دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > بلوغ المرام > كتاب الطلاق

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22 محرم 1430هـ/18-01-2009م, 09:41 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي حكم التطليق ثلاثًا لا يتخلله رجعة ولا نكاح


وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: كانَ الطَّلاقُ على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بَكْرٍ وسَنتينِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلاقُ الثلاثِ واحدةٌ. فقالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قد اسْتَعْجَلُوا في أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عليهِم؟ فأَمْضَاهُ عليهِم. رواهُ مسلمٌ.
وعنْ محمودِ بنِ لَبيدٍ قالَ: أُخْبِرَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فقامَ غَضْبَانَ ثمَّ قالَ: ((أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!)) حتَّى قامَ رَجُلٌ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ؟ رواهُ النَّسائيُّ ورُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ.
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: طَلَّقَ أبو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ، فقالَ لهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَاجِعِ امْرَأَتَكَ))، فقالَ: إنِّي طَلَّقْتُها ثَلَاثًا، قالَ: ((قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا)). رواهُ أبو داودَ.
وفي لفظٍ لأحمدَ: طَلَّقَ رُكانَةُ امْرَأَتَهُ في مَجْلِسٍ واحدٍ ثلاثًا، فحَزِنَ علَيْهَا، فقالَلهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ)). وفي سَنَدِهِما ابنُ إسحاقَ، وفيهِ مَقَالٌ.
وقدْ روى أبو داودَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ منهُ: أنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امرأتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فقالَ: واللَّهِ ما أَرَدْتُ بها إلَّا واحدةً، فَرَدَّها إليهِ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

  #2  
قديم 22 محرم 1430هـ/18-01-2009م, 02:15 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سبل السلام للشيخ: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني


3/1009 - وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الطَّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ طَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَد اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الطَّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ طَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قَد اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ؛ أيْ: مُهْلَةٌ، (فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
الْحَدِيثُ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَد اسْتُشْكِلَ أَنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ مِنْ عُمَرَ مُخَالَفَةُ مَا كَانَ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ فِي عَصْرِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ فِي أَوَّلِ أَيَّامِهِ، وَظَاهِرُ كَلامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ الإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِسِتَّةِ أَجْوِبَةٍ:
الأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلاثاً، فَنُسِخَ ذَلِكَ " ا هـ.
إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِر النَّسْخُ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ مَعْمُولاً بِهِ إلَى أَنْ أَنْكَرَهُ عُمَرُ.
قُلْتُ: إنْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ النَّسْخِ فَذَاكَ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يُضَعِّفُ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ: إنَّ النَّاسَ قَد اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ.. إلَخْ؛ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّهُ رَأْيٌ مَحْضٌ لا سُنَّةَ فِيهِ، وَمَا فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لأَبِي الصَّهْبَاءِ: " لَمَّا تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلاقِ فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ ".
ثَانِيهَا: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا مُضْطَرِبٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَقَعَ فِيهِ مَعَ الاخْتِلافِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ الاضْطِرَابُ فِي لَفْظِهِ، فَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْقُولٌ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَالْعَادَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ وَيَنْتَشِرَ وَلا يَنْفَرِدَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَهَذَا يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَن الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ إذَا لَمْ يَقْتَضِ الْقَطْعَ بِبُطْلانِهِ ا هـ.
قُلْتُ: وَهَذَا مُجَرَّدُ اسْتِبْعَادٍ؛ فَإِنَّهُ كَمْ مِنْ سُنَّةٍ وَحَادِثَةٍ انْفَرَدَ بِهَا رَاوٍ وَلا يَضُرُّ، سِيَّمَا مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَبْرِ الأُمَّةِ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهَا كَانَت الثَّلاثُ وَاحِدَةً مَا يَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي رُكَانَةَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَلامٌ، وَسَيَأْتِي.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ، هِيَ قَوْلُ الْمُطَلِّقِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أنتَ طالقٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ وَمَا بَعْدَهُ، وَكَانَ حَالُ النَّاسِ مَحْمُولاً عَلَى السَّلامَةِ وَالصِّدْقِ.
فَيُقْبَلُ قَوْلُ مَن ادَّعَى أَنَّ اللَّفْظَ الثَّانِيَ تَأْكِيدٌ لِلأَوَّلِ، لا تَأْسِيسُ طَلاقٍ آخَرَ، وَيُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ تَغَيُّرَ أَحْوَالِ النَّاسِ وَغَلَبَةَ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ رَأَى مِن الْمَصْلَحَةِ أَنْ يُجْرَى الْمُتَكَلِّمُ عَلَى ظَاهِرِ كلامِهِ، وَلا يُصَدَّقَ فِي دَعْوَى ضَمِيرِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ ارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ أَصَحُّ الأَجْوِبَةِ.
قُلْتُ: وَلا يَخْفَى أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِكَوْنِ نَهْيِ عُمَرَ رَأْياً مَحْضاً، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ؛ فِيهِم الصَّادِقُ وَالْكَاذِبُ، وَمَا يُعْرَفُ مَا فِي ضَمِيرِ الإِنْسَانِ إلاَّ مِنْ كَلامِهِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلاً فِي نَفْسِ الأَمْرِ، فَيُحْكَمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً، أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِأَيَّ عِبَارَةٍ وَقَعَتْ.
الرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَانَ الطَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً، أَنَّ الطَّلاقَ الَّذِي كَانَ يُوقَعُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إنَّمَا كَانَ يُوقَعُ فِي الْغَالِبِ وَاحِدَةً، لا يُوقَعُ ثَلاثاً، فَمُرَادُهُ أَنَّ هَذَا الطَّلاقَ الَّذِي يُوقِعُونَ ثَلاثاً كَانَ يُوقَعُ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى: لَوْ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى حُكْمِ مَا شُرِعَ مِنْ وُقُوعِ الثَّلاثِ.
وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَوْلِهِ: اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، تَنَزُّلاً قَرِيباً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الإِخْبَارَ عَن اخْتِلافِ عَادَاتِ النَّاسِ فِي إيقَاعِ الطَّلاقِ، لا فِي وُقُوعِهِ، فَالْحُكْمُ مُتَقَرِّرٌ.
وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا التَّأْوِيلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَنَسَبَهُ إلَى أَبِي زُرْعَةَ، وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ أَخْرَجَهُ عَنْهُ، قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَا تُطَلِّقُونَ أَنْتُمْ ثَلاثاً كَانُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً.
قُلْتُ: وَهَذَا يَتِمُّ إن اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ إرْسَالُ ثَلاثِ تَطْلِيقَاتٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَحَدِيثُ أَبِي رُكَانَةَ وَغَيْرِهِ يَدْفَعُهُ، وَيَنْبُو عَنْهُ قَوْلُ عُمَرَ: فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ؛ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضَى فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ حَتَّى رَأَى إمْضَاءَهُ، وَهُوَ دَلِيلُ وُقُوعِهِ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَمْضِ، فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ وُقُوعُ الثَّلاثِ دَفْعَةً نَادِراً فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ طَلاقُ الثَّلاثِ، لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ؛ لِمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ "كُنَّا نَفْعَلُ -وَكَانُوا يَفْعَلُونَ" لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: " طَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً " هُوَ لَفْظُ الْبَتَّةَ، إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ، وَكَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ رُكَانَةَ، فَكَانَ إذَا قَالَ الْقَائِلُ ذَلِكَ قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِالْوَاحِدَةِ وَبِالثَّلاثِ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَصْرِ عُمَرَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ التَّفْسِيرُ بِالْوَاحِدَةِ. قِيلَ: وَأَشَارَ إلَى هَذَا الْبُخَارِيُّ؛ فَإِنَّهُ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْبَابِ الآثَارَ الَّتِي فِيهَا الْبَتَّةَ.
وَالأَحَادِيثَ التي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالثَّلاثِ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْبَتَّةَ إذَا أُطْلِقَتْ حُمِلَتْ عَلَى الثَّلاثِ، إلاَّ إذَا أَرَادَ الْمُطَلِّقُ وَاحِدَةً، فَيُقْبَلُ، فَرَوَى بَعْضُ الرُّوَاةِ الْبَتَّةَ بِلَفْظِ الثَّلاثِ، يُرِيدُ أَنَّ أَصْلَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ طَلاقُ الْبَتَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ.. إلَى آخِرِهِ.
قُلْتُ: وَلا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا التَّأْوِيلِ وَتَوْهِيمُ الرَّاوِي فِي التَّبْدِيلِ، وَيُبْعِدُهُ أَنَّ الطَّلاقَ بِلَفْظِ الْبَتَّةَ فِي غَايَةِ النُّدُورِ، فَلا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ، كَيْفَ وَقَوْلُ عُمَرَ: قَد اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، يَدُلُّ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ أَيْضاً فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ؟!
وَالأَقْرَبُ أَنَّ هَذَا رَأْيٌ مِنْ عُمَرَ رَجَحَ لَهُ، كَمَا مَنَعَ مِنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا، وَكُلُّ واحِدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَوْنُهُ خَالَفَ مَا كَانَ عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ نَظِيرُ مُتْعَةِ الْحَجِّ بِلا رَيْبٍ، وَالتَّكَلُّفَاتُ فِي الأَجْوِبَةِ لِيُوَافِقَ مَا ثَبَتَ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ لا يَلِيقُ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ اجْتِهَادَاتٌ يَعْسُرُ تَطْبِيقُهَا عَلَى ذَلِكَ. نَعَمْ، إذا أَمْكَنَ التَّطْبِيقُ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، فَهُوَ الْمُرَادُ.
4/1010 - وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعاً، فَقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: ((أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!)) حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَقْتُلُهُ؟ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ.
(وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): ابْنِ أَبِي رَافِعٍ الأَنْصَارِيِّ الأَشْهَلِيِّ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحَادِيثَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لا نَعْرِفُ لَهُ صُحْبَةً، وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِن الْعُلَمَاءِ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَخْرَجَ لَهُ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ.
(قَالَ: أُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعاً، فَقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَقْتُلُهُ؟ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ).
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ التَّطْلِيقَاتِ بِدْعَةٌ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالإِمَامُ يَحْيَى إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ وَلا مَكْرُوهٍ.
وَاسْتَدَلَّ الأَوَّلُونَ بِغَضَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِقَوْلِهِ: ((أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ؟!)) وَبِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً أَوْجَعَ ظَهْرَهُ ضَرْباً، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ عُمَرُ تَحْرِيمَهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ؟!)).
اسْتَدَلَّ الآخَرُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، وَبِقَوْلِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، وَبِمَا يَأْتِي فِي حَدِيثِ اللِّعَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلاثاً بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الآيَتَيْنِ مُطْلَقَتَانِ، وَالْحَدِيثَ صَرِيحٌ بِتَحْرِيمِ الثَّلاثِ، فَتُقَيَّدُ بِهِ الآيَتَانِ، وَبِأَنَّ طَلاقَ الْمُلاعِنِ لِزَوْجَتِهِ لَيْسَ طَلاقاً فِي مَحَلِّهِ؛ لأَنَّهَا بَانَتْ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ كَمَا يَأْتِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ مَحْمُودٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْضَى عَلَيْهِ الثَّلاثَ، أَوْ جَعَلَهَا وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إخْبَاراً بِأَنَّهَا قَدْ وَقَعَت التَّطْلِيقَاتُ الثَّلاثُ فِي عَصْرِهِ.


5/1011 - وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَاجِعِ امْرَأَتَكَ))، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلاثاً، قَالَ: ((قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ امْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلاثاً، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ)).
وَفِي سَنَدِهِمَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إلاَّ وَاحِدَةً. فَرَدَّهَا إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ): بِضَمِّ الرَّاءِ وَبَعْدَ الأَلِفِ نُونٌ، (أُمَّ رُكَانَةَ، فَقَالَ لهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَاجِعِ امْرَأَتَكَ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلاثاً، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وفي لَفْظِ أَحْمَدَ)؛ أيْ: عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: (طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ امْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلاثاً، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَاجِعْهَا؛ فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ. وَفِي سَنَدِهِمَا)؛ أيْ: حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَحَدِيثِ أَحْمَدَ، (ابْنُ إِسْحَاقَ)؛ أيْ: مُحَمَّدٌ صَاحِبُ السِّيرَةِ.
(وَفِيهِ مَقَالٌ)، قَدْ حَقَّقْنَا فِي ثَمَرَاتِ النَّظَرِ فِي عِلْمِ أَهْلِ الأَثَرِ، وَفِي إرْشَادِ النُّقَّادِ إلَى تَيْسِيرِ الاجْتِهَادِ، عَدَمَ صِحَّةِ الْقَدْحِ بِمَا يَجْرَحُ رِوَايَتَهُ.
(وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: أَنَّ +رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ): بالسينِ الْمُهْمَلَةِ تَصْغِيرُ سُهْمَةَ.
(الْبَتَّةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ، مَا أَرَدْتُ إلاَّ وَاحِدَةً. فَرَدَّهَا إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ، وَطُرُقُهُ كُلُّهَا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ عَمِلَ الْعُلَمَاءُ بِمِثْلِ هَذَا الإِسْنَادِ فِي عِدَّةٍ مِن الأَحْكَامِ؛ مِثْلِ حَدِيثِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِالنِّكَاحِ الأَوَّلِ. تَقَدَّمَ.
وَقَدْ صَحَّحَهُ أَبُو دَاوُدَ؛ لأَنَّهُ أَخْرَجَهُ أَيْضاً مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: أَحْسَنَ مِنْهُ، وَهِيَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ، أَنَّ رُكَانَةَ.. الْحَدِيثَ.
وَصَحَّحَهُ أَيْضاً ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَفِيهِ خِلافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ مُصَحِّحٍ وَمُضَعِّفٍ. وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إرْسَالَ الثَّلاثِ التَّطْلِيقَاتِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يَكُونُ تطليقةً وَاحِدَةً، وَقَد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَوَّلُ: إِنَّهُ لا يَقَعُ بِهَا شَيْءٌ؛ لأَنَّهُ طَلاقُ بِدْعَةٍ، وهذا للنَّافِينَ وُقُوعَ طلاقِ البِدْعَةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَأَدِلَّتُهُمْ.
الثَّانِي: إنَّهُ يَقَعُ بِهِ الثَّلاثُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، وَالْفُقَهَاءُ الأَرْبَعَةُ، وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَاتِ الطَّلاقِ، وَأَنَّهَا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَلا ثَلاثٍ.
وَأُجِيبَ بِمَا سَلَفَ أَنَّهَا مُطْلَقَاتٌ تَحْتَمِلُ التَّقْيِيدَ بِالأَحَادِيثِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ عُوَيْمِراً الْعَجْلانِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.
فَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ جَمْعِ الثَّلاثِ وَعَلَى وُقُوعِهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ لا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَلا عَلَى وُقُوعِ الثَّلاثِ؛ لأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ فِي طَلاقٍ رَافِعٍ لِنِكَاحٍ كَانَ مَطْلُوبَ الدَّوَامِ، وَالْمُلاعِنُ أَوْقَعَ الطَّلاقَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ بَقِيَ لَهُ إمْسَاكُهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ بِاللِّعَانِ حَصَلَتْ فُرْقَةُ الأَبَدِ، سَوَاءٌ كَانَ فِرَاقُهُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، أَوْ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، فَلا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَيْضاً فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلاثاً، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ، قَالَ: ((لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ))، وَأُجِيبَ عنهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلاثَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
قَالُوا: عَدَمُ اسْتِفْصَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ؟ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لا فَرْقَ فِي ذَلِكَ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَفْصِلْ؛ لأَنَّهُ كَانَ الْوَاقِعُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ غَالِباً عَدَمَ إرْسَالِ الثَّلاثِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُنَا: غَالِباً؛ لِئَلاَّ يُقَالَ: قَدْ أَسْلَفْنَا أَنَّهَا وَقَعَت الثَّلاثُ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ؛ لأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ، لَكِنْ نَادِراً.
وَمِثْلُ هَذَا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ،أَنَّ رَجُلاً طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً، فَتَزَوَّجَتْ، فَطَلَّقَ الآخَرُ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَحِلُّ لِلأَوَّلِ؟ قَالَ: ((لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا))، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ هُوَ مَا سَلَفَ، وَلَهُمْ أَدِلَّةٌ مِن السُّنَّةِ فِيهَا ضَعْفٌ، فَلا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ، فَلا نُعَظِّمُ بِهَا حَجْمَ الْكِتَابِ.
وَكَذَلِكَ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ أَقْوَالُ أَفْرَادٍ لا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَإليهِ ذَهَبَ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَالصَّادِقُ وَالْبَاقِرُ، وَنَصَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ تِلْمِيذُهُ عَلَى نَصْرِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا مَرَّ مِنْ حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُمَا صَرِيحَانِ فِي الْمَطْلُوبِ، وَبِأَنَّ أَدِلَّةَ غَيْرِهِ مِن الأَقْوَالِ غَيْرُ نَاهِضَةٍ، أَمَّا الأَوَّلُ وَالثَّانِي فَلِمَا عَرَفْتَ، وَيَأْتِي مَا فِي غَيْرِهِمَا.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا، فَتَقَعُ الثَّلاثُ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا، وَتَقَعُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَاحِدَةً، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، واسْتَدَلُّوا بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. الْحَدِيثَ.
وَبِالْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، بَانَتْ مِنْهُ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَعَادَ اللَّفْظَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلاًّ لِلطَّلاقِ، فَكَانَ لَغْواً. وَأُجِيبَ بِمَا مَرَّ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَدْخُولَةِ وَغَيْرِهَا، فَمَفْهُومُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ لا يُقَاوِمُ عُمُومَ أَحَادِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الأَحَادِيثِ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثاً، أَوْ يُكَرِّرَ هَذَا اللَّفْظَ ثَلاثاً. وَفِي كُتُبِ الْفُرُوعِ أَقْوَالٌ وَخِلافٌ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ هذهِ الأَلْفَاظِ لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى دَلِيلٍ وَاضِحٍ.
وَقَدْ أَطَالَ الْبَاحِثُونَ فِي الْفُرُوعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الأَقْوَالَ، وَأَطْبَقَ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ عَلَى وُقُوعِ الثَّلاثِ مُتتَابِعَةً؛ لإِمْضَاءِ عُمَرَ لَهَا، وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، وَصَارَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَماً عِنْدَهُمْ لِلرَّافِضَةِ وَالْمُخَالِفِينَ.
وَعُوقِبَ ابنُ تَيْمِيَّةَ بِسَبَبِ الْفُتْيَا بِهَا،وَطِيفَ بِتِلْمِيذِهِ ابْنِ الْقَيِّمِ عَلَى جَمَلٍ بِسَبَبِ الْفَتْوَى بِعَدَمِ وُقُوعِ الثَّلاثِ، وَلا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ مَحْضُ عَصَبِيَّةٍ شَدِيدَةٍ فِي مَسْأَلَةٍ فروعِيَّةٍ قَد اخْتَلَفَ فِيهَا سَلَفُ الأُمَّةِ وَخَلَفُهَا، فَلا نَكِيرَ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إلَى أيِّ قَوْلٍ مِن الأَقْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَهَاهُنَا يَتَمَيَّزُ الْمُنْصِفُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ فُحُولِ النُّظَّارِ وَالأَتْقِيَاءِ مِن الرِّجَالِ.

  #3  
قديم 22 محرم 1430هـ/18-01-2009م, 02:20 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام


930- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قالَ: كَانَ الطَّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأَبِي بَكْرٍ، وسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ؛ طَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا في أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؛ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. رواهُ مُسْلِمٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- أَنَاةٌ: قال في (المِصباحِ): الآنَاءُ هي الأوقاتُ، وفي وَاحِدِها لُغتانِ:
إِحدَاهُما: (إِنْيٌ)(1) بكَسْرِ الهَمْزَةِ، والقَصْرِ، على وَزْنِ حِمْلٍ.
والثاني: (أَنَاةٌ) عَلَى وَزْنِ حَصَاةٍ والأَنَاةُ هي المُهْلَةُ.
- أَمْضَيْنَاهُ: يُقالُ: أَمْضَى الأمْرَ إمضاءً: أنْفَذَه، أي: لو أَجْرَيْنَا وأَنْفَذْنَا عليهم ما اسْتَعْجَلُوهُ مِن الثلاثِ؛ لَكَانَ ذلك مَانِعاً لَهُم عَن تَتَابُعِ الطَّلَقاتِ.

931- وعن مَحْمُودِ بنِ لَبِيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعاًً فقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: ((أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!)). حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ, ألا أَقْتُلُه؟ رواهُ النَّسائِيُّ، ورُواتُه مُوَثَّقونَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
الحديثُ صَحِيحٌ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إسْنادُه جَيِّدٌ.
قالَ المُؤَلِّفُ: رواهُ النَّسائِيُّ ورواتُه مُوَثَّقونَ، وقالَ في (فتحِ الباري): رجالُه ثِقَاتٌ.
وقالَ ابْنُ عَبْدِ الهادي في (المُحَرَّرِ): رواهُ النَّسائِيُّ، وقالَ: لا أَعْلَمُ أحداً رَوَى هذا الحديثَ غَيْرَ مَخْرَمَةَ.
أمَّا ابنُ القَيِّمِ فقالَ في (زَادِ المَعادِ): إسنادُه على شَرْطِ مُسْلِمٍ، ومَخْرَمَةُ ثِقَةٌ بلا شَكٍّ، قَدِ احْتَجَّ به مسلمٌ في صحيحِه بحديثِه عن أبيهِ، والذينَ أَعَلُّوه قالوا: لَمْ يَسْمَعْ منه.
قالَ أبو طَالِبٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ عن مَخْرَمَةَ بنِ بُكَيْرٍ، فقالَ: هو ثِقَةٌ، ولَمْ يَسْمَعْ مِن أبيهِ، وإنَّما هو كتابُ مَخْرَمَةَ.
والجَوابُ: أنَّ كِتابَ أبيهِ كانَ عندَه مَحْفوظاً مَضْبوطاً، فَلاَ فَرْقَ في قيامِ الحُجَّةِ بالحديثِ بَيْنَ ما حَدَّثَ به أو رَواهُ في كتابِه، بل الأخْذُ عن النُّسْخةِ أَحْوَطُ، إذا تَيَقَّنَ الراوي أنَّها نُسْخَةُ الشيخِ بعَيْنِها، وهذه طريقةُ الصحابةِ والسَّلَفِ.
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- يُلْعَبُ: مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ, يُقالُ: لَعِبَ يَلْعَبُ لَعِباً: ضَدُّ جَدَّ، ومَعْنَاهُ: عَبَثَ بالأَمْرِ، أو هَزِئَ بالدِّينِ، واسْتَخَفَّ به، ولعلَّه المُرادُ هنا.
- كتابِ اللهِ: المرادُ به هنا أحكامُه المأخوذةُ منه.
- بينَ أَظْهُرِكُم: أي: وَسَطَكُم، والأصْلُ في هذا الأسلوبِ أنَّه على سبيلِ الاستظهارِ بِهِم والاستنادِ إليهم، ثُمَّ كَثُرَ حتى اسْتُعْمِلَ في الإقامةِ بينَ القومِ مُطْلقاً، والمعنى: أَيُلْعَبُ بأحكامِ اللهِ، وأنا ما زِلْتُ مَعَكُم حَيًَّا؟!
932- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قالَ: طَلَّقَ أبو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ؛ فَقَالَ لهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((رَاجِعِ امْرَأَتَكَ)) - فقالَ: إِنِّي طَلَّقْتُها ثلاثاً-، قالَ: ((قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا)). رواهُ أبو دَاوُدَ.
وفي لفظٍ لأحمدَ: طَلَّقَ رُكَانَةُ امْرَأَتَهُ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلاثاً، فحَزِنَ عَلَيْهَا، فقالَ له رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ))، وفي سَنَدِهما ابنُ إِسْحَاقَ، وفيهِ مَقالٌ.
وقَدْ رَوَى أبو دَاوُدَ، مِن وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ منه: أنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ ألبَتَّةَ، فأَخْبَرَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بذلك، وقالَ: واللهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلاَّ وَاحِدَةً فرَدَّهَا إليهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
الحديثُ ضَعِيفٌ.
وقَدِ اخْتَلَفَ العلماءُ فيه, فمِنهم من صَحَّحَه وأخَذَ به, ومنهم مَن ضَعَّفَه وأخَذَ بما يُعارِضُه، ونَتَجَ عن هذا الاختلافِ اختلافُهم في حُكْمِ المسألةِ التي في الحَديثِ:
قالَ المُصَحِّحونَ: قالَ أبو دَاوُدَ: هذا الحديثُ أَصَحُّ من حديثِ ابنِ جُرَيْجٍ الذي فيه: أنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثلاثاً.
وقالَ ابْنُ مَاجَهْ: سَمِعْتُ الطَّنَافِسِيَّ يقولُ: ما أَشْرَفَ هذا الحديثَ!
وهذا بيانٌ لشَرَفِ إسنادِه وكثرةِ فَائِدَتِه.
وقالَ المُضَعِّفونَ ومنهمُ ابنُ القَيِّمِ: حديثُ أَلْبَتَّةَ ضَعَّفَهُ أحمدُ.
وقالَ شَيْخُنَا ـ يعني ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ: الأئِمَّةُ الكِبارُ العَارِفُونَ بعِلَلِ الحديثِ؛ كالإمامِ أحمدَ، والبخاريِّ وابنِ عُيَيْنَةَ، وغَيْرِهم ضَعَّفوا حديثَرُكَانَةَ: ألبَتَّةَ، وكذلك ابنُ حَزْمٍ، وقالوا: إِنَّ رُواتَه قَوْمٌ مَجاهِيلُ، لا تُعْرَفُ عَدَالَتُهم، ولا ضَبْطُهم. وقَالَ أحمدُ: حَدِيثُ رُكَانَةَ لا يَثْبُتُ.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ لا نَعْرِفُه إلاَّ مِن هذا الوَجْهِ، وسَأَلْتُ البُخارِيَّ عنه، فقالَ: مُضْطَرِبٌ.
وقالَ الألبانِيُّ: وجُمْلَةُ القولِ: أنَّ حديثَ البابِ ضَعِيفٌ، وأَنَّ حديثَ ابنِ عَبَّاسٍ المُعارِضَ له أَقْوَى منه، واللهُ أعْلَمُ.
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- أبو رُكَانَةَ: هكذا وَقَعَ في نُسَخِ (بُلوغِ المَرامِ) التي اطَّلَعْتُ عليها: أبو رُكَانَةَ, والمعروفُ في كُتُبِ التَّراجِمِ والحديثِ وغيرِها أنَّه رُكَانَةُ بنُ عَبْدِ يَزِيدَ بنِ هَاشِمِ بنِ المُطَّلِبِ القُرَشِيُّ المُطَّلِبِيُّ، ورَجَعْتُ إلى كَثِيرٍ من المصادرِ فلَمْ أَجِدْ إلاَّ رُكَانَةَ، منها (الإصابةُ) للمُؤلِّفِ، ولا أَظُنُّ إلاَّ أَنَّ زِيادَةَ (أَبِي) مِن النُّسَّاخِ.
- سُهَيْمَةَ: بالسينِ المُهْمَلَةِ المَضْمومةِ تَصْغِيرُ سَهْمَةَ، هي سُهَيْمَةُ بنتُ عُمَيْرٍ المُزَنِيَّةُ، من بَنِي مُزَيْنَةَ، قَبِيلَةٌ مُضَرِيَّةٌ، دَخَلَتْ بالحِلْفِ الآنَ معَ قَبِيلَةِ حَرْبٍ، وتَسْكُنُ في غَرْبِ القصيمِ.
- أَلْبَتَّةَ: بهمزةِ وَصْلٍ، أو قَطْعٍ، بعدَها لامٌ ساكنةٌ، ثُمَّ ياءٌ مَفْتُوحَةٌ، ثُمَّ تَاءٌ مُشَدَّدَةٌ، آخِرَها تاءُ التأنيثِ، والبَتُّ هو القَطْعُ، قالَ في (المِصْباحِ)، بَتَّ الرجُلُ طَلاقَ امْرَأَتِهِ، فَهِي مَبْتُوتَةٌ، والأصْلُ: مَبْتُوتٌ طَلاقُها، إذا قَطَعَها عن الرَّجْعَةِ.
* مَا يُؤْخَذُ من هذهِ الأحاديثِ.
1- الحَدِيثُ رَقْمُ (930) يُفِيدُ أنَّ الطلقاتِ الثلاثَ بكلمةٍ واحدةٍ، لا تُحْسَبُ إلاَّ طَلْقَةً واحِدَةً، فإنْ لَمْ تَكُنْ نهايةَ الثلاثِ، فلَهُ الرَّجْعَةُ.
وهذا الحديثُ هو عُمْدَةُ القائِلِينَ بهذا القولِ.
2- أمَّا الحديثُ رَقْمُ (931) فيَدُلُّ على أنَّ الطلقاتِ الثلاثَ التي لَمْ يَتَخَلَّلْهُنَّ رَجْعَةٌ، ولا نِكَاحٌ, أنَّها طَلاقٌ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ.
3- ويَدُلُّ على أنَّ التلاعُبَ بأحكامِ اللهِ تعالى، وتَعَدِّيَ حُدودِه، من كَبائرِ الذُّنوبِ؛ فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لَمْ يَغْضَبْ إِلاَّ علَى مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٍ.
4- التَّلاعُبُ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِه، حَرَامٌ، وَلَوْ بَعْدَ وفاتِه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وإِنَّما قالَ ذَلِكَ؛ اسْتِغْراباً من سُرْعَةِ تَغَيُّرِ الأُمورِ.
5- أمَّا الحديثُ رَقْمُ (932) فتَدُلُّ رِوايَتَا أبي دَاوُدَ وأحمدَ على مَا دَلَّ عليهِ الحديثُ رَقْمُ (930)، من اعتبارِ الطلاقِ الثلاثَ وَاحِدَةً، وأنَّ للمُطَلِّقِ الرَّجْعَةَ، إنْ لَمْ تَكُنْ نهايةَ عَدَدِه من الطلاقِ.
6- وأَمَّا الرِّوايَةُ الثانيةُ لأبي دَاوُدَ، فتَدُلُّ على أنَّ الطَّلاقَ ألْبَتَّةَ، يَكُونُ بحَسَبِ نِيَّةِ المُطَلِّقِ، فإنْ نَوَى به الثلاثَ، صَارَ ثَلاثاً، وإنْ نَوَى به وَاحِدَةً، فهو وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ.
7- قالَ الشيخُ بخيتٌ المُطيعيُّ: إنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أَلْبَتَّةَ، وهو من كِناياتِ الطَّلاقِ، يَقَعُ به وَاحِدَةً إِنْ نَوَى وَاحِدَةً، ويَقَعُ بِه ثَلاثاً إنْ نَواهَا.
8- رِوَايَةُ: طَلَّقَها أَلْبَتَّةَ في حديثِ رُكانَةَ, مِن أَدِلَّةِ الجُمهورِ على أنَّ الطلاقَ الثلاثَ كلمةً واحدةً, طلاقٌ بَائِنٌ بَيْنُونَةً كُبْرَى، ولَيْسَ فيه رَجْعَةٌ إلاَّ بعدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجاً آخَرَ.
* خِلافُ العُلماءِ:
اخْتَلَفَ العلماءُ فيمَن أَوْقَعَ الطلقاتِ الثلاثَ دُفْعَةً واحدةً، أو أَوْقَعَها بكلماتٍ ثَلاثٍ، لَمْ يَتخَلَّلْها رَجْعَةٌ ولا نكاحٌ، فهل تَلْزَمُه الطَّلَقاتُ الثلاثُ، فلا تَحِلُّ له زَوْجَتُه إلا بعدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجاً غيرَه وتَعْتَدَّ مِنْهُ، أَمْ أَنَّها تَكُونُ طَلْقَةً وَاحِدَةً, له رَجْعَتُها ما دَامَتْ في العِدَّةِ، وبعدَ العِدَّةِ يَعْقِدُ عليها، ولو لَمْ تَنْكِحْ زَوْجاً غَيْرَهُ؟
اخْتَلَفَ العلماءُ في ذلك اختلافاً طويلاً عَرِيضاً، وعُذِّبَ من أَجْلِ القَوْلِ بالرَّجْعَةِ بها جَماعةٌ مِن الأَئِمَّةِ والعلماءِ؛ منهم شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ، وبعضُ أَتْباعِه.
ولكنَّنا نَسُوقُ هنا مُلَخَّصاً فيهِ الكفايةُ، إنْ شَاءَ اللهُ تعالى:
ذَهَبَ جمهورُ العلماءِ؛ ومِنهم الأئمَّةُ الأربعةُ, وجُمهورُ الصحابَةِ والتابِعِينَ: إلى وُقوعِ الطلاقِ الثلاثَ بكلمةٍ واحدةٍ، إذا قالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثاً. ونَحْوَه، أو بكلماتٍ ولو لَمْ يَكُنْ بينَهنَّ رَجْعَةٌ ولا نِكَاحٌ.
ودليلُهم: حَدِيثُ رُكانَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ(2):(أنَّه طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ) فأَخْبَرَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بذلك؛ فقَالَ له: وَاللهِ مَا أَرَدْتُ إِلاَّ وَاحِدَةًَ؟.
وهذا الحديثُ أَخْرَجَهُ الشافعِيُّ، وأبو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ.
ووَجْهُ الدلالةِ من الحديثِ: استحلافُه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للمُطَلِّقِ أنه لَمْ يُرِدْ بـ ألبَتَّةَ إلا وَاحِدَةً؛ فدَلَّ على أنه لَوْ أرادَ بها أكْثَرَ، لوَقَعَ ما أَرَادَهُ.
واسْتَدَلُّوا أيضاً بما في (صحيحِ البُخارِيِّ) عَن عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلاً طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثلاثاً، فتَزَوَّجَتْ، فطُلِّقَتْ، فسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أَتَحِلُّ للأَوَّلِ؟ قالَ: ((لاَ، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأَوَّلُ)). ولو لَمْ تَقَعِ الثلاثُ، لَمْ يَمْنَعْ رُجوعَها إلى الأولِ إلاَّ بعدَ ذَوْقِ الثاني عُسَيْلَتَها.
واسْتَدَلُّوا أيضاً بعَمَلِ الصحابةِ ـ ومِنْهُم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُـ عَلَى إيقاعِ الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ ثلاثاً، كما نَطَقَ بها المُطَلِّقُ، وكَفَى بهم قُدْوَةً وأُسْوَةً، ولهم أَدِلَّةٌ غَيْرُ ما سُقْنَا، ولَكِنْ مَا ذَكَرْنا هو الصَّرِيحُ الواضِحُ لهم.
وذَهَبَ جَماعَةٌ من العلماءِ: إلى أنَّ مُوقِعَ الطلاقِ الثلاثَ بكلمةٍ واحدةٍ أو بكلماتٍ لَمْ يَتَخَلَّلْها رجعةٌ ولا نكاحٌ؛ لا يَقَعُ عليها إلاَّ طَلْقَةً واحدةً، وهو مَرْوِيٌّ عن الصحابةِ والتابِعِينَ وأَربابِ المذاهِبِ.
فمِن الصحابةِ القَائِلِينَ بهذا القولِ: أبو مُوسَى الأشعريُّ، وابنُ عَبَّاسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مَسْعودٍ، وعَلِيٌّ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، والزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ.
ومن التَّابِعِينَ: طَاوُسٌ، وعَطَاءٌ، وجَابِرُ بنُ زَيْدٍ، وغالِبُ أتباعِ ابنِ عَبَّاسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مُوسَى، ومُحمدُ بنُ إسحاقَ.
ومِن أربابِ المَذَاهِبِ: دَاوُدُ وأكْثَرُ أصحابِه، وبعضُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ، وبعضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وبعضُ أصحابِ أَحْمَدَ، منهم المَجْدُ عبدُ السَّلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ، وكانَ يُفْتِي بها سِرًّا, وحَفِيدُه شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ، يَجْهَرُ بها، ويُفْتِي بها في مَجَالِسِه، وكَثِيرٌ مِن أَتْبَاعِهِ؛ومنهم ابنُ القَيِّمِ، الذي نَصَرَ هذا القَوْلَ نَصْراً مُؤَزَّراً في كتابَيْهِ (الهُدَى)، و (إغاثَةِ اللَّهْفَانِ) فَقَدْ أطَالَ البَحْثَ فيها، واسْتَعْرَضَ نُصوصَها، ورَدَّ على المُخالِفِينَ بِما يَكْفِي ويَشْفِي.
واسْتَدَلَّ هؤلاءِ بالنصِّ والقِياسِ:
فأمَّا النصُّ: فما رَواهُ مُسلمٌ في صحيحِه: أنَّ أبا الصَّهْبَاءِ قَالَ لابنِ عَبَّاسٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلاثَ كَانَتْتُجْعَلُ واحدةً على عَهْدِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأبي بَكْرٍ، وفي صَدْرٍ من إمارةِ عُمَرَ؟ قالَ: نَعَمْ. وفي لفظٍ: تُرَدُّ إلى واحدةٍ؟ قالَ: نَعَمْ.
فهذا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ لا يَقْبَلُ التأويلَ والتحويلَ.
وأمَّا القِياسُ: فإِنَّ جَمْعَ الثلاثِ مُحَرَّمٌ وبِدْعَةٌ، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُناَ، فَهُوَ رَدٌّ)). وإيقاعُ الثلاثِ دُفْعَةً واحدةً لَيْسَ من أمرِ الرسولِ، فهو مَرْدُودٌ مسدودٌ.
وأجابَ هؤلاءِعن أدلةِ الجمهورِ بما يأتي:
أمَّا حديثُ رُكانةَ: فقَدْ وَرَدَ في بعضِ ألفاظِه: "أنَّه طَلَّقَهَا ثَلاثاً". وفي لفظٍ: "وَاحِدَةً". وفي لفظٍ: "أَلْبَتَّةَ‌‌". ولذا قالَ البخاريُّ: إنَّه مُضْطَرِبٌ.
وقالَ الإمامُ أحمدُ: طُرُقُه كُلُّها ضَعِيفَةٌ. وقالَ بَعْضُهم: في سَنَدِه مَجهولٌ، وفيهِ مَن هو ضعيفٌ مَتْروكٌ.
قالَ شَيْخُ الإسلامِ: وحديثُ رُكَانَةَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أئمةِ الحديثِ، ضَعَّفَه أحمدُ والبخاريُّ وأبو عُبَيْدٍِ وابنُ حَزْمٍ، بأنَّ رُواتَهُ لَيْسُوا مَوْصُوفِينَ بالعَدْلِ والضَّبْطِ.
وأمَّا حديثُ عَائِشَةَ: فالاستدلالُ به غَيْرُ وَجِيهٍ؛ إذْ مِن المُحْتَمَلِ أنَّ مُرادَها بالثلاثِ نِهَايَةُ ما للمُطَلِّقِ من الطلقاتِ الثلاثِ، وإذا وُجِدَ الاحتمالُ، بَطَلَ الاستدلالُ، وهو مُجْمَلٌ يُحْمَلُ على حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ المُبَيَّنِ، كما جاءَ في الأُصولِ.
وأمَّا الاستدلالُ بعَمَلِ الصحابةِ، فمَن أَوْلاهُم بالاقتداءِ والاتِّباعِ؟!
ونحنُ نقولُ: إنَّهم يَزِيدُونَ عن مِائَةِ أَلْفٍ، وكلُّ هذا الجَمْعِ الغَفِيرِ وأَوَّلُهم نَبِيُّهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ يَعُدُّونَ الثلاثَ واحِدَةً، حتى إذا تُوفِّيَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهي على ذلك، وجاءَ خليفتُه الصِّدِّيقُ، فاسْتَمَرَّتِ الحالُ على ذلك حَتَّى تُوفِّيَ، وخَلَفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ فمَضَى صَدْرُ خِلافَتِه، والأَمْرُ كما هو علَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعَهْدِ الصِّدِّيقِ، بعدَ ذلك جُعِلَتِ الثلاثُ، كعَدَدِها ثلاثاً، كما بَيَّنَّا سَبَبَهُ.
فصَارَ على أنَّ الثَّلاثَ وَاحِدَةٌ: جُمهورُ الصحابةِ، مِمَّن قَضَى نَحْبَه قبلَ خِلافَةِ عُمَرَ، أو نَزَحَتْ به الفُتوحاتُ قَبْلَ المجلسِ الذي عَقَدَه لبقيةِ الصحابةِ المُقِيمِينَ عندَه في المَدينةِ.
فعَلِمْنَا حِينَئذٍ أنَّ الاستدلالَ بعَمَلِ الصحابةِ مَنْقُوضٌ بما يُشْبِهُ إجماعَهم في عَهْدِ الصِّدِّيقِ على خِلافِه.
وعَمَلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه ـ حَاشَاهُ وحَاشَا مَن مَعَه أَنْ يَعْمَلُوا عَمَلاً يُخالِفُ ما كانَ على عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وإِنَّما رَأَى أنَّ الناسَ تَعَجَّلُوا وأَكْثَرُوا من إيقاعِ الطلاقِ الثلاثَ، وهو بِدْعَةٌ مُحرَّمَةٌ، فرَأَى أَنْ يُلْزِمَهم بما قالوه تَأْدِيباً وتَعْزِيراً على ما ارْتَكَبُوا من إِثْمٍ، ومَا أَتَوْهُ مِن ضِيقٍ هُمْ فِي غِنًى عنه، ويُسْرٍ وَسَعَةٍ، وهذا العَمَلُ من عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ اجتهادٌ مِن اجتهادِ الأئمةِ، وهو يَخْتَلِفُ باختلافِ الأزمنةِ، ولا يَسْتَقِرُّ تشريعاً لازماً لا يَتَغَيَّرُ، بل المُسْتَقِرُّ اللازِمُ هو التشريعُ الأصليُّ لهذه المسألةِ.
قالَ شَيْخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ: وإِنْ طَلَّقَها ثلاثاً في طُهْرٍ وَاحِدٍ، بكلمةٍ واحدةٍ أو كلماتٍ، مثلِ: أَنْتِ طَالِقٌ, ثُمَّ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ. أو يَقولُ: أَنْتِ طَالِقٌ, ثُمَّ يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ, ثُمَّ يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ، فهذا للعلماءِمن السلفِ والخلفِ فيه ثلاثُ أقوالٍ، سَواءٌ أكانَتْ مَدْخولاً بها، أو غيرَ مَدْخولٍ بِهَا:
أحدُها: أَنَّه طَلاقٌ مُباحٌ لازِمٌ، وهو قَوْلُ الشافِعِيِّ وأحمدَ في الراويةِ القديمةِ عنه، اختارَها الخِرَقِيُّ.
الثاني: أنه طَلاقٌ مُحَرَّمٌ لازِمٌ، وهو قولُ مَالِكٍ، وأبي حنيفةَ، وروايةٌ عن أَحْمَدَ، اختارَها أكثرُ أصحابِه، وهذا القولُ مَنْقولٌ عن كثيرٍ مِن السلفِ والخلفِ من الصحابةِ والتابعِينَ.
الثالثُ: أنَّه مُحَرَّمٌ، ولا يَلْزَمُ منه إلا طَلْقَةٌ واحدةٌ، وهذا القولُ مَنْقولٌ عن طائفةٍ مِن السلَفِ والخَلَفِ من الصحابةِ، وهو قَوْلُ كَثِيرٍ مِن التابِعِينَ، ومَن بعدَهم، وهو قولُ بَعْضِ أصحابِ أَبِي حنيفةَ، ومالِكٍ، وأحمدَ.
وأمَّا مسألةُ الحَلِفِ بالطلاقِ, فقالَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الطلاقِ والحَلِفِ بهِ, وبينَ النَّذْرِ والحَلِفِ بالنَّذْرِ، فإذا كانَ الرجُلُ يَطْلُبُ مِن اللهِ حَاجَةً فقَالَ: إِنْ شَفَى اللهُ مَرِيضِي، أو قَضَى دَيْنِي، أو خَلَّصَنِي من هذهِ الشِّدَّةِ، فلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بألفِ دِرْهَمٍ، أو أَصُومَ شَهْراً، أو أُعْتِقَ رَقَبَةً، فهذا تعليقُ نَذْرٍ يَجِبُ عليهِ الوَفاءُ بهِ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ.
وإذا عَلَّقَ النَّذْرَ على وَجْهِ اليَمِينِ قَاصِداً الحَثَّ أو المَنْعَ، فقالَ: إنْ سَافَرْتُ مَعَكُمْ، أو إِنْ زَوَّجْتُ فُلاناً، فعَلَيَّ الحَجُّ، أو فمَالِي صَدَقَةٌ، فهذا عندَ الصحابةِ وجمهورِ العلماءِ: هو حَالِفٌ بالنَّذْرِ، ليسَ بنَاذِرٍ، فإذا لَمْ يَفِ بما التَزَمَه أجْزَأَهُ كفارةُ يَمِينٍ.


* قَرارُ مَجْلسِ كبارِ العلماءِ بشَأْنِ مسألةِ الطلاقِ الثلاثَ بلَفْظٍ وَاحِدٍ:
رَقْمُ (18) وتاريخُ 12/11/1393 هـ.
قالَ مَجْلِسُ هيئةِ كِبارِ العُلماءِ: بَحْثُ مَسْأَلَةِ الطلاقِ الثَّلاثَ بلفظٍ وَاحِدٍ، وبعدَ الدراسةِ وتداوُلِ الرَّأْيِ، واستعراضِ الأقوالِ التي قِيلَتْ فيها، ومُناقَشَةِ ما على كلِّ قَوْلٍ، تَوَصَّلَ المَجْلِسُ بالأكثريةِ إلى اختيارِ القَوْلِ بوُقوعِ الطلاقِ الثلاثَ بلَفْظٍ وَاحِدٍ ثلاثاً، وخَالَفَ مِن أعضاءِ المَجْلِسِ خَمْسَةٌ وَهُمْ:
الشيخُ عبدُ العزيزِ بنُ بَازٍ، والشيخُ عبدُ الرزَّاقِ عفيفي، والشيخُ عبدُ اللهِ خَيَّاط، والشيخُ رَاشِدُ بنُ خنين، والشيخُ محمدُ بنُ جُبَيْرٍ.
فهؤلاءِ الخَمْسَةُ لهم وِجْهَةُ نَظَرٍ, نَصُّها ما يلي:
الحمدُ للهِوالصلاةُ والسلامُ على رسولِه وآلِه وبعدُ:
فنَرَى أنَّ الطلاقَ الثلاثَ بلفظٍ واحدٍ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.
وقالَ مُحَرِّرُه: وجاءَ كلُّ وَاحِدٍ من الفريقيْنِ بأدِلَّتِه وما يَرَاهُ.


(1) لعل الصواب : " إنَى " بكسر الهمزة والقصر ، وحينئذٍ لا تكون على وزن " حمل ".

(2) تقدم أن اسمه ركانة بن عبد يزيد.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
التطليق, حكم

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:03 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir