القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله ربِّ العالمين , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
باب الربا والصرْف
عن عمر بن الخطابرضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورِق ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر إلا هاء وهاء , والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء)) .
وعن أبي سعيد الخدريرضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل , ولا تشفوا بعضها على بعض , ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلا مثلا بمثل , ولا تشفوا بعضها على بعض , ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) . وفي لفظ: ((إلا يدًا بيد)) . وفي لفظ ((إلا وزنا بوزن , مثلا بمثل , سواء بسواء)) . والله أعلم .
الشيخ: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .
هذا الباب يتعلق بالربا والصرف ، الربا لغة: الزيادة والنمو , ومنه قول الله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} يعني نمت , ومنه تسمية المرتفع من الأرض الربوة [فآويناهما إلى ربوة]* الربوة هي المكان المرتفع الذي نبا عن غيره وربا عما سواه , وكذلك قوله تعالى:{كمثل جنة بربوة} أي بمكان مرتفع .
الربا في الشرع ، أو في الاصطلاح: هو زيادة في شيء مخصوص ، أي من المعاملات , وأصله أن أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بالبيع والشراء ونحوه ، فإذا حلَّ الدين قالوا لصاحبه: إما أن تعطي، وإما أن تربي , الدين الذي عليك ألف فإما أن تسلمه لنا الآن ، وإلا تركناه وزدنا عليك فيه , نؤجله سنة أخرى ونصيره ألفا ومائتين مثلا , فإذا حلت الألف والمائتان جاء إليه في السنة بعدها , فقال: إما أن تعطي ، وإما أن تربي , فإذا لم يجد قال: أزيده ثلاث مائة ليصبح ألفا وخمسمائة ، فإذا حلَّت جاء إليه وقال: إما أن تعطي ، وإما أن تربي , فإذا لم يجد زاده مثلا أربعمائة ليصبح ألفا وتسعمائة ، وهكذا يزداد الدين في ذمة المدين ويترابى .
قال الله تعالى: {ياأيها الذين أمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة} أي أنه يتضاعف, يتضاعف شيئا فشيئا , في كل سنة يزيد عدده ، يزداد ذلك الربا الذي في الذمة , فلأجل ذلك حرمه الله ؛ وذلك لما فيه من الإضرار على أولئك المساكين الذين في ذمتهم ذلك المال وذلك الدين , فإنه يزاد عليهم وهم لم ينتفعوا ، لم ينتفعوا بشيء ، بل يتضاعف عليهم , قال الله تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله}أي: ليكثر في أموال الناس , يعطيه مثلا مائة ويقول: أكتبها عليك بمائة وعشرة , فإذا حلّت قال: هي عليك بمائة وعشرين ، أو بمائة وثلاثين ، ثم بمائة وخمسين ، وهكذا يربو في أموال الناس ، يزيد في أموال الناس شيئا فشيئا , هذا هو الأصل في الربا .
ثم ذكر العلماء أن الربا ينقسم إلى قسمين: ربا فضل وربا نسيئة .
وربا النسيئة: هو الذي كان مشهورا قبل الإسلام ، وهو مشتق من النسأ الذي هو التأخير , نسأ الشيء يعنيأخره ؛ وذلك لأنهم يقولون: ننسأ الدين , يعني نؤخره ونزيد في قدره ، أو نعطيك هذا الصاع مثلا ونجعله بصاعين مؤخرين , ننسؤهما , نعطيك هذه المائة ونجعلها بمائتين أو بمائة وخمسين إلى أجل , هذا ربا نسيئة ، صفة أو صورة ذلك أن يعطيه هذا المال ويجعله بزيادة , أن يقول: أعطيك ألفا وأكتبها عليك بألف ومائتين مؤجلة لمدة شهر أو شهرين ، أو سنة أو سنتين , هذا ربا , ربا النسيئة .
ويدخل في ذلك جميع الأموال التي يمكن أن تقرض , حتى لو أعطاك مثلاً كبشًا وقال: بكبشين مؤجلين فإن ذلك على الصحيح ربا , ربا نسيئة , أو أعطاك ثوبا وقال: أكتبه بثوبي ,ن فهو مثلما إذا أعطاك ألفا وكتبه بألفين , كل ذلك من ربا النسيئة ، وإذا زاده عند حلوله فإنه ربا الجاهلية ، إذا زاده عندما يحل .
كذلك ربا الفضل , جاءت الأحاديث بالمنع من ربا الفضل ، وأنه داخل في النهي ، النهي الذي أكده الله ؛ وذلك لأنالله تعالى عظم شأن الربا , قال الله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}.
وتوعد الله عليه بقوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} , وهذا وعيد للكفار دل على أنه من كبائر الذنوب ، وأنهم يدخلون النار ، إلا أن يتوب الله عليهم ، أو أن يتوبوا , ولأجل ذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات: ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا..)) إلى آخره , فجعل أكل الربا من السبع الموبقات؛ اعتمادا على هذه الآية , حيث توعد الله عليه بالنار , وأخبر النبيصلى الله عليه وسلم بلعن من تعاطاه أو أعان عليه فقال: ((لعن الله آكل الربا وموكله , وكاتبه وشاهديه)) يعني أنهم تعاونوا عليه .
فلا جرم ..مِن هذه الأدلة شدد العلماء فيه , واستدلوا بالأدلة التي تحذر منه وتحرض على الابتعاد عنه والتحفظ عن تعاطيه , ولعل السبب أن فيه ظلم للعباد وبالأخص الفقراء والمستضعفون , وسواء كان ربا الفضل أو ربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية , كل ذلك لا شكَّ أنه ظلم للفقراء وتكثير للديون عليهم وإضرار بهم , سيما في وقت الحاجة .
الأحاديث التي سمعنا تتعلق بنوع من أنواع الربا ، وهو ربا الفضل ، وتتعلق بالصرف وهو أحد قسمي الباب فإن الباب معقود للربا والصرف .
الصرف: هو بيع نقد بنقد ، والنقود تختلف , يعني في هذه الدولة نقدان أصليان: نقد من الذهب وهو الجنيه السعودي ، ونقد من الفضة وهو الريال السعودي أو ما يقوم مقامه من الأوراق النقدية ، والنقد الثالث الذي هو الفلوس ، أو القروش , هذا أيضا ملحق بالنقد الفضي ؛ وذلك لأنه بدل عنه أو قائم مقامه أو فرع عنه , فبيع نقد بنقد يسمى صرفا , فلا بد فيه من التقابض, أن يكون يدًا بيد , فإذا اشتريت جنيهًا بدراهم فلابد من التقابض , ولمّا كان الجنيه معمولا من الذهب كان جميع الذهب ربويا , العلة فيه هي العلة في الجنيه وفي الدينار , فلا يباع الذهب إلا يدا بيد , إذا بيع بفضة أو بنقد آخر .
وفي الحقيقة الكلام في مثل هذا قد يحتاج إلى إطالة ، والمهم لنا أن نعرف أنك مثلا إذا اشتريت ذهبا فإنك تشتريه يدا بيد , فإن بقي عليك شيء فإنك تأخذه على أنه ذهب لا على أنه دراهم , مثال ذلك إذا اشتريت أسورة من الذهب التي تجعل في اليدين أو قلائد التي في الرقبة أو أقراط التي في الأذن أو خواتيم التي في الأصابع ، أو ما اشبهها من الذهب المصوغ الذي قد أصبح حليا يتحلى به , اشتريته وقيمته مثلا عشرة آلاف , ووزنه مثلا.. وزنه مائتا جرام ، أو نقول مثلا: ثلاثمائة جرام , لم تجد معك إلا نصف الثمن , ماذا يُكتب في ذمتك ؟ البائع لا يقول: في ذمتك ألف ونصف ، أو ثلاثمائة ، بل يكتب في ذمتك مائة وخمسون جرام ، فإذا أتيت لتقضيه فإن وجدت الذهب قد رخص فإنك تشتريه عن جديد برخص ، وإن كان قد ارتفع وغلي فإنك تشتريه شراء جديدا , ولو كان في ذمتك ولو كان في بيتك فتقول: عندي لك مائة وخمسون جرام من الذهب , كم قيمتها الآن ؟ هذه قيمتها معي , فإذا قال: ارتفعت قيمتها عن الأمس ، أو انخفضت تجددون لها قيمة.
فهذا هو السلامة من بيعها بثمن مؤجل , وهذا معنى قوله: ((لا تبيعوا منها غائبا بناجز)) كما سمعتم فيالحديث ، ((لا تبيعوا غائبا بناجز)) يعني إذا كان الذهب غائبا وبعتموه بناجز ، أو الفضة غائبة وبعتموها بناجز كان ذلك ربا .
وأما إذا كان أحدهما في الذمة فإنه يجوز المحاسبة عنه والبيع عنه , ولهذا قال في حديث ابن عمر: كنا نبيع الإبل بالبقيع فنبيع بالدراهم ونأخذ الدنانير , ونبيع بالدنانير ونأخذ الدراهم , فقال النبيصلى الله عليه وسلم: ((لا بأس ما لم تفترقا وبينكما شيء)) هذا صرف بعين وذمة فأصبح ذلك جائزًا .
وأما قوله: ((لاتشفوا بعضها على بعض)) قال ذلك في الذهب ، وكذلك في الفضة , أي لا تبيعوا منها كثيرًا بقليل, الإشفاف بمعنى الزيادة , ((لا تشفوا)) يعني لا تزيدوا , فلا تبيعوا مثلا حليًا قديما بحلي جديد أكثر قيمة , لا تقول مثلا: هذا حلي وزنه عشرين قيراط ، ولكنه مستعمل , بعني بدله خمسة عشر قيراط جديد , ما يجوز , لا بد أن يكون مثلا بمثل: عشرين بعشرين ، وإذا لم يوافق صاحب الذهب فإنك تبيعه المستعمل بدراهم ثم تشتري بالدراهم جديدا , فأما أن تقول: حلي بحلي أكثر منه أو أقل فهذا لا يجوز ، هذا معنى قوله: ((لا تشفوا بعضها على بعض)) هذا في الذهب .
وكذلك في الفضة . الفضة يصنع منها أيضا حلي , تصنع خواتيم من الفضة ، وتصنع أيضا خلاخل من الفضة ، وتصنع أيضا الأسورة: أسورة من الفضة ، ومع ذلك قد تباع بالفضة النقدية , بالريال النقدي الذي هو فضة ، أو ما يقوم مقامه من الأوراق النقدية , ومع ذلكلا يجوز أن يباع إلا مثلا بمثل أو بقيمته .
أما بيعه بالعروض فلا بأس ، لا بأس أن يباع بالعروض ، ولو غائبة , فلو مثلا اشتريت حلي, هذا الحلي الذي وزنه مثلا عشرون قيراطا اشتريته بخمسة أكياس رز جاز ولو كان الأرز غائبا ؛ لأنه ليس من جنسه .
أما الربويات الأخرى فقد ذكر العلماء ربا الفضل أنه ورد في ستة أشياء , ورد في الذهب والفضة , والبر والشعير والتمر والملح ، هكذا ورد في حديث عبادة , ومعناه أنك لا تبيع صاع بر بصاعين ، أو صاع تمر بصاعي تمر , ولو كان يدا بيد ؛ وذلك لأنه فيه ربا , الربا هو الزيادة ، فهذا صاع بصاعين , قد نهى عنه النبيصلى الله عليه وسلم , أرسل مرة بلالا يأتيه بتمر من تمر خيبر فجاءه بتمر جنيب , يعني جيد , وقال: إنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة , نشتري صاعا جيد بصاعين رديء , فقال: هذا عين الرباإذا أردت ذلك، إذا أردت أن تشتري من الطيب فبع التمر الذي معك بدراهم ، التمر الرديء ، وبعد ذلك تشتري بالدراهم تمرا جيدا جنيبا ، وكذلك سائر أنواع الربويات: إذا كنت عندك مثلا بر رديء وتريد طيبا ، فبع الرديء بدراهم وتشتري بالدراهم جيدًا ، ويلحق به أيضا كل المكيلات ، فالأرز مثلا يختلف, قد يكون عندك أرز رديء وأنت بحاجة إلى رز جيد , فتبيع الرديء بدراهم وتشتري بالدراهم من الذي تريده ، ومثله التمر لا يجوز أن تبيع صاعا بصاعين ولا كيلو بكيلوين تمر .
ومثله الزبيب لا يجوز أن تبيع زبيبا كيلو بكيلوين , وهكذا مثلا المكيلات كلها الذرة ، والدخن والعدس ، والفول ، والبن ، والقرنفل والهيل وما أشبهها , لا يجوز أن يباع منها إلا مثل بمثل .
وإن كان الناس لا يتعاملون بذلك عادة , لكن ينهى عن ذلك , الإنسان مثلا قد يكون عنده كيس من الهيل رديء، وهناك أناس آخرون يريدونه ؛ لأنه أرخص فيقولون: أعطنا هذا الكيس بنصف كيس , يقال: لا , بعه بدراهم واشتر بالدراهم من الجيد الذي تريده ، وهكذا كل الموزونات , كل شيء يوزن يباع بالوزن قديما مثل اللحوم والحديد والصفر والقطن ، والموزونات الأخرى بأنواعها ، لا شك أن فيها علة الربا , فيقال: كل شيء يكال أصلا فإنه لا يباع إلا مثلا بمثل ، وكل شيء يباع وزنا فإنه لا يباع إلا مثلا بمثل ، وأما الذي لايكال ولا يوزن كالأقمشة فهذه لا بأس بها , يجوز أن تبيع ثوبا بثوبين ، وكذلك الذي يباع بالعدد كالخضار التي تباع بالعدد كالقرع مثلا والبطيخ , يجوز أن تبيع واحدة باثنتين أو بثلاث ؛ وذلك لأنه ليس بمكيل ولا بموزون ، ولأنه يتسامح فيه .
وورد مثل ذلك أيضا في بيع الحيوان , ورد أنه يجوز أن تبيع مثلا شاة بشاتين ؛ لأنها قد تتفاوت ولا يكون ذلك ربا. فالحاصل أن هذا العلة وهو كون الشيء يكال أو يوزن أصلا لا يجوز بيع جنسه بجنسه إلا يدا بيد , ومثلابمثل .
أما إذا بيع بغير جنسه فيشترط فيه التقابض لقوله صلى الله عليه وسلم:((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) فإذا بعت تمرا بزبيب جاز التفاوت ولزم التقابض , فتقول مثلا: كيلو زبيب بثلاث كيلو تمر , لكن هاءوهاء، هاءوهاء: يعني خذ واعط , هاك وهات بلغة العامة ، يعني خذ وأعط , هذا معنى قوله:((هاءوهاء)) يعني حاضر بحاضر فلا يباع غائب بناجز ، وكذلك مثلا بر (برز) يجوز أن يباع صاع بصاعين ، وكذلك بر بشعير يجوز أن يباع صاع بصاعين ، ولكن لا بد أن يكون حالين حاضرين ((هاء وهاء)) أي خذ وأعط ؛ حتى لا يكون فيه ربا النسأ الذي هو التأخير, فنتفطن لهذا حتى لا نقع فيه ونحن لا نشعر .
ا هـ .
عمدة الأحكام
شريط (43) للشيخ: ابن جبرين
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر مرني , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أين هذا)) ؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((أوه , عين الربا لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به)) .
وعن أبي المنهال قال: قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما عن الصرف فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني ، وكلاهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورِق دينا .
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة ، والذهب بالذهب , إلا سواء بسواء , وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا , قال: فسأله رجل فقال: ((يدا بيد)) , فقال: هكذا سمعت .
الشيخ: هذه الأحاديث تتعلق بالربا ، أي بربا الفضل ، وتتعلق بالصرف , أما الربا قد عرفنا أنه ينقسم إلى ربا فضل وربا نسيئة , وهذه الأحاديث تتعلق بربا الفضل .
الحديث الأول: القصة أن بلالا قبض تمرا من خيبر من نصيب المسلمين ، ولما قبضه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد , فاستغرب هذا التمر , من أين ؟ وكأنهم يعرفون أن تمر خيبر الذي يقبض من أهلها أنه مجموع ومخلوط رديء وجيد ، ولكن استنكر هذا التمر الجيد فقال بلال: إني اشتريت صاعا بصاعين من هذا لأجل إطعامك من التمر الجيد , من التمر الطيب ، فعند ذلك قال: ((أوّه)) كلمة يعبر بها عن الإنكار ، أي أَنكر عليه ثم قال: ((عين الربا)) , هذا عين الربا , ويسمى ربا الفضل , أمره بعد ذلك أن يبيع التمر الرديء بدراهم ، ثم يشتري بالدراهم من التمر الطيب ؛ حتى يسلم من الربا , فكونه يأتي إلى بائع التمرالجيد ويقول: بعني صاع بصاعين , هذا ربا , لا يجوز التمر أن يباع بتمر إلا مثلا بمثل ولو اختلفت القيمة ، وهذا أيضا يدخل فيه جميع الربويات , فالبر بالبر لا تبيع صاعا بصاعين من البر ، ولا صاع رز بصاعين ولو كان أحدهما أغلى ثمنا , إذا كان عندك رز رديء وتريد رزا جيدا بعت من الرديء بالدراهم ثم تشتري ما تشاء ، وكذلك جميع المكيلات وجميع الموزونات , لا يباع جنس بجنسه إلا مثلا بمثل ، أو تبيع الرديء بدراهم وتشتري بالدراهم ما تريده من الجيد ، هكذا اتفقت هذه الأحاديث .
قد تقدم قوله عليه السلام: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل , يدا بيد)) إلى آخره , وقوله: ((لا تبع الذهب بالذهب إلا هاء وهاء)) يعني خذ وأعط يدا بيد مثلا بمثل , وكذلك الفضة بالفضة لا تباع إلا مثلا بمثل يدا بيد ؛ وذلك لأن ..حتى لا يكون فيها تفاوت , فلذلك يشترطون في المثليات التماثل والتقابض وفي غيرها التقايض . ونكمله بعد الأذان .
نقول: إن هذا قد يكون قليلا , يعني بيع الجنس بجنسه متساويا أو متفاضلا ، ولكن الذي يقع الناس فيه كثيرا هو بيعه بغير جنسه من المكيلات , فلا بد فيه من التقابض وإن لم يكن هناك تساو ، فإذا إذا بيع مثلا لحم بلحم فلا بد من التقابض , لحم إبل بلحم غنم يجوز فيه التفاوت ، كرطل غنم برطلين من لحم الأبل يجوز ولكن لا بد أن يكون يدا بيد ، وكذلك المكيلات يجوز صاع بر بصاعين من الشعير ، أو بصاعين من الأرز ؛ وذلك لأنهما جنسان فيجوز صاع بر بصاعين شعير أو نحوه ، أو صاع رز مثلا بصاعين شعير ؛ وذلك لأنهما جنسان ، ولكن لا بد من التقابض قبل التفرق , لا بد أن يكون يدا بيد .
وكذلك بقية المكيلات المختلفة ، فمثلا قد تحتاج إلى زبيب وليس عندك دراهم فتشتري الزبيب بالتمر ، فتشترى مثلا إذا كان بالكيل صاع زبيب بصاعين من التمر ، أو بالوزن رطل زبيب برطلين من التمر , يجوز ذلك ولكن يدا بيد , لا بد من التقابض ، ويقال هكذا في سائر المبيعات التي هي من الأجناس .
وقد عرفنا أن الذي يدخل في الربا هو ما كان مكيلا أو موزونا ، وأما الأشياء لا توزن عادة ولا تكال فلا بأس بالتفاوت ، وقد ذكرنا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص , أمره النبي صلى الله عليه وسلم مرة أن يجهز جيشا غزو , عددهم مثلا ستمائة , وكانت الإبل التي عندهم قدر أربعمائة أو خمسمائة , ما تكفي هذا العدد هذا الجيش الغزو , لا تكفيهم فقال له: اشتر على إبل الصدقة , إبل الصدقة تأتي بعد نصف سنة أو بعد ثمانية أشهر , لم يجد بدا من أن يشتري من الناس , فصار يشتري البعير بالبعيرين من إبل الصدقة ، حتى اشترى ما جهز به بقية ذلك الجيش .
فدل على أنه يجوز أن يشتري البعير بالبعيرين ولو كان أحدهما غائبا , إبل الصدقة غائبة ، فعلى هذا يجوز أن تشتري شاة بشاتين , سواء كانت حاضرة أو غائبة , وفرسا بفرسين ، وكذلك في الأدوات: سيارة بسيارتين , وكذلك في الأكسية: ثوب بثوبين حاضر أو غائب , لا بأس بذلك كله ؛ لأنه ليس مما يدخل في الربا.
نأتي إلى القسم الثاني في الباب ، وهو الصرف , فإن الباب معقود لأمرين: الربا والصرف ، ولا شك أيضا أن الصرف يكون فيه ربا , تعرفون أن الصرف هو بيع نقد بنقد ، وأن بيع النقود بالنقود كثيرا ما يحصل بينها تفاوت , ولو كان مسماها واحدا , فإن الزمن القديم كانت العملات تصنع من الذهب والفضة , فكل شيء يصنع من الذهب اسمه دنانير دينار , وما صنع من الفضة يسمى درهم دراهم , وما صنع من النحاس يسمى فلس , جمعه فلوس , ودانق جمعه دوانق .
وكلها يتعامل بها , إلا أن بعضها أقل قيمة ، فالفلوس أقل قيمة من الدراهم التي.. الفلوس من النحاس ، والفضة التي منها الدراهم أقل قيمة من الدنانير التي هي ذهب , فعلى هذا كان صرفهم ، صرف هذا الأشياء بعضها ببعض ، فيأتي بالفلوس التي تصنع من النحاس ، ومثلها أيضا في هذا الأزمنة القروش التي تصنع من المعدن يأتي بها ، ويقول: اصرفها لي بدراهم من الفضة ، أو يأتي صاحب الفضة بالدراهم ويقول: أريد أن تصرفها لي بفلوس , معلوم التفاوت بينها , مثلا عشرين قرشا بريال , وأربعين فلسا مثلا بدرهم , وهكذا يجوز أربعين بواحد يجوز ؛ لأن هذا نوع وهذا نوع ، ولكن لا بد من التقابض , لا بد أن يكون يدا بيد . وكذلك الذهب مع الفضة ، الفضة عرفنا أنها دراهم ، والذهب دنانير , يأتي صاحب الدينار ويقول: اصرف لي هذ الدينار بدراهم فيقول: قيمته عشرة دنانير أو عشرين دينارا فيقال: لا بد من التقابض يدا بيد ، هذا صرف النقود بعضها ببعض .
نقول: في هذا الأزمنة حلَّت محلها هذه الأوراق , هذه الأوراق النقدية قامت مقام الفضة في جميع الدول إلا ما شاء الله ، ولما قامت مقامها أصبحت نقدا , معلوم أن الأوراق لا قيمة لها , ولولا أن الحكومات أكدت التعامل بها وجعلتها قائمة مقام الفضه لَمَا قُُبلت , وجعلت عندها رصيدا لها من الفضة أو من الذهب , فعلى هذا تأخذ حكم الفضة في كونها يتعامل بها كما يتعامل بالفضة ويدخلها من الصرف ما يدخل الفضة , فلا بدَّ إذا صرفت بالدراهم أوصرفت بالدنانير لا بد من التقابض مع وجود التفاوت ، ولو اتَّفقت الأسماء , فمثلا عندنا الريال السعودي ، والريال اليمني ، والريال القطري , الاسم واحد ولكن بينها تفاوت , يجوز التفاوت , يجوز صرف الريال السعودي بثلاثة أو بأربعة ريالات يمنية أو قطرية ، ولكن لا بد من التقابض , لا بد أن يكون يدا بيد , هذا معنى قوله: ((هاء وهاء)) أي: خذ وأعط , فلا بد من التقابض قبل التفرق .
وكذلك سائر العمْلات , ولو اختلفت الأسماء , يجوز فيها التفاوت ، ومع ذلك لا بد من التقابض , فعندنا مثلا الدولار الأمريكي ، والدينار الكويتي أو العراقي ، والجنيه المصري أو السوداني , والليرة السورية أو التركية , والروبيَّة الهندية أو نحوها , لا شك أن هذه عملات وأنها أوراق تتعرض للتلف , يأتي عليها التلف: تغرق بالماء ، وتحرق بالنار ، وتحملها الرياح وتفرقها ، ولكن لمَّا كانت عملات قائمة مقام الذهب والفضة جُعل لها قيمة , فأخذت مأخذ أصلها وهو الفضة , فلزم عند صرف بعضها ببعض التقابض قبل التفرُّق ، فإذا أردت صرف الريال السعودي بالليرة السورية مثلا فلا بد من التقابض , خذ وأعط , أو أردت صرف الجنية السعودي بالجنيه المصري فلا بد من التقابض مع وجود التفاوت ، ولو كان الاسم واحد التفاوت كثير ، ولو كان هذا جنيه وهذا جنيه , لا بد من التقابض قبل التفرق , خذ وأعط .
كذلك نقول في البيع , بعد أن فهمنا تحويل أو صرف العملات بعضها ببعض أنه لا بد فيه من التقابض – ذهب.. أو أجاز بعض المشايخ عند الحوالة الاكتفاء بالأسناد ، أو بما يسمى الشيكات , وجعلوا ذلك قائما مقام التقابض ؛ وذلك لأنه قد لا يتيسر , قد لا يتيسر وجود العملة الثانية التي يريد صرْفها ، فمثلا الحوالة: حوالة ريالات سعودية ألف ريال إلى بلاد أخرى كمصر أو سوريا قبْل أن يحولها ..قبل أن يرسلوها يحولوها من الريال إلى الليرة أو إلى جنيه , ما يسلموك نفس الجنيه المصري يقولون: ليس موجودا عندنا ، إنما هو موجود في فرعنا الذي في مصر أو في دمشق , يسلمون لك شيك .
فبعض المشايخ جعل هذا الشيك قائما مقام النقد , وجعله كافيا في القبض , وتسهلوا في ذلك ؛ وذلك للمشقة . وبعضهم يقول: إذا أردت الحوالة فاجعلها عندهم أمانة , إذا أردت أن تحوِّل خمسة آلاف ريال إلى مصر فليقبضوا منك الخمسة ويعطوك سندا بخمسة آلاف , عندنا لفلان خمسة آلاف يقبضها أو يقبض قيمتها في القاهرة ، يقبض قيمتها في القاهرة , جئت ..قيمتها في هذا اليوم مثلا خمسة الآلاف بثلاثة آلاف جنية مصري , ذهبت إلى فرعهم في مصر وقلت: عندكم لي خمسة آلاف ريال سعودي أعطوني بدلها جنيها مصري قبل خمسة أيام وقيمتها ثلاث آلاف وخمسمائة قالوا: الآن قيمتها نقصت , نقصت قيمتها فلا تساوي خمسة الآلالف إلا ثلاثة آلاف , ماذا تقبض منهم ؟ هل تقبض ثلاثة ونصف بسعرها عندما سلمت لهم الخمسة آلاف ؟ لا , ليس لك إلا سعرها في الوقت الحاضر الذي سلمت لك وهو ثلاثة آلاف . وكذلك لو ارتفعت , لو أعطيتهم خمسة آلاف وقيمتها في ذلك اليوم ثلاثة آلاف وذهبت إلى مصر ووجدت قيمتها أربعة آلاف- لك أربعة آلاف جنيه ، يعني لك قيمتها في وقت القبض .
وعلى هذا يسلم الواحد من الربا . إذا حولت دراهم إلى بلاد أخرى فيها الجنيه مثلا ، أو فيها الليرة ، أو نحو ذلك فحولها بالريالات السعودية ، ثم هناك يقبضونها بقيمتها ، لكن قد يقول أهل المصارف: لا يمكن أن نرسلها بدون مصلحة , نحن نريد المصلحة . نقول: لا شك أنكم تأخذون مصلحة , فإنهم يأخذون مصلحة حتى في البلد الواحد , أنت مثلا الآن معك جنيه سعودي أتيت به صاحبَ المصرف فقال: آخذه منك بخمسمائة , أخذت الخمسمائة , رجعت إليه بعد يوم وقلت بعني جنيه فقال: أبيعك بخمسمائة وخمسين ، صحيح إنه ما صرف عليك إلا ليربح , اشتراه منك بأربعمائة وخمسين ، وباعك أو باع غيرك بخمسمائة , وهكذا فأهل المصارف لا بد أنهم يربحوا , إن ربحوا هنا أو ربحوا هناك , والمصلحة لهم , فهذا يسلمون به من الربا في الصرف .
نأتي على البيع , بيْعُ الذهب مشتهر , أي الذهب المصوغ , معلوم أن الذهب المصوغ والفضة المصوغة لها قيمة تزيد على قيمتها عندما كانت تبراً , لا شكَّ أن الصياغة لها قيمة , فأنت مثلا إذا كان عندك قطع ذهب , سبائك ذهب , وجئت إلى الصائغ وأمرته بأن يصوغها لك حليا: قلائد أسورة خواتيم أقراط شيء مما يتحلى به , لا شك أنه لا يصرف ويصوغه لك إلا بمصلحة يقول: أُُُُُُُُُُجرتي على هذا مائة أو ألف , قيمته مثلا عشرين ألف يأخذ عليه مثلا ألف صياغة , الآن أنت تريد بيعه بذهب . نقول ..بعض العلماء يقول: يجوز بيعه بذهب زائد على وزنه , إذا كان وزنه مثلا ربع كيلو و(بتبيعه) بذهب مضروب جنيهات مثلا ، فيجوز أن تزيد فيه , تقول: هذا يستعمل وهذا ما يستعمل إلا نقود .
ولكن الصحيح أنه لا يباع إلا بمثله , وإذا أراد الفائدة فيبيعه بغير جنسه , يبيعه بفضة أو بأوراق نقدية ، أو نحو ذلك .
وهكذا أيضا كثيرا ما يحدث شراء الحليِّ بثمن مؤجل ، وهذا لا يجوز , الحليُّ من النقود , أصله نقود فلا يجوز بيعه إلا مثلا بمثل .. إلا يدا بيد , يجوز بيعه يدا بيد . لكن إذا لم يكن معك نقود , دخلت تشتري لك قلائد أو نحوها وجدت قيمتها ..وجدت وزنها مثلا مائة جرام وقيمتها عشرون ألفا نظرت وإذا معك عشرة آلاف أخذت القلائد مائة جرام وأعطيته عشرة آلاف ....
الوجـه الثانـي
أين العشرة الأخرى ؟ ليست معي , ماذا يكتب في ذمتك ؟ لا يكتب في ذمتك عشرة ، بل يكتب في ذمتك مائة جرام , مائة جرام من الذهب عيار كذا وكذا , سباكته كذا وكذا , أتيته بالقيمة بعد خمسة أيام وجدت خمسين جرام قيمتها اثنا عشر ألف , يطالبك باثنا عشر ألف ، أو قيمتها ثمانية آلاف لا يستحق عليك إلا ثمنها وقت الوفاء , اكتبها في ذمتك ذهب لا تكتبها دراهم ؛ حتى لا يكون بيع ذهب بفضة مع عدم التقابض وتكون في ذمتك ذهب , فبهذا يسلم المتبايعان من الوقوع في المخالفات .