[ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : ((وما أَشْكَلَ من ذلك وجب إثباته لفظاً , وترك التعرض لمعناه , ونردُّ علمَه إِلى قائله , ونجعل عُهدته لعى ناقله اتباعاً لطريق الراسخين في العلم , الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: ) وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا( [آل عمران: 7] .
هذه العبارة للشيخ ابن قدامة فيها إشكال من جهة أنه قال: (( وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه )) وسيأتي بعد قليل نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى , أنه قال في قول النبي r : (( إن الله ينزل إلى سماء الدنيا )) (1) , و(( إن الله يرى في القيامة )) (2) . وما أشبه هذه الأحاديث : (( نؤمن بها , ونصدق بها , لا كيف , ولا معنى , ولا نردُّ شيئاً منها , ونعلم أن ما جاء به الرسول حقٌّ , ولا نردُّ على رسول الله r )) .
فقول الإمام أحمد هنا : (( لا كيف ولا معنى )) قد يظن البعض أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى ومثل ابن قدامة في العبارة السابقة من القائلين بالتفويض في باب الأسماء والصفات , أي إثبات ألفاظها فقط دون التعرض لإثباتها حقيقة , وإثبات ما دلت عليه من معنى يليق بجلال الله وعظمته .
ونقول : إن مذهب التفويض مخالفٌ لمذهب أهل السنة والجماعة , ولم يقل به أحدٌ منهم . وإنما هو مذهب لطوائف انحرفت عن المنهج الصحيح لأهل السنة والجماعة . وابن قدامة وكذا الإمام أحمد لم يقولوا بقول هؤلاء ؛ فإن قول الإمام
أحمد هنا : (( لا كيف )) صحيح أي لا نكيفها . وقوله (( لا معنى )) إنما يقصد به أننا لا نتعرض لمعناها بالتأويل والتحريف والتشبيه ونحو ذلك .
أي لا نُظهر لها معنىً يخالف ظاهرها الذي دلت عليه .
ولهذا قال الإمام أحمد بعد ذلك : (( ولا نردُّ شيئاً منها , ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ....)) فقد بيّن أن منهج السلف إثبات الصفات , وإثبات الصفات لله سبحانه وتعالى هو إثباتها لعى ما يليق بجلاله وعظمته , وإثبات المعنى الذي دلت عليه والذي دل عليه النص , وليس المقصود إثبات اللفظ فقط , دون إثبات المعنى اللائق بالله تعالى .
وأهل السنة والجماعة يردون على المتأولة , ويردون على الذين يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه أو يكيفونها , كما أنهم يردون على المفوضة ، لأنهم يثبتون ما ورد من صفات الله تعالى كما يليق بجلاله , ولنضرب مثلاً بصفة السمع أو بصفة العلم , فإن أهل السنة والجماعة يعلمون معنى العلم ومعنى السمع , فيثبتون هذه الصفات لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته , ولكنهم وهم يثبتون هذه الصفات , لا يتعرضون لتأويلها وتحريفها , كما فعل أهل التحريف والتأويل ، وأيضاً لايكيفون هذه الصفة , فيقولون : إن كيفية الصفة كذا وكذا , أو يقولون : إنها تشبه صفة أحد من الخلق أو نحو ذلك.
ومن هنا فقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى : (( ولا معنى )) أي لا نقول إن لها معاني تخالف ظاهرها فنقع في التحريف والتأويل ونحو ذلك , وإنما نثبتها كما وردت ونثبت ما دلت عليه من معنى يليق بالله تعالى.
والتفويض الصحيح إنما يكون لكيفية الصفة , لا لحقيقة الصفة وما دلت عليه من معنى , فكيفية صفات الله تعالى نفوضها إلى الله , لأننا كما أننا لا نعلم ذاته , فإننا أيضاً لا نعلم كيفية صفاته . أما الصفة نفسها , فإننا نثبتها لله سبحانه وتعالى ، فَنُفَرِّق بين العلم والقدرة ، وبين السمع والبصر ، وبين الحكيم والخبير وبين قوله تعالى: )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( [طه : 5] ، وقوله تعالى : )بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( [المائدة : 64] ، وقولـه تعالى : .وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ونحوها .
وهذا التفريق ؛ لأننا نعرف من معنى قوله تعالى :) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ( معاني غير ما نعلمه من قوله تعالى : )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( وهكذا , إذن نخلص في هذه القضية إلى أن القول بأن السلف يثبتون ألفاظ نصوص الصفات فقط مجردة ويفوضون ما دلت عليه ولا يثبتون لها معاني ـ هو قول مردود بل هذا قول أهل التفويض الذي قال في مذهبهم بعض السلف : إنه شر من مذهب المعطلة .
فمنهج أهل السنة والجماعة , إثبات هذه الصفات حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته , دون تحريف ودون تشبيه ، فيثبتونها ويثبتون ما دلت عليه من المعاني . أما الكيفية , فهذه يفوضونها إلى الله سبحانه وتعالى ويقولون : إنه لا يعلم كيفية صفاته إلا الله سبحانه وتعالى .
وفي عبارة الشيخ ابن قدامة التي يقول فيها : (( وما أشكل من ذلك , وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه )) نقول : إن كان قد قصد ما قصده الإمام أحمد في عبارته التي سقناها وذكرنا معناها , فهو صحيح , وهو أن أهل السنة والجماعة لا يتعرضون للمعاني التي هي معانٍ تأويلية فيها تحريف لما دلت عليه هذه الصفات بل يثبتونها ويثبتون ما دلت عليه كما يليق بجلال الله وعظمته .
أما إن كان ما يفهم من عبارة الشيخ أننا نثبت اللظ فقط ولا نتطرق للمعنى , ولا نفهم أي معنىً للصفة , فهذا هو التفويض المردود , والمعروف عن أهل السنة والجماعة ـ ومنهم ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ فيما وصلنا من كتبه ورسائله ـ أنهم بعيدون جداً عن أهل التفويض ؛ لأن مآل مذهب أهل التفويض التجهيل للرسول r ولأصحابه ؛ لأن القائل إذا قال نفوض الصفات ، ونفوض ما دلت عليه من معاني ، يؤول به الأمر إلى أننا إذا قرأنا قول الله تعالى : {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} فلن نفهم شيئاً ؛ لأننا نقول في اسمه (( الغفـور)) و((الرحيم)) وما دل عليه هذان الاسمان من صفة : تثبت ألفاظهما ونفوض معانيهما .
وكذلك نقرأ على منهج أهل التفويض قوله تعالى : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [العنكبوت: 42])وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( [الملك: 1] , )أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( [الملك:14] , )أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ( [النساء: 166] , )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( [طـه:5] , )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ( [الرحمن: 27] , )وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم( [الفتح: 6] ، نقرأ هذه الآيات فلا نفقه منها شيئاً , لأننا نفوض المعنى .
فهذا المعنى الذي قصده هؤلاء , ينتهي بهم إلى التجهيل الذي قال فيه بعض العلماء : إنه شر من التعطيل , لأن معناه أن الرسول r والصحابة وأيضاً نحن , يجب علينا أن نتلو القرآن فما ورد منه متعلقاً بأسمائه وصفاته , فيجب أن نثبت لفظه فقط , دون أن نثبت لـه أي دلالة أو أي معنى , وهذا مذهب غالٍ مخالف لمذهب السلف رحمهم الله تعالى ومعلوم أن الله تعالى أمرنا بتدبر القرآن كله ، ولم يستثن منه شيئاً .
أما حينما نثبت ما دلت عليه هذه النصوص من معاني كما هو منهج السلف ونقول بإثباتها لله كما يليق بجلاله وعظمته ، من غير تعطيل ومن غير تشبيه ، فإننا والحالة هذه ، نكون قد فهمنا ما دل عليه النص ، فنفهم من قوله تعالى : {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] , إثبات اسمه تعالى (( العليم )) واسمه تعالى (( الخبير )) ، وما دل عليه هذا الاسم (( العليم )) من صفة العلم ، وما دل عليه أيضاً اسمه تعالى (( الخبير )) من علمه سبحانه وتعالى بما كان وما سيكون , وكونه تبارك وتعالى عالماً ببواطن الأمور وأسرارها مطلعاً على كل شيء , وهكذا في بقية النصوص.
فمعنى ذلك أننا لانفوض المعنى , وإنما نثبت الصفة , ونثبت ما دلت عليه هذه النصوص من صفات ، كما يليق بجلاله تعالى وعظمته , ونفوض الكيفية لأنه لا يعلمها إلا الله .
أما القول بأن أهل السنة والجماعة يثبتون مجرد لفظ الصفة فهذا غير صحيح , فمن يقول : أثبت (( العليم )) , لكن لا أدري ماذا يعني اسمه (( العليم )) , أثبت (( السميع )) ولا أدري ماذا يعني اسمه ((السميع )) , أثبت لله صفة
(( الإرادة )) و(( القدرة)) و((الغضب)) و((الرضا)) ولا أدري ما معناها . نقول لـه : هذا تفويض لمعنى هذه الصفات , وهو يدلُّ على أنك لا تثبت النصوص , ولا ما دلَّت عليه , ولا شك أن الله سبحانه وتعالى أنزل علينا القرآن هدىً ورحمة وتبياناً لكل شيء , ومن المقطوع به من منهج الصحابة رضي الله عنهم , والسلف الصالح جميعاً , بل هو ضرورة لكلِّ مسلم , أنهم يفقهون ويعلمون حسب ما آتاهم الله سبحانه وتعالى من علم , فيفقهون ويعلمون نصوص الكتاب ونصوص السنة النبوية ويعملون بها ويتبعون ما دلت عليه , والاتباع لا يكون إلا عن علم , فحينما تأتي آياتٌ في أسماء الله وصفاته , فإننا نتلوها ونعلم معناها , ونُفَرِّقُ بين هذه الآية وبين تلك الآية وهذا التفريق مقتضاه: أننا نثبت ما دلت عليه من معاني دون تحريف أو تشبيه , لأن أهل السنة والجماعة يثبتونها كما يليق بجلال الله وعظمته , فلا يحرفون النصوص , ولا يؤولونها ولا يعطلونها عما دلت عليه , كما أنهم أيضاً في المقابل لا يمثلونها ، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين وهكذا .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى بعد قوله سبحانه : )وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا(:
(1) أخرجه البخاري رقم (1145) كتاب التهجد ورقم (6321) كتاب الدعوات . ومسلم رقم (758) كتاب صلاة المسافرين .
(2) حيث رؤية الله عز وجل أرجه البخاري رقم (554) كتاب مواقيت الصلاة . ومسلم رقم (633) كتاب المساجد من حديث جرير رضي الله عنه ...