دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب القضاء

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 01:29 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله

بَابُ آدَابِ القَاضِي

يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيّاً مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، لَيِّناً مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، حَلِيماً ذَا أَنَاةٍ وَفِطْنَةٍ، وَلْيَكُنْ مَجْلِسُهُ فِي وَسْطِ الْبَلَدِ فَسِيحَاً، وَيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ، وَلَفْظِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَدُخُولِهِمَا عَلَيْهِ،......
قوله: «آداب القاضي» يعني أخلاقه التي يطالب أن يكون عليها، إما وجوباً وإما استحباباً، والقاضي هو المنصوب من قبل ولي الأمر ليقضي بين الناس، ولا يزال يسمى بهذا الاسم إلى يومنا هذا.
قوله: «ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف» كلمة «ينبغي» إذا جاءت بصيغة النفي في كلام الله، أو في كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم فمعناها الممتنع، مثاله قوله تعالى: {{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا }} [مريم:92] ، يعني أنه يمتنع غاية الامتناع، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام» [(207)]، يعني يمتنع عليه النوم.
أما في كلام الفقهاء، فهي بمعنى يستحب فإذا قالوا: لا ينبغي، يعني لا يستحب، وإذا قالوا ينبغي فمعناه: يستحب لكن هذا في اصطلاح الفقهاء على سبيل العموم، أما الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ فأصحابه يقولون: إذا قال: لا ينبغي، فهو للكراهة، وقد يكون للتحريم.
وقوله: «ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف» هذان وصفان أحدهما: ثبوتي، والثاني: سلبي، الثبوتي أن يكون قوياً، يعني له شخصية وله سلطان، فلا يكون ضعيفاً أمام الخصوم.
والسلبي «من غير عنف» يعني لا يكون بقوته عنيفاً؛ لأنه إذا كان ضعيفاً ضاعت الحقوق، وإن كان عنيفاً هابه صاحب الحق، ولم يستطع أن يدلي بحجته، ولهذا قال بعدها:
«ليناً من غير ضعف» فينبغي أن يكون ليناً؛ لأنه لو كان غليظ القلب فظاً لهابه صاحب الحق، وتلعثم وعجز عن إظهار حجته، ولو كان ضعيفاً لضاعت الحقوق، ولعب عليه أهل الباطل، وصار الخصوم عنده يتناقرون كما تتناقر الديكة، فإذا حضرت مجلسه، وإذا الصخب، واللغط، والشتم، والسب، وهو ساكت يتفرج، فهذا ضعيف، ولا ينبغي أن يكون القاضي على هذا الوجه، وإذا كان عنيفاً فالأمر مشكل؛ لأن العنيف يهابه صاحب الحق، ولا يستطيع أن يتكلم، فيكون الإنسان بين بين، قوياً من غير عنف، وليناً من غير ضعف.
فإن قال قائل: هذه صفات يجبل الله العبد عليها، وليست أمراً مكتسباً، بل هي أمر غريزي، فكيف تطالبونه بأمر غريزي لا يستطيع أن يتخلق به؟!
فالجواب: أن جميع الأخلاق والصفات الغريزية يمكن أن تتغير بالاكتساب، فكثير من الناس يكون شديداً عنيفاً، ثم يصاحب رجلاً ليناً فيأخذ من أخلاقه ويلين، وكثير من الناس يكون ضعيف الشخصية، ولكنه يتمرن على تقوية شخصيته حتى تكون قوية، فالفقهاء لم يطلبوا شيئاً مستحيلاً، وإنما طلبوا أمراً، إن كان الإنسان قد جُبل عليه فذلك المطلوب، وإن لم يكن قد جبل عليه فإنه يحاول اكتسابه، وعلى هذا يحمل قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمن قال له: أوصني، قال: «لا تغضب» [(208)]، فهل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ نهاه عن أمر جِبِلِّي مطبوع عليه الإنسان؟
الجواب: لا؛ لأن النهي عما لا يمكن تنفيذه طلب محال، وتكليف بما لا يستطاع، ولكن معنى قوله: «لا تغضب» أي: لا تعوِّد نفسك الغضب، فأيضاً هذا القاضي الذي طلبنا منه أن يكون قوياً من غير عنف، ليناً من غير ضعف، إذا قال: هذه جبلَّتي، أنا غضوب وعنيف، نقول له: عَوِّدْ نفسك، والضعيف نقول له: عوِّد نفسك القوة، واجعل لك هيبة عند الخصم، حتى يكون مجلسك محترماً غير ملعوب فيه.
قوله: «حليماً» أي: بعيد الغضب وبطيء الغضب، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تغضب» وأحق الناس بهذه الوصية القضاة؛ لأنه إذا كان سريع الغضب، فإن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم، فتنتفخ أوداجه وتحمر عيناه، ويقف شعره، فلا يستطيع أن يتصور المسألة، ولا تطبيق الأحكام الشرعية عليها، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» [(209)]، فالذي ينبغي أن يكون حليماً، ولكن يكون حليماً في موضع الحلم، ومعاقباً في موضع العقوبة؛ لأنه إذا قلنا: كن حليماً في كل شيء، فمعناه أنا قيدناه فلا يتحرك، فينبغي أن يكون حليماً في الموضع الذي يكون فيه الحلم من الحكمة.
فإذا كان الإنسان حليماً في موضع الحلم، وأخاذاً بالعقوبة في موضع الأخذ، فهذا هو الكمال، ولهذا قال ربنا ـ عزّ وجل ـ: {{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }} [المائدة:98] .
قوله: «ذا أناة» الأناة هي التؤدة وعدم التسرع، فيكون القاضي متأنياً فلا يتعجل في الحكم، بل يدرس القضية من جميع الجوانب وخصوصاً في القضايا المعقدة كالمواريث من زمن طويل ومسائل الدماء، وضد ذلك المتسرع في الحكم؛ لأن المقام يحتاج إلى تأنٍ وعدم تسرع ليتصور المسألة من كل الجوانب، ثم يطبقها على الأدلة الشرعية.
وهذه الصفة نقول فيها ما قلنا في الحلم: فإذا كان التأني يفوِّت الفرصة فلا ينبغي أن يتأنى في بعض الأحوال، لأنه سيضيع الحزم، قال الشاعر:
وربما فات قوماً جُلُّ أمرهم
مع التأني وكان الرأي لو عجلوا
فقد يكون الحزم والرأي أن يبادر الإنسان.
قوله: «وفطنة» فلا بد أن يكون ذا فطنة ونباهة، وفراسة، وهذه من الآداب المستحبة على ما قال المؤلف، وانظر إلى سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما تحاكمت إليه المرأتان في ابن إحداهما وكان داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ قضى به للكبرى، فدعا بالسكين لكي يشقه، فقالت الكبرى: نعم، يا نبي الله أرضى بهذا الحكم، وقالت الصغرى: لا، هو ولدها يا نبي الله، ولا تشقه! فقضى به للصغرى[(210)]، وهذا من الانتباه والفطنة، وقد ذكر ابن القيم في كتابه «الطرق الحكمية» قضايا كثيرة من هذا النوع، تدل على فطنة بعض القضاة وذكائهم، ومنها أن رجلين اختصما في أرض، فقال أحدهما للقاضي: إنه قد أعطاني الأرض مزارعة بالنصف، وقال صاحبه: ما أعطيتها إياه، فرأى القاضي بفراسته أن الصواب مع المدعي، فقال للمدعي: هل لك عليه بينة؟ قال: لا، فقال القاضي: ما دام ليس لك بينة فلا حقَّ لك عليه، ثم إن الرجل حتى لو ثبت أنه قد عقد لك المزارعة فهذه الأرض وقف، والرجل اختار للوقف ما هو أنفع، فهو أعطاك إياها بالنصف، وجاء آخر وقال: أنا يكفيني الثلث، فالأحسن لصاحب الوقف الثلثان لأنه خير له من النصف، والرجل ناظر على الوقف فهو يحتاط له، فقال القاضي لصاحب الأرض: أليس الأمر كذلك؟ فقال الرجل: بلى، فقال القاضي: إذاً أعط الأرض للمزارع، فمثل هذه الأشياء من الفطنة التي ينبغي أن يكون القاضي متصفاً بها.
قوله: «وليكن مجلسه في وَسْط البلد» «وسط» بمعنى متوسط الشيء، والوسَط بالفتح الخيار، فيكون مجلسه في وسط البلد؛ لأنه قاضٍ لأهل البلد كلهم، فلو كان في جانب منه، لشق على أهل الجانب الآخر، وعلى هذا فينظر إلى قصبة البلد، يعني وسطها، فيكون مجلس القاضي فيه سواء في بيت القاضي، أو مكتب آخر.
قوله: «فسيحاً» خبر آخر لـ «يكن» ، يعني ليكن مجلسه فسيحاً، لأنه قد تكثر الخصوم فيضيق بهم، ولأن المكان الفسيح أوسع للصدر وأشرح، فكلما كان المكان فسيحاً كان انبساط الإنسان فيه أكثر، وصدره أرحب وأوسع.
فإن قيل: وهل يجوز للقاضي أن يطلب أجرة من الخصمين؟
فالجواب: إن كان له رزق من بيت المال فإنه يحرم عليه لأنه يشبه هدايا الغلول، وإن لم يكن له شيء من بيت المال فقال الفقهاء يجوز أن يسأل ما يدفع به حاجته فقط. والصحيح أنه لا يجوز حتى هذا لأنه يفتح باب المفاسد والشرور.
ثم بدأ المؤلف بذكر الآداب الواجبة، فقال:
«ويعدل» الجملة استئنافية، وهي خبر بمعنى الأمر، يعني يجب عليه أن يعدل بين الخصمين، لقوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}} [النحل: 90] ، وقوله: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا}} [النساء: 58] ، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» [(211)]، فأمر بالعدل بين الأولاد، ومثلهم غيرهم ممن يتساوون في الحقوق.
قوله: «بين الخصمين» يشمل ما إذا كانا كافرين أو مسلمين، أو أحدهما كافراً والآخر مسلماً، فيجب أن يعدل بينهما؛ لأن المقام مقام حكم يستوي فيه جميع الأفراد المحكوم عليهم، أو لهم، فيجب أن يعدل بين الخصمين أياً كانت ديانتهما.
قوله: «في لحظه» أي: يجب أن يعدل بينهما في النظر إليهما، فلا ينظر إلى أحدهما نظرة رضا وإلى الآخر نظرة غضب، بل يجب عليه أن ينظر إليهما نظرة واحدة، سواء اقتضت الحال أن ينظر إليهما نظر غضب، أو نظر رضا، المهم أن لا يختلف نظره للخصمين.
قوله: «ولفظه» كذلك يجب عليه العدل في لفظه، فلا يلينه لأحدهما، ويغلظه للآخر، فلا يقول لأحدهما إذا سلم: أهلاً، وعليكم السلام، مرحباً، كيف الأولاد والأهل؟ وما أشبه ذلك، والآخر إذا سلم رد بقوله: وعليكم السلام بصوت لا يكاد يسمع، أو يتأفف وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، وأيضاً لا يجوز أن يحتفي بأحدهما، فيسأله عن أصله وولده وماله، والثاني لا يسأله، حتى لو كان قريباً له ولم يره من زمن بعيد، فلا يجوز؛ لأنه يمكن أن يسأله في مكان آخر، أما هنا فالناس سواء لا يجوز أن يفضل أحدهما على الآخر في اللفظ، كذلك ـ أيضاً ـ يجب عليه أن يعدل بينهما حتى في نبرات الصوت، فلا يكلم أحدهما برفق ولين، والآخر بغلظة وشدة، بل يجب عليه العدل في اللفظ من حيث عدد الكلمات، ومن حيث كيفية اللفظ، ونبرات الصوت.
لكن إذا أساء أحد الخصمين الأدب في مجلس الحكم فللقاضي أن يوبخه، وأن يطلب ـ مثلاً ـ من الشرطي أن يعاقبه، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «ومجلسه» يعني يكون مجلس الخصمين واحداً في الدنو منه، وفي نوع ما يجلسان عليه، فلا يفضل أحدهما على الآخر، فلا يجوز أن يدني أحدهما دون الآخر، أو يجلس أحدهما على فراش وثير والآخر على بساط عادي.
قوله: «ودخولهما عليه» فلا يقدم أحدهما على الآخر، بل يدخلان جميعاً، فلا يقل لأحدهما إذا وقف عند الباب: تفضل يا فلان، إلا إذا قدم أحدهما الآخر، أما أن يدخل القاضي أحدهما قبل الآخر فهذا لا يجوز؛ لأن هذا خلاف العدل، ولا شك أن المقام مقام عدل، وأنه إذا خولف العدل في هذا المكان لأفضى إلى بطلان حجة من له حجة، وانتصار من ليس له حجة، فالواجب العدل.
فإن كان الباب لا يسع إلا واحداً فيقرع بينهما، إلا إذا اختار أحدهما أن يقدم صاحبه فالحق لهما.
فإن قيل: ألا نقدم الأكبر؟ قلنا: لا، المقام مقام عدل، فلا نقدم الأكبر، ولا الأقرب، ولا الأشرف، ولا الأوضع، بل نقول: الحق لكما أن تدخلا جميعاً، أو تختصما فيما بينكما.
مسألة: لو سبق أحدهما بالسلام على القاضي، فهل يرد السلام أو ينتظر حتى يسلم الآخر؟
الجواب: لا ينتظر، بل يرد السلام؛ لأن هذا الذي سلّم سبق حقه بفعله لا بفعل القاضي، والأولى للقاضي أن يباشرهما بالسؤال بعد دخولهما عليه قائلاً: ما قضيتكما؟ حتى لا يضيع عليه الوقت أو يحرج نفسه بإسكات المتكلم. فصار يجب العدل في هذه الأمور الأربعة، وفي غيرها أيضاً، وإنما نص المؤلف على هذه الأربعة لأنها دقيقة، وربما لا يلقي لها بعض القضاة بالاً، ولا يهتم بها، وأما العدل في كيفية الحكم، وفي تلقي الحجة، وفي المحاجة، فهذا أمر لا شك في وجوبه، ولكنه ذكر هذه الأشياء؛ لأنه إذا وجب العدل فيها وجب فيما هو أولى منها.
قوله: «وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب ويشاورهم فيما يشكل عليه» فإذا كان في البلد عدة مذاهب فينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب، فإذا كان في البلد خمسة مذاهب، حنفي، ومالكي، وشافعي، وحنبلي، وظاهري، أحضر من كل مذهب فقيهاً، حتى إذا أشكل عليه شيء شاورهم، هكذا قال المؤلف تبعاً لغيره من فقهاء المذهب، والصحيح أن هذا ليس بمستحب، بل تركه هو المستحب؛ لأن إحضار الفقهاء فيه عدة محاذير:
الأول: أن من القضايا ما يحب الخصمان أن يكون سراً، لا يطلع عليه أحد، فإذا أحضر القاضي أناساً، وقد لا يحتاج إليهم فإن الخصمين يخجلان من ذلك.
الثاني: أنه قد يكون بعض الفقهاء من الثرثارين المتكلمين، فتنتشر قضايا المسلمين بين الناس.
الثالث: أن في ذلك إضعافاً لجانب القاضي؛ لأن الناس يقولون: إن هذا القاضي لا يقضي إلا والفقهاء عنده، ومعنى ذلك أنه لا علم عنده، وإذا ضعف جانب القاضي أمام الناس أصبحت أحكامه مهلهلة، وكل إنسان يستطيع أن يعترض عليه.
الرابع: أن في ذلك إظهاراً للفرقة بين الناس؛ لأن المطلوب تقليل الخلاف ما استطعنا، وأن لا نقول: ما مذهب فلان؟ وأنت على أي مذهب؟ وما أشبه هذا، فإن الواجب أن يحشر الناس كلهم بقدر الاستطاعة على قول واحد، وهو ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أما أن نظهر الفرقة بين الناس بالفِرَق وتعدد المذاهب فهذا أمر لا ينبغي.
وواحد من هذه المحاذير يكفي في أن نقول: لا ينبغي أن يحضر في جملة الفقهاء، وأما ما يشكل عليه فإنه يرجئ النظر فيه، ويقول للخصمين: اذهبا وارجعا بعد يوم، أو يومين، أو ثلاثة، حسب ما يظن أن المسألة تتطلبه من وقت، ثم يراجعها بنفسه، ويشاور العلماء الذين في بلده، أو خارج بلده كما في وقتنا الحاضر، إذ يستطيع القاضي وهو في مجلس الحكم أن يتصل بأي عالم يثق بعلمه، فيشاوره ويحكم. والحاصل أن ما قاله المؤلف رحمه الله من إحضار فقهاء المذاهب فيه نظر بل هو ضعيف.

وَيَحْرُمُ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيراً، أَوْ حَاقِنٌ، أَوْ فِي شِدَّةِ جُوعٍ، أَوْ عَطَشٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ مَلَلٍ، أَوْ كَسَلٍ، أَوْ نُعَاسٍ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ،.............................
قوله: «ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً» هذا من الآداب الواجبة، وهو تجنب القضاء في حال الغضب الشديد، فالقضاء في حال الغضب الشديد محرم.
والغضب انفعال يحدث للنفس بسبب ما يثير من مخالفة الهوى، فتجد الرجل تنتفخ أوداجه، وتحمر عيناه ووجهه، ويقف شعره، ويفقد وعيه أحياناً، إذ تصل الحال بالغضبان أحياناً حتى لا يدري أفي السماء هو أم في الأرض؟ ولا يدري ما يتكلم به.
والغضب ثلاثة أقسام: غاية، وابتداء، ووسط، فالابتداء لا يضر؛ لأنه ما من إنسان يخلو منه إلا نادراً، والغاية لا حكم لمن اتصف به في أي قول يقوله، والوسط محل خلاف بين العلماء.
ولنضرب لذلك مثلاً برجل طلق وهو غضبان، فإن كان من أول الغضب فطلاقه واقع نافذ، وإن كان في غايته، فطلاقه غير واقع، ولا نافذ، وهذان موضعان متفق عليهما، وإن كان في وسط الغضب فللعلماء في ذلك قولان مشهوران، أصحهما أن الطلاق لا يقع؛ لأن هذا الرجل الغضبان يجد في نفسه شيئاً يرغمه، ويضطره إلى أن يطلق، مع أنه يدري ما يقول، وقد جاء الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق في إغلاق» [(212)].
فالغضب الذي يحرم على القاضي أن يقضي فيه هو الغاية والوسط، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» [(213)]، والتعليل أن الغضبان لا يتصور القضية تصوراً تاماً، ولا يتصور تطبيقها على النصوص الشرعية تطبيقاً تاماً، والحكم لا بد فيه من تصور القضية، ثم تصور انطباق الأدلة عليها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والحكم على الشيء لا بد فيه من معرفة الموجِب للحكم، والغضبان لا يتصور ذلك، لا القضية ولا انطباق الأحكام عليها، ولذلك نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقضي بين اثنين وهو غضبان[(214)].
وأيضاً فإنه إذا كان أحد الخصمين هو الذي أثار غضب القاضي فهنا محذور ثالث، وهو أنه قد يحمله غضبه على هذا الخصم أن يحكم عليه مع أن الحق له.
وقوله: «وهو غضبان كثيراً» يفيد أنه إذا كان الغضب يسيراً في ابتدائه فلا يحرم القضاء، وقد قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو غضبان في قصة الأنصاري مع الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ في المسيل الذي تنازعا فيه عند النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ كان المسيل يأتي على حائط الزبير قبل حائط الأنصاري، فكان الزبير ـ رضي الله عنه ـ يسقي منه ويدع البقية لجاره الأنصاري، فاشتكى الأنصاري إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فترافعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك».
فقوله: «اسق» أمر مطلق يقتضي أنه يسقي زرعه مجرد سقي، ثم يرسل الماء لجاره، فقال الأنصاري ـ عفا الله عنه ـ: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! فأخذته العزة بالاثم، والإنسان بشر، وإلا فمن يتهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا الاتهام؟! فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم انتقاماً لله؛ لأنه يحكم بأمر الله وشرعه، ثم قال: «يا زبير، اسق حتى يصل إلى الجَدْر، ثم أرسله إلى جارك» [(215)]، فاحتفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم بحق الزبير لما أغضبه الأنصاري، لكن هذا الغضب يسير لا يمنع تصور القضية، وانطباق الحكم الشرعي عليها.
قوله: «أو حاقن» يعني لا يقضي وهو حاقن، وهو المحصور بالبول، وأما الحاقب فهو المحصور بالغائط، فلا يقضين بين اثنين في هذه الحال؛ لأن هذه الحال تشبه حال الغضب في عدم تصور القضية وانطباق الحكم الشرعي عليها.
قوله: «أو في شدة جوع» أي: يحرم عليه القضاء في شدة جوع، حتى وإن كان سببه الصيام، فلو جاءا يتحاكمان إليه في آخر النهار وهو جائع جوعاً شديداً، نقول: لا تقضِ بينهما، فإذا صرفهما، فهل يستفيد من ذلك بأن يأكل؟ لا يستفيد ذلك؛ لأنه لن يأكل حتى تغرب الشمس، ولكنه يستفيد أن لا يخطئ في الحكم، بخلاف المصلي إذا أراد أن يصلي وهو جائع فلا نقول له: لا تصل حتى تفطر وتأكل؛ لأن الصلاة يفوت وقتها، أما الحكم بين اثنين فلا يفوت وقته.
قوله: «أو عطش» كذلك لا يقضي في شدة العطش؛ لأن ذهنه مُشوش، حتى يشرب ثم يقضي بينهما.
قوله: «أو هَمٍّ» أي: شدة هَمٍّ، وهذا أمر خفي، لأن الإنسان بشر تعتريه هموم في بعض الأحيان، لأسباب خارجية، أو أهلية، أو داخلية في نفسه، فإذا كان في شدة همٍّ وجاءه اثنان يريدان أن يقضي بينهما، فيقول: أنا فكري مشغول، وعندي هموم كثيرة، فلا يقضي بينهما، ومثل ذلك لو كان شخص من أهله مريضاً مرضاً مدنفاً، أو سمع بانتصار بعض الكفار، فانشغل ذهنه بذلك، فحينئذ ينتظر حتى يزول ذلك الهم. فمن كان مهموماً هما خارجياً أو داخلياً فلا يحل له القضاء في هذه الحال.
قوله: «أو ملل» أي: لا يقضي في شدة ملل، كأن يكون من الساعة السابعة صباحاً وهو يقضي بين الناس، وصابر على أذاهم وأصواتهم وصخبهم، فلما وصلت الساعة الثانية إلا ربعاً مساء جاءه خصمان ليقضي بينهما، فقال: أنا مللت، ولا أستطيع أن أقضي بينكما، فله ذلك، بل يجب عليه أن يعتذر؛ لأن الإنسان بشر، ويحرم عليه القضاء، والعلة هي علة تحريم القضاء في حال الغضب.
قوله: «أو كسل» أي: شدة كسل، كأن يكون به نوم أو نعاس، فلا يجوز له أن يقضي بين الخصوم في هذه الحال، ولو رضي الخصوم؛ لأن هذا حق لله تبارك وتعالى.
قوله: «أو نعاس» أي: شدة نعاس، فلا يجوز أن يقضي في شدة نعاس حتى يزول.
قوله: «أو برد مؤلم» أي: يحرم عليه القضاء في برد مؤلم، كأن يأتيه الخصوم زمن شتاء بارد ليقضي بينهم، فيقول: لا أقضي بينكم، بل أذهب وأتدفأ، أو ألبس ثياباً أكثر، ثم أقضي بينكم.
قوله: «أو حر مزعج» أي: يحرم عليه القضاء في حر مزعج، فإذا كان في حر شديد جداً ليس عنده مكيف ولا مروحة، يقول للخصوم: انتظروا إلى آخر النهار، أو حتى أغتسل وأتبرد؛ لأن الحر مزعج لا يجوز معه القضاء.
كل هذه الأحوال التي ذكرها المؤلف مقيسة على قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا يقضي أحد بين اثنين وهو غضبان» [(216)]، إذاً كل حال تعتري القاضي تكون حائلاً بينه وبين تصور القضية، أو انطباق الأحكام الشرعية عليها، فإنه يحرم عليه القضاء فيها حتى يزول هذا السبب، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

وَإِنْ خَالَفَ فَأَصَابَ الْحَقَّ نَفَذَ، وَيَحْرُمُ قَبُولُ رَشْوَةٍ وَكَذَا هَدِيَّةٍ، إِلاَّ مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلاَيَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ،..............
قوله: «وإن خالف» أي: القاضي، وحكم في هذه الأحوال التي لا يحل له فيها الحكم.
قوله: «فأصاب الحق نفذ» أي: حكمه، فإن قال قائل: كيف ينفذ وهو محرم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [(217)]، أفليست القاعدة أن مثل هذا يوجب بطلان الحكم، كما لو عقد على امرأة عقداً محرماً فإن العقد يبطل؟
فالجواب: أن يقال: إنه إنما نهي عن ذلك خوفاً من مخالفة الصواب، فإذا وقعت الإصابة فهذا هو المطلوب، إذاً هنا نقول: هذا لم يخرج عن القاعدة، وهي أن الشيء المحرم لا ينفذ ولا يصح؛ لأن العلة التي من أجلها حرم انتفت، حيث إنه أصاب الصواب، فإن لم يصب الحق فإنه لا ينفذ؛ لأنه على غير حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهذا الرجل أساء فحكم في حال الغضب، أو الجوع أو ما أشبه ذلك، ولم يصب الحق، فهو ليس مصيباً لا في إقدامه على الحكم ولا في حكمه، فيكون حكمه باطلاً. وهل لأحد الخصمين أن يطالب القاضي بالدليل؟
نقول: ليس لأحد الخصمين أن يطالب القاضي بالدليل لأنه لو فتح هذا الباب لم ينفذ أي حكم من الأحكام.
قوله: «ويحرم قبول رشوة» وهي مثلثة الراء، يقال: رِشوة، ورَشوة، ورُشوة، وهي مأخوذة من الرشاء وهو الحبل الذي يعقد به الدلو لاستخراج الماء، والرشاء يتوصل به الإنسان إلى مقصوده وهو الماء، والرِّشوة بذل شيء يتوصل به الإنسان إلى المقصود، فكل من بذل شيئاً يتوصل به إلى المقصود فهو راشٍ، لكن الرشوة في الحكم لا تجوز، وهي أن يبذل الخصم للقاضي شيئاً يتوصل به إلى أن يحكم له القاضي بما ادعاه، أو يرفع عنه الحكم فيما كان عليه؛ لأن الراشي ـ الذي يعطي الرشوة ـ تارة يريد أن يُحكم له بما ادعاه، وتارة يريد أن يرفع عنه ما ادعي عليه، وبينهما فرق، إذا كان الخصم يدعي أنه يطلب فلاناً مائة ألف، ودفع إلى القاضي رشوة، فهذا يريد من القاضي أن يحكم له بما ادعاه، وإذا كان الخصم قد ادعي عليه بمائة ألف وأعطى القاضي دراهم، فهذا يريد من القاضي أن يرفع عنه ما ادعي عليه، وفي كلتا الصورتين الرشوة محرمة للتالي:
أولاً: للحديث الصحيح: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لعن الراشي والمرتشي[(218)]، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا يقتضي أن تكون الرشوة من كبائر الذنوب.
ثانياً: أن فيها فساد الخلق؛ فإن الناس إذا كانوا يُحكم لهم بحسب الرشوة فسد الناس، وصاروا يتباهون فيها أيهم أكثر رشوة، فإذا كان الخصم إذا أعطى ألفاً حكم له، وإذا أعطى ثمانمائة لم يحكم له، فسيعطي ألفاً، وإذا ظن أن خصمه سيعطي ألفاً أعطى ألفين، وهكذا فيفسد الناس.
ثالثاً: أنها سبب لتغيير حكم الله عزّ وجل؛ لأنه بطبيعة الحال النفس حيّافة ميّالة، تميل إلى من أحسن إليها، فإذا أعطي القاضي رشوة حكم بغير ما أنزل الله، فكان في هذا تغيير لحكم الله ـ عزّ وجل ـ.
رابعاً: أن فيها ظلماً وجَوراً؛ لأنه إذا حكم للراشي على خصمه بغير حق فقد ظلم الخصم، ولا شك أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الجور من أسباب البلايا العامة، كالقحط وغيره.
خامساً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل، أو تسليطاً على أكل المال بالباطل، لأنه ليس من حق القاضي أن يأخذ شيئاً على حكمه؛ لأننا نقول: هذا الذي أخذه القاضي إما أن يحمله على الحكم بالحق، والحكم بالحق لا يجوز أن يأخذ عليه عوضاً دنيوياً، وإما أن يحمله على الحكم بخلاف الحق، وهذا أشد وأشد، فكان أخذ الرشوة أكلاً للمال بالباطل، وبذلها أعانةً لأكل المال بالباطل.
سادساً: أن فيها ضياع الأمانات، وأن الإنسان لا يؤتمن، والإنسان لا يدري أيحكم له بما معه من الحق، أو يحكم عليه؟ وهذا فساد عظيم، ولذلك استحق الراشي والمرتشي لعنة الله ـ والعياذ بالله ـ.
ولكن لو تعذر إعطاء المستحق حقه إلا ببذل الدراهم، فهل يدخل هذا في الرشوة أو لا؟ نقول: نعم، هي رشوة، لكن إثمها على الآخذ دون المعطي؛ لأن المعطي إنما بذلها ليستخرج حقه؛ لأن حقه يضيع إذا لم يبذل ذلك، ويكون اللعن على المرتشي ـ الآخذ ـ وقد نص على ذلك أهل العلم رحمهم الله، وبينوا أن من بذل شيئاً للوصول إلى حقه فليس عليه شيء، ويوجد الآن من يقول للإنسان المطالب بحقه: إما أن تعطيني كذا وكذا ـ صراحةً ـ وإلا فاصبر، وهكذا حتى يمل ويعطيه غصباً عليه، وهذا في الحقيقة أمرٌ مُرٌّ ومفسد للخلق، لأديانهم وأبدانهم؛ لأنهم يأكلون السحت ـ والعياذ بالله ـ.
فإن كان القاضي ليس له رزق ـ أي: راتب ـ من بيت المال، من الدولة، وهو إنسان ليس له مال، وقال للخصمين: لا أقضي بينكما إلا بكذا وكذا، حسب القضية إن كانت كبيرة قال: أقضي بينكما بشيء كثير، وإذا كانت صغيرة بشيء قليل، فهل يجوز ذلك أو لا؟
في ذلك خلاف، المشهور من المذهب أنه يجوز، والصحيح أنه لا يجوز؛ لأن هذا أخذُ عوض على أمر واجب عليه، فإن الحكم بين الناس واجب، وهو إذا عود نفسه هذا، هل سيقتصر على مقدار الكفاية؟ أبداً سيطمع، وإذا جعل الجُعل مثلاً على الألف خمسة في اليوم الأول، جعل على الألف في اليوم الثاني عشرة وازداد طمعاً، فالصواب أن هذا لا يجوز، ويقال له: اتق الله بقدر ما تستطيع، اعمل في السوق، واقض بين الناس في وقت آخر، لكن هذه المسألة نادرة الوقوع جداً، وفي زماننا هذا ـ ولله الحمد ـ القضاة لهم أرزاق من بيت المال أكثر من كفايتهم.
قوله: «وكذا هدية، إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته، إذا لم تكن له حكومةٌ» يعني يحرم على القاضي أن يقبل هدية، فإذا أهدى له إنسان فلا يجوز أن يقبلها، سواء كان لهذا المُهدي حكومة أم لم يكن، وعلى هذا فإذا انتصب رجل للقضاء اليوم الثلاثاء، ففي يوم الاثنين ـ أمس ـ يجوز أن يقبلها، أما اليوم فلا يجوز أن يقبلها إلا بشرطين:
الأول: أن يكون لهذا المُهدي عادة أن يُهدي إلى هذا القاضي قبل أن يتولى القضاء.
الثاني: أن لا يكون له حكومة، فإن كان له حكومة فلا يجوز أن يقبل هديته، ولو كان ممن يهاديه قبل ولايته.
فعندنا أربع مراتب:
الأولى: هدية من شخص يهاديه قبل ولايته، وليس له حكومة، يعني جرت العادة أنه إذا قدم من سفر أهدى إليه هدية، وإذا حصلت عنده مناسبة أهدى إليه هدية، وما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به لبعده بعداً تاماً عن الرشوة، والأصل الحل.
الثانية: رجل أهدى عليه هدية، وليس ممن عادته أن يهاديه، وليس له حكومة، فالمذهب لا يجوز كما صرح به المؤلف؛ لأنه ليس له عادة، والقول الثاني: أنه يجوز.
الثالثة: أن يهاديه وله حكومة ولم تكن عادته أن يهاديه، فهذا حرام ولا يجوز.
الرابعة: أن يكون له حكومة، ويهاديه وهو ممن جرت عادته بمهاداته من قبل، فهذا أيضاً لا يجوز.
فالمراتب إذاً أربعة، واحدة تجوز وهي أن يكون ممن يهاديه قبل ولايته وليس له حكومة، والثلاثة الباقية على المذهب لا تجوز، والصحيح أن الهدية إذا لم تكن ممن له حكومة، وإن لم يهاده من قبل فلا بأس بها.
بقي علينا إذا كان هذا الرجل ممن يهاديه قبل ولايته، وأهدى له هدية، وكان له حكومة، لكن ما علم بها القاضي، ثم علم بعد ذلك، فهل يجب على القاضي أن يردها؟
الجواب: نعم.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَحْكُمَ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ، وَلاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ، وَلاَ لِمَنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَمَنِ ادَّعَى عَلَى غَيْرِ بَرْزَةٍ لَمْ تَحْضُرْ وَأُمِرَتْ بِالتَّوْكِيلِ، وَإِنْ لَزِمَهَا يَمِينٌ أَرْسَلَ مَنْ يُحَلِّفُهَا وَكَذَا الْمَرِيضُ.
قوله: «ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود» يستحب للقاضي أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود، ويجوز أن يحكم في غيبتهم، فإذا أدوا الشهادة وحكم في غيبتهم فلا بأس، لكن الأفضل أن لا يحكم إلا بحضرتهم؛ لأن الشهود هم الطريق التي توصل للحكم ويستخرج بهم الحق، فلولا شهادتهم ما حكم، فينبغي أن يكون حكمه في حال حضورهم، ولأن هذا أضبط؛ حتى لا يميل يميناً أو شمالاً؛ لأنه ربما ينسى بعض فقرات الشهادة، ولأن هذا ـ أيضاً ـ أقرب إلى ثبوت الشهود؛ إذ إن الشهود قد يكون بعضهم شهد بزور، فإذا رأى أن الحكم سيثبت بناء على شهادته فربما يتراجع.
فهذه ثلاث علل لاستحباب حضور الشهود لحكم القاضي.
قوله: «ولا ينفذ حكمه لنفسه» حكم القاضي لنفسه لا يقبل، وكيف يحكم القاضي لنفسه؟!
الجواب: مثل أن يكون بينه وبين شخص خُصومة، فيقول: نتحاكم أنا وأنت لنفسي عند نفسي، فلا يصلح هذا، فإن رضي الخصم وقال: أنت الحَكَمُ وفيك الخصومة، فإن ذلك يجوز؛ لأن الحق له، وهذه أحياناً ترد، يعني يكون خصمُ القاضي واثقاً من القاضي، فيقول: أنت الحكم، وأنا أثق بأمانتك ودينك وعلمك، فإذا رضي بذلك فلا حرج.
قوله: «ولا لمن لا تقبل شهادته له» مثل أبيه، وولده، وزوجته، فلا يقبل أن يحكم لهم؛ لأن الحكم ـ كما سبق ـ يتضمن الشهادة؛ لأن الحاكم كأنه يقول: أشهد أن الحق لفلان على فلان، فإذا حكم لأبيه، أو أمه، أو زوجته، أو غيرهم ممن لا تقبل شهادته لهم، فإن هذا كالشهادة لهم، فلا ينفذ حكمه، وهل ينفذ حكمه على نفسه؟
الجواب: نعم؛ لقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}} [النساء: 135] .
وهل ينفذ حكمه على من لا تقبل شهادته له؟
الجواب: نعم، كما تقبل شهادته عليهم، فيقبل حكمه عليهم.
قوله: «ومن ادعى على غير برزة لم تحضر» يعني من ادعى على امرأة غير برزة، وهي التي لا تبرز للرجال، والنساء بعضهن صاحبة خباء، لا تبرز للرجال، وبعضهن تبرز للرجال، وتتكلم مع الناس، فمن ادعى على برزة فإنها تُحضر كالرجل، ومن ادعي على غير برزة فإنها لا تحضر؛ لأن ذلك يشق عليها، ولأنها ربما مع الحياء والخجل لا تستطيع أن تعبر عما في نفسها من الحجة.
قوله: «وأُمرت بالتوكيل» يعني أن القاضي يرسل لها، وفي عصرنا يكلمها بالهاتف أن توكل شخصاً يخاصم عنها.
وأفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يجوز التوكيل في الخصومة، وقد سبق ذلك في باب الوكالة.
وهل لها أن تختار رجلاً ألحن من خصمها؟
الجواب: نعم؛ لأنها تريد أن تدافع عن نفسها ما ادعى عليها، أو تثبت لنفسها ما ادعته، فلها أن تختار رجلاً ألحن من خصمها وأقوى حجة، بشرط أن تعتقد أنها على حق، أما إذا كانت تعلم أنها على باطل، فلا تجوز الخصومة أصلاً.
قوله: «وإن لزمها يمين أرسل من يحلفها» أي: غير البرزة إن وكلت، وحضر الوكيل، وتخاصم مع خصمها، فقال خصمها: أدعي على فلانة بعشرة آلاف ريال، فقال له القاضي: أين البينة؟ قال: ما عندي بينة، فتبقى اليمين، فهل يُحَلَّف الوكيل؟ لا؛ لأن الأيمان لا تدخلها النيابة والوكالة، لكن يرسل القاضي إنساناً ثقةً يُحلِّف المرأةَ، ولا بد أن يكون هذا الرسول ممن تقبل شهادته عليها ولها، فلا يرسل والدها؛ لأن والدها متهم، فربما يقول والدها: إنها حلفت وهي لم تحلف، فإذا حلفت يحكم ببراءتها، فيقول: حضر عندي فلان وكيلاً لفلانة، وفلان أصيلاً عن نفسه، وادعى الثاني على موكلة الأول كذا وكذا، ولم يأت ببينة، وأَرْسَلْتُ من يُحلفها فحَلفت أمامه، وبناء على ذلك أحكم ببراءتها.
قوله: «وكذا المريض» يعني أن المريض لو لزمه يمين، ولا يستطيع أن يحضر بنفسه إلى مجلس الحكم فإن القاضي يُرسل من يُحلفه، وليس كل مريض يُفعل به هكذا، بل المريض الذي لا يستطيع الحضور إلى مجلس الحكم، فالمرض إذاً نوعان:
الأول: يستطيع معه أن يحضر إلى مجلس الحكم، فيلزمه الحضور.
الثاني: لا يستطيع معه الحضور فلا يلزمه، ويقال له: وُكِّل، فإذا لزمه اليمين أرسل إليه من يحلفه.
قوله: «طريق» طريق الشيء ما يوصل إليه، ومنه طريق البلد؛ لأنه يوصل للبلد.
قوله: «الحكم» وهو الفصل في الخصومات، يعني باب الطريق الذي نتوصل به إلى الحكم بين الناس.
سبق لنا أن الخصمين يدخلان على القاضي، وأنه يجب أن يعدل بينهما، في لفظه، ولحظه، ودخولهما عليه، ومجلسه، أي: في أربعة أشياء، فإذا دخلا عليه على هذه الصفة، فكيف يتوصل إلى الحكم بينهما؟ يقول المؤلف:



[207] أخرجه مسلم في الإيمان/ باب في قوله عليه السلام: «إن الله لا ينام...» (179) عن أبي موسى رضي الله عنه.
[208] أخرجه البخاري في الأدب/ باب الحذر من الغضب لقول الله: {{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} ...} (6116) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[209] أخرجه البخاري في الأحكام/ باب يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان (7158)، ومسلم في الأقضية/ باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (1717) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[210] سبق تخريجه ص(257 ـ 258).
[211] أخرجه البخاري في الهبة/ باب الإشهاد في الهبة (2587)، ومسلم في الهبات/ باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
[212] أخرجه الإمام أحمد (6/276)، وأبو داود في الطلاق/ باب في الطلاق على غلط (2193)، وابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2046) عن عائشة رضي الله عنها.
انظر: التلخيص (1598)، والإرواء (2047).
[213] أخرجه البخاري في الأحكام/ باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟ (7158)، ومسلم في الأقضية/ باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (1717) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[214] سبق تخريجه ص(291).
[215] أخرجه البخاري في المساقاة/ باب سكر الأنهار (2360)، ومسلم في الفضائل/ باب وجوب اتباعه صلّى الله عليه وسلّم (2357) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
[216] سبق تخريجه ص(291).
[217] سبق تخريجه ص(67).
[218] أخرجه الإمام أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية/ باب في كراهية الرشوة (3580)، والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم (1336)، وابن ماجه في الأحكام/ باب التغليظ في الحيف والرشوة (2313)، وابن حبان (11/467)، والحاكم (4/115)، والبيهقي (10/138). قال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وصححه الحاكم.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
آداب, باب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:58 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir