(ص) القسم الثاني: المنفصل، يجوز التخصيص بالحس والعقل خلافا لشذوذ ومنع الشافعي تسميته تخصيصا وهو لفظي.
(ش) المنفصل: هو ما استقل بنفسه ولم يحتج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه بخلاف المتصل وهو ثلاثة: الحس، والعقل والدليل السمعي فمثال التخصيص بالحس – والمراد به الواقع بالمشاهدة - قوله تعالى {وأوتيت من كل شيء} وإنما كان هذا تخصيصا بالحس، لأنها لم تؤت السماوات والأرض ولا ملك سليمان، ومثال التخصيص بدليل العقل ضروريا كان أو نظريا، فالأول كقوله تعالى:{خالق كل شيء} وإنما كان هذا تخصيصا بالعقل، لقيام الدليل الدال على خروج الذات والصفات العلية، والثاني كتخصيص {ولله على الناس حج البيت من استطاع} لغير الطفل والمجنون، لعدم فهمهما الخطاب وخالف بعض الناشئة – كما قال إمام الحرمين – في التخصيص بالعقل وهذا هو ظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه، في (الرسالة) وحكاه جمع من أصحابنا خلافا محققا ورده المصنف إلى الخلاف في التسمية واختاره القرافي قال:لأن خروج هذه الأمور من هذا العموم لا ينازع فيه مسلم غير أنه لا يسمى بالتخصيص إلا ما كان باللفظ أما بقاء العموم على عمومه فلا يقوله أحد ويشهد له قول الأستاذ أبي منصور: أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم، واختلفوا في تسميته تخصيصا وذهب جماعة إلى أن الخلاف معنوي، لأن العام المخصوص بدليل العقل – على قول من يجوز تخصيصه به ويجري فيه الخلاف السابق في أنه حقيقة فيه أو مجاز وعلى قول من لا يجوز تخصيصه به – فلا، بل هو عندهم حقيقة بلا خلاف كذا قاله الصفي الهندي: قلت: أو يكون عنده من باب العام المراد به الخصوص، لا من باب العام المخصوص فيجيء فيه الكلام السابق في كونه حقيقة أو مجازا وجعل أبو الخطاب – من الحنابلة – مأخذ الخلاف التحسين والتقبيح العقلي فإن صح ذلك كانت هذه فائدة ثانية.
وقوله: (خلافا لشذوذ) هو عائد إلى ما يليه، وهو: العقل فإن التخصيص بالحس لا نعلم فيه خلافا، نعم ينبغي أن يطرقه خلاف من المنكرين لإسناد العلم إلى الحواس،لأنها عرضة الآفات والتخيلات واعلم أن الإمام في أول (البرهان) حكى خلافا في تقديم العقل على الحس فقال: ومما خاضوا فيه تقديم ما يدرك بالحواس على ما يدرك بالعقل، وهو اختيار شيخنا أبي الحسن، وقدم القلانسي من أصحابنا: المعقولات بالأدلة النظرية على المحسوسات من حيث إن العقل مرجع المقولات ومحلها ومرجع المحسوسات إلى الحواس وهي عرضة الآفات. انتهى. وينبغي جريان مثل هذا الخلاف هنا، إذا تعارض اللفظ بين أن يكون مخصوصا بالعقل أو بالحس، أيهما يخصص به ولم يتعرضوا لذلك.
(ص) والأصح جواز تخصيص الكتاب به، والسنة بها وبالكتاب والكتاب بالمتواتر.
(ش) فيها أربع صور:
أحدها: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب خلافا لبعض الظاهرية لنا:
وقوعه قال الله تعالى:{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وهذا عام في أولات الأحمال وغيرهن وقد خص {أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}
الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة بها خلافا لداود وطائفة حيث قالوا: يتعارضان لا ينبي أحدهما على الآخر، حكاه الشيخ أبو حامد، وقال القرافي: وتصوير هذه المسألة في السنتين المتواترتين في زمننا عسير لفقد المتواتر، حتى قال بعض الفقهاء: ليس في السنة متواتر، إلا حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) قلت: إنما تواتر من أحد الطرفين، ولو مثل بحديث: ((من كذب علي متعمدا)). لكان أقرب، قال: وإنما تصور هذه المسألة في عصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فإن الأحاديث كانت في زمنهم متواترة لقرب العهد بالمروي عنه، وشدة القيام بالرواية وشمل إطلاق المصنف تخصيص الآحاد منها بمثلها، ودليله الوقوع ما في حديث: ((لا زكاة فيما دون خمسة أوسق)). فتخصص بقوله: ((فيما سقت السماء العشر)).
الثالثة: يجوز تخصيص السنة متواترة كانت أو آحادا بالكتاب، خلافا لبعض أصحابنا، واختاره القفال الشاشي في كتابه فقال: متى وردت السنة عامة، وفي الكتاب ما يخرج بعض ذلك عن حكم السنة، وعلم أنه لا نسخ فيهما – فالسنة مرتبة على الكتاب وتكون الآية مبينة للسنة، على معنى أن الكتاب لما ورد بما ورد به منه وكانت السنة غير منسوخة تبين بذلك أن السنة إنما أطلق القول فيها مطابقا لما في الآية ومرتبا عليها، انتهى. وحاصله أنه يجعل السنة عاما أريد به الخصوص، لا عاما مخصوصا، ولا يرجع الخلاف إلى اللفظ.
الرابعة: يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة قال الآمدي: لا أعلم فيه خلافا وصرح الهندي فيه بالإجماع ومنهم من حكى خلافا في السنة الفعلية.
(ص) وكذا بخبر الواحد عند الجمهور، وثالثها: إن خص بقاطع وعندي عكسه، وقال الكرخي: بمنفصل، وتوقف القاضي.
(ش) فيه صورتان:
إحداهما: يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إذ لا بد من إعمال الخاص، وإلا لزم إبطاله مطلقا، وحكاه ابن الحاجب عن الأئمة الأربعة لكن الحنفية ينكرونه.
الثاني: المنع مطلقا، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين.
الثالث: قاله عيسى بن أبان: إنه لا يجوز في العام الذي لم يخصص، ويجوز فيما خصص لأن دلالته تضعف، وشرط أن يكون الذي خص به دليلا قطعيا.
الرابع: عكسه، يعني إن خص بقاطع لم يتطرق إليه التخصيص بالآحاد، وإلا فجائز أن يقدم على تخصيصه بالآحاد، وهذا الاحتمال من تفقه المصنف ولم يقل به أحد، ووجهه فيما لم يخص بقاطع أنه يخص بالآحاد لأن غالب العمومات مخصصة، حتى قيل: ما من عام يقبل التخصيص إلا وقد خص، وقيل: لا يعمل بالعام حتى يبحث عن الخاص فيما لم يظهر تخصيص العام يكتفى بالعموم لاعتضادها بالغالب والظاهر أن العام مخصوص فيقدم على تخصيصه) (بها وهذا الخلاف فيما إذا كان العام قد خص بقاطع فإن لم يبق غالب ولا ظاهر فكيف يقدم على تخصيصه) ثانيا بالظن؟ وبهذا فارق العام النسخ، فإن الخاص غالب على العام وليس النسخ غالبا على الأحكام، بل الغالب غير منسوخ.
والخامس: إن خص قبله بدليل منفصل جاز، وإن لم يخص أو كان بمتصل لم يجز، قاله الكرخي، وشبهته أن تخصيصه بمنفصل يصيره مجازا كما هو رأيه وإذا كان مجازا ضعف فيسلط عليه التخصيص.
والسادس: الوقف، قيل: بمعنى لا أدري، وقيل: بمعنى أنه يقع التعارض في ذلك القدر الذي دل العموم على إثباته والخصوص على نفيه، فتوقف عن العمل وهذا ظاهر كلام القاضي في (التقريب).
تنبيه: هذا الخلاف موضعه في خبر الواحد الذي لم يجمعوا على العمل به، فإن أجمعوا عليه كقوله (لا ميراث لقاتل). و (لا وصية لوارث) ونهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها فيجوز تخصيص العموم به بلا خلاف، لأن هذه الأخبار بمنزلة المتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها وإن لم ينعقد على روايتها، نبه عليه ابن السمعاني.
(ص) وبالقياس خلافا للإمام: مطلقا، والجبائي: إن كان خفيا (ولابن أبان: إن لم يخص مطلقا) ولقوم: إن لم يكن أصله مخصصا من العموم، وللكرخي: إن لم يخص بمنفصل، وتوقف أما الحرمين.
(ش) الثانية: في جواز تخصيص العموم من الكتاب والسنة بالقياس أي بقياس نص خاص كما قاله الغزالي فيه مذاهب: أحدها: الجواز مطلقا وبه قالت الأئمة الأربعة وغيرهم.
والثاني: المنع مطلقا، واختاره الإمام في المعالم لكنه في المحصول اختار الجواز واستدل لترجيحه فيكون له في المسألة رأيان فلا يصح الجزم عنه بأحدهما إلا إذا علم المتأخر.
والثالث: يجوز تخصيصها بالقياس الجلي دون الخفي، وهو رأي ابن سريج.
قال القفال: ولا معنى له إذا حقق، لأن العمل بها يلزمه، فمن جوز التخصيص بأحدهما جوز التخصيص بالآخر، ونقله المصنف عن الجبائي والمعروف عن الجبائي المنع وتقدم العام على القياس مطلقا.
والرابع: أنه إن كان ذلك الأصل المقيس عليه مخرجا من ذلك العموم بنص جاز وإلا فلا.
والخامس: إن تطرق إليهما التخصيص جاز وإلا فلا قاله الكرخي.
والسادس: الوقف في القدر الذي تعارضا فيه والرجوع إلى دليل آخر سواهما وهو قول القاضي، وإمام الحرمين في كتبه الأصولية، لكنه في مسألة بيع اللحم بالحيوان من (النهاية) قال: يخص الظاهر بالقياس الجلي إذا كان التأويل لا ينبو عن النص، بشرط أن يكون القياس صدر من غير الأصل الذي ورد فيه الظاهر فإن لم يتجه قياس من غير مورد الظاهر لم تجز إزالة الظاهر– يعني مستنبط منه يتضمن تخصيصه وقصره على بعض المسميات.
وفي المسألة مذهب سابع: وهو أن يرجح أحدهما بغلبة الظن بحسب القوة والضعف فتارة يكون العموم أرجح، لظهور قصد العموم فيه، ويكون القياس المعارض قياس سنة مثلا، فمثل هذا لا يشكك في تقديم العموم عليه، وتارة يكون بالعكس فإن تعارضا، فالوقف وهذا هو اختيار الغزالي وغيره من المحققين، وقال ابن دقيق العيد: إنه مذهب جيد.
تنبيه: هذا الخلاف فيما إذا كان العام من الكتاب والسنة متواترا فإن كان خبر واحد جرى الخلاف في الترتيب وأولى بالجواز من ذلك، ومن ذلك تخرج طريقة قاطعة هنا بالجواز، وكلام القرافي يشير إلى تصوير القياس بما إذا كان أصله ثابتا بالتواتر فإن كان ثابتا بأخبار الآحاد كان المنع من التخصيص به أقوى، لضعف أصله.
(ص) وبالفحوى.
(ش) أي بمفهوم الموافقة ومقتضى كلام المصنف وغيره الاتفاق فيه وبه صرح في (شرح المختصر) وهو ظاهر إذا قلنا: دلالته لفظية، فإن جعلناها قياسية فيتجه أن يكون على الخلاف في المسألة قبلها، وأولى هنا بالتخصيص لما قيل فيه، إنه من قبيل اللفظ، والظاهر أنه يجوز قطعا، وإن قلنا: دلالته معنوية، لأنه أقوى دلالة من المنطوق على ثبوت الحكم، إذ الحكم فيه أولى بالثبوت، ونفيه مع ثبوت حكم المنطوق يعود نقصا على الفرض في الأكثر، بخلاف نفي الحكم عن بعض المنطوق وإثباته في البعض.
تنبيه يستفاد من عطف المصنف هذه المسألة على ما سبق أن الفحوى ليست من باب القياس لكنه في باب المفهوم، نقل عن الشافعي رضي الله عنه، أنها قياسية، وقيل: لفظية وقيل: كونها قياسا مجيء الخلاف في التخصيص بالقياس.
(ص) وكذا دليل الخطاب في الأرجح
(ش): أي مفهوم المخالفة ووجه التخصيص به أن دلالته خاصة، فلو قدم العموم عليه عمل بالعموم فيما عدا المفهوم، والعمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما، مثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه)) رواه ابن ماجه بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا)). وكما في المتعة فإن مفهوم قوله تعالى:{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن} يقتضي أنه لا متعة للممسوسة وقوله تعالى:{وللمطلقات متاع} يقتضي إيجاب المتعة للممسوسة وللشافعي رضي الله عنه، في إيجاب المتعة لها قولان، وهو يؤيد كلام ابن السمعاني في (القواطع) فإنه يقتضي أن الخلاف قولان للشافعي رضي الله عنه، قال: وأظهرهما الجواز، واختار غيره المنع لأنه أضعف دلالة من المنطوق لا محالة، فكان التخصيص به تقديما للأضعف على الأقوى، وهو غير جائز، والخلاف إذا قلنا: إنه حجة، فإن قلنا: ليس بحجة، امتنع قطعا.
(ص) وبفعله عليه السلام.
(ش) إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ عام في تحريم، ثم فعل بعضه – كان ذلك تخصيصا للفظ العام، إلا أن اختصاصه بما فعل خلافا للكرخي قال ابن السمعاني: ولذلك لم يخص النهي عن استقبال القبلة وباستدباره في التخلي باستدبراه صلى الله عليه وسلم بالمدينة الكعبة، وقد خصت الصحابة قوله عليه الصلاة والسلام في الجمع بين الجلد والرجم، بفعله في رجم ماعز والغامدية من غير جلد، هكذا ذكر الأصحاب وعندي أن هذا بالنسخ أشبه.
وقال بعضهم: صورة المسألة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داخلا تحت ذلك العموم كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة بعد العصر)) ثم صح عنه الصلاة بعده، فتبين بهذا الفعل أنه مخصص من ذلك العموم، فأما إذا لم يتناول خطابه إلا أمته فقط مثل: ((لا تواصلوا)) ثم وجدناه يواصل فلا يكون ذلك تخصيصا له بل خصوصا به إذا لم يتناوله ذلك العموم إلا أن يقوم دليل بمساواته لأمته في ذلك الحكم.
(ص) وتقريره في الأصح.
(ش) تقريره صلى الله عليه وسلم واحدا من أمته على خلاف مقتضى العموم – تخصيص لذلك العموم في حق ذلك الواحد، وأما في حق غيره فإن تبين في ذلك الواحد معنى حمل عليه كل من شاركه في تلك العلة، وإن لم يتبين، فالمختار عند ابن الحاجب أنه لا يتعدى إلى غيره، وخالفه المصنف في شرحه واختار التعميم وإن لم يظهر المعنى، ما لم يظهر ما يقتضي التخصيص ثم إن استوعبت الأفراد كلها فهو نسخ وإلا فتخصيص.
تنبيه: لم يذكر المصنف التخصيص بالإجماع مع أنه مذكور في (المختصر) و(المنهاج) لأن التخصيص في الحقيقة بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع وكان في أصل المصنف هنا: والأصح: أن مخالفة الأمة تتضمن ناسخا، ثم ضرب عليه، وألحقه بباب النسخ، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى.
وكان قياسه هنا أن يقول: إن عمل الأمة في بعض أفراد العام بما يخالفه يتضمن تخصيصا.
(ص) وإن عطف العام على الخاص ورجوع الضمير إلى البعض ومذهب الراوي ولو صحابيا وذكر بعض أفراد العام، لا يخصص.
(ش) فيه صور:
أحدها: عطف العام على الخاص لا يوجب تخصيص العام كقوله تعالى:{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} فكان هذا للمطلقات ثم قال:{وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}.
وهو عام في المطلقات، والمتوفى عنهن فلا يكون هذا العطف تخصيصا للعام كما لا يكون عطف الخاص على العام يوجب تخصيص العام، واعلم: أن هذه المسألة قل من ذكرها وقد وجدتها في كتاب أبي بكر القفال الشاشي في الأصول ومثلها بآية الطلاق الكريمة، أما عطف الخاص على العام، فلا يوجب تخصيص العام عندنا خلافا للحنفية، وقد سبقت في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهد)) ويمكن أن يجري هذا الخلاف في مسألة الكتاب، لأن المأخذ اشتراك المتعاطفين في الأحكام.
الثانية: إذا ذكر عاما ثم عقبه بضمير يختص ببعض ما تناوله – لم يوجب ذلك تخصيص العام. خلافا لإمام الحرمين كقوله تعالى:{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ثم قوله تعالى:{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} فإن ذلك يختص بالرجعيات فلا يوجب تخصيص التربص بهن بل يعم البائن والرجعية.
الثالث: مذهب الراوي سواء الصحابي وغيره لا يخصص العموم الذي رواه خلافا للحنفية.
والحنابلة وقال بعضهم: يخص مطلقا وإن كان غير صحابي، لأن المجتهد المتبحر في الأدلة يجوز أن يطلع على حديث. يدل على قرائن تدله على تخصيص ذلك العام، كما في الصحابي وبعضهم: إن كان الراوي صحابيا.
ولنا أن العموم حجة ومذهب الصحابي ليس بحجة فلا يجوز تخصيصه به, وإذا ثبت هذا في الصحابي فغيره أولى للاتفاق على أن قوله ليس بحجة والتخصيص بغير دليل لا يجوز، واعلم: أن ما صور به المصنف المسألة هو الصحيح، وبه صرح إمام الحرمين، لكن شرط كون الراوي من الأئمة ولم يذكر المصنف هذا القيد استغناء بقوله: (مذهب) وجعل الآمدي وابن الحاجب موضوعها في الصحابي يعمل بخلاف العام سواء كان هو الراوي للعام أم لا، لا في راوي الخبر مطلقا، وقصره القرافي على مخالفة الصحابي إذا كان راويا للعام، والأول أولى، فإن القائلين بأن مذهب الصحابي حجة، يخصون العموم به على خلاف فيه،وإن لم يكن راويا، ولهذا جعلها سليم الرازي في (التقريب) مسألتين:
إحداهما: التخصيص بقول الصحابي وخص الخلاف فيه بما إذا لم يعلم انتشاره وإن انتشر وانقرض العصر كان التخصيص به لأنه إما إجماع أو حجة.
الثانية: أنه يروي الصحابي خبراً عاما ثم يصرفه إلى الخصوص، فلا يحمل عليه على القول المزيد خلافا لأبي حنيفة، ومثل الماوردي المسألة بحديث (الولوغ) فإن أبا هريرة روى السبع، وأفتى بالثلاث، وبحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) فإن ابن عباس رواه، وأفتى بأن المرتدة لا تقتل وهذا الثاني أحسن، لأن الأول ليس من باب العموم، فإن قيل: قد خص الشافعي تحريم الاحتكار بالأقوات، لأن حديث: (من احتكر فهو خاطئ ) رواه سعيد بن المسيب وكان يحتكر الزيت فقيل له: فقال: إن معمرا راوي الحديث كان يحتكر. رواه مسلم قلنا: من هنا خرج بعضهم قولا للشافعي رضي الله عنه، أن مذهب الراوى يخصص العموم، لكن المعروف عنه: المنع، وكأنه استنبط من النص معنى يخصصه، ورأى العلة الاضرار، فخصه بالأقوات وعضد ذلك بمذهب الصحابي.
الرابعة: إذا حكم على العام بحكم، ثم أفرد منه فردا وحكم عليه، بذلك الحكم بعينه، فلا يكون ذلك تخصيصا للعام أي حكما على باقي أفراده بنقيض ذلك مثال قوله: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) مع قوله صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة: ((هلا أخذتم إهابها فدبغتموه)).
وقال أبو ثور: التعبير بذلك الفرد يدل بمفهومه على التخصيص وهذا ضعيف لأنه مفهوم لقب، و(الشاة) لقب وقد ينازع في هذا لأن الشاة لم تقع في لفظ الشارع وليس هذا من أبي ثور قولا بمفهوم اللقب كما توهم بعضهم، لأنه لا يعرف عنه القول به ولكنه يجعل ورود الخاص بعد تقدم العام قرينة في أن المراد بذلك العام هذا الخاص، ويجعل العام كالمطلق والخاص كالمقيد، وحينئذ فهو عنده من باب العام الذي أريد به الخصوص، لا من باب العام المخصوص فتفطن لذلك، ثم لا يخفى أن صورة المسألة إذا كان الخاص موافقا لحكم العام، فإن كان له مفهوم يخالفه كالصفة فهي مسألة تخصيص العموم بالمفهوم وقد سبقت
(ص) وإن العادة بترك بعض المأمور تخصص إن أقرها النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع وأن العام لا يقصر على المعتاد ولا على ما وراءه بل تطرح له العادة السابقة.
(ش) التخصيص بالعادة مما اختلف فيه نقل الإمام الرازي والآمدي وأتباعهما فذكر الإمام أن العادة تخصص، وعكس الآمدي وابن الحاجب فمن الناس من أجراه على ظاهره، ومنهم من حاول الجمع بينهما ظانا تواردهما على محل واحد والصواب أن للمسألة صورتين:
إحداهما: وهي التي تكلم فيها صاحب (المحصول) وأتباعه، أن يوجب النبي صلى الله عليه وسلم أو يحرم شيئا بلفظ عام، ثم يرى من بعد العادة جارية بترك بعضها أو بفعله، فالمختار كما قال في (المحصول): إنه إن علم جريان العادة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع عدم منعه منها فتخصيص والمخصوص في الحقيقة تقريره وإن علم عدم جريانها لم يخص إلا أن يجمع عليه فيصح ويكون المخصص هو الإجماع لا العادة، وإن جهل فاحتمالان.
الثانية: وهي التي تكلم فيها الآمدي وابن الحاجب، أن تكون العادة جارية على ورود العام بفعل معين كأكل طعام معين مثلا، ثم إنه – عليه السلام – ينهاهم عنه بلفظ يتناوله، كما لو قال: حرمت الربا في الطعام فهل يكون النهي مقتصرا على ذلك الطعام فقط أو يجري على عمومه ولا تأثير للعادة فيه؟ والحق الثاني وعندهم: إن الذي جرت به العادة مرادا قطعا، وإنما الخلاف في أن غيره هل هو مراد معه؟ وقال ابن دقيق العيد: الصواب التفصيل بين العادة الراجعة إلى الفعل وإلى القول فما رجع إلى الفعل يمكن أن يرجح فيه العموم على العادة مثل أن يحرم بيع الطعام بالطعام، وتكون العادة بيع البر، فلا يخص عموم اللفظ بهذه العادة الفعلية.
وأما ما يرجع إلى القول فمثل أن يكون أهل العرف اعتادوا تخصيص اللفظ ببعض موارده اعتيادا يسبق الذهن فيه إلى ذلك الخاص، فإذا أطلق اللفظ العام فيقوى تنزيله على الخاص المعتاد، لأن الظاهر أنه إنما يدل باللفظ على ما ساغ استعماله فيه، لأنه المتبادر إلى الذهن.
(ص) وإن نحو: (قضى بالشفعة للجار) لا يعم، وفاقا للأكثر.
(ش) لأن ما ذكره ليس لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بل حكاية فعله، ويحتمل أن يكون قضاؤه لجار كان بصفة يختص بها، وقد يتأيد بقول الشافعي رضي الله عنه، وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال وخالف ابن الحاجب: فاختار أنه يعم الجار مطلقا، وإنما ذكره الآمدي بحثا فأقامه ابن الحاجب مذهبا وارتضاه وقال: وقال الشيخ في (شرح العنوان): اختار بعض الفقهاء عموم نحو: (قضى بالشفعة للجار) على عدالة الصحابي، ومعرفته باللغة، ومواقع اللفظ، مع وجوب أن تكون الرواية على وفق السماع من غير زيادة ولا نقصان، ومنهم من قال: لا يعم، لأن الحجة في المحكي، ولا عموم للمحكي، والحق التفصيل: فإن كان المحي فعلا لو شوهد لم يجز حمله على العموم، فلذلك وجه وإن كان فعلا لو حكي لكان دالا على العموم، فعبارة الصحابي عنه يجب أن تكون مطابقة للقول لما تقدم من معرفته وعدالته.
تنبيهان:
الأول: قد يتخيل أن هذه المسألة مكررة مع قوله في باب العموم: (أن الفعل المثبت ليس بعام) وليس كذلك، ولهذا أطلق ابن الحاجب أن الفعل المثبت ليس بعام في أقسامه ثم ذكر (قضى بالشفعة للجار) واختار أنه يعم، والفرق أن الفعل لا صيغة له حتى يتمسك بعمومه، بخلاف القضاء والأمر والنهي، فإنه لا يصدر إلا عن صيغة وقد يفهم الراوي منها العموم فيرويه على ذلك.
الثاني: أن هذا لا يختص بـ (قضى) بل يجري في نحو نهى عن بيع الغرر ونكاح الشغار.
وأمر بقتل الكلاب كما قاله الغزالي وخالفه غيره، وقطع هنا بالتعميم لأن (أمر) و(نهى) عبارة عن أنه وقع منه خطاب بالتكليف، ولما لم يذكر مأمورا ولا منهيا علم أن المخاطب به الكل.