دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > مناهل العرفان

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 ذو القعدة 1430هـ/21-10-2009م, 09:15 AM
الياسمين الياسمين غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Jul 2009
المشاركات: 30
افتراضي المبحث التاسع: في ترتيب آيات القرآن وسوره

معنى الآية:
آيات القرآن جمع آية والآية تطلق في لسان اللغة بإطلاقات:
أولها : المعجزة. ومنه قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} أي معجزة واضحة.

ثانيها: العلامة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي علامة ملكه.
ثالثها : العبرة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي عبرة لمن يعتبر.
رابعها : الأمر العجيب. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} .
خامسها : الجماعة. ومنه قولهم: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم. والمعنى أنهم لم يدعوا وراءهم شيئا.
سادسها : البرهان والدليل نحو قوله جل ذكره: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} والمعنى أن من براهين وجود الله واقتداره واتصافه بالكمال خلق عوالم السموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان تلك كلها إطلاقات لغوية وقد يستلزم بعضها بعضا. ثم خصت الآية في الاصطلاح بأنها طائفة ذات مطلع ومقطع مندرجة في سورة من القرآن والمناسبة بين هذا المعنى الاصطلاحي والمعاني اللغوية السالفة واضحة لأن الآية القرآنية معجزة ولو باعتبار انضمام غيرها إليها ثم هي علامة على صدق من جاء بها صلى الله عليه وسلم وفيها عبرة وذكرى لمن أراد أن يتذكر وهي من الأمور العجيبة لمكانها من السمو والإعجاز وفيها معنى الجماعة لأنها مؤلفة من جملة كلمات وحروف وفيها معنى البرهان والدليل على ما تضمنته من هداية وعلم وعلى قدرة الله وعلمه وحكمته وعلى صدق رسوله في رسالته.

طريقة معرفة الآية
...
طريقة معرفة الآية:
لا سبيل إلى معرفة آيات القرآن إلا بتوقيف من الشارع لأنه ليس للقياس والرأي مجال فيها إنما هو محض تعليم وإرشاد بدليل أن العلماء عدوا {المص} آية ولم يعدوا نظيرها وهو {المر} آية وعدوا {يس} آية ولم يعدوا نظيرها وهو {طس} آية وعدوا {حم عسق} آيتين ولم يعدوا نظيرها وهو {كهيعص} آيتين بل آية واحدة فلو كان الأمر مبنيا على القياس لكان حكم المثلين واحدا فيما ذكر ولم يجيء هكذا مختلفا.
ذلك مذهب الكوفيين لأنهم عدوا كل فاتحة من فواتح السور التي فيها شيء من حروف الهجاء آية سوى حمعسق فإنهم عدوها آيتين وسوى طس. ولم يعدوا من الآيات ما فيه ر وهو الر و المر وما كان مفردا وهو ق ص ن أي لم يعدوا شيئا منها آية.
وغير الكوفيين لا يعتبرون شيئا من الفواتح آية إطلاقا. وحيث قلنا: إن المسألة توقيفية فلا يشتبهن عليك هذا الخلاف. لأن كلا وقف عند حدود ما بلغه أو علمه. ولا تقولن كيف عدوا ما هو كلمة واحدة آية؟ لأن الوارد عن الشارع هو هذا كما عدت كلمة {الرَّحْمَنُ} في صدر سورة الرحمن آية وكما عدت كلمة {مُدْهَامَّتَانِ} آية وقوفا عند الوارد.
أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي. فقال: "ألم يقل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} . ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل:

لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" ا هـ. فهذا الحديث يدل على أن الفاتحة سبع آيات وعلى أنها هي المرادة بالسبع المثاني في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} .
وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي هريرة أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي" ا هـ.
وأخرج مسلم والترمذي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم"؟ قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم فضرب في صدري وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر" ا هـ.
وأخرج الخمسة إلا النسائي عن أبي مسعود البدري أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" ا هـ.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من الثلاثين من آل حم قال: يعني الأحقاف لأن السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين.
وقال ابن العربي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الفاتحة سبع آيات وسورة الملك ثلاثون آية ا هـ.
رأي آخر:
وبعض العلماء يذهب إلى أن معرفة الآيات منه ما هو سماعي توقيفي ومنها ما هو قياسي ومرجع ذلك إلى الفاصلة وهي الكلمة التي تكون آخر الآية نظيرها قرينة السجع في النثر وقافية البيت في الشعر. يقولون: فما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم

وقف عليه دائما تحققنا أنه فاصلة وما وصله دائما تحققنا أنه ليس فاصلة وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة واحتمل الوصل أن يكون غير فاصلة أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها وفي هذا مجال للقياس وهو ما ألحق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه لأمر يقتضي ذلك. ولا محظور فيه لأنه لا يؤدي إلى زيادة ولا نقصان في القرآن وإنما غايته تعيين محل الفصل أو الوصل.
وقد يلاحظ في الكلمة الواحدة من القرآن أمران يقتضي أحدهما عدها من الفواصل والآخر يقتضي خلاف ذلك. مثال ذلك كلمة {عَلَيْهِمْ} الأولى في سورة الفاتحة منهم من يعتبرها رأس آية ومنهم من لا يراها كذلك. وسبب هذا أنهم اختلفوا في البسملة أهي آية من الفاتحة أم لا؟ مع اتفاقهم على أن عدد آيات الفاتحة سبع. فالذين ذهبوا إلى أن البسملة آية من الفاتحة جعلوا {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلى آخر السور آية واحدة. والذين ذهبوا إلى أن البسملة ليست آية منها جعلوا الآية السابعة ما بعد كلمة {عَلَيْهِمْ} الأولى واعتبروا هذه الكلمة فاصلة لوقوعها في آخر الآية السادسة. ومن المرجحات لعدها فاصلة تحقق التناسب بين الآيات في المقدار بخلاف ما إذا لم يعتبر فاصلة فإن هذه الآية الأخيرة تطول وتزيد على ما سواها كثيرا. ومن المرجحات لعدم عدها فاصلة أنها لا تشاكل فواصل الفاتحة فإنه جاء في كل واحدة منها قبل الحرف الأخير ياء مد بخلاف هذه. أضف إلى ذلك أنه لم تجيء فاصلة على هذا النمط في سورة من السور.
واعلم أنه قد تطلق الآية القرآنية ويراد بعضها أو أكثر. ولكن على ضرب من المجاز والتوسع فلا تتوقفن فيه.
مثال إطلاق الآية على بعضها قول ابن عباس: أرجى آية في القرآن: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} فإن هذه
الجملة الكريمة بعض آية باتفاق. ومثال إطلاق الآية على أكثر منها قول ابن مسعود: أحكم آية {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . فإنهما آيتان باتفاق.
عدد آيات القرآن
...
عدد آيات القرآن:
قال صاحب التبيان ما نصه: وأما عدد آي القرآن فقد اتفق العادون على أنه ستة آلاف ومائتا آية وكسر إلا أن هذا الكسر يختلف مبلغه باختلاف أعدادهم:
ففي عدد المدني الأول سبع عشرة وبه قال نافع.
وفي عدد المدني الأخير أربع عشرة عند شيبة وعشر عند أبي جعفر.
وفي عدد المكي عشرون.
وفي عدد الكوفي ست وثلاثون. وهو مروي عن حمزة الزيات.
وفي عدد البصري خمس وهو مروي عن عاصم الجحدري. وفي رواية عنه أربع وبه قال أيوب بن المتوكل البصري وفي رواية عن البصريين أنهم قالوا: تسع عشرة وروي ذلك عن قتادة.
وفي عدد الشامي ست وعشرون وهو مروي عن يحيى بن الحارث الذماري ا هـ.
وقال صاحب التبيان أيضا قبل ذلك ما نصه: عدد المكي منسوب إلى عبد الله بن كثير أحد السبعة وهو يروي ذلك عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب.
وعدد المدني على ضربين: عدد المدني الأول وعدد المدني الأخير. فعدد المدني الأول غير منسوب إلى أحد بعينه. وإنما نقله أهل الكوفة عن أهل المدينة مرسلا ولم يسموا في ذلك أحدا وكانوا يأخذون به وإن كان لهم عدد مخصوص. وعدد المدني الأخير منسوب إلى أبي جعفر بن يزيد بن القعقاع أحد العشرة وشيبة بن نصاح. وقد رواه عنهما إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري بواسطة
سليمان بن جماز. وقد وهم من نسب عدد المدني الأول إلى أبي جعفر وشيبة وعدد المدني الأخير إلى إسماعيل ابن جعفر. وكأن الذي أوقعه في ذلك ما ذكر في بعض الكتب من أن نافعا روى عنهما عدد المدني الأول وأن أبا عمرو عرض العدد المذكور على أبي جعفر فإن رواية ذلك عنهما لا تقتضي نسبته إليهما. وأما نسبة عدد المدني الأخير إليهما فهو مما لا ريب فيه ا هـ. ما أردنا نقله تنويرا في هذا الموضوع الذي اضطربت فيه بعض النقول.
سبب هذا الاختلاف:
سبب هذا الاختلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على رؤوس الآي تعليما لأصحابه أنها رؤوس آي حتى إذا علموا ذلك وصل صلى الله عليه وسلم الآية بما بعدها طلبا لتمام المعنى فيظن بعض الناس أن ما وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فاصلة فيصلها بما بعدها معتبرا أن الجميع آية واحدة والبعض يعتبرها آية مستقلة فلا يصلها بما بعدها. وقد علمت أن الخطب في ذلك سهل لأنه لا يترتب عليه في القرآن زيادة ولا نقص.
وآيات القرآن مختلفة في الطول والقصر فأطول آية هي الدين في سورة البقرة التي هي أطول سورة وأقصر آية كلمة {يس} الواقعة في صدر سورة يس.

فوائد معرفة الآيات
...
فوائد معرفة الآيات:
يزعم بعض الناس أنه لا فائدة من معرفة آيات القرآن. وللرد عليهم نذكر لهذه المعرفة ثلاث فوائد لا فائدة واحدة:
الفائدة الأولى: العلم بأن كل ثلاث آيات قصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي حكمها الآية الطويلة التي تعدل بطولها تلك الثلاث القصار. ووجه ذلك أن الله تعالى أعلن التحدي بالسورة الواحدة فقال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى

عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} والسورة تصدق بأقصر سورة كما تصدق بأطول سورة. وأقصر سورة في القرآن هي سورة الكوثر وهي ثلاث آيات قصار. فثبت أن كل ثلاث آيات قصار معجزة وفي قوتها الآية الواحدة الطويلة التي تكافئها.
الفائدة الثانية: حسن الوقف على رؤوس الآي عند من يرى أن الوقف على الفواصل سنة بناء على ظاهر الحديث الذي استدلوا به فيما يرويه أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف.
قال صاحب التبيان في موضع آخر ما نصه: قال بعض العلماء: وفي الاستدلال به أي بذلك الحديث على ما ذكر نظر وذلك لأنه حديث غريب غير متصل الإسناد. رواه يحيى بن سعد الأموي وغيره عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة. والأصح ما رواه الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مالك أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته فقالت: ما لكم وصلاته؟ ثم نعتت قراءته مفسرة حرفا حرفا. ذكر ذلك الترمذي ا هـ.
أقول: ويمكن الجمع بين هذين الحديثين بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان تارة يقف على كل فاصلة ولو لم يتم المعنى بيانا لرؤوس الآي. وكان تارة يتبع في الوقف تمام المعنى فلا يلتزم أن يقف على رؤوس الآي لتكون قراءته مفسرة حرفا حرفا. وعلى هذا يمكن أن يقال: حيثما كان الناس في حاجة إلى بيان الآيات حسن الوقف على رؤوس الآي ولو لم يتم المعنى وحيثما كان الناس في غنى عن معرفة رؤوس الآي لم يحسن الوقف إلا حيث يتم المعنى.

ويحتمل أن كلمة مفسرة حرفا حرفا في الحديث الآنف يراد بها الترتيل وإخراج الحروف من مخارجها فلا تعارض الحديث الأول.
الفائدة الثالثة: اعتبار الآيات في الصلاة والخطبة قال السيوطي ما نصه: يترتب على معرفة الآي وعددها وفواصلها أحكام فقهية منها اعتبارها فيمن جهل الفاتحة فإنه يجب عليه بدلها سبع آيات. ومنها اعتبارها في الخطبة فإنه يجب فيها قراءة آية كاملة ولا يكفي شطرها إن لم تكن طويلة وكذا الطويلة على ما حققه الجمهور. ثم قال: ومنها اعتبارها في السورة التي تقرأ في الصلاة أو ما يقوم مقامها وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة. ومنها اعتبارها في قراءة قيام الليل إلى آخر ما قال. أ. هـ.
ما أردنا نقله. بيد أنه نقل عن الهذلي في كامله ما نصه: اعلم أن قوما جهلوا العدد وما فيه من الفوائد حتى قال الزعفراني: إن العدد ليس بعلم وإنما اشتغل به بعضهم ليروج به سوقه. قال: وليس كذلك ففيه من الفوائد معرفة الوقف ولأن الإجماع انعقد على أن الصلاة لا تصح بنصف آية. وقال جمع من العلماء: تجزيء بآية وآخرون بثلاث آيات وآخرون لا بد من سبع. والإعجاز لا يقع بدون آية. فللعدد فائدة عظيمة في ذلك ا هـ غير أنا لا ندري ما الذي أراده الهذلي على التعيين من كلامه هذا؟ ولا عن أي مذهب يتحدث؟.

ترتيب آيات القرآن
...
ترتيب آيات القرآن
انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذي نراه اليوم بالمصاحف كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه. بل كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول صلى الله عليه وسلم ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها. ثم يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه,

ويأمر كتاب الوحي بكتابتها معينا لهم السورة التي تكون فيها الآية وموضع الآية من هذه السورة. وكان يتلوه عليهم مرارا وتكرارا في صلاته وعظاته وفي حكمه وأحكامه. وكان يعارض به جبريل كل عام مرة وعارضه به في العام الأخير مرتين. كل ذلك كان على الترتيب المعروف لنا في المصاحف. وكذلك كان كل من حفظ القرآن أو شيئا منه من الصحابة حفظه مرتب الآيات على هذا النمط. وشاع ذلك وذاع وملأ البقاع والأسماع يتدارسونه فيما بينهم ويقرؤونه في صلاتهم ويأخذه بعضهم عن بعض ويسمعه بعضهم من بعض بالترتيب القائم الآن فليس لواحد من الصحابة والخلفاء الراشدين يد ولا تصرف في ترتيب شيء من آيات القرآن الكريم. بل الجمع الذي كان على عهد أبي بكر لم يتجاوز نقل القرآن من العسب واللخاف وغيرها في صحف والجمع الذي كان على عهد عثمان لم يتجاوز نقله من الصحف في مصاحف. وكلا هذين كان وفق الترتيب المحفوظ المستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى. أجل: انعقد الإجماع على ذلك تاما لا ريب فيه. وممن حكى هذا الإجماع جماعة منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر في المناسبات إذ يقول ما نصه: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين.
واستند هذا الإجماع إلى نصوص كثيرة منها ما سبق لك قريبا ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} " إلى آخرها.
ومنها ما ثبت في السنن الصحيحة من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بسور عديدة كسورة البقرة وآل عمران والنساء ومن قراءته لسورة الأعراف في صلاة المغرب وسورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وسورة الروم في صلاة الصبح وقراءة سورة السجدة وسورة {هَلْ أَتَى عَلَى
الْأِنْسَانِ} في صبح يوم الجمعة وقراءته سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة وقراءته سورة ق في الخطبة وسورة اقتربت وق في صلاة العيد كان يقرأ ذلك كله مرتب الآيات على النحو الذي في المصحف على مرأى ومسمع من الصحابة.
ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها والمعنى لماذا تكتبها؟ أو قال لماذا تتركها مكتوبة؟ مع أنها منسوخة قال يا بن أخي لا أغير شيئا من مكانه.
فهذا حديث أبلج من الصبح في أن إثبات هذه الآية في مكانها مع نسخها توقيفي لا يستطيع عثمان باعترافه أن يتصرف فيه لأنه لا مجال للرأي في مثله.
ومنها: ما رواه مسلم عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: "تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" .
فأنت ترى أنه صلى الله عليه وسلم دله على موضع تلك الآية من سورة النساء وهي قوله سبحانه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الخ.
ملاحظة :
ذكر بعضهم أن كلمات القرآن 77934 أربع وثلاثون وتسعمائة وسبعة وسبعون ألف كلمة وذكر بعضهم غير ذلك. قيل وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار كل منها جائز وكل من العلماء اعتبر أحد ما هو جائز قال السخاوي: لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان. والقرآن لا يمكن فيه ذلك ا هـ ولكن

ورد من الأحاديث في اعتبار الحروف ما أخرجه الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة. والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" وأخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب مرفوعا: "القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف فمن قرأه صابرا محتسبا كان له بكل حرف زوجة من الحور العين" . قال السيوطي بعد أن أورده: رجاله ثقات إلا شيخ الطبراني محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس تكلم فيه الذهبي ثم قال: وقد حمل ذلك أي العدد المذكور في هذا الحديث على ما نسخ رسمه من القرآن إذ الموجود الآن لا يبلغ هذا العدد وهو يريد أن هذا الرقم الكبير الذي روي في هذا الحديث ملحوظ فيه جميع الحروف النازلة من القرآن ما نسخ منها وما لم ينسخ والله تعالى أعلم.
شبهة وتفنيدها
يقولون: إن ابن أبي داود أخرج بسنده عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين في آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله ووعيتهما. فقال عمر: أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال: لو كانتا ثلاث آيات لجعلتها على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوهما في آخرها يقولون: هذا الحديث يدل على أن ترتيب الآيات لم يكن في القرآن كله بتوقيف إنما كان عن هوى من الصحابة وعن تصرف منهم ولو في البعض.
ونجيب: أولا: بأن هذا الخبر معارض للقاطع وهو ما أجمعت عليه الأمة. ومعارض القاطع ساقط عن درجة الاعتبار فهذا خبر ساقط مردود على قائله.
ثانيا: أنه معارض لما لا يحصى من الأخبار الدالة على خلافه وقد تقدم كثير منها. بل لابن أبي داود مخرجه خبر يعارضه ذلك أنه أخرج أيضا عن أبي أنهم

جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ظنوا أن هذه آخر ما نزل فقال أبي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} إلى آخر السورة.

ترتيب السور
...
ترتيب السور
معنى السورة:
السورة في اللغة تطلق على ما ذكره صاحب القاموس بقوله: والسورة: المنزلة ومن القرآن معروفة لأنها منزلة بعد منزلة: مقطوطة عن الأخرى والشرف وما طال من البناء وحسن والعلامة وعرق من عروق الحائط ا هـ.
ويمكن تعريفها اصطلاحا بأنها طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع. قالوا: وهي مأخوذة من سور المدينة. وذلك إما لما فيها من وضع كلمة بجانب كلمة وآية بجانب آية كالسور توضع كل لبنة فيه بجانب لبنة ويقام كل صف منه على صف.
وإما لما في السورة من معنى العلو والرفعة المعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته الحسية وإما لأنها حصن وحماية لمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من كتاب الله القرآن ودين الحق الإسلام باعتبار أنها معجزة تخرس كل مكابر ويحق الله بها الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. أشبه بسور المدينة يحصنها ويحميها غارة الأعداء وسطوة الأشقياء. وسور القرآن مختلفة طولا وقصرا. فأقصر سورة فيه سورة الكوثر وهي ثلاث آيات قصار. وأطول سورة فيه سورة البقرة وهي خمس وثمانون أو ست وثمانون ومائتا آية. وأكثر آياتها من الآيات الطوال. بل فيها آية الدين التي هي أطول آية في القرآن كما سبق. وبين سورة البقرة وسورة الكوثر سور كثيرة تختلف طولا وتوسطا وقصرا ومرجع الطول

والقصر والتوسط وتحديد المطلع والمقطع إلى الله وحده لحكم سامية علمها من علمها وجهلها من جهلها.
حكمة تسوير السور:
لتجزئة القرآن إلى سور فوائد وحكم:
منها : التيسير على الناس وتشويقهم إلى مدارسة القرآن وتحفظه لأنه لو كان سبيكة واحدة لا حلقات بها لصعب عليهم حفظه وفهمه وأعياهم أن يخوضوا عباب هذا البحر الخضم الذي لا يشاهدون فيه عن كثب مرافئ ولا شواطئ.
ومنها : الدلالة على موضوع الحديث ومحور الكلام فإن في كل سورة موضوعا بارزا تتحدث عنه كسورة البقرة وسورة يوسف وسورة النمل وسورة الجن.
ومنها : الإشارة إلى أن طول السورة ليس شرطا في إعجازها بل هي معجزة وإن بلغت الغاية في القصر كسورة الكوثر.
قال صاحب الكشاف في فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة ما نصه: منها: أي الفوائد أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن وأفخم من أن يكون بابا واحدا.
ومنها : أن القارئ إذا أتم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ومثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفس ذلك عنه ونشط للسير ومن ثم جزيء القرآن أجزاء وأخماسا.
ومنها : أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيعظم عنده ما حفظه ومنه حديث أنس: كان الرجل
إذ قرأ البقرة وآل عمران جد فينا". ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل.
ومنها : أن التفصيل بحسب تلاحق الأشكال والنظائر وملائمة بعضها لبعض وبذلك تتلاحق المعاني والنظم إلى غير ذلك من الفوائد ا هـ.
أقسام السور:
قسم العلماء سور القرآن إلى أربعة أقسام خصوا كلا منها باسم معين وهي: الطوال والمئين والمثاني والمفصل.
فالطوال سبع سور: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف. فهذه ستة واختلفوا في السابعة أهي الأنفال وبراءة معا لعدم الفصل بينهما بالبسملة أم هي سورة يونس؟؟.
والمئون: هي السور التي تزيد آياتها على مائة أو تقاربها.
والمثاني: هي التي تلي المئين في عدد الآيات. وقال الفراء: هي السور التي آيها أقل من مائة آية لأنها تثنى أي تكرر أكثر مما تثنى الطوال والمئون.
والمفصل: هو أواخر القرآن واختلفوا في تعيين أوله على اثني عشر قولا فقيل أوله ق وقيل غير ذلك وصحح النووي أن أوله الحجرات. وسمي بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة وقيل لقلة المنسوخ منه ولهذا يسمى المحكم أيضا كما روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم.
والمفصل ثلاثة أقسام: طوال وأوساط وقصار. فطواله من أول الحجرات إلى سورة البروج. وأوساطه من سورة الطارق إلى سورة لم يكن. وقصاره من سورة إذا زلزلت إلى آخر القرآن.

المذاهب في ترتيب السور:
اختلف في ترتيب السور على ثلاثة أقوال: الأول أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان باجتهاد من الصحابة. وينسب هذا القول إلى جمهور العلماء منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه. وإلى هذا المذهب يشير ابن فارس في كتاب المسائل الخمس بقوله: جمع القرآن على ضربين: أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا هو الذي تولته الصحابة رضي الله عنهم. وأما الجمع الآخر وهو الآيات في السور فذلك شيء تولاه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه عز وجل.
وقد استدلوا على رأيهما هذا بأمرين: أحدهما أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة في ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن في عهد عثمان فلو كان هذا الترتيب توقيفيا منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجازوه ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذي تصوره لنا الروايات. فهذا مصحف أبي بن كعب روي أنه كان مبدوءا بالفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام. وهذا مصحف ابن مسعود كان مبدوءا بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران الخ على اختلاف شديد. وهذا مصحف علي كان مرتبا على النزول فأوله اقرأ ثم المدثر ثم ق ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني.
الدليل الثاني: ما أخرجه ابن أشته في المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس عن حبان بن يحيى عن أبي محمد القرشي قال: أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة الأنفال وسورة التوبة في السبع ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم ا هـ ولعله يشير بهذا إلى ما رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من

المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا أنزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول: " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" . وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا. وكانت قصتها شبيهة بقصتها. فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما. ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال ا. هـ.
ويمكن أن يناقش هذا المذهب بالأحاديث الدالة على التوقيف وستأتيك في الاحتجاج للقول الثاني. ويمكن أيضا مناقشة دليلهم الأول باحتمال أن اختلاف من خالف من الصحابة في الترتيب إنما كان قبل علمهم بالتوقيف أو كان في خصوص ما لم يرد فيه توقيف دون ما ورد فيه. ويمكن مناقشة دليلهم الثاني بأنه خاص بمحل وروده وهو سورة الأنفال والتوبة ويونس فلا يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن كله.
القول الثاني:
أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم. واستدل أصحاب هذا الرأي بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد. وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم. لكنهم لم يتمسكوا بها بل عدلوا عنها وعن ترتيبهم وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعا. ثم ساقوا روايات لمذهبهم كأدلة يستند إليها الإجماع.


منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف. إلى أن جاء في هذه الرواية ما نصه:
فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طرأ علي حزب من القرآن فأردت ألا أخرج حتى أقضيه" فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة وحزب المفصل من ق حتى نختم. قالوا: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن هذه الدلالة غير ظاهرة فيما نفهم اللهم إلا في ترتيب حزب المفصل خاصة بخلاف ما سواه.
واحتجوا لمذهبهم أيضا بأن السور المتجانسة في القرآن لم يلتزم فيها الترتيب والولاء ولو كان الأمر بالاجتهاد للوحظ مكان هذا التجانس والتماثل دائما لكن ذلك لم يكن بدليل أن سور المسبحات لم ترتب على التوالي بينما هي متماثلة في افتتاح كل منها بتسبيح الله. بل فصل بين سورها بسورة قد سمع والممتحنة والمنافقين وبدليل أن طسم الشعراء وطسم القصص لم يتعاقبا مع تماثلهما بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهي طس.
وقد أيد هذا المذهب أبو جعفر النحاس فقال: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث واثلة: {أعطيت مكان التوراة السبع الطوال} .
وكذلك انتصر أبو بكر الأنباري لهذا المذهب فقال: أنزل الله القرآن إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين سنة فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر ويقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآيات والحروف. كله من النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن.
وأخرج ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل لم قدمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع وثمانون

سورة بمكة وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به. إلى أن قال: فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه ا هـ.
ويمكن مناقشة هذا المذهب أولا : بأن الرواية التي ساقوها وأمثالها خاصة بمحالها فلا ينسحب حكم التوقيف على الكل. ثم هي ظنية في إفادة كون الترتيب عن توقيف.
ثانيا : أن حديث ابن عباس السابق في القول الأول صريح في أن عثمان كان قد اجتهد في ترتيب الأنفال والتوبة ويونس.
ثالثا : أن الإجماع الذي استندوا إليه لا يدل على توقيف في ترتيب جميع السور لأنه لا يشترط أن يستند الإجماع إلى نص في ترتيب جميع السور فحسب الصحابة أن يحملهم الاجتهاد الموفق على أن يجمعوا على ترتيب عثمان للسور ويتركوا ترتيب مصاحفهم توحيدا لكلمة الأمة وقطعا لعرق النزاع والفتنة إذا ترك كل ورأيه في هذا الترتيب.
القول الثالث:
أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة وقد ذهب إلى هذا الرأي فطاحل من العلماء. ولعله أمثل الآراء لأنه وردت أحاديث تفيد ترتيب البعض كما مر بك من الرأي الثاني القائل بالتوقيف وخلا البعض الآخر مما يفيد التوقيف. بل وردت آثار تصرح بأن الترتيب في البعض كان عن اجتهاد كالحديث الآنف في القول الأول المروي عن ابن عباس.
بيد أن المؤيدين لهذا المذهب اختلفوا في السور التي جاء ترتيبها عن توقيف والسور التي جاء ترتيبها عن اجتهاد. فقال القاضي أبو محمد بن عطية: إن كثيرا من السور

قد علم ترتيبها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل. وأما ما سوى ذلك فيمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده.
وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى فيها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف كقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران" رواه مسلم.
وكحديث سعيد بن خالد: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في ركعة رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وفيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة وروى البخاري عن ابن مسعود أنه قال صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي"1
فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها. وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين.
وقال السيوطي ما نصه: الذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال. ولا ينبغي أن يستدل بقراءة سور أولا على أن ترتيبها كذلك. وحينئذ فلا يرد حديث قراءة النساء
__________
1 العتاق: جمع عتيق, وهو القديم من كل شيء, والمراد بالعتاق هنا ما نزل أولا. والتلاد- بكسر التاء وفتحها- ضد الطارف وهو المستحدث من المال ونحوه. والمراد بالتلاد هنا, ما نزل أولا أيضا. قال في المختار: وفي الحديث هن من تلادي يعني السور, أي من الذي أخذته من القرآن قديما.

قبل آل عمران لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب. ولعله فعل ذلك لبيان الجواز ا هـ.
والأمر على كل حال سهل حتى لقد حاول الزركشي في البرهان أن يجعل الخلاف من أساسه لفظيا فقال: والخلاف بين الفريقين أي القائلين بأن الترتيب عن اجتهاد والقائلين بأنه عن توقيف لفظي لأن القائل بالثاني يقول: إنه رمز إليهم ذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ولهذا قال مالك: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور كان باجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد إسناد فعلي بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر وسبقه في ذلك جعفر بن الزبير ا هـ.
احترام هذا الترتيب:
وسواء أكان ترتيب السور توقيفيا أم اجتهاديا فإنه ينبغي احترامه خصوصا في كتابة المصاحف لأنه عن إجماع الصحابة والإجماع حجة. ولأن خلافه يجر إلى الفتنة ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب.
أما ترتيب السور في التلاوة فليس بواجب إنما هو مندوب. وإليك ما قاله الإمام النووي في كتابه التبيان إذ جاء في هذا الموضوع بما نصه: قال العلماء: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم ما بعدها على الترتيب سواء أقرأ في الصلاة أم في غيرها حتى قال بعض أصحابنا: إذا قرأ في الركعة الأولى سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} يقرأ في الثانية بعد الفاتحة من البقرة.

قال بعض أصحابنا: ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها. ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة فينبغي أن يحافظ عليها إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة يقرأ في الأولى سورة السجدة وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} . وصلاة العيد في الأولى {ق} وفي الثانية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . وركعتي الفجر في الأولى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وركعات الوتر في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين.
ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلي الأولى أو خالف الترتيب فقرأ سورة قبلها جاز فقد جاءت بذلك آثار كثيرة. وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الركعة الأولى من الصبح بالكهف وفي الثانية بيوسف.
وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف. وروى ابن أبي داود عن الحسن أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه في المصحف. وبإسناده الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا فقال: ذلك منكوس القلب.
وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعا متأكدا لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز ويزيل حكمة ترتيب الآيات. وقد روى ابن أبي داود عن إبراهيم النخعي الإمام التابعي الجليل وعن الإمام مالك بن أنس أنهما كرها ذلك وأن مالكا كان يعيبه ويقول: هذا عظيم. وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن وليس هذا من الباب فإن ذلك قراءة متفاضلة في أيام متعددة على ما فيه من تسهيل الحفظ عليهم والله أعلم ا هـ رحمه الله.

شبهتان خفيفتان:
الشبهة الأولى يقولون: كيف كان ترتيب القرآن توقيفيا مع أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة؟.
والجواب أن هذه الشبهة لا ترد على القائلين بأن ترتيب السور كلها اجتهادي أما القائلون بأن منه اجتهاديا ومنه توقيفيا فمن السهل الجواب عنهم بأن الاختلاف بين الصحابة وقع في القسم الاجتهادي لا التوقيفي. وأما القائلون بأن ترتيب السور كله توقيفي فيمكن الجواب عنهم بأنهم اختلفوا فيما اختلفوا قبل أن يعلموا التوقيف فيه. ولما جمع عثمان القرآن على هذا الترتيب علموا ما لم يكونوا يعلمونه ولذلك تركوا ترتيب مصاحفهم وأخذوا بترتيب عثمان. ويهون الأمر في اختلاف مصاحفهم أنها كانت مصاحف فردية لم يكونوا يكتبونها للناس إنما كانوا يكتبونها لأنفسهم فبدهي أن الواحد منها لم يثبت فيها إلا ما وصل إليه بمجهوده الفردي وقد يفوته ما لم يفت سواه من تحقيق أدق أو علم أوسع. ولهذا كان يوجد بتلك المصاحف الفردية بعض آيات قد تكون منسوخة وربما لم يبلغ صاحب ذاك المصحف نسخها. وقد يهمل صاحب المصحف إثبات صورة لشهرتها وغناها بهذه الشهرة عن الإثبات كما ورد أن مصحف ابن مسعود لم تكن به الفاتحة. وقد يكتب صاحب المصحف ما يرى أنه بحاجة إليه من غير القرآن في نفس المصحف كما تقدم ذلك في قنوت الحنفية الذي روى أن بعض الصحابة كان قد كتبه بمصحفه وسماه سورة الخلع والحفد.
الشبهة الثانية يقولون: كيف يكون ترتيب القرآن توقيفيا على حين أن رواية ابن عباس السابقة تصرح بأن عثمان لم يسمع في شأن ترتيب الأنفال مع براءة شيئا إنما هو اجتهاد ونظر منه؟.

والجواب: أن هذه الشبهة لا ترد على القول بأن الترتيب اجتهادي ولا على القول بأن منه اجتهاديا ومنه توقيفيا. أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن اجتهاد عثمان كان فيما لم يرد فيه توقيف من الشارع.
أما القول بأن ترتيب السور كله توقيفي فقد أجابوا على هذه الشبهة بجوابين:
أولهما : أن حديث ابن عباس هذا غير صحيح لأن الترمذي وهو راويه قال في تخريجه: إنه حسن غريب لا يعرف إلا من طريق يزيد الفارسي عن ابن عباس. ويزيد هذا مجهول الحال فلا يصح الاعتماد على حديثه الذي انفرد به في ترتيب القرآن.
ثانيهما : أنه على فرض صحته يجوز أن جواب عثمان لابن عباس كان قبل أن يعلم بالتوقيف ثم علمه بعد ذلك. لكن يرد على هذا الجواب ان الرواية تفيد أن جواب عثمان هذا كان بعد جمع القرآن وترتيب سوره فكيف كان توقيفيا وعثمان هو الجامع والمرتب ولا يعلم دليل التوقيف؟

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المبحث, التاسع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:07 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir