دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب النفقات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 1 جمادى الأولى 1432هـ/4-04-2011م, 12:42 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي الشرح الممتع على زاد المستقنع / الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

فَصْلٌ
وَنَفَقَةُ المُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَكِسْوَتُهَا، وَسُكْنَاهَا، كَالزَّوْجَةِ، وَلاَ قَسْمَ لَهَا،.....
قسّم المؤلف المعتدات إلى ثلاثة أقسام: قسم كالزوجة وهي الرجعية، وقسم على ضدها من كل وجه، وهي المتوفى عنها، وقسم فيه تفصيل، وهي البائن بفسخ أو طلاق، فالرجعية كالزوجة لها النفقة، والبائن بموت لا نفقة لها، والبائن بحياة لها النفقة إن كانت حاملاً وإلا فلا، وهذا التقسيم حاصر، لا يخرج عنه شيء.
والرجعية هي التي طلقها زوجها في نكاح صحيح، على غير عوض، بعد الدخول أو الخلوة، دون ما يملك من العدد، فشروطها خمسة، يقول المؤلف:
«ونفقة المطلقة الرجعية، وكسوتها، وسكناها كالزوجة» أي: أن نفقتها، وكسوتها، وسكناها، كالزوجة، والدليل قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}[البقرة: 228] .
وجه الدلالة من الآية أن الله سمى المطلقين بعولة، والأصل في الإضافة الحقيقة، فإذا قلت ـ مثلاً ـ: هذه دار زيد، فالأصل أن الدار له، إلاّ بدليل على أنها مستأجرة، أو مُعارة، أو غير ذلك، وعليه فالمطلقات الرجعيات في حكم الزوجات.
قوله: «ولا قسم لها» أي: أن الزوج إذا كان له زوجات أُخَر، وطلق واحدة منهن طلاقاً رجعياً، فإنه لا يجب لها عليه القسم.
وهل تفارق غيرها في غير هذه المسألة؟ تقدم لنا أنها تفارق غيرها في مسائل منها:
الأولى: أنها لا تستحق من الوقف إذا كان موقوفاً على امرأة غير مزوجة، فإنها إذا طلقت لا نقول: إنها الآن تستحق؛ لأنها غير مزوجة.
الثانية: أنها إذا تزوجت من أجنبي فإنها تسقط حضانتها، فإذا طُلِّقت رجعت.

وَالْبَائِنُ بِفَسْخٍ، أَوْ طَلاَقٍ لَهَا ذلِكَ إِنْ كَانَتْ حَامِلاً، ....................
قوله: «والبائن بفسخ» أنواع الفسوخ كثيرة، منها: أن تفسخ لفوات شرط، مثاله: امرأة شرطت على زوجها ألاّ يتزوج عليها فهذا شرط صحيح، فإذا تزوج عليها فلها الحق أن تفسخ العقد، ولما قيل لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين: كيف تفسخ العقد؟ قال: مقاطع الحقوق عند الشروط[(213)]، أي: ينقطع حقها عند شرطها، فإذا فسخت العقد تكون بائناً، لا يحل لزوجها أن يراجعها، إلا أن يعقد عليها عقداً جديداً.
مثال آخر : رجل اشترط لزوجته مهراً مؤجلاً إلى شهر، فمضى الشهر وأعسر الرجل بالمهر، فهل لها الفسخ؟ تقدم أن لها الفسخ، فإذا فسخت تكون بائناً، والحاصل أن كل فرقة بغير طلاق فهي فرقة بينونة.
ومنها أن تفسخ لعيب الزوج، ومنها أن تفسخ لإعسار في صداق، وله أسباب أخر.
قوله: «أو طلاق» البائن بطلاق، كأن يكون بعوض، أو يكون آخر ما يملك من العدد، والفرق بين من طلقت على عوض وبين من طلق آخر العدد، أن من طلقت آخر العدد لا تحل للمُطلِّق إلاّ بعد زوج، ومن طُلقت على عوض تحل له بعقد جديد، وكلتاهما لا يحل لها التزين للزوج، ولا الخلوة به، ولا أن ينظر الزوج إليها، ولا أن يسافر بها.
قوله: «لها ذلك إن كانت حاملاً» أي: للبائن بفسخ أو طلاق النفقة إن كانت حاملاً، وإن لم تكن حاملاً فلا شيء لها، والدليل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وأما التعليل فلأنها تحمل للمُفارِق جنيناً يجب عليه أن ينفق عليه، ولا طريق إلى الإنفاق على الجنين إلاّ بالإنفاق على أمه، وليس لها كذلك سكنى إلا أن تكون حاملاً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
القول الثاني: أنَّ لها النفقة والسكنى بكل حال سواء كانت حاملاً أم حائلاً، وهو مذهب أبي حنيفة.
القول الثالث: أنَّ لها السكنى دون النفقة، إلاّ أن تكون حاملاً، وهذا مذهب مالك والشافعي.
أما من قال: إن لها النفقة والسكنى بكل حال، فاستدل بعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، و«النساء» عام إلى أن قال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] .
ولكن هذا القول فيه نظر من حيث دلالة الكتاب، ومن حيث معارضته للسنة، وإن كان هذا القول ذهب إليه من ذهب كعمر رضي الله عنه.
أما من حيث دلالة الكتاب فإن الله قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصَوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يُخْرَجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا *} [الطلاق] فهذه الجملة الأخيرة تمنع دخول البوائن في هذا العموم، ووجه المنع أن الأمر الذي يقول الله فيه: {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} هو الرجعة، والبائن ليس لها رجعة.
وأما مخالفته للسنَّة فلأن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، وأرسل إليها بشعير فسخطته، وأبت إلاّ أن يكون لها السكنى، فارتفع الأمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: «إنه ليس لها نفقة ولا سكنى» [(214)]، وفي رواية: «إنما السكنى والنفقة لمن كان لزوجها عليها رجعة» [(215)]، وهذا واضح جداً، لكنهم أجابوا على هذا بأن الله إنما قال: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ}؛ لأنه ربما يطول الحمل فلا ينفق الإنسان إلاّ مقدار ثلاث حيض فقط.
لكن هذا الجواب جواب بارد؛ لأن الحامل لا تزال في عدة حتى تضع الحمل، طالت العدة أم قصرت.
أما الذين قالوا: إن لها السكنى دون النفقة، إلاّ أن تكون حاملاً، فقالوا: إن الآية ظاهرة في ذلك، فأول الآيات لا شك أنه في الرجعية لقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1، 2] ، وهذا التخيير لا يمكن في البائن.
ثم قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا *} [الطلاق] إلى هنا انتهى الكلام على الرجعية، ثم ذكر عدة الحوامل وعدة الآيسات فقال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق] وهذا في البائن، فلها السكنى بكل حال، والنفقةُ إن كانت حاملاً، ولا يدخل فيه الرجعيات هنا؛ لأن الرجعيات ما قال الله: {أَسْكِنُوهُنَّ}، بل قال الله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} بل يبقين في بيوتهن، فإن النهي عن الشيء أمر بضده، فتكون دلالة وجوب السكنى للرجعية من قوله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أوضح من قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} فإن قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} قد يكون لمن ليست في البيت، فيقال لها: تعالي واسكني، أما الرجعية فهي في البيت.
وقالوا: إنما أمر الله بإسكانها في البيت تحصيناً لِمَائِه، ولم يجعل عليه نفقة؛ لأنها بائن منه، فيكون الأمر بالإسكان لا لأنه حق لها، ولكن من أجل تحصين مائه، ولهذا قال العلماء في قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}: «مِنْ» للتبعيض، و«حيث»: ظرف للمكان، يعني أسكنوهن بعض ما سكنتم، أي: عندكم في البيت، ولا تُكَلَّفُونَ أكثر من ذلك، بل من وُسعكم.
ودلالة القرآن على هذا القول قوية جداً، لكن يعكر عليه حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها حيث قال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لك نفقة ولا سكنى» ، وهذا نص صريح.
لكن قد ورد في صحيح البخاري[(216)] أنها رضي الله عنها كانت في بيتٍ وحشٍ، فأرادت الانتقال عنه خوفاً على نفسها، وفي هذه الحال لا يلزم الزوج بأن يستأجر لها ما تسكنه، فيكون معنى قوله: «ليس لك عليه سكنى» ، أي: لا تلزمينه بأن يسكنك في بيت غير البيت الأول، وفي هذا جمع بين الآية الكريمة وبين الحديث، وهذا لا شك أنه ـ في نظري ـ أقرب الأقوال، لأنه ظاهر سياق القرآن، وإن كانت المسألة لم تتضح عندي بعد، ولم أجزم فيها برأي، وإن كان ابن القيم رحمه الله يلح على أن الآيات كلها في الرجعيات، لكنه بعيد جداً؛ إذ أن الرجعية ينفق عليها سواء كانت حاملاً أو حائلاً، والرجعية لا يقال: أسكنها حيث سكنت بل يقال: لا تخرجها من بيتها، فإن صح هذا التوفيق بين القرآن والسنة فالحمد لله، وهو المتبادِر ـ والعلم عند الله ـ وإن لم يصح فإن القول بأنه لا نفقة لها ولا سكنى إلاّ أن تكون حاملاً أقرب من القول بأن لها النفقة والسكنى بكل حال؛ لأن القول بأن لها النفقة والسكنى بكل حال قول ضعيف جداً، وإن كان قد ذهب إليه من ذهب من أكابر السلف.
والعجيب أن أهل التفسير ـ رحمهم الله ـ يمرون على هذه المسألة ولا يذكرون سوى أقوال المذاهب فقط، أي: لا يأتون بالآية ومناقشاتها، وأحسن من رأيت تكلم عليها هو ابن القيم ـ رحمه الله ـ في «الزاد»، لكنه يرجح ما ذهب إليه الإمام أحمد.
مسائل:
الأولى: هل ينفق الزاني على المزني بها إذا حملت من الزنا؟
الجواب: لا ينفق عليها، وهذا لا يستثنى من القاعدة؛ لأن الحمل لا ينسب إلى هذا الزاني.
الثانية: هل تدخل الكسوة في وجوب الإنفاق؟
الجواب: نعم؛ لعموم قوله: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}، ولأنها في الحَرِّ والشتاء ستحتاج إلى الملابس، ولا يمكن أن تعيشَ عارية!
الثالثة: إذا أنفق عليها ثم تبين أنها ليست بحامل فما الحكم؟
الجواب: يرجع عليها بالنفقة.

وَالنَّفَقَةُ لِلْحَمْل لاَ لَهَا مِنْ أَجْلِهِ، وَمَنْ حُبِسَتْ وَلَوْ ظُلْماً، أَو نَشَزَتْ، أَوْ تَطَوَّعَتْ بِلاَ إِذْنِهِ بِصَوْمٍ، ...............................
قوله: «والنفقة للحمل لا لها من أجله» هذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، فمنهم من يقول: إن النفقة للحامل من أجل الحمل.
ومنهم من يقول: إن النفقة للحمل، لا للحامل من أجله، وهل الخلاف معنوي أو لفظي؟ الخلاف معنوي، ولننظر أي القولين أسعد بالدليل؟
الذين قالوا: إن النفقة للحامل من أجل الحمل قالوا: إن الله يقول: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] ، ولم يقل: أنفقوا على الحمل وعلى هذا فتكون النفقة للحامل من أجل الحمل.
والذين قالوا: إنها للحمل، قالوا: إن ما كان علة للحكم يكون هو محل الحكم، وعلة الحكم ليست كونها مُطَلَّقة أو مفسوخةً، بل علة الحكم أن فيها حملاً، فيكون الحكم تابعاً لعلته؛ ولهذا قال تعالى: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} مع أنهن بعد الولادة مباشرة قد يَكُنَّ محبوسات على الحمل للتعب والوجع والإرضاع، ومع ذلك فإذا وضعت الحمل فلا نفقة، فدل هذا على أن النفقة للحمل، لا لها من أجله.
ويدل على ذلك أيضاً أنها إذا لم تكن حاملاً فليس لها شيء، فالحمل الذي هو سبب الوجوب تكون النفقة له، وهذا القول أرجح، لكنه لما كان لا طريق لنا إلى إيصال النفقة إلى الحمل إلاّ عن طريق تغذيته بالأم، صار الواجب الإنفاق على هذه الأم من أجل الحمل، والقاعدة في ذلك أن كل إنسان ينسب إليه حمل امرأة يجب عليه الإنفاق عليها، سواء كانت زوجة أم غير زوجة، وبناء على ذلك لو وطئ امرأة بشبهة وحملت منه وجب عليه الإنفاق، ولو أنه أعتق أمته بعد أن حملت منه وجب عليه الإنفاق، مع أنه إذا أعتقها زال سبب وجوب النفقة؛ لأنها ليست زوجة ولا مملوكة، لكن من أجل أن الحمل الذي في بطنها له.
ويترتب على هذا الخلاف أمور، منها:
زكاة الفطر، مثاله : امرأة بائن حامل مر عليها رمضان وجاء العيد فالذي ينفق عليها الزوج، فهل يجب عليه فطرة الحامل؟
ينبني على الخلاف، إذا قلنا: إنَّ النفقة للحمل، لم تجب عليه الفطرة، وإذا قلنا: إن النفقة لها وجبت عليه الفطرة؛ لأن الحمل لا يجب إخراج الفطرة عنه، وإنما يستحب، على خلاف في ذلك، أما إن قلنا: إن النفقة للأم، فالأم حية تأكل وتشرب، فيجب عليه فطرتها.
ومنها لو كانت الزوجة ناشزاً وهي حامل فهل لها نفقة؟ ينبني على الخلاف، إن قلنا: النفقة للحمل وجب لها النفقة؛ لأن الحمل ليس بناشز، وإن قلنا: إن النفقة لها، سقطت نفقتها؛ لأنها ناشز.
قوله: «ومن حبست ولو ظلماً» الحبس إما أن يكون بحق يمكنها الخلاص منه، أو لا، فإن كان بحق، وكانت ظالمة يمكنها أن تتخلص منه، فلا شك أن نفقتها تسقط، كأن تكون مدينة لشخص، وهي غنية وما طالت، فشكاها فحبست بحق، فهذه تسقط نفقتها؛ لأنها لو شاءت لتخلصت.
لكن لو حبست ظلماً، كأن تكون اتهمت بشيء ـ مثلاً ـ وهي بريئة، فالمذهب أنها تسقط نفقتها، والصحيح أنها لا تسقط؛ لأن تعذر استمتاعه بها ليس من قبلها، فيكون كما لو تعذر استمتاعه بها لمرض أو نحو ذلك.
قوله: «أو نشزت» النشوز لغة من النَّشَز هو الارتفاع، وفي الشرع: معصية الزوجة زوجها فيما يجب عليها، ومن ذلك إذا كانت تأبى إذا دعاها إلى فراشه، أو تأبى إذا منعها من الخروج، أو تأبى إذا ألزمها بالحجاب الشرعي الإسلامي، وهو أن تغطي المرأة جميع بدنها من وجه ورأس وكفين.
قوله: «أو تطوعت بلا إذنه بصوم» ولو كان هذا الصوم تابعاً لفريضة كصوم ست من شوال.
والصوم مطلق، ومقيد بزمن، ومقيد بفريضة، فالمقيد بفريضة مثل: صيام ست من شوال، والمقيد بزمن كيوم عرفة، ويوم عاشوراء، ويمكن أن نجعل منه صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والمطلق بقية الصيام غير المقيد، فالمرأة إذا تطوعت بأي شيء من هذه الأقسام بغير إذن الزوج فإنه ليس لها نفقة.
وظاهر كلام المؤلف سواء كان في حضور الزوج أم في غيبته، أما إذا كان في حضوره فقد يقال: إن ما ذكره المؤلف وجيه؛ لأنها إذا صامت سوف تمنعه من كمال الاستمتاع، وإذا قدر أنها لا تمنعه؛ لأن له أن يستمتع بها ولا يفسد صومها، فإن ذلك قد يُلحقه حرجاً؛ إذ إنه قد يتحرج من أن يفسد عليها صومها، وإن كان له الحق في أن يفسده.
فأقول: إذا كان حاضراً، وتطوعت بالصوم بغير إذنه فإن سقوط نفقتها ظاهر، لكن إذا كان غائباً فإنه لا تسقط النفقة؛ لأنه في هذه الحال لا تفوت عليه مقصوده، فقد يقيد كلام المؤلف بذلك، فيقال: بحضوره، وقد يؤيد هذا التقييد قوله: «بلا إذنه» ؛ لأن الغالب أن الزوج إذا كان غائباً ألاّ تستأذنه، اللهم إلا إذناً عاماً إذا أراد أن يسافر قالت له: تسمح لي أن أصوم تطوعاً، فيُمْكِن.
والإذن نوعان:
الأول: لفظي، بأن يأذن لها لفظاً.
الثاني: عرفي، وهو الإقراري بأن يراها تصوم تطوعاً ولا يمنعها، فإن هذا دليل على أنه راضٍ بذلك، وإن كان الأفضل أن تستأذنه بلا شك؛ لأنه قد يرضى مجاملة وخجلاً.

أَوْ حَجٍّ، أَوْ أَحْرَمَتْ بِنَذْرِ حَجٍّ أَوْ صَوْمٍ، أَوْ صَامَتْ عَنْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءِ رَمَضَانَ مَعَ سِعَةِ وَقْتِهِ، أَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا وَلَوْ بإِذْنِهِ سَقَطَتْ، وَلاَ نفَقَةَ وَلاَ سُكْنَى لِمُتَوفًّى عَنْهَا، وَلَهَا أَخْذُ نَفَقَةِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِهِ لاَ قِيمَتُهَا،......................
قوله: «أو حج» أي: كذلك إذا أحرمت بحج وهذا أشد من الصوم من عدة أوجه:
الأول : أنه يحتاج إلى سفر.
الثاني : أنه يلزم فيه الإتمام.
الثالث : أنه لا يجوز فيه الجماع، ولا مقدماته، بخلاف الصوم، فإن مقدمات الجماع تجوز فيه، فهي إذاً ستمنع زوجها من أشياء كثيرة.
فإذا أحرمت بحج تطوع بغير إذنه فإنها تسقط نفقتها، لكن الغالب أن ذلك لا يقع، وأنها لن تسافر إلى مكة بدون إذنه، ولو تطوعت بعمرة فإنه مثله، والقاعدة أن المرأة إذا تلبست بعبادة تمنعه من كمال الاستمتاع فإنها تسقط نفقتها.
ولو تطوعت بصلاة بلا إذنه فهل نقول: تسقط نفقتها، أو نقول: إن زمنها قصير؟ ظاهر كلام المؤلف أن الصلاة ليست كالصوم والحج؛ وذلك لقصر وقتها.
وعُلم من قوله: «بلا إذنه» أنه لو فعلت ذلك بإذنه، لم تسقط النفقة؛ لأنه أذن لها، وفوّت على نفسه الاستمتاع.
قوله: «أو أحرمت بنذر حج» فتسقط نفقتها؛ لأنها هي السبب في إيجاب ذلك عليها.
مثاله : امرأة نذرت أن تحج فيلزمها أن توفي بنذرها، فقالت لزوجها: إني نذرت أن أحج هذا العام، فقال: لا تحجي، فحجَّتْ، فليس لها النفقة؛ لأنها هي السبب في وجوب ذلك عليها.
فإن أذن لها بالنذر فليس لها النفقة على المذهب، والصحيح أن لها النفقة، فمثلاً قالت: أنا إن شفاني الله من مرضي، أو شفى ولدي من مرضه أحب أن أنذر لله تعالى حجة، فقال: لا مانع، فهنا يجب عليه أن ينفق عليها؛ لأنه أذن لها بالنذر.
وكل شيء يكون هو السبب في منع نفسه من الاستمتاع فإن هذا لا تسقط به النفقة.
وقال بعض العلماء: إذا تطوعت المرأة بالصوم فإنه يجب عليه الإنفاق، وعللوا ذلك بأنه يمكنه أن يُفَطِّرَها.
ولكن تقدم لنا أن الراجح أن نفقتها تسقط؛ لأن الزوج قد يتحرج من إفساد صومها إذا صامت، ولأن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلاّ بإذنه» [(217)]، يدل على أنها عاصية في هذا فلا ينبغي أن تقابل بالرخصة.
قوله: «أو صوم» «صوم» معطوفة على حج، فيكون المعنى أو أحرمت بنذر صوم، وهنا هل نقدر الفعل على حسب المعطوف عليه، ونقول: أحرمت بنذر صوم، أو نقدِّره بما يناسب؟
نقول: إن كان يصلح أن أقول: أحرمت بالصوم، أي: دخلت في حرماته وبما يحرم به، صح أن نجعلها معطوفة على كلمة (حج)، والعامل واحد، وإن كان لا يصح فإنه لا بد أن نقدر لقوله: «أو صوم» فعلاً مناسباً، كأن نقول: أو شرعت بنذر صوم، ونظير هذا قول الشاعر:
علفتها تبناً وماءً بارداً
أي: علّف بعيره أو ماشيته تبناً، والتبن يعلَّف، لكن الماء البارد لا يعلف فيكون التقدير: وسقيتها ماءً بارداً.
قوله: «أو صامت عن كفارة» إذا صامت عن كفارة فإنها تسقط نفقتها؛ لأنها السبب في وجوب الكفارة عليها، وقال بعض أهل العلم: لا تسقط النفقة؛ لأن الكفارة حق واجب لله تعالى، ولا يخلو أحد من الخطأ، فربما تقتل صبيها خطأً فيجب عليها صيام شهرين متتابعين، وربما تحلف على يمين بناء على أنها ستبر بها ثم تحنث، وهذا أمر معتاد ويقع كثيراً، فكيف نقول بسقوط نفقتها؟! فالصواب أنه لا تسقط نفقتها بالكفارة، بخلاف النذر؛ لأن النذر هي التي عقدته، وهو منهي عنه في الأصل.
قوله: «أو قضاء رمضان مع سعة وقته» إذا صامت عن قضاء رمضان فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون الوقت متسعاً.
الثانية: أن يكون الوقت ضيقاً، وهذا إذا بقي من شعبان بمقدار ما عليها من رمضان، كأن يكون عليها صيام عشرة أيام من رمضان واليوم هو التاسع عشر من شعبان، ففي هذه الحال إذا صامت لا تسقط نفقتها؛ لأن الوقت مضيق.
أما في الوقت الموسع فتسقط نفقتها، فإن بقي من الأيام ضِعف ما عليها من الأيام سقطت نفقتها في جميع أيامها، وإن بقي عليها أقل سقطت نفقتها بمقدار الزائد.
مثاله : إذا كان بقي على رمضان خمسة عشر يوماً، وعليها صيام عشرة أيام، وصامت، فهنا يسقط من نفقتها خمسة أيام، وإن كان بقي عشرون يوماً، أو أكثر سقطت النفقة كلها، قالوا: لأنه بإمكانها أن تؤخر إلى أن يضيق الوقت.
ولكن هذا تعليل عليل للآتي:
أولاً: أن قضاء رمضان أمر لا بد منه وكونه موسعاً فهو كالصلاة، فلو أنها قامت تصلي في أول الوقت فلا تسقط نفقتها، ولا نقول: تسقط نفقتها إلا إذا ضاق الوقت، فكذلك الصيام.
ثانياً: أن قضاء هذه الأيام لا بد منه، وإذا كان لابد منه فسواء فعلته في أوله أو آخره.
ثالثاً: أنَّ الأفضل في مثل هذه العبادة أن تبادر بها، وهذا أريح لها وأشد اطمئناناً لقلبها.
فالصواب أنه إذا صامت لقضاء رمضان لا تسقط نفقتها، سواء كان ذلك مع سعة الوقت أو ضيقه، وهذا قول في مذهب الإمام أحمد.
وكل ما سبق فيما لو كان بدون إذن الزوج، أما مع إذنه فإنه لا تسقط نفقتها؛ لأنه هو الذي رضي بنقص استمتاعه من زوجته، والحق له.
قوله: «أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه سقطت» إذا سافرت فلا تخلو من أحوال:
الأولى: أن يكون السفر لحاجته هو.
الثانية: أن يكون لحاجتها هي.
الثالثة: أن يكون لحاجتهما جميعاً.
الرابعة: أن يكون لحاجة غيرهما، كحاجة أبيها مثلاً.
الخامسة: أن يكون عبثاً، وهذا بعيد، لكن لا يمنعه العقل.
فإن سافرت لحاجته فنفقتها باقية؛ لأنها سافرت من أجله ومن مصلحته، أما إذا سافرت لحاجتها بغير إذنه سقطت النفقة؛ لأنها منعته من الاستمتاع، فإن قالت الزوجة: أنا لم أمنعه من السفر، إن شاء فليسافر معي، نقول: هو لا يريد السفر، وليس من العادة أن الزوج يتبع زوجته، فإذا سافرت سافر، وإذا أقامت أقام.
فإن سافرت لحاجتها بإذنه، كأن تقول له: أريد أن أراجع الطبيب، أو أذهب لأختبر في كلية أخرى في الرياض ـ مثلاً ـ فأذن لها الزوج، فكذلك تسقط نفقتها، وهذا قول ضعيف.
والصواب أنه إذا أذن فإن نفقتها باقية؛ لأنه هو الذي وافق.
وإذا كان السفر لحاجة غيرهما، كأن تريد السفر مع أمها لتمرضها فإن نفقتها تسقط، فإن أذن الزوج فالصحيح أنها لا تسقط.
والمهم أن الاستمتاع حق للزوج، فإذا أسقطه فحقوق الزوجة لا تسقط به؛ لأنه لو شاء لقال: لا، فإذا قال: لا، فحينئذٍ إما أن تطيعه، وإما أن تعصيه، فإن عصته فهي ناشز، ولا نفقة لها، وإن أطاعته بقيت نفقتها.
وإن كان السفر لحاجتهما فإنها لا تسقط النفقة؛ لأنه أذن بذلك ولأنه لم تتمحض المصلحة لها.
والخلاصة ـ على الأرجح ـ أن الأصل وجوب النفقة بمقتضى العقد، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» [(218)]، وهذا الأصل لا يمكن سقوطه إلا بمقتضى دليل شرعي، والدليل الشرعي هو أن يقال: هذه النفقة في مقابل الاستمتاع، فمتى فوتت المرأة الاستمتاع أو كماله على الزوج بدون رضاً منه سقطت نفقتها، ومتى لم تفوته إلاّ بإذنه فإنها لا تسقط؛ لأنه راضٍ بذلك، هذه هي القاعدة التي هي مقتضى الأدلة الشرعية.
قوله: «ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها» هذا هو القسم الثالث الذي أشرنا إليه في أول الفصل حين قلنا: إن المعتدات ثلاثة أقسام: قسم لها السكنى والنفقة بكل حال وهي الرجعية، وقسم ليس لها نفقة ولا سكنى إلاّ إن كانت حاملاً، وهي البائن في الحياة، وقسم ليس لها نفقة ولا سكنى مطلقاً وهي المتوفى عنها، وهي البائن بالموت.
وهل نقول في الميت: «مُتَوَفًّى» اسم مفعول، أو نقول: « مُتَوفٍّ» اسم فاعل؟ الأصل أن يقال: متوفًّى؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] ، وقوله: {قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] فالميت متوفًّى، ويمكن أن يقال: متوفٍّ، بمعنى أنه استوفى أجله ورزقه.
فالمتوفى عنها زوجها لا نفقة لها، ولا سكنى، ولو كانت حاملاً، أما إذا لم تكن حاملاً فالأمر ظاهر؛ لأنها بانت، وأما إن كانت حاملاً فلا نفقة لها أيضاً.
فإن قيل: أي فرق بينها وبين البائن في حال الحياة؟
الجواب: أن البائن في حال الحياة ـ إذا كانت حاملاً ـ أوجبنا الإنفاق على زوجها في ماله، وأمَّا المتوفى عنها زوجها فالمال انتقل للورثة فكيف نجعل النفقة في التركة؟! فنقول: لا نفقة لها وإن كانت حاملاً.
فإن قيل: ماذا نصنع فيما إذا حملت، وقد قلنا فيما سبق: إن النفقة للحمل، لا لها من أجله؟
يقولون: إن النفقة تجب في حصة هذا الجنين من التركة، فإن لم يكن تركة، كأن يموت أبوه ولا مال له، فإن النفقة تجب على من تلزمه نفقته من الأقارب، كأن يكون له إخوة أغنياء أو أعمام.
قوله: «ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله» «لها» الضمير يعود على الزوجة، والرجعية، والبائن في الحياة إن كانت حاملاً، فيكون المعنى أن لكل من لها النفقة من هؤلاء الثلاث نفقة كل يوم من أوله، فيأتيها بالفطور، والغداء، والعشاء، من أول اليوم، يعني إذا طلعت الشمس تقول لزوجها: أريد الفطور، والغداء، والعشاء، الآن!
لكن هذا قول بعيد من الصواب، بعيد من قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] لأنه ليس من المعروف أن تطلب المرأة الفطور والغداء والعشاء في أول النهار، ولهذا لو قال لها الزوج: سآتي بالفطور والغداء والعشاء في هذا الوقت، لقالت: لا؛ لأنه سيفسد علي، فإن أصرَّ على الإتيان بها أول النهار فعلى المذهب له ذلك، والصواب في هذه المسألة أنه يرجع في ذلك إلى العرف، فهذا الذي دل عليه القرآن والسنة، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» [(219)].
قوله: «لا قيمتها» يعني ليس لها قيمة النفقة، فلو قالت الزوجة: أريد القيمة، فثمن الفطور ريال ونصف، والغداء ريالان، والعشاء ريالان، فالجميع خمسة ريالات ونصف أعطنيها، فإنه ليس لها ذلك.

وَلاَ عَلَيْهَا أَخْذُهَا، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى تَأْخِيرِهَا، أَوْ تَعْجِيلِهَا مُدَّةً طَويلَةً أَوْ قَلِيلَةً جَازَ، وَلَها الْكِسْوَةُ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فِي أَوَّلِهِ، وَإِذَا غَابَ وَلَمْ يُنْفِقْ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ مَا مَضَى، وَإِنْ أَنْفَقَتْ في غَيْبَتِهِ مِنْ مَالِهِ فَبَانَ مَيْتاً غَرَّمَهَا الْوَارِثُ مَا أَنْفَقَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
قوله: «ولا عليها أخذها» يعني لو أتى هو بالدراهم، وقال: أنا مشغول ولا أستطيع أن آتي بالفطور والغداء والعشاء، ولكن خذي الدراهم، فهل يجب عليها أن تأخذ المال؟ لا يجب عليها، بل ما لها إلا الطعام والشراب، وبهذا نعرف أن ما ذكر الله عزّ وجل من إطعام المساكين في كفارة الظهار، وكفارة اليمين، وفدية الصوم، أن الواجب الإطعام، وأن الدراهم لا تجزئ.
لكن لو جرى العرف بأن الرجل يعطي زوجته قيمة النفقة فهنا لا بأس، لكن المحظور أن يُلزِم الحاكمُ أو القاضي الزوجَ بالقيمة.
وقد أنكر ابن القيم هذا إنكاراً عظيماً، وقال: ليس في الكتاب ولا في السنة أن تلزم المرأة الزوج بالقيمة، إلاّ أن صاحب الفروع رحمه الله قال: يتوجه الجواز عند الشقاق، أي: عند الشقاق بين الزوجين، أي: فإذا اضطر الحاكم إلى أن يفرض النفقة بالقيمة؛ ليرفع الشقاق والنزاع بينهما فلا بأس؛ لأنه لو فرض النفقة خبزاً، وتمراً، ولحماً، وما أشبه ذلك، فإنه يستمر الشقاق؛ لأنه قد يأتيها بخبز من أحسن الخبز، وتقول: هذا لا أريده، هذا مخبوز منذ يومين، مع أنه لم يخبز إلاّ تلك الساعة، أو يأتيها بالتمر فتقول: أنا لا أريد تمراً مبرداً، أو يأتيها باللحم فتقول: لا أريد هذا اللحم، أنا لا آكل لحم الجمل، أريد لحم غنم، أو لحم دجاج، فهنا إذا اضطر الناس إلى أن يفرض الحاكم النفقة من الدراهم فما قاله صاحب الفروع رحمه الله متوجِّه؛ لأن فيه فضّاً للنزاع والشقاق، ولهذا قال في «الروض»: «ولا يملك الحاكم فرض غير الواجب ـ كدراهم ـ إلاّ بتراضيهما»[(220)].
قوله: «فإن اتفقا عليه» أي: على أخذ القيمة.
قوله: «أو على تأخيرها أو تعجيلها مدة طويلة أو قليلة جاز» لأن الحق لا يعدوهما، فإذا رضيت بما تشاء ووافق فلا حرج، فلو اتفقا على أن يسلمها كل يوم عشرة ريالات بدلاً عن النفقة جاز، أو اتفقا على أنه يسلمها في أول كل شهر ثلاثمائة ريال، أو يسلمها آخر كل شهر ثلاثمائة ريال فإنه جائز ولو أسقطت النفقة عنه جاز؛ لأن الحق لها.
قوله: «ولها الكسوة كل عام مرة في أوله» أي: أول العام، فإذا دخلت السنة كساها، لكن ما المراد بأول العام هل هو شهر محرَّم؛ لأنه أول شهر في السنة، أو المراد أولُ عامٍ حصل فيه الزواج ووجوب النفقة؟ الظاهر أن المراد الأخير، لكن لو كان المراد الأول، وقد عقد عليها في نصف السنة فيعطيها في نصف السنة نصف الكسوة، فإذا جاء شهر محرَّم أعطاها كسوة كاملة للعام المقبل، لكن الصحيح الذي يظهر أننا نعتبر العام من حين العقد، كما أننا نعتبر عقد الأجرة فيما لو استأجر إنسانٌ بيتاً لمدة سنة فتبتدئ من العقد، سواء في نصف العام الهجري أو آخره.
وقوله: «الكسوة» ماذا يعطيها من الكسوة؟ إذا كنَّا في الصيف فيعطيها كسوة الصيف والشتاء، وإذا كنَّا في الشتاء يعطيها كسوة الشتاء والصيف جميعاً، ولها أن تلزمه بهذا، بمعنى أننا لو كنَّا في الصيف فقالت: أنا أريد ثلاثة أثواب للصيف، وعشرة أثواب للشتاء، وأريدها الآن، فإن لها أن تلزمه بذلك.
مسألة : لو دخل عام جديد وكسوتها للعام الماضي باقية، فهل تُلزِمه بكسوة جديدة؟
المذهب أنها تُلزِمه؛ لأن المؤلف يقول: «ولها الكسوة في كل عام مرة في أوله» ولم يقل: لها الكسوة إن صارت الأولى خلِقَة ولا تصلح للاستعمال، بل وأبلغ من ذلك يقول الأصحاب ـ رحمهم الله ـ: إن الغطاء والفراش وما أشبه ذلك يجدد لها كل سنة مع الكسوة.
ولكن هذا قول ضعيف، والصواب أن نرجع في ذلك إلى ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الإنفاق بالمعروف، وليس هذا من المعروف، فليس من المعروف أن يأتي الإنسان لزوجته بالثياب مع صلاحية الثياب الأولى للاستعمال، والعادة والعرف أنه كلما صارت الثياب لا تصلح للاستعمال جدَّدها الزوج؛ ولهذا لو أن هذه الثياب احترقت قبل أن تتم السنة فعلى المذهب لا يلزم الزوج بشراء كسوة جديدة إلاّ في بداية العام، وعلى القول الراجح يلزمه، اللهم إلاّ إذا كانت الزوجة قد تعدَّت أو فرَّطت، فقد نقول: لا يلزمه، أو كانت امرأة كلَّما ظهرت أثواب جديدة قالت لزوجها: أريد منها فهنا لا يلزمه.
فالصحيح أن المرجع إلى العرف، وأنه متى كانت المرأة محتاجة إلى الكسوة أو النفقة تبذل لها.
إن استغنت بكسوة قديمة أو بغيرها، كأن يكون لها أقارب وأصحاب أعطَوْها كسوة ودخل العام وعندها هذه الكسوة، فلا يلزم الزوج بشراء كسوة جديدة، إلاّ إذا قالت: أنا أريد بيع ما جاءني من الهدايا، وأطالبك بكسوة جديدة، فلها ذلك.
قوله: «وَإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى» مثاله: رجل قال لزوجته: سأسافر لمدة شهر واحد، وأعطاها نفقة شهر، لكنه بقي في سفره شهرين أو ثلاثة، ثم رجع فلا تسقط النفقة بمضي الزمان، بل يلزمه نفقة ما مضى، فإذا أنفقت على نفسها فإنها ترجع على زوجها بما أنفقت؛ لأنه مطالب بالنفقة، إلاّ إذا أنفقت على نفسها تبرعاً، وقالت: أنا أسامحه فيما مضى، فهو حق لها، ولها أن تسقطه.
وهذا بخلاف نفقة الأقارب، فإنه لو غاب عن قريبه ولم ينفق لم يلزمه نفقة ما مضى، وفرقوا بينهما بأن نفقة الأقارب لدفع الحاجة، ونفقة الزوجة من باب المعاوضة، والمعاوضة لا تسقط بمضي الزمان، بخلاف ما كان لدفع الحاجة، فهذا القريب اندفعت حاجته وانتهى.
قوله: «وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً غرَّمها الوارث ما أنفقته بعد موته» مثاله: رجل غاب عن زوجته وتوفي، ولم تعلم الزوجة بوفاته، وبقيت بعد موته تنفق من المال، فللوارث أن يضمنها كل ما أنفقته بعد موته.
فإذا قالت: أنا لا أدري، والأصل بقاء حياته، قلنا: هذا صحيح، ولكنه لا يوجب سقوط الضمان عنك، وإنما يوجب سقوط الإثم من الإنفاق من مال الورثة بدون إذنهم؛ لأنك لا تعلمين، ولأن هذا حق آدمي، وحقوق الآدميين لا فرق فيها بين الجاهل والعالم إلاّ في الإثم فقط، وأما في الضمان فإنها تضمن.



[213] علقه البخاري في الشروط، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/211)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/499)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/249)، والأثر وصله الحافظ في تغليق التعليق (3/403)، وصححه الألباني كما في الإرواء (6/302).
[214] أخرجه البخاري في الطلاق/ باب قصة فاطمة بنت قيس... (5321)، ومسلم في الطلاق/ باب المطلقة البائن لا نفقة لها (1480) (37) عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، واللفظ لمسلم.
[215] أخرجه النسائي في الطلاق/ باب الرخصة في ذلك (6/144) عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
[216] في الطلاق/ باب قصة فاطمة بنت قيس.. (5325) عن عائشة رضي الله عنها.
[217] أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد... (5195)، ومسلم في الزكاة/ باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026) عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
[218] سبق تخريجه ص(458).
[219] سبق تخريجه ص(458).
[220] الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/119).


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المطلقة, نفقة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:38 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir