دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 07:36 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الفناء يراد به ثلاثة أمور

وَالْفَنَاءُ يُرَادُ بِهِ ثَلاَثَةُ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ، الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، هُوَ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَيَفْنَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ، وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَعَنِ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَعَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ، وَعَنْ خَوْفِ غَيْرِهِ بِخَوْفِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَّبِعُ الْعَبْدُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَبِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُه أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، فَهَذَا كُلُّه هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُه.
وَأَمَّا الْفَنَاءُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يَذَكُرُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَفْنَى بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ، وبمذكورِه عَنْ ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، بِحَيْثُ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُعُورِهِ بِنَفْسِهِ وَبِمَا سِوَى اللَّهِ - فَهَذَا حَالٌ نَاقِصٌ، قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ طَرِيقِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَعْرِضْ مِثْلُ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ.
وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نِهَايَةَ السَّالِكِينَ فَهُوَ ضَالٌّ ضَلاَلًا مُبِينًا، وَكَذَلِكَ مَنْ جَعْله مِنْ لَوَازِمِ طَرِيقِ اللَّهِ فَهُوَ مخطئٌ، بَلْ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ طَرِيقِ اللَّهِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، لَيْسَ هُوَ مِنَ اللَّوَازِمِ الَّتِي تَحْصُلُ لِكُلِّ سَالِكٍ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السِّوَى، بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ، وَأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ، فَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ، الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَضَلِّ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلاَءِ لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطَّرِدَ قَوْلُهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْقَدَرِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، فَعُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُضْرَبَ وَيُجَاعَ حَتَّى يُبْتَلَى بِعَظِيمِ الْأَوْصَابِ وَالْأَوْجَاعِ - فَإِنْ لاَمَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ وَعَابَهُ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلَه، وَخَرَجَ عَنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِ، وَقِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مَقْضِيٌّ مَقْدُورٌ، فَخَلْقُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَمَشِيئَتُه مُتَنَاوِلٌ لَك وَلَهُ، وَهُوَ يَعُمُّكُمَا، فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَك فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَذَا، وَإِلاَّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لاَ لَك وَلاَ لَهُ. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى الْقَدَرِ، وَيُعْرِضُ عَنِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

  #2  
قديم 7 ذو الحجة 1429هـ/5-12-2008م, 04:13 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

فَصْلٌ

في الفَنَاءَ وأَقْسَامِهِ
الفناءُ لغةً: الزَّوالُ. قالَ اللهُ تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ)([1]).

وفي الاصْطِلاحِ ثلاثةُ أقْسَامٍ:
الأَوَّلُ: دينيٌّ شرعيٌّ وهوَ الفَنَاءُ عنْ إرادةِ السِّوَى. أيْ: عنْ إرادةِ مَا سِوَى اللهِ عزَّ وَجَلَّ بحيثُ يَفْنَى بالإِخْلاصِ للهِ عنِ الشِّرْكِ، وبشريعَتِهِ عنِ البِدْعَةِ، وبطاعتِهِ عنْ معصَيتِهِ، وبالتَّوَكُّلِ عليْهِ عنْ التَّعلُّقِ بغيرِهِ، وبمرادِ ربِّهِ عنْ مرادِ نَفْسِهِ إلى غيرِ ذلكَ ممَّا يَشْتَغِلُ بهِ مِنْ مَرضاةِ اللهِ عما سِوَاهُ.
وحقيقتُه: انشغالُ العبْدِ بمَا يُقرِّبُهُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ عمَّا لا يُقرِّبُهُ إليْهِ وإنْ سُمِّيَ فناءً في اصْطِلاحِهِمْ.
وهذَا فناءٌ شرْعيٌّ بهِ جَاءَت الرُّسُلُ، ونَزَلَت الكُتُبُ، وبهِ قيامُ الدِّينِ والدنْيا، وصلاحُ الآخرةِ والدُّنْيَا قالَ اللهُ تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)([2]). وقالَ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)([3]). وقالَ: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)([4]). وقالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)([5]).
وهذَا هوَ الذَّوْقُ الإيمانيُّ الحقيقيُّ الّذِي لا يُعَادِلُهُ ذوقٌ ففِي الصَّحِيحَيْنِ عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنْهُ أنَّ النَّبيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ بهنَّ حَلاَوَةَ الإِيمانِ أَنْ يكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إليْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المرءَ لاَ يُحبُّهُ إلاّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ". وفي صحيحِ مسلمٍ عَنْ العَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ رضيَ اللهُ عنْهُ أنَّ النَّبيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: "ذَاقَ طَعْمَ الإيمَانِ مَنْ رَضِيَ باللهِ رَبَّاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَسُولاً".

القِسْمُ الثَّانِي: صُوفيٌّ بِدْعِيٌّ وَهُوَ: الفناءُ عَنْ شُهودِ السِّوَى أيْ عَنْ شُهودِ مَا سِوى اللهِ تعالى، وذلكَ أَنَّهُ بِمَا وَرَدَ على قلبهِ منَ التَّعَلُّقِ باللهِ عَزَّ وجلَّ وضعْفِهِ عنْ تحمُّلِ هذَا الواردِ ومقاوَمَتِهِ غَابَ عنْ قلبِهِ كلُّ مَا سوى اللهِ عزَّ وَجَلَّ ففَنِيَ بِهذِهِ الغَيْبُوبَةِ عنْ شهودِ مَا سواهُ، ففَنِيَ بالمَعْبُودِ عنِ العِبادةِ وبالمذكورِ عنِ الذِّكْرِ، حتَّى صارَ لاَ يدْرِي أَهُوَ في عِبادةٍ وذكْرٍ أمْ لاَ، لأنَّهُ غائبٌ عنْ ذلكَ بالمعبودِ والمذكورِ لقوَّةِ سيطرَةِ الواردِ على قَلْبِهِ.


وهذَا فناءٌ يَحْصُلُ لبعضِ أرْبابِ السُّلوكِ، وهوَ فناءٌ ناقصٌ منْ وجوهٍ:
الأَوَّلُ: أَنَّهُ دليلٌ على ضعْفِ قلْبِ الفَانِي، وأنَّهُ لمْ يَستطِع الجَمْعَ بيْنَ شُهودِ المعبودِ والعِبادةِ، والأَمرِ والمأمورِ بهِ، واعتَقَدَ أنَّهُ إذَا شاهَدَ العِبادةَ والأمرَ اشتَغَلَ بهِ عنِ المعبودِ والآمرِ، بلْ إذَا ذكرَ العِبادةَ والذِّكْرَ كانَ ذلكَ اشتغالاً عنِ المعبودِ والمذكورِ.

الثَّاني: أنَّهُ يَصِلُ بصاحِبِهِ إلى حالٍ تُشبِهُ حالَ المجانينِ والسُّكارى حتى إِنَّهُ ليَصْدُرُ عنهُ منَ الشَّطَحَاتِ القوليَّةِ والفعليَّةِ المخالِفةِ للشَّرْعِ ما يَعْلَمُ هُوَ وغَيْرُهُ غَلَطَهُ فيهَا كقولِ بعضِهِمْ في هذِهِ الحَال: "سُبْحَاني.. سبْحَانِي أنَا اللهُ. مَا في الجُبَّةِ إلا اللهُ أَنْصُبُ خَيْمَتي على جَهَنَّمَ" ونحوِ ذلكَ منَ الهَذَيَانِ والشَّطَحِ.

الثَّالِثُ: أنَّ هذَا الفناءَ لمْ يَقَعْ منَ المخلِصِينَ الكُمَّلِ مِنْ عِبادِ اللهِ فلمْ يَحْصُلْ لِلرُّسُلِ، ولاَ للأنبياءِ، ولاَ لِلصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ. فَهذَا رسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رأى ليلةَ الْمِعراجِ منْ آياتِ اللهِ اليَقِينيَّةِ ما لمْ يَقعْ لأحدٍ منَ البَشَرِ وَفي هذهِ الحالِ كانَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على غايةٍ منَ الثَّباتِ في قُوَاهُ الظِّاهِرَةِ والبَاطنَةِ كمَا قالَ اللهُ تعالى عنْ قواهُ الظَّاهِرَةِ: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)([6]). وقالَ عنْ قواهُ الباطنَةِ: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)([7]). وهاهُم الخُلفاءُ الراشدونَ أبُو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ رضيَ اللهُ عنْهُمْ أفْضَلُ البَشَرِ بَعْدَ الأنبياءِ وساداتِ أوليائهمْ لمْ يَقَعْ لهمْ مِثلُ هذَا الفناءِ، وهاهمْ سائرُ الصَّحابةِ معَ عُلُوِّ مقامِهِمْ وكمالِ أحوالِهِمْ لمْ يَقَعْ لهمْ مثلَ هذَا الفناءِ.
وإِنَّمَا حَدَثَ هذَا في عصْرِ التَّابِعينَ فوقَعَ منْهُ منْ بعضِ العُبَّادِ والنُّسَّاكِ مَا وَقَعَ، فكانَ منهمْ منْ يَصْرُخُ، ومنهمْ منْ يُصْعَقُ، ومنهمْ من يموتُ، وعُرِفَ هذَا كثيراً في بعْضِ مشايِخِ الصُّوفيَّةِ.
ومنْ جَعَلَ هذَا نهايةَ السَّالِكينَ فقدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً، وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ لوازِمِ السَّيْرِ إلى اللهِ فقدْ أَخْطَأَ.
وَحَقِيقَتُهُ: أَنَّهُ مِنَ العَوَارِضِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكينَ لقوَّةِ الواردِ على قلوبِهِمْ وَضَعْفِهَا عنْ مقاوَمَتِهِ، وعنِ الجمْعِ بينَ شُهُودِ العِبادةِ والمَعْبُودِ ونحوِ ذلكَ.

القِسْمُ الثَّالِثُ: فناءٌ إلحاديٌّ كُفْريٌّ وهُوَ: الفناءُ عَنِ وُجُودِ السِّوَى. أيْ: عَنْ وُجُودِ مَا سِوى اللهِ عزَّ وجَلَّ، بحيثُ يَرَى أنَّ الخالقَ عَيْنُ المخلوقِ، وأنَّ الموجودَ عينُ المُوجِدِ، وليسَ ثَمَّةَ ربٌّ ومربوبٌ، وخالقٌ ومخلوقٌ، وعابدٌ ومعبودٌ وآمِرٌ ومأمورٌ، بل الكلُّ شيءٌ واحدٌ وعينٌ واحدةٌ.
وهذَا فناءُ أَهْلِ الإِلحادِ القَائِلينَ بِوِحْدَةِ الوُجُودِ كابْنِ عَرَبيٍّ، والتِّلْمِسَانيِّ وابنِ سَبْعين، والقُونَويِّ ونحوِهِمْ.. وهؤلاءِ أَكْفَرُ مِنَ النَّصارى مِنْ وَجهَيْن:

أَحَدُهُمَا: أنَّ هؤلاءِ جعلُوا الربَّ الخالقَ عينَ المربوبِ المخلوقِ وأولئكَ النَّصارى جَعَلُوا الرَّبَّ مُتَّحِداً بِعَبْدِهِ الذِي اصْطَفَاهُ بَعْدَ أنْ كانَا غَيْرَ مُتَّحِدَيْنِ.

الثَّانِي: أنَّ هؤلاءِ جَعَلُوا اتِّحادَ الرَّبِّ سارياً في كلِّ شيْءٍ في الكلابِ والخنازيرِ، والأقذارِ، والأوْساخِ. وأولئكَ النَّصارى خَصُّوهُ بِمَنْ عَظَّمُوهُ كالمسيحِ([8]).
وتَصوُّرُ هذَا القَوْلِ كافٍ في ردِّهِ، إذْ مقْتَضَاهُ: أنَّ الرَّبَّ والعبدَ شيءٌ واحدٌ، والآكِلُ والمأكولُ شيْءٌ واحدٌ، والنَّاكِحُ والمنكوحُ شيْءٌ واحدٌ، والخَصْمُ والقاضِي شيْءٌ واحدٌ، والمشهودُ لهُ وعليْهِ والشَّاهِدُ شيْءٌ واحدٌ، وهذَا غايةُ ما يكونُ مِنَ السَّفَهِ والضَّلاَلِ.
قالَ الشيخُ رحمهُ اللهُ: وَيُذْكَرُ عَنْ بعْضِهِمْ أَنَّهُ كانَ يَأْتِي ابْنَهُ ويَدَّعِي أنَّهُ اللهُ ربُّ العالمينَ([9]) فقبَّحَ اللهُ طائفةً يكونُ إلهُهَا الَّذِي تَعْبُدُهُ هُوَ مَوْطُوءُهَا الّذِي تَفْتَرِشُهُ.
وقالَ ابنُ القَيِّمِ رحِمَهُ اللهُ تعالى في النُّونيَّةِ عنْ هذِهِ الطَّائِفَةِ:
قَالقَوْمُ مَا صَانُوهُ عَنْ إِنْسٍ وَلاَ = جِنٍّ وَلاَ شَجَرٍ وَلاَ حَيَوَانِ
لَكِنَّهُ المَطْعُومُ وَالمَلْبُوسُ وَالْـ = مَشْمُومُ والمَسْمُوعُ بِالآذَانِ
وكَذَاكَ قَالُوا إِنَّهُ المَنْكُوحُ وَالْـ = مَذْبُوحُ بَلْ عَيْنُ الغَوِيِّ الزَّانِي

إلى أَنْ قَالَ:

هَذَا هُوَ المَعْبُودُ عِنْدَهُمُ فَقُلْ = سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السُّبْحَانِ
يَا أُمَّةً مَعْبُودُهَا مَوْطُوءُهَا = أَيْنَ الإِلهُ وَثَغْرَة الطَّعَّانِ
يَا أُمَّةً قَدْ صَارَ مِنْ كُفْرَانِهَا = جُزْءاً يَسِيراً جُمْلَةُ الكُفْرانِ

([1]) سورة الرحمن، الآيتان: 26، 27.

([2]) سورة الإسراء، الآية: 19.

([3]) سورة النحل، الآية: 97.

([4]) سورة الرعد، الآية: 22.

([5]) سورة المنافقون، الآية: 9.

([6]) سورة النجم، الآية: 17.

([7]) سورة النجم، الآية: 11.

([8]) ر: 2/172 مج. ف. ق.

([9]) ر: 2/378 مج. ف. ق.

  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 07:23 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح مقاصد المصطلحات العلمية للشيخ: محمد بن عبد الرحمن الخميس


(45) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصلٌ في أقسامِ الفناءِ... ).

الشرحُ:
أَقُولُ: قَصْدُ شَيْخِ الْإِسْلاَمِ هَهُنَا هو الردُّ على الصوفيَّةِ الحُلُولِيَّةِ والاتِّحَادِيَّةِ بِذِكْرِ معانِي الفناءِ.
حيثُ ذَكَرَ للفناءِ معنًى صحيحًا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى، وذَكَرَ للفناءِ مَعْنَيَيْنِ باطِلَيْنِ يُصَادِمَانِ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى.
فقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ما حَاصِلُهُ:
"الفناءُ" على ثلاثةِ أقسامٍ حَسَبَ اصطلاحِ الشرعِ واصطلاحِ الصوفيَّةِ.

الأَوَّلُ: هو الفناءُ الدِّينِيُّ الشرعيُّ المطلوبُ الواجبُ الذي جاءَتْ بهِ الرُّسُلُ والشرائعُ، وأُنْزِلَتْ بهِ الكُتُبُ السماويَّةُ.
وهو أنْ يَفْنَى المَرْءُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عنهُ بِفِعْلِ ما أَمَرَهُ اللَّهُ بهِ، فَيَفْنَى عن عبادةِ غَيْرِ اللَّهِ بعبادةِ اللَّهِ تَعَالَى، وعن طاعةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بطاعَتِهِ وطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا الفناءُ يُسَمَّى في الشرعِ: التَّقْوَى والبِرَّ والإحسانَ والإسلامَ والإيمانَ.
وهوَ فناءٌ مطلوبٌ شَرْعًا مأمورٌ بهِ في الإسلامِ.

الثاني: الفناءُ عن رؤيةِ ما سِوَى اللَّهِ وشهودِ غَيْرِ اللَّهِ.
فَيَفْنَى المرءُ بِمَعْبُودِهِ عن عبادتِهِ, أي: يَشْتَغِلُ باللَّهِ إلى حَدٍّ يَتْرُكُ عبادتَهُ، ويَتْرُكُ التكاليفَ الشرعيَّةَ، بحيثُ يَغِيبُ عن الكونِ حتى يَغِيبَ عن نفسِهِ, إلى أنْ لا يُشَاهِدَ إِلاَّ اللَّهَ.

وهذا النوعُ من الفناءِ قد يَقَعُ فيهِ كثيرٌ مِن الصوفيَّةِ الحُلُولِيَّةِ وأصحابِ وِحْدَةِ الشهودِ ]أي: الذينَ لا يُشَاهِدُونَ إِلاَّ اللَّهَ الواحدَ، ولا يُشَاهِدُونَ الكونَ مع اعتقادِهِم أنَّ الكونَ موجودٌ[.
وهذا النوعُ من الفناءِ إِلْحَادٌ وزَنْدَقَةٌ؛ لأَنَّ هذا الفناءَ لم يُعْرَفْ للأَنبياءِ والمُرْسَلِينَ ولا السابقِينَ الأَوَّلِينَ من المهاجرينَ والأَنَّصارِ.

الثالثُ: الفناءُ عن وجودِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، بحيثُ يَعْتَقِدُ أنَّ الوجودَ واحدٌ، وأنَّ الموجودَ واحدٌ وأنَّ الكونَ هو اللَّهُ بِعَيْنِهِ، وأنَّ اللَّهَ هو الكلبُ والخنزيرُ والفهدُ والقردُ والحِرْباءُ والناكحُ والمنكوحُ والعاشقُ والمعشوقُ والواطِئُ والمَوْطُوءُ، وهذا الفناءُ قد يَقَعُ فيهِ الصوفيَّةُ الوُجُودِيَّةُ من المَلاَحِدَةِ والزنادقَةِ أمثالِ الحَلاَّجِ، وابنِ عَرَبِيٍّ، وابنِ سَبْعِينَ، وابنِ الفارضِ، وعبدِ الكريمِ الجِيلِيِّ، وهذا الفناءُ أعظمُ كُفْرٍ على الإطلاقِ، وأَكْبَرُ زَنْدَقَةٍ وأقبحُ إلحادٍ، وهؤلاءِ أَشَدُّ كُفْرًا من اليهودِ والنصارَى.


(46) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(وهو أنْ يَفْنَى عن شهودِ ما سِوَى اللَّهِ).

الشرحُ:
أي: هذا النوعُ الثاني من الفناءِ –
هوَ أنْ يَفْنَى المرءُ عن رُؤْيَةِ ما سِوَى اللَّهِ، فلا يُشَاهِدُ غَيْرَ اللَّهِ، بلْ لا يُشَاهِدُ إِلاَّ اللَّهَ، مع اعتقادِ أنَّ غَيْرَ اللَّهِ موجودٌ، ولكنَّهُ لا يُشَاهِدُ إِلاَّ اللَّهَ، وذلكَ كاعتقادِ الناسِ أنَّ النجومَ موجودةٌ في النهارِ, ولكنَّهُم لا يُشَاهِدُونَ النجومَ لأجلِ شُعَاعِ الشمسِ، فهؤلاءِ أَيْضًا لا يُشَاهِدُونَ الكونَ لأجلِ قُوَّةِ شعاعِ نورِ اللَّهِ تَعَالَى - حَسَبِ زَعْمِهِم الفاسدِ- وهو فَنَاءُ أصحابِ وِحْدَةِ الشهودِ من الصوفيَّةِ الحُلُولِيَّةِ.

(47) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فهوَ الفناءُ عن وجودِ السِّوَى)

الشرحُ:
أي: النوعُ الثالثُ مِن الفناءِ هو فَنَاءُ المَرْءِ عن وجودِ سِوَى اللَّهِ، بِحَيْثُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لا مَوْجُودَ إِلاَّ اللَّهُ, وأنَّ الكونَ كُلَّهُ هو اللَّهُ، وأنَّ اللَّهَ هو الكلبُ والخنزيرُ والفهدُ والقردُ بِأَعْيَانِهَا.
فهذا الفناءُ فناءُ أصحابِ وِحْدَةِ الوجودِ, وهم الوجوديَّةُ الاتحاديَّةُ الذينَ هم أَشَدُّ كُفْرًا منها؛ الحُلُولِيَّةِ، وهو مذهبُ الغُلاَةِ مِن الصوفيَّةِ.

  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 07:27 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


قولُه:
والفناءُ يرادُ به ثلاثةُ أمورٍ: أحدُها: الفناءُ الدِّينيُّ الشرعيُّ الذي جاءَتْ به الرسُلُ، ونزلتْ به الكتُبُ وهو أن يَفْنَى عما لم يَأْمُرْهُ اللهُ به بِفعلِ ما أَمرَه اللهُ به فيَفْنَى عن عِبادةِ غيرِ اللهِ بعبادتِه وعن طاعةِ غيرِ اللهِ بطاعتِه وطاعةِ رسولِه. وعن التوكُّلِ على غيرِه بالتوكُّلِ عليه، وعن محبَّةِ ما سواه بمحبَّتِه ومحبَّةِ رسولِه، وعن خوفِ غيرِه بخوفِه؛ بحيث لا يتَّبِعُ العبدُ هَواه بغيرِ هدًى من اللهِ، وبحيث يكونُ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، كما قالَ تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} فهذا كلُّه مما أمَرَ اللهُ به ورسولُه.

وأما الفناءُ الثاني: وهو الذي يَذكرُه بعضُ الصوفيَّةِ فهو أن يَفنى عن شهودِ ما سوى اللهِ تعالى، فيَفنى بمعبودِه عن عبادتِه، وبمذكورِه عن ذِكرِه، وبمعروفِه عن معرفتِه، بحيث يَغيبُ عن شهودِ نفسِه لما سوى اللهِ تعالى. فهذا حالٌ ناقصٌ، قد يَعرِضُ لبعضِ السالكين وليس هو من لوازمِ طريقِ اللهِ. ولهذا لم يُعرفْ مثلُ هذا للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا السابقين الأوَّلِين. ومن جَعلَ هذا نهايةَ السالكين فهو ضالٌّ ضلالاً مبِيناً وكذلك من جَعلَه من لوازمِ طريقِ اللهِ فهو مخطئٌ خطأً فاحشاً، بل هو من عوارضِ طريقِ اللهِ التي تَعرِضُ لبعضِ الناسِ دونَ بعضٍ، ليس هو من اللوازمِ التي تَحصُلُ لكلِّ سالكٍ.

وأما الثالثُ: فهو الفناءُ عن وجودِ السِّوَى بحيث يَرى أن وجودَ المخلوقِ هو عينُ وجودِ الخالِقِ، وأن الوجودَ فيهما واحدٌ بالعَيْنِ) فهذا قولُ أهلِ الإلحادِ والاتِّحادِ الذين هم أَضلُّ العِبادِ.



الشرْحُ:

الفناءُ مصدَرُ فَنِيَ يَفْنى فناءً إذا اضْمَحَلَّ وتَلاشى وعَدِمَ، وقد يُطلَقُ على ما تَلاشت قُواه وأوصافُه مع بقاءِ عينِه كما قالَ الفقهاءُ: لا يُقتلُ في المعركةِ شيخٌ فانٍ. وقالَ تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي: هالكٌ ذاهبٌ، وأما معناه في كلامِ الصوفيَّةِ فيُرادُ به ثلاثةُ أمورٍ: الفناءُ عن إرادةِ السِّوَى، والفناءُ عن شهودِ السِّوَى، والفناءُ عن وجودِ السِّوَى.

وقد بيَّنَ المؤلِّفُ الأوَّلَ بقولِه: (أحدُهما الفناءُ الدِّينيُّ الشرعيُّ الذي جاءَت به الرسُلُ ونزلَتْ به الكُتبُ، وهو أن يَفْنى عن ما لم يَأْمُرْه اللهُ به بفعْلِ ما أَمرَه اللهُ به). ومعنى هذا أن القلبَ يَفْنى عن إرادةِ ما سوى الربِّ، وهو في الحقيقةِ عبادةُ القلبِ وتوكُّلُه واستعانتُه وتألُّهُهُ وإنابتُه وتوجُّهُه إلى اللهِ وحدَه لا شريكَ له، وليس لأحدٍ خروجٌ عن هذا، وهو ترجمةُ قولِ لا إلهَ إلا اللهُ، وقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ). وبهذا الفناءِ يكونُ غيرَ متَّبِعٍ هواه بغيرِ هدًى من اللهِ، بل يكونُ على هدًى مستقيمٍ، ويكونُ اللهُ ورسولُه أَحبَّ إليه مما سِواهما كما يُوضِّحُ ذلك آيةُ براءةٍ وحديثُ أَنسٍ الذي رواه البخاريُّ ومسلِمٌ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ). وهذا في الجملةِ هو أوَّلُ الدِّينِ وآخرُه وهو حقيقةُ الإخلاصِ وليس لأحدٍ خروجٌ عنه.

وبيَّنَ الثاني بقولِه: (فهو أن يَفنى عن شهودِ ما سِوى اللهِ بحيث يَغيبُ عن شهودِ نفسِه لما سِوى اللهِ تعالى) يعني أن الواحدَ منهم يَغيبُ عن سِوى مشهودِه، فيَغيبُ حتى عن نفسِه وشهودِها؛ لأنه يَغيبُ بمعبودِه عن عبادتِه، وبمذكورِه عن ذكرِه، وبموجودِه عن وجودِه. وبمحبوبِه عن حبِّه، وهذا الفناءُ هو الذي يشيرُ إليه أكثرُ الصوفيَّةِ المتأخِّرين ويَعدُّونه الغايةَ، وهو الذي بَنَى عليه أبو إسماعيلَ الأنصاريُّ كتابَه (منازلُ السائرين) وجَعلَه الدرجةَ الثالثةَ في كلِّ بابٍ من أبوابِه. وليس مرادُ القومِ فناءَ وجودِ ما سِوى اللهِ في الخارجِ بل مرادُهم فناؤُه عن شهودِهم وحِسِّهم، وقد يَغلبُ شهودُ القلبِ لمحبوبِه ومذكورِه حتى يَغيبَ به ويَفنى به فيَظنُّ أنه اتَّحدَ به وامتَزَجَ، بل يَظنُّ أنه هو نفسُه كما يُحكَى أن محبوباً وقَعَ في اليمِّ فألقى المحبُّ نفسَه خلفَه فقالَ أنا وقعْتُ فأنت ما الذي أَوقعَك فقالَ غِبتَ بك عني فظنَنْتُ أنكَ أني. وصاحبُ هذا الحالِ إذا عاد إليه عقلُه يعلمُ أنه كان غالِطاً في ذلك، وأن الحقائقَ متميِّزةٌ في ذاتِها، فالربُّ ربٌّ والعبدُ عبدٌ، والخالِقُ خالِقٌ بائنٌ عن المخلوقاتِ ليس في مخلوقاتِه شيءٌ من ذاتِه ولا في ذاتِه شيءٌ من مخلوقاتِه، ولا شكَّ أن شهودَ العبدِ قيامَه بالعبوديَّةِ أكملُ في العبوديَّةِ من غَيبتِه عن ذلك؛ فإن أداءَ العبوديَّةِ في حالِ غَيبةِ العبدِ عنها وعن نفسِه بمنزلةِ أداءِ السكرانِ والنائمِ. وأداؤُها في حالِ كمالِ يقظتِه وشعورِه بتفاصيلِها وقيامِه بها أَتَمُّ وأكمَلُ وأقوى عبوديَّةً، قالَ ابنُ القيِّمِ: (فتأمَّلْ حالَ عبدَيْن في خدمةِ سيِّدِهما أحدُهما يؤدِّي حقُوقَ خِدمتِه، في حالِ غيبتِه عن نفسِه وعن خدمتِه لاستغراقِه بمشاهدةِ سيِّدِه والآخرُ يؤدِّيها في حالِ كمالِ حضورِه وتمييزِه وإشعارِ نفسِه بخدمةِ السيِّدِ وابتهاجِها بذلك فرَحاً بخدمتِه وسروراً والتذاذاً منه، واستحضاراً لتفاصيلِ الخدمةِ ومنازلِها وهو مع ذلك عاملٌ على مرادِ سيِّدِه منه لا على مرادِه من سيِّدِه فأيُّ العبدَيْن أكمَلُ) ولا شكَّ أن هذا حالٌ ناقصٌ يَحصُلُ أحياناً لبعضِ السائرين إلى اللهِ وليس هذا الحالُ الناقصُ من مقتَضياتِ سلوكِ الدربِ الموصِّلِ إلى اللهِ بل ذلك عارضٌ يَعرِضُ لبعضِ الناسِ فيكونُ به أدنى مرتبةً من غيرِه ( فإن هذا لم يكنْ للنَبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا حالاً من أحوالِه، ولهذا في ليلةِ المعراجِ لما أُسْرِيَ به وعايَنَ ما عايَنَ مما أَراه اللهُ إيَّاه من آياتِه الكبرى لم تَعرِضْ له هذه الحالُ بل كان كما وَصفَه اللهُ عزَّ وجلَّ بقولِه تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وكذلك الصحابةُ - رضِيَ اللهُ عنهم - وهم ساداتُ العارفين وأئمَّةُ الواصلين المقرَّبين وقدوةُ السالكين لم يكنْ منهم من ابتُليَ بذلك، ولا شَمَّ له رائحةً، ولم يَخْطِرْ على قلبِه، فلو كان هذا الفناءُ كمالاً لكانوا هم أحقَّ به وأهلَه، وكان لهم منه ما لم يكنْ لغيرِهم) وحينئذٍ فهذا الفناءُ هو كما قالَ الشيخُ: (هو من عوارضِ طريقِ اللهِ التي تَعرِضُ لبعضِ الناسِ دونَ بعضٍ فيكونُ من جَعلَه نهايةَ السالكين ضالاّ ضلالاً مبِيناً كما أن من جَعلَه من لوازمِ طريقِ اللهِ فهو مخطئٌ خطأً فاحشاً، وإذاً فأَوْلى الناسِ باللهِ وكتُبِه ورسلِه ودينِه هم المؤمنون بالحقيقةِ الدِّينيَّةِ والكونيَّةِ والمُعْطُون كلَّ حقيقةٍ حظَّها من العِبادةِ.

والسلوكُ سلوكان: سلوكُ الأبرارِ أهلِ اليمينِ وهو أداءُ الواجباتِ وترْكُ المحرَّماتِ باطناً وظاهراً، والثاني: سلوكُ المقرَّبين السابقين وهو فعلُ الواجبِ والمستحَبِّ بحسْبِ الإمكانِ وترْكُ المكروهِ والمحرَّمِ كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وكلامُ الشيوخِ الكبارِ، كالشيخِ عبدِ القادرِ وغيرِه يشيرُ إلى هذا السلوكِ، ولهذا يَأْمُرون بما هو مستحبٌّ غيرُ واجبٍ، ويَنْهَوْن عما هو مكروهٌ غيرُ محرَّمٍ، وطريقُ الخاصَّةِ طريقُ المقرَّبين أن لا يفعلَ العبدُ لا ما أُمرَ به، ولا يريدَ إلا ما أَمرَ اللهُ ورسولُه بإرادتِه، وهو ما يُحبُّه اللهُ ويَرضاه.

وبيَّنَ الثالثَ بقولِه: (هو الفناءُ عن وجودِ السِّوَى بحيث يَرى أن وجودَ المخلوقِ هو عينُ وجودِ الخالِق وأن الوجودَ فيهما واحدٌ بالعين) يعني أن الملاحِدةَ القائلين بوحدةِ الوجودِ وأنه ما ثَمَّ غيرُ، وأن غايةَ العارفين والسالكين الفناءُ في الوَحدةِ المطلَقةِ، ونفيُ التكثُّرِ والتعدُّدِ، لا يُفرِّقون بينَ كونِ وجودِ المخلوقاتِ باللهِ وبينَ كونِ وجودِها هو عينُ وجودِه فليسَ عندَهم فُرقانٌ بينَ العالَمين وربِّ العالَمين، وإذاً فهؤلاءِ الزنادقةُ يَجعلونه عينَ الموجوداتِ وحقيقةَ الموجوداتِ وأنه لا وجودَ لغيرِه، لا بمعنى أن قيامَ الأشياءِ ووجودَها به كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهُ بَاطِلٌ) فإنهم لو أَرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهودُ الصحيحُ، لكنهم يُريدون أنه هو عينُ الموجوداتِ وهذا كفرٌ وضلالٌ، وقد سَبقَ بيانُ هذا في الكلامِ على القاعدةِ الخامسةِ عندَ قولِ المؤلِّفِ: (حتى آلَ الأمْرُ بمن يَدَّعِي التحقيقَ والتوحيدَ والعِرفانَ منهم إلى أن اشتَبَه عليهم وجودُ الربِّ بوجودِ كلِّ موجودٍ).

قولُه:

وأما مخالَفتُهم لضرورةِ العقلِ والقياسِ؛ فإن الواحدَ من هؤلاءِ لا يُمكِنُه أن يطَّرِدَ قولُه، فإنه إذا كان مشاهِداً للقدَرِ من غيرِ تمييزٍ بينَ المأمورِ والمحظـورِ فعُومِلَ بموجِبِ ذلك، مثلُ أن يُضـربَ ويُجـاعَ حتى يُبتَلَى بعظيمِ الأوصـابِ والأوجاعِ، فإنْ لامَ من فَعلَ ذلك به وعَابَه، فقد نَقَضَ قولَه وخَرجَ عن أصلِ مذهبِه، وقيلَ له هذا الذي فَعَلَه بك مقْضِيٌّ مقدورٌ فخَلْقُ اللهِ وقدَرُه ومشيئتُه متناوِلٌ لك وله، وهو يَعمُّكُما فإن كان القدَرُ حُجَّةً لك فهو حُجَّةٌ لهذا، وإلا فليس بحُجَّةٍ لا لك ولا له، فقد تَبيَّنَ بضرورةِ العقلِ فسادُ قولِ من يَنظرُ إلى القدَرِ ويُعرِضُ عن الأمْرِ والنهيِ.




الشرْحُ:
يعني أن هؤلاءِ المتصوِّفةَ المجبِّرَةَ الناظرين إلى الحقيقةِ القدَريَّةِ والمشيئةِ العامَّةِ غيرُ مشاهِدين لأمرِ اللهِ ونهيِه، ولا مفرِّقين بين ما يُحبُّه اللهُ ويَبغَضُه، ليسوا على قاعدةٍ مستمرَّةٍ ولا رأيٍ ثابتٍ، بل هم متناقضون مخالِفون للحقائقِ العقليَّةِ والاعتباراتِ الصحيحةِ. فإنه لا يُوجِبُ أحدٌ يَحتجُّ بالقدَرِ في ترْكِ الواجبِ وفِعْلِ المحرَّمِ إلا وهو متناقِضٌ، لا يَجْعلُه حُجَّةً في مخالفةِ هواه بل يُعادي من آذاه وإن كان محقًّا، ويُحِبُّ من وَافَقَه على غرَضِه وإن كان عدوًّا للهِ، فيكونُ حُبُّه وبغْضُه وموالاتُه ومعاداتُه بحسْبِ هواه وغرَضِه وذوقِ نفسِه، لا بحسْبِ أمْرِ اللهِ ونهيِه، ولا يُمكِنُ أن يَجْعلَ القدَرَ حُجَّةً لأحدٍ فإن هذا مستلزِمٌ للفسادِ الذي لا صلاحَ معه، والشرِّ الذي لا خيرَ فيه، إذ لو جازَ أن يَحتجَّ كلُّ أحدٍ بالقدَرِ لما عُوقِبَ مُعْتَدٍ، ولا اقْتُصَّ من ظالمٍ، ولا أُخذَ لمظلومٍ حقُّه من ظالِمِه، ولَفَعَلَ كلُّ أحدٍ ما يَشتهيه من غيرِ معارِضٍ يُعارضُه فيه، وحينئذٍ فكلامُ هؤلاءِ ساقطٌ ورأيُهم متهافِتٌ مخالِفٌ لما هو معلومٌ بضرورةِ العقلِ والقياسِ؛ فإن الجائعَ يُفرِّقُ بينَ الخبزِ والشرابِ. والعطشانُ يُفرِّقُ بينَ الماءِ والسرابِ فيُحبُّ ما يُشبعُه، ويَرْويه دونَ ما لا يَنفعُه، والجميعُ مخلوقٌ للهِ تعالى. قالَ الشيخُ: (ومن المعلومِ أن من أَسقطَ الأمْرَ والنهيَ الذي بَعثَ اللهُ به رسُلَه فهو كافرٌ باتِّفاقِ المسلمين فإن هؤلاءِ قولُهم متناقِضٌ، لا يُمكِنُ أحدٌ منهم أن يَعيشَ به، ولا تَقومُ به مصلحةُ أحدٍ من الخلْقِ، ولا يَتعاشرُ عليه اثنان؛ فإن القدَرَ إن كان حُجَّةً فهو حُجَّةٌ لكلِّ أحدٍ وإلا فليس حُجَّةً لأحدٍ؛ فإذا قُدِّرَ أن الرجلَ ظَلَمَه ظالِمٌ، أو شتَمَه شاتمٌ، أو أَخَذَ مالَه، أو أَفسدَ أهلَه، أو غيرَ ذلك فمتى لاَمَه أو ذَمَّه أو طَلَبَ عقوبتَه أَبطلَ الاحتجاجَ بالقدَرِ، وإذاً فقولُه: (فإن الواحدَ من هؤلاءِ لا يُمكِنُه أن يَطَّرِدَ قولُه.... الخ) معناه: أن هؤلاءِ المتصوِّفةَ المشرِكيَّةَ المدَّعين التحقيقَ والمعرفةَ، متناقضون مخالِفون للشرْعِ والعقلِ والذوْقِ، فإنهم لا يُسَوُّونَ بينَ من أَحْسَنَ إليهم، وبينَ من ظَلَمَهُم، ولا يُسَوُّونَ بينَ العالِمِ والجاهلِ والقادرِ والعاجزِ، ولا بينَ الطيِّبِ والخبيثِ، وهؤلاءِ المجبِّرَةُ لا يَقِفُون لا مع القدَرِ ولا مع الأمْرِ، بل كما قالَ بعضُ العلماءِ: (أنتَ عندَ الطاعةِ قَدَريٌّ وعندَ المعصيَةِ جَبْرِيٌّ أيُّ مذهبٍ يوافقُ هواكَ تَمَذْهَبْتَ به) وبهذا يتَّضِحُ فسادُ قولِهم وشناعةُ رأيِهم وأنه مخالِفٌ للنَّهْجِ المستقيمِ، والأوصابُ: هي الأمْراضُ واحدُها وَصَبٌ.

  #5  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 07:27 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


أنواعُ الفَناءِ

قولُه: ( والفَناءُ يُرادُ به ثلاثةُ أمورٍ، أحدُها: الفَناءُ الدِّينيُّ والشرْعيُّ الذي جاءتْ به الرُّسُلُ، ونَزَلَتْ به الكُتُبُ، وهو أن يَفْنَى عمَّا لم يَأْمُرْهُ اللهُ به بفِعْلِ ما أَمَرَهُ اللهُ تعالى به، فيَفْنَى عن عِبادةِ غيرِ اللهِ بعِبادتِه، وعن طاعةِ غيرِ اللهِ بطاعتِه، وطاعةِ اللهِ ورسولِه. وعن التوكُّلِ على غيرِه بالتوكُّلِ عليه، وعن مَحَبَّةِ ما سواه بِمَحَبَّتِه، ومَحَبَّةِ رسولِه. وعن خوفِ غيرِه بخوفِه، بحيث لا يَتْبَعُ العبْدُ هَوَاه بغيرِ هُدًى من اللهِ، وبحيث يكونُ اللهُ ورسولُه أَحَبَّ إليه مِمَّا سِواهما، كما قالَ تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} فهذا كلُّه مِمَّا أَمَرَ اللهُ به ورسولُه.

وأمَّا الفَناءُ الثاني- وهو الذي يَذكُرُه بعضُ الصوفيَّةِ- وهو أن يَفْنَى عن شهودِ ما سِوَى اللهِ تعالى، فيَفْنَى بمعبودِه عن عِبادتِه، وبمذكورِه عن ذِكْرِه، وبمعروفِه عن مَعرفَتِه، بحيث يَغِيبُ عن شُهودِ نفسِه لِمَا سِوَى اللهِ تعالى. فهذا حالٌ ناقصٌ قد يَعْرِضُ لبعضِ السالكينَ، وليس هو من لَوازِمِ طريقِ اللهِ، ولهذا لم يَعْرِضْ مثلُ هذا للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا للسابقينَ الأوَّلينَ. ومَن جَعَلَ هذا نهايةَ السالكينَ: فهو ضالٌّ ضَلالاً مُبِينًا، وكذلك مَن جَعَلَه من لَوازِمِ طريقِ اللهِ فهو مُخْطِئٌ خطأً فاحِشًا، بل هو من عَوارِضِ طريقِ اللهِ التي تَعْرِضُ لبَعْضِ الناسِ دونَ بعضٍ، ليس من اللوازمِ التي تَحْصُلُ لكلِّ سالكٍ.

وأمَّا الثالثُ: فهو الفَناءُ عن وُجودِ السِّوَى، بحيث يَرَى أن وُجودَ المخلوقِ هو وجودُ الخالِقِ، وأنَّ الوُجودَ فيهما واحدٌ بالعينِ. فهذا قولُ أهلِ الإلحادِ والاتِّحادِ الذين هم أَضَلُّ العِبادِ).

التوضيحُ

أوَّلاً: الفَناءُ لغةً مَصْدَرُ فَنِيَ يَفْنَى فَناءً إذا اضْمَحَلَّ وزَالَ، ومنه قولُه تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وقد يُطْلَقُ على مَن تَلاَشَتْ قُواهُ وأَوْصَافُه مَع بَقاءِ عَيْنِه كما يقالُ: شيخٌ فانٍ.

ثانيًا: الفَناءُ عندَ الصوفيَّةِ يُرادُ به أَحَدُ ثلاثةِ أمورٍ:

الفَناءُ عن إرادةِ السِّوَى.
الفَناءُ عن شُهودِ السِّوَى.
الفَناءُ عن وُجودِ السِّوَى.

أَشارَ إليها شيخُ الإسلامِ بالترتيبِ كما يَلِي:

الأوَّلُ: الفَناءُ الدينيُّ الشرْعيُّ فيَفْنَى عن عِبادةِ غيرِ اللهِ بعِبادتِه وَحْدَه وعن طاعةِ غيرِه بطاعتِه وطاعةِ رسولِه، وهذا الْمُسَمَّى (بالفَناءِ عن إرادةِ السِّوَى) أي:يَفْنَى عن إرادةِ غيرِ وجهِ اللهِ تعالى، وهو مَطلوبٌ شَرْعًا لكنه يُسَمَّى في الشرْعِ: بالإخلاصِ والإحسانِ والتقوى والبِرِّ والإيمانِ وغيرِهما، ويَنبغِي أن لا يُعْدَلَ عن الألفاظِ الشرْعيَّةِ، فإنَّ تلك الألفاظَ مُجمَلَةٌ مُشْتَمِلَةٌ على الحقِّ والباطِلِ،ولكنَّ إثْمَها أكْبَرُ من نَفْعِهَا.

الثاني: وهو ما يَذْكُرُه بعضُ الصوفيَّةِ أن يَفْنَى عن شُهودِ ما سِوَى اللهِ فيَفْنَى بمعبودِه، وهو اللهُ، عن عِبادتِه، أي:يَنْشَغِلُ باللهِ إلى حَدٍّ يَتْرُكُ فيه عِبادَتَه، ويَفْنَى بمذكورِه، أي:اللهِ تعالى، عن ذِكْرِه، وبمعروفِه، أي:اللهِ، عن مَعرِفَتِهِ لنفسِه، بحيث يَغيبُ عن شُعورِه بنفسِه وبما سِوَى اللهِ. وهذا حالٌ ناقصٌ كما مَرَّ، وقد يَعْرِضُ لبعضِ السالكينَ، لكنه ليس من لَوازِمِ طريقِ اللهِ، لذلك لم يَعْرِضْ للنبيِّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا للسابقينَ الأوَّلينَ ومَن جَعَلَه نهايةَ السالكينَ فهو ضالٌّ ضَلالاً مُبِينًا، ومَن جَعَلَه من لوازِمِ الطريقِ فهو مُخْطِئٌ كما ذَكَرَه أبو إسماعيلَ الأنصاريُّ في كتابِه:"مَنازِلُ السائرينَ".

وهذا النوعُ هو" الفَناءُ عن شُهودِ السِّوَى" أي:لا يَشْهَدُ ولا يَعْرِفُ إلا اللهَ، وخُلاصَةُ وُجوهِ النقْصِ في هذا النوعِ من الفَناءِ ما يَلِي:
أنه لم يَقَعْ للنبيِّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى في أَعْظَمِ الْمَواقِفِ، وهو مَوقِفُ الإسراءِ والْمِعراجِ، وقد رَأَى النبيُّ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آياتِ رَبِّه الكُبرَى فكان غايةً في الثَّبَاتِ ظاهرًا وباطنًا؛ أمَّا ظاهِرًا فكما قالَ تعالى: { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وأمَّا باطِنًا فقالَ تعالى: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وكذلك لم يَقَعْ هذا الفَناءُ لخِيرَةِ الخلْقِ بعدَ الرُّسُلِ، وهم أصحابُ رسولِ اللهِ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أنَّ غِيابَ العقْلِ والوصولَ بصاحبِه إلى حالٍ كالمجانينِ والسُّكَارَى ليس فيه مَدْحٌ، لا عَقْلاً ولا شَرْعًا ولا عَادةً، بل يُذَمُّ مَن يَتَعَمَّدُ ذلك شَرْعًا وعَقْلاً وعَادةً.

أنَّ هذا الفَناءَ دليلٌ على ضَعْفِ قَلْبِ مَن يَحْصُلُ له، وأنه لم يَستَطِع الجمْعَ بينَ الإيمانِ باللهِ وعِبادتِه، فيَظُنُّ أنه إن عَبَدَ اللهَ انشَغَلَ عن مَعبودِه.

أنَّ هذا الفَناءَ فيه تَعطيلٌ للشرائعِ وفَتْحٌ لبابِ التهاوُنِ في الأعمالِ وتَضييعُ الفرائضِ، ومعلومٌ ما في ذلك من مُناقَضَةٍ صريحةٍ لدِينِ اللهِ.

الثالثُ: الفَنَاءُ عن وُجودِ السِّوَى بحيث يَرَى أنَّ وُجودَ الخالِقِ هو عينُ وُجودِ المخلوقِ، وأنه واحدٌ بالعينِ، وهذا قولُ أهلِ وَحْدَةِ الوُجودِ والاتِّحادِ، وقد سَبَقَ مَذْهَبُهم، وأنهم أَضَلُّ عِبادِ اللهِ، كما هو مَذْهَبُ ابنِ عَرَبِيٍّ وابنِ سَبعينَ وابنِ فارِضٍ وغيرِهم كما سَبَقَ. وهؤلاءِ الْمُلْحِدونَ أَكْفَرُ من النَّصَارَى حيث إنهم جَعَلُوا اتِّحادَ اللهِ عامًّا في جميعِ المخلوقاتِ، والنَّصَارَى خَصُّوهُ بعَبْدِه الذي اصْطَفَاهُ، وهو عيسى عليه السلامُ.

قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القيِّمِ مُبَيِّنًا مَذْهَبَ هؤلاءِ الاتِّحاديِّينَ ومُنْكِرًا عليهم.

فالكُلُّ عينُ اللهِ عندَ مُحَقِّقٍ والكلُّ مَعبودٌ لذي عِرْفَانِ
هذا هو الْمَعبودُ عندَهم فَقُلْ سبحانَك اللهمَّ ذا السُّبْحَانِ
يا أمَّةً مَعبودُها مَوْطُوءُها أينَ الإلهُ وثَغْرُهُ الطَّعَّانُ
يا أمَّةً قد صارَ من كُفْرَانِها جزءًا يَسيرًا جُمْلَةُ الكُفْرَانِ

ثانيًا: مُخالَفَتُهُم للعَقْلِ والقِياسِ
قولُه: ( وأمَّا مُخالَفَتُهم لضرورةِ العَقْلِ والقِياسِ: فإنَّ الواحدَ من هؤلاءِ لا يُمْكِنُه أن يَطَّرِدَ قولُه،فإنه إذا كان مشاهِدًا للقَدَرِ من غيرِ تمييزٍ بينَ المأمورِ والمحظورِ، فعُومِلَ بِمُوجَبِ ذلك – مِثْلُ أن يُضْرَبَ، ويُجاعَ حتى يُبْتَلَى بعظيمِ الأوصابِ والأوجاعِ- فإن لامَ مَن فَعَلَ ذلك به وعابَه: فقد نَقَضَ قولَه، وخَرَجَ عن أصْلِ مَذْهَبِه، وقيلَ له: هذا الذي فَعَلَه بك مَقْضِيٌّ مَقدورٌ. فخَلْقُ اللهِ وقَدَرُه ومَشيئتُه مُتناوِلٌ لك وله، وهو يَعُمُّكُمَا، فإن كان القدَرُ حُجَّةً لك فهو حُجَّةٌ لهذا، وإلا فليس بِحُجَّةٍ لا لك ولا له. فقد تَبَيَّنَ بضرورةِ العقْلِ فَسادُ قولِ مَن يَنْظُرُ إلى القدَرِ ويُعْرِضُ عن الأمْرِ والنهْيِ ).

التوضيحُ

بعدَ أن بَيَّنَ مُخالَفَةَ مَن يَنْظُرُ إلى القدَرِ ويُعْرِضُ عن الشرْعِ للحِسِّ والذوْقِ يَذْكُرُ هنا مُخالَفَتَهُم لضرورةِ العَقْلِ والقِياسِ فيقولُ:
إنه إذا عُومِلَ أحدُهم بِمُوجَبِ مَذْهَبِهم مِثْلُ أن يُضْرَبَ أو يُجاعَ فإن لامَ مَن فَعَلَ به ذلك فقد نَقَضَ قولَه وخَرَجَ عن أصْلِ مَذْهَبِه ويُقالُ له: هذا الذي فُعِلَ مَقْضِيٌّ مَقْدُورٌ فخَلْقُ اللهِ ومَشيئتُه وقَدَرُه مُتناوِلٌ لك وله، فإن كان القَدَرُ حُجَّةً فهو حُجَّةٌ لهذا أيضًا، وإلا فليس بِحُجَّةٍ لك ولا له، وبهذا يَتَبَيَّنُ بضرورةِ العَقْلِ فسادُ نَظَرِهم إلى القَدَرِ دونَ الشرْعِ؛فإنَّ القِياسَ يَقْتَضِي التسويةَ بينَ مَن يُحْسِنُ إليه،ومَن يَظْلِمُه مع أنه لا يُسَوِّي بينَهما، فإذن هذا الْمَسْلَكُ الصوفيُّ ظاهِرُ الْمُناقَضَةِ للنقْلِ والْحِسِّ والعقْلِ، قولُه: ( الأَوْصَابُ): جَمْعُ وَصَبٍ، وهو الْمَرَضُ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الفناء, يراد

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:21 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir