قوله: (خلافاً للمعتزلة وجماعة من الحنفية) هذا القول الثاني، وهو: أن الأمر لا يتعلق بالمعدوم، وأن أوامر الشرع الواردة في عصر النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم تختص بالموجودين في وقته، فأمَّا من بعدهم فإنه دخل في ذلك بدليل؛ لأن خطاب المعدوم مستحيل فيستحيل تكليفه، ولأن الأمر يتعلق بمأمور، والمعدوم ليس بشيء، فلا يصح تعلق الأمر به.
وأجيب عن ذلك: بأن الخطاب متوجه إليهم بشرط وجودهم متصفين بصفات التكليف، والأمر متعلق بمأمور وجد في الزمن الثاني كما يتعلق الأمر بالعاجز لقدرة تحصل في الزمن الثاني، وقد دلت النصوص على خطاب المعدومين من هذه الأمة للموجدين منها، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تقاتلون اليهود، حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر، فيقول: يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله» [(655)].
وفي حديث آخر: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود...» [(656)].
وقد دل على ذلك القرآن، قال تعالى: {{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}} [الأنعام: 19] قال بعض السلف: من بَلَغَهُ القرآن فقد أُنذر بإنذار النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم[(657)].
وإذا قلنا: الأمر يتعلق بالمعدوم، فمعناه أنه لا يحتاج إلى خطاب ثان، وعلى هذا فلو أوصى الوالد عند موته لمن سيوجد بعده من أولاده بوصية، فإن الولد بتقدير وجوده وفَهْمِهِ يصير مكلفاً بوصية والده، حتى إنه يوصف بالطاعة والعصيان بتقدير المخالفة والامتثال[(658)].