رسالة تفسيرية مختصرة بأسلوب الحجاج في قوله تعالى:" أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)" سورة القلم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، هذه الآيات من سورة القلم، وسورة القلم مكية على غالب قول أهل العلم ، وتمتاز السور المكية أنها تناقش ثلاث قضايا ؛ أولها تقرير توحيد الله تعالى والثانية تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والثالثة تقرير البعث والحساب والجزاء.
وكان التركيز في هذه السورة على محاجة الكفار على تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ففي أول السورة أقسم الله تعالى بالقلم وما يسطر به على على براءة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مما نسبه إليه كفار قريش من الجنون، فرد الله عليهم بتأكيد خلقه العظيم الكريم الذي لا يخفى عليهم ، وذلك في قوله تعالى:
" ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)".
فهذا قول الله تعالى ونحن موقنون بما يخبرنا الله تعالى ، فمن أين لكم هذا الوصف لمحمد صلى الله عليه وسلم؟، ما هو برهانكم ودليلكم على هذا؟ هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين في قولكم ؟
فيأتي تأكيد الله تعالى :" فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)"، أي سترون وستعلمون أيكم المجنون، ولكن لن ينفعكم علمكم وقتها ولن يغني عنكم شيئا، يوم لا يكون أمامكم سوى تكذيبكم لرسولكم واتهماتكم الباطلة له، ثم يأتي تقرير الله تعالى بضلالهم ووعيد الله لهم في الآيات بعدها:
" إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)" و ، " فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) ".
وبعد ذكر نموذج أصحاب الجنتين الذين اختبرهم الله تعالى بهلاك جنتهم عندما أعرضوا عن منهج الله ولم يؤدوا حق الله تعالى كما اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع.
وبين الله تعالى أن هذا عذاب الدنيا ،" وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ "، " لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "، فكانت هذه القصة مثل لهم يعلمهم إياه الله ليعودوا وينزجروا عما هم فيه من تكذيب لرسولهم ورميهم له بالجنون ، ولكنهم لم ينزجروا ولم يتعظوا فتأتي الآيات:
" أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) "، فإنه من كمال حكمة الله تعالى ، وكمال علمه ، وكمال عدله ، وكمال رحمته ، وكمال ملكه ، أن لا يجعل الطائعين لله تعالى، المؤمنين بكل ما أخبر الله تعالى، المسلمين له بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه ، أن يكونوا كالمعرضين المكذبين لرسوله فيما أخبر، المجرمين في اتهامه صلى الله عليه وسلم بالجنون ، فأين ذهبت عقولهم هؤلاء المكذبين إن تصوروا أن يساوي اللهم بينهم وبين المسلمين؟.
ثم جاءت الآيات بالاستفهامات الاستنكارية على هؤلاء الكفار.
وإن كان ما تقولون حقيقة فهل لكم مستند بذلك ؟ مكتوب فيه ما تقولون ؟
"أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)"
هل عندكم صك من الله على نجاتكم من العذاب؟ أو مساواتكم بالمؤمنين؟ أو فيه ما تتخيرون من الأمور؟
"إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)"
أم عندكم من الله العهد واليمين البالغة إلى يوم القيامة أن لكم ما تحكمون؟
" أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)"
هل هناك منكم من هو متكفل بهذه الدعوة الباطلة؟،
"سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40)"
أم لكم نصراء وشركاء ينصرونكم من دون الله؟
إن كان لكم فأتوا بهم إن كنتم صادقين؟
" أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41)"
يقول الله تعالى مبينا خذلانهم وكذبهم وبطلان أقوالهم ، فإذا أتى يوم القيامة وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه، فيؤمر الخلائق بالسجود ، فهنا لا يستوي المسلمين والمجرمين كما قال تعالى:
"يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)" ، فأما المؤمنون فلربهم يسجدون وبالجنات يفوزون - فاللهم اجعلنا من المؤمنين الفائزين، وأما الكفار فلا يستطيعون السجود وللنار بالسلاسل يجرون إلى الويل والثبور - والعياذ بالله ، نسأل الله السلامة والعافية.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم