بابُ عِشْرَةِ النِّساءِ
مُقَدِّمَةٌ
العِشْرَةُ: بكسرِ العينِ وسكونِ الشينِ المُعجمَةِ وهي المُخالَطَةُ والمُصاحَبَةُ, من العَشيرَةِ، قالَ تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
وشَرْعاً: هي ما يَكُونُ بينَ الزوجيْنِ مِن الأُلْفَةِ، والوِئَامِ، والمَحَبَّةِ، وحُسْنِ الصُّحبةِ والعِشْرَةِ، وقدْ جاءَ الحَثُّ عليها، والأمرُ بها، والترغيبُ فيها، بنصوصِ الكتابِ العزيزِ، والسُّنةِ المُطَهَّرَةِ:
قالَ تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقالَ تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].
وقالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)).
أَمَّا حَقُّه عليها فقالَ تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34].
وقالَ تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
وقالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَوْ أَمَرْتُ أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)).
فيَلْزَمُ كلَّ وَاحِدٍ مِن الزوجيْنِ مُعاشَرَةُ الآخرِ بالمَعروفِ، فلا يَمْطُلُه حَقَّه، ولا يَتَكَرَّهُ لبَذْلِه، ولا يُتْعِبُه(1) أَذًى ومِنَّةً، فيَحْرُمُ المَطْلُ بما يَلْزَمُ والتَّكَرُّهُ، ويَجِبُ بَذْلُ الواجبِ والحقِّ المشروعِ.
قالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: حُقوقُ الزوجِ على زوجتِه أنْ تُجِلَّه وتُوقِّرَه، وأنْ تُعاشِرَه بالحُسْنَى، وأنْ تُطِيعَه في غيرِ مَعْصيةِ اللهِ، وأنْ تُجِيبَ مطالِبَه العَادِلَةَ، ورغَباتِه المُمْكِنَةَ، وأنْ تُشارِكَه في أفراحِه وأتراحِه، وأنْ تَحْفَظَه في نَفْسِها ومالِه، وأنْ تَصُونَ بَيْتَه، فلا تُدْخِلَه أَجْنَبِيًّا، ولا تَخْرُجَ منه إلاَّ بإذْنِه, وألاَّ تَتَزَيَّنَ لسِوَاهُ، وتَتَجَنَّبَ ما يُغْضِبُه، وألاَّ تُلِحَّ عليهِ في طَلَبٍ مُرْهِقٍ.
وأنْ تُحافِظَ على كرامةِ أَهْلِه، وأنْ تَقومَ بخِدْمَةِ أولادِهما، وأنْ تُعِينَه على ما أمْكَنَ عندَ مرضِه أو عَجْزِه، وألاَّ تُنْكِرَ خَيْرَه وبِرَّه.
وأَمَّا حُقوقُ الزوجةِ على الزوجِ فأنْ يُعاشِرَها بالمعروفِ، ويُعامِلَها بالإحسانِ، ويَحْفَظَ حُرْمَتَها، ويُراعِيَ رَاحَتَها وفِطْرَتَها، ويُعِينَها في خِدْمَةِ بيتِها، ويُشارِكَها في سُرورِها وحُزنِها، ويُقابِلَها بطلاقَةٍ وبَشاشَةٍ، ويُخاطِبَها برِفْقٍ ولِينٍ، ويُوَسِّعَ في الإنفاقِ عليها، ويَصونَ شُعورَها، ويَرْعَى أهلَها، ويَحْفَظَ كَرامَتَها، ولا يَمْنَعَها عنهم، ولا يُكَلِّفَها مِن الأُمورِ ما لا تُطِيقُ، ولا يَحْرِمَها ما تَطْلُبُ مِن المُمْكِنَاتِ المُباحَةِ، ويُشْرِكَها في المصالِحِ المُشْتَرَكَةِ، ويُعَلِّمَها إنْ جَهِلَتْ طَاعَةَ اللهِ، أو أَهْمَلَتْ، ويَحْلُمَ إنْ غَضِبَتْ، ولا يَحْرِمَها حَقًّا مَشْرُوعاً لها، ويَرْعَى حُرِّيَّتَها ضِمْنَ نِطاقِ الشرعِ والدِّينِ، ويَتَحَمَّلَ الأذَى عنها، ويُعْنَى بمداواتِها إنْ مَرِضَتْ.
878- عن أبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ ـ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِِ وسلَّمَ: ((مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا)). رَواهُ أبو دَاوُدَ، والنَّسائِيُّ واللفظُ له، ورجالُه ثِقاتٌ، لكنْ أُعِلَّ بالإرسالِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرَجَةُ الحديثِ:
الحديثُ صَحِيحٌ.
رواهُ الشافِعِيُّ، وقَوَّاهُ، وأَخَذَهُ عنه البَيْهَقِيُّ، والطَّحَاوِيُّ، والخَطَّابِيُّ، وسَنَدُه صَحِيحٌ، وله طَرِيقٌ أُخْرَى جَيِّدَةٌ، كما قالَ المُنذرِيُّ، وهذه الطُّرُقُ عندَ النَّسائِيِّ، والطحاويِّ، والبَيْهَقِيِّ، وابنِ عَسَاكِرَ، وصَحَّحَه ابنُ حِبَّانَ، وابنُ حَزْمٍ، ووافَقَهما الحافِظُ في (فتحِ الباري).
879- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما ـ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا)). رواهُ التِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابنُ حِبَّانَ، وأُعِلَّ بالوَقْفِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرَجَةُ الحديثِ.
الحديثُ حَسَنٌ.
هذا الحديثُ بلَفْظِه جاءَ مِن طُرُقٍ كثيرةٍ عن جماعةٍ مِن الصحابةِ، منهم عُمَرُ، وعليٌّ، وابنُ مَسْعودٍ، وجابِرٌ، وابنُ عَبَّاسٍ، وابنُ عُمَرَ، والبَرَاءُ، وأَنَسٌ وأبو ذَرٍّ، وعُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ، وعليُّ بنُ طَلْقٍ، وطَلْقُ بنُ عَلِيٍّ.
وهذه الطرُقُ كلُّها فيها كلامٌ، ولكنْ معَ كَثْرَةِ الطرُقِ، واختلافِ الرواةِ، يَشُدُّ بَعْضُ طُرُقِها بَعْضاً، فهو حَسَنٌ أو صحيحٌ، وقدِ احتجَّ به ابنُ حَزْمٍ.
* ما يُؤْخَذُ من الحديثيْنِ:
1- يَدُلُّ الحديثانِ على تحريمِ إِتْيانِ النساءِ في أدْبارِهِنَّ، وإلى هذا الحديثِ ذَهَبَتِ الأُمَّةُ. لقولِهِ تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} [البقرة: 222]، ولهذيْنِ الحديثيْنِ اللذَيْنِ استفاضَتْ طُرُقُهما؛ ولأنَّ الأصلَ في الفُروجِ الحُرْمَةُ إلاَّ ما أَمَرَ اللهُ به، وأَذِنَ فيه.
2- أَمَّا الاسْتمتاعُ من الزوجةِ بما دُونَ دُبُرِها من جَسَدِها فهو جَائِزٌ، فقَدْ جَاءَ في الصحيحيْنِ عَن عَائِشَةَ قالَتْ: (كَانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ، فيُبَاشِرُني وأَنَا حَائِضٌ).
وأمْرُه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَائِشَةَ بالاتِّزَارِ للمُباشرةِ وَقْتَ الحيضِ اتِّقاءً للفَرْجِ.
3- فالحديثانِ يَدُلاَّنِ على أنَّ إتيانَ المرأةِ في دُبرِها من كبائرِ الذنوبِ؛ لأن اللَّعْنَ لا يَكُونُ إلاَّ على كبيرةٍ.
4- قالَ ابنُ القَيِّمِ في (الطبِّ النبويِّ) ما خُلاصَتُه: دَلَّتِ الآيةُ الكريمةُ على تَحْريمِ الوطءِ في دُبُرِها من وُجوهٍ:
أحدُها: أنه أَبَاحَ إِتْيانَها في مَوْضِعِ الوَلَدِ، فقالَ تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} [البقرة: 222] لا في الحُشِّ الذي هو مَوْضِعُ الأَذَى.
الثاني: للمَرْأَةِ حقٌّ على الزوجِ في الوَطْءِ، والوَطْءُ في دُبُرِها يُفَوِّتُها حَقَّها، ولا يَقْضِي وَطَرَها، ولا يَحْصُلُ مَقْصُودُها.
الثالثُ: الوَطءُ بالدُّبُرِ مُضِرٌّ بالرجُلِ؛ ولهذا يَنْهَى عنه عُقلاءُ الأَطِبَّاءِ.
الرابِعُ: يُوجِبُ النُّفْرَةَ والتباغُضَ بينَ الفاعِلِ والمَفعولِ به.
واسْتَطْرَدَ رَحِمَهُ اللهُ في ذِكْرِ المَضارِّ والمفاسِدِ التي تَجْلُبُها هذه الفَعْلَةُ الشَّنيعَةُ.
(1) لعلها : " يُتْبِعُه ".