1097 - وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهادِ. فقالَ: ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)). قالَ: نَعَمْ. قالَ: ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ولأحمدَ وَأَبِي داودَ مِنْ حديثِ أَبِي سعيدٍ نحوُه، وزادَ: ((ارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ وَإِلاَّ فَبَرَّهُمَا)).
مُفْرَدَاتُ الْحَدِيثِ:
- فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ: ((فِيهِمَا)) مُتَعَلِّقٌ بالأمرِ، وَقَدْ يَكُونُ للاختصاصِ، وَ (الفاءُ) الأُولَى جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَ (الثَّانِيَةُ) جَزَائِيَّةٌ؛ لِتَضَمُّنِ الْكَلامِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ الأَمْرُ كَمَا قُلْتَ، فَاخْتَصَّ الْمُجَاهَدَةَ فِي خِدْمَةِ الْوَالِدَيْنِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}. [العنكبوت: 56].
مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1- بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الأَعْيَانِ، لا سِيَّمَا فِي حالةِ كِبَرِهِمَا، وَحَاجَتِهِمَا إِلَى وَلَدِهِمَا، قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}. [الإسراء: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}. [لقمان: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}. [لقمان: 15].
وجاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: ((الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا)). قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ)). قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ)).
2- أَمَّا الجهادُ: فَهُوَ فَضِيلَةٌ كبيرةٌ جدًّا، ولكنَّهُ أَقَلُّ فَضْلاً مِنْ بِرِّ الوالدَيْنِ؛ كَمَا أَنَّ الجهادَ فرضُ كفايةٍ إِلاَّ فِي حالاتٍ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا.
أَمَّا بِرُّ الوالدَيْنِ فَفَرْضُ عَيْنٍ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لذا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرَّجُلِ المُسْتَأْذِنِ فِي الجهادِ: ((فِيهِمَا فَجَاهِدْ)). فَيَكُونُ بِرُّهُمَا مُقَدَّماً عَلَى الجهادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.
3- سُمِّيَ إِتْعَابُ النَّفْسِ فِي القيامِ بِمَصَالِحِ الأبوَيْنِ، وَإِزْعَاجِهِمَا الوَلَدَ فِي طَلَبِ مَا يَحْتَاجَانِهِ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمَا جِهَاداً، مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ؛ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}. [الشورى: 40] سُمِّيَتِ الثَّانِيَةُ سَيِّئَةً؛ لِمُشَابَهَتِهَا للأُولَى فِي الصورةِ.
4- سَوَاءٌ كَانَ الجهادُ فَرْضَ عَيْنٍ، أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَسواءٌ عَذَرَهُ الأَبَوَانِ بِخُرُوجِهِ أَوْ لا؛ فَإِنَّ بِرَّهُمَا مُقَدَّمٌ؛ لِمَا رَوَى أَحْمَدُ، والنَّسَائِيُّ، أَنَّ جَاهِمَةَ السُّلَمِيَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرِيدُ الْغَزْوَ، وَجِئْتُكَ لأَسْتَشِيرَكَ. فَقَالَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟)) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ((الْزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا)).
5- ذَهَبَ جمهورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الجهادُ عَلَى الْوَلَدِ إِذَا مَنَعَهُ الأَبَوَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ؛ لأَنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ، والجهادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ، فَيُقَدَّمُ عَلَى بِرِّهِمَا؛ لأَنَّ الْجِهَادَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، إِذْ هُوَ لِحِفْظِ الدِّينِ، وَالدفاعِ عَن الْمُسْلِمِينَ.
6- يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ النَّصِيحَةِ لِمَن اسْتَشَارَكَ فِي أَمْرٍ مِن الأمورِ.
7- الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ بِرِّ الوالدَيْنِ، وَتَقَدَّمَ بَعْضُ النصوصِ فِي ذَلِكَ.
8- وَيَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ المُفْتِيَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مسألةٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْضِحَ مِنَ السَّائِلِ عَن الأمورِ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ مَجْرَى الْجَوَابِ.
9- وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ حِرْصِ الصَّحَابَةِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – عَلَى أَن يَأْتُوا بِالْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُمْ لا يُقْدِمُونَ عَلَيْهَا إِذَا كَانُوا يَجْهَلُونَهَا أَوْ يَجْهَلُونَ بَعْضَ أَحْكَامِهَا حَتَّى يَسْأَلُوا عَنْ ذَلِكَ؛ لِتَقَعَ مَوْقِعَهَا الشَّرْعِيَّ، وَهَذَا وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ.