٌ من الناسِ مَعناهُ فيما يُهِمُّهم منْ أمْرِ دينِهم ودُنياهم؛ لأنَّ اللهَ وصَفَ القرآنَ بأنَّهُ نُورٌ مُبِينٌ، وبيانٌ للناسِ وفُرْقَانٌ، وأنَّهُ أنزَلَهُ تِبْيَانًا لكُلِّ شَيءٍ وهُدًى ورَحْمَةً، وهذا يَقْتَضِي أنْ لا يكونَ في النصوصِ مَا هوَ مُشْكِلٌ بحَسَبِ الواقِعِ بحيثُ لا يُمْكِنُ أَحَدًا مِن الأمَّةِ مَعْرِفَةُ مَعْناهُ(2).
معنى الردِّ، والتأويلِ، والتشبيهِ، والتمثيلِ، وحُكْمُ كلٍّ مِنْها:
الرَّدُّ: التكذيبُ والإِنْكَارُ.
مِثْلُ أنْ يقولَ قائِلٌ: ليسَ للهِ يدٌ؛ لا حقيقةً ولا مجازًا، وهوَ كُفْرٌ؛ لأنَّهُ تَكْذِيبٌ للهِ ولرسولِهِ.
والتأويلُ: التفسيرُ، والمرادُ بهِ هنا: تفسيرُ نصوصِ الصفاتِ بغيرِ ما أرادَ اللهُ بها ورسولُهُ، وبخلافِ ما فسَّرَهَا بِهِ الصَّحَابَةُ والتابعونَ لَهم بإحسانٍ.
وحُكْمُ التأويلِ على ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ صَادِرًا عن اجْتِهَادٍ وحُسْنِ نِيَّةٍ، بحيثُ إذا تَبَيَّنَ لهُ الحقُّ رجَعَ عنْ تأويلِهِ، فهذا مَعْفُوٌّ عنهُ؛ لأنَّ هذا مُنْتَهَى وُسْعِهِ، وقدْ قالَ اللهُ تعالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]

الثاني: أن يكونَ صادِرًا عنْ هَوًى وتَعَصُّبٍ، ولَهُ وجْهٌ في اللغةِ العربيَّةِ، فهوَ فِسْقٌ وليسَ بكُفْرٍ، إلاَّ أنْ يَتَضَمَّنَ نَقْصًا أوْ عَيْبًا في حقِّ اللهِ فيكونُ كُفْرًا.
القسمُ الثالثُ: أنْ يكونَ صادرًا عنْ هَوًى وتَعَصُّبٍ، وليسَ لهُ وجهٌ في اللغةِ العربيَّةِ، فهذا كُفْرٌ؛ لأنَّ حقيقَتَهُ التكذيبُ حيثُ لا وجْهَ لهُ.
والتشبيهُ: إثباتُ مشابِهٍ للهِ فيما يَخْتَصُّ بهِ مِنْ حقوقٍ أوْ صفاتٍ، وهوَ كُفْرٌ؛ لأنَّهُ مِن الشركِ باللهِ، ويَتَضَمَّنُ النقصَ في حقِّ اللهِ حيثُ شَبَّهَهُ بالمخلوقِ الناقِصِ.
والتمثيلُ: إثباتُ مُمَاثِلٍ للهِ فيما يَخْتَصُّ بهِ مِنْ حُقُوقٍ أوْ صفاتٍ، وهوَ كُفْرٌ؛ لأنَّهُ مِن الشِّرْكِ باللهِ، وتكذيبٌ لقولِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى:11]

ويَتَضَمَّنُ النقْصَ في حقِّ اللهِ حيثُ مَثَّلَهُ بالمخلوقِ الناقصِ.
والفرقُ بينَ التمثيلِ والتشبيهِ: أنَّ التمثيلَ يَقْتَضِي المساواةَ مِنْ كلِّ وَجْهٍ بخِلافِ التشبيهِ.



حاشية الشيخ صالح العصيمي
(1) وليس هذا هو مذهب التفويض المذموم لأمرين:
أحدهما: أن هذا عند أهل السنة مخصوص بما أشكل وخفي، أما المفوضة فيطردون أصلهم في جميع الصفات.
والآخر: أن خفاءه وإشكاله يقع لبعض الأُمة دون بعضه، فقد يكون خفياً مشكلاً على بعض العلماء ظاهراً جلياً لغيره منهم.
ومن نسب أبا محمد ابن قدامة إلى التفويض لأجل قوله هنا ففيه نظر، أما لأجل غيره فبيانه في مقام آخر.
(2) فصار الإشكال الذي يرد على بعض الأذهان إزاء شيء من القرآن والسنة مرجعه إلى قدرة صاحبه وما يُفتح له من الفهم لا أن النص مشكل في نفسه بحيث لا يعرف معناه أحد من الناس.


  #3  
قديم 17 ذو القعدة 1429هـ/15-11-2008م, 10:02 PM
محمد العاني محمد العاني غير متواجد حالياً
هيئة التدريس
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 32
افتراضي شرح الشيخ ابن جبرين حفظه الله

(2) قدْ تَأْتِي بعضُ الصِّفاتِ مُشْكِلَةً على بعضِ النَّاسِ ؛ فَيَفْهَمَ منها التَّشْبِيهَ ، أوْ يَفْهَمَ منها شَيْئًا لا يَلِيقُ باللهِ تَعَالَى، فَفِي هذهِ الحالِ نَقْبَلُهَا لَفْظًا، وَنَعْرِفُ أنَّ لها مَعْنًى ، ولكنْ نَتَوَقَّفُ في الكَيْفِيَّةِ ، وَنَتَوَقَّفُ عن التَّقَعُّرِ في السُّؤالِ عنْ كَيْفِيَّتِهَا ، وَنُنَزِّهُهَا عنْ أنْ تكونَ مُمَاثِلَةً لصفاتِ المخلوقِ ، أوْ أنْ يُفْهَمَ منها نَقْصٌ في حقِّ الخالِقِ .
وَأَكْثَرُ ما يَحْتَجُّ بهِ النُّفاةُ من الأشاعرةِ وَنَحْوِهم في نَفْيِ الصِّفاتِ ، إذا أَثْبَتْنَاهَا لَهُمْ وَقُلْنَا: دَلَّ عليها القرآنُ، فما دَلِيلُكُم في النَّفيِ؟ فَأَكْثَرُ ما يَحْتَجُّونَ بهِ، أنَّها تَحْدُثُ، وأنَّها تَتَجَدَّدُ، فيقولونَ: (إنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عنْ حُلُولِ الحوادثِ، فلا تَحِلُّ بهِ الحوادثُ).
وهذهِ أكبرُ شُبْهَةٍ عِنْدَهُم، وهذهِ الجملةُ لا دَلِيلَ عليها، فكلمةُ: حُلُولِ الحوادثِ، إنَّما هيَ اصطلاحٌ اصْطَلَحَ عليهِ هؤلاءِ النُّفاةُ فَجَعَلُوهُ دَلِيلاً قَاطِعًا في نَفْيِ الصِّفاتِ.
فنقولُ: ما الَّذي حَمَلَكُم على أنْ تَقُولُوا: (ليسَ مَحَلاًّ للحوادثِ، أوْ هوَ مَحَلٌّ للحوادثِ)؟ أَثْبِتُوا الصِّفاتِ وَاتْرُكُوا: مَحَلَّ الحوادثِ ، أوْ: ليسَ مَحَلَّ حوادثٍ، وَكِلُوا أَمْرَهَا إلى اللهِ تَعَالَى .
وقدْ يُوجَدُ بعضُ الصِّفاتِ الَّتي يُشْكِلُ ظَاهِرُهَا ، فَيَتَوقَّفُ أهلُ السُّنَّةِ فيها ، ولكنَّهُم يُثْبِتُونَهَا حقيقةً ، وإذا أَوْرَدْتَ عليهم الإشكالاتِ قالُوا: ليسَ لنا تَدَخُّلٌ في ذلكَ.
فَمَثَلاً: إذا قالَ النُّفاةُ : لوْ كانَ على العرشِ لكانَ أَصْغَرَ من العرشِ ، أوْ أكبرَ ، أوْ مُسَاوِيًا ، وكلُّ ذلكَ مُحَالٌ - هذا من افْتِرَاضَاتِهِم - فنقولُ : ليسَ لنا أنْ نَخُوضَ في هذا ، بلْ نقولُ: إنَّهُ على العرشِ كما أَخْبَرَ ، ولكنْ لا نَخُوضُ في إِشْكَالاَتِكِم هذهِ وَنَحْوِهَا ، اللهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عنْ نفسِهِ بهذا ، وهُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ.
ومثلاً: إذا ذَكَرُوا النزولَ، وَذُكِرَ حديثُ: ((إِنَّ اللهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا …)) الحديثَ ، يُورِدُونَ أَيْضًا إِشْكَالاً ويقولونَ : مَعْلُومٌ أنَّ العرشَ فوقَ المخلوقاتِ ، وهوَ سَقْفُهَا ، فعندَ نُزُولِهِ: هلْ يَخْلُو منهُ العرشُ؟ هلْ تَحْصُرُهُ السَّماءُ الدُّنيا الَّتي يَنْزِلُ فيها ؟ وإلى مَتَى يَسْتَمِرُّ هذا النزولُ ؟ وهلْ يَنْزِلُ العرشُ مَعَهُ ؟
هذهِ الافتراضاتُ لا حَاجَةَ إليها، ولا نَتَدَخَّلُ فيها ، هذهِ إشكالاتٌ أَوْرَدْتُمُوهَا أَنْتُم ولا حَاجَةَ لنا في البحثِ عنها، نحنُ نُثْبِتُ النزولَ، ولكنَّ كَيْفِيَّتَهُ اللهُ أَعْلَمُ بها ، كَمَا سَيَأْتِينَا الكلامُ عن النزولِ إنْ شاءَ اللهُ.
كذلكَ من الصِّفاتِ الَّتي أَدِلَّتُهَا صحيحةٌ ولكنَّها مُشْكِلَةٌ ، ومعَ هذا يَجِبُ أنْ تُثْبَتَ وَتُفَوَّضَ كَيْفِيَّتُهَا إلى اللهِ ، مثلُ حديثِ الصُّورةِ: ((خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ …)) الحديثَ، فقدْ كَثُرَ الكلامُ حَوْلَهُ حتَّى أُلِّفَتْ فيهِ مؤلَّفاتٌ مُفْرَدَةٌ ، وَأَثْبَتَهُ الَّذينَ كَتَبُوا فيهِ ، فَإِذَا أَثْبَتْنَا أنَّ الحديثَ صحيحٌ ، وأنَّهُ منْ أحاديثِ الصِّفاتِ ، قُلْنَا: نُثْبِتُهُ ، ولكنْ نَتَوَقَّفُ في كَيْفِيَّتِهِ ، وَنَقُولُ : إنَّ اللهَ ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، وأنَّهُ سُبْحَانَهُ قدْ أَخْبَرَ بهذا ، وَأَخْبَرَ بهِ رَسُولُهُ ، وليسَ لنا أنْ نَتَقَعَّرَ في نَفْيِ ذلكَ.
وبكلِّ حالٍ ، ما أَشْكَلَ منْ ذلكَ - كما قالَ ابنُ قُدَامَةَ -: (وَجَبَ إِثْبَاتُهُ لَفْظًا، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِمَعْنَاهُ): يَعْنِي لِكَيْفِيَّتِهِ ، هذا هوَ الصَّحيحُ ، أمَّا مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةُ فإنَّها ظاهرةٌ ، وَنَجْعَلُ عُهْدَتَهُ على نَاقِلِيهِ ، وَنَثِقُ بهم ، وَنَقُولُ : الْعُهْدَةُ والمَسْئُولِيَّةُ عليهم ؛ وذلكَ لأِنَّهم هم الَّذينَ نَقَلُوا لنا السُّنَّةَ والشَّريعةَ، بلْ هم الَّذينَ نَقَلُوا القرآنَ كُلَّهُ والأحاديثَ كلَّهَا، فكيفَ نَرُدُّ هذا الحديثَ وَحْدَهُ، أوْ هذهِ السُّنَّةَ وَحْدَهَا؟! فالَّذي نَقَلَهَا هوَ الَّذي نَقَلَ غَيْرَهَا من الأحكامِ، فَنَجْعَلُ عُهْدَتَهُ على نَاقِلِهِ، أي: المسئُوليَّةَ عليهِ إنْ كانَ خَطَأً، وَنَكِلُ عِلْمَهُ - يَعْنِي: الكَيْفِيَّةَ وَالْمَاهِيَّةَ - إلى قائلِهِ، أيْ: إلى اللهِ تَعَالَى، وإلى رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا في الشَّيءِ الَّذي يُشْكِلُ عَلَيْنَا في الْكَيْفِيَّاتِ وَنَحْوِهَا.
هذهِ طريقةُ الرَّاسخِينَ في العِلْمِ، والرُّسوخُ هوَ : التَّمَكُّنُ، يُقَالُ: رَسَخَ في كذا، يَعْنِي: تَمَكَّنَ فيهِ.
فالرَّاسخُ العالِمُ الَّذي تَمَكَّنَ العلمُ منهُ، وَتَمَكَّنَ من العلمِ، والمرادُ بالعلمِ هنا العلمُ الصَّحيحُ الَّذي هوَ مِيرَاثُ الأنبياءِ، فهوَ العلمُ الَّذي مَنْ عَلِمَهُ وَفَهِمَهُ وَأَحَاطَ بهِ سُمِّيَ رَاسِخًا في العلمِ.
واللهُ تَعَالَى مَدَحَ الرَّاسخينَ في العلمِ، فقالَ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].
قَسَّمَ اللهُ تَعَالَى الآياتِ في أوَّلِ سورةِ آلِ عمرانَ إلى مُحْكَمَاتٍ وَمُتَشَابِهَاتٍ، فَأَخْبَرَ بأنَّ أهلَ الزَّيْغِ يَتَّبِعُونَ المُتَشَابِهَ، وأنَّ الرَّاسخينَ يَقْبَلُونَ الجميعَ: يَقْبَلُونَ المتشابِهَ ، وَيَقْبَلُونَ المُحْكَمَ ، وَيَقُولُونَ: آمَنَّا بالجميعِ، كلٌّ منْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَيَدْعُونَ اللهَ فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] ، أيْ: لا تَجْعَلْنَا مثلَ الَّذينَ في قُلُوبِهِم زَيْغٌ - يَعْنِي: مَيْلٌ وانحرافٌ - فَنَضلَّ عنْ سَبِيلِكَ ، دَعَوا اللهَ دعوةً صادِقَةً وهمْ على صوابٍ وعلى حقٍّ.
فَطَرِيقَتُهُم أنَّهم يقولونَ: نُؤْمِنُ بالمُحْكَمِ وَنَعْمَلُ بهِ، وَنُؤْمِنُ بالمُتَشَابِهِ وَنَقْبَلُهُ، ولكنْ لا نَتَقَعَّرُ في معناهُ ، ولا نَرُدُّهُ ، ولا نَتَأَوَّلُهُ ، ولا نَحْمِلُهُ على ما نَفْهَمُهُ منْ صفاتِ المخلوقينَ فَنَكُونَ مُمَثِّلِينَ ، ولا نَتَكَلَّفُ في رَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ فَنَلْحَقَ بالمُعَطِّلِينَ.
* في هذهِ الآيَةِ يقولُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللهُ}[آل عمران:7] ، قَطْعٌ لأَِطْمَاعِهِم.
والكلامُ في تفسيرِ هذهِ الآيَةِ مَعْرُوفٌ في كثيرٍ منْ أصولِ التَّفسيرِ وأصولِ الفقهِ ونحوِهَا، وكذا الخلافُ: هل الرَّاسِخونَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ أوْ لا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ؟
فقدْ ذَكَرَ ذلكَ العلماءُ كَثِيرًا، وَتَعَرَّضَ لهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ في كثيرٍ منْ كُتُبِهِ، وَذَكَرَ :
أنَّ التَّأويلَ صَارَ في اصْطِلاَحِ النَّاسِ يُطْلَقُ على ثلاثةِ أنواعٍ:
النَّوعُ الأوَّلُ : التَّفسيرُ ، وهوَ اصطلاحُ بعضِ العلماءِ كابنِ جَرِيرٍ، فلا فَرْقَ عندَهُ بينَ التَّفسيرِ والتَّأويلِ، فهوَ يقولُ: (القولُ في تأويلِ قولِهِ تَعَالَى)، ثمَّ يَقُولُ: (اخْتَلَفَ أهلُ التَّأويلِ في تأويلِ ذلكَ)"، أوْ يَقُولُ: (وَبِمِثْلِ الَّذي قُلْنَا في ذلكَ قالَ أهلُ التَّأويلِ)، وَمُرَادُهُ التَّفسيرُ، وكأنَّهُ اصْطَلَحَ على أنَّ إيضاحَ المعنَى والمرادِ من الآياتِ آلَ إلى كذا وكذا، فَسَمَّاهُ تَأْوِيلاً بالنِّسبةِ إلى ما آلَ إليهِ وَشُرِحَ عليهِ.
النَّوعُ الثاني : أنَّ التَّأويلَ مَعْنَاهُ حَقِيقَةُ الشَّيءِ وَمَاهِيَّتُهُ ، وما تَؤُولُ إليهِ مَاهِيَّةُ الشَّيءِ الَّتي هوَ عَلَيْهَا هوَ التَّأويلُ ، أيْ: ما يَؤُولُ إليهِ وما يَرْجِعُ إليهِ كَتَمْثِيلِهِ وَتَطْبِيقِهِ، تَقُولُ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: (كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ في آخِرِ حَيَاتِهِ: ((سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي)) يَتَأَوَّلُ القرآنَ )، يَتَأَوَّلُهُ يَعْنِي: يُمَثِّلُهُ، أوْ يَمْتَثِلُ الأمرَ الَّذي أُمِرَ بهِ في قولِهِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
واللهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عنْ مَآلِ الأشياءِ وَيُسَمِّيهَا تَأْوِيلاً: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[الإسراء:35] ، أيْ: مَآلاً.
ومنهُ قولُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53]، المرادُ: حَقِيقَتُهُ.
تأويلُ البعثِ: حصولُ النشورِ والبعثِ من القبورِ.
وتأويلُ الجزاءِ: إعطاءُ كلٍّ ثوابَ حَسَنَاتِهِ، أوْ جَزَاءَ سَيِّئَاتِهِ.
يُقَالُ: هذا تَأْوِيلُ قولِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} [الحاقَّة:19]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ}[الحاقَّة:25] ، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:8]، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:9] ، هذا تأويلُهُ، يَعْنِي: تَحَقُّقُهُ.
وكذلكَ تَأْوِيلُ دخولِ الجنَّةِ: كونُ أهلِ الجنَّةِ يَرَوْنَ ما فيها ويقولونَ: هذا تأويلُ ما أَخْبَرَنَا اللهُ بهِ، فتأويلُ الأشياءِ: حَقَائِقُهَا ومَا تَؤُولُ إليهِ.
فهذانِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ ، أنَّ التَّأويلَ يَأْتِي بِمَعْنَى التَّفسيرِ ، وأنَّ التَّأويلَ يَأْتِي بِمَعْنَى حقائقِ الأشياءِ وَمَاهِيَّتِهَا.
فإذا قِيلَ: إنَّ الرَّاسخينَ يَعْلَمُونَ التَّأويلَ، فالمرادُ بالتَّأويلِ: التَّفسيرُ الَّذي تُفَسَّرُ بهِ الكلمةُ وَيُشْرَحُ بهِ مَعْنَاهَا.
وإذا قِيلَ: إنَّ التَّأويلَ لا يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ، فالمرادُ: حقائقُ الأشياءِ وَمَاهِيَّتُهَا وما هيَ عليهِ، يَعْنِي: كَكَيْفِيَّةِ البعثِ، وكيفيَّةِ الحشرِ، وكيفيَّةِ نَصْبِ المَوَازِينِ، وَكَيْفِيَّةِ نَشْرِ الصُّحُفِ، وما هيَ تلكَ الصُّحفُ، وما مِقْدَارُ المسافةِ، وَكَمْ فِي كلِّ كتابٍ منْ صفحةٍ ومنْ سطرٍ، أوْ منْ كلمةٍ، فَكَيْفِيَّةُ ذلكَ من التَّأويلِ الَّذي لا يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ تَعَالَى.
وهكذا أيضًا ما أَخْبَرَ اللهُ بهِ عن الجَنَّةِ وأنهارِهَا وَأَشْجَارِهَا وَثِمَارِهَا وقُصُورِهَا، كلُّ ذلكَ من التَّأويلِ الَّذي لا يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ، يَعْنِي: مَاهِيَّتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ وَحَقِيقَتَهُ الَّتي هوَ عليها.
النَّوعُ الثالثُ: اصْطَلَحَ المُتَأَخِّرُونَ من الأصولِيِّينَ وأهلِ الكلامِ على أنَّ التَّأويلَ هوَ صَرْفُ اللفظِ عن الاحتمالِ الرَّاجحِ إلى الاحتمالِ المَرْجُوحِ بدليلٍ يَقْتَرِنُ بهِ.
إذا قَالُوا: هذهِ الآيَةُ تَحْتَاجُ إلى التَّأويلِ، أوْ لاَ بُدَّ من التَّأويلِ، أوْ نَخُوضُ في التَّأويلِ، فَمُرَادُهُم بالتَّأويلِ هوَ صَرْفُ اللفظِ عنْ ظاهرِهِ، فإذا قَالُوا: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، يَعْنِي: اسْتَوْلَى، هذا تأويلٌ حَمَلَنَا عليهِ الفرارُ من التَّجْسِيمِ كما يَقُولُونَ، أو {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: اسْتَوَى على المُلْكِ، هذا تَأْوِيلٌ حَمَلَنَا عليهِ الفرارُ من التَّشبيهِ.
وهذا اصطلاحٌ جديدٌ حَادِثٌ في القرونِ المتأَخِّرَةِ، فما كانَ السَّلَفُ يَعْرِفُونَ في الاصطلاحِ أنَّ التَّأويلَ: هوَ صرفُ اللفظِ عن الاحتمالِ الرَّاجحِ إلى الاحتمالِ المَرْجُوحِ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بهِ، بل التَّأويلُ عِنْدَهُم هوَ المَعْنَيَانِ الأَوَّلاَنِ، أنَّهُ بِمَعْنَى التَّفسيرِ، أوْ أنَّهُ بِمَعْنَى الحقائقِ الَّتي يَؤُولُ إليها الأمرُ.


  #4  
قديم 17 ذو القعدة 1429هـ/15-11-2008م, 10:25 PM
محمد العاني محمد العاني غير متواجد حالياً
هيئة التدريس
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 32
افتراضي شرح الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله

وههنا ذكر المؤلِّفُ أنَّ ما أشكل من النّصوصِ وجبَ الإيمانُ به لفظاً ، وتركُ التعرّضِ لمعناه ، وهذا لأنَّ أهلَ السّنّةِ والجماعة قالوا: إنَّ النصوصَ -نصوصَ الكتابِ والسنةِ- واضحةٌ بيّنةٌ ؛ لأنَّ اللهَ - جلّ وعلا - أنزل كتابَه وجعله واضحاً بَيِّناً بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ ، وجعلَه محكَماً كما قال جلَّ وعلا : {الر (1) كتابٌ أُحكِمَتْ آياتُهُ ثمَّ فُصِّلَتْ من لَدُنْ حكيمٍ خبيرٍ} فجعل - جلّ وعلا- كتابَه كلَّه محكَماً، يعني: بيِّناً واضحاً لا يستبهمُ معناه، ولا يغمضُ ما دلّ عليه على النَّاسِ.
كذلك هو - جلّ وعلا - ذكر أنَّ كتابه متشابهٌ فقال جلَّ وعلا : {اللهُ نَزَّلَ أحسنَ الحديثِ كتاباً متشابهاً} فجعله كلَّه متشابها ، ومعنى ذلك أنَّه يشبه بعضُهُ بعضاً.
وفي آية آلِ عمرانَ جعل جلَّ وعلا: {منهُ آياتٌ محكماتٌ هنَّ أمُّ الكتابِ وأخرُ متشابهاتٍ} وهذا يعني : أنَّه منه ما هو واضحٌ بيّنٌ ، ومنه ما هو متشابهٌ مشتبهٌ، فكيف نجمع بين هذه الآياتِ الثلاثِ ؟.
المؤلفُ ذكرَ الخلاصةَ ، لكنْ تحتاجُ إلى إيضاحٍ ، فنقولُ: القرآنُ محكَمٌ كلُّه ومتشابهٌ كلُّه، ومنه محكمٌ ومنه متشابهٌ.
- فالإحكامُ بمعنى : الوضوحِ والبيانِ، فهو كلّه واضحٌ بيّنٌ على جنسِ الأمَّةِ، قد لا يكونُ واضحاً بيّناً لكلّ أحدٍ، ولكنّه واضحٌ بيّنٌ لجنسِ الأمّةِ.
- كذلك وصفَه بأنَّه متشابهٌ بقوله: {اللهُ نزَّلَ أحسنَ الحديثِ كتاباً متشابهاً} يعني: يشبه بعضُه بعضاً، فهذا أمرٌ وهذا أمرٌ، وهذا نهيٌ وهذا نهيٌ، وهذا خبرٌ وهذا خبرٌ، وهذا وصفٌ للجنَّةِ وذاك وصفٌ للجنَّةِ، وهذه قصَّةٌ لنبيٍّ من الأنبياءِ، وهذه قصة للنبيِّ نفسِه، وهكذا … فبعضُهُ يشبهُ بعضاً .
أمَّا الثَّالثُ: يعني: القسم الثَّالث، فهو ما ذُكر في آية آلِ عمرانَ بقوله: {منه آياتٌ محكماتٌ} يعني : بعضُه محكَمٌ واضحُ المعنى ، بيّنُ الدِّلالةِ ، وبعضُهُ ليس كذلك ، مشتبهُ المعنى ومشتبهُ الدِّلالةِ ، وهذا المشتبهُ المعنى والمشتبهُ الدّلالةِ لا يوجدُ في القرآنِ ولا في السنَّةِ عند أهلِ السنةِ والجماعةِ بمعنى التشابه المطلق ، يعني : أنَّ قوله تعالى: {وأُخَرُ مُتَشابِهاتٍ} يُعنى به: التشابه النّسبي الإضافي ، يعني : أنَّهُ يشتبه على بعضِ الناسِ دونَ بعضٍ.
أمَّا التشابه المطلقُ بحيثُ يقال: هذه الآيةُ من المتشابِهِ، أو يُقالُ {ألم} هذا من المتشابهِ -يعني: لا أحدَ يعلمُ معناه- فهذا من الخطأ، ولا يقولُ به أهلُ السنةِ، بل أهلُ السُّنَّة يقولون: إنَّه يمكنُ أن توجدَ آياتٌ تشتبه على بعض أهلِ العلمِ فلا يعلمُ معناها، لا يُعلم معناها من جهةِ هذا المُطالعِ ، لكنْ ليس من جهةِ الأمَّةِ بأجمعها، فيعلمُ بعضُ أهلِ العلمِ المعنى ، والبعضُ الآخرُ لا يعلمُ المعنى ، ولهذا ابنُ عبَّاسٍ لمّا تلا هذه الآيةَ قال: { أنا ممَّن يعلمون تأويلَهُ } .
فإذاً؛ التشابهُ، أو يقالُ هذه الآيةُ من المتشابهِ ، لا يوجدُ المتشابه المطلقُ - يعني الَّذي لا يعلمُ أحدٌ معناه - بل لا بدَّ أن يوجدَ في الأمَّةِ من يعلمُ معنى كلِّ نصٍّ ، فالقرآنُ نزل بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ ، نزل ليهتديَ به النَّاسُ ، كذلك السّنّة ، فلا يوجدُ نصٌّ يستبهمُ على جميعِ أهلِ العلمِ وعلى الأمّةِ.
وهذا القولُ بأنَّه هناك ما يستبهمُ على الجميعِ ، ولا يفهمُ معناه الجميعُ ، هذا إنَّما هو قول أهلِ البدعِ .
فإذاً: المؤلِّف هنا قسم إلى قسمين باعتبارِ بعضِ النَّاسِ لا باعتبارِ الجميعِ، فقال: (النُّصوصُ نتلقَّاها بالتَّسليمِ والاعتقادِ من غير أن نردَّهَا أو نشبِّهَ أو نمثِّلَ)
وهذا هو في القسمِ الأوَّلِ: يعني: الآياتِ المحكَماتِ الواضحاتِ.
ما اشتبهَ عليك: قال: (وجبَ الإيمانُ به لفظاً) وهذا اللفظُ الَّذي ذكرَهُ في قولِهِ: (وجبَ الإيمانُ به لفظاً) ممَّا انتُقدَ على الإمامِ موفَّقِ الدِّينِ ابنِ قدامةَ .
فإنَّه في هذه العقيدةِ الموجزةِ انتُقدَت عليه ثلاثُ مسائلَ :
هذه أوَّلُهَا: وهي قولُهُ: (وجبَ الإيمانُ به لفظاً) ويمكنُ أن يُخَرَّجَ كلامُه -يعني: أن يُحْمَلَ- على محملٍ صحيحٍ.
أمَّا الانتقادُ فهو أن يُقالَ: إنَّ الواجبَ أن نؤمنَ به لفظاً ومعنىً ، لكن إذا جهلنا المعنى نؤمنُ بالمعنى على مرادِ اللهِ -جلَّ وعلا- أو على مرادِ رسولِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كما سيأتينا من كلمةِ الإمامِ الشَّافعيِّ أنَّه قال: (آمنتُ باللهِ، وبما جاء عن اللهِ على مراد اللهِ، وآمنت برسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وبما جاء عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- على مرادِ رسولِ اللهِ) يعني: إذا جهلَ المعنى.
فإذا جهلْتَ المعنى تؤمنُ باللفظِ والمعنى، لكن المعنى على مرادِ من تكلَّمَ به.
ووجهُ الانتقادِ الَّذي انتُقِدَ به الإمامُ ابنُ قدامةَ في هذه اللفظةِ:
أنَّهُ يجبُ الإيمانُ باللفظِ والمعنى ، أمَّا الإيمانُ بلفظٍ مجرَّدٍ عن المعنى فهذا هو قولُ أهلِ البدعِ الَّذين يقولون: (نحن نؤمنُ بألفاظِ الكتابِ والسّنَّةِ دونَ إيمانٍ بمعانيها؛ لأنَّ معانيَهَا قد تختلفُ).
والجوابُ: أنَّ هذا غلطٌ ؛ بل معاني الكتابِ والسّنَّةِ هي على المعنى العربيِّ، فالقرآنُ نزل بلسانٍ عربيٍّ، والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- تكلَّمَ بلسانٍ عربيٍّ، فلهذا وجب أن يؤمَنَ بالكتابِ والسّنَّةِ على ما تقتضيه لغةُ العربِ، وعلى ما يدلّ عليه اللسانُ العربيُّ ، وهذا أصلٌ من الأصولِ .
لكنْ إذا اشتبه عليك المعنى، كلمة في القرآنِ ما علمْتَ معناها ، حديثاً إمَّا في الصِّفاتِ أو في الغيبيَّاتِ لم تعلم معناه ، نقولُ: نؤمن به لفظاً ومعنًى ، يعني: معناهُ مفهومٌ، لكنْ على مرادِ اللهِ ومرادِ رسولِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وهذا هو الَّذي جاء في الآيةِ، حيثُ قال جلَّ وعلا: {فأمَّا الَّذين في قلوبِهِم زيغٌ فيتَّبعون ما تشابَهَ منه ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِهِ وما يعلَمُ تأويلَهُ إلا اللهُ والرَّاسخُونَ في العلمِ يقولون آمنا به كلٌّ من عندِ ربِّنَا} هنا قال: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} ماذا يُعنى بهذا التَّأويلِ؟
إذا قلنا: إنَّ كلَّ آيةٍ لا بد أن نعلمَ معناها ، وكل حديثٍ لا بدَّ أن يوجدَ في الأمةِ منْ يعلمُ معناهُ، فما معنى قولِه تعالى: {وما يعلَمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} ؟
الجوابُ: أنَّ ما أنزلَ اللهُ -جلّ وعلا- على قسمين:
- إمَّا أن يكونَ أخباراً.
- وإمَّا أن يكونَ أحكاماً.
وتأويلُ الأخبارِ يكون بوقوعِهَا، وتأويلُ الأحكامِ (الأمرِ والنَّهيِ) يكون بإيقاعِها.
فقولُهُ تعالى هنا: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} يعني: تلك الأخبارَ ما يعلم تأويلَهَا إلا اللهُ؛ لأنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- هو الذي يعلمُ حقيقةَ ما تَؤُولُ إليه، أو يعلمُ ما تَؤَُولُ إليه حقيقةُ تلك الألفاظِ وتلك الآياتِ.
وذلك أنَّ التَّأويلَ في القرآنِ أتى بمعنيين لا ثالثَ لهما:
الأوَّلِ: التَّأويلُ بمعنى ما تَؤُولُ إليه حقيقةُ الشَّيءِ، وهذا كما في قولِهِ تعالى: {هل ينظرُونَ إلا تأويلَهُ يومَ يأتي تأويلُهُ يقولُ الَّذينَ نسوهُ من قبلُ…} الآية.
{هل ينظرون إلا تأويلَهُ} يعني: ما تَؤُولُ إليه حقيقةُ أخبارِهِ وأحكامِهِ، فحقيقةُ الأخبارِ تَؤُولُ إلى ظهورِهَا من الصّفاتِ والغيبيَّاتِ، كذلك الأحكامُ حقيقتُهَا تَؤُولُ إلى ظهورِ أثر من تمسَّكَ بها وامتثلها ممَّنْ عصى وخالَفَ، هذا المعنى الأوَّلُ.
المعنى الثَّاني: وهو فرعٌ عن هذا، التَّأويلِ: بمعنى التَّفسيرِ، قالَ: {أنا أنبِّئُكم بتأويلِهِ فأرسلُونَ} بتأويلِهِ: يعني بتفسيرِ الرُّؤيا، وهذا مرتبطٌ بالمعنى الأوَّلِ؛ يعني: الحقيقةَ الَّتي تَؤُولُ إليها الرُّؤيا في الواقعِ المشاهدِ.
فإذاً: قولُهُ تعالى هنا: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} ليس هو التَّأويلَ الحادثَ الَّذي يقوله بعضُ أهلِ الأصولِ وهو: (صرفُ اللفظِ عن ظاهرِهِ المتبادرِ منه إلى غيرِهِ لمرجِّحٍ أو لقرينةٍ تدلّ عليه) لا، هذا إنَّمَا هو اصطلاحٌ حادثٌ، أمَّا التَّأويلُ فهو في القرآنِ والسّنَّةِ له معنيان لا غيرُ.
فإذاً: قولُهُ هنا: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} إذا كان في آياتِ الصّفاتِ ووقفنا على هذه الآيةِ وقلنا: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} ووقفنا، فنريدُ بالتَّأويلِ ما تَؤُولُ إليه حقيقةُ الأسماءِ والصِّفاتِ، يعني: الكيفيَّة، لا يعلم الكيفيَّةَ وهي الحقيقةُ الَّتي تؤولُ إليها آياتُ الأسماءِ والصِّفاتِ والأحاديثِ الَّتي فيها الأسماءُ والصّفاتُ، لا يعلم كيفيَّةَ اتّصافَ اللهِ -جلَّ وعلا- بها إلا هو سبحانه.


  #5  
قديم 17 ذو القعدة 1429هـ/15-11-2008م, 10:27 PM
محمد العاني محمد العاني غير متواجد حالياً
هيئة التدريس
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 32
Post شرح الشيخ:صالح الفوزان .حفظه الله (مفرغ)

المتنُ: (وَمَا أُشْكِلَ مِن ذلك وَجَبَِ إِثْبَاتُه لَفْظاً وتَرْكُ التعَرُّضِ لمعناهُ، ونَرُدُّ عِلْمَه إلى قائِلِه).
الشرحُ: هذه الجملةُ غيرُ مُسَلَّمَةٍ مِن الشيخِ رَحِمَه اللهُ؛ كما ـ يَظْهَرُ لِي ـ يُقَسِّمُ نُصُوصَ الصفاتِ إلى قِسميْن:
1 ـ قِسْمٌ يَظْهَرُ لنا معناه وتفسيرُه، فهذا نُؤْمِنُ به، ونُؤْمِنُ بمعناه وتفسيرِه.
2 ـ والقسمُ الثاني: لا يَظْهَرُ لنا معناه، فهذا نُفَوِّضُه إلى اللهِ سُبْحَانَه وتَعالَى.
وهذا غَلَطٌ؛ لأن جميعَ نصوصِ الأسماءِ والصفاتِ معلومَةُ المعنى، ليس فيها شيءٌ مُشْتَبِهٌ أو مِن المتشابِهِ، فليسَتْ نصوصُ الأسماءِ والصفاتِ مِن المُتشابِهِ، ولا تَدْخُلُ في المتشابِهِ، كما قَرَّرَ ذلك شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه اللهُ، وأخْبَرَ أنه لم يَجِدْ في كلامِ السلَفِ، ولا في كلامِ العلماءِ المُعْتَبَرِينَ مَن قالَ: إن الأسماءَ والصفاتِ أو شيئاً مِنها مِن المتشابِهِ الذي لا يَعْلَمُه إلا اللهُ.
فكلُّ نصوصِ الأسماءِ والصفاتِ مِن المُحْكَمِ الذي يُعْلَمُ معناه ويُفَسَّرُ ويُوَضَّحُ، وليسَ فيها شيءٌ مِن المُتشابِهِ الذي لا يُعْلَمُ معناه كما يقولُ هنا، وإنَّما اللهُ جلَّ وعلا أخْبَرَ أنه أنْزَلَ الكتابَ؛ قالَ تعالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ما معنَى المُحْكَمَاتِ والمُتَشابِهاتِ؟
قالوا: المُحْكَمُ: هو الواضِحُ المعنى، الذي لا يَحْتَاجُ في تفسيرِه إلى غيرِه، وأمَّا المتشابِهُ فهو: الذي يَحْتَاجُ في تفسيرِه وبيانِ معناه إلى غيرِه.
هناك نصوصٌ مُشْكِلَةٌ، لكنْ إِذا رُدَّتْ إلى النصوصِ الأُخْرَى التي تُوَضِّحُها زَالَ الإشكالُ واتَّضَحَ الحقُّ، قالوا: وهذا مِثْلُ: العامِّ والخاصِّ، والمُطلَقِ والمُقَيَّدِ، والناسِخِ والمنسوخِ، والمُجْمَلِ والمُفَصَّلِ.
هذا هو معنى المحكمِ والمتشابِهِ، المحكمُ: هو الواضِحُ المعنى الذي لا يَحتاجُ في تفسيرِه إلى شيءٍ آخَرَ، وأما المتشابهُ: فهو المُشْكِلُ الذي يَحْتَاجُ في تفسيرِه إلى نَصٍّ آخرَ يُفَسِّرُه.
وهذا موجودٌ في القرآنِ وفي السنَّةِ؛ هناك نصوصٌ أو أدِلَّةٌ مُشْكِلَةٌ تَحْتاجُ إلى ما يُوَضِّحُها مِن النصوصِ الأُخْرَى، فتُرَدُّ إلى ما يُفَسِّرُها من النصوصِ الأخرَى.
وكلامُ اللهِ يُفَسِّرُ بَعْضُه بعضاً، كلامُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ يُفَسِّرُ بَعْضُه بعضاً، هذا معنَى المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ، {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} الأصلُ في معنى: الأُمُّ: الأصلُ الذي يُرْجَعُ إليه، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يُشْكِلُ معناها إذا انْفَرَدَتْ، لكنْ إذَا رُدَّتْ إلى النصوصِ المُحْكَمَةِ وَضَّحَتْها وبَيَّنَتْها.
فالراسِخُون في العِلْمِ يَرُدُّونَ المُتَشابِهَ إلى المُحْكَمِ، ويُفَسِّرونَ كلامَ اللهِ بعضَه ببعضٍ، ويُفَسِّرون كلامَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بعضَه ببعضٍ، أو يُفَسِّرون كلامَ اللهِ بسنَّةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، ويُفَسِّرون سُنَّةَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بكلامِ اللهِ؛ لأنه كُلَّه مِن عندِ اللهِ.
ولهذا يَقُولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} المُحْكَمُ والمُتَشَابِهُ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.
أمَّا أهلُ الزَّيْغِ ـ والعياذُ باللهِ ـ فإِنَّهم يَأْخُذُونَ المُتَشَابِهَ ويَسْتَدِلُّونَ بِهِ ويَتْرُكونَ المُحْكَمَ، ولا يَرُدُّونَ المُتَشَابِهَ إلى المُحْكَمِ؛ لمَقْصِدٍ سَيِّئٍ عندَهم، ابْتِغَاءَ فتنةِ الناسِ عن دينِهم، يقولونَ: هذا كلامُ اللهِ وهذا كلامُ الرسولِ؛ فيَفْتِنُون الناسَ عن دينِهم.
إذا جاؤُوا لهم بآيةٍ مُتَشابِهَةٍ أو بِحديثٍ مُتشابِهٍ، قالوا: هذا كلامُ اللهِ، وهذا كلامُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فيُشَبِّهُونَ على الناسِ أنهم يَسْتَدِلُّون بكلامِ اللهِ وكلامِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فيَفْتِنُونَهم عن دِينِهم.
مثالُ ذلك: بعضُ الجُهَّالِ الآنَ الذين يَبْحَثُونَ عن نُصوصٍ مُتشابِهَةٍ مِن الحديثِ، ثم يَخْرُجُونَ بِهَا على الناسِ، يقولُون: نَسْتَدِلُّ بهذا الحديثِ، لِيُشَوِّشُوا على الناسِ ما هم عليه مِن الحقِّ، وهذه الأحاديثُ التي جاؤُوا بها ما خَفِيَتْ على أهلِ العِلْمِ، أهلُ العِلْمُ فسَّرُوها، وبيَّنُوا المرادَ مِنها، لكنَّ هؤلاءِ يَقْطَعُون هذا عن هذا: {يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}.
هذه طريقَةُ أَهْلِ الزَّيْغِ في كلِّ زَمَانٍ ومَكانٍ، يَفْصِلُون كلامَ اللهِ بعضَه عن بعضٍ، وكلامَ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بعضَه عن بعضٍ، ويقولونَ: نحنُ نَسْتَدِلُّ بكلامِ اللهِ وكلامِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
نقولُ: لا، لَمْ تَسْتَدِلُّوا بكلامِ اللهِ وكلامِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؛ لو اسْتَدْلَلْتُم بكلامِ اللهِ وكلامِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ, لأَرْجَعْتُم المُتَشابِهَ إلى المُحْكَمِ، أمَّا أنَّكُم تَأْخُذُونَ بطَرَفٍ وتَتْرُكونَ الطرفَ الآخرَ, فهذا ليْسَ اسْتِدلالاً بكلامِ اللهِ، ولا بكلامِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}.
هذه طريقةُ أهلِ الزيْغِ دائماً وأبداً، نسألُ اللهَ العافِيَةَ.


  #6  
قديم 17 ذو القعدة 1429هـ/15-11-2008م, 10:31 PM
محمد العاني محمد العاني غير متواجد حالياً
هيئة التدريس
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 32
Post تيسير لمعة الاعتقاد للشيخ: عبد الرحمن بن صالح المحمود .حفظه الله (مفرغ)

[ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : ((وما أَشْكَلَ من ذلك وجب إثباته لفظاً , وترك التعرض لمعناه , ونردُّ علمَه إِلى قائله , ونجعل عُهدته لعى ناقله اتباعاً لطريق الراسخين في العلم , الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: ) وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا( [آل عمران: 7] .
هذه العبارة للشيخ ابن قدامة فيها إشكال من جهة أنه قال: (( وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه )) وسيأتي بعد قليل نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى , أنه قال في قول النبي r : (( إن الله ينزل إلى سماء الدنيا )) (1) , و(( إن الله يرى في القيامة )) (2) . وما أشبه هذه الأحاديث : (( نؤمن بها , ونصدق بها , لا كيف , ولا معنى , ولا نردُّ شيئاً منها , ونعلم أن ما جاء به الرسول حقٌّ , ولا نردُّ على رسول الله r )) .


فقول الإمام أحمد هنا : (( لا كيف ولا معنى )) قد يظن البعض أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى ومثل ابن قدامة في العبارة السابقة من القائلين بالتفويض في باب الأسماء والصفات , أي إثبات ألفاظها فقط دون التعرض لإثباتها حقيقة , وإثبات ما دلت عليه من معنى يليق بجلال الله وعظمته .
ونقول : إن مذهب التفويض مخالفٌ لمذهب أهل السنة والجماعة , ولم يقل به أحدٌ منهم . وإنما هو مذهب لطوائف انحرفت عن المنهج الصحيح لأهل السنة والجماعة . وابن قدامة وكذا الإمام أحمد لم يقولوا بقول هؤلاء ؛ فإن قول الإمام
أحمد هنا : (( لا كيف )) صحيح أي لا نكيفها . وقوله (( لا معنى )) إنما يقصد به أننا لا نتعرض لمعناها بالتأويل والتحريف والتشبيه ونحو ذلك .
أي لا نُظهر لها معنىً يخالف ظاهرها الذي دلت عليه .
ولهذا قال الإمام أحمد بعد ذلك : (( ولا نردُّ شيئاً منها , ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ....)) فقد بيّن أن منهج السلف إثبات الصفات , وإثبات الصفات لله سبحانه وتعالى هو إثباتها لعى ما يليق بجلاله وعظمته , وإثبات المعنى الذي دلت عليه والذي دل عليه النص , وليس المقصود إثبات اللفظ فقط , دون إثبات المعنى اللائق بالله تعالى .
وأهل السنة والجماعة يردون على المتأولة , ويردون على الذين يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه أو يكيفونها , كما أنهم يردون على المفوضة ، لأنهم يثبتون ما ورد من صفات الله تعالى كما يليق بجلاله , ولنضرب مثلاً بصفة السمع أو بصفة العلم , فإن أهل السنة والجماعة يعلمون معنى العلم ومعنى السمع , فيثبتون هذه الصفات لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته , ولكنهم وهم يثبتون هذه الصفات , لا يتعرضون لتأويلها وتحريفها , كما فعل أهل التحريف والتأويل ، وأيضاً لايكيفون هذه الصفة , فيقولون : إن كيفية الصفة كذا وكذا , أو يقولون : إنها تشبه صفة أحد من الخلق أو نحو ذلك.
ومن هنا فقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى : (( ولا معنى )) أي لا نقول إن لها معاني تخالف ظاهرها فنقع في التحريف والتأويل ونحو ذلك , وإنما نثبتها كما وردت ونثبت ما دلت عليه من معنى يليق بالله تعالى.
والتفويض الصحيح إنما يكون لكيفية الصفة , لا لحقيقة الصفة وما دلت عليه من معنى , فكيفية صفات الله تعالى نفوضها إلى الله , لأننا كما أننا لا نعلم ذاته , فإننا أيضاً لا نعلم كيفية صفاته . أما الصفة نفسها , فإننا نثبتها لله سبحانه وتعالى ، فَنُفَرِّق بين العلم والقدرة ، وبين السمع والبصر ، وبين الحكيم والخبير وبين قوله تعالى: )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( [طه : 5] ، وقوله تعالى : )بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( [المائدة : 64] ، وقولـه تعالى : .وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ونحوها .
وهذا التفريق ؛ لأننا نعرف من معنى قوله تعالى :) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( معاني غير ما نعلمه من قوله تعالى : )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( وهكذا , إذن نخلص في هذه القضية إلى أن القول بأن السلف يثبتون ألفاظ نصوص الصفات فقط مجردة ويفوضون ما دلت عليه ولا يثبتون لها معاني ـ هو قول مردود بل هذا قول أهل التفويض الذي قال في مذهبهم بعض السلف : إنه شر من مذهب المعطلة .

فمنهج أهل السنة والجماعة , إثبات هذه الصفات حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته , دون تحريف ودون تشبيه ، فيثبتونها ويثبتون ما دلت عليه من المعاني . أما الكيفية , فهذه يفوضونها إلى الله سبحانه وتعالى ويقولون : إنه لا يعلم كيفية صفاته إلا الله سبحانه وتعالى .
وفي عبارة الشيخ ابن قدامة التي يقول فيها : (( وما أشكل من ذلك , وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه )) نقول : إن كان قد قصد ما قصده الإمام أحمد في عبارته التي سقناها وذكرنا معناها , فهو صحيح , وهو أن أهل السنة والجماعة لا يتعرضون للمعاني التي هي معانٍ تأويلية فيها تحريف لما دلت عليه هذه الصفات بل يثبتونها ويثبتون ما دلت عليه كما يليق بجلال الله وعظمته .
أما إن كان ما يفهم من عبارة الشيخ أننا نثبت اللظ فقط ولا نتطرق للمعنى , ولا نفهم أي معنىً للصفة , فهذا هو التفويض المردود , والمعروف عن أهل السنة والجماعة ـ ومنهم ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ فيما وصلنا من كتبه ورسائله ـ أنهم بعيدون جداً عن أهل التفويض ؛ لأن مآل مذهب أهل التفويض التجهيل للرسول r ولأصحابه ؛ لأن القائل إذا قال نفوض الصفات ، ونفوض ما دلت عليه من معاني ، يؤول به الأمر إلى أننا إذا قرأنا قول الله تعالى : {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} فلن نفهم شيئاً ؛ لأننا نقول في اسمه (( الغفـور)) و((الرحيم)) وما دل عليه هذان الاسمان من صفة : تثبت ألفاظهما ونفوض معانيهما .
وكذلك نقرأ على منهج أهل التفويض قوله تعالى : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [العنكبوت: 42])وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( [الملك: 1] , )أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( [الملك:14] , )أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ( [النساء: 166] , )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( [طـه:5] , )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ( [الرحمن: 27] , )وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم( [الفتح: 6] ، نقرأ هذه الآيات فلا نفقه منها شيئاً , لأننا نفوض المعنى .
فهذا المعنى الذي قصده هؤلاء , ينتهي بهم إلى التجهيل الذي قال فيه بعض العلماء : إنه شر من التعطيل , لأن معناه أن الرسول r والصحابة وأيضاً نحن , يجب علينا أن نتلو القرآن فما ورد منه متعلقاً بأسمائه وصفاته , فيجب أن نثبت لفظه فقط , دون أن نثبت لـه أي دلالة أو أي معنى , وهذا مذهب غالٍ مخالف لمذهب السلف رحمهم الله تعالى ومعلوم أن الله تعالى أمرنا بتدبر القرآن كله ، ولم يستثن منه شيئاً .
أما حينما نثبت ما دلت عليه هذه النصوص من معاني كما هو منهج السلف ونقول بإثباتها لله كما يليق بجلاله وعظمته ، من غير تعطيل ومن غير تشبيه ، فإننا والحالة هذه ، نكون قد فهمنا ما دل عليه النص ، فنفهم من قوله تعالى : {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] , إثبات اسمه تعالى (( العليم )) واسمه تعالى (( الخبير )) ، وما دل عليه هذا الاسم (( العليم )) من صفة العلم ، وما دل عليه أيضاً اسمه تعالى (( الخبير )) من علمه سبحانه وتعالى بما كان وما سيكون , وكونه تبارك وتعالى عالماً ببواطن الأمور وأسرارها مطلعاً على كل شيء , وهكذا في بقية النصوص.
فمعنى ذلك أننا لانفوض المعنى , وإنما نثبت الصفة , ونثبت ما دلت عليه هذه النصوص من صفات ، كما يليق بجلاله تعالى وعظمته , ونفوض الكيفية لأنه لا يعلمها إلا الله .
أما القول بأن أهل السنة والجماعة يثبتون مجرد لفظ الصفة فهذا غير صحيح , فمن يقول : أثبت (( العليم )) , لكن لا أدري ماذا يعني اسمه (( العليم )) , أثبت (( السميع )) ولا أدري ماذا يعني اسمه ((السميع )) , أثبت لله صفة
(( الإرادة )) و(( القدرة)) و((الغضب)) و((الرضا)) ولا أدري ما معناها . نقول لـه : هذا تفويض لمعنى هذه الصفات , وهو يدلُّ على أنك لا تثبت النصوص , ولا ما دلَّت عليه , ولا شك أن الله سبحانه وتعالى أنزل علينا القرآن هدىً ورحمة وتبياناً لكل شيء , ومن المقطوع به من منهج الصحابة رضي الله عنهم , والسلف الصالح جميعاً , بل هو ضرورة لكلِّ مسلم , أنهم يفقهون ويعلمون حسب ما آتاهم الله سبحانه وتعالى من علم , فيفقهون ويعلمون نصوص الكتاب ونصوص السنة النبوية ويعملون بها ويتبعون ما دلت عليه , والاتباع لا يكون إلا عن علم , فحينما تأتي آياتٌ في أسماء الله وصفاته , فإننا نتلوها ونعلم معناها , ونُفَرِّقُ بين هذه الآية وبين تلك الآية وهذا التفريق مقتضاه: أننا نثبت ما دلت عليه من معاني دون تحريف أو تشبيه , لأن أهل السنة والجماعة يثبتونها كما يليق بجلال الله وعظمته , فلا يحرفون النصوص , ولا يؤولونها ولا يعطلونها عما دلت عليه , كما أنهم أيضاً في المقابل لا يمثلونها ، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين وهكذا .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى بعد قوله سبحانه : )وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا(:

(1) أخرجه البخاري رقم (1145) كتاب التهجد ورقم (6321) كتاب الدعوات . ومسلم رقم (758) كتاب صلاة المسافرين .

(2) حيث رؤية الله عز وجل أرجه البخاري رقم (554) كتاب مواقيت الصلاة . ومسلم رقم (633) كتاب المساجد من حديث جرير رضي الله عنه ...



  #7  
قديم 5 محرم 1430هـ/1-01-2009م, 12:03 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح فضيلة الشيخ: يوسف بن محمد الغفيص

التفويض ومخالفته لطريقة السلف
قال المصنف بعد تقريره لهذه القاعدة في الصفات: [وما أشكل من ذلك -أي: في باب الصفات- وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله] . هذه المسألة من أشد ما أخذ على الموفق رحمه الله ، وكما أسلفت فرسالته هذه ليس فيها غلط محض بيِّن، إنما فيها بعض الأحرف المحتملة، فهل هذه العبارة من المصنف تقرير للتفويض، أم لا؟ وقبل الجواب ينبغي أن يعلم أن الاعتبار دائماً يكون بتحقيق الحقائق، وأما أن هذا المعين من الناس يقول بهذا المذهب أو لا يقول به، فهو غير مهم، والمهم أن يكون بين لنا ومعلوم أن التفويض في الصفات طريق بدعيٌ لا أصل له في كلام السلف. فكما أن السلف رحمهم الله تركوا التأويل، وقالوا بوجوب البقاء على ظواهر النصوص، وأن النصوص معناها واحد، إلى غير ذلك، فإنهم تركوا قول المفوضة أيضاً، والمراد بالمفوضة: هم من زعموا أن هذه النصوص يُعمل بألفاظها وأما معانيها فليس هناك معنىً يُؤمن به، وإنما يفوض العلم بالمعنى إلى الله، وهذا مذهب غلط ومبتدع، وكما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن قول المفوضة من شر أقوال أهل البدع". ......

مسالك أهل البدع تجاه صفات الله تعالى



مذهب السلف في مقام الصفات هو الإيمان بالأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. وهناك ثلاثة مسالك بدعية: المسلك الأول: مسلك المعطلة والمؤولة؛ الذين عطلوا صفات الله وتأولوها على معانٍ سموها مجازاً، كقولهم:{ وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]أي: جاء أمره، وقولهم: إن (استوى) بمعنى: (استولى) وهذا مذهب المعتزلة ومن وافقهم من متكلمة الصفاتية كالأشاعرة وغيرهم. المسلك الثاني: مذهب التشبيه، وهم من شبه الله بخلقه، شبه الخلق بصفات الخالق، والمشبهة أصلهم من أئمة الشيعة، ثم دخل على بعض الأحناف أتباع محمد بن كرام . وهذان المذهبان -أعني: مذهب التشبيه ومذهب التعطيل والتأويل- لم يشتبه على أحد من أصحاب السنة والجماعة من الفقهاء المبتعدين عن علم الكلام أنهما مذهبان مخالفان لمذهب السلف. المسلك الثالث: مذهب المفوضة، والتفويض هو الذي اشتبه على بعض الفقهاء التاركين لعلم الكلام فقالوا: إنه قول طائفة من السلف، فظنوا أن السلف مفوضة؛ أي: أنهم يقولون: إن هذه الألفاظ يُعمل بها، وأما معناها فيسكت عنه، وهذا التفويض لا شك أنه بدعة، وهو ممتنع عقلاً، وفي تقرير هذه المسائل يجب أن يظهر التوافق بين العقل والنقل، وأنه لا تعارض بينهما. وإنما كان التفويض ممتنعاً عقلاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما أراد بهذه الأخبار التعريف به، فإذا كان معناها غير مُدرك فإن المعرفة به سبحانه لن تكون ممكنة، ولأن الله سبحانه وتعالى أراد بذكر الخبر معنىً معيناً، كقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]فهذا خبر متضمن لإثبات صفة السمع صراحة، وإذا لم يكن هناك فقه وفهم للصفة، فإن العلم بهذا الخبر يكون علماً ممتنعاً؛ فالتفويض لهذا قول متعدٍ، ولكن مع كونه بدعة أو متعذراً في الشرع والعقل، فإن طائفة من الفقهاء المبتعدين عن علم الكلام امتدحوه، وظنوا أنه


طريق للسلف أو لطائفة منهم، ولذلك يمكننا أن نقول: التأويل طريق المتكلمين ومن وافقهم أو تأثر بهم، والتفويض طريق جماعة من الفقهاء والصوفية المعظمين للسنة والأئمة، ولكنهم لم يحققوا مذهبهم. ......

تبرئة المصنف من مذهب المفوضة
مسألة: هل ابن قدامة يعتنق مذهب التفويض أم لا؟ يقال: هذه مسألة محتملة، ولكن الأظهر في طريقته رحمه الله أنه لا يوافقهم، وإن كانت بعض ألفاظه المجملة قد تشعر بشيء من ذلك، والدليل على أن الموفق رحمه الله ليس مفوضاً أنه جعل القاعدة في الأسماء والصفات هي الإثبات بالتسليم والقبول والإيمان، وترك التعرض لأدلة الصفات بالرد والتأويل؛ وهذا كله وغيره تقرير للإثبات المعروف عند السلف. ثم إن هذا التقرير الذي ابتدأ به هو الذي فصَّله في رسالته هذه وفي غيرها من رسائله التي كتبها في أصول الدين؛ فقد ذكر تفصيل الإثبات للقرآن وأنه كلام الله، وتفصيل الإثبات لصفاته الأخرى سبحانه وتعالى ، ولهذا فإنه قال: [وما أشكل من ذلك] فبهذا يُعلم قطعاً أن الموفق ليس مفوضاً، إنما المحتمل أن يكون عنده شيء من التفويض، وفرق بين من دخل عليه شيء من التفويض وبين من طريقته في الأصل طريقة المفوضة. وعليه فما علَّقه بعض المعاصرين: من أن صاحب الرسالة يذهب إلى مذهب المفوضة، وهو مذهب مخالف لمذهب السلف لا شك أن هذا الكلام فيه مبالغة وخلط، فالحقائق يجب أن تكون معتدلة، أما أن مذهب المفوضة مخالف للسلف فنعم، لكن أن يفتات على إمام من الأئمة ويطعن فيه من باب ضبط السنة، فهذا ليس بلازم، فإنه يمكنك أن تضبط السنة من غير أن تطعن في أئمتها وحملتها. فالإمام ابن قدامة قال: [وما أشكل من ذلك] فدل على أن جمهور الأدلة في الصفات غير مشكل، والذي هو غير مشكل لم يذكر فيه تفويضاً إنما ذكر التفويض في المشكل، فدل على أن غير المشكل عنده على معناه الحقيقي، وأن المشكل ليس قاعدة مطردة، وهذا قدر لا بد أن يُضبط. ثم هذا المشكل الذي قال



فيه المصنف ما قال، هل قصد أنه يفوض فيه تفويضاً بدعياً؟ نقول: هذا مبني على مراده بالمشكل، وهناك واقع لا بد من اعتباره، فالمؤلف جاء بعدما غلا كثير من الحنابلة في الإثبات؛ فهذه مسألة فيها شيء من التاريخية لا بد أن يُتصور ليُفهم مراده رحمه الله. والحنابلة -كقاعدة معروفة- إمامهم رحمه الله كان له من الاختصاص في الرد على المعتزلة الذين هم أساطين علم الكلام أكثر مما كان لغيره بسبب مسألة فتنة خلق القرآن، وقد جاء بعد عصر الأئمة الأربعة رجلان: أبو الحسن الأشعري وهو شافعي فقهاً، وأبو منصور الماتريدي ، وهو حنفي فقهاً، وهذان الرجلان ليسا ممن يعارض الأئمة، بل ممن يؤمن بمنهج أهل السنة والجماعة كمنهج عام متأصل وقد انتسبا إليه، لكنهما على طريقة علم الكلام، فأنتجا -هما ومن سار على نهجهما- هذه المذاهب التي هي ملفقة من السنة والبدعة. ومن هنا دخل علم الكلام على كثير من الشافعية عن طريق الأشعري ، كما دخل على كثير من الأحناف عن طريق الماتريدي . وأما الحنابلة فلم يظهر فيهم علماء متكلمون ينتسبون إلى الإمام أحمد فقهاً، ولكن فيما بعد ظهر من الحنابلة -كأبي الحسن التميمي وكأبي الفضل التميمي ، وأمثال هؤلاء: كابن عقيل وكالقاضي أبي يعلى زمناً من عمره- من تأثر بالكلابية والأشاعرة، وفي المقابل كان هناك قسم آخر من الحنابلة يبالغون في ضبط مذهب الإمام أحمد في الصفات والبعد عن التأويل وعلم الكلام إلى حد الزيادة، بمعنى: أنهم بدءوا يفصِّلون جملاً لم يفصلها السلف ولم يخوضوا فيها من باب تحقيق الإثبات، ومن هؤلاء أبو عبد الله بن حامد مثلاً. فتحصل من هذا أن طائفة من الفقهاء انتحلوا علم الكلام وبعض طرق أهل البدع، وطائفة أخرى في المقابل من أصحاب الأئمة -ولا سيما من الحنابلة- كان عندهم قدر من المبالغة في الإثبات لم تُعرف عن الأئمة رحمهم الله، فبدءوا يفصلون في أمور فيها قدر من الإجمال. والظاهر أن ابن قدامة رحمه الله كان


يبتعد عن أهل هذه الطريقة، ويرى أن ما زاد عن كلام السلف والأئمة، فإنه يجب التوقف فيه، والمعاني التي يسأل عنها الناس مما زاد على تقرير السلف يفوض علمها إلى الله سبحانه وتعالى. وخلاصة الكلام أن المعاني التي تكلم فيها المتأخرون من المعظمين للسنة والجماعة وطريقة السلف، تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: قسم من المعاني كان مستقراً عند السلف، وهو الذي دلت عليه ظواهر النصوص. - القسم الثاني: قسم متكلَّف أو مشتبه من المعاني، وبعض من رام التحقيق -كابن حامد مثلاً وبعض أتباع أصحاب المذاهب الأربعة- بالغوا في إثباته، حتى وصل في بعض الأحيان إلى حد التشبيه، أي أنه إذا قيل: إن الكرامية مجسمة أو مشبهة، فليس ذلك على إطلاقه؛ فابن كرام لم يكن يقصد موافقة هشام بن الحكم من الشيعة في التشبيه، بل كان يذمه ويذم التشبيه، لكنه بالغ في الإثبات حتى ارتكب بعض التشبيه؛ فكأن ابن قدامة رحمه الله ينتقد الطائفتين: أهل التأويل من الحنابلة الذين تأثروا بالكلابية، وأيضاً من بالغوا في إثبات المعاني التي سئلوا عنها وكان الواجب أن يرد علمها إلى الله سبحانه وتعالى ، وهذا هو الاحتمال الراجح، والاحتمال المرجوح: أن ثمة بعض الأحرف من الصفات مشكلة عند ابن قدامة ، ويرى أنه يجوز فيها التفويض. ولكن على كلا التقديرين لا يمكن أن يقال: إن الموفق يذهب ذهاباً تاماً مطرداً إلى مذهب المفوضة، فهذا لا شك أنه قدر من التعدي والافتئات عليه رحمه الله. ......

شرح لمعة الاعتقاد [3]



عقيدة أهل السنة في صفات الله: أن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويعتقدون أن آيات الصفات آيات محكمة يجب الإيمان بما دلت عليه من الصفات، وأنها صفات حقيقية لله تعالى تليق بجلاله سبحانه، ويثبتون ما دلت عليه من المعاني اللائقة بالله تعالى، وعليه فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الصفات فقد أخطأ عليهم، إنما كانوا يفوضون كيفية الصفات لا معانيها.
هل آيات الصفات من المحكم أو المتشابه؟



قال الموفق رحمه الله: [اتباعاً لطريقة الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]] . ألحق المصنف بعد ذلك ذكر ما يتعلق بالمحكم والمتشابه، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن القرآن كله محكم، وذكر أنه متشابه، وذكر أن منه آيات محكمات وأخر متشابهات. فأما إحكامه العام فهو ضبطه واستقامة معناه، وأنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأما تشابهه العام، فالمراد به أن بعض القرآن يُصدِّق بعضاً ويشبه بعضاً، كما تقول: هذه المسائل أشباه؛ لما بينها من التوافق والاشتراك. وأما المحكم الخاص والمتشابه الخاص المذكوران في سورة آل عمران في الآيات التي ذكرها المصنف هنا، فهما محل خلاف بين المفسرين. مسألة: هناك جملة من المتكلمين اعتبروا آيات الصفات هي المتشابه، ومنهم -وهم قلة من المتكلمين- من جعل آيات الصفات من المتشابه، وفرق بين الطريقتين، فأما من قصر التشابه على آيات الصفات فهم المتكلمون من أهل البدع، وأما من قال: إن آيات الصفات من المتشابه، فكلامه أيضاً لا أصل له، فآيات الصفات لا يجوز أن تُعد من المتشابه، وابن قدامة هنا وَهِمَ رحمه الله ، لكن هذا الوهم ليس عقدياً، وإنما هو وهم تفسيري؛ لأنه لم يجعله مطرداً في سائر الصفات، إنما يقول: إن المشكل يكون متشابهاً فقط، والمتشابه يجب تفويضه إلى الله اعتماداً على هذه الآية. والصحيح أن آيات الصفات من المحكم، وليست من المتشابه، وإنما المتشابه ما أشكل أو تردد معناه، وعليه فقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]إذا كان الوقف على ذلك، فإن المتشابه: هو ما يمكن طائفة من أهل العلم فهمه، ويكون من جنس قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان : (الحلال بيِّن والحرام بيِّن،


وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس). وأما إذا كان الوقف على قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:7]وقوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]ابتداء جملة خبرها: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]فإن المتشابه حينئذٍ يراد به: الحقائق الغيبية التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها، كحقيقة العذاب والنعيم، وكحقائق كيفية صفاته سبحانه وتعالى ، فهذه لا يعلمها إلا الله، وهي شيء مجهول للمخاطبين.


  #8  
قديم 10 محرم 1430هـ/6-01-2009م, 07:03 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post العناصر


العناصر
- وجوب التسليم والقبول لآيات وأحاديث الصفات .
- أهل السنة والجماعة تميزوا بالتسليم لما جاء في الكتاب والسنة .
- أقسام النصوص من حيث الوضوح والخفاء .
- تحرير القول في النصوص من حيث الوضوح والإِشكال .
- طرق الناس في ما أشكل عليهم من النصوص .
- بيان ما يجب على من أشكل عليه شيء من النصوص .
-شرح قول المؤلف: (وترك التعرض بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل ) .
- معنى رد النصوص .
- حجة النفاة في رد الأدلة الصحيحة .
- معنى التأويل .
- أنواع التأويل .
- حكم التأويل .
- التأويل المذكور في النصوص غير التأويل بالاصطلاح الحادث .
- معنى التمثيل وحكمه .
- الفرق بين التمثيل والتشبيه .
شرح قول المؤلف: ( وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً .. ) .
- وجه الانتقاد في قول المؤلف :(وما أشكل من ذلك وجب الإيمان به لفظاً وترك التعرض لمعناه) .
- تفسير قول الله تعالى: { فأما الذين في قلوبهم زيغ ..} الآية .
- توجيه القراءتين في قوله تعالى:{ وما يعلم تأويله إلا الله } .
- بيان علامة الزيغ .
- أقسام الإحكام والتشابه في نصوص الكتاب والسنة .
- أنواع الإحكام والتشابه المذكور في آيات الكتاب العزيز .


  #9  
قديم 10 محرم 1430هـ/6-01-2009م, 07:04 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Question الأسئلة

الأسئلة
س1: بين أقسام النصوص من حيث الوضوح والإشكال ، واذكر طرق الناس فيما أشكل عليهم من النصوص .
س2: بين معنى التأويل ، واذكر أنواعه .
س3: بين حكم التأويل الذي هو صرف النصوص عن ظاهرها.
س4: اذكر تفسيراً مختصراً لقوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب}، إلى قوله: {وما يذكر إلا أولو الألباب}.
س5: اذكر أنواع الإحكام والتشابه المذكور في القرآن الكريم.
س6: ما معنى رد النصوص ، وما حكمه ؟
س7: ما معنى التمثيل ، وما حكمه ؟
س8: ما الفرق بين التمثيل والتشبيه ؟
س9: قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وما أشكل من ذلك وجب الإيمان به لفظاً وترك التعرض لمعناه) ، اذكر ما انتقد به الإمام في هذه العبارة؟ وما تخريج قوله ؟ وما هو التعبير الأصوب ؟
س10: اذكر حجة النفاة الإجمالية في رد الأدلة الصحيحة .
س11: بين ما يفيده خبر الآحاد .


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
التعرض, تحريم

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:00 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir