دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > البرهان في علوم القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12 ذو القعدة 1430هـ/30-10-2009م, 05:47 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي النوع الرابع والأربعون: في الكنايات والتعريض في القرآن


النوع الرابع والأربعون: في الكنايات والتعريض في القرآن.
اعلم أن العرب تعد الكناية من البراعة والبلاغة وهي عندهم أبلغ من التصريح
قال الطرطوسي: وأكثر أمثالهم الفصيحة على مجاري الكنايات وقد ألف أبو عبيد وغيره كتبا في الأمثال ومنها قولهم: فلان عفيف الإزار طاهر الذيل ولم يحصن فرجه وفي الحديث: "كان إذا دخل العشر أيقظ أهله وشد المئزر" فكنوا عن ترك الوطء بشد المئزر وكنى عن الجماع بالعُسَيْلة وعن النساء بالقوارير لضعف قلوب النساء ويكنون عن الزوجة بربة البيت وعن الأعمى بالمحجوب والمكفوف وعن الأبرص بالوضاح وبالأبرش وغير ذلك وهو كثير في القرآن قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ}.
والكناية عن الشيء الدلالة عليه من غير تصريح باسمه.
وهي عند أهل البيان: أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا بذكره باللفظ الموضوع له من اللغة ولكن يجيء إلى المعنى هو تاليه ورديفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه فيدل على المراد من طريق أولى مثاله قولهم: "طويل النجاد" و"كثير الرماد" يعنون طويل القامة وكثير الضيافة فلم يذكروا المراد بلفظ الخاص به ولكن توصلوا إليه بذكر معنى آخر هو رديفه في الوجود لأن القامة إذا طالت طال النجاد وإذا كثر القرى كثر الرماد
وقد اختلف في أنها حقيقة أو مجاز فقال الطرطوسي في العمدة: قد اختلف في وجود الكناية في القرآن وهو كالخلاف في المجاز فمن أجاز وجود المجاز فيه أجاز الكناية وهو قول الجمهور ومن أنكر ذلك أنكر هذا.
وقال الشيخ عز الدين: الظاهر أنها ليست بمجاز لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له وأردت به الدلالة على غيره ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له وهذا شبيه بدليل الخطاب في مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}.

أسباب الكناية:
ولها أسباب: أحدها: التنبيه على عظم القدرة كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} كناية عن آدم.
ثانيها: فطنة المخاطب كقوله تعالى في قصة داود: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} فكنى داود يخصم على لسان ملكين تعريضا.
وقوله في قصة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزيد: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي: زيد {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ}.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فإنه كناية عن ألا تعاندوا عند ظهور المعجزة فتمسكم هذه النار العظيمة.
وكذا قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}.
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} الآيات فان هذه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعنى: لا تظن أنك مقصر في إنذارهم فإنا نحن المانعون لهم من الإيمان فقد جعلناهم حطبا للنار ليقوى التذاذ المؤمن بالنعيم كما لا تتبين لذة الصحيح إلا عند رؤية المريض
ثالثها: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل منه كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} فكنى بالمرأة عن النعجة كعادة العرب أنها تكني بها عن المرأة
وقوله: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} كنى بالتحيز عن الهزيمة.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} كنى بنفي قبول التوبة عن الموت على الكفر لأنه يرادفه.
رابعها: أن يفحش ذكره في السمع فيكنى عنه بما لا ينبو عنه الطبع قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} أي: كنوا عن لفظه ولم يوردوه على صيغته.
ومنه قوله تعالى في جواب قوم هود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكنى عن تكذيبهم بأحسن.
ومنه قوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} فكنى عن الجماع بالسر.
وفيه لطيفة أخرى لأنه يكون من الآدميين في السر غالبا ولا يسره -ما عدا الآدميين- إلا الغراب فانه يسره ويحكى أن بعض الأدباء أسر إلى أبي علي الحاتمي كلاما فقال: ليكن عندك أخفى من سِفاد الغراب ومن الراء في كلام الألثغ فقال: نعم يا سيدنا ومن ليلة القدر وعلم الغيب.
ومن عادة القرآن العظيم الكناية عن الجماع باللمس والملامسة والرفث والدخول والنكاح ونحوهن قال تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فكنى بالمباشرة عن الجماع لما فيه من التقاء البشرتين
وقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إذ لا يخلوا الجماع عن الملامسة.
وقوله في الكناية عنهن: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} واللباس من الملابسة وهي الاختلاط والجماع.
وكنى عنهن في موضع آخر بقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}.
وقوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} كناية عما تطلب المرأة من الرجل.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً}.
ومنه قوله تعالى في مريم وابنها: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} فكنى بأكل الطعام عن البول والغائط لأنهما منه مسببان إذ لابد للآكل منهما لكن استقبح في المخاطب ذكر الغائط فكنى به عنه
فإن قيل: فقد صرح به في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}.
قلنا: لأنه جاء على خطاب العرب وما يألفون والمراد تعريفهم الأحكام فكان لا بد من التصريح به على أن الغائط أيضا كناية عن النجو وإنما هو في الأصل اسم للمكان المنخفض من الأرض وكانوا إذا أرادوا قضاء حاجتهم أبعدوا عن العيون إلى منخفض من الأرض فسمي منه لذلك ولكنه كثر استعماله في كلامهم فصار بمنزلة التصريح.
وما ذكرناه في قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} هو المشهور وأنكره الجاحظ وقال: بل الكلام على ظاهره ويكفي في الدلالة على عدم الإلهية نفس أكل الطعام لأن الإله هو الذي لا يحتاج إلى شيء يأكله ولأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثا كذلك لا يجوز أن يكون طاعما قال الخفاجي وهذا صحيح.
ويقال لهما: الكناية عن الغائط في تشنيع وبشاعة على من اتخذهما آلهة فأما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} فهو على حقيقته
قال الوزير ابن هبيرة: وفي هذه الآية فضل العالم المتصدي للخلق على الزاهد المنقطع فإن النبي كالطبيب والطبيب يكون عند المرضى فلو انقطع عنهم هلكوا.
ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} كنى به عن مصيرهم إلى العذرة فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك.
وقوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} أي: لفروجهم فكنى عنها بالجلود على ما ذكره المفسرون.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فصرح بالفرج؟
قلنا: أخطأ من توهم هنا الفرج الحقيقي وإنما هو من لطيف الكنايات وأحسنها وهي كناية عن فرج القميص أي لم يعلق ثوبها ريبة فهي طاهرة الأثواب وفروج القميص أربعة: الكُمَّان والأعلى والأسفل وليس المراد غير هذا فان القرآن أنزه معنى وألطف إشارة وأملح عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وهم الجاهل لاسيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس فأضيف القدس إلى القدوس ونزهت القانتة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس ذكره صاحب التعريف والإعلام.
ومنه وقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} يريد الزناة.
وقوله تعالى: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} فإنه كناية عن الزنا وقيل: أراد طرح الولد على زوجها من غيره لأن بطنها بين يديها ورجليها وقت الحمل.
وقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وإنما يوضع في الأذن السبابة فذكر الأصبع وهو الاسم العام أدبا لاشتقاقها من السب ألا تراهم كنوا عنها بالمسبحة والدعاءة وإنما يعبر بهما عنها لأنها ألفاظ مستحدثة قاله الزمخشري.
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام: يمكن أن يقال إن ذكر الإصبع هنا جامع لأمرين أحدهما التنزه عن اللفظ المكروه والثاني حط منزلة الكفار عن التعبير باللفظ المحمود والأعم يفيد المقصودين معا فأتى به وهو لفظ الإصبع وقد جاء في الحديث الأمر بالتعبير بالأحسن مكان القبيح كما في حديث: "من سبقه الحدث في الصلاة فليأخذ بأنفه ويخرج" أمر بذلك إرشادا إلى إيهام سبب أحسن من الحدث وهو الرعاف وهو أدب حسن من شرع في ستر العورة وإخفاء القبيح وقد صح نهيه عليه السلام.
أن يقال لشجر العنب: الكرم وقال: "إنما الكرم الرجل المسلم" كره الشارع تسميتها بالكرم لأنها تعتصر منها أم الخبائث.
وحديث: "كان يصيب من الرأس وهو صائم" قيل: هو إشارة إلى القبلة وليس لفظ القبلة مستهجنا وقوله: "إياكم وخضراء الدمن".
خامسها: تحسين اللفظ كقوله تعالى: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} فإن العرب كانت عادتهم الكناية عن حرائر النساء بالبيض قال امرؤ القيس:
وبَيْضَةُ خِدْرٍ لا يُرام خِباؤُها
تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غير مُعْجَلِ
وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ومثله قول عنترة:
فَشَككتُ بالرمحِ الطويلِ ثيابَه
ليس الكريم على القنا بمحرَّمِ
سادسها: قصد البلاغة كقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} فإنه سبحانه كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين والتشاغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك والمراد نفي ذلك -أعني الأنوثة- عن الملائكة وكونهم بنات الله تعالى الله عن ذلك.
وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي: هم في التمثيل بمنزلة المتعجب منه بهذا التعجب.
سابعها: قصد المبالغة في التشنيع كقوله تعالى حكاية عن اليهود لعنهم الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فإن الغل كناية عن البخل كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} لأن جماعة كانوا متمولين فكذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكف الله عنهم ما أعطاهم وهو سبب نزولها.
وأما قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} فيحمل على المجاز على وجه الدعاء والمطابقة للفظ ولهذا قيل: إنهم أبخل خلق الله والحقيقة أنهم تغل أيديهم في الدنيا بالإسار وفي الآخرة بالعذاب وأغلال النار.
وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} كناية عن كرمه وثنى اليد وإن أفردت في أول الآية ليكون أبلغ في السخاء والجود.
ثامنها: التنبيه على مصيره كقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} أي: جهنمي مصيره إلى اللهب وكقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: نمامة ومصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنم.
تاسعها: قصد الاختصار ومنه الكناية عن أفعال متعددة بلفظ فعل كقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي: فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا.
عاشرها: أن يعمد إلى جملة ورد معناها على خلاف الظاهر فيأخذ الخلاصة منها من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة أو المجاز فتعبر بها عن مقصودك وهذه الكناية استنبطها الزمخشري وخرج عليها قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فانه كناية عن الملك لأن الاستواء على السرير لا يحصل إلا مع الملك فجعلوه كناية عنه.
وكقوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية إنه كناية عن عظمته وجلالته من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين: حقيقة ومجاز.
وقد اعترض الإمام فخر الدين على ذلك بأنها تفتح باب تأويلات الباطنية فلهم أن يقولوا: المراد من قوله: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} الاستغراق في الخدمة من غير الذهاب إلى نعل وخلعه وكذا نظائره انتهى.
وهذا مردود لأن الكناية إنما يصار إليها عند عدم إجراء اللفظ على ظاهره كما سبق من الأمثلة بخلاف خلع النعلين ونحوه.
تنبيهان:
الأول: في أنه هل يشترط في الكناية قرينة كالمجاز؟
هذا ينبني على الخلاف السابق أنها مجاز أم لا وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} في سورة آل عمران إنه مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم تقول: فلان لاينظر إلى فلان تريد نفي اعتداده به وإحسانه إليه قال: وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداء والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر انتهى.
وهذا بناء منه على مذهبه الفاسد في نفي الرؤية وفيه تصريح بأن الكناية مجاز وبه صرح في قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}.
وصرح الشيخ عبد القاهر الجرجاني في الدلائل بأن الكناية لا بد لها من قرينة.
الثاني: قيل من عادة العرب أنها لا تكني عن الشيء بغيره إلا إذا كان يقبح ذكره وذكروا احتمالين في قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}.
أحدهما: أنه كنى بالإفضاء عن الإصابة.
والثاني: أنه كنى عن الخلوة.
ورجحوا الأول لأن العرب إنما تكنى عما يقبح ذكره في اللفظ ولا يقبح ذكر الخلوة وهذا حسن لكنه يصلح للترجيح.
وأما دعوى كون العرب لا تكني إلا عما يقبح ذكره فغلط فكنوا عن القلب بالثوب كما في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وغير ذلك مما سبق.
التعريض والتلويح.
وأما التعريض فقيل: إنه الدلالة على المعنى من طريق المفهوم وسمي تعويضا لأن المعنى باعتباره يفهم من عرض اللفظ أي من جانبه ويسمى التلويح لأن المتكلم يلوح منه للسامع ما يريده كقوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} لأن غرضه بقوله: {فَاسْأَلُوهُمْ} على سبيل الاستهزاء وإقامة الحجة عليهم بما عرض لهم به من عجز كبير الأصنام عن الفعل مستدلا على ذلك بعدم إجابتهم إذا سئلوا ولم يرد بقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} نسبة الفعل الصادر عنه إلى الصنم فدلالة هذا الكلام عجز كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة.
ومن أقسامة أن يخاطب الشخص والمراد غيره سواء كان الخطاب مع نفسه أو مع غيره كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}.
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} تعريضا بأن قومه أشركوا واتبعوا أهواءهم وزلوا فيما مضى من الزمان لأن الرسول لم يقع منه ذلك فأبرز غير الحاصل في معرض الحاصل ادعاءً.
وقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} فإن الخطاب للمؤمنين والتعريض لأهل الكتاب لأن الزلل لهم لا للمؤمنين.
فأما الآية الأولى ففيها ثلاثة أمور: مخاطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد غيره وإخراج المحال عليه في صورة المشكوك والمراد غيره واستعمال المستقبل بصيغة الماضي وأمر رابع وهو "إن" الشرطية قد لا يراد بها إلا مجرد الملازمة التي هي لازمة الشرط والجزاء مع العلم باستحالة الشرط أو وجوبه أو وقوعه.
وعلى هذا يحمل قول من لم ير من المفسرين حمل الخطاب على غيره إذ لا يلزم من فرض أمر لابد منه صحة وقوعه بل يكون في الممكن والواجب والمحال.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} إذا جُعلت شرطية لا نافية
ومنه : {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}.
ومنه قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} المراد: مالكم لا تعبدون بدليل قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ولولا التعريض لكان المناسب وإليه أرجع.
وكذا قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} والمراد: أتتخذون من دونه آلهة. {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ولذلك قيل: {آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } دون ربي واتبعه فاسمعوه.
ووجه حسنه ظاهر لأنه يتضمن إعلام السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب المنكر كأنك لم تعنه وهو أعلى في محاسن الأخلاق وأقرب للقبول وأدعى للتواضع والكلام ممن هو رب العالمين نزله بلغتهم وتعليما للذين يعقلون.
قيل: ومنه قوله تعالى: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فحصل المقصود في قالب التلطف وكان حق الحال من حيث الظاهر لولاه أن يقال: لا تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون وكذا مثله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} حيث ردد الضلال بينهم وبين أنفسهم والمراد: إنا على هدى وأنتم في ضلال وإنما لم يصرح به لئلا تصير هنا نكتة هو أنه خولف في هذا الخطاب بين "على" و"في" بدخول "على" على الحق و"في" على الباطل لأن صاحب الحق كأنه على فرس جواد يركض به حيث أراد وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام لا يدري أين يتوجه.
قال السكاكي: ويسمى هذا النوع الخطاب المنصف أي لأنه يوجب أن ينصف المخاطب إذا رجع إلى نفسه استدراجا استدراجه الخصم إلى الإذعان والتسليم وهو شبيه بالجدل لأنه تصرف في المغالطات الخطابية.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} المقصود التعريض بذم من ليست له هذه الخشية وأن يعرف أنه لفرط عناده كأنه ليس له أذن تسمع ولا قلب يعقل وأن الإنذار له كلا إنذار وأنه قد أنذر من له هذه الصفة وليست له.
وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} القصد التعريض وأنهم لغلبة هواهم في حكم من ليس له عقل.
وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} نزلت في أبي جهل لأنه قال: "ما بين أخشبيها -أي جبليها يعني مكة- أعز مني ولا أكرم" وقيل: بل خوطب بذلك استهزاء.
التوجيه:
وأما التوجيه وهو ما احتمل معنيين ويؤتى به عند فطنة المخاطب كقوله تعالى حكاية عن أخت موسى عليه السلام: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} فإن الضمير في له يحتمل أن يكون لموسى وأن يكون لفرعون.
قال ابن جريج: وبهذا تخلصت أخت موسى من قولهم: إنك عرفته فقالت: أردت ناصحون للملك واعترض عليه بأن هذا في لغة العرب لا في كلامها المحكي.
وهذا مردود فإن الحكاية مطابقة لما قالته وإن كانت بلغة أخرى.
ونظيره جواب ابن الجوزي لمن قال له: من كان أفضل عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر أم علي؟ فقال: من كانت ابنته تحته.
وجعل السكاكي من هذا القسم مشكلات القرآن.

[ البرهان في علوم القرآن ( 2 / 300 ـ 315 )]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الرابع, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:14 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir