فَصْلٌ وأمَّا الإِحْسَانُ ، فَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي القُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ:
تَارَةً: مَقْرُونًا بالإِيمانِ.
وتارَةً: مَقْرونًا بالإِسلامِ.
وتارَةً:مَقْرونًا بالتَّقْوَى أوْ بالعَمَلِ.
فالمَقْرونُ بالإِيمانِ:كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة: 93].
وكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}[الكهف: 30].
والمَقْرُونُ بالإِسْلامِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}[البقرة: 112].
وكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآيَةَ [لقمان: 22].
والمَقْرُونُ بالتَّقْوَى: كقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل: 128].
وقَدْ يُذْكَرُ مُفْرَدًا: كقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وقَدْ ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَفْسِيرُ الزِّيَادَةِ بالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فِي الجَنَّةِ، وهَذَا مُنَاسِبٌ لِجَعْلِهِ جَزَاءً لأَِهْلِ الإِحْسَانِ؛ لأَِنَّ الإِحْسَانَ هوَ أنْ يَعْبُدَ المُؤْمِنُ رَبَّهُ فِي الدُّنيا عَلَى وَجْهِ الحُضُورِ والمُرَاقَبَةِ، كَأَنَّهُ يَرَاهُ بقَلْبِهِ ويَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي حَالِ عِبَادَتِهِ، فَكَانَ جَزَاءُ ذَلِكَ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ عِيَانًا فِي الآخِرَةِ.
وعَكْسُ هَذَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ جَزَاءِ الكُفَّارِ فِي الآخِرَةِ: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المُطَفِّفِينَ: 15]، وجَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءً لحَالِهِم فِي الدُّنيا، وهوَ تَرَاكُمُ الرَّانِ عَلَى قُلُوبِهِم، حَتَّى حُجِبَتْ عنْ مَعْرِفَتِهِ ومُرَاقَبَتِهِ فِي الدُّنيا، فَكَانَ جَزَاؤُهُم عَلَى ذَلِكَ أَنْ حُجِبُوا عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي الآخِرَةِ.
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ الإِحْسَانِ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ...)) إلخ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ العَبْدَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وهيَ اسْتِحْضَارُ قُرْبِهِ، وأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وذَلِكَ يُوجِبُ:
- الخَشْيَةَ والخَوْفَ والهَيْبَةَ والتَّعْظِيمَ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)).
- ويُوجِبُ أيضًا النُّصْحَ فِي العِبَادَةِ ، وبَذْلَ الجُهْدِ فِي تَحْسِينِهَا وإِتْمَامِهَا وإِكْمَالِهَا.
- وقَدْ وَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ ، كَمَا رَوَى إِبْرَاهِيمُ الْهَجَرِيُّ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: (أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ أَخْشَى اللَّهَ كَأَنِّي أَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ أَكُنْ أَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَانِي).
ورُوِيَ عَن ابنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ: ((اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)) خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ.
ويُرْوَى مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا ومَوْقُوفًا: ((كُنْ كَأَنَّكَ تَرَى اللَّهَ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
وخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ واجْعَلْهُ مُوجَزًا، فَقَالَ: ((صَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ؛ فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
وفي حَدِيثِ حَارِثَةَ المَشْهُورِ -وقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلَةٍ، وَرُوِيَ مُتَّصِلاً، والمُرْسَلُ أَصَحُّ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ لَهُ: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟)).
قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا.
قَالَ: ((انْظُرْ مَا تَقُولُ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً)).
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَن الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا، قَالَ: ((أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ)).
ويُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَصَّى رَجُلاً فَقَالَ لَهُ: ((اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ اسْتِحْيَاءَكَ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي عَشِيرَتِكَ لا يُفَارِقَانِكَ)).
ويُرْوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلاً.
ويُرْوَى عَنْ مُعَاذٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَصَّاهُ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ فَقَالَ: ((اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحِي رَجُلاً ذَا هَيْبَةٍ مِنْ أَهْلِكَ)).
وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ كَشْفِ العَوْرَةِ خَاليًا، فَقَالَ: ((اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ)).
ووَصَّى أَبُو الدَّرْدَاءِ رَجُلاً فَقَالَ لَهُ: (اعْبُد اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ).
وخَطَبَ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ إِلَى ابنِ عُمَرَ ابْنَتَهُ وَهُمَا فِي الطَّوَافِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ لَقِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: (كُنَّا فِي الطَّوَافِ نَتَخَايَلُ اللَّهَ بَيْنَ أَعْيُنِنَا). أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
قِيلَ: إِنَّهُ تَعْلِيلٌ للأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا أُمِرَ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ فِي العِبَادَةِ، واسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْ عَبْدِهِ، حَتَّى كَأَنَّ العَبْدَ يَرَاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِإِيمَانِهِ بأَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ، ويَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وعَلانِيَتِهِ، وبَاطِنِهِ وظَاهِرِهِ، وَلا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ.
فَإِذَا حَقَّقَ هَذَا المَقَامَ سَهُلَ عَلَيْهِ الانْتِقَالُ إِلَى المَقَامِ الثَّانِي ، وهوَ دَوَامُ التَّحْدِيقِ بالبَصِيرَةِ إِلَى قُرْبِ اللَّهِ مِنْ عَبْدِهِ ومَعِيَّتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ.
وقِيلَ: بَلْ هوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ ، فَلْيَعْبُد اللَّهَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ ويَطَّلِعُ عَلَيْهِ، فَلْيَسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ العَارِفِينَ: (اتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ).
وقَالَ بَعْضُهُم: (خَفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، واسْتَحْيِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ).
قَالَتْ بَعْضُ العَارِفَاتِ مِن السَّلَفِ: (مَنْ عَمِلَ لِلَّهِ عَلَى المُشَاهَدَةِ فَهُو عَارِفٌ، وَمَنْ عَمِلَ عَلَى مُشَاهَدَةِ اللَّهِ إيَّاهُ فَهُو مُخْلِصٌ).
فَأَشَارَتْ إِلَى المَقَامَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُما:
أَحَدُهُمَا: مَقَامُ الإِخْلاصِ، وهوَ أَنْ يَعْمَلَ العَبْدُ عَلَى اسْتِحْضَارِ مُشَاهَدَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، واطِّلاعِهِ عَلَيْهِ، وقُرْبِهِ مِنْهُ.
فَإِذَا اسْتَحْضَرَ العَبْدُ هَذَا فِي عَمَلِهِ، وعَمِلَ عَلَيْهِ، فَهُو مُخْلِصٌ لِلَّهِ؛ لأَِنَّ اسْتِحْضَارَهُ ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ يَمْنَعُهُ مِن الالتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وإِرَادَتِهِ بالعَمَلِ.
والثَّانِي: مَقَامُ المُشَاهَدَةِ، وهوَ أَنْ يَعْمَلَ العَبْدُ عَلَى مُقْتَضَى مُشَاهَدَتِهِ لِلَّهِ بقَلْبِهِ، وهوَ أَنْ يَتَنَوَّرَ القَلْبُ بالإِيمَانِ، وتَنْفُذَ البَصِيرَةُ فِي العِرْفَانِ، حَتَّى يَصِيرَ الغَيْبُ كَالْعِيَانِ.
وهَذَا هوَ حَقِيقَةُ مَقَامِ الإِحْسَانِ المُشَارِ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ.
ويَتَفَاوَتُ أَهْلُ هَذَا المَقَامِ فِيهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ نُفُوذِ البَصَائِرِ.
وَقَدْ فَسَّرَ طَائِفَةٌ مِن العُلَمَاءِ المَثَلَ الأَعْلَى المَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرُّوم: 27]، بِهَذَا المَعْنَى.
ومِثْلُهُ قولُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}[النور: 35]، والمُرَادُ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ.
كَذَا قَالَهُ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ.
وقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُ كُنْتَ)).
وحَدِيثُ: مَا تَزْكِيَةُ المَرْءِ نَفْسَهُ؟
قَالَ: ((أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ)).
وخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((ثَلاثَةٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: رَجُلٌ حَيْثُ تَوَجَّهَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ)) وذَكَرَ الحَدِيثَ.
وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ عَلَى هَذَا المَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ:
- كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186].
- وقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}.
- وقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا}[المُجَادَلَة: 7 ].
- وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يُونُس: 61].
- وقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
- وقَوْلِهِ: {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108].
وقَدْ وَرَدَت الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بالنَّدْبِ إِلَى اسْتِحْضَارِ هَذَا القُرْبِ فِي حَالِ العِبَادَاتِ :
- كقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ)).
- وقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى)).
- وقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ)).
- وقَوْلِهِ للَّذِينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُم بالذِّكْرِ: ((إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا)).
- وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)).
- وَفِي رِوَايَةٍ: ((هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)).
- وقَوْلِهِ: ((يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ)).
- وقَوْلِهِ: ((يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا مَعَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)).
ومَنْ فَهِمَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ تَشْبِيهًا أوْ حُلُولاً أو اتِّحَادًا، فَإِنَّما أُتِيَ مِنْ جَهْلِهِ وسُوءِ فَهْمِهِ عَن اللَّهِ ورَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، واللَّهُ ورَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ،
فَسُبْحَانَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وهوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
قَالَ بَكْرٌ المُزَنِيُّ: (مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ آدَمَ: خُلِّيَ بَيْنَكَ وبَيْنَ المِحْرَابِ والمَاءِ، كُلَّمَا شِئْتَ دَخَلْتَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، لَيْسَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ).
ومَنْ وَصَلَ إِلَى اسْتِحْضَارِ هَذَا فِي حَالِ ذِكْرِهِ لِلَّهِ وعِبَادَتِهِ، اسْتَأْنَسَ باللَّهِ، واسْتَوْحَشَ مِنْ خَلْقِهِ ضَرُورَةً.
قَالَ ثَوْرُ بنُ يَزِيدَ: (قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الكُتُبِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الحَوَارِيِّينَ، كَلِّمُوا اللَّهَ كَثِيرًا، وكَلِّمُوا النَّاسَ قَلِيلاً.
قَالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ اللَّهَ كَثِيرًا؟
قَالَ: اخْلُوا بِمُنَاجَاتِهِ، اخْلُوا بدُعَائِهِ) خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ.
وخَرَّجَ أَيْضًا بإِسْنَادِهِ عنْ رِيَاحٍ قَالَ: (كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، حَتَّى أُقْعِدَ مِنْ رِجْلَيْهِ، فكَانَ يُصَلِّي جَالِسًا أَلْفَ رَكْعَةٍ، فَإِذَا صَلَّى العَصْرَ احْتَبَى فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ ويَقُولُ: عَجِبْتُ للخَلِيقَةِ كَيْفَ أَنِسَتْ بسِوَاكَ؟! بَلْ عَجِبْتُ للخَلِيقَةِ كَيْف اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهَا بِذِكْرِ سِوَاكَ؟!)
وقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: (دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ النَّضْرِ الحَارِثِيِّ، فَرَأَيْتُهُ كَأَنَّهُ مُنْقَبِضٌ، فَقُلْتُ: كَأَنَّكَ تَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى؟
قَالَ: أَجَلْ.
فَقُلْتُ: أَوَمَا تَسْتَوْحِشُ؟
فَقَالَ: كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ وهوَ يَقُولُ: أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي).
وقِيلَ لِمَالِكِ بنِ مِغْوَلٍ وهوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ وحْدَهُ: (أَلا تَسْتَوْحِشُ؟
فقَالَ: أَوَيَسْتَوْحِشُ مَعَ اللَّهِ أَحَدٌ؟
وكَانَ حَبِيبٌ أَبُو مُحَمَّدٍ يَخْلُو فِي بَيْتِهِ ويَقُولُ: (مَنْ لَمْ تَقَرَّ عَيْنُهُ بِكَ فَلا قَرَّتْ عَيْنُهُ، ومَنْ لَمْ يَأْنَسْ بِكَ فَلا أَنِسَ).
وقَالَ غَزْوَانُ: (إِنِّي أَصَبْتُ رَاحَةَ قَلْبِي فِي مُجَالَسَةِ مَنْ لَدَيْهِ حَاجَتِي).
وقَالَ مُسْلِمُ بنُ يَسَارٍ: (مَا تَلَذَّذَ المُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلّ)َ.
وقَالَ مُسْلِمٌ العَابِدُ: (لَوْلا الجَمَاعَةُ مَا خَرَجْتُ مِنْ بَابِي أَبَدًا حَتَّى أَمُوتَ).
وقَالَ: (مَا يَجِدُ المُطِيعُونَ لِلَّهِ لَذَّةً فِي الدُّنْيَا أَحْلَى مِن الخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ سَيِّدِهِم، وَلا أَحْسَبُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ أَكْبَرَ فِي صُدُورِهِم وألَذَّ فِي قُلُوبِهِم مِن النَّظَرِ إِلَيْهِ)، ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ.
وعنْ إِبْرَاهِيمَ بنِ أَدْهَمَ قَالَ: (أَعْلَى الدَّرَجَاتِ أَنْ تَنْقَطِعَ إِلَى رَبِّكَ، وتَسْتَأْنِسَ إِلَيْهِ بقَلْبِكَ وعَقْلِكَ وجَمِيعِ جَوَارِحِكَ، حَتَّى لا تَرْجُوَ إلا رَبَّكَ، وَلا تَخَافَ إلا ذَنْبَكَ، وتَرْسَخَ مَحَبَّتُهُ فِي قَلْبِكَ حَتَّى لا تُؤْثِرَ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ تُبالِ فِي بَرٍّ كُنْتَ أوْ فِي بَحْرٍ، أوْ فِي سَهْلٍ أوْ فِي جَبَلٍ، وكَانَ شَوْقُكَ إِلَى لِقَاءِ الحَبِيبِ شَوْقَ الظَّمْآنِ إِلَى الْمَاءِ البَارِدِ، وشَوْقَ الجَائِعِ إِلَى الطَّعَامِ الطَّيِّبِ، ويَكُونُ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَكَ أَحْلَى مِن العَسَلِ، وأَحْلَى مِن المَاءِ العَذْبِ الصَّافِي عِنْدَ العَطْشَانِ فِي اليَوْمِ الصَّائِفِ).
وقَالَ الفُضَيْلُ: (طُوبَى لِمَن اسْتَوْحَشَ مِنَ النَّاسِ وَكَانَ اللَّهُ جَلِيسَهُ).
وقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: (لا آنَسَنِي اللَّهُ إلا بِهِ أَبَدًا).
وقَالَ مَعْرُوفٌ لِرَجُلٍ: (تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ؛ حَتَّى يَكُونَ جَلِيسَكَ وأَنِيسَكَ ومَوْضِعَ شَكْوَاكَ).
وقَالَ ذُو النُّونِ: (مِنْ عَلامَةِ المُحِبِّينَ لِلَّهِ أَنْ لا يَأْنَسُوا بِسَوَاهُ، وَلا يَسْتَوْحِشُوا مَعَهُ).
ثُمَّ قَالَ: (إِذَا سَكَنَ القَلْبَ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى أَنِسَ باللَّهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَلُّ فيِ صُدُورِ العَارِفِينَ أنْ يُحِبُّوا سِوَاهُ).
وكَلامُ القَوْمِ فِي هَذَا البَابِ يَطُولُ ذِكْرُهُ جِدًّا ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِمَّا دلَّ عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيثُ العَظِيمُ، عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَ العُلُومِ والمَعَارِفِ تَرْجِعُ إِلَى هَذَا الحَدِيثِ وتَدْخُلُ تَحْتَهُ، وأَنَّ جَمِيعَ العُلَمَاءِ مِنْ فِرَقِ هَذِهِ الأُمَّة لا تَخْرُجُ عُلُومُهم الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا عَن هَذَا الحَدِيثِ ومَا دَلَّ عَلَيْهِ مُجْمَلاً ومُفَصَّلاً؛ فَإِنَّ الفُقَهَاءَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي العِبَادَاتِ التي هيَ مِنْ جُمْلَةِ خِصَالِ الإِسْلامِ، ويُضِيفُونَ إِلَى ذَلِكَ الكَلامَ فِي أَحْكَامِ الأَمْوَالِ والأَبْضَاعِ والدِّمَاءِ، وكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الإِسْلامِ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
ويَبْقَى كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الإِسْلامِ مِن الآدَابِ والأَخْلاقِ وغَيْرِ ذَلِكَ لا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إلا القَلِيلُ مِنْهُم، ولا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ، وهُمَا أَصْلُ الإِسْلامِ كُلِّهِ.
والَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وعَلَى الإِيمَانِ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، والإِيمَانِ بالقَدَرِ.
والَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى عِلْمِ المَعَارِفِ والمُعَامَلاتِ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى مَقَامِ الإِحْسَانِ، وعَلَى الأَعْمَالِ البَاطِنَةِ التِي تَدْخُلُ فِي الإِيمَانِ أَيْضًا، َالْخَشْيَةِ، والمَحَبَّةِ، والتَّوَكُّلِ، والرِّضا، والصَّبْرِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
فانْحَصَرَت العُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ التي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِرَقُ المُسْلِمِينَ فِي هَذَا الحَدِيثِ ، ورَجَعَتْ كُلُّهَا إِلَيْهِ. فَفِي هَذَا الحَدِيثِ وَحْدَهُ كِفَايَةٌ، ولِلَّهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ.
وبَقِيَ الكَلامُ عَلَى ذِكْرِ السَّاعَةِ مِن الحَدِيثِ:
فَقَوْلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: (أَخْبِرْنِي عَن السَّاعَةِ).
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)) يَعْنِي: أَنَّ عِلْمَ الخَلْقِ كُلِّهِم فِي وَقْتِ السَّاعَةِ سَوَاءٌ.
وهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا ؛ ولِهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلا اللَّهُ تَعَالَى)) ثُمَّ تَلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لُقْمَان: 34].
وقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً}[الأعراف: 187].
وفِي (صَحِيحِ البُخَارِي): عَن ابنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، لا يَعْلَمُهَا إِلا اللَّهُ)) ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}الآيَةَ.
وخَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، ولَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ إِلا الْخَمْسَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}الآيَةَ)).
وخَرَّجَ أَيْضًا بإِسْنَادِهِ عَن ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ خَمْسٍ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ})الآيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا) يَعْنِي: عَنْ عَلامَاتِهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَابِهَا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا)) وهيَ عَلامَاتُهَا أَيْضًا.
وقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للسَّاعَةِ عَلامَتَيْنِ:
الأُولَى: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)) ، والمُرَادُ بِرَبَّتِهَا سيِّدَتُهَا ومَالِكَتُهَا.
وفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((رَبَّهَا)).
وهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ البِلاد ِ، وكَثْرَةِ جَلْبِ الرَّقِيقِ حَتَّى تَكْثُرَ السَّرَارِي، ويَكْثُرَ أَوْلادُهُنَّ، فتَكُونُ الأُمُّ رَقِيقَةً لِسَيِّدِهَا، وَأَوْلادُهُ مِنْهَا بِمَنْزِلَتِهِ؛ فَإِنَّ وَلَدَ السَّيِّدِ بِمَنْزِلَةِ السَّيِّدِ، فيَصِيرُ وَلَدُ الأَمَةِ بِمَنْزِلَةِ رَبِّهَا وسَيِّدِهَا.
وذَكَرَ الخَطَّابِيُّ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إِنَّمَا تُعْتَقُ عَلَى وَلَدِهَا مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ مِيرَاثِ وَالِدِهِ، وإِنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى أَوْلادِهَا بالمِيرَاثِ فَتُعْتَقُ عَلَيْهِم، وَإِنَّهَا قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهَا تُبَاعُ.
قَالَ: (وفِي هَذَا الاسْتِدْلالِ نَظَرٌ).
قُلْتُ: قَد اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُم عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وعَلَى أَنَّ أُمَّ الوَلَدِ لا تُبَاعُ، وأَنَّهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لأَِنَّهُ جَعَلَ وَلَدَ الأَمَةِ رَبَّهَا، فَكَأَنَّ وَلَدَهَا هوَ الذِي أَعْتَقَهَا فَصَارَ عِتْقُهَا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ سَبَبُ عِتْقِهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَوْلاهَا.
وهَذَا كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي أُمِّ وَلَدِهِ مَارِيَةَ لَمَّا وَلَدَتْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ((أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا)).
وقَد اسْتَدَلَّ بِهَذَا الإِمَامُ أَحْمَدُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بنِ الحَكَمِ عَنْهُ: (تَلِدُ الأَمَةُ رَبَّتَهَا: تَكْثُرُ أُمَّهَاتُ الأَوْلادِ، يَقُولُ: إِذَا وَلَدَتْ فَقَدْ عُتِقَتْ لِوَلَدِهَا، وقَالَ: فِيهِ حُجَّةُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ لا يُبَعْنَ).
وقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: ((تَلِدُ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)) بِأَنَّهُ يَكْثُرُ جَلْبُ الرَّقِيقِ، حَتَّى تُجْلَبَ البِنْتُ فَتُعْتَقَ، ثُمَّ تُجْلَبَ الأُمُّ فتَشْتَرِيَهَا البِنْتُ وتَسْتَخْدِمَهَا جَاهِلَةً بأَنَّهَا أُمُّهَا، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي الإِسْلامِ.
وقِيلَ:مَعْنَاهُ أَنَّ الإِمَاءَ يَلِدْنَ المُلُوكَ.
وقَالَ وَكِيعٌ: مَعْنَاهُ: (تَلِدُ الْعَجَمُ العَرَبَ، والعَرَبُ مُلُوكُ العَجَمِ وأَرْبَابٌ لَهُم).
والعَلامَةُ الثَانِيَةُ:((أَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ)).
والمُرَادُ بالعَالَةِ : الفُقَرَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}[الضُّحى-8].
وقَوْلُهُ: ((رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)) هَكَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ، والمُرَادُ أَنَّ أَسَافِلَ النَّاسِ يَصِيرُونَ رُؤَسَاءَهُم، وتَكْثُرُ أَمْوَالُهم حَتَّى يَتَبَاهَوْا بِطُولِ البُنْيَانِ وزَخْرَفَتِهِ وإِتْقَانِهِ.
وفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ ثَلاثَ عَلامَاتٍ:
- مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ الْحُفَاةُ العُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ.
- ومِنْهَا: أَنْ يَتَطَاوَلَ رِعَاءُ البَهْمِ فِي البُنْيَانِ.
ورَوَى هَذَا الحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَطَاءٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ، فَقَالَ فِيهِ: ((وَأَنْ تَرَى الصُّمَّ الْبُكْمَ الْعُمْيَ الْحُفَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فيِ الْبُنْيَانِ مُلُوكَ النَّاسِ)).
قَالَ: فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ.
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ نَعَتَّ؟
قَالَ: ((هُمُ الْعُرَيْبُ)).
وكَذَا رَوَى هَذِهِ اللَّفْظَةَ الأَخِيرَةَ عَلِيُّ بنُ زَيْدٍ عنْ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ عن ابنِ عُمَرَ.
وَأَمَّا الأَلْفَاظُ الأُوَلُ، فَهِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهَا.
وقَوْلُهُ: ((الصُّمَّ الْبُكْمَ الْعُمْيَ))، إِشَارَةٌ إِلَى جَهْلِهِم وعَدَمِ عِلْمِهِم وفَهْمِهِم.
وفي هَذَا المَعْنَى أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ، فَخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنيَا لُكَعَ بْنَ لُكَعٍ)).
وفِي (صَحِيحِ ابنِ حِبَّانَ): عَنْ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَنْقَضِي الدُّنْيَا حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ لُكَعِ بْنِ لُكَعٍ)).
وخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الدُّنْيَا لُكَعُ بْنُ لُكَعٍ)).
وخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُوالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُتَّهَمُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْمُتَّهَمُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ)).
قَالُوا: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟
قَالَ: ((السَّفِيهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).
وفِي رِوَايَةٍ: ((الْفَاسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).
وفِي رِوَايَةٍ للإِمَامِ أَحْمَدَ:((إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ)) وذَكَرَ بَاقِيَهُ.
ومَضْمُونُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فِي هَذَا الحَدِيثِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الأُمُورَ تُوَسَّدُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا.
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَن السَّاعَةِ: ((إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ))؛ فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ الحُفَاةُ العُرَاةُ رِعَاءُ الشَّاءِ -وهُمْ أَهْلُ الجَهْلِ والجَفَاءِ- رُءُوسَ النَّاسِ، وأَصْحَابَ الثَّرْوَةِ والأَمْوَالِ، حَتَّى يَتَطَاوَلُوا فِي البُنْيَانِ؛ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بذَلِكَ نِظَامُ الدِّينِ والدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا رَأَسَ النَّاسَ مَنْ كَانَ فَقِيرًا عَائِلاً، فَصَارَ مَلِكًا عَلَى النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ مُلْكُهُ عَامًّا أَو خَاصًّا فِي بَعْضِ الأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَكَادُ يُعْطِي النَّاسَ حُقُوقَهُم، بَلْ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْهِم بِمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِن المَالِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (لَئِنْ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى فَمِ التِّنِّينَ فَيَقْضِمُهَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَمُدَّهَا إِلَى يَدِ غَنِيٍّ قَدْ عَالَجَ الْفَقْرَ).
وإِذَا كَانَ مَعَ هَذَا جَاهِلاً جَافِيًا فَسَدَ بذَلِكَ الدِّينُ ؛ لأَِنَّهُ لا يَكُونُ لَهُ هِمَّةٌ فِي إِصْلاحِ دِينِ النَّاسِ وَلا تَعْلِيمِهِم، بلْ هِمَّتُهُ فِي جِبَايَةِ المَالِ واكْتِنَازِهِ، وَلا يُبَالِي بِمَا فَسَدَ مِنْ دِينِ النَّاسِ، وَلا بِمَنْ ضَاعَ مِنْ أَهْلِ حَاجَاتِهِم.
وفي حَدِيثٍ آخَرَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَسُودَ كُلَّ قَبِيلَةٍ مُنَافِقُوهَا)).
وإِذَا صَارَ مُلُوكُ النَّاسِ ورُءُوسُهُم عَلَى هَذِهِ الحَالِ انْعَكَسَتْ سَائِرُ الأَحْوَالِ، فَصُدِّقَ الكَاذِبُ، وكُذِّبَ الصَّادِقُ، وائْتُمِنَ الخَائِنُ، وخُوِّنَ الأَمِينُ، وتَكَلَّمَ الجَاهِلُ، وسَكَتَ العَالِمُ أوْ عُدِمَ بالكُلِّيَّةِ، كَمَا صَحَّ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ)).
وأَخْبَرَ: ((أَنَّهُ يُقْبَضُ الْعِلْمُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَصِيرَ العِلْمُ جَهْلاً، والجَهْلُ عِلْمًا).
وهَذَا كُلُّهُ مِن انْقِلابِ الحَقَائِقِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وانْعِكَاسِ الأُمُورِ.
وفِي (صَحِيحِ الحَاكِمِ): عِنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: ((إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُوضَعَ الأَخْيَارُ، وَيُرْفَعَ الأَشْرَارُ)).
وفِي قَوْلِهِ: ((يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)) دَلِيلٌ عَلَى ذَمِّ التَّبَاهِي والتَّفَاخُرِ، خُصُوصًا بالتَّطَاوُلِ فِي البُنْيَانِ.
ولَمْ يَكُنْ إِطَالَةُ البِنَاءِ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، بَلْ كَانَ بُنْيَانُهم قَصِيرًا بِقَدْرِ الحَاجَةِ.
ورَوَى أَبُو الزِّنَادِ، عن الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ)) خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ.
وخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ خَرَجَ فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً، فَقَالَ: ((مَا هَذِهِ؟))
قَالُوا: هَذِهِ لِفُلانٍ، رَجُلٍ مِن الأَنْصَارِ.
فَجَاءَ صَاحِبُهَا، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَهَدَمَهَا الرَّجُلُ.
وخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا، وعِنْدَهُ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((كُلُّ بِنَاءٍ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ هَكَذَا عَلَى رَأْسِهِ- أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَهُوَ وَبَالٌ)).
وقَالَ حُرَيْثُ بنُ السَّائِبِ: عَن الْحَسَنِ: كُنْتُ أَدْخُلُ بُيُوتَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَنَاوَلُ سَقْفَهَا بِيَدِي.
ورُوِيَ عَن عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ: (لا تُطِيلُوا بِنَاءَكُم؛ فَإِنَّهُ شَرُّ أَيَّامِكُم).
وَقَالَ يَزِيدُ بنُ أَبِي زِيَادٍ: قَالَ حُذَيْفَةُ لِسَلْمَانَ: (أَلا نَبْنِي لَكَ مَسْكَنًا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟)
قَالَ: (لِمَ؟ لِتَجْعَلَنِي مَلِكًا؟)
قالَ: (لا، ولَكِنْ نَبْنِي لَكَ بَيْتًا مِنْ قَصَبٍ ونَسْقُفُهُ بِالْبَوَارِي، إِذَا قُمْتَ كَادَ أَنْ يُصِيبَ رَأْسَكَ، وإِذَا نِمْتَ كَادَ أَنْ يَمَسَّ طَرَفَيْكَ).
قَالَ: (كَأَنَّكَ كُنْتَ فِي نَفْسِي).
وعَنْ عَمَّارِ بنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: (إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ بِنَاءَهُ فَوْقَ سَبْعِ أَذْرُعٍ، نُودِيَ: يَا أَفْسَقَ الفَاسِقِينَ، إِلَى أَيْنَ؟) خَرَّجَهُ كُلَّهُ ابنُ أَبِي الدُّنْيَا.
وقَالَ يَعْقُوبُ بنُ شَيْبَةَ فِي (مُسْنَدِهِ): بَلَغَنِي عَن ابنِ عَائِشَةَ، حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي شُمَيْلَةَ قَالَ: (نَزَلَ المُسْلِمُونَ حَوْلَ المَسْجِدِ، يَعْنِي بالبَصْرَةِ فِي أَخْبِيَةِ الشَّعَرِ، فَفَشَا فِيهِم السَّرَقُ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ، فَأَذِنَ لَهُم فِي الْيَرَاعِ، فَبَنَوْا بالْقَصَبِ، فَفَشَا فِيهِم الْحَرِيقُ، فكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ، فَأَذِنَ لَهُم فِي المَدَرِ، ونَهَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ سَمْكَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَبَعَةِ أَذْرُعٍ، وقَالَ: (إِذَا بَنَيْتُمْ مِنْهُ بُيُوتَكُم فَابْنُوا منهُ المَسْجِدَ).
قَالَ ابنُ عَائِشَةَ: وكَانَ عُتْبَةُ بنُ غَزْوَانَ بَنَى مَسْجِدَ البَصْرَةِ بالقَصَبِ، قَالَ: (مَنْ صَلَّى فِيهِ وهُوَ مِنْ قَصَبٍ أَفْضَلُ مِمَّنْ صَلَّى فِيهِ وهوَ مِنْ لَبِنٍ، ومَنْ صَلَّى فِيهِ وهوَ مِنْ لَبِنٍ خَيْرٌ مِمَّنْ صَلَّى فيهِ وهوَ مِنْ آجُرٍّ).
وخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ)).
ومِنْ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((أَرَاكُمْ سَتُشَرِّفُونَ مَسَاجِدَكُمْ بَعْدِي كَمَا شَرَّفَتِ الْيَهُودُ كَنَائِسَهَا، وَكَمَا شَرَّفَتِ النَّصَارَى بِيَعَهَا)).
ورَوَى ابنُ أَبِي الدُّنيا بإِسْنَادِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بنِ مُسْلِمٍ، عَن الحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المَسْجِدَ قَالَ: ((ابْنُوهُ عَرِيشًا كَعَرِيشِ مُوسَى)).
قِيلَ للحَسَنِ: وَمَا عَرِيشُ مُوسَى؟
قَالَ: (إِذَا رَفَعَ يَدَهُ بَلَغَ العَرِيشَ)، يَعْنِي: السَّقْفَ.