قولُهُ:
وهؤلاءِ جميعُهُم يَفِرُّونَ مِن شيءٍ فَيَقَعُونَ في نظيرِهِ، بلْ وفي شَرٍّ منهُ، مع ما يَلْزَمُهُم مِن التحريفِ والتعطيلِ، ولو أَمْعَنُوا النَّظَرَ لَسَوَّوْا بينَ المُتَمَاثِلاَتِ، وفَرَّقُوا بينَ المختلفاتِ، كما تَقْتَضِيهِ المعقولاتُ، ولَكانوا مِن الذينَ أُوتُوا العِلْمَ الذينَ يَرَوْنَ أنَّ ما أُنْزِلَ إلى الرسولِ هو الحقُّ مِن ربِّهِ، وَيَهْدِي إلى صراطِ العزيزِ الحميدِ.
ولكنَّهُم مِن أهلِ المجهولاتِ، المُشَبِّهَةِ بالمعقولاتِ، يُسَفْسِطُونَ في العَقْلِيَّاتِ، وَيُقَرْمِطُونَ في السَّمْعِيَّاتِ.
الشرحُ:
يعني هذه الطوائفُ كُلُّهَا سَلَكَتْ هذا المَسْلَكَ في صفاتِ اللهِ خشيةً مِن محذورٍ هو التَّشْبِيهُ، ولكنَّهَا وَقَعَتْ في تشبيهٍ نظيرِ الذي فَرَّتْ منهُ، وَوَجْهُ ذلكَ أنَّهُم فَرُّوا مِن تشبِيهِ اللهِ بالحيِّ الموجودِ إلى تشبيهِهِ بالمعدومِ؛ حيثُ وَصَفُوهُ بصفاتٍ لا تَنْطَبِقُ إلاَّ على المعدومِ، بلْ وَشَبَّهُوهُ بالأشياءِ المُمْتَنِعَةِ؛ حيثُ وَصَفُوهُ بصفاتٍ لا تَنْطَبِقُ إلاَّ على مُسْتَحِيلِ الوجودِ، مع أنَّهُم بِنَفْيِهِم لصفاتِ اللهِ، وتَشْبِيهِهِم إياهُ بالمعدومِ، قد حَرَّفُوا كلامَ اللهِ عن مواضعِهِ، وعَطَّلُوا النصوصَ عن مَدْلُولِهَا.
وقولُهُ:
(ولو أَمْعَنُوا النَّظَرَ) يعني: لو دَقَّقُوا ونَظَرُوا بعينِ البصيرةِ والإنصافِ لَسَوَّوْا بينَ الأمورِ المُتَمَاثِلَةِ، وفَرَّقُوا بينَ الأمورِ المُخْتَلِفَةِ، فَمَن يُثْبِتُ الاسمَ وَيَنْفِي الصفةَ، ومَن يُثْبِتُ بعضَ الصفاتِ ويَنْفِي البعضَ الآخرَ مُفَرِّقٌ بينَ مُتَمَاثِلَيْنِ، فبابُ الأسماءِ والصفاتِ واحدٌ، فإنْ كانَ هناكَ مَحْذُورٌ في إثباتِ (الصفةِ) فَهُو موجودٌ في إثباتِ (الاسمِ)، وكذلكَ إنْ كانَ هناكَ محذورٌ في إثباتِ بعضِ الصفاتِ فهو موجودٌ في إثباتِ البعضِ الآخَرِ، وسيأتِى لذلكَ أمثلةٌ عديدةٌ في كلامِ المُؤَلِّفِ، ومَن يَجْعَلُ (العِلْمَ) هو القدرةَ، والسَّمْعَ هو عينَ الكلامِ قد سَوَّى بينَ مُخْتَلِفَيْنِ، فالعلمُ ضِدُّ الجهلِ، والقدرةُ ضِدُّ العَجْزِ وهكذا، وكذلكَ مَن جعلَ (العِلْمَ عينَ العالمِ)، فالذاتُ شيءٌ, وصفةُ الذاتِ شيءٌ آخَرُ.
(كما تَقْتَضِيهِ المعقولاتُ): يعني أنَّ العقلَ المُدْرِكَ للأمورِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بينَ الأمورِ المُتَمَاثِلَةِ، والتفريقَ بينَ الأمورِ المُخْتَلِفَةِ.
وقولُهُ: (وَلَكانوا) معطوفٌ على قولِهِ: (لَسَوَّوْا)، فلو دَقَّقُوا النظرَ لم يُفَرِّقُوا بينَ أمورٍ مُتَمَاثِلَةٍ، ولم يُسَوُّوا بينَ أمورٍ مختلفةٍ، ولَكَانوا مِن جُمْلَةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، الذينَ يَعْلَمُونَ أنَّ مَا أُنْزِلَ إلى الرسولِ في بابِ أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ وسائرِ ما أُنْزِلَ عليهِ هو الحقُّ مِن ربِّهِ، فلا تَحْرِيفَ، ولا تَأْوِيلَ، ولا تَمْثِيلَ، هذا هو ما جاءَ بهِ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما جاءَ بهِ مِن ربِّهِ هو الحقُّ الهادي إلى صراطِ اللهِ العزيزِ الحميدِ.
أمَّا زُبَالَةُ أَذْهَانِ هذهِ الطوائفِ، ونُحَاتَةُ عقولِهِم المُلَوَّثَةِ بالخُرَافَاتِ والبِدَعِ، فهي التي يَنْبَغِي أنْ تُطْرَحَ؛ لأنَّهَا لاَ تَهْدِي إلاَّ إلى الحِيرَةِ والشُّكُوكِ.
ولكنَّ واقعَ هؤلاءِ أنَّهُم لَيْسُوا مِن أهلِ العلمِ الذي جاءَ بهِ الوَحْيُ، بلْ هم مِن أهلِ الجهالاتِ والشُّبَهِ التي ظَنُّوهَا بَيِّنَاتٍ، وهي في الحقيقةِ مَجْهُولاَتٌ، حيثُ لاَ سَنَدَ لَهَا إلاَّ الشُّبَهُ الفاسدةُ، والآراءُ الكاسدةُ، وهذا معنى قولِهِ: (المُشَبِّهَةِ بالمعقولاتِ) يعني: ظَنُّهُم جَهَالاَتِهِم بَيِّنَاتٍ، وهي في الواقعِ ليستْ من الأمورِ المعقولةِ البَيِّنَةِ الواضحةِ المُسْتَنِدَةِ إلى دليلٍ صحيحٍ.
(والسَّفْسَطَةُ) هي نَفْيُ الحقائقِ الثابتةِ، مع العلمِ بها تَمْوِيهاً ومغالطةً نِسْبَةً إلى السُّفُسْطَائِيَّةِ) – وهم فِرْقَةٌ يُنْكِرُونَ المحسوساتِ، وهم مِن أصنافِ الكَفَرَةِ الذينَ قبلَ الإسلامِ، وَوَجْهُ سَفْسَطَةِ هذهِ الطوائفِ أنَّهُم جَحَدُوا معانيَ نصوصِ الصفاتِ مع عِلْمِهِم بِمَا دَلَّتْ عليهِ تلكَ النصوصُ مِن المعاني المَعْرُوفَةِ لُغَةً وَشَرْعاً، كقولِهم فِي: (اسْتَوَى):اسْتَوْلَى، فَجَحْدُهُمْ معنى الاستواءِ اللُّغَوِيِّ - وهو الصعودُ والاستقرارِ - تَمْوِيهٌ وَتَلْبِيسٌ ومُغَالَطَةٌ.
(والقَرَامِطَةُ) سلوكُ مَسْلَكِ القَرَامِطَةِ في تَفْسِيرِهِم النَّصَّ بمعنًى يُخَالِفُ ما هو مُقْتَضَى لفظِهِ، وَوَجْهُ قَرْمَطَتِهِم أنَّهُمْ جَعَلُوا للنصِّ معنًى باطِناً يُخَالِفُ معناهُ الظاهرَ المعروفَ مِن جهةِ اللُّغَةِ والشَّرْعِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بيانٍ لتأويلِ القَرَامِطَةِ للنصوصِ؛ فالمقصودُ هُنَا بيانُ وِجْهَةِ قَرْمَطَةِ هذهِ الطوائفِ.