دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الفتوى الحموية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 محرم 1430هـ/22-01-2009م, 04:57 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي النصوص والآثار في إثبات صفة العلو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية المفيدة للعلم الضروري

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ عَامَّةُ كَلامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثُمَّ كَلامُ سَائِرِ الأئمةِ مَمْلُوءٌ بِمَا هُوَ إِمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ العَلِيُّ الأعلى وهو فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ،
مِثْلُ: قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فَاطِرُ: 10 ]
- {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ"}، [آلُ عِمْرَانَ]،
- {ءأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الْمَلِكُ: 17 ]
- {بلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [ النِّسَاءُ: 158 ]
- {تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [الْمَعَارِجُ: 4 ]
- {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السَّجْدَةُ: 5 ]
- {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْلُ: 50 ]
- {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ [الرَّعْدُ: 2] [الْفُرْقَانُ: 59 ] [السَّجْدَةُ: 4 ] [الْحَدِيدُ: 4 ]
- {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} [طهَ: 5 ]
- {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غَافِرُ: 36: 37 ]
- {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 42 ]
- {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بالحق} [الأَنْعَامُ: 114 ]
إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَكَادُ يُحْصَى إِلا بِكُلْفَةٍ(1).
وَفِي الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ مَا لاَ يُحْصَى إلا بالكلفة، مِثْلُ قِصَّةِ مِعْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ربِّهِ، وَنُزُولِ المَلائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصُعُودِهَا إِلَيْهِ; وَقَوْلِه في المَلائِكَةِ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ إلىَ رَبِّهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الخَوَارِجِ: (أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَباحًا وَمَسَاءً)(2).
وَفِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: (رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْض، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ، اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حَوْبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الوَجَعِ فيبرأ). قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْكُمْ، أَو اشْتَكَى أَخٌ لَهُ، فَلْيَقُلْ رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ) وَذَكَرَهُ.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الأَوْعَالِ: (وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا. وَهَذَا الحَدِيثُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذيِّ، وَغَيْرِهِمْ، فَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، فَالْقَدْحُ فَيَ أَحَدِهِمَا لاَ يَقْدَحُ فِي الآخَرِ، وَقَدْ رَوَاهُ إِمَامُ الأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ الَّذِي اشْتَرَطَ فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَحْتَجُّ فِيهِ إِلا بِمَا نَقَلَهُ العَدْلُ عَنِ العَدْلِ، مَوْصُولاً إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْجَارِيَةِ: (أَيْنَ اللَّهُ؟)
قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ.
قَالَ: (مَنْ أَنَا)
قَالَتْ: أنت رَسُولُ اللَّهِ.
قَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)(3 ).
وَقَوْلُهُ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ مَوْضُوعٍ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي) (4).
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ: (حَتَّى يَعْرُجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ) إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي أَنْشَدَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْرَّهُ عَلَيْهِ:


شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ = وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الكَافِرِينَ
وَأَنَّ العَرْشَ فَوْقَ المَاءِ طَافٍ = وَفَوْقَ العَرْشِ رَبُّ العَالَمِينَا
وَقَوْلُ أُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ الَّذِي أُنْشَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ شِعْرِهِ فَاسْتَحْسَنَهُ، وَقَالَ: (آمَنَ شِعْرُهُ، وَكَفَرَ قَلْبُهُ) حيث قال:

مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ = رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيَرَا
بِالْبِنَاءِ الأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ = وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرَا
شَرْجَعًا مَا يَنَالُهُ بَصَرُ العَيْنِ = يَرَى دُونَهُ المَلائِكَةُ صُورَا
وَقَوْلُهُ فِي الحَدِيثِ الَّذِي فِي المسند: (إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا).
وَقَوْلُهُ في الحديث: (يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ..) إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُحْصِيِهِ إِلا اللَّهُ، مِمَّا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ المُتَوَاتِرَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، الَّتِي تُورِثُ عِلْمًا يَقِينِيًّا مِنْ أَبْلَغِ العُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ أَلْقَى إلىَ أُمَّتِهِ المَدْعُوِّينَ - أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ على العَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ، كَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعَ الأُمَمِ عَرَبهُمْ وَعَجَمهُمْ، فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ، إِلاَّ مَن اجْتَالَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَنْ فِطْرَتِهِ(5).
ثُمَّ عَنِ السَّلَفِ فَيَ ذَلِكَ مِنَ الأَقْوَالِ مَا لَوْ جُمِعَ لَبَلَغَ مِئِينَ، أَوْ أُلُوفًا.


  #2  
قديم 26 محرم 1430هـ/22-01-2009م, 04:59 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي شرح سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

(1) كلُّ هذه طُرُقٌ دَالَّةٌ على عُلُوِّ اللَّهِ وفَوْقِيَّتِه، وأنَّه فوقَ العرشِ وفوقَ جميعِ الخلْقِ، وساقَ قولَه تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}. فالصعودُ والعُرُوجُ إلى العُلُوِّ والرَّفْعُ كذلك، وهكذا: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} إلى غيرِ هذا، كلُّها طُرُقٌ مِن الطُّرُقِ الدالَّةِ على عُلُوِّه سبحانه وفَوْقِيَّتِه جلَّ وعلا.
(2) قولُه تعالَى: {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} عندَ أهلِ العِلْمِ يُفَسَّرُ بوَجْهَيْنِ:
أحدُهما: أنَّ "فِي" بمعنى "على"، فيكونُ معنى {فِي السَّمَاءِ} يعني: على السماءِ، فيَشْمَلُ عُلُوَّهُ في السماواتِ والعرشِ وأنَّه فوقَ العرشِ.
والتفسيرُ الثاني: أنْ تكونَ السماءُ بمعنى العُلُوِّ، وتكونُ (في) على بابِها ؛ الظرفيَّةِ، وأنَّ معنى {فِي السَّمَاءِ} يعني: في العُلُوِّ، والمرادُ بالعلوِّ هنا ما فوقَ العرشِ.
(3) وهذا في صحيحِ مسلمٍ.
(4) وهذا مُتَّفَقٌ عليه في الصحيحيْن.
(5) المقصودُ مِن هذا كلِّه واضحٌ في أنَّ الأدِلَّةَ المتواترةَ والمُسْتَفِيضَةَ مِن السنَّةِ والآثارِ الواردةِ عن الصحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم وأرضاهم تُؤَيِّدُ ما في القرآنِ مِن عُلُوِّ اللَّهِ وفَوْقِيَّتِه، معَ أنَّ النصَّ القرآنِيَّ كافٍ، ونَصَّ السنَّةِ كافٍ، وإجماعَ سَلَفِ الأمةِ كافٍ أيضاً، فقدِ اجْتَمَعَتْ في هذه المسألةِ الأصولُ كلُّها؛ القرآنُ والسنَّةُ والإجماعُ، كلُّها مُجْتَمِعَةٌ على إثباتِ علوِّ اللَّهِ فوقَ جميعِ خلقِه , وأنَّه فوقَ العرشِ، وأنَّه فوقَ جميعِ الخَلْقِ، وعِلْمُهُ في كلِّ مكانٍ سبحانه وتعالى، ثم يأتي هؤلاء الضَّالُّونَ الزَّنَادِقَةُ مِن جَهْمِيَّةٍ ومُعْتَزِلَةٍ , ويُنْكِرُونَ هذا الأمرَ العظيمَ المتواتِرَ المُسْتَفِيضَ، هذا مِن أَمْحَلِ المُحَالِ وأضَلِّ الضلالِ. نسألُ اللَّهَ العافيةَ.


  #3  
قديم 11 شعبان 1433هـ/30-06-2012م, 06:55 PM
سليم سيدهوم سليم سيدهوم غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
الدولة: ليون، فرنسا
المشاركات: 1,087
افتراضي شرح الفتوى الحموية للشيخ يوسف الغفيص

قال المصنف رحمه الله: [وإذا كان كذلك فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء].
قوله: إما نص أي أنه قاطع في الدلالة.
وإما ظاهر أي أنه ظاهر في الدلالة وإن لم يكن قاطعاً بمنزلة النص.
ينتقل المصنف هنا إلى المقصد الثاني، فبعد بيانه لإسناد مقالة السلف يعني بتقرير مسألة العلو: أي أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه.
وهي مسألة للسلف فيها عناية كثيرة، فإن فيها -مسألة العلو- ومسألة الكلام، والرؤية كلاماً للسلف من جهة التفصيل والتقرير أظهر من كلامهم في غيرها من الصفات وأشهر، وخاصة مسألة العلو وذلك لأن من أثبت علو الله سبحانه وتعالى لابد أن يقع له إثبات جملة من الصفات، وبطريقة أدق: كل من نفى علو الله سبحانه وتعالى فإنه رتب نفي كثير من الصفات على انتفاء العلو.
مثلاً: من المسائل التي أنكرها المعتزلة: الرؤية.
فما هو دليل المعتزلة الذي ظنوه قاطعاً على نفي الرؤية؟ هو دليل مبني على نفي العلو، وهو ما يسميه المعتزلة في كتبهم دليل المقابلة، وهذا الدليل هو أخص دليل للمعتزلة نفوا به الرؤية، بمعنى أنه إذا بطل هذا الدليل بطل المذهب، وإن كانوا يستدلون بدليل الاضطباع، وبظاهر قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] وقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] لكن كما تقدم أن استدلالهم بالقرآن ليس محققاً لا من جهة الصواب ولا من جهة موافقة المذهب.
إذاً: بنى كثير من النفاة -من الجهمية والمعتزلة- نفي كثير من الصفات على ما ظنوه من تحقق انتفاء العلو بالعقل، والحق أن مسألة العلو -أعني: علو الباري سبحانه وتعالى - هي من أظهر المسائل ثبوتاً، بل إنها أظهر ثبوتاً من كثير من الصفات التي نفوها بنفيهم لمسألة العلو؛ لأنه ليس كل الصفات يدل على ثبوتها العقل مع الشرع، فبعض الصفات صفات تعلم بالشرع وحده، وإذا قلنا: إنها تعلم بالشرع وحده، فهذا لا يعني أن العقل يمكن أن يعارض هذا المثبت بالشرع، ولكن العقل لا يدل عليه قبل ورود الشرع، ولكن عند ورود الشرع فإن العقل يقبله ولا ينافيه.
ولهذا يمكن أن نقول كقاعدة من جهة دلائل الصفات: إن الصفات على نوعين: الأول: صفات تثبت بدلالة العقل والسمع.
الثاني: صفات تثبت بدلالة السمع والعقل لا ينافيها.
ومن ذلك الذي يثبت بالسمع وحده ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر) فهذا النزول لولا خبر النبي صلى الله عليه وسلم به ما كان لأحد أن يهتدي إليه عقله، وهذا الخبر النبوي لا ينافيه العقل، فهذه صفة تثبت بالسمع.
والله سبحانه وتعالى موصوف بأنه الخالق، وموصوف بالقدرة فهذه الصفات معلومة بضرورة الفطرة وضرورة العقل مع أن الشرع صرح بها.
وكذلك صفة العلو صفة دلت عليها الفطرة، فإن الخلق مفطورون على أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وكذلك دل عليها العقل، ودل عليها الشرع في آيات متواترة وأحاديث متواترة.
وقد اتفق نفاة العلو من المتفلسفة والجهمية والمعتزلة والمتأخرة من الأشاعرة على أن الله لا يسأل عنه بأين، وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من حديث معاوية بن الحكم في قصة الجارية، لما قال معاوية: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون لكنني صككتها صكةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أعتقها؟ قال: ائتني بها.
قال: فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة).
فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعلم الخلق بالله سأل هذه الجارية -مع أنها ليست من أهل العلم المختصين-: أين الله؟ مما يدل على أن هذا لا ينافي كمال الرب سبحانه.
والإمام أحمد رحمه الله -كما يذكر هذا شيخ الإسلام كثيراً- كان ممن يستدل على ثبوت العلو في رده على المخالفين بمسألة العقل، قال: فإن الله خلق الخلق -أي: خلق العالم- وهو سبحانه وتعالى منزه عن الحلول في هذا الخلق، فيجب بضرورة العقل أن يكون بائناً عنه، وإذا كان بائناً عنه سبحانه وتعالى فإما أن يكون أعلى وهو العلي الأعلى، وإما أن يكون محايفاً، وإما أن يكون أسفل، والمحايفة والسفل نقص ينزه عنه الباري، فتعين أنه سبحانه بائن من خلقه فوقهم ومقصود السلف بالعلو ليس هو أن الله سبحانه وتعالى في السماوات المخلوقة، كما يقال: إن الملائكة في السماء.
فإن الله منزه عن المخلوقات كلها، فهو الأول ليس قبله شيء، والآخر ليس بعده شيء، والظاهر ليس فوقه شيء، والباطن ليس دونه شيء -أي: لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء-.
وهناك غرض آخر جعل المصنف يقرر مسألة العلو، وهو أن قدماء الأشاعرة كـ أبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا يثبتون علو الله سبحانه، وإن كانوا يتأولون مسألة الاستواء على العرش، وهذا قول أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، وقبل هؤلاء هو قول أئمة الكلابية الأولى، وأخصهم عبد الله بن سعيد بن كلاب.
لكن لما جاء المتأخرون من الأشاعرة كـ أبي المعالي ومن بعده نفوا مسألة العلو واستعملوا فيها نفس منهج المعتزلة؛ ولما جاء المتأخرون بعد هذا كـ محمد بن عمر الرازي زاد الأمر سوءاً فقال: إن الذين يثبتون الجهة -يقصد: العلو- هم من طوائف الأمة الحنابلة والكرامية، وإلا فإن سائر الأمة اتفقت على تنزيه الله عن الجهة وقد شاع هذا عند متأخري الأشاعرة؛ ولهذا بدأ يوصف الحنابلة -قبل زمن شيخ الإسلام، وأدرك رحمه الله هذا- أنهم مثبتة للجهة، بل أصبح هذا الوصف مختصاً بهم؛ لأنه لم يكن للكرامية ظهور يذكر خاصة في بلاد العراق وبلاد الشام، وإن كان لهم بعض الظهور في بلاد العجم.
فعني شيخ الإسلام في كتبه ببيان أن أبا الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا مثبتةً للعلو، فضلاً عن إثبات سائر أئمة السنة والجماعة، أي: يقصد أنه حتى أئمة الأشاعرة كانوا مثبتةً لمسألة العلو، ولهذا المصنف عني ببيان هذه المسألة، وأنها مسألة فطرية عقلية شرعية؛ ولهذا استدل بعد ذلك بشعر أمية بن أبي الصلت مع أنه رجل لم يسلم، وإن كان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يؤمن به، وقد كان متحنفاً، وله إصابة في التوحيد مجملة لكنه لم يدخل في دين الإسلام فلهذين الغرضين عني المصنف بهم.
إذاً المقصد الثاني، وهو ذكر مسألة العلو لغرضين: الأول: لأنها مسألة أصل عند السلف وعند الطوائف، فالتحقيق فيها يتحصل به تحقيق في جمهور الصفات.
الثاني: لأن متأخري الأشاعرة نفوها وقدماءهم كانوا يثبتونها، وزعم بعض متأخريهم -أعني الأشعرية- أن إثباتها مختص بالحنبلية والكرامية.
[وهو فوق كل شيء، وهو على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:16 - 17] {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ((ثم استوى على العرش)) في ستة مواضع، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36 - 37]].
ذكر طائفة من السلف أن أول من صرح بإنكار العلو هو فرعون، والآية صريحة أن موسى كان يخاطب فرعون وقومه أن الله في السماء، ولهذا قال فرعون: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:37] ولو لم يكن موسى عليه الصلاة والسلام يخاطبه بأن الله في السماء لما تقصد هذا المقصد.
وهذه الآيات التي يستدل بها المصنف صريحة في الدلالة على أن الله موصوف بالعلو، ولكن هنا ينبه في طريقة الاستدلال عند أهل السنة أنهم يسلكون أنواعاً من الأدلة، تحت كل نوع أفراد: الآيات أو الأحاديث التي ذكرت الفوق الآيات التي ذكرت أن الله في السماء الآيات التي ذكرت الصعود أو العروج وهلم جرا.
ومثل هذا في مسألة كلام الله، فكل آية في القرآن فيها نداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هي دليل على إثبات كلام الله؛ لأن النداء يكون من المتكلم، والقرآن كلام الله.
كذلك كل آية أضيف فيها القول إليه سبحانه هي دليل على إثبات الكلام.
كذلك كل آية فيها إنباء من الله هي دليل على إثبات صفة الكلام.
كل آية فيها أمر من الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
كل آية فيها نهي وهلم جرا.
ولهذا نرى بعض أهل السنة يقول -مثلاً- إن دلائل الكلام في الكتاب والسنة -أي: إثبات كلام الله- تقارب الألف دليل فهم يحصلونها بهذه الطريقة: أنه أنواع، وتحت كل نوع أفراد.
وعن هذا قال بعض أصحاب الشافعي من المحققين: إن دلائل العلو في الكتاب والسنة تبلغ نحو الثلاثمائة دليل أي: على هذه الطريقة، وهي طريقة الاستدلال بمسألة النوع وتحت كل نوع أفراد.
وهذا مثله مثل مسألة الإيمان؛ فإن أصناف الأدلة الدالة على أن الإيمان قول وعمل متنوعة في الكتاب والسنة؛ ولهذا أوصل بعض الأئمة دلائل مسألة الإيمان إلى نحو الألف دليل على هذه الطريقة؛ ومثله ما يتعلق بالصفات الفعلية، فقد ذكر شيخ الإسلام أن في القرآن مائة وبضع عشرة آية دالة على إثبات الصفات الفعلية.
[{تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114] إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة].
{مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} وهذا دليل على علو الله؛ لأن النزول يكون من أعلى وهكذا.
[وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة].
هنا ينبه في طريقة شيخ الإسلام رحمه الله أنه قد يستدل ببعض الأحاديث التي اشتهر تضعيفها عند الحفاظ المتأخرين، ولكن لا يقع لـ شيخ الإسلام رحمه الله أنه يستدل بحديث انضبط تركه عند أئمة السلف؛ وهذا لأنه يعتبر استدلال بعض أئمة السلف بمثل هذه النصوص مسوغاً لهذا الاستدلال؛ ولهذا ليس بالضرورة أنه يلتزم الصحة هنا، ولكنه إذا رأى أن الأئمة استعملوه في استدلالهم فإنه قد يسلك ما يستعمله الأئمة.
ولهذا تجد أنه استدل ببعض الأدلة أحياناً، لكنه لما سئل عنها على وجه التخصيص مال إلى تضعيفها.
فالقصد: أنه لا يستدل بحديث انضبط ضعفه تماماً، وإنما قد يستدل ببعض الأحاديث التي فيها بعض الكلام؛ ومع ذلك هذا النوع من الأحاديث المسألة لا تنبني عليه من كل وجه، فيكون ضعفه دليلاً على ضعف المسألة؛ لأن المسألة ثابتة بنصوص متواترة.
وشيخ الإسلام رحمه الله إذا استدل بمثل هذا النوع من الأحاديث، وإن كان قد يتردد فيها من جهة السند أحياناً لكنه يجزم بأن معناها حق، فيستدل بها موافقةً لمن استدل بها من المتقدمين.
وقد يطعن في بعض الأحرف من الأحاديث حتى مما في الصحيح -في صحيح مسلم بخاصة- أو في بعض الأحاديث المشتهرة الصحة، وله سلف في هذا من متقدمي الأئمة، وهذا ككلامه في حديث التربة، وكلامه فيما جاء في حديث ابن عباس المتفق عليه، وإن كانت هذه الرواية تفرد بها مسلم، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ((هم الذين لا يرقون ولا يسترقون)) فقوله: لا يرقون هي من أفراد مسلم، وقد ذكر شيخ الإسلام أن هذا الحرف غلط، واستدل لتغليطه بطرق.
القصد: أنه يستعمل أحياناً مثل هذا النوع، فهو يعتبر مسألة الاعتبار في الاستدلال بمسائل الموافقة لأصول الشريعة وعموم النصوص، أو يعتبر التضعيف أحياناً بهذا الاعتبار إذا لم يكن الحديث أو حرف منه موافقاً للأصول العامة؛ فإنه ينتهي إلى ضعفه وإن لم يشتغل بسنده كثيراً.
[مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: (فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم) وفي الصحيح في حديث الخوارج: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً).
حديث الخوارج متواتر، فقد رواه مسلم من عشرة أوجه، روى البخاري طائفةً منها، وقال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه.
[وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: (ربَنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمةً من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع).
هذا الحديث متكلم فيه، لكن كما تقدم لم ينضبط ضعفه ورده.
[قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء) وذكره، وقوله في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وقوله في الحديث الصحيح للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: اعتقها فإنها مؤمنة)].
قوله: في الحديث الصحيح للجارية مع أن الحديث في مسلم، وقد تقدم أن المصنف لا يلتزم الاصطلاح المشهور عند متأخري الحفاظ دائماً.
[وقوله في الحديث الصحيح: (إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وقوله في حديث قبض الروح: (حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله تعالى) وقول عبد الله بن رواحة الذي أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره فاستحسنه وقال: (آمن شعره وكفر قلبه) حيث قال: مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالنباء الأعلى الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريرا شرجعاً ما يناله بصر العين ترى دونه الملائكة صُورا] استدلاله بقول أمية بن أبي الصلت يبين به أن هذا كان متقرراً حتى عند العرب في جاهليتها؛ لأنه من مسائل الربوبية.
وقد قصد العرب الذين كفروا بالقرآن إلى منازعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوتي وفي نبوته بطرق يعلم جمهورهم أنها باطلة، كقولهم: إنه ساحر، ومجنون، وهذا القرآن إنما يعلمه بشر إلى غير ذلك، ومع ذلك لا نرى أحداً من الجاهليين -مع أنهم من أجمد الناس عقلاً- قصد إلى دعوى أن هذه الصفات التي ذكرها القرآن في حق الله تتعارض مع العقل، وهذا يدل على أن العقل الذي عناه المتكلمون في قولهم: إنها معارضة للعقل.
ليس هو العقل الاعتيادي البشري الذي هو عقل غريزي في الناس، إنما مقصودهم بالعقل: معلومات عقلية فلسفية.
فإن أحداً من الجاهليين الذين قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر أو مجنون مع أنهم يعلمون فساد ذلك، لكن لأنهم لم يجدوا عليه مدخلاً، ولو كان عقل أحدهم يهتدي إلى أن شيئاً من الصفات -مع أنهم يسمعون القرآن فيه وصف الله بالرحمة والغضب والسمع والبصر والعلو والقدرة إلى غيرها- الفعلية واللازمة، ولم يتكلم أحد من المشركين، بل ولا حتى اليهود الذين كانوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو كانوا عنده في المدينة أو بجواره في المدينة في الطعن في شيء من الصفات المذكورة في القرآن، بحجة أنها تنافي كمال الله أو تخالف العقل.
وهذا استدلال فاضل، وهو من طرق أهل السنة للاستدلال على الصفات.
وقد تقدم أن الجاهليين كانوا يذكرون هذه المقاصد العامة؛ لأنها مقاصد ربوبية؛ ولهذا ترى أن بعض علماء السنة كـ شيخ الإسلام لما قسم التوحيد قال: إنه توحيد خبري وتوحيد طلبي إرادي.
والتوحيد الخبري يدخل فيه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فأصله باب محكم حتى في العقول والفطر -أعني باب الأسماء والصفات- وإنما كان الجاهليون ينازعون في مسألة توحيد العبادة والطلب.
وبهذا يتبين أن ما وقع فيه المتكلمون إنما هو من أحكام الفلسفة وليس من أحكام العقل، ولو كان العقل يدل على شيء من هذا التردد أو الاعتراض لكان من أسبق الناس إليه الجاهليون أو اليهود أو الذين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وكتب إليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أنس في الصحيح- كتب إلى كل جبار يدعوه إلى الله، ولم يُنقل أن أحداً ممن كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه وفده أو بلغته دعوته من المشركين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم اعترض على ما يتعلق بمسألة المعرفة الإلهية في صفات الله سبحانه وتعالى؛ ولو كان في شيء من العقل ما يقتضي ذلك لذكروه.
ومن ذلك أن طرفة بن العبد كان يثبت مسألة المشيئة لله في أفعاله، مع أن المعتزلة لما جاءت قالت: إن الله لم يشأ أفعال العباد.
مع أن قضية أن الله شاء أفعال العباد قضية فطرية، حتى الجاهليون كانوا يقرون بها، ولهذا يقول طرفة: فلو شاء ربي كنت قيس بن عامر ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد فأصبحت ذا مال كثير وزارني بنون كرام سادة لمسود إذاً: كان يثبت أن ما تحصل له من الأحوال هو على مشيئة الله سبحانه وتعالى.
وبهذا يتبين أن هذه المسائل -خاصة مسائل الصفات ومسائل القدر- هي مسائل -في الجملة- فطرية عقلية.
[وقوله في الحديث الذي في المسند: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) وقوله في الحديث: (يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب!).
وهذا الحديث في الصحيح من حديث أبي هريرة.
[إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء كما فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته].
إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته لأن الأصل في هذا الباب أنه على الفطرة وعلى مدركات العقل بما يشاهد في آيات الله الكونية التي يشترك فيها جملة الناس، أو الآيات الشرعية التي هي من الفقه والعلم الذي يختص به أهل الإيمان.
فقوله: إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته لأن الانحراف عن الفطرة هو من اجتيال الشياطين، لهذا جاء في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) )إلى آخر الحديث، وكان هذا قبيل بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فالمقصود: أن هذه الدلائل المتواترة من الكتاب والسنة والعقل والفطرة قاطعة بأن الله موصوف بالعلو.
هنا قد يقول قائل: كيف انتهى مذهب المعتزلة والمتأخرين من الأشاعرة إلى نفي هذه المسألة؟ نقول: إذا عُرفت قاعدة هؤلاء في طرق تحصيلهم لصواب قولهم وغلط المقابل له يزول هذا الإشكال: هذه الطوائف يستعملون طريقةً منطقية مأخوذة من المنطق الأرسطي، وهي ما تسمى في المنطق المترجم بطريقة السبر والتقسيم، وهي: أن يفرض في هذه المسألة جملة من الأقوال العقلية بحيث لا تخرج الفرضية العقلية عن هذه الأقوال، فإذا فرضوا القسمة -مثلاً- بأربعة فإنهم يقصدون إلى إبطال ثلاثة، والباقي يكون هو الحق دون أن يحتاج إلى استدلال آخر، وإذا فرضوا القسمة باثنين فإنهم يبطلون واحداً فيكون الباقي هو الحق؛ لأنه إن فرض بطلانه لزم رفع النقيضين -كما يقولون- ورفع النقيضين ممتنع.
وهذه الطريقة يقول عنها شيخ الإسلام رحمه الله: إنها من أضعف الطرق في العقل.
فهؤلاء المعتزل قالوا: إما أن يكون الله في السماء.
ولم يفهموا من أنه في السماء إلا كما يكون الملائكة في السماء، وكما تكون الجنة في السماء، أي أنه شيء مخلوق يحوي الباري سبحانه وتعالى ويحيط به! أو يُنفى عن الله سبحانه وتعالى هذا الوصف مطلقاً، ويقال كما يقول المتفلسفة: لا داخل العالم ولا خارجه.
أو يقولون: ليس له مكان، أو لا يقبل العلو، أو لا يقبل الجهة إلى غير ذلك.
فهم يحصلون بالعقل وحتى بالشرع أن الله لا يليق به أن يكون في السماء، بمعنى أنه في سماء تحويه كما أن الملائكة في السماء والجنة في السماء أليس هذا منتفياً بالعقل والشرع؟ فلما نزهوا الله عن هذا -وهذا حق- ظنوا أنه لا يبقى إلا ما يقابله، وهو شيء واحد، وهو: أنه ينفى العلو عن الله مطلقاً، ويقال: ليس له مكان، أو يقال -كما تقول المتفلسفة ومن شاركهم من المعتزلة-: لا داخل العالم ولا خارجه، أو يقال: لا يوصف بأنه داخل العالم ولا خارجه، أو لا يقبل الأين أو لا يقبل الزمان والمكان وهلم جرا من الإطلاقات التي يستعملونها في هذا الباب.
فطريقة السبر والتقسيم هي معتبرهم، ولهذا إذا نظرت في استدلال المعتزلة على مسألة العلو تجد أن كل الأدلة التي نفوا بها العلو تتجه إلى أن إثبات العلو يستلزم إثبات قديم مع الله؛ لأنهم فهموا أن الله في السماء، أي: أنه في سماء تحويه، وبالطبع ليس هذا هو فهم السلف، بل قال أبو حنيفة رحمه الله: من زعم أن الله في سماء كما أن الملائكة في السماء فقد كفر بالله العظيم.
ولهذا تجد المعتزلة يقولون: لو كان في سماء للزم تعدد القدماء لأنهم لم يفهموا من كونه في السماء إلا كما تكون الملائكة في السماء، من أن هذا ليس هو مذهب السلف رحمهم الله.
إذاً: طريقة السبر والتقسيم هي التي استعملها المخالفون في تقرير مذهبهم، كذلك لما جاءوا لمسألة تعارض العقل والنقل نظموها على طريقة السبر والتقسيم كما سيأتي إن شاء الله في كلام المصنف وهذه الطريقة طريقة غلط.
كيف نقول: إنها غلط؟ من جهة أن الحق ليس فيما سبروه وقسموه، فإنهم سبروا في مسألة العلو باثنين: الأول: نفي العلو مطلقاً.
الثاني: إثبات الحلول.
فيقال: الحق ليس في هذا ولا في هذا، بل الحق أن الله فوق سماواته بائن من خلقه، وهو غني عن الخلق.
وكيف يكون سبحانه وتعالى محتاجاً إلى شيء من الخلق وقد وسع كرسيه السموات والأرض؟! وكيف يكون محتاجاً إليهم وهو الذي خلقهم؟! فكل هذا مما يخالف ضرورة العقل فضلاً عن دلائل الشرع.
إذاً المحصل: أن طريقة السبر والتقسيم هي الطريقة التي يستعملها المخالفون للسلف في تحقيق مذهبهم.
ومعنى السبر أنهم يسبرون الفروضات العقلية في المسألة المعينة.
والتقسيم هو: إيراد الابتلاء للمسألة حتى يتحقق الحق منها ويتبين الغلط، فيقولون: الأول يمتنع، وهو أنه سبحانه وتعالى يوصف بالحلول، فلما امتنع هذا علم بالضرورة أن الحق في الثاني؛ لأنه لم يبق إلا هو.
نقول: (لم يبق إلا هو) هذه دعوى؛ لأن الحق ليس في هذا القول ولا وفي هذا القول.
وهذا مثل مسألة: أن طريقة السلف التفويض وطريقة الخلف التأويل، يظنون أنه لا يصح في هذا الباب إلا أحد مسلكين؛ ولهذا لما رجع الجويني عن التأويل رجع للتفويض؛ لأنهم يظنون أنه لا يمكن في العقل إلا تفويض أو تأويل، والحق ليس في هذا ولا هذا.
ومثله في القدر، فهم يسبرون بطريقتين، يقولون: إما أن يقال بالجبر وإما أن يقال بالقدر، إما العبد مجبور أو العبد مستقل يخلق فعل نفسه.
فالمذاهب المخالفة تدور على هذين المذهبين، والصواب أن السبر من أصله غلط؛ فإن الحق ليس في الجبر ولا في الاستقلال، والحق ليس في التفويض ولا في التأويل، والحق ليس في الحلول ولا في نفي العلو وهلم جرا.
فهذه الطريقة -أعني: طريقة السبر والتقسيم- هي طريقة شائعة في كلام المخالفين، مع أنهم بهذه الطريقة إنما يحصلون نفي الأول -إذا كان السبر والتقسيم باثنين- ولا يحصلون إثبات الثاني.
[ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفاً].
وهذا متواتر في كتب السنة.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
النصوص, والآثار

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:13 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir