دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > النحو والصرف > ألفية ابن مالك

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12 ذو الحجة 1429هـ/10-12-2008م, 04:32 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي مواضع الإتيان بالضمير المنفصل والضمير المتصل


وفي اختيارٍ لا يَجيءُ المنفَصِلْ = إذا تَأَتَّى أنْ يَجـيءَ المُتَّصِـلْ
وصِلْ أو افْصِلْ هاءَ سَلْنِيهِ ومَا =أَشْبَهَهُ في كُنْتُهُ الخُلْفُ انْتَمَـى
كـذاكَ خِلْتَنِيـهِ واتِّصَـالَا =أَخْتَارُ غيْرِي اختارَ الِانْفِصَـالَا


  #2  
قديم 19 ذو الحجة 1429هـ/17-12-2008م, 10:34 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح ابن عقيل (ومعه منحة الجليل للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)

وفي اختيارٍ لا يَجِيءُ المُنْفَصِلْ = إِذَا تَأَتَّى أنْ يَجِيءَ المُتَّصِلْ ([1])
كلُّ مَوْضِعٍ أَمْكَنَ أنْ يُؤْتَى فيه بالضميرِ المُتَّصِلِ لا يَجُوزُ العُدُولُ عنه إلى المُنْفَصِلِ، إلاَّ فيما سَيَذْكُرُه المُصَنِّفُ، فلا تقولُ في أَكْرَمْتُكَ: (أَكْرَمْتُ إِيَّاكَ)؛ لأنَّه يُمْكِنُ الإتيانُ بالمتَّصِلِ، فتقولُ: أَكْرَمْتُكَ.
فإنْ لَمْ يُمْكِنِ الإتيانُ بالمُتَّصِلِ تَعَيَّنَ المنفصِلُ، نحوُ: إيَّاكَ أَكْرَمْتُ ([2])، وقد جاءَ الضميرُ في الشِّعْرِ مُنْفَصِلاً معَ إمكانِ الإتيانِ به مُتَّصِلاً؛ كقولِهِ:
15- بالباعِثِ الوارِثِ الأمواتَ قَدْ ضَمِنَتْ = إيَّاهُمُ الأَرْضُ فِي دَهْرِ الدَّهَارِيرِ ([3])

وصِلْ أَوِ افْصِلْ هَاءَ سَلْنِيهِ وَمَا = أَشْبَهَهُ فِي كُنْتُهُ الْخُلْفُ انْتَمَى ([4])
كَذَاكَ خِلْتَنِيهِ وَاتِّصَالاَ = أَخْتَارُ، غَيْرِي اخْتَارَ الانْفِصَالاَ ([5])
أشارَ في هذيْنِ البيتيْنِ إلى المواضِعِ التي يَجُوزُ أنْ يُؤْتَى فيها بالضميرِ مُنْفَصِلاً، معَ إمكانِ أنْ يُؤْتَى به مُتَّصِلاً.
فأشارَ بقولِه: (سَلْنِيهِ) إلى ما يَتَعَدَّى إلى مفعوليْنِ، الثاني مِنهما ليسَ خَبَراً في الأصلِ، وهما ضميرانِ، نحوُ: (الدِّرْهَمُ سَلْنِيهِ)، فيَجُوزُ لكَ في هاءِ (سَلْنِيهِ) الاتِّصالُ، نحوُ: سَلْنِيهِ، والانفصالُ، نحوُ: سَلْنِي إيَّاهُ، وكذلك كلُّ فِعْلٍ أَشْبَهَهُ، نحوُ: الدِّرْهَمُ أَعْطَيْتُكَهُ، وأَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ.
وظاهرُ كلامِ المصنِّفِ: أنه يَجُوزُ في هذه المسألةِ الانفصالُ والاتِّصالُ على السَّوَاءِ، وهو ظاهرُ كلامِ أكثرِ النَّحْوِيِّينَ، وظاهرُ كلامِ سِيبَوَيْهِ أنَّ الاتِّصالَ فيها واجبٌ، وأنَّ الانفصالَ مخصوصٌ بالشِّعْرِ.
وأشارَ بقَوْلِهِ: (في كُنْتُهُ الخُلْفُ انْتَمَى) إلى أنه إذا كانَ خبرُ (كانَ) وأَخَوَاتِهَا ضميراً، فإنَّه يَجُوزُ اتصالُه وانفصالُه، واخْتُلِفَ في المُختارِ منهما؛ فاختارَ المصنِّفُ الاتصالَ، نحوُ: كُنْتُهُ، واخْتَارَ سِيبَوَيْهِ الانفصالَ، نحوُ: كُنْتُ إيَّاهُ ([6])، تقولُ: الصديقُ كُنْتُهُ، وكُنْتُ إِيَّاهُ.
وكذلك المُختارُ عندَ المصنِّفِ الاتصالُ في نحوِ: (خِلْتَنِيهِ) ([7])، وهو كلُّ فعلٍ تَعَدَّى إلى مفعوليْنِ الثاني مِنهما خبرٌ في الأصلِ، وهما ضَمِيرَانِ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّ المُخْتَارَ في هذا أيضاً الانفصالُ، نحوُ: خِلْتَنِي إيَّاهُ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَرْجَحُ؛ لأنَّه هو الكثيرُ في لسانِ العربِ على ما حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عنهم، وهو المُشَافِهُ لهم؛ قالَ الشاعِرُ:
16- إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا = فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ([8])

([1]) (وفي اخْتِيَارٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٍ مِن فاعِلِ يَجِيءُ الآتِي، (لا) نافيَةٌ، (يَجِيءُ) فعلٌ مضارعٌ، (المُنْفَصِلْ) فاعلُ يَجِيءُ، (إِذَا) ظرفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِن الزمانِ، (تَأَتَّى) فعلٌ ماضٍ (أَنْ) حرفٌ مصدريٌّ ونَصْبٍ، (يَجِيءَ) فعلٌ مضارِعٌ منصوبٌ بأنْ، (المُتَّصِلْ) فاعلُ يَجِيءَ، وأنْ وما دَخَلَتْ عَلَيْهِ في تأويلِ مصدرٍ؛ فاعلِ تَأَتَّى، والتقديرُ: إذا تَأَتَّى مجيءُ المتَّصِلِ، والجملةُ من تَأَتَّى وفاعلِه في محلِّ جرٍّ بإضافةِ إذا إليها، وجوابُ إذَا محذوفٌ لدَلالةِ ما قبلَه عليه، والتقديرُ: إذَا تَأَتَّى مجيءُ المتَّصِلِ فلا يَجيءُ المنفصِلُ.
([2]) اعْلَمْ أنه يَتَعَيَّنُ انفصالُ الضميرِ، ولا يُمْكِنُ المجيءُ به متَّصِلاً، في عَشَرَةِ مواضِعَ:

الأوَّلُ: أنْ يكونَ الضميرُ محصوراً؛ كقولِهِ تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، وكقولِ الفَرَزْدَقِ:
أنا الذَّائِدُ الحَامِي الذِّمَارَ وإنَّمَا = يُدَافِعُ عنْ أَحْسَابِهِم أنَا أو مِثْلِي
إذِ التقديرُ: لا يُدَافِعُ عن أحسابِهم إلاَّ أنا أو مِثْلِي.
ومِن هذا النوعِ قولُ عمرِو بنِ مَعْدِ يَكْرِبَ الزُّبَيْدِيِّ:
قدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا = ما قَطَّرَ الفَارِسَ إلاَّ أَنَا
الثاني: أنْ يكونَ الضميرُ مرفوعاً بمصدرٍ مضافٍ إلى المنصوبِ به، نحوُ: (عَجِبْتُ مِن ضَرْبِكَ هو) وكقولِ الشاعرِ:
بِنَصْرِكُمْ نَحْنُ كُنْتُمْ فَائِزِينَ، وقَدْ = أَغْرَى العِدَى بِكُمُ اسْتِسْلاَمُكُمْ فَشَلاَ.
الثالثُ: أنْ يكونَ عاملُ الضميرِ مُضْمَراً، نحوُ قولِ السَّمَوْءَلِ:
وإنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ على النفسِ ضَيْمَهَا = فليسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ
كقولِ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ:
فإنْ أنتَ لم يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ فانْتَسِبْ = لَعَلَّكَ تَهْدِيكَ القُرُونُ الأَوَائِلُ
الرابعُ: أنْ يكونَ عاملُ الضميرِ متأخِّراً عنه؛ كقولِهِ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وهذا هو الموضِعُ الذي أشارَ إليه الشارِحُ.
الخامِسُ: أنْ يكونَ عاملُ الضميرِ مَعْنَوِيًّا، وذلكَ إذا وقَعَ الضميرُ مبتدأً، نحوُ: (اللَّهُمَّ أَنَا عَبْدٌ أَثِيمٌ، وَأَنْتَ مَوْلًى كَرِيمٌ) ومِنه (أَنَا الذَّائِدُ) في بيتِ الفرزدقِ السابقِ.
السادسُ: أنْ يكونَ الضميرُ مَعْمُولاً لحرفِ نفيٍ؛ كقولِهِ تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}، {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}، {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ{إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ}، وكقولِ الشاعرِ:
إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ = إِلاَّ عَلَى أَضْعَفِ الْمَجَانِينِ
السابعُ: أنْ يُفْصَلَ بينَ الضميرِ وعاملِه بمعمولٍ آخرَ؛ كقولِهِ تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}، وكقولِ الشاعرِ:
مُبَرَّأ مِن عُيُوبِ الناسِ كُلِّهِمُ = فَاللهُ يَرْعَى أَبَا حَفْصٍ وَإِيَّانَا
الثامِنُ: أنْ يَقَعَ الضميرُ بعدَ واوِ المَعِيَّةِ، كقولِ أبي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيِّ:
فآلَيْتُ لا أَنْفَكُّ أَحْذُو قَصِيدَةً = تَكُونُ وإيَّانَا بِهَا مَثَلاً بَعْدِي
التاسعُ: أنْ يَقَعَ الضميرُ بعدَ (أَمَّا) نحوُ: (أمَّا أنا فشاعرٌ، وأمَّا أنتَ فكاتبٌ، وأمَّا هو فنَحْوِيٌّ).
العاشِرُ: أنْ يَقَعَ بعدَ اللامِ الفارِقَةِ، نحوُ قولِ الشاعرِ:
إنْ وَجَدْتُ الصَّدِيقَ حَقًّا لإِيَّا = كَ، فمُرْنِي فَلَنْ أَزَالَ مُطِيعَا
وسَيَأْتِي مَوْضِعٌ ذَكَرَ تفصيلَه المصنِّفُ والشارِحُ.

([3]) البيتُ مِن قَصِيدَةٍ للفَرَزْدَقِ، يَفْتَخِرُ فيها، ويَمْدَحُ يَزِيدَ بنَ عبدِ الملكِ بنِ مَرْوَانَ، وقبلَه.
يا خَيْرَ حَيٍّ وَقَتْ نَعْلٌ لَهُ قَدَماً = ومَيِّتٍ بَعْدَ رُسْلِ اللهِ مَقْبُورِ
إنِّي حَلَفْتُ ولم أَحْلِفْ على فَنَدٍ = فِنَاءِ بَيْتٍ مِن الساعِينَ مَعْمُورِ
اللغةُ: (الباعثُ) الذي يَبْعَثُ الأمواتَ ويُحْيِيهم بعدَ موتِهِم، (الوَارِثُ) هو الذي تَرْجِعُ إليه الأملاكُ بعدَ فَناءِ المُلاَّكِ (ضَمِنَتْ) بكسرِ الميمِ مخفَّفَةً ، بمعنَى تَضَمَّنَتْ؛ أي: اشْتَمَلَتْ أو بمعنَى تَكَفَّلَتْ بِهِم، (الدَّهَارِيرِ) الزمنُ الماضي، أو الشدائدُ، وهو جمعٌ لا واحِدَ له مِن لَفْظِهِ.
الإعرابُ: (بالباعثِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِهِ: (حَلَفْتُ) في البيتِ الذي أَنْشَدْنَاهُ قبلَ هذا البيتِ، و(الأمواتَِ) يجوزُ فيه وجهانِ:
أحدُهما: جَرُّه بالكسرةِ الظاهرةِ على أنه مضافٌ إليه، والمضافُ هو الباعثِ والوارِثِ على مِثالِ قولِه:
يَا مَن رَأَى عَارِضاً أُسَرُّ لَهُ = بَيْنَ ذِرَاعَيْ وجَبْهَةِ الأَسَدِ
وقولِهِم: (قَطَعَ اللهُ يدَ ورِجْلَ مَن قَالَها).
والوجهُ الثاني: نَصْبُ الأمواتِ بالفتحةِ الظاهرةِ على أنه مفعولٌ به تَنَازَعَه الوصفانِ فأُعْمِلَ فيه الثاني وحُذِفَ ضميرُه من الأوَّلِ لكونِه فَضْلَةً، (ضَمِنَتْ) ضَمِنَ: فعلٌ ماضٍ، والتاءُ للتأنيثِ، (إِيَّاهُمُ) مفعولٌ به تَقَدَّمَ على الفاعلِ، (الأَرْضُ) فاعلُ ضَمِنَ، (في دَهْرِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بضَمِنَتْ، ودَهْرِ مضافٌ و(الدَّهَارِيرِ) مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (ضَمِنَتْ إِيَّاهُم) حيثُ عَدَلَ عن وَصْلِ الضميرِ إلى فَصْلِه، وذلكَ خاصٌّ بالشِّعْرِ، ولا يَجُوزُ في سَعَةِ الكلامِ، ولو جاءَ به على ما يَسْتَحِقُّه الكلامُ لقالَ: (قد ضَمِنَتْهُمُ الأرضُ).
ومثلُ هذا البيتِ قولُ زِياَدِ بنِ مُنْقِذٍ العَدَوِيِّ التَّمِيمِيِّ مِن قَصيدةٍ له يَقولُها في تَذَكُّرِ أهلِه والحنينِ إلى وَطَنِه، وكانَ قد نَزَلَ صَنْعَاءَ فاسْتَوْبَأَهَا، وكانَ أهلُه بنَجْدٍ في وادِي أُشَيٍّ ـ بزِنَةِ المُصَغَّرِ (وانظر 1/ 65 من كتابِنا: هِدَايَةِ السالِكِ إلى أَوْضَحِ المسالِكِ ـ 1 / 90 مِن كِتَابِنَا: عُدَّةِ السالِكِ):
وما أُصَاحِبُ مِنْ قَوْمٍ فَأَذْكُرُهُمْ = إِلاَّ يَزِيدُهُمُ حُبًّا إِلَيَّ هُمُ
فقدْ جاءَ بالضميرِ مُنْفَصِلاً، وهو قولُه: (هُمُ) في آخرِ البيتِ، وكانَ مِن حَقِّه أنْ يَجِيءَ به مُتَّصِلاً بالعاملِ ، وهو قولُه: (يَزِيدُ) ، ولو جاءَ به على ما يَقْتَضِيهِ الاستعمالُ لقالَ: (إلاَّ يَزِيدُونَهم حُبًّا إِلَيَّ).
ومثلُ ذلكَ قولُ طَرَفَةَ بنِ العَبْدِ البَكْرِيِّ:
أَصَرَمْتَ حَبْلَ الوَصْلِ بَلْ صَرَمُوا = يا صاحِ بل قَطَعَ الوِصَالَ هُمُ
وكانَ مِن حقِّهِ أنْ يقولَ: (بل قَطَعُوا الوِصَالَ) لكنَّهُ اضْطُرَّ ففَصَلَ.
([4]) (وَصِل) الواوُ للاستئنافِ، صِلْ: فِعْلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، (أو) حرفُ عطفٍ دالٌّ على التخييرِ، (افْصِلْ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، وجملةُ افْصِلْ معطوفةٌ على جملةِ صِلْْ، (هاءَ) مفعولٌ به تَنَازَعَهُ الفِعلانِ، فأُعْمِلَ فيه الثاني، وهاءَ مضافٌ و(سَلْنِيهِ) قُصِدَ لفظُه: مضافٌ إليه، (وَمَا) الواوُ حرفُ عطفٍ، ما: اسمٌ موصولٌ معطوفٌ على سَلْنِيهِ، (أَشْبَهَهُ) أَشْبَهَ: فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى ما، والهاءُ مفعولٌ به، والجملةُ لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةُ ما، (في كُنْتُهُ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بانْتمَى الآتي، (الخُلْفُ) مبتدأٌ، (انْتَمَى) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى الخُلْفُ، والجملةُ مِن انْتَمَى وفاعلِه في محَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، وانْتَمَى معناه انْتَسَبَ، والمرادُ أنَّ بينَ العلماءِ خلافاً في هذه المسألةِ، وأنَّ هذا الخلافَ معروفٌ، وكلُّ قولٍ فيه معروفُ النسبةِ إلى قائلِه.
([5]) (كَذَاكَ) الجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ مقدَّمٍ، والكافُ حرفُ خِطابٍ، (خِلْتَنِيهِ) قُصِدَ لفظُه: مُبْتَدَأٌ مؤخَّرٌ، (واتِّصَالاَ) الواوُ عاطفةٌ، اتِّصَالاَ: مفعولٌ مقدَّمٌ لأَخْتَارُ، (أَخْتَارُ) فعلٌ مضارِعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه أنا، (غَيْرِي) غيرِ: مبتدأٌ وغيرِ مضافٌ والياءُ التي للمُتَكَلِّمِ مُضافٌ إليه، (اخْتَارَ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ لغَيْرِي، والجملةُ مِن اخْتَارَ وفاعِلِه في مَحَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، (الانْفِصَالاَ) مفعولٌ به لاخْتَارَ، والألفُ للإطلاقِ.
([6]) قد وَرَدَ الأمرانِ كثيراً في كلامِ العربِ، فمِن الانفصالِ قولُ عُمَرَ بنِ أبي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيِّ:
لَئِنْ كانَ إيَّاهُ لَقَدْ حَالَ بَعْدَنَا = عَنِ الْعَهْدِ، والإنسانُ قَدْ يَتَغَيَّرُ
وقولُ الآخَرِ:
ليسَ إيَّايَ وَإِيَّا = كَ، ولا نَخْشَى رَقِيبَا
ومِن الاتِّصالِ قولُ أبي الأسودِ الدُّؤَلِيِّ يُخاطِبُ غلاماً له كانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ فيَضْطَرِبُ شأنُه وتَسُوءُ حَالُه:
فإنْ لا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ = أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
وقولُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمرَ بنِ الخَطَّابِ في شأنِ ابنِ الصَّيَّادِ: ((إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)). ومِنه الشاهدُ رَقْمُ 17 الآتِي في ص 68.
([7]) قدْ وَرَدَ الأمرانِ في فَصيحِ الكلامِ أيضاًً؛ فمِن الاتصالِ قولُه تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً}.
وقولُ الشاعرِ:
بُلِّغْتُ صُنْعَ امْرِئٍ بَرٍّ إِخَالُكَهُ = إذْ لَمْ تَزَلْ لاكْتِسَابِ الحَمْدِ مُبْتَدِرَا
ومن الانفصالِ قولُ الشاعرِ:
أَخِي حَسِبْتُكَ إِيَّاهُ، وقدْ مُلِئَتْ = أَرْجَاءُ صَدْرِكَ بالأَضْغَانِ والإِحَنِ
([8]) هذا البيتُ قِيلَ: إنَّه لدَيْسَمِ بنِ طَارِقٍ أحدِ شُعَرَاءِ الجاهليَّةِ، وقد جَرَى مَجْرَى المَثَلِ، وصارَ يُضْرَبُ لكلِّ مَن يُعْتَدُّ بكلامِه، ويُتَمَسَّكُ بمقالِه، ولا يُلْتَفَتُ إلى ما يَقُولُ غيرُه، وفي هذا جاءَ به الشارِحُ، وهو يُرِيدُ أنَّ سِيبَوَيْهِ هو الرجلُ الذي يُعْتَدُّ بقولِه، ويُعْتَبَرُ نَقْلُه؛ لأنَّه هو الذي شَافَهَ العربَ، وعنهم أَخَذَ، ومِن أَلْسِنَتِهِمُ اسْتَمَدَّ.
المفرداتُ: (حَذَامِ) اسمُ امرأةٍ، زَعَمَ بعضُ أربابِ الحَوَاشِي أنَّها الزَّبَّاءُ، وقالَ: وقيلَ غَيْرُها. ونقولُ: الذي عليه الأُدَبَاءُ أنها زَرْقَاءُ اليَمَامَةِ، وهي امرأةٌ مِن بَنَاتِ لُقْمَانَ بنِ عَادٍ، وكانَتْ مَلِكَةَ اليَمَامَةِ، واليمامةُ اسْمُها، فسُمِّيَتِ البلدُ باسْمِها، زَعَمُوا أنها كانَتْ تُبْصِرُ مِن مَسِيرَةِ ثلاثةِ أيَّامٍ، وهي التي يُشِيرُ إليها النابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ في قَوْلِهِ:
واحْكُمْ كحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ = إلى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ
قالَتْ أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامُ لَنَا = إلى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفَهُ فَقَدِ
الإعرابُ: (إذا) ظرفٌ تَضَمَّنَ معنى الشرطِ، (قَالَتْ) قالَ: فعلٌ ماضٍ، والتاءُ للتأنيثِ، (حَذَامِ) فاعلُ قالَ، مبنيٌّ على الكسرِ في محلِّ رفعٍ، (فَصَدِّقُوهَا) الفاءُ واقعةٌ في جوابِ إذَا، وصَدِّق: فعلُ أمرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ، والواوُ فاعلٌ، وها: مفعولٌ به، (فَإِنَّ) الفاءُ للعطفِ، وفيها معنى التعليلِ، وإنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ، (الْقَوْلَ) اسمُ إنَّ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، (ما) اسمٌ موصولٌ خبرُ إنَّ، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رَفْعٍ، (قَالَتْ) قالَ: فعلٌ ماضٍ، والتاءُ للتأنيثِ، (حَذَامِ) فاعلُ قالَتْ، والجملةُ من الفعلِ الذي هو قالَ والفاعلِ لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةُ الموصولِ، والعائدُ محذوفٌ؛ أي: ما قالَتْهُ حَذَامِ.
التمثيلُ به: قد جاءَ الشارِحُ بهذا البيتِ وهو يَزْعُمُ أنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَرْجَحُ مِمَّا ذَهَبَ إليه الناظِمُ، وكأنَّه أرادَ أنْ يُعَرِّفَ الحقَّ بأنْ يكونَ مَنْسُوباً إلى عالِمٍ جَلِيلٍ كسِيبَوَيْهِ، وهي فِكْرَةٌ لا يَجُوزُ للعلماءِ أنْ يَتَمَسَّكُوا بها.
ثمَّ إنَّ الأرجحَ في هذه المسألةِ ليسَ هو ما ذَهَبَ إليه سِيبَوَيْهِ والجمهورُ، بل الأرجحُ ما ذَهَبَ إليه ابنُ مالِكٍ، والرُّمَّانِيُّ، وابنُ الطَّرَاوَةِ مِن أنَّ الاتصالَ أرجحُ في خبرِ كانَ وفي المفعولِ الثاني من مفعولَيْ ظَنَّ وأَخَوَاتِها؛ وذلك مِن قِبَلِ أنَّ الاتصالَ في البابيْنِ أكثرُ وُرُوداً عن العربِ، وقد وَرَدَ الاتصالُ في خبرِ (كانَ) في الحديثِ الذي رَوَيْنَاهُ لكَ، ووَرَدَ الاتصالُ في المفعولِ الثاني مِن بابِ ظَنَّ في القرآنِ الكريمِ فيما قد تَلَوْنَا مِن الآياتِ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الانفصالُ في أحدِ البابيْنِ أصلاً، وبحَسْبِكَ أنْ يكونَ الاتصالُ هو الطريقَ الذي اسْتَعْمَلَه القرآنُ الكريمُ باطِّرَادٍ.


  #3  
قديم 19 ذو الحجة 1429هـ/17-12-2008م, 10:45 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي أوضح المسالك لجمال الدين ابن هشام الأنصاري (ومعه هدي السالك للأستاذ: محمد محيي الدين عبد الحميد)

فَصْلٌ:
الْقَاعِدَةُ أَنَّهُ مَتَى تَأَتَّى اتِّصَالُ الضَّمِيرِ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى انْفِصَالِهِ ([1])، فَنَحْوُ: (قُمْتُ) وَ (أَكْرَمْتُكَ) لا يُقَالُ فِيهِمَا: (قَامَ أَنَا) وَلا (أَكْرَمْتُ إِيَّاكَ)، فَأَمَّا قَوْلُهُ:
22 - إِلاَّ يَزِيدُهُمُ حُبًّا إِلَيَّ هُمُ
وَقَوْلُهُ:
23 - إِيَّاهُمُ الأَرْضُ فِي دَهْرِ الدَّهَارِيرِ
فَضَرُورَةٌ.
ومثالُ ([2]) مَا لَمْ يَتَأَتَّ فِيهِ الاتِّصَالُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الضَّمِيرُ عَلَى عَامِلِهِ.
نَحْوُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ([3])، أَوْ يَلِي (إِلاَّ) نَحْوَ: {أَمَرَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} ([4]).
وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
24 -............ وَإِنَّمَا = يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي
لأَنَّ الْمَعْنَى: مَا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ إِلاَّ أَنَا.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الضَّمِيرِ عَامِلاً فِي ضَمِيرٍ آخَرَ أَعْرَفَ مِنْهُ مُقَدَّمٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَرْفُوعاً، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ فِي الضَّمِيرِ الثَّانِي الوَجْهَانِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ فِعْلاً غَيْرَ نَاسِخٍ، فَالوَصْلُ أَرْجَحُ كَالهاءِ مِنْ (سَلْنِيهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} ([5]) {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} ([6]) {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا} ([7]) .
وَمِنَ الْفَصْلِ: ((إِنَّ اللَّهَ مَلَّكَكُمْ إِيَّاهُمْ)) ([1])، وَإِنْ كَانَ اسْماً فَالفَصْلُ أَرْجَحُ، نَحْوَ: (عَجِبْتُ مِنْ حُبِّي إِيَّاهُ) وَمِنَ الْوَصْلِ قَوْلُهُ:
25 - لَقَدْ كَانَ حُبِّيكِ حَقًّا يَقِينَا
وَإِنْ كَانَ فِعْلاً نَاسِخاً نَحْوَ: (خِلْتَنِيهِ) فالأرجحُ عِنْدَ الجمهورِ الْفَصْلُ، كَقَوْلِهِ:
26 - أَخِي حَسِبْتُكَ إِيَّاهُ...
وَعِنْدَ النَّاظِمِ وَالرُّمَّانِيِّ وَابْنِ الطَّرَاوَةِ الْوَصْلُ، كَقَوْلِهِ:
27 - بُلِّغْتُ صُنْعَ امْرِئٍ بَرٍّ إِخَالُكَهُ
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوباً بِكَانَ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، نَحْوَ: (الصَّدِيقُ كُنْتَهُ) أَوْ (كَانَهُ زَيْدٌ) وَفِي الأَرْجَحِ مِنَ الوَجْهَيْنِ الْخِلافُ المَذْكُورُ، وَمِنْ وُرُودِ الْوَصْلِ الْحَدِيثُ: ((إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ)) ([8]) ، وَمِنْ وُرُودِ الْفَصْلِ قَوْلُهُ:
28 - لَئِنْ كَانَ إِيَّاهُ لَقَدْ حَالَ بَعْدَنَا
وَلَوْ كَانَ الضَّمِيرُ السَّابِقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الأُولَى مَرْفُوعاً وَجَبَ الْوَصْلُ، نَحْوَ: (ضَرَبْتُهُ)، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ أَعْرَفَ وَجَبَ الْفَصْلُ، نَحْوَ: (أَعْطَاهُ إِيَّاكَ) أَوْ (إِيَّايَ) أَوْ (أَعْطَاكَ إِيَّايَ) ([9])، وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ الْفَصْلُ إِذَا اتَّحَدَتِ الرُّتْبَةُ، نَحْوَ: (مَلَّكْتَنِي إِيَّايَ) وَ (مَلَّكْتُكَ إِيَّاكَ) وَ (مَلَّكْتُهُ إِيَّاهُ)، وَقَدْ يُبَاحُ الْوَصْلُ إِنْ كَانَ الاتِّحَادُ فِي الغَيْبَةِ، وَاخْتَلَفَ لَفْظُ الضَّمِيرَيْنِ، كَقَوْلِهِ:
29 - أَنَالَهُمَاهُ قَفْوُ أَكْرَمِ وَالِدِ

([1]) إِنَّمَا اسْتَعْمَلَ الْعَرَبُ الضَّمَائِرَ لِقَصْدِ اخْتِصَارِ الأَسْمَاءِ، فَتَاءُ المُتَكَلِّمُ مَثَلاً وَأَنَا مِنَ الضَّمَائِرِ المُنْفَصِلَةِ يُسْتَعْمَلانِ فِي مَوْضِعِ الاسْمِ الْعَلَمِ المَوْضُوعِ لِمَنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِهَذَا الضَّمِيرِ، وَلا شَكَّ أَنَّ الضَّمِيرَ المُتَّصِلَ أَشَدُّ اخْتِصَاراً مِنَ الضميرِ المُنْفَصِلِ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ جِدًّا، وَلَمَّا كَانَ السببُ فِي استعمالِ الضميرِ بَدَلَ الاسمِ أَو الأسماءِ الظاهرةِ قَصْدَ الاختصارِ، وَكَانَ الضميرُ المُتَّصِلُ أَشَدَّ اخْتِصَاراً مِن المُنْفَصِلِ - كَانَ اسْتِعْمَالُ الضميرِ المُتَّصِلِ أَبْلَغَ فِي بُلُوغِ القصدِ؛ لهذا لَمْ يَعْدِلُوا عَن استعمالِ المُتَّصِلِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ.
22 - هَذَا عَجُزُ بَيْتٍ مِنَ البسيطِ، وَصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
وَمَا أُصَاحِبُ مِنْ قَوْمٍ فَأَذْكُرَهُمْ
وهذا البيتُ مِنْ قصيدةٍ لِزِيَادِ بْنِ مُنْقِذٍ الْعَدَوِيِّ التَّمِيمِيِّ، يَقُولُهَا فِي تَذَكُّرِ أَهْلِهِ وَالحنينِ إِلَى وطنِهِ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ صَنْعَاءَ فَاسْتَوْبَأَهَا، وَكانتْ مَنَازِلُ قَوْمِهِ فِي وَادِي أُشَيٍّ - بِضَمِّ الهمزةِ وَفَتْحِ الشينِ وَتَشْدِيدِ الياءِ - بِنَجْدٍ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الكلمةِ قَوْلُهُ، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو تَمَّامٍ فِي (الحماسةِ):

لا حَبَّذَا أَنْتِ يَا صَنْعَاءُ مِنْ بَلَدٍ = وَلا شَعُوبُ هَوًى مِنِّي وَلا نُقُمُ
وَحَبَّذَا حِينَ تُمْسِي الرِّيحُ بَارِدَةً = وَادِي أُشَيٍّ وَفِتْيَانٌ بِهِ هُضُمُ
اللُّغَةُ: (لا حَبَّذَا) كلمةٌ تُقَالُ عِنْدَ الذمِّ وَالْهِجَاءِ. (صَنْعَاءُ) اسْمٌ لِمَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا باليَمَنِ بينَهَا وبينَ عدنٍ ثمانيةٌ وَستُّونَ ميلاً، وَهِيَ قَصَبَةُ اليمنِ وَأَحْسَنُ بِلادِهَا، وَثَانِيهِمَا قَرْيَةٌ بالغُوْطَةِ مِنْ دِمَشْقَ، وَالمرادُ هُنَا الأوَّلُ. (شَعُوبُ) بِفَتْحِ المُعْجَمَةِ - اسْمٌ لِبَسَاتِينَ بِظَاهِرِ صَنْعَاءَ. (نُقُمُ) بِضَمِّ النُّونِ والقافِ جَمِيعاً، أَوْ بِفَتْحِهِمَا - اسْمٌ لِجَبَلٍ مُطِلٍّ عَلَى صَنْعَاءَ قَرِيبٍ مِنْ غُمْدَانَ.
(أُشَيّ) قَالَ يَاقُوتٌ: (هُوَ مَوْضِعٌ بالوَشْمِ، وَالوَشْمُ: وَادٍ باليمامةِ فِيهِ نَخْلٌ، والأُشَيُّ تَصْغِيرُ: الأَشَاءِ - بِزِنَةِ سَحَابٍ - الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِصِغَارِ النَّخْلِ، وَوَاحِدَتُهُ: أَشَاءَةٌ، وَأُشَيٌّ: مَنَازِلُ عَدِيِّ بْنِ الرَّبَابِ، وَقِيلَ: هُوَ للأحمالِ مِنْ بَلْعَدَوِيَّةَ) اهـ. كَلامُهُ بِتَصَرُّفٍ.
(هُضُمُ) بِضَمِّ الهاءِ والضَّادِ جَمِيعاً - جَمْعُ هَضُومٍ، والهَضُومُ - بِفَتْحِ الهاءِ، بِزِنَةِ صَبُورٍ وَغَفُورٍ - الْجَوَادُ المِتْلافُ لِمَالِهِ، وَيُقَالُ: يَدٌ هَضُومٌ، إِذَا كَانَتْ تَجُودُ بِمَا لَدَيْهَا وَتُلْقِيهِ فَمَا تُبْقِيهِ.
الإعرابُ: (مَا) حَرْفُ نَفْيٍ. (أُصَاحِبُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بِالضَّمَّةِ الظاهرةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنَا. (مِنْ) حَرْفٌ جَرٍّ زَائِدٌ. (قَوْمٍ) مَفْعُولٌ بِهِ لأُصَاحِبُ مَنْصُوبٌ بِفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى آخرِهِ مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا اشْتِغَالُ المَحَلِّ بَحَرَكَةِ حَرْفِ الجرِّ الزائدِ. (فَأَذْكُرَهُمْ) الفاءُ فَاءُ السَّبَبِيَّةِ، أَذْكُرَ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بأنِ المُضْمَرَةِ بَعْدَ فاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنَا، وَضَمِيرُ الْغَائِبِينَ الْعَائِدُ إِلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ هُمُ الفِتْيَانُ الهُضُمُ مَفْعُولٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. (إِلاَّ) أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ لا عَمَلَ لَهَا. (يَزِيدُهُمُ) يَزِيدُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بِالضَّمَّةِ الظاهرةِ، وَهُمْ: ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ الْعَائِدُ إِلَى قَوْمِهِ أَوْ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يُصَاحِبُهُمْ، مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِيَزِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. (حُبًّا) مَفْعُولٌ ثانٍ لِيَزِيدُ مَنْصُوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ.

(إِلَيَّ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِيَزِيدُ. (هُمُ) ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ الْعَائِدُ إِلَى قَوْمِهِ إِنْ كَانَ الضميرُ الأوَّلُ عَائِداً إِلَى الْقَوْمِ الآخَرِينَ الْمُصَاحِبِينَ، وَيَعُودُ إِلَى الْقَوْمِ الآخَرِينَ الْمُصَاحِبِينَ إِنْ عادَ الأوَّلُ إِلَى قومِهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَاعِلٌ بِيَزِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ الرفعِ.
الْمَعْنَى: يَحْتَمِل هَذَا البيتُ مَعْنَيَيْنِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلافِ مَرْجِعِ ضَمِيرَيِ الْغَائِبِينَ فِي الشطرِ الثاني مِنْهُ: أَمَّا المَعْنَى الأوَّلُ فإنَّهُ مَا يَتَّصِلُ بِقَوْمٍ سِوَى قَوْمِهِ فَيَذْكُرَ أَمَامَهُمْ قَوْمَهُ إِلاَّ أَثْنَوْا عَلَى قومِهِ، وَبَالَغُوا فِي مَدْحِهِمْ فَيَزِيدُونَهُ ثِقَةً بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا المَعْنَى الثَّانِي فَإِنَّهُ مَا يُعَاشِرُ قَوْماً فَيَبْلُوهُم إِلاَّ تَكَشَّفُوا عَنْ أخلاقٍ سَيِّئَةٍ وَصِفَاتٍ فَاسِدَةٍ، فَيَتَذَكَّرَ مَآثِرَ قَوْمِهِ فَيَزْدَادَ لَهُمْ حُبًّا وَيَشْتَدَّ إِلَيْهِمْ حَنِينُهُ؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْلَفُ مَكَارِمَ الأخلاقِ وَمَحَامِدَ الصِّفَاتِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (إِلاَّ يَزِيدُهُمْ حُبًّا إِلَيَّ هُمُ) حيثُ فَصَلَ الضميرَ المرفوعَ - وَهُوَ (هُم) الَّذِي فِي آخِرِ البيتِ - وَكَانَ قِيَاسُ الْكَلامِ أَنْ يَجِيءَ بِهِ ضَمِيراً مُتَّصِلاً بالعاملِ الَّذِي هُوَ يَزِيدُ، فَيَقُولَ: (إِلاَّ يَزِيدُونَهُمْ) هَذَا بِحَسَبِ الظاهرِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ (يَزِيدُ) ضَمِيراً مُسْتَتِراً فِيهِ جَوَازاً، تَقْدِيرُهُ هُوَ يَعُودُ إِلَى الْمَصْدَرِ المَفْهُومِ مِنْ (أَذْكُرَ) وَكَأَنَّهُ قَدْ قَالَ: إِلاَّ يَزِيدُهُمْ ذِكْرِي لَهُمْ حُبًّا إِلَيَّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضميرُ البارزُ المرفوعُ فِي آخِرِ البيتِ تَوْكِيداً لذلكَ الضميرِ المُسْتَتِرِ، قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَعَلَى هَذَا التوجيهِ يَخْرُجُ البيتُ عَن الضرورةِ، وَلا يَكُونُ فِيهِ شَاهِدٌ.
وقد يُقَالُ عَلَى هَذَا التخريجِ: كَيْفَ يُؤَكَّدُ ضميرُ الْوَاحِدِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ؟ وكيفَ يُطْلَقُ (هُم) وَهُوَ خَاصٌّ بالعُقَلاءِ عَلَى التَّذَكُّرِ وَهُوَ غَيْرُ عَاقِلٍ؟
23 - هَذَا بَيْتٌ مِنَ البسيطِ، وَصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
بِالْبَاعِثِ الْوَارِثِ الأَمْوَاتِ قَدْ ضَمِنَتْ
وهذا البيتُ مِنْ كلمةٍ لِلْفَرَزْدَقِ يَمْدَحُ فِيهِ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَبْلَهُ قَوْلُهُ:
يَا خَيْرَ حَيٍّ وَقَتْ نَعْلٌ لَهُ قَدَماً = وَمَيِّتٍ بَعْدَ رُسْلِ اللَّهِ مَقْبُورِ
إِنِّي حَلَفْتُ وَلَمْ أَحْلِفْ عَلَى فَنَدٍ = فِنَاءَ بَيْتٍ مِنَ السَّاعِينَ مَعْمُورِ
اللغةُ: (وَقَتْ) فِعْلٌ مَاضٍ مُتَّصِلٌ بتاءِ التأنيثِ مِن الوقايةِ، وَهِيَ الحفظُ. (فَنَدٍ) بِفَتْحِ الفاءِ وَالنونِ جَمِيعاً - الكَذِبُ، وَفِي الْقُرْآنِ الكريمِ: {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}؛ أَيْ: تَنْسُبُونِي إِلَى الكَذِبِ. (فِنَاءَ) هُوَ بِزِنَةِ كِتَابٍ - سَاحَةُ البيتِ، وَأَرَادَ بالبيتِ بَيْتَ اللَّهِ الحرامَ وَهُوَ الكعبةُ، وَبِالسَّاعِينَ الَّذِي يَطُوفُونَ حَوْلَهُ؛ لأَنَّهُم يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ.
(الْبَاعِث) الَّذِي يَبْعَثُ الأمواتَ وَيُحْيِيهِم. (الْوَارِثِ) الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيْهِ الأملاكُ بَعْدَ فَنَاءِ المُلاَّكِ، وَهُمَا اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. (ضَمِنَت) اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُهُ تَضَمَّنَتْ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَرْضَ تَكَفَّلَتْ بِهِمْ؛ لأَنَّهَا سَتَلْفِظُهُمْ عِنْدَ البعثِ. (الدَّهَارِيرِ) جَمْعٌ لا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمِثْلُهُ عَبَادِيدُ، وَمَحَاسِنُ، وَمَلامِحُ، والدَّهَارِيرُ: الشَّدَائِدُ.
الإعرابُ: (بِالْبَاعِثِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِحَلَفْتُ فِي البيتِ السابقِ. (الْوَارِثِ) صِفَةٌ للبَاعِثِ. (الأَمْوَاتِ) يَجُوزُ لَكَ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ تَجُرَّهُ بالكسرةِ الظاهرةِ عَلَى أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَالْمُضَافُ هُوَ البَاعِثُ أَو الوَارِثُ عَلَى مِثَالِ قَوْلِهِمْ: قَطَعَ اللَّهُ يَدَ وَرِجْلَ مَنْ قَالَهَا، وَقَوْلِ الشاعرِ:
يَا مَنْ رَأَى عَارِضاً أُسَرُّ بِهِ = بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
والوجهُ الثاني: أَنْ تَنْصِبَهُ بالفتحةِ الظاهرةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ تَنَازَعَهُ الوَصْفَانِ قَبْلَهُ فَأَعْمَلَ فِيهِ الثانِي ولم يَعْمَلِ الأوَّلُ فِي ضَمِيرِهِ، بَلْ حَذَفَهُ لِكَوْنِهِ فَضْلَةً.

(قَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ. (ضَمِنَتْ) ضَمِنَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وَالتاءُ علامةٌ عَلَى تأنيثِ الفاعلِ. (إِيَّاهُمْ) إِيَّا: ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مفعولٌ بِهِ لِضَمِنَ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَهُمْ حَرْفٌ دالٌّ عَلَى الغيبةِ. (الأَرْضُ) فَاعِلُ ضَمِنَ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ. (فِي دَهْرِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِضَمِنَ، وَدَهْرِ مُضَافٌ وَ (الدَّهَارِيرِ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (ضَمِنَتْ إِيَّاهُمْ) حيثُ أَتَى بالضميرِ مُنْفَصِلاً حِينَ اضْطُرَّ إِلَى إقامةِ الوزنِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ مُتَّصِلاً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ القياسُ، ولو أَنَّهُ أَتَى بِهِ مُتَّصِلاً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ القياسُ لَقَالَ: (قَدْ ضَمِنَتْهُمُ الأَرْضُ). وَالإِتْيَانُ بالضميرِ مُنْفَصِلاً مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الإتيانِ بِهِ مُتَّصِلاً مِمَّا لا يَسُوغُ ارْتِكَابُهُ عَرَبِيَّةً إِلاَّ لِضَرُورَةِ الشعرِ.
وَمِثْلُ هَذَا البيتِ والبيتِ السابقِ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ البَكْرِيِّ:
أَصْرَمْتَ حَبْلَ الْوَصْلِ؟ بَلْ صَرَمُوا = يَا صَاحِ بَلْ قَطَعَ الْوِصَالَ هُمُ
([2]) ذَكَرَ المُؤَلِّفُ مَوْضِعَيْنِ لا يَتَأَتَّى فِيهِمَا المَجِيءُ بالضميرِ المُتَّصِلِ، وَيَتَعَيَّنُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الإِتْيَانُ بالضميرِ مُنْفَصِلاً، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ اثْنَا عَشَرَ مَوْضِعاً مِنْ هَذِهِ البابةِ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا لَكَ تَتْمِيماً للبحثِ، وَفِي وَجَازَةٍ وَاخْتِصَارٍ:
الأوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ فَاعِلاً لِمَصْدَرٍ أُضِيفَ إِلَى مَفْعُولِهِ، نَحْوَ قَوْلِ الشاعرِ:
بِنَصْرِكُمْ نَحْنُ كُنْتُمْ ظَافِرِينَ وَقَدْ = أَغْرَى الْعِدَى بِكُمُ اسْتِسْلامُكُمْ فَشَلا
وعلى هَذَا تَقُولُ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ أَنْتَ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ ضَرْبِ لِزَيْدٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ لِمَفْعُولِهِ.
الثاني: أَنْ يَكُونَ الضميرُ مَفْعُولاً لِمَصْدَرٍ أُضِيفَ إِلَى فاعلِهِ ال ظاهرِ، نَحْوَ قولِكِ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ إِيَّاكَ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ ضَمِيراً أَيْضاً كَانَتْ مِن المسألةِ الأُولَى الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الأَمْرَانِ.
وَمِنَ الْمَوْضِعِ الثاني قَوْلُ الأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
أَحَقًّا بَنِي أَبْنَاءِ سَلْمَى بْنِ جَنْدَلٍ = وَعِيدُكُمُ إِيَّايَ وَسْطَ الْمَجَالِسِ
الثالثُ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ مَرْفُوعاً بِصِفَةٍ جَارِيَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ لَهُ، مُطْلَقاً عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وَمَعَ خَوْفِ اللَّبْسِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، عَلَى مَا تَعْرِفُهُ مُفَصَّلاً فِي بابِ المبتدإِ والخبرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، نَحْوَ: زَيْدٌ عَمْرٌو ضَارِبُهُ هُوَ.
الرابعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الضميرِ مَحْذُوفاً، نَحْوَ قَوْلِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيِّ:
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ فَانْتَسِبْ = لَعَلَّكَ تَهْدِيكَ الْقُرُونُ الأَوَائِلُ
ونحوَ قَوْلِ الآخرِ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرْتَ حَاصِداً = نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ الْبَذْرِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ السَّمَوْءَلِ:
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا
الخامِسُ: أَنْ يَكُونَ عاملُ الضميرِ حَرْفاً مِنْ حُرُوفِ النَّفْيِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهُمْ}. وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا}. وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
السادسُ: أَنْ يَقَعَ الضميرُ بَعْدَ واوِ الْمَعِيَّةِ، نَحْوَ قَوْلِ الشاعرِ:
فَآلَيْتُ لا أَنْفَكُّ أَحْذُو قَصِيدَةً = تَكُونُ وَإِيَّاهَا بِهَا مَثَلاً بَعْدِي
السابعُ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ تَابِعاً لِمَعْمُولٍ آخَرَ لِعَامِلِهِ، كالضميرِ المَعْطُوفِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}. وَفِي قَوْلِ قيسِ بْنِ زُهَيْرٍ:
فَإِنْ تَكُ حَرْباً فَلَمْ أَجْنِهَا = جَنَتْهَا خِيَارُهُمْ أَوْ هُمُ
الثامنُ: أَنْ يَقَعَ الضميرُ بَعْدَ (إِمَّا) نَحْوَ قَوْلِكَ: (يَتَوَلَّى الأَمْرَ إِمَّا أَنَا وَإِمَّا أَنْتَ).
التاسعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الضميرِ مَعْنَوِيًّا - وَهُوَ الابتداءُ - ومَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الضميرُ مُبْتَدَأً، نَحْوَ (أَنَا مُؤْمِنٌ) و (أَنْتَ مُجْتَهِدٌ) و (هُوَ كَسْلانُ) وَمِنْ أمثلةِ ذَلِكَ صَدْرُ الشاهدِ رَقْمِ 24، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سُحَيْمٍ:
أَنَا ابْنُ جَلا وَطَلاَّعِ الثَّنَايَا
الْعَاشِرُ: أَنْ يَقَعَ الضميرُ بَعْدَ اللامِ الْفَارِقَةِ، الداخلةِ فِي خَبَرِ إِنَّ المُخَفَّفَةِ، كَقَوْلِ الشاعرِ:
إِنْ وَجَدْتَ الصَّدِيقَ حَقًّا لإِيَّا = كَ فَمُرْنِي فَلَنْ أَزَالَ مُطِيعَا
الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الضميرُ مُنَادًى، نَحْوَ: (يَا أَنْتَ) ونحوَ: (يَا إِيَّاكَ) وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْمُنَادَى أَنَّ نِدَاءَ المُضْمَرِ شَاذٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
يَا أَبْجَرُ بْنَ أَبْجَرٍ يَا أَنْتَا = أَنْتَ الَّذِي طَلَّقْتَ عَامَ جُعْتَا
الثانِيَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ ثَانِيَ ضَمِيرَيْنِ مُتَّحِدَيِ الرُّتْبَةِ مَعْمُولَيْنِ لِعَامِلٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ مَرْفُوعاً، نَحْوَ: (ظَنَنْتُنِي إِيَّايَ) و (ظَنَنْتُكَ إِيَّاكَ) وَسَيَذْكُرُ المُؤَلِّفُ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي ثَنَايَا شَرْحِ مَسْأَلَتَيِ الْجَوَازِ.
([3]) سُورَةُ الفاتحةِ، الآيَةُ: 4.
([4]) سُورَةُ يُوسُفَ، الآيَةُ: 40.
24 - هَذِهِ قطعةٌ مِنْ بيتٍ مِنَ الطويلِ، وَهُوَ بِتَمَامِهِ:
أَنَا الذَّائِدُ الْحَامِي الذِّمَارَ وَإِنَّمَا = يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي
وهذا بَيْتٌ مِنْ قصيدةٍ لِلْفَرَزْدَقِ يُعَارِضُ بِهَا جَرِيراً وَيَفْخَرُ عَلَيْهِ، وبعدَ هَذَا البيتِ قَوْلُهُ:
فَمَهْمَا أَعِشْ لا يَضْمَنُونِي وَلا أُضِعْ = لَهُمْ حَسَباً مَا حَرَّكَتْ قَدَمِي نَعْلِي
اللغةُ: (الذَّائِدُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ ذَادَ الشَّيْءَ يَذُودُهُ، إِذَا دَفَعَهُ، وَتَقُولُ: فُلانٌ يَذُودُ عَنْ قَوْمِهِ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ كُلَّ مَا هُمْ بِصَدَدِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ، فَهُوَ يَدْفَعُ الأَذَى وَيَرُدُّ غَائِلَةَ الأعداءِ وَيَكْسِرُ مِنْ شَوْكَتِهِم. (الذِّمَارَ) - بِكَسْرِ الذالِ بِزِنَةِ الْكِتَابِ -: كُلُّ مَا لَزِمَكَ أَنْ تُحَافِظَ عَلَيْهِ وَتَحْمِيَهُ. (أَحْسَاب) جَمْعُ حَسَبٍ - بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ جَمِيعاً - وَهُوَ كُلُّ مَا يَعُدُّهُ الإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ، وَقِيلَ: الحَسَبُ الْمَالُ، وَالأَوَّلُ أَشْهَرُ.
(لا يَضْمَنُونِي) أَرَادَ أَنَّهُ لا يَجُرُّ عَلَيْهِمْ جَرِيرَةً وَلا يَجْنِي جِنَايَةً فَيُكَفَّلُوهُ أَوْ يَغْرَمُوا عَنْهُ. (لا أُضِعْ) هُوَ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بالعطفِ عَلَى جوابِ الشرطِ أَجْوَفُ مِنَ الإضاعةِ، وَقَدْ حُذِفَتْ عَيْنُهُ للتَّخَلُّصِ مِنَ التقاءِ السَّاكِنَيْنِ. (مَا حَرَّكَتْ قَدَمِي نَعْلِي) مَا هَذِهِ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، وَالمَعْنَى: مُدَّةَ تَحْرِيكِ قَدَمِي نَعْلِي، وَأَرَادَ بِذَلِكَ طولَ حَيَاتِهِ؛ لأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا يُحَرِّكُ قَدَمَهُ فَتَتَحَرَّكُ نَعْلُهُ بِحَرَكَةِ قَدَمِهِ.
الإعرابُ: (أَنَا) ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مُبْتَدَأٌ (الذَّائِدُ) خَبَرُ المُبْتَدَإِ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ (الْحَامِي) صِفَةٌ للذائدِ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ للمُبْتَدَإِ، وَالْحَامِي مُضَافٌ وَ (الذِّمَارَ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّمَارَ مَنْصُوباً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْحَامِي. (إِنَّمَا) حَرْفٌ دَالٌّ عَلَى القصرِ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ. (يُدَافِعُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ. (عَنْ) حَرْفُ جَرٍّ. (أَحْسَابِهِمْ) أَحْسَاب: مَجْرُورٌ بِعَنْ، وَعَلامَةُ جَرِّهِ الكسرةُ الظاهرةُ، وَأَحْسَاب: مُضَافٌ، وَضَمِيرُ الْغَائِبِينَ مُضَافٌ إِلَيْهِ. (أَنَا) ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ فَاعِلُ يُدَافِعُ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ. (أَوْ) حَرْفُ عَطْفٍ. (مِثْلِي) مِثْلُ: مَعْطُوفٌ عَلَى الضميرِ المُنْفَصِلِ، وَمِثْلُ مُضَافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إِلَيْهِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ المنفصلِ - وَهُوَ أَنَا - لِكَوْنِهِ وَاقِعاً بَعْدَ (إِلاَّ) فِي المعنَى والتأويلِ، وَالَّذِي يَقَعُ بَعْدَ (إِلاَّ) هُوَ الضميرُ المُنْفَصِلُ، وَإِنَّمَا كَانَ الضميرُ هَهُنَا فِي المَعْنَى وَالتأويلِ وَاقِعاً بَعْدَ (إِلاَّ)؛ لأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي) هُوَ بِعَيْنِهِ مَعْنَى قَوْلِكَ: لا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ إِلاَّ أَنَا أَوْ مِثْلِي.
([5]) سُورَةُ البقرةِ، الآيَةُ: 137.
([6]) سُورَةُ هُود، الآيَةُ: 28.
([7]) سُورَةُ مُحَمَّدٍ، الآيَةُ: 37.
25 - هَذَا عَجُزُ بَيْتٍ مِنَ الْمُتَقَارِبِ، وَصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
لَئِنْ كَانَ حُبُّكِ لي كَاذِباً
وهذا بَيْتٌ مِنْ كلمةٍ اخْتَارَهَا أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ الطَّائِيُّ فِي (دِيوَانِ الحماسةِ)، ولم يَنْسُبْهَا وَلا نَسَبَهَا أَحَدُ شُرَّاحِهِ إِلَى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وَقَبْلَ البَيْتِ المُسْتَشْهَدِ بِعَجُزِهِ قَوْلُهُ:
لَئِنْ كُنْتِ أَوْطَأْتِنِي عَشْوَةً = لَقَدْ كُنْتُ أَصْفَيْتُكِ الْوُدَّ حِينَا

وَمَا كُنْتُ إِلاَّ كَذِي نُهْزَةٍ = تَبَدَّلَ غَثًّا وَأَعْطَى سَمِينَا
اللغةُ: (عَشْوَةً) - بِفَتْحِ العَيْنِ المُهْلَمَةِ وَسُكُونِ الشينِ - وَهِيَ الأَمْرُ الخَفِيُّ الَّذِي اسْتَتَرَ عَنْكَ صَوَابُهُ، وَيُقَالُ: وَطِئَ فُلانٌ عَشْوَةً، وَأَوْطَأَتْهُ إِيَّاهَا، إِذَا رَكِبَ أَمْراً عَلَى غَيْرِ بَيَانٍ أَوْ أَرْكَبَتْهُ إِيَّاهُ، وَيُرْوَى: (بَهْزَةٍ) بِالْبَاءِ المُوَحَّدَةِ - وَهِيَ الغَلَبَةُ.
الإِعْرَابُ: (لَئِن) اللامُ مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ. (كَانَ) فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ فِعْلُ الشرطِ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ فِي مَحَلِّ جَزْمٍ. (حُبُّكِ) حُبُّ: اسْمُ كَانَ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وَحُبُّ: مُضَافٌ، وَضَمِيرُ المُخَاطَبَةِ مُضَافٌ إِلَيْهِ. (لِي) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِحُبُّ. (صَادِقاً) خَبَرُ كَانَ مَنْصُوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ. (لَقَدْ) اللامُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، قَدْ حَرْفُ تَحْقِيقٍ. (كَانَ) فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ لا مَحَلَّ لَهُ. (حَبِّيكِ) حُبّ: اسْمُ كَانَ مَرْفُوعٌ بضمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى مَا قَبْلَ ياءِ المُتَكَلِّمِ، وَحُبّ مُضَافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إِلَيْهِ مِنْ إضافةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فاعلِهِ، وَضَمِيرُ المُخَاطَبَةِ مَفْعُولٌ بِهِ للمَصْدَرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الكسرِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. (حَقًّا) خبرُ كَانَ. (يَقِينَا) صِفَةٌ لِحَقًّا، وَجُمْلَةُ كَانَ وَاسْمِهِ وَخَبَرِهِ لا مَحَلَّ لَهَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الشرطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جوابُ الْقَسَمِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (حَبِّيكِ) حَيْثُ أَتَى بالضَّمِيرِ الثَّانِي - وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبَةِ - مُتَّصِلاً، وَهُوَ أَمْرٌ جَائِزٌ لا ضَرُورَةَ فِيهِ وَلا شُذُوذَ، وَيَجُوزُ الانفصالُ أَيْضاً، ولو أَتَى الشاعرُ بِهِ مُنْفَصِلاً لَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ حُبِّي إِيَّاكِ)، والانفصالُ فِي هَذِهِ الحالةِ - وَهِيَ أَنْ يَكُونَ العاملُ اسْماً كَحُبّ فِي هَذَا الشاهدِ - أَرْجَحُ.
وَمِثْلُ هَذَا الشاهدِ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ مُطَرِّفٍ المُجَاشِعِيِّ، وَأَنْشَدَهُ القَالِي: (الأَمَالِي (1/219)):
لا وَحُبِّيهِ لا وَحَقِّ هَوَاهُ = مَا تَنَاسَيْتُهُ وَلا خُنْتُ عَهْدَا
ومِنَ الاتِّصَالِ قَوْلُ شاعرٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَهُوَ مِنْ مَقْطُوعَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو تَمَّامٍ:
أَبَيْتَ اللَّعْنَ إِنَّ سَكَابَ عِلْقٌ = نَفِيسٌ لا يُعَارُ وَلا يُبَاعُ
فَلا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ فِيهَا = وَمَنْعُكَهَا بِشَيْءٍ يُسْتَطَاعُ
وَالاستشهادُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: (وَمَنْعُكَهَا) حيثُ أَتَى بالضميرِ الثاني - وَهُوَ (هَا) - مُتَّصِلاً، وَلَوْ أَتَى بِهِ مُنْفَصِلاً لَقَالَ: وَمَنْعُكَ إِيَّاهَا، وَكِلا التَّعْبِيرَيْنِ صَحِيحٌ جَائِزٌ فِي سَعَةِ الْكَلامِ مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلا ضَرُورَةٍ.
وَمِنَ الفَصْلِ قَوْلُ جَحْظَةَ (الأَمَالِي (1/212)):
وَمِن طَاعَتِي إِيَّاهُ أَمْطَرَ نَاظِرِي = لَهُ حِينَ يُبْدِي مِنْ ثَنَايَاهُ لِي بَرْقَا
وقولُ المُؤَلِّفِ: (إِنْ كَانَ الْعَامِلُ اسْماً) يَشْمَلُ الْمَصْدَرَ وَاسْمَ الفَاعِلِ، فَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَمِثَالُهُ هَذَا البيتُ المُسْتَشْهَدُ بِهِ، وَمَا سَنُنْشِدُهُ مِنْ بيتِ قَيْسٍ وَقَوْلِ جَحْدَرٍ وَمَا أَنْشَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِ التَّمِيمِيِّ، وَأَمَّا اسْمُ الفاعلِ فَمِثَالُهُ قَوْلُ الشاعرِ:
لا تَرْجُ أَوْ تَخْشَ غَيْرَ اللَّهِ إِنَّ أَذًى = وَاقِيكَهُ [لعل هنا سقط: اللهُ] لا يَنْفَكُّ مَأْمُونَا
الشاهدُ فِيهِ قَوْلُهُ: (وَاقِيكَهُ) حَيْثُ وَصَلَ الضَّمِيرَيْنِ، والأوَّلُ مِنْهُمَا كَافُ الْمُخَاطَبِ، وَالثاني هَاءُ الْغَائِبِ الَّتِي تَعُودُ إِلَى أَذًى.
وَنَظِيرُ البيتِ الشاهدِ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ المُلَوَّحِ:
تَضَعَّفَنِي حُبِّيكِ حَتَّى كَأَنَّنِي = مِنَ الأَهْلِ وَالْمَالِ التِّلادِ خَلِيعُ
وَمِثْلُهُ قَوْلُ جَحْدَرٍ أَحَدِ لُصُوصِ الْعَرَبِ (مُعْجَمُ البُلْدَانِ 3/29):
على قَلائِصَ قَدْ أَفْنَى عَرَائِكَهَا = تَكْلِيفُنَاهَا عَرِيضَاتِ الْفَلا زُورَا
ومثلُهُ قَوْلُ الأَخْطَلِ (أَنْشَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ 2/401):
وَتَكْلِفُنَاهَا كُلَّ طَامِسَةِ الصُّوَى = شَطُونٍ تَرَى حِرْبَاءَهَا يَتَمَلْمَلُ
26 - هَذِهِ قطعةٌ مِنْ بيتٍ مِنَ البسيطِ، وَهُوَ بِتَمَامِهِ:
أَخِي حَسَبْتُكَ إِيَّاهُ وَقَدْ مُلِئَتْ = أَرْجَاءُ صَدْرِكَ بالأَضْغَانِ وَالإِحَنِ
وَلَمْ أَعْثُرْ لهذا البيتِ عَلَى نسبةٍ إِلَى قائلٍ مُعَيَّنٍ، وَلا عَثَرْتُ لَهُ عَلَى سَوَابِقَ أَوْ لَوَاحِقَ.
اللغةُ: (حَسَبْتُكَ إِيَّاهُ) ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَخِي. (أَرْجَاءُ) جَمْعُ رَجَا - بِزِنَةِ عَصَا - وَهُوَ الناحيةُ (الأَضْغَانِ) جَمْعُ ضِغْنٍ - بِكَسْرِ الضادِ وَسُكُونِ الغينِ المُعْجَمَتَيْنِ - بِزِنَةِ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ - وَهُوَ الحِقْدُ. (الإِحَنِ) - بِكَسْرِ الهمزةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ المُهْمَلَةِ - جَمْعُ إِحْنَةٍ - بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ - وَهِيَ الحِقْدُ أَيْضاً، فالعطفُ للتَّفْسِيرِ.
المعنَى: لَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّكَ أَخِي الَّذِي يَأْخُذُ بِنَاصِرِي وَيَدْفَعُ عَنِّي عَوَادِيَ الدَّهْرِ، وَلَكِنِّي وَجَدْتُ صَدْرَكَ مُمْتَلِئاً بالأحقادِ مَلِيئاً بالضَّغِينَةِ وَالغِلِّ.
الإعرابُ: (أَخِي) أَخ: مُبْتَدَأٌ مَرْفُوعٌ بضمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى مَا قَبْلَ يَاءِ المُتَكَلِّمِ، وَأخ مُضَافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إِلَيْهِ. (حَسِبْتُكَ) حَسِبَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَتَاءُ المُتَكَلِّمِ فَاعِلُهُ، وَضَمِيرُ المُخَاطَبِ مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ. (إِيَّاهُ) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِحَسِبَ، وَجُمْلَةُ الفِعْلِ وَفَاعِلِهِ وَمَفْعُولَيْهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ المُبْتَدَإِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَخِي) مَفْعُولاً لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ؛ فَهُوَ حِينَئِذٍ مِنْ بابِ الاشتغالِ. (وَقَدْ) الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَقَدْ حَرْفُ تَحْقِيقٍ. (مُلِئَتْ) فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمجهولِ، وَالتاءُ عَلامَةٌ عَلَى تأنيثِ المُسْنَدِ إِلَيْهِ. (أَرْجَاءُ) نَائِبُ فَاعِلٍ، وَأَرْجَاءُ مُضَافٌ، وَصَدْرِ مِنْ (صَدْرِكَ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، وَصَدْرِ مُضَافٌ، وَضَمِيرُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إِلَيْهِ. (بِالأَضْغَانِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمُلِئَ (وَالإِحَنِ) الْوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، وَالإِحَنِ مَعْطُوفٌ عَلَى الأَضْغَانِ، وَالجملةُ مِن الفعلِ ونائبِ فَاعِلِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ.
الشاهدُ فِيهِ: قولُكَ: (حَسِبْتُكَ إِيَّاهُ) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ الثاني - وَهُوَ (إِيَّاهُ) مُنْفَصِلاً، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لفعلٍ ناسخٍ للابتداءِ - وَهُوَ هُنَا (حَسِبَ) - والإتيانُ بِثَانِي الضَّمِيرَيْنِ مُنْفَصِلاً فِي هَذِهِ الحالةِ جَائِزٌ لا ضَرُورَةَ فِيهِ وَلا شُذُوذَ، والإتيانُ بِهِ مُتَّصِلاً جَائِزٌ أَيْضاً، وَلَوْ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ مُتَّصِلاً لَقَالَ: (حَسِبْتُكَهُ).
وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي أَرْجَحِ الوَجْهَيْنِ: فَأَمَّا الجمهورُ - وَمِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ - فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الانفصالَ أَرْجَحُ مِنَ الاتِّصَالِ حِينَئِذٍ، وَوَجْهُهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ ثَانِيَ الضَّمِيرَيْنِ أَصْلُهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ، وَمِنْ حَقِّ الخبرِ الانْفِصَالُ.
وَذَهَبَ ابْنُ مَالِكٍ وابنُ الطَّرَاوَةِ وَالرُّمَّانِيُّ إِلَى أَنَّ الاتِّصَالَ حِينَئِذٍ أَرْجَحُ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْكَلامِ مَزِيدُ تَوْضِيحٍ فِي شرحِ الشاهدِ الآتِي.
27 - هَذَا صَدْرُ بَيْتٍ مِنَ البسيطِ، وَعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
إذْ لَمْ تَزَلْ لاكْتِسَابِ الحَمْدِ مُبْتَدِرَا
ولمْ أَقِفْ لهذا البَيْتِ عَلَى نِسْبَةٍ إِلَى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وَلا عَثَرْتُ لَهُ عَلَى سَوَابِقَ أَوْ لَوَاحِقَ.
اللغةُ: (بَرٍّ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الراءِ - هُوَ الصادقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَرَّ فُلانٌ فِي يَمِينِهِ، إِذَا صَدَقَ، (إِخَالُكَهُ) بِكَسْرِ هَمْزَةِ المُضارعةِ، وَذَلِكَ هُوَ المشهورُ فِي هَذَا الفعلِ، وَمَعْنَاهُ: أَظُنُّكَهُ (مُبْتَدِرَا) مُسْرِعاً، تَقُولُ: ابْتَدَرَ فُلانٌ الشيءَ، وَبَادَرَ إِلَيْهِ، وَبَدَرَ غَيْرَهُ إِلَيْهِ، وَبَدَرَ إِلَيْهِ - مِنْ بابِ دَخَلَ - إِذَا أَرَدْتَ أَنَّهُ أَسْرَعَ إِلَى عَمَلِهِ.
الإعرابُ: (بُلِّغْتُ) بُلِّغَ فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمجهولِ، والتاءُ ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ نَائِبُ فَاعِلٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضمِّ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَهُوَ المَفْعُولُ الأوَّلُ لِبُلِّغَ. (صُنْعَ) مَفْعُولٌ ثَانٍ مَنْصُوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وَصُنْعَ مُضَافٌ، وَ (امْرِئٍ) مُضَافٌ إِلَيْهِ، (بَرٍّ) صِفَةٌ لامْرِئٍ. (إِخَالُكَهُ) إِخَالُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنَا، والكافُ ضَمِيرُ المُخَاطَبِ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لإِخَالُ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، والهاءُ ضَمِيرُ الغائبِ الْعَائِدُ عَلَى امْرِئٍ، مَفْعُولٌ ثَانٍ لإِخَالُ مَبْنِيٌّ عَلَى الضمِّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. (إِذْ) أَدَاةٌ دَالَّةٌ عَلَى التعليلِ، يُقَالُ: هِيَ حَرْفٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى السكونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وَيُقَالُ: هُوَ ظَرْفٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَيَكُونُ مُتَعَلِّقاً بِإِخَالُ. (لَمْ) حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ وَقَلْبٍ. (تَزَلْ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِلَمْ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنْتَ. (لاكْتِسَابِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مُبْتَدِرَا، الآتِي، وَاكْتِسَاب مُضَافٌ وَ (الحَمْدِ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ، وَخَبَرُهُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِإِضَافَةِ إِذْ إِلَيْهَا، هَذَا إِذَا جَرَيْتَ عَلَى أَنَّ (إِذْ) ظَرْفٌ، فَإِذَا جَرَيْتَ عَلَى أَنَّ (إِذْ) حَرْفٌ كَانَت الجملةُ لا مَحَلَّ لَهَا مِن الإعرابِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (إِخَالُكَهُ) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ الثاني - وَهُوَ هُنَا الهاءُ - مُتَّصِلاً، وَهُوَ مفعولٌ ثانٍ لِفِعْلٍ نَاسِخٍ للابتداءِ - وَهُوَ هُنَا (إِخَالُ)، وَالإتيانُ بِثَانِي الضميرَيْنِ فِي هَذِهِ الحالةِ مُتَّصِلاً جَائِزٌ لا شُذُوذَ فِيهِ وَلا ضَرُورَةَ عَلَى مَا عَرَفْتَ فِي شرحِ الشاهدِ السابقِ.
وَقَد اخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ وَمَنْ ذَكَرَهُمُ المُؤَلِّفُ معهُ الاتِّصَالَ فِي هَذِهِ الحالةِ، وَوَجْهُهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ اتِّصَالَ الضميرِ هُوَ الأصلُ؛ لأَنَّ الضميرَ إِنَّمَا وُضِعَ لاخْتِصَارِ الأسماءِ؛ ولهذا كَانَتْ حُرُوفُهُ غَالِباً أَقَلَّ مِنْ أَقَلِّ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ الاسمُ، وَالمُتَّصِلُ أَشَدُّ تَأْدِيَةً لهذا الغرضِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُعْدَلْ عَن المُتَّصِلِ إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ، ولم يَتَعَذَّرْ هَهُنَا، وَكُنَّا بِصَدَدِ أَنْ نُوجِبَ الاتِّصَالَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الحالِ لِمَا بَيَّنَّا، غَيْرَ أَنَّهُ وَرَدَ عَنِ الْعَرَبِ الانْفِصَالُ - وَكَانَ للانْفِصَالِ وَجْهٌ مِنَ القياسِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَوْجِيهِ اخْتِيَارِ الجمهورِ الانفصالَ - فَكَانَ وُرُودُهُ عَن الْعَرَبِ مع هَذَا الْوَجْهِ سَبَباً فِي تَجْوِيزِهِ مَعَ تَمَسُّكِنَا بِالأَصْلِ.
وَالحاصلُ أَنَّ هَهُنَا أَصْلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّ الأصلَ فِي الضميرِ الاتِّصَالُ، وَثَانِيهما أَنَّ الأصلَ فِي الخبرِ الانفصالُ، وَقَدْ تَأَيَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الأَصْلَيْنِ بالسَّمَاعِ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزاً عِنْدَ الجميعِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ اعْتِبَارَ الأصلِ الأَوَّلِ، فَقَضَى بِأَنَّ اتِّصَالَ الضَّمِيرِ فِي هَذِهِ الحالةِ أَرْجَحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ اعْتِبَارَ الأصلِ الثاني فَقَضَى بِأَنَّ انْفِصَالَ الضَّمِيرِ فِي هَذِهِ الحالةِ أَرْجَحُ.
([8]) هذه قطعةٌ من حديثٍ، وتَتِمَّتُه: ((وَإِلاَّ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)). وفي هذه التتِمَّةِ شاهدٌ لِمِثْلِ الذي آثَرَ المُؤَلِّفُ الجزءَ الأوَّلَ للاستدلالِ عليه، وكانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قد وَصَفَ المَسِيخَ الدَّجَّالَ لأصحابِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ فِتْنَةُ ابنِ صَيَّادٍ، ورآهُ النبيُّ وأصحابُه، فظَهَرَ لعمرَ بنِ الخَطَّابِ أنَّه يُشْبِهُ المَسِيخَ الدجَّالَ، فَهَمَّ بأنْ يَقْتُلَه، فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ هذا الكلامَ، يُرِيدُ: إنْ يَكُنْ هذا الذي تَرَاهُ هو المسيخَ الدجَّالَ فإنَّكَ لن تَقْتُلَه ؛ لأنَّنِي أَخْبَرْتُكُم أنَّ الذي يَقْتُلُهُ هو المسيحُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ عليه الصلاةُ والسلامُ، وإنْ لم يَكُنِ الذي تَرَاهُ هو المسيخَ الدجَّالَ فلا خيرَ لكَ في قَتْلِهِ.
28 - هَذَا صدرُ بَيْتٍ مِنَ الطويلِ، وَعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
عَنِ الْعَهْدِ وَالإِنْسَانُ قَدْ يَتَغَيَّرُ
وَهَذَا بَيْتٌ مِنْ قصيدةٍ جَيِّدَةٍ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيِّ، وَأَوَّلُ هَذِهِ القصيدةِ قَوْلُهُ:
أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ = غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُ
اللغةُ: (غَادٍ) اسْمُ فَاعِلٌ مِنْ غَدَا يَغْدُو - مِنْ بَابِ سَمَا يَسْمُو - إِذَا جَاءَ فِي وقتِ الغَدَاةِ، وَهِيَ أَوَّلُ النَّهَارِ. (مُبْكِرُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبْكَرَ إِبْكَاراً، إِذَا جَاءَ فِي وقتِ البَكْرَةِ، وَتَقُولُ: بَكَرَ - مِنْ بَابِ دَخَلَ - وَأَبْكَرَ إِبْكَاراً، وَبَكَّرَ تَبْكِيراً. (رَائِحٌ) آتٍ وَقْتَ الرَّوَاحِ، وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ زَوَالِ الشمسِ إِلَى الليلِ.
(مُهَجِّرُ) سَائِرٌ فِي وقتِ الهَاجِرَةِ وَهِيَ نصفُ النَّهَارِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الحَرِّ. (حَالَ) مَعْنَاهُ: تَغَيَّرَ، وَتَحَوَّلَتْ حَالُهُ عَّما كُنَّا نَعْلَمُهُ فِيهِ، والأصلُ فِي هَذِهِ المادةِ قَوْلُهُمْ: حَالَتِ القَوْسُ، إِذَا انْقَلَبَتْ عَنْ حَالِهَا وَحَصَلَ فِي قَالَبِهَا اعْوِجَاجٌ. (عَنِ الْعَهْدِ) عَمَّا عَهِدْنَاهُ مِنْ جَمَالِهِ وَشَبَابِهِ.
الإعرابُ: (لَئِن) اللامُ مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، إِنْ حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ. (كَانَ) فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هُوَ. (إِيَّاهُ) خبرُ كَانَ. (لَقَد) اللامُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ. (قَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ. (حَالَ) فِعْلٌ مَاضٍ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هُوَ. (بَعْدَنَا) بَعْدَ: ظَرْفُ زَمَانٍ مُتَعَلِّقٌ بِحَالَ، وَبَعْدَ: مُضَافٌ، وَنَا: مُضَافٌ إِلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، وَجُمْلَةُ حَالَ وَفَاعِلِهِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الشرطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جوابُ الْقَسَمِ. (عَنِ الْعَهْدِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِحَالَ. (وَالإِنْسَانُ) الْوَاوُ: وَاوُ الْحَالِ، الإِنْسَانُ: مُبْتَدَأٌ. (قَدْ) حَرْفُ تَقْلِيلٍ (يَتَغَيَّرُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هُوَ يَعُودُ إِلَى الإِنْسَانِ، وَجُمْلَةُ الفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَفَاعِلِهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ، وَجُمْلَةُ المُبْتَدَإِ وَخَبَرِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ، وَرَابِطُ جُمْلَةِ الخبرِ بالمبتدإِ الضميرُ المُسْتَتِرُ الواقعُ فَاعِلاً، وَرَابِطُ جُمْلَةِ الحالِ الْوَاوُ.
الشاهدُ فِيهِ قَوْلُهُ: (كَانَ إِيَّاهُ)؛ حيثُ أَتَى بالضميرِ الواقعِ خبراً لكانَ الناسخةِ للمُبْتَدَإِ والخبرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (إِيَّاهُ) مُنْفَصِلاً، وَالْمَجِيءُ بالضميرِ مُنْفَصِلاً فِي هَذِهِ الحالةِ جَائِزٌ لا ضَرُورَةَ فِيهِ وَلا شُذُوذَ، والإتيانُ بِهِ مُتَّصِلاً جَائِزٌ أيضاً،
وَقَدْ وَرَدَ مِنْهُ مُتَّصِلاً قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ فِي حَدِيثٍ عَن ابْنِ صَيَّادٍ: ((إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)). وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ هَذَا الحديثِ قَرِيباً، وَأَوَّلُهُ قَد اسْتَشْهَدَ بِهِ المُؤَلِّفُ، كَمَا مَرَّ أَنَّ تَقْدِيرَهُ إِنْ يَكُنِ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الْمَسِيخَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَلَنْ تَتَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ؛ لأَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ المسيخَ الدَّجَّالَ مُعَيَّنٌ مَعْرُوفٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الْمَسِيخَ الدَّجَّالَ فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قتلِهِ.
وَنَظِيرُ الشاهدِ فِي الإتيانِ بِخَبَرِ كَانَ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا ضَمِيراً مُنْفَصِلاً قَوْلُ الشاعرِ، وَيُنْسَبُ إِلَى الْعَرْجِيِّ:
لَيْسَ إِيَّايَ وَإِيَّا = كِ وَلا نَخْشَى رَقِيبَا
الشاهدُ فِي قَوْلِهِ: (لَيْسَ إِيَّايَ). فَإِنَّ لَيْسَ فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ يَرْفَعُ الاسمَ وَيَنْصِبُ الخبرَ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ تَقْدِيرُهُ هُوَ، وَإِيَّايَ خَبَرُهُ، وَهُوَ ضميرٌ مُنْفَصِلٌ، ولو أَنَّهُ أَتَى بِهِ مُتَّصِلاً لَقَالَ: (لَيْسَنِي)، كَمَا قَالُوا: (عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَنِي)؛ أَيْ: لَيْسَ (هُوَ) الرجلَ الَّذِي يَلْزَمُهُ إِيَّايَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُسَاوِرٍ العَبْسِيِّ، وَيُنْسَبُ إِلَى الْعَجَّاجِ:
لو أَنَّهُ أَبَانَ أَوْ تَكَلَّمَا = لَكَانَ إِيَّاهُ وَلَكِنْ أَعْجَمَا
ومثلُهُ الشاهدُ رَقْمُ 83 الآتِي فِي بابِ كَانَ، وَهُوَ قَوْلُ الشاعرِ:
بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ فِي قَوْمِهِ الْفَتَى = وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ
وقدِ اسْتَعْمَلَ الناظمُ ذَلِكَ فِي بابِ المبتدإِ والخبرِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَإِنْ تَكُنْ إِيَّاهُ مَعْنًى اكْتَفَى = بِهَا كَنُطْقِي اللَّهُ حَسْبِي وَكَفَى
وَقَدِ اخْتَلَفَ العلماءُ فِي أَرْجَحِ الوَجْهَيْنِ عَلَى مثالِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الشاهدِ السابقِ.
وَمِنَ الاتِّصَالِ فِي بابِ (كَانَ) مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: (عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَنِي). وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ، وَهُوَ الشاهدُ رَقْمُ 31 الآتِي قَرِيباً:
عَدَدْتُ قَوْمِي كَعَدِيدِ الطَّيْسِ = إِذْ ذَهَبَ الْقَوْمُ الْكِرَامُ لَيْسِي
وَسَيَأْتِي هَذَا مَشْرُوحاً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الأسودِ الدُّؤَلِيِّ - وَكَانَ لَهُ غُلامٌ يَحْمِلُ تِجَارَتَهُ، وَكَانَ الغلامُ كُلَّمَا مَضَى بالتجارةِ شَرِبَ الخمرَ فَاضْطَرَبَ أَمْرُ التجارةِ - فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ أَبُو الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
دَعِ الْخَمْرَ يَشْرَبُهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي = رَأَيْتُ أَخَاهَا مُجْزِياً بِمَكَانِهَا
فَإِلاَّ يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ = أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
والاستشهادُ هُنَا بقولِهِ: (يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ الواقعِ خبراً لكانَ فِي الموضعَيْنِ مُتَّصِلاً عَلَى مَا تَرَى، يُرِيدُ: إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيذُ الخَمْرَ أَوْ تَكُنِ الخمرُ النَّبِيذَ فَإِنَّهُ أَخُوهَا شَرِبا مِنْ عُرُوقِ شجرةٍ واحدةٍ.
ومثلُ قَوْلِ الْمَجْنُونِ فِي لَيْلاهُ:
كَادَ الْغَزَالُ يَكُونُهَا = لَوْلا الشَّوَى وَنُشُوزُ قَرْنِهْ
([9]) نُسِبَ إِلَى أميرِ الْمُؤْمِنِينَ عثمانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: (أَرَاهُمُنِي الْبَاطِلُ شَيْطَاناً) بِوَصْلِ الضَّمِيرَيْنِ، وَأَوَّلُهُمَا لَيْسَ أَعْرَفَ مِنَ الثاني؛ لأَنَّ الأوَّلَ ضَمِيرُ غَيْبَةٍ والثانيَ ضَمِيرُ مُتَكَلِّمٍ، وَمَعْنَى العبارةِ أَنَّ الباطلَ أَرَاهُم إِيَّايَ شَيْطَاناً؛ أَيْ: جَعَلَهُم يَرَوْنَنِي شَيْطَاناً.
29 - هَذَا عَجُزُ بَيْتٍ مِنَ الطويلِ، وَصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
لِوَجْهِكَ فِي الإِحْسَانِ بَسْطٌ وَبَهْجَةٌ
وَلَمْ أَقِفْ لهذا البيتِ عَلَى نسبةٍ إِلَى قائلٍ مُعَيَّنٍ، وَلا عَثَرْتُ لَهُ عَلَى سَوَابِقَ أَوْ لَوَاحِقَ.
اللغةُ: (بَسْطٌ) بَشَاشَةٌ وطلاقةٌ. (بَهْجَةٌ) حُسْنٌ وَسُرُورٌ. (أَنَالَهُمَاهُ) مَعْنَاهُ المرادُ: عَوِّدْ وَجْهَكَ البَسْطَ والبهجةَ. (قَفْوُ) اتِّبَاعٌ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَفَاهُ يَقْفُوهُ، وَأَصْلُهُ كَانَ مِنْ مكانِهِ فِي جهةِ قَفَاهُ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ يَتَّبِعُ وَاحِداً وَيَسِيرُ عَلَى أَثْرِهِ.
الإعرابُ: اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ، وَجْه: مَجْرُورٌ باللامِ، وعلامةُ جَرِّهِ الكسرةُ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَوَجْه مُضَافٌ، والكافُ ضَمِيرُ المخاطبِ مُضَافٌ إِلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ فِي مَحَلِّ جَرٍّ. (فِي الإحسانِ) جَارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِبَسْط (بَسْطٌ:) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. (وَبَهْجَةٌ) الْوَاوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، بَهْجَةٌ: مَعْطُوفٌ عَلَى (بَسْطٌ). (أَنَالَهُمَاهُ) أَنَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وَضَمِيرُ الغائبِ الْمُثَنَّى العائدُ إِلَى البسطِ وَالبهجةِ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لأَنَالَ، وَضَمِيرُ الغائبِ المُفْرَدُ العَائِدُ إِلَى الْوَجْهِ مَفْعُولٌ ثَانٍ لأنَالَ، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْمُثَنَّى مَفْعُولاً ثَانِياً تَقَدَّمَ عَلَى المفعولِ الأوَّلِ الَّذِي هُوَ ضميرُ المفردِ. (قَفْوُ): فَاعِلُ أَنَالَ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وَقَفْوُ مُضَافٌ، وَ (أَكْرَمِ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مِنْ إضافةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مفعولِهِ، وَأَكْرَم: مُضَافٌ، وَ (وَالِدِ) مُضَافٌ إِلَيْهِ.
الشاهدُ فِيهِ: (أَنَالَهُمَاهُ) حَيْثُ أَتَى بالضميرِ الثاني - وَهُوَ ضَمِيرُ المفردِ الغائبِ الَّذِي هُوَ الهاءُ - مُتَّصِلاً، والأكثرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الحالِ الانفصالُ، وَلَوْ جَاءَ بالكلامِ عَلَى مَا هُوَ الأكثرُ لَقَالَ: (أَنَالَهُمَاهُ إِيَّاهُ). ومع ذَلِكَ لَيْسَ الاتِّصَالُ شَاذًّا وَلا ضَرُورَةً.
وَإِنَّمَا جَازَ الاتِّصَالُ والانفصالُ فِي الضَّمِيرَيْنِ المُتَّحِدِي الرُّتْبَةِ إِذَا كَانَا ضَمِيرَيْ غَيْبَةٍ دُون ضَمِيرَيِ التَّكَلُّمِ وَالخِطَابِ؛ لِصِحَّةِ تَعَدُّدِ مَدْلُولَيْ ضَمِيرَيِ الغَيْبَةِ، أَلا تَرَى أَنَّ مَدْلُولَ الضميرِ الأوَّلِ فِي هَذِهِ العبارةِ مُثَنًّى غَائِبٌ، وَهُوَ البسطُ والبهجةُ، وأنَّ مدلولَ الضميرِ الثاني مُفْرَدٌ غَائِبٌ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَلَيْسَ مدلولُ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ بِمَدْلُولِ الآخرِ وَلا بَعْضِ مَدْلُولِ الآخرِ؟!
فَأَمَّا ضَمِيرَا المُتَكَلِّمِ مَثَلاً فَإِنَّهُمَا - وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ لَفْظِ الآخرِ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَاءَ المُتَكَلِّمِ وَالثاني نَا - لا يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلِفَ مَدْلُولُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِن الاختلافِ، بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ أَحَدِهِمَا هُوَ عَيْنَ مَدْلُولِ الآخرِ أَوْ بَعْضَهُ، بأنْ يُعَبِّرَ المُتَكَلِّمُ عَنْ نَفْسِهِ وَحْدَهُ بالياءِ ثُمَّ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضاً بِـ (نَا)، أَوْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ بالياءِ، ثُمَّ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَيُعَبِّرَ بِنَا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ فِي ضَمِيرَيِ الغَيْبَةِ أَمْرَانِ: اخْتِلافُ لَفْظِهِمَا وَاخْتِلافُ مَدْلُولِهِمَا، نُزِّلَ ذَلِكَ منزلةَ اخْتِلافِ الضَّمِيرَيْنِ، وَجَازَ فِيهِمَا الأَمْرَانِ، وَكَانَ الانفصالُ فِي ثَانِيهِمَا أَرْجَحَ نَظَراً إِلَى حقيقةِ الأَمْرِ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ الأَمْرَانِ فِي ضَمِيرَيِ التَّكَلُّمِ وَضَمِيرَيِ الخِطَابِ لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا إِلاَّ وَجْهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الانفصالُ.
وَمِثْلُ هَذَا الشاهدِ قَوْلُ مُغَلِّسِ بْنِ لَقِيطٍ:
وقدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ = لِضَغْمِهِمَاهَا يَقْرَعُ العَظْمَ نَابُهَا
الاستشهادُ بِقَوْلِهِ: (لِضَغْمِهِمَاهَا) حيثُ جَاءَ بالضميرِ الثاني - وَهُوَ (هَا) مُتَّصِلاً، وَلَوْ جَاءَ مُنْفَصِلاً لَقَالَ: (لِضَغْمِهِمَا إِيَّاهَا).
وَجَوَازُ الأَمْرَيْنِ فِي ضَمِيرَيِ الغَيْبَةِ هُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ تَبَعاً لإمامِ النُّحَاةِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الرَّضِيُّ فِي الثاني مِنْهُمَا الانْفِصَالَ كَمَا فِي ضَمِيرَيِ التَّكَلُّمِ وَضَمِيرَيِ الْخِطَابِ؛ طَرْداً للبَابِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَا ثَبَتَ َبالسماعِ وبالتعليلِ، فَاعْرِفْ ذَلِكَ وَكُنْ مِنْهُ عَلَى بَصِيرَةٍ.


  #4  
قديم 19 ذو الحجة 1429هـ/17-12-2008م, 10:48 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح ألفية ابن مالك للشيخ: علي بن محمد الأشموني

63- وَفِى اختيارٍ لا يجيءُ المنفصـلُ = إذا تَأَتَّى أَنْ يَجِيءَ المتَّصِـــــلَ

(وفِي اختيارٍ لا يَجِيءُ) الضميرُ (المنفصلُ* إذا تَأَتَّى أَنْ يجيءَ) الضميرُ(المُتَّصِلُ)؛ لأنَّ الغرضَ مِنْ وضعِ المضمراتِ إنما هو الاختصارُ، والمتَّصِلُ أخصرُ مِنَ المنفصلِ، فلا عدولَ عنه إلا حيثُ لم يتأَتَّ الاتصالُ؛ لضرورةِ نظمٍ، كقولِه [من البسيط]:
46- وَمَا أُصَاحِبُ مِنْ قَوْمٍ فَأَذْكُرُهُمْ = إِلاَّ يَزِيدُهُمْ حبًّا إِليَّ هُـــــمُ
وقولُه [من البسيط]:
47- بِالبَاعِثِ الوَارِثِ الأَمْوَاتِ قد ضَمِنَتْ = إِيَّاهُمُ الأَرْضُ فِي دَهْرِ الدَّهَارِيرِ
الأصلُ: "إلا يُزِيدُونَهُمْ"، و"قَدْ ضَمِنَتْهُمْ"، أَوْ تَقَدَّمَ الضميرُ على عاملِه، نحو: {إِيَّاكَ نعبدُ} أو كونُه محصورًا بإلا أو إِنَّمَا، نحوُ: {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}،
ونحوُ قولِه [من الطويل]:
48- أَنَا الذَّائِدُ الحَامِي الذِّمَارَ، وَإِنَّمَـا = يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِــي
لأنَّ المعنى: "لا يُدَافِعُ إلا أَنَا"، أَوْ كونُ العاملِ محذوفًا أو معنويًّا، نحوُ: "إِيَّاكَ وَالشرَّ" و"أنا زيدٌ"؛ لتعذُّرِ الاتصالِ بالمحذوفِ والمعنويِّ.
64- وَصِلْ أَوِ افْصِلْ هَاءَ سَلْنِيهُ، وَمَا = أَشْبَهَهُ، فِي كُنْتُهُ الخُلْفُ انْتَمَــى

65- كَذَاكَ خِلْتَنِيهِ، واتِّصَـــالاً = أَخْتَارُ، غَيرِي اخْتَارَ الانفِصــَـالاَ
(وَصِلْ أوِ افصلِ هاءَ سَلْنِيهِ وَمَا أَشْبَهَهُ) أي: وما أشبَهَ هاءَ سَلِنِيهُ، مِنْ كلِّ ثاني ضميرينِ أوَّلُهُمَا أخصُّ وغيرُ مرفوعٍ، والعاملُ فيهما غيرُ ناسخٍ للابتداءِ، سواءٌ كانَ فعلاً، نحوُ: "سَلْنِيهِ"، و"سَلْنِي إيَّاهُ"، و"الدرهمُ أعطيتُكَهُ"، و"أعطيتُكَ إِيَّاهُ" والاتِّصَالُ حينئذٍ أرجحُ،قالَ تعالى: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}، {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}، { إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا}، {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ في منامِك قليلاً وَلَوْ أَرَاكَهُم كثيرًا} ومِنَ الفصلِ "إن اللَّهَ ملَّكَكُمْ إِيَّاهُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَمَلَّكَهُمْ إِيَّاكُمْ" أو اسمًا، نحوُ: "الدرهمُ أنا مُعْطِيكَهُ"، و"مُعْطِيكَ إِيَّاهُ" والانفصالُ حينئذٍ أرجحُ ، ومِنَ الاتصالِ قولُه [من المتقارب]:
49- لَئِنْ كَانَ حُبُّكَ لِي كَاذِبـًـا = لَقَدْ كَانَ حُبِّيكَ حَقًّا يَقِينـَــــا
وقولُه [من الوافر]:
50- فَلا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ فِيهَا = وَمَنْعُكُهَا بِشَيْءٍ يُسْتَطَــــــاعُ
و(في) هاءِ (كُنْتُهُ) وَبَابُه (الخُلْفُ) الآتي ذِكْرُهُ (انْتَمَى) أي: انَتَسَبْ، و(كذاكَ) في هاءِ (خِلْتَنِيهِ) وما أشبهَهُ، مِنْ كُلِّ ثاني ضميرينِ أولُّهما أخصُّ، وغيرُ مرفوعٍ، والعاملُ فيهما ناسخٍ للابتداءِ، (واتِّصَالاً* أَخْتَارُ) في البابينِ؛ لأنَّهُ الأصلُ، ومِنَ الاتصالِ في بابِ "كانَ" قولُه صلى اللَّه عليه وسلَّمَ في ابنِ صيَّادٍ: (( إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ ، وَإِلا َّيَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)) وقولُ الشاعرِ [من الطويل]:

51- دَعِ الخَمْرَ يَشْرَبُهَا الغُوَاةُ فَإِنَّنِي = رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا بِمَكَانِهَــــا
فَإِنْ لا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ = أَخُوهَا غَذَتْهُ أمـُّـهُ بِلِبَانِهـــا
وأما الاتصالُ في بابِ "خَالَ" فَلِمُشَابَهَةِ "خَلْتِنِيهِ" و"ظَنَنْتُكَهُ" بِسَأَلْتِنِيهِ وَأَعْطَيْتُكَهُ، وهو ظاهرٌ، ومنه قولُه [من البسيط]:
52- بُلِّغْتُ صُنْعَ امْرِيءٍ بِرٍّ إِخَالُكُه = إِذْ لَمْ تَزَلْ لِاكْتِسَابِ الحَمْدِ مُبْتَدِرًا
وأما (غَيْرِي) سيبويهِ والأكثرُ فإنَّهُ (اختارَ الانفصالاَ) فيهما؛ لأنَّ الضميرَ في البابينِ خبرٌ في الأصلِ، وحقُّ الخبرِ الانفصالُ، وكلَاهما مسموعٌ، فمِنَ الأَوَّلِ قولُه [من الطويل]:
53- لَئِنْ كَانَ إِيَّاهُ لَقَدْ حَالَ بَعْدَنَـا = عَنِ العَهْدِ وَالإِنْسَانُ قد يَتَغَيَّــرُ
ومن الثاني قولُه [من البسيط]:
54- أَخِي حَسِبْتُكَ إِيَّاهُ وَقَدْ مُلِئَتْ = أَرْجَاءُ صَدْرِكَ بِالأَضْغَانِ وَالإِحَــنِ
تنبيهٌ : وافَقَ الناظمُ في (التسهيلِ) سيبويهِ على اختيارِ الانفصالِ في باب "خِلْتِنِيهِ"، قال: لأنَّهُ خبرُ مبتدأٍ في الأصلِ، وقد حجَزَهُ عنِ الفعلِ منصوبٌ آخرُ، بخلافِ هاءِ "كنُتْهُ"، فَإِنَّهُ خبرُ مبتدأٍ في الأصلِ، ولكنَّه شبيهٌ بهاءِ ضرَبْتُهُ في أنَّهُ لم يحجِزْه إلا ضميرٌ مرفوعٌ ، والمرفوعُ كجزءٍ مِنَ الفعلِ، وما اختارَهُ الناظمُ هنا هو مختارُ الرُّمَّانِيِّ وابنِ الطَّرَاوَةِ.


  #5  
قديم 19 ذو الحجة 1429هـ/17-12-2008م, 10:49 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي دليل السالك للشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان

اتِّصَالُ الضميرِ وانفصالُه

63- وفي اختيارٍ لا يَجِيءُ المُنْفَصِلْ = إذا تَأَتَّى أنْ يَجِيءَ المتَّصِلْ
القاعدةُ في بابِ الضميرِ : أنه مَتَى أمْكَنَ الإتيانُ بالضميرِ المُتَّصِلِ، فلا يُعْدَلُ إلى الضميرِ المُنفصِلِ؛ لأَنَّ الغرَضَ مِن وَضْعِ الضميرِ الاختصارُ، والمُتَّصِلُ أشَدُّ اختصاراً مِن المُنفصِلِ، تقولُ: أكْرَمْتُكَ، ولا تقولُ: أكْرَمْتُ إيَّاكَ؛ لإمكانِ المُتَّصِلِ.
لكِنْ قدْ يَتَعَيَّنُ انفصالُ الضميرِ، ولا يُمكِنُ المجيءُ به مُتَّصِلاً، وذلك في مواضِعَ؛ منها:
1- أنْ يَتْقَدَّمَ الضميرُ على عامِلِه لداعٍ بَلاَغِيٍّ؛ كإفادةِ القَصْرِ، نحوُ: إيَّاكَ كَافَأَ المُدَرِّسُ، قالَ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
2- أنْ يَقَعَ بعدَ (إلاَّ) لإفادةِ الحصْرِ، نحوُ: ربَّنَا ما نَرْجُو إلاَّ إياكَ، قالَ تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}.
3- أنْ يُفْصَلَ بينَ الضميرِ وعاملِه بمعمولٍ آخَرَ، نحوُ: نحنُ نُكْرِمُ العُلماءَ وإيَّاكُمْ، قالَ تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}.
4- في ضرورةِ الشِّعْرِ؛ كقولِ زِيادِ بنِ مُنْقِذٍ العَدَوِيِّ التميميِّ في تَذَكُّرِ أهْلِه:
وما أُصَاحِبُ مِن قَوْمٍ فأَذْكُرُهُمْ = إلاَّ يَزِيدُهُمْ حُبًّا إِلَيَّ هُمُ
ففَصَلَ الضميرَ، وحَقُّه الاتِّصالُ، بأنْ يقولَ: إلاَّ يَزيدونَهم حُبًّا إِلَيَّ.
قالَ ابنُ مالِكٍ: (وفي اختيارٍ لا يَجيءُ المُنفصِلْ.. إلخ)؛ أي: لا يَجِيءُ الضميرُ المُنفصِلُ في سَعَةِ الكلامِ إذا أمْكَنَ الإتيانُ بالمُتَّصِلِ، أمَّا في الشِّعْرِ فيَجوزُ العدولُ عن الوصْلِ إلى الفصْلِ.
مواضِعُ جوازِ الاتِّصالِ والانفصالِ:

64- وصِلْ أوِ افْصِلْ هَاءَ سَلْنِيهِ ومَا = أَشْبَهَهُ فِي كُنْتُهُ الْخُلْفُ انْتَمَى
65- كذاكَ خِلْتَنِيهِ واتِّصَالاَ = أختارُ غَيْرِي اخْتَارَ الِانْفِصَالاَ
يَجُوزُ أنْ يُؤْتَى بالضميرِ مُنفصِلاً، معَ إمكانِ أنْ يُؤْتَى به مُتَّصِلاً في ثلاثِ مَسائلَ:
الأُولَى: أنْ يكونَ العامِلُ في الضميرينِ الْمَنْصُوبَيْنِ فِعْلاً غيرَ ناسِخٍ؛ كأَعْطَى وأخواتِها، والضميرُ الأوَّلُ أعرَفَ مِن الثاني، مِثالُه: الكتابُ سَلْنِيهِ، فيَجُوزُ في الهاءِ الاتِّصالُ أو الانفصالُ، نحوُ: الكتابَ سَلْنِي إِيَّاهُ، فالياءُ للمُتَكَلِّمِ والهاءُ للغائبِ، وضميرُ المُتَكَلِّمِ أعْرَفُ مِن الغائبِ، بمعنى: أنه أشَدُّ تَمييزاً لِمُسَمَّاهُ.
فإنْ لم يَكُنِ الضميرانِ مَنصوبَيْنِ، وَجَبَ وَصْلُ الضميرِ بعَامِلِه إنْ كانَ فِعْلاً، نحوُ: النِّظَامَ أَحْبَبْتُهُ، وإنْ كانَ الأوَّلُ غيرَ أعْرَفَ تَعَيَّنَ الفصْلُ، نحوُ: الكتابَ أعْطَاهُ إيَّاكَ زَيْدٌ.
والاتِّصالُ أرْجَحُ مِن الانفصالِ في هذه المسألةِ؛ لأنه هو الأَصْلُ.
ولأنه مُؤَيَّدٌ بالقرآنِ، قالَ تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}، وقالَ تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} وقالَ تعالى: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا}.
وقد وَرَدَ الفَصْلُ في السُّنَّةِ؛ كقولِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((أَفَلاَ تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟)). وليسَ الاتصالُ بواجِبٍ، وليسَ الانفصالُ مَخصوصاً بالشِّعْرِ؛ بدليلِ الحديثِ.
المسألةُ الثانيةُ: أنْ يكونَ الضميرُ الثاني مَنصوباً بكانَ أو إحدَى أَخَوَاتِها؛ لأنه خَبَرُها، فيَجوزُ الاتِّصالُ والانفصالُ، نحوُ: الصَّدِيقَ كُنْتَه، والصديقَ كُنْتَ إِيَّاهُ.
واختُلِفَ في المختارِ؛ فابنُ مالِكٍ ومَن وَافَقَه يَختارُ الاتصالَ؛ لأنه الأصْلُ، ولأنه مُؤَيَّدٌ بالحديثِ الشريفِ في قولِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لعُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه في شأنِ ابنِ صَيَّادٍ: ((إِنْ يَكُنْهُ، فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ يَكُنْهُ، فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)). وسِيبَوَيْهِ ومَن وَافَقَه يَخْتَارُ الفصْلَ؛ لأَنَّ الضميرَ خَبَرٌ، والأصْلَ فيه الانفصالُ، ولأنه ورَدَ عن العرَبِ، قالَ عمرُ بنُ أبي رَبيعةَ:
لَئِنْ كانَ إيَّاهُ لقدْ حالَ بَعْدَنَا = عن العهْدِ والإنسانُ قد يَتَغَيَّرُ
الثالثةُ: أنْ يكونَ العاملُ في الضميريْنِ فِعْلاً ناسِخاً؛ كظَنَّ وأَخَوَاتِها، فيَجُوزُ الاتصالُ، نحوَ: الصديقُ ظَنَنْتَكَهُ، والانفصالُ: الصديقُ ظَنَنْتُكَ إيَّاهُ. واختارَ ابنُ مالِكٍ الاتصالَ؛ لأنه الأصْلُ، ومُؤَيَّدٌ بالقرآنِ وكلامِ العرَبِ، قالَ تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ}. وقالَ الشاعرُ:
بُلِّغْتُ صُنْعَ امرِئٍ بِرٍّ إخَالُكَهُ = إذْ لَمْ تَزَلْ لاكتسابِ الحمْدِ مُبْتَدِرَا
واختارَ سِيبَوَيْهِ الانفصالَ؛ لأَنَّ الضميرَ خَبَرٌ، والأصْلَ فيه الانفصالُ، ولأنه وَرَدَ عن العرَبِ، قالَ الشاعرُ:
أخي حَسِبْتُكَ إيَّاهُ وقد مُلِئَتْ = أرجاءُ صَدْرِكَ بالأضغانِ والإِحَنِ
وهذا معنى قولِه: (وصِلْ أوِ افْصِلْ.. إلخ)؛ أيْ: يَجُوزُ وَصْلُ الضميرِ وفَصْلُه، وهو الهاءُ في قولِكَ: (سَلْنِيهِ). وتقديمُه الوصْلَ يُشْعِرُ باختيارِه، والمرادُ بقولِهِ: (وَمَا أَشْبَهَهُ)؛ أيْ: مِن أفعالِ هذا البابِ، وهو بابُ (سأَلَ وأَعْطَى)، ثم ذَكَرَ أنَّ الْخِلافَ (انْتَمَى)؛ أي: انْتَسَبَ إلى قائِلِيهِ في مسألةِ كانَ وأَخَوَاتِها، وكذلك في بابِ (ظَنَّ)، ثُمَّ صَرَّحَ بأنه يَخْتَارُ الاتصالَ وأنَّ غيرَه يَختارُ الانفصالَ.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مواضع, الإتيان

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:12 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir