3: تفسير قول الله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين}
قال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت:728هـ): (وقوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}
قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي، والداعي إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله مفسدٌ؛ فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم الفساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو الشرك بالله ومخالفة أمره، قال الله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}
قال ابن عطية في الآية: ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم.
وقال غير واحدٍ من السلف: إذا قحط المطر فالدواب تلعن عصاة بني آدم فتقول: اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر.
وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبودٍ غيره أو مطاعٍ متبعٍ غير الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن أمر بمعصيته فلا سمع ولا طاعة : فإن الله أصلح الأرض برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه وبالأمر بالتوحيد ونهى عن فسادها بالشرك به ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاحٍ في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكل شر في العالم وفتنةٍ وبلاءٍ وقحطٍ وتسليط عدو وغير ذلك؛ فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله.
ومن تدبر هذا حق التدبر وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي غيره عمومًا وخصوصًا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} إنما ذكر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع فأمر أولًا بدعائه تضرعًا وخفيةً ثم أمر أيضًا أن يكون الدعاء خوفًا وطمعًا . وفصل الجملتين بجملتين :
إحداهما : خبريةٌ ومتضمنةٌ للنهي وهي قوله : {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
و الثانية : طلبيةٌ، وهي قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} والجملتان مقررتان للجملة الأولى مؤكدتان لمضمونها . ثم لما تم تقريره وبيان ما يضاده أمر بدعائه خوفًا وطمعًا ؛ لتعلق قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بقوله تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}.
ولما كان قوله : {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} مشتملًا على جميع مقامات الإيمان والإحسان وهي الحب والخوف والرجاء عقبها بقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي : إنما تنال من دعاه خوفًا وطمعًا فهو المحسن والرحمة قريبٌ منه ؛ لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة.
ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابل الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله تعالى : {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وانتصاب قوله : {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} {خَوْفًا وَطَمَعًا} على الحال أي ادعوه متضرعين إليه مختفين خائفين مطيعين .
وقوله : {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فيه تنبيهٌ ظاهرٌ على أن فعل هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله رحمته ورحمته قريبٌ من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه تضرعًا وخفيةً وخوفًا وطمعًا .
فقرب مطلوبكم منه وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم . وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} له دلالةٌ بمنطوقه ودلالةٌ بإيمائه وتعليله بمفهومه:
- فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان.
- ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان وهو السبب في قرب الرحمة منهم.
- ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين.
فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة ؛ وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها إحسانٌ من الله عز وجل أرحم الراحمين، وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل الإحسان ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته، وأما من لم يكن من أهل الإحسان؛ فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة، بُعْدٌ ببعد، وقربٌ بقرب؛ فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته.
والله سبحانه يحب المحسنين، ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيءٍ منه، ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شيءٍ منه.
والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواءٌ كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالًا ومهابةً وحياءً ومحبةً وخشيةً؛ فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان؛ فقال : ((أن تعبد الله كأنك تراه)).
فإذا كان هذا هو الإحسان فرحمته قريبٌ من صاحبه ؛ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلا الجنة ؟.
وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال : (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ثم قال : ((هل تدرون ما قال ربكم؟))
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال : ((هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة)) ).
تفسير قوله تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكرٍ (17)}
قال محمّد الطّاهر بن عاشورٍ (ت: 1393هـ): ({ولقد يسّرنا القرآن للذّكر فهل من مدّكرٍ (17)}
لمّا كانت هذه النّذارة بلغت بالقرآن والمشركون معرضون عن استماعه حارمين أنفسهم من فوائده ذيّل خبرها بتنويه شأن القرآن بأنّه من عند اللّه وأنّ اللّه يسّره وسهّله لتذكّر الخلق بما يحتاجونه من التّذكير ممّا هو هدًى وإرشادٌ. وهذا التّيسير ينبئ بعناية اللّه به مثل قوله: {إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون} [الحجر: 9] تبصرةً للمسلمين ليزدادوا إقبالًا على مدارسته وتعريضًا بالمشركين عسى أن يرعووا عن صدودهم عنه كما أنبأ عنه قوله: فهل من مدّكرٍ.
وتأكيد الخبر باللّام وحرف التّحقيق مراعًى فيه حال المشركين الشّاكّين في أنّه من عند اللّه.
والتّيسير: إيجاد اليسر في شيءٍ، من فعلٍ كقوله: {يريد اللّه بكم اليسر} [البقرة: 185]
أو قولٍ كقوله تعالى: {فإنّما يسّرناه بلسانك لعلّهم يتذكّرون} [الدّخان: 58].
واليسر: السّهولة، وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب من شيءٍ. وإذ كان القرآن كلامًا فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يراد من الكلام وهو فهم السّامع المعاني الّتي عناها المتكلّم به بدون كلفةٍ على السّامع ولا إغلاقٍ كما يقولون: يدخل للأذن بلا إذنٍ.
وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني فأمّا من جانب الألفاظ فلذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التّراكيب، أي فصاحة الكلام، وانتظام مجموعها، بحيث يخفّ حفظها على الألسنة.
وأمّا من جانب المعاني، فبوضوح انتزاعها من التّراكيب ووفرة ما تحتوي عليه التّراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له. وبتولّد معانٍ من معانٍ أخر كلّما كرّر المتدبّر تدبّره في فهمها.
ووسائل ذلك لا يحيط بها الوصف وقد تقدّم بسطها في المقدّمة العاشرة من مقدّمات هذا التّفسير ومن أهمّها إيجاز اللّفظ ليسرع تعلّقه بالحفظ، وإجمال المدلولات لتذهب نفوس السّامعين في انتزاع المعاني منها كلّ مذهبٍ يسمح به اللّفظ والغرض والمقام، ومنها الإطناب بالبيان إذا كان في المعاني بعض الدّقّة والخفاء.
ويتأتّى ذلك بتأليف نظم القرآن بلغةٍ هي أفصح لغات البشر وأسمح ألفاظًا وتراكيب بوفرة المعاني، وبكون تراكيبه أقصى ما تسمح به تلك اللّغة، فهو خيارٌ من خيارٍ من خيارٍ. قال تعالى: {بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ} [الشّعراء: 195].
ثمّ يكون المتلقين له أمّةً هي أذكى الأمم عقولًا وأسرعها أفهامًا وأشدّها وعيًا لما تسمعه، وأطولها تذكّرًا له دون نسيانٍ، وهي على تفاوتهم في هذه الخلال تفاوتًا اقتضته سنّة الكون لا يناكد حالهم في هذا التّفاوت ما أراده اللّه من تيسيره للذّكر، لأنّ الذّكر جنسٌ من الأجناس المقول عليها بالتّشكيك إلّا أنّه إذا اجتمع أصحاب الأفهام على مدارسته وتدبره بدت لجموعهم معانٍ لا يحصيها الواحد منهم وحده.
وقد فرض اللّه على علماء القرآن تبيينه تصريحًا كقوله: {لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم} [النّحل: 44]، وتعريضًا كقوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس} [آل عمران: 187] فإنّ هذه الأمّة أجدر بهذا الميثاق.
وفي الحديث: «ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت اللّه يتلون كتاب اللّه ويتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وذكرهم اللّه فيمن عنده». واللّام في قوله: للذّكر متعلقة ب يسّرنا وهي ظرفٌ لغوٌ غير مستقرٍّ، وهي لامٌ تدلّ على أن الفعل الّذي تعلّقت به فعل لانتفاع مدخول هذه اللّام به فمدخولها لا يراد منه مجرّد تعليل فعل الفاعل كما هو معنى التّعليل المجرّد ومعنى المفعول لأجله المنتصب بإضمار لام التّعليل البسيطة، ولكن يراد أنّ مدخول هذه اللّام علّةٌ خاصّةٌ مراعاةٌ في تحصيل فعل الفاعل لفائدته، فلا يصحّ أن يقع مدخول هذه اللّام مفعولًا لأنّ المفعول لأجله علّةٌ بالمعنى الأعمّ ومدخول هذه اللّام علّةٌ خاصّةٌ فالمفعول لأجله بمنزلة سبب الفعل وهو كمدخول باء السّببيّة في نحو: {فكلًّا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40]، ومجرور هذه اللّام بمنزلة مجرور باء الملابسة في نحو {تنبت بالدّهن} [المؤمنون: 20]، وهو أيضًا شديد الشّبه بالمفعول الأوّل في باب كسا وأعطى، فهذه اللّام من القسم الّذي سمّاه ابن هشامٍ في «مغني اللّبيب»: شبه التّمليك. وتبع في ذلك ابن مالكٍ في «شرح التّسهيل».
وأحسن من ذلك تسمية ابن مالكٍ إيّاه في «شرح كافيته» وفي «الخلاصة» معنى التّعدية. ولقد أجاد في ذلك لأن مدخول هذه اللّام قد تعدّى إليه الفعل الّذي تعلّقت به اللّام تعديةً مثل تعدية الفعل المتعدّي إلى المفعول، وغفل ابن هشامٍ عن هذا التّدقيق، وهو المعنى الخامس من معاني اللّام الجارّة في «مغنى اللّبيب» وقد مثّله بقوله تعالى: {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} [الشورى: 11]، ومثّل له ابن مالكٍ في «شرح التّسهيل» بقوله تعالى: {فهب لي من لدنك وليًّا}[مريم: 5]، ومن الأمثلة الّتي تصلح له قوله تعالى: {وذلّلناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون}[يس: 72] وقوله تعالى: {ونيسّرك لليسرى} [الأعلى: 8] وقوله: {فسنيسّره لليسرى} [اللّيل: 7] وقوله: {فسنيسّره للعسرى} [اللّيل: 10]، ألا ترى أنّ مدخول اللّام في هذه الأمثلة دالٌّ على المتنفّعين بمفاعيل أفعالها فهم مثل أوّل المفعولين من باب كسا.
وإنّما بسطنا القول في هذه اللّام لدقّة معناها وليتّضح معنى قوله تعالى: ولقد يسّرنا القرآن للذّكر.
وأصل معاني لام الجرّ هو التّعليل وتنشأ من استعمال اللّام في التّعليل المجازيّ معانٍ شاعت فساوت الحقيقة فجعلها النّحويّون معاني مستقلّةً لقصد الإيضاح.
والذّكر: مصدر ذكر الّذي هو التّذكّر العقليّ لا اللّسانيّ، والّذي يرادفه الذّكر بضمّ الذّال اسمًا للمصدر، فالذّكر هو تذكّر ما في تذكّره نفعٌ ودفع ضرٍّ، وهو الاتّعاظ والاعتبار.
فصار معنى يسّرنا القرآن للذّكر أنّ القرآن سهّلت دلالته لأجل انتفاع الذّكر بذلك التّيسير، فجعلت سرعة ترتّب التّذكّر على سماع القرآن بمنزلة منفعةٍ للذّكر لأنّه يشيع ويروج بها كما ينتفع طالب شيءٍ إذا يسّرت له وسائل تحصيله، وقرّبت له أباعدها. ففي قوله:
يسّرنا القرآن للذّكر استعارةٌ مكنيّةٌ ولفظ يسّرنا تخييلٌ. ويؤوّل المعنى إلى: يسّرنا القرآن للمتذكّرين.
وفرّع على هذا المعنى قوله: فهل من مدّكرٍ. والقول فيه كالقول في نظيره المتقدّم آنفًا، إلّا أنّ بين الادّكارين فرقًا دقيقًا، فالادّكار السّالف ادّكار اعتبارٍ عن مشاهدة آثار الأمّة البائدة، والادّكار المذكور هنا ادّكارٌ عن سماع مواعظ القرآن البالغة وفهم معانيه والاهتداء به). [التحرير والتنوير: 27 / 190 -187]