القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن أم سلمة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته , فخرج إليهم فقال: ((ألا إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم , فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار , فليحملها أو يذرها)) .
الشيخ: يتعلق حديث أم سلمة بقضاء القاضي بحسب ما ظهر له . في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم ، أي خصوم ببابه سمعهم يختصمون ، وكانت خصومتهم في مواريث بينهم قد اندرثت ، واشتبه عليهم حق هذا بهذا ، فاختلفوا وكل منهم يدعي أنه أولى وأن الحق له , ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يحكم بينهم ، أو أن يسمع كلامهم ، وعظهم بهذه الموعظة:
أولا: أخبرهم بأنه بشر , والله تعالى قد وصفه بذلك , قال تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} , البشر: نوع الإنسان , أي أنا إنسان مثلكم , لست ملكا ولست خلقا آخر , قال الله تعالى عنه: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} , اختص بالوحي , بأن ينزل عليه الوحي من الله تعالى ، وأما علم الغيب فلا يعمله كما قال الله عنه: {قل إني لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} , أخبر بأنه بشر , والبشر لا يعلم إلا ما أطلعه الله عليه , البشر لا يعلم الغيب , يأتي عليه ما يأتي على البشر ، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سها مرة في صلاته ، ولما انصرف قال: ((إنما أنا بشر مثلكم , أنسى كما تنسون , فإذا نسيت فذكروني)) .
ثانيا: أخبرهم بأنه يحكم بما قد يسمع ، وأن بعضهم قد يكون أقوى حجة ، وأبلغ من الآخر ، وهذا شيء مشاهد أن الخصمين قد يكون أحدهما قوي البيان , قوي اللسان , كثير الكلام , كلامه يفصل الأشياء ، ويبين ما لم يكن بيانا واضحا ، ويظهر الأمور ؛ فحتى يوهم من يسمعه أن الحق باطل ، وأن الباطل حق , ويسحر مَن سمعه ويخلبه , ولعل هذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن من البيان لسحرا)) يعني أن بعض البيان ..بعض الناس الذي أعطاه الله لَسَنا وقوة بيان قد يظهر الحق في صورة باطل ، والباطل في صوة حق , فيتوهم من يسمعه أن الحق معه ، وأنه صادق , فهذا معنى قوله: ((إن بعضكم قد يكون ألحن بحجته من بعض)) يعني أقوى وأقدر على إظهار حجته ، بينما الآخر عييا كضعيف اللسان لا يقدر على بيان حجته , وقد يكون الصواب معه فينقلب الحق عليه ، وينقلب الباطل حقا ، والحق باطلا , فيتوهم القاضي أن هذا هو الصادق ، وأن هذا ليس بصادق .
ولأجل ذلك على القاضي أن يتأنى ، وألا يأخذ الكلام على عواهنه ، وألا يصدق من يقول بمجرد القول , بمجرد الكلمة ، بل عليه التأني والتثبت إلى أن يتضح له الحق ، ويظهر له جليا . وبعد الأذان نكمل الكلام على الحديثين .
وكأنه صلى الله عليه وسلم ينبه القضاة على ألا يعجلوا في البت في القضية ؛ حتى يسمعوا كل ما له صلة بهذه القضية ، وألا يصدقوا من كان بليغا في المقال ، ومن كان كثير الكلام حتى يتبين صدقه وأحقية ما قال , ويأخذ أيضا ما لدى الطرف الثاني ويتثبت في ذلك , فيعرف بعد ذلك القاضي كيف يقضي .
وقد ذكرنا أن عليا رضي الله عنه كان من أقضى الصحابة , حتى روي عليه أنه قال: ((وأقضاكم علي)) . وأنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذاسمعت كلام الخصم فلا تقضي له حتى تسمع كلام الثاني ؛ فإنك ستعرف كيف تقضي)) . قال علي: فما زلت قاضيا .
في هذا الحديث أنه أخبر بأنه صلى الله عليه وسلم يحكم بما يظهر له ، وأن بعض الخصمين قد يكون كاذبا , يعلم كذب نفسه , يعلم أنه طلب ما ليس له بحق ، وأنه اعتدى على حق غيره , إما أنه جحد حقا عليه لخصمه ، وإما أنه عرف تعديه ، تعديه على ملك غيره ،وأخذه مما لا يستحقه , أخذه من ملك لا حق له فيه , أو نحو ذلك ، فلا شك أنه إذا عرف ذلك ، ثم تقدم إلى القاضي ، وأراد أن يأخذ بقدر ما يدعيه , فإنه ظالم , سواء أتى بشهود زور كذبوا في شهادتهم ، أو حلف يمينا فاجرة , يعرف فجوره فيها أو أكثر من القول , ومن التظلم ، ومن إظهار الصدق ، وأنه صادق , ومن إظهار أن الصواب معه حتى توهم من يسمعه بأنه مظلوم ، وبأنه صادق في قوله , فحكم له الحاكم بمجرد قوله , وهو في الحقيقة ظالم وليس بمظلوم ، وهو يعلم من نفسه ذلك , لا يحل له ما أخذ , يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن قطعت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار , فليأخذها أو ليدعها)) .
هكذا وعظ هذين الخصمين , أخبر بأن.. أنت أيها الخصم الذي تعرف ظلمك ، وتعرف عدوانك , إذا كنت عارفا بأن هذا لا يحل لك , إذا كنت تعرف بأنك معتد في حجتك , معتد في قضيتك ، وبأن أخاك وخصمك مظلوم معتدى عليه , معتدى على حقه , فكيف مع ذلك تقدم على هذا , إن هذا الذي أخذته ولو استمتعت به في الدنيا ، فإنه سيكون وبالا عليك ، وستعذب به عذابا وبيلا .
وقد ثبت أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع مال أخيه بيمين هو فيها كاذب لقي الله وهو عليه غضبان)) قيل: يا رسول الله ، وإن كان شيئا يسيرا . قال: ((وإن كان قضيبا من أراك)) . يعني عود سواك قدر ما يقبضه القابض , ما قيمة هذا العود السواك؟! إذا حلف أنه له وهو ليس لهلقي الله وهو عليه غضبان , الله تعالى إذا غضب على عبده فلا يقوم لغضبه شيء .
وبعد ذلك نعرف أن هذا واجب القضاة أن ينصحوا الخصوم ، وأنه واجب على الخصوم , أن الخصم عليه ألا يقدم على خصومة ، وهو يعلم أنه لا حق له ، لا حق له في هذه الدعوة التي يدعيها على مال أخيه ، بل هو معتد , هو ظالم , هو خاطىء في تقدمه بهذه الدعوة . وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الاعتداء على الحق , حتى قال: ((من اغتصب شبرا من الأرض طوقه من سبع أراضين)) . شبرا من الأرض إذا أخذه بغير حقه جُعل طوقا في عنقه يوم القيامة , ماذا يفعل ؟ هل يستطيع أن يحمله من سبع أراضين ؟! في بعض الروايات:((خسف به إلى سبع أراضين)) . ذلك على وجه التخويف من الاغتصاب , إذا كان هذا في اغتصاب الأرض .
كذلك أيضا فاغتصاب الأموال الأخرى يأتي بها يحملها , ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعير له رغاء - يعني قد أخذه بغير حق - يقول: يا محمد يا محمد , فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك: لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار ، لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة لها يعار- يعني ثغاء -لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق)) . يعني من رقاع الأكسية ونحوها , قد أخذها بغير حق . وهكذا بقية الأموال , إنما مثل بها أنه يأتي بها يوم القيامة .
فالقاضي عليه أن يذكر الخصوم ، وأن يبين لهم قبل أن يحكم بأنك أيها الظالم تعرف ظلمك ، وتعرف اعتداءك ، وتعلم أنه لاحق لك في هذا , ولكن حملك عليه الجشع , حملك عليه التعدي , فلا حق لك فيه فترفق , ارفق بنفسك ؛ فإن هذا الذي تأخذه تأتي به يوم القيامة ، كذلك أيضا تعذب به , يكون قطعة من نار ، ولو حكم به القاضي , فحكم القاضي إنما هو على الظاهر ؛ لأنه لا يعلم بواطن الأمور , فلا يصيره الحكم حلالا , قال الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} أي: ترفعوها إلى الحكام ، ثم تستدلوا بحكم الحاكم بأنه حلال , حكم الحاكم لا يغيرها ، ولا يجعل الحرام حلالا ، بل هو حرام عليك , ولو حكم به عشرون قاضيا , هو لا يزال حراما , حق أخيك المسلم الذي أخذته عدوانا وظلما لا يصيره حكم الحاكم حلالا .