سورة الكهف
فإن قيل: قوله تعالى: (قيّمًا) بمعنى مستقيمًا وقوله: (ولم يجعل له عوجًا) مفن عن قوله: "قيمًا " لأنه متى انتفى العوج ثبتت الاستقامة، لأن العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد به هنا نفى الاختلاف والتناقض في معانيه، وأنه لا يخرج منه شيء عن الصواب والحكمة، وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيمًا ولم يجعل له عوجًا؟
قلنا: قال الفراء: معنى قوله تعالى "قيمًا " قائمًا على الكتب السماوي كلها، مصدقًا لها شاهدًا بصحتها ناسخًا لبعض شرائعها، فعلى هذا لا تكرار فيه، وعلى القول المشهور يكون الجمع بينهما للتأكيد سواء قدر قيمًا مقدمًا أو أقر في مرتبته ونصب بفعل مضمر تقديره: ولكن جعله قيمًا، ولابد من هذا الإضمار أو من التقديم
والتأخير، وإلا يصير المعنى ولم يجعل له عوجًا مستقيمًا، ولكن العوج لا يكون مستقيمًا.
فإن قيل: اتخاذ الله تعالى ولدًا محال، فكيف قال تعالى:
(ما لهم به من علمٍ) وإنما يستقيم أن يقال: فلان ما له علم بكذا إذا كان ذلك الشيء مما يعلمه غيره، أو مما يصح أن يعلم كقولنا: زيد ما له علم بالعربية أو بالحساب أو بالشعر ونحو ذلك؟
قلنا: معناه ما لهم به من علم، لأنه ليس مما يعلم لاستحالته، وهذا لأن انتفاء العلم بالشيء تارة يكون للجهل بالطريق الموصل إليه،
[أنموذج جليل: 291]
وتارة لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به، وما نحن فيه من هذا القبيل.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (ثمّ بعثناهم لنعلم أيّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمدًا) وهو عالم بذلك في الأزل؟
قلنا: معناه لنعلم ذلك علم مشاهدة كما علمناه علم غيب.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (فابعثوا أحدكم) ولم يقل واحدكم؟
قلنا: لأنه أراد فردًا منهم أيهم كان، ولو قال واحدكم لدل على بعث رئيسهم ومقدمهم، فإن العرب تقول رأيت أحد القوم أي فردًا منهم، ولا تقول رأيت واحد القوم إلا إذا أرادت المقدم المعظم.
فإن قيل: كيف جاء تعالى بسين الاستقبال في الفعل الأول دون الآخرين في قوله تعالى: (سيقولون ثلاثةٌ)؟
قلنا: أراد دخول الفعلين الآخرين في حكم الأول بمقتضى العطف، فاقتصر على ذكر السين في الأول إيجازًا واختصارًا كما تقول: زيد قد يخرج ويركب، تريد وقد يركب.
فإن قيل: كيف دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأوليين وهي قوله تعالى: (وثامنهم كلبهم)؟
قلنا: قال بعض المفسرين: هي واو الثمانية، وقد ذكرنا مثلها في
[أنموذج جليل: 292]
آخر سورة التوبة، وقال الزجاج: دخول هذه الواو وخروجها سواء في صفة النكرة، فجاء القرآن بهما، وقال غيره: الواو مرادة في الجملتين الأوليين، وإنما حذفت فيهما تخفيفًا، وأتى بها في الجملة
الثالثة دلالة على إرادتها فيهما، ويرد على هذا القول أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في الجملة الأولى محذوفة في الجملة الثانية والثالثة، ليدل ذكرها أولا على حذفها بعد ذلك، كما سبق في سين الاستقبال، وقال الزمخشري وغيره: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة النكرة، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا من المعرفة، تقول: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفى يده سيف، ومنه قوله تعالى: (وما أهلكنا من قريةٍ إلّا ولها كتابٌ معلومٌ) وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي أذنت، فإن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن، كما رجم غيرهم، والدليل عليه أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله: (رجمًا بالغيب) وأتبع القول الثالث قوله: (ما يعلمهم إلّا قليلٌ) وقال ابن عباس رضي الله عنه: وقعت الواو لقطع العدد، أي لم يبق بعدها عدد عاد يلتفت إليه.
ويثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات، وقال الثعلبي: هذه واو الحكم والتحقيق، وكأن الله تعالى حكى اختلافهم فتم الكلام
[أنموذج جليل: 293]
عند قوله سبعة، ثم حكم بأن ثامنهم كلبهم باستئنافه الكلام، فحقق ثبوت العدد الأخير لأن الثامن لا يكون إلا بعد السبعة، فعلى هذا يكون قوله: (وثامنهم كلبهم) من كلام الله تعالى حقيقة أو تقديرًا، ويرد على هذا أن قوله تعالى بعد هذه الواو: (قل ربّي أعلم بعدّتهم) وقوله تعالى: (ما يعلمهم إلّا قليلٌ) ويدل على بقاء الإبهام وعدم زوال اللبس بهذه الواو.
فإن قيل: كيف قال تعالى: (لا مبدّل لكلماته) وقال في موضع آخر: (وإذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ) ويلزم من تبديل الآية بالآية تبديل الكلمات فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: معنى الأول لا مغير للقرآن من البشر، وهو جواب لقولهم للنبي عليه الصلاة والسلام: (ائت بقرآنٍ غير هذا أو بدّله)
الثاني: أن معناه لا خلف لمواعيده ولا مغير لحكمه، ومعنى الثاني النسخ والتبديل من الله تعالى فلا تنافى بينهما.
فإن قيل: قول تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) إباحة وإطلاق للكفر؟
قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنه: معناه فمن شاء ربكم فليؤمن ومن
[أنموذج جليل: 294]
شاء ربكم فليكفر، يعنى لا إيمان ولا كفر إلا بمشيئة الله تعالى، الثاني: أنه تهديد ووعيد، الثالث: أن معناه لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرونه بكفركم، فهو إظهار للغنى لا إطلاق للكفر.
فإن قيل: لبس الأساور في الدنيا عيب للرجال، ولهذا لا يلبسها من يلبس الذهب والحرير من الرجال، فكيف وعدها الله تعالى المؤمنين في الجنة؟
قلنا: كانت عادة ملوك الفرس والروم لبس الأساور والتيجان مخصوصين بها دون من عداهم، فلذلك وعدها الله تعالى المؤمنين في الجنة لأنهم ملوك الآخرة.
فإن قيل: كيف أفرد تعالى الجنة بعد التثنية فقال: (ودخل جنته)؟
قلنا: أفردها ليدل على الحصر، معناه ودخل ما هو جنته لا جنة له غيرها ولا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون، بل ما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد جنة معينة منهما بل جنس ما كان له.
فإن قيل: كيف قال الأخ المؤمن لأخيه: (لكنّا هو اللّه ربّي ولا أشرك بربّي أحدًا) وهذا تعريض بأن أخاه مشرك، وليس في كلام أخيه ما يقتضى الشرك، بل الكفر وهو قوله تعالى: (وما أظنّ السّاعة قائمةً)
[أنموذج جليل: 295]
قلنا: إشراك أخيه الذي عرض له به هو اعتقاده أن زكاة جنته ونماءها بحوله وقوته، ولهذا قال له: (ولولا إذ دخلت جنّتك قلت ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه) ولهذا قال هو أيضًا لما أصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها: (يا ليتني لم أشرك بربّي أحدًا) اعترف بالشرك.
فإن قيل: ما فائدة قوله: "أنا" في قوله: (إن ترن أنا أقلّ)؟
قلنا: "أنا" في مثل هذا الموضع يفيد الخبر في المخبر عنه، ومنه قوله تعالى: (إنّي أنا ربّك) وقوله: (إنّي أنا اللّه) ونظائره كثيرة.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (ولم تكن له فئةٌ ينصرونه من دون اللّه) وكذا كل ما أشبهه مما جاء في القرآن العزيز، فقال تعالى: (واتّخذوا من دون اللّه آلهةً)
و(اتّخذوا من دونه أولياء) و(وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ)
[أنموذج جليل: 296]
كيف تحقيق معناه؟
قلنا: دون تستعمل في كلام العرب بمعنى غير، كقولهم: لفلان مال دون هذا، ومن دون هذا أي غير هذا ونظيره قوله تعالى: (ولهم أعمالٌ من دون ذلك) أي من غيره، وتستعمل أيضًا بمعنى قبل كقولهم: المدينة دون مكة أي قبلها، ومن دونه حرط القتاد، ولا أقوم من مجلس دون أن تجئ، ولا أفارقك دون أن تعطيني حقي.
وما أعلم أنها جاءت في القرآن العزيز بمعنى قبل، بل بمعنى غير فقط.
فإن قيل: كيف قال: (هنالك الولاية للّه الحقّ) يعنى في يوم القيامة أو في مقام الآخرة، والولاية بكسر الواو السلطان والملك، وبفتح الواو التولي والنصرة، وكل ذلك لله تعالى في الدنيا والآخرة، يعز من يشاء ويذل من يشاء، وينصر من يشاء ويخذل من يشاء، ويتولى من يشاء بحراسته وحفظه، فما فائدة تخصص يوم القيامة؟
قلنا: فائدته أن الدعاوى المجازية كثيرة في الدنيا، ويوم القيامة تنقطع كلها ويسلم الملك لله تعالى عن كل منازع، وقد سبق نظير هذا السؤال في سورة الأنعام في قوله تعالى (قوله الحقّ وله الملك يوم ينفخ في الصّور).
فإن قيل: كيف قال تعالى: (هو خيرٌ ثوابًا وخيرٌ عقبًا) أي
[أنموذج جليل: 297]
عاقبة، وغير الله تعالى لا يثيب ليكون الله تعالى خيرًا منه ثوبا؟
قلنا: هنا على الغرض والتقدير معناه: لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل، ولكانت طاعته أحمد عاقبة وخيرًا من طاعة غيره.