دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 01:59 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي القول في الصفات كالقول في الذات

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْأَصْلِ الثَّانِي - وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الذَّاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لاَ فِي ذَاتِهِ، وَلاَ فِي صِفَاتِهِ، وَلاَ فِي أَفْعَالِهِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً لاَ تُمَاثِلُ الذَّوَاتِ، فَالذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتٍ حَقِيقَةً لاَ تُمَاثِلُ صِفَاتِ سَائِرِ الذَّوَاتِ.
فَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟
قِيلَ لَهُ - كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا -: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنِ الكَيْفِيَّةِ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَمَّا لاَ يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ، وَلاَ يُمْكِنُهُمِ الْإِجَابَةُ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؟
قِيلَ لَهُ: كَيْفَ هُوَ؟
فَإِذَا قَالَ: أَنَا لاَ أَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ.
قِيلَ لَهُ: وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نُزُولِهِ، إِذِ الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ، وَهُوَ فَرْعٌ لَهُ، وَتَابِعٌ لَهُ. فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِه وَتَكْلِيمِهِ وَنُزُولِهِ وَاسْتِوَائِهِ، وَأَنْتَ لاَ تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ
وَإِذَا كُنْتَ تُقِرُّ بِأَنَّ لَهُ ذَاتًا حَقِيقَةً، ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسْتَوْجِبَةً لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، لاَ يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ، فَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ، وَكَلاَمُهُ وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لاَ يُشَابِهُهُ فِيهَا سَمْعُ الْمَخْلُوقِينَ وَبَصَرُهُمْ، وَكَلاَمُهُمْ وَنُزُولُهُمْ وَاسْتِوَاؤُهُمْ.
وَهَذَا الْكَلاَمُ لاَزِمٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي تَأْوِيلِ السَّمْعِيَّاتِ، فَإِنَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا، وَنَفَى شَيْئًا بِالْعَقْلِ، إِذَا أَلْزَمَ فِيمَا نَفَاهُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَظِيرَ مَا يُلْزِمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحْذُورِ فِي هَذَا وَهَذَا لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا فَرْقًا.
وَلِهَذَا لاَ يُوجَدُ لِنُفاةِ بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ - الَّذِينَ يُوجِبُونَ فِيمَا نَفَوْهُ إِمَّا التَّفْوِيضَ، وَإِمَّا التَّأْوِيلَ الْمُخَالِفَ لِمُقْتَضَى اللَّفْظِ - قَانُونٌ مُسْتَقِيمٌ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لِمَ تَأوَّلْتُمْ هَذَا وَأَقْرَرْتُمْ هَذَا؟ وَالسُّؤَالُ فِيهِمَا وَاحِدٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ صَحِيحٌ. فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي النَّفْيِ.
وَكَذَلِكَ تَنَاقُضُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ مَنْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ عَلَى مَعْنًى مِنَ المَعَانِي الَّتِي يُثْبِتُهَا، فَإِنَّهُمْ إِذَا صَرَفُوا النَّصَّ عَنِ المَعْنَى الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، لَزِمَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ إِلَيْهِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ عَنْهُ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: تَأْوِيلُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِه وَسَخَطِه هُوَ إِرَادَتُه لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، كَانَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِرَادَةِ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُبِّ وَالْمَقْتِ وَالرِّضَا وَالسَّخَطِ. وَلَوْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِمَفْعُولاَتِهِ - وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ - فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمَعْقُولَ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُومَ أَوَّلًا بِالْفَاعِلِ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ الْمَفْعُولُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيَسْخطُهُ وَيَبْغضُهُ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ، فَهُمْ إِنْ أَثْبَتُوا الْفِعْلَ عَلَى مِثْلِ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ فِي الشَّاهِدِ لِلْعَبْدِ مَثَّلُوا، وَإِنْ أَثْبَتُوهُ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ.


  #2  
قديم 6 ذو الحجة 1429هـ/4-12-2008م, 09:38 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

الأصلُ الثاني:
أنْ يُقالَ لِمَنْ يُقِرُّ بذاتِ الله تعالى
بلا تمثيلٍ ويُمَثِّلُ في صِفاتِهِ أوْ يَنْفِيهَا.
القولُ فِي الصِّفاتِ كالقولِ في الذَّاتِ.
يعْنِي أنَّ مَنْ أَثْبَتَ للهِ تعالى ذاتاً لا تُماثِلُ ذواتِ المخلوقينَ لَزِمَهُ أنْ يُثْبِتَ لَهُ صفاتٍ لا تُماثِلُ صفاتِ المخلوقينَ، لأنَّ القولَ في الصِّفاتِ كالقولِ في الذَّاتِ، وهذا الأصْلُ يُخاطَبُ بهِ أهلُ التَّمثيلِ، وأهلُ التَّعْطِيلِ منَ المعتزلةِ ونحوِهمْ.
فَيُقَالُ لأهلِ التَّمثِيلِ ألسْتُمْ تُثْبِتُونَ للهِ ذاتاً بلاَ تمثيلٍ فأَثْبِتُوا لَهُ صفاتٍ بلا تمثيلٍ.
ويُقالُ لأهلِ التَّعطيلِ منَ المعتزِلةِ ونحوِهم: أَلَستُمْ تقولونَ بوجودِ ذاتٍ لا تُشبِهُ الذَّواتِ فكذلكَ قولُوا بصفاتٍ لا تُشْبِهُ الصِّفاتِ.
مثالُ ذلكَ: إذَا قالَ: إنَّ اللهَ اسْتَوى على العرْشِ فكيفَ استواؤُهُ؟
فيقالُ لَهُ: القولُ في الصِّفاتِ كالقولِ في الذَّاتِ فأَخْبِرْنَا كيفَ ذاتُهُ؟
فإنْ قالَ: لا أعْلَمُ كيفيَّةَ ذاتِهِ.
قيلَ لهُ: ونحنُ لا نَعْلَمُ كيفيَّةَ استوائِهِ.
وحينَئِذٍ يَلزَمُهُ أنْ يُقِرَّ باستواءٍ حقيقيٍّ غيرِ مماثلٍ لاستواءِ المخلوقينَ ولاَ معلومِ الكيفيَّةِ، كما أَقَرَّ بذاتٍ حقيقيَّةٍ غيرِ مماثِلةٍ لذواتِ المخلوقينَ ولاَ معلومةِ الكيفيَّةِ، كما قالَ مالكٌ وشيخُهُ ربيعةُ وغيرُهُمَا في الاستواءِ: "الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ والكَيْفُ مَجْهُولٌ، والإِيَمانُ بِهِ وَاجِبٌ، والسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ"([1])
فقولُهُ: "الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ" أي معلومُ المَعْنى في اللغَةِ العربيَّةِ الَّتي نَزَلَ بهَا القُرآنُ ولَهُ معانٍ بحسْبِ إطلاقِهِ وتقييدِهِ بالحرفِ فإذَا قُيِّدَ بـ (على) كانَ معناهُ العُلُوَّ والاسْتقرارَ كما قالَ تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ)([2]). وقالَ: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ)([3]). فاستواءُ اللهِ تعالى على عرْشِهِ عُلُوُّهُ عليْهِ علُوًّا خَاصًّا يَلِيقُ بهِ، على كيفيَّةٍ لاَ نَعْلَمُهَا، وليسَ هُوَ العُلُوَّ المطلَقَ على سائرِ المخلوقاتِ.
وقولُهُ: "والكَيْفُ مَجْهُولٌ" أيْ أنَّ كيْفِيَّةَ استواءِ اللهِ على عرشِهِ مجهولةٌ لنَا وذلكَ لوجوهٍ ثلاثةٍ:

الأوَّلُ: أنَّ اللهَ أَخْبَرَنَا أنَّهُ استَوى على عرشِهِ ولمْ يُخبِرْنَا كيفَ اسْتَوى.
الثاني: أنَّ العِلْمَ بكيفيَّةِ الصِّفَةِ فرْعٌ عنِ العِلْمِ بكيفيَّةِ الموصوفِ وهوَ الذَّاتُ، فإذَا كُنا لا نَعلَمُ كيفيَّةَ ذاتِ اللهِ فكذلكَ لاَ نَعلَمُ كيفيَّةَ صفاتِهِ.
الثَّالثُ: أنَّ الشَّيْءَ لا تُعْلَمُ كيفيَّتُهُ إلاّ بمشاهَدَتِهِ، أو مشاهدَةِ نظيرِهِ أو الخبرِ الصَّادِقِ عنْهُ، وكلُّ ذلكَ مُنْتَفٍ في استواءِ اللهِ عزَّ وجلَّ على عرشِهِ وهذَا يَدُلُّ على أنَّ السَّلَفَ يُثبتُونَ للاستواءِ كيفيَّةً لكنَّهَا مجهولَةٌ لنَا.
وقولُهُ: "والإِيمانُ بِهِ وَاجِبٌ" أيْ أنَّ الإِيمانَ بالاستواءِ على هذَا الوجْهِ واجبٌ، لأنَّ اللهَ تعالى أَخْبرَ بهِ عنْ نفسهِ، وهوَ أَعلَمُ بنفسِهِ، وأَصدَقُ قَوْلاً وأحسَنُ حديثاً، فاجْتَمَعَ في خبرِهِ كمالُ العِلْمِ، وكمالُ الصِّدْقِ، وكمالُ الإِرادةِ وكمالُ الفصاحةِ والبيانِ فوَجَبَ قَبولُهُ والإِيمانُ بهِ.
وقولُهُ: "وَالسُّؤَالُ عَنْهُ" أيْ عَنْ كيفيَّتِهِ بِدْعَةٌ؛ لأنَّ السُّؤَالَ عنْهَا لَمْ يُعْرَفْ في عَهْدِ النَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولاَ خلفائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَهُوَ مِنَ الأُمورِ الدِّينيَّةِ فكانَ إيرادُهُ بِدْعَةً، ولأنَّ السُّؤالَ عَنْ مِثْلِ ذلكَ مِنْ سِماتِ أهلِ البِدَعِ، ثُمَّ إنَّ السُّؤالَ عنْهُ ممَّا لاَ تُمْكِنُ الإِجَابَةُ عليْهِ فَهُوَ مِنَ التَّنَطُّعِ في الدِّينِ وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ".
وهذَا القَوْلُ الَّذي قالَهُ مالكٌ وشيخُهُ يُقالُ في صِفَةِ نُزُولِ اللهِ تعالى إلى السَّماءِ الدُّنْيَا وغيرِهِ منَ الصِّفاتِ: إنَّهَا مَعْلُومةُ المعْنى، مجهولةُ الكيْفيَّةِ، وإنَّ الإِيمانَ بهَا على الوجْهِ المرادِ بهَا واجبٌ، والسُّؤالُ عنْ كيفيَّتِهَا بِدْعَةٌ.

([1]) نقله المؤلف رحمه الله بالمعنى. والمحفوظ من لفظهما: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول. والخطب في ذلك سهل.

([2]) سورة المؤمنين، الآية: 28.

([3]) سورة الزخرف، الآية: 13.


  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 01:48 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


الأصـــلُ الثانـــي

قولُهُ:
وهذا يَتَبَيَّنُ (بالأصلِ الثاني) وهو أنْ يُقَالَ: (القولُ في الصفاتِ كالقولِ في الذاتِ)، فإنَّ اللهَ ليسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ, لا في ذاتِهِ، ولا في صفاتِهِ، ولا في أفعالِهِ، فإذا كانَ له ذاتٌ حقيقةً لا تُمَاثِلُ الذواتِ، فالذاتُ مُتَّصِفَةٌ بصفاتٍ حقيقةً لا تُمَاثِلُ سائرَ الصفاتِ، فإذا قالَ: كيف اسْتَوَى على العرشِ؟ قيلَ لهُ كما قالَ رَبِيعَةُ ومالِكٌ وغَيْرُهُمَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ عن الكيفيَّةِ بِدْعَةٌ)؛ لأنَّهُ سُؤَالٌ عَمَّا لا يَعْلَمُهُ البشرُ، ولا يُمْكِنُهُم الإجابةُ عنهُ. وكذلكَ إذا قالَ:كيفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلى السماءِ الدنيا؟ قيل لهُ: كيفَ هو؟ فإذا قالَ: لا أَعْلَمُ كيفيَّتَهُ، قيلَ لهُ: ونحنُ لا نَعْلَمُ كيفيَّةَ نزولِهِ؛ إذِ العلمُ بكيفيةِ الصفةِ يَسْتَلْزِمُ العلمَ بكيفيَّةِ الموصوفِ، وهو فَرْعٌ لهُ وتابِعٌ لهُ، فكيفَ تُطَالِبُنِي بالعلمِ بكيفيَّةِ سَمْعِهِ وبَصَرِهِ، وتَكْلِيمِهِ، واستوائِهِ ونزولِهِ، وأنتَ لا تَعْلَمُ كيفيَّةَ ذاتِهِ، وإذا كُنْتَ تُقِرُّ بِأَنَّ لهُ حقيقةً ثابتةً في نفسِ الأمرِ مُسْتَوْجِبَةً لصفاتِ الكمالِ لا يُمَاثِلُهُا شيءٌ، فَسَمْعُهُ وبصرُهُ وكلامُهُ ونزولُهُ واستواؤُهُ ثابتٌ في نفسِ الأمرِ، وهو مُتَّصِفٌ بصفاتِ الكمالِ التي لا يُشَابِهُهُ فيها سَمْعُ المخلوقينَ وبَصَرُهُم وكلامُهُم، ونزولُهُم واستواؤُهُم.

الشرحُ:
الإشارةُ في قولِهِ: (وهذا يَتَبَيَّنُ) راجعةٌ إلى ما ذُكِرَ في الأصلِ الأوَّلِ مِن أنَّهُ لا فَرْقَ بينَ بعضِ الصفاتِ والبعضِ الآخرِ، وأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى مُسَمًّى بأسماءٍ حُسْنَى، ومَوْصُوفٌ بصفاتٍ عُلْيَا، مع نَفْيِ مُمُاثَلَتِهِ لِخَلْقِهِ، وأنَّ إثباتَ ذلكَ ليسَ بِتَشْبِيهٍ، بلْ هو مَحْضُ التوحيدِ، وأنَّ ما يَمْتَازُ بهِ الخالقُ أعظمُ مِمَّا يَخْطُرُ بالبالِ أو يَدُورُ في الخيالِ.

وقولُهُ: (القولُ في الصفاتِ كالقولِ في الذاتِ) يعني مِن حيثُ الثبوتُ، ونَفْيُ المُمَاثَلَةِ، وعَدَمُ العِلْمِ بالكيفيَّةِ, فكما أنَّ ذاتَ اللهِ ثابِتَةٌ بحقيقةِ الإثباتِ، فالصفاتُ ثابتةٌ أيضاً بحقيقةِ الإثباتِ، إذْ لا يُعْقَلُ وجودُ ذاتٍ بدونِ صفاتٍ، وكما أنَّ ذاتَ اللهِ لا تُمَاثِلُ ذواتِ خَلْقِهِ، فكذلكَ صفاتُهُ لا تُمَاثِلُ صفاتِ خَلْقِهِ، وَكَمَا أنَّ ذَاتَهُ لا يُمْكِنُ العلمُ بِكَيْفِيَّتِهَا، فكذلكَ صفاتُهُ؛ إذِ العلمُ بكيفيَّةِ الصفاتِ يَسْتَلْزِمُ العلمَ بكيفيَّةِ الذاتِ، وَيَتَفَرَّعُ عنهُ.

وقولُهُ: (فإنَّ اللهَليسَكمثلِهِ شَيْءٌ, لا في ذاتِهِ, ولا في صفاتِهِ, ولا في أفعالِهِ) يعني: كما قالَ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ} فإنَّهُ سبحانَهُ ذَكَرَ ذلكَ عَقِبَ ذِكْرِ نعوتِ كمالِهِ وأوصافِهِ فقالَ: {حم عسق كذلكَ يُوحَى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} إلى قولِهِ: َذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

فهذا الموصوفُ بهذهِ الصفاتِ والأفعالِ، والعُلُوِّ والعَظَمَةِ، والحفظِ والعِزَّةِ، والحِكْمَةِ والمُلْكِ، والحَمْدِ والمَغْفِرَةِ، والرحمةِ والكلامِ، والمَشِيئَةِ، والولايةِ,وإحياءِ المَوْتَى، والقُدْرَةِ التامَّةِ الشاملةِ، والحُكْمِ بينَ عبادِهِ، وكونِهِ فَاطِرَ السمواتِ والأرضِ، وهوَ السميعُ البصيرُ، هذا هو الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ، لِكَثْرَةِ نُعُوتِهِ وَأَوْصَافِهِ، وأَسْمَائِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَثُبُوتِهَا على وَجْهِ الكمالِ، فالمُثْبِتُ لصفاتِ كمالِهِ هو الذى يَصِفُهُ بأنَّهُ ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.

وقولُهُ: (فَإِذَا قَالَ السائلُ: كيفَ اسْتَوَى على العَرْشِ؟ قيلَ لهُ كَمَا قالَ رَبِيعَةُ ومالِكٌ وَغَيْرُهُمَا) إلخ.
معناهُ إذا سَأَلَ مُبْتَدِعٌ عن كَيْفِيَّةِ صِفَةٍ مِن الصفاتِ كالاستواءِ، فإنَّهُ يُجَابُ بِمَا أَجَابَ بهِ مالكٌ ورَبِيعَةُ وغيرُهُمَا، وهذا الجوابُ وإنْ كانَ مَرْوِيّاً بالنَّصِّ عن مالكٍ وربيعةَ، فهو جوابٌ لسائرِ أَئِمَّةِ السنَّةِ وسَلَفِ الأُمَّةِ، وقد ذَكَرَ المُؤَلِّفُ هنا نَصَّ جوابِ الإمامِ مالكٍ، وذَكَرَ جوابَ ربيعةَ في غيرِ هذا الموضعِ.

ومعنى قَوْلِ مالكٍ: (الاستواءُ معلومٌ) يعني: غَيْرُ مجهولٍ، بلْ هو معلومٌ باللُّغَةِ والشَّرْعِ، فإنَّ معناهُ اللُّغَوِيَّ العُلُوُّ والاستقرارُ، وقد صَرَّحَت النصوصُ بِفَوْقِيَّةِ اللهِ سبحانَهُ واستوائِهِ على عَرْشِهِ.

وقولُهُ: (الكيفُ مجهولٌ) معناهُ أَنَّا لا نُدْرِكُ كيفيَّةَ استواءِ اللهِ بعقولِنَا، وإنَّمَا طريقُ ذلكَ السَّمْعُ, ولمْ يَرِدِ السمعُ بذكرِ الكيفيَّةِ، فَوَجَبَ الكفُّ عنها.

وقولُهُ: (الإيمانُ بهِ واجبٌ) معناهُ: أنَّ الإيمانَ باستواءِ اللهِ على عرشِهِ على الوجهِ اللائِقِ بهِ مُتَحَتِّمٌ؛ لأنَّ اللهَ أَخْبَرَ بهِ عن نفسِهِ في كتابِهِ وعلى لسانِ رسولِهِ، فَوَجَبَ تصديقُهُ.

وقولُهُ: (والسؤالُ عن الكيفيَّةِ بِدْعَةٌ) بَيَّنَ المُؤَلِّفُ وَجْهَ كَوْنِهِ بِدْعَةً، بأنَّهُ سؤالٌ عَمَّا لا يَعْلَمُهُ البشرُ, ولا يُمْكِنُهُم الإجابةُ عليهِ، هذا مِن ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أُخْرَى، فالسؤالُ عن كيفيَّةِ الصفاتِ لمْ يَكُنْ معهوداً على أَلْسِنَةِ الصحابةِ وأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وسَلَفِ الأُمَّةِ، بلْ هو مِن دَيْدَنِ أهلِ البِدَعِ، ولهذا قال الإمامُ مالكٌ للسائلِ: (وما أَرَاكَ إلاَّ رَجُلَ سَوءٍ)، ثم أَمَرَ بهِ فَأُخْرِجَ عن مَجْلِسِهِ، وهكذا سائرُ الأَئِمَّةِ قولُهُم يُوَافِقُ قولَ مالكٍ في أَنَّا لا نَعْلَمُ كيفيَّةَ استوائِهِ، كما لا نَعْلَمُ كيفيَّةَ ذاتِهِ، ولكنْ نَعْلَمُ المعنى الذي دَلَّ عليهِ الخِطَابُ، فَنَعْلَمُ معنى الاستواءِ، ولا نَعْلَمُ كيفيَّتَهُ، وهكذا سائرُ الصفاتِ، فَفَرَّقَ مالكٌ رَحِمَهُ اللهُ بينَ المعنى المعلومِ مِن هذهِ اللفظةِ وبينَ الكيفِ الذي لا يَعْقِلُهُ البشرُ، وجوابُ مالكٍ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - وغيرِهِ جوابٌ كافٍ شافٍ في جميعِ مسائلِ الصفاتِ، فإذا سَأَلَ إنسانٌ عن المَجِيءِ، أو النُّزُولِ، أو السَّمْعِ، أو البَصَرِ، أو غيرِ ذلكَ أُجِيبَ بجوابِ مالكٍ - رَحِمَهُ اللهُ - فَيُقَالُ مثلاً: المَجِيءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ، وكذلكَ مَنْ سَأَلَ عن كيفيَّةِ الغضبِ، أو الرِّضَى، أو الضَّحِكِ وغيرِ ذلكَ، فَمَعَانِيهَا كُلُّهَا مَفْهُومَةٌ، وأمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَغَيْرُ مَعْقُولَةٍ؛ إذْ تَعَقُّلُ كَيْفِيَّةِ الصفاتِ فَرْعُ العِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الذاتِ.

وقَوْلُُهُ: (وكذلكَ إذا قالَ: كيفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلى سماءِ الدنيا؟ قيلَ لهُ: كيف هوَ؟ فإذا قالَ: لا أَعْلَمُ كيفيَّتَهُ، قيلَ له: ونحنُ لا نَعْلَمُ كيفيَّةَ نزولِهِ، إذ العلمُ بكيفيَّةِ الصفةِ يَسْتَلْزِمُ العلمَ بكيفيَّةِ الموصوفِ).

يعني هذا جوابٌ آخَرُ يُجَابُ بهِ مَن سَأَلَ عن كيفيَّةِ نزولِ اللهِ إلى سماءِ الدنيا، أو استوائِهِ على عَرْشِهِ، أو غضبِهِ، أومَحَبَّتِهِ ونحوِ ذلك، فَعِنْدَمَا يَسْأَلُ عن كيفيَّةِ الصفةِ، يُقَالُ لهُ: كيفَ لَنَا ذاتُ اللهِ؟ فإذا قال: لا يَعْلَمُ كيفيَّةَ اللهِ إلاَّ هو سبحانَهُ، قِيلَ لهُ: وهكذا صفاتُهُ، لا يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا إلا هوَ، فالعلمُ بكيفيَّةِ الصفةِ فَرْعُ العلمِ بكيفيَّةِ الذاتِ، وكلٌّ مِن هذا الجوابِ وجوابِ مالكٍ ومَنْ وَرَدَ عنهُ هذا الجوابُ صحيحٌ ومُقْنِعٌ، ومُفْحِمٌ للخَصْمِ، ولَفْظُ ذاتِ تأنيثُ ذوُ, وذلكَ لا يُسْتَعْمَلُ إلاَّ فيما كانَ مُضَافاً إلى غيرِهِ، فَيُقَالُ: فلانٌ ذو عِلْمٍ وقُدْرَةٍ، ونفسٌ ذاتُ عِلْمٍ وقُدْرَةٍ، وحيثُ جاءَ في القرآنِ، أو لُغَةِ العَرَبِ لَفْظُ ذُو، ولَفْظُ ذات لم يَجِئْ إلا مَقْرُوناً بالإضافةِ، كقولِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}، وقولِهِ: َلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، وقولِ خُبَيْبٍ حِينَ قَدَّمَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ للقَتْلِ:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللهِ مَصْرَعِي
وذلكَ في ذاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَـالِ شِلْوٍ مُمَـزَّعِ

لَكِنْ لَمَّا صَارَ النُّظَّارُ يَتَكَلَّمُونَ في هذا البابِ قالوا: إنَّهُ يُقَالُ: إنَّهَا ذاتُ عِلْمٍ وقُدْرَةٍ، ثم إنَّهُم قَطَعُوا هذا اللفظَ عن الإضافةِ, وعَرَّفُوهُ فقالوا: الذاتُ، فَلَيْسَت الذاتُ مِن العربيةِ العَرْبَاءِ, بلْ هيَ لفظٌ مُوَلَّدٌ.

ورَبِيعَةُ: هو أبو عثمانَ رَبِيعَةُ بنُ أبى عبدِ الرحمنِ، فَرُّوخُ مَوْلَى آلِ المُنْكَدِرِ التَّيْمِيِّينَ، المعروفُ بِرَبِيعَةِ الرَّأْيِ، فَقِيهُ أهلِ المدينةِ، أَدْرَكَ جماعةً مِن الصحابةِ، وعنهُ أَخَذَ مالكُ بنُ أَنَسٍ وغيرُهُ، وهنا قِصَّةٌ طريفةٌ لهُ مع مالكٍ، قالَ بكرُ بنُ عبدِ اللهِ الصَّنْعَانِيُّ: أَتَيْنَا مالكَ بنَ أَنَسٍ, فجعَلَ يُحَدِّثُنَا عن ربيعةِ الرَأْيِ، وكُنَّا نَسْتَزِيدُهُ مِن حديثِ رَبِيعَةَ، فقالَ لَنَا ذاتَ يَوْمٍ: ما تَصْنَعُونَ بِرَبِيعَةَ, وهوَ نائمٌ في ذلكَ الطاقِ، فَأَتَيْنَا ربيعةَ فَأَنْبَهْنَاهُ, وقُلْنَا لهُ: أنتَ ربيعةُ؟ قال: نعمْ فَقُلْنَا: كيفَ حَظِيَ بكَ مالكٌ, وأنتَ لم تَحْظَ بِنَفْسِكَ؟ قال: أمَا إنَّ مِثْقَالاً مِن دُولةِ خيرٌ من حِمْلِ بعيرٍ مِن عِلْمٍ. تُوُفِّيَ رَبِيعَةُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ.

ومالكٌ هو الإمامُ أبو عبدِ اللهِ مالكُ بنُ أَنَسِ بنِ مالكِ بنِ أبي عامِرٍ الْأَصْبَحِيُّ المَدَنِيُّ، إمامُ دارِ الهجرةِ، وأَحَدُ الأَئِمَّةِ الأعلامِ، سَمِعَ الزُّهْرِيَّ ونافِعًا مَوْلَى ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، وأخذَ العلمَ عن ربيعةِ الرَأْيِ، وَرَوَى عنهُ الأَوْزَاعِيُّ ويَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، وُلِدَ مالكٌ في سنةِ خَمْسٍ وتِسْعِينَ للهجرةِ، وقد حُمِلَ بهِ ثلاثَ سِنِينَ, وَتُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَهْرِ ربيعٍ الأوَّلِ، سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ بَعْدَ أَنْ عَاشَ أَرْبَعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.

وقولُ المُؤَلِّفِ: َغَيْرُهُمَا) يُشِيرُإلى أنَّ هذا الجوابَ مَرْوِيٌّ عن غيرِ مالكٍ وربيعةَ كَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واسْمُهَا هِنْدُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ، تَزَوَّجَهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينةِ سنةَ أربعٍ مِن الهجرةِ، وتُوُفِّيَتْ سنةَ تِسْعٍ وخمسينَ، ودُفِنَتْ بالبقيعِ، وعُمُرُهُا أَرْبَعٌ وثمانونَ سنةً، وسَيَأْتِي نَصُّ كَلاَمِهَا عندَ ذِكْرِ جوابِ ربيعةَ في موضعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

قولُهُ:
( وهذا الكلامُ لازِمٌ لهم في العقلياتِ، وفي تأويلِ السمعيَّاتِ؛ فإنَّ مَن أَثْبَتَ شيئاً ونَفَى شيئاً بالعقلِ أُلْزِمَ إذًا فِيمَا نَفَاهُ من الصفاتِ التي جاءَ بها الكِتَابُ والسنَّةُ نظيرَ مَا يَلْزَمُهُ فيما أَثْبَتَهُ، ولو طُولِبَ بالفَرْقِ بينَ المَحْذُورِ في هذا وهذا لم يَجِدْ بَيْنَهُمَا فَرْقاً ).

الشرحُ:
الضميرُ راجعٌ إلى الأشاعرةِ المُفَرِّقِينَ بينَ الصفاتِ السبعِ التي يُسَمُّونَهَا عقلياتٍ، وبينَ بقيَّةِ الصفاتِ التي يُسَمُّونَهَا سمعياتٍ، فالكلامُ السابقُ مِن حيثُ ثبوتُ الصفاتِ، ونَفْيُ المُمَاثَلَةِ، وعَدَمُ العلمِ بالكيفيَّةِ شاملٌ لسائرِ الصفاتِ، فالبابُ واحدٌ، ومَن حاولَ التفريقَ بينَ الصفاتِ كالأشاعرةِ تَنَاقَضَ؛ فإنَّهُ إذا تَأَوَّلَ المحبَّةَ والرِّضَا والرَحْمَةَ والغضبَ بالإرادةِ قيلَ لهُ: يَلْزَمُكَ في الإرادةِ ما يَلْزَمُكَ في هذه الصفاتِ، وإذا تأوَّلَ الوجهَ بالذاتِ لَزِمَهُ في الذاتِ ما يَلْزَمُهُ في الوجهِ، وكذلكَ إذا تَأَوَّلَ الأُصْبُعَ بالقدرةِ فإنَّ القُدْرَةَ أيضاً صِفَةٌ قائمةٌ بالموصوفِ، فَفَرَّ مِن صفةٍ إلى صفةٍ، وكذلكَ مَن تَأَوَّل الضحكَ بالرِّضَا، والرِّضَا بالإرادةِ إنَّمَا فَرَّ مِن صفةٍ إلى صفةٍ، فَهَلاَّ أَقَرَّ النصوصَ على ما هيَ عليهِ ولم يَنْتَهِكْ حُرْمَتَهَا؟ فإنَّ المُتَأَوِّلَ إمَّا أنْ يَذْكُرَ معنًى ثُبُوتِيًّا، أو يَتَأَوَّلَ اللفْظَ بِمَا هو عَدَمٌ مَحْضٌ، فإنَّ تَأْوِيلَهُ بمعنًى ثُبُوتِيٍّ كَائِنٍ ما كانَ, لَزِمَهُ فِيهِ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنهُ.

وإذا طُولِبَ بالفرقِ بينَ المحذورِ فيما أَثْبَتَهُ - وهي الصفاتُ السبعُ - وبينَ المحذورِ فيما نَفَاهُ - وهي ما عَدَا الصفاتِ السبعَ - لم يَجِدْ بينَهُمَا فَرْقاً، يَتَّصِفُ بتلكَ الصفاتِ، فإنْ كانت المُمَاثَلَةُ مَنْفِيَّةً في الصفاتِ السبعِ، فهي مَنْفِيَّةٌ في الجميعِ، وإن ادَّعَى المُمَاثَلَةَ فيما عَدَا الصفاتِ السبعَ ونَفْيَهَا في الصفاتِ السبعِ، كانَ مُفَرِّقاً بينَ مُتَمَاثِلَيْنِ بدونِ حُجَّةٍ أو بُرْهَانٍ.
وقد سَبَقَ إِيْضَاحُ ذلكَ مُفَصَّلاً.

قولُهُ:
ولهذا لا يُوجَدُ لِنُفَاةِ بعضِ الصفاتِ دونَ بعضٍ – الذين يُوجِبُونَ فيما نَفَوْهُ إمَّا التفويضَ، وإمَّا التأويلَ المخالفَ لِمُقْتَضَى اللفظِ – قانونٌ مستقيمٌ، فإذا قِيلَ لهم: لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هذا, وَأَقْرَرْتُمْ هذا، والسؤالُ فيهما واحِدٌ؟ لم يَكُنْ لهم جوابٌ صحيحٌ.

الشرحُ:
يعني: ومِن أجلِ أنَّهُ لا فَرْقَ بينَ بعضِ الصفاتِ والبعضِ الآخرِ مِن حيثُ لزومُ المحذورِ وعدمُ لُزُومِهِ لا يُوجَدُ لِنُفَاةِ بَعْضِهَا دونَ بعضٍ منهجٌ مستقيمٌ.
و (يُوجَدُ) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ قولُهُ: (قانونٌ مستقيمٌ) وبَيَّنَ المُؤَلِّفُ فيما بينَ ذلكَ مَسْلَكَ الذينَ يَنْفُونَ بعضَ الصفاتِ دونَ بعضٍ، وهم الأشاعرةُ كما سَبَقَ بَيَانُهُ, بَيَّنَ أنَّهُم يَسْلُكُونَ فيما يَنْفُونَهُ أَحَدَ طَرِيقَيْنِ: إمَّا تأويلُ النصِّ بما يُخَالِفُ مُقْتَضَى لَفْظِهِ، أو يقولونَ: لا نَفْهَمُ مَعْنَاهُ، بل نُفَوِّضُهُ إلى اللهِ، فلا أَحَدَ يَعْلَمُ معناهُ، وَكِلاَ المَسْلَكَيْنِ خَطَأٌ.

فإنَّ التأويلَ المقبولَ هو مَا دَلَّ على مرادِ المتكلِّمِ، والتأويلاتُ التي يَذْكُرُونَهَا لا يُعْلَمُ أنَّ الرسولَ أَرَادَهَا، بل يُعْلَمُ بالاضطرارِ في عامَّةِ النصوصِ أنَّ المرادَ منها نقيضُ ما قالُوهُ، وحينئذٍ فتأويلُ النفاةِ للنصوصِ باطلٌ، فيكونُ نقيضُهُ حَقّاً وهو إقرارُ الأدلةِ الشرعيَّةِ على مَدْلُولاَتِهَا – ومَنْ خَرَجَ عن ذلكَ لَزِمَهُ مِن الفسادِ ما لا يَقُولُهُ إلاَّ أهلُ الإلحادِ، وأمَّا التفويضُ، فَمِن المعلومِ أنَّ اللهَ تعالى أَمَرَنَا أنْ نَتَدَبَّرَ القرآنَ، وَحَثَّنَا على عَقْلِهِ وفَهْمِهِ، فكيفَ مع ذلكَ يُرَادُ مِنَّا الإعراضُ عن إدراكِهِ ومِعْرِفَتِهِ؟ فإنَّهُ على قولِ هؤلاءِ يكونُ الأنبياءُ والمُرْسَلونَ لا يَعْلَمُونَ معانِيَ ما أَنْزَلَ اللهُ عليهم مِن هذهِ النصوصِ، ولا الملائكةُ، ولا السابقونَ الأَوَّلُونَ، وحينئذٍ فيكونُ ما وَصَفَ اللهُ بهِ نفسَهُ في القرآنِ أو كثيرٌ مِمَّا وَصَفَ اللهُ بهِ نفسَهُ لا يَعْلَمُ الأنبياءُ معناهُ، بلْ يقولونَ كلاماً لا يَعْقِلُونَهُ، ومعلومٌ أنَّ هذا قَدْحٌ في القرآنِ والأنبياءِ؛ إذْ كانَ اللهُ أَنْزَلَ القرآنَ, وأَخْبَرَ أنَّهُ جَعَلَهُ هُدًى، وأَمَرَ الناسَ بِتَدَبُّرِهِ وعَقْلِهِ، ومع هذا فَأَشْرَفُ ما فيهِ وهو ما أَخْبَرَ بهِ الرَّبُّ عن صفاتِهِ لا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، فَلاَ يُعْقَلُ ولا يُتَدَبَّرُ، ولا يكونُ الرسولُ بيَّنَ للناسِ ما أُنْزِلَ إليهم، ولا بَلَّغَ البلاغَ المُبِينَ، فيَبْقَى هذا الكلامُ سدًّا لبابِ الهُدَى والبيانِ مِن جِهَةِ الأنبياءِ، وفَتْحًا لبابِ الزنْدَقَةِ والإلحادِ، وبهذا يَتَبَيَّنُ أنَّ قولَ أهلِ التفويضِ الذين يَزْعُمُونَ أنَّهُم مُتَّبِعُونَ للسُّنَّةِ والسَّلَفِ مِن أَشَرِّ أقوالِ أهلِ البِدَعِ والإلحادِ.

وقولُهُ: (فإذا قِيلَ لَهُم: لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هَذَا وَأَقْرَرْتُمْ هَذَا)؟ إلخ.
يعني أنَّ الأشاعرةَ مثلًا حِينَمَا يَتَأَوَّلُونَ قولَهُ تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فَيَنْفُونَ صِفَةَ اليَدَيْنِ، بَيْنَمَا يُقِرُّونَ مَدْلُولَ قَوْلِهِ تَعَالى: َهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فَيَصِفُونَ اللهَ بِصِفَةِ السمْعِ والبَصَرِ، كما هو مَدْلُولُ النصِّ إذا سُئِلُوا عن الفرقِ بينَ مَدْلُولِ َلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ومَدْلُولِ َهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لَمْ يَسْتَطِيعُوا أنْ يُجِيبُوا إِجَابَةً صَحِيحَةً، بل غَايَةُ ما عِنْدَهُمْ أنْ يَقُولُوا: إثباتُ اليدَيْنِ حقيقةً للهِ يَقْتَضِي تَشْبِيهَهُ بالمخلوقِينَ,فَيُقَالُ لهم حينئذٍ: وإثباتُ السمعِ والبصرِ للهِ يَقْتَضِي مُشَابَهَتَهُ للمخلوقينَ، فإذا قالوا: السمعُ والبصرُ مُتَّصِفٌ بهما اللهُ، وهُمَا على ما يَلِيقُ بهِ ويُنَاسِبُ ذاتَهُ، ولا يُمَاثِلُ فيهما صفاتِ المخلوقينَ، قِيلَ لَهُم وهو سُبْحَانَهُ مُتَّصِفٌ باليدَيْنِ وهي عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ ويُنَاسِبُ ذَاتَهُ ولا يُمَاثِلُ فِيهَاصِفَاتِ المَخْلوقِينَ وهَكَذا القولُ في سائرِ الصفاتِ.

قولُهُ:
فهذا تَنَاقُضُهُمْ في النَّفْيِ، وكذا تَنَاقُضُهُمْ في الإثباتِ؛ فإنَّ مَن تَأَوَّلَ النصوصَ علىمعنًى مِنَ المعاني التي يُثْبِتُهَا، فإنَّهُم إذا صَرَفُوا النصَّ عن المعنى الذي هو مُقْتَضَاهُ إلى معنًى آخَرَ، لَزِمَهُم في المعنى المصروفِ إليهِ ما كانَ يَلْزَمُهُمْ في المعنى المصروفِ عنهُ.

الشرحُ:
المعنى: يقولُ المُؤَلِّفُ: كما أنَّ الأشاعرةَ مُتَنَاقِضُونَ في إثباتِهِم للصفاتِ السبعِ ونَفْيِهِم ما عَدَاهَا، فهم مُتَنَاقِضُونَ أيضاً في تأويلِهِم النصَّ من معنًى إلى معنًى آخَرَ، كما سيأتي مِثَالُهُ بعدَ هذا.

وقولُهُ: فإنَّ مَن تأوَّلَ النصوصَ على معنًى من المعاني التي يُثْبِتُهَا، خَبَرُ إنَّ هو قولُهُ (لَزِمَهُم في المعنى المصروفِ إليهِ ما كانَ يَلْزَمُهُم في المعنَى المصروفِ عنهُ) المُصَرَّحُ بهِ في مدخولِ إنَّ الثانيةِ. فمعنى هذهِ العبارةِ هو بِعَيْنِهِ معنى قولِ المُؤَلِّفِ بعدَهَا: فإنَّهُم إذا صَرَفُوا النصَّ عن المعنى الذي هو مُقْتَضَاهُ إلى مَعْنًى آخَرَ لَزِمَهُم في المعنى المصروفِ إليهِ ما كانَ يَلْزَمُهُم في المعنى المصروفِ عنهُ.

قولُهُ:
( فإذا قالَ قائلٌ: تأويلُ مَحَبَّتِهِ ورِضَاهُ، وغَضَبِهِ وسَخَطِهِ، هو إرادتُهُ للثوابِ والعقابِ، كان ما يَلْزَمُهُ في الإرادةِ نظيرَ ما يَلْزَمُهُ في الحُبِّ والمَقْتِ والرِّضَا والسُّخْطِ ).

الشرحُ:
هذا هوَ المثالُ الذي قُلْنَا آنِفًا: إنَّهُ سَيَأْتِي، فَمَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالى: ُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، وقولَهُ سبحانَهُ: َمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ}،وقولَهُ تعالى: َضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} وقولَهُ: َلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ}، ونحوَ ذلكَ مِن الآياتِ، مَن تَأَوَّلَ مَحَبَّةَ اللهِ أو رِضَاهُ بإرادتِهِ للثوابِ، كانَ ما يَلْزَمُهُ مِن المحذورِ مِن إثباتِ المَحَبَّةِ والرِّضَا لازمًا لهُ في إثباتِ الإرادةِ، ومَن تَأَوَّلَ غَضَبَ اللهِ وسَخَطَهُ بإرادتِهِ العقابَ، كانَ ما يَلْزَمُهُ مِن المحذورِ في صفةِ الغضبِ والسَّخَطِ لازِمًا لهُ في إثباتِ صفةِ الإرادةِ، فالمعنى المصروفُ عنهُ هو المحبةُ والرضا والغضبُ والسُّخْطُ، والمعنى المصروفُ إليهِ هو الإرادةُ، فَاتَّضَحَ أنَّ مَنْ تَأَوَّلَ النصوصَ على مَعْنًى مِن المعاني التي يُثْبِتُهَا لَزِمَهُ مِن المحذورِ في المعنى المصروفِ إليهِ ما كانَ يَلْزَمُهُ في المعنى المصروفِ عنهُ.

قولُهُ:
ولو فَسَّرَ ذلكَ بِمَفْعُولاَتِهِ، وهو ما يَخْلُقُهُ مِن الثوابِ والعقابِ، فإنَّهُ يَلْزَمُهُ في ذلكَ نظيرُ ما فَرَّ منهُ؛ فإنَّ الفعلَ لاَبُدَّ أنْ يَقُومَ أوَّلاً بالفاعلِ، والثوابَ والعقابَ المفعولَ إنَّمَا يكونُ على فِعْلِ ما يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، ويَسْخَطُهُ ويَبْغَضُهُ المُثِيبُ المُعَاقِبُ.

الشرحُ:
يعني: وإذا تَأَوَّلُوا المحبةَ أو الرضا ببعضِ مخلوقاتِ اللهِ – كالثوابِ والنِّعَمِ – أو فَسَّرُوا الغضبَ والسَّخَطَ ببعضِ مخلوقاتِ اللهِ – كالعقوباتِ – إذا تَأَوَّلُوا النصوصَ على هذا أُجِيبُوا بِجَوَابَيْنِ: أوَّلاً: أنَّ الإثابةَ والمعاقبةَ فِعْلٌ يقومُ باللهِ، والمخلوقُ يُوصَفُ بالفعلِ.

وثانياً: يُقَالُ: الثوابُ إنَّمَا يَكُونُ على فِعْلِ ما يُحِبُّهُ المثيبُ، والعقوبةُ إنَّمَا تكونُ على فعلِ ما يَبْغَضُهُ المعاقِبُ، فما فَسَّرُوا بهِ المَحَبَّةَ والبُغْضَ هو نفسُهُ يَدُلُّ على الصفةِ التي فَرُّوا من إثباتِهَا.

قولُهُ:
فُهُمْ إنْ أَثْبَتُوا الفعلَ على مثلِ الوجهِ المعقولِ في الشاهدِ للعبدِ مَثَّلُوا، وإنْ أَثْبَتُوا على خلافِ ذلكَ فكذلكَ الصفاتُ.

الشرحُ:
يعني أنَّ الإثابةَ والمعاقبةَ فِعْلٌ يَتَّصِفُ اللهُ بهِ، والمخلوقُ يُوصَفُ بالفعلِ، فهل الفعلُ الذي تُثْبِتُونَهُ للهِ مثلَ الفعلِ الذي يَتَّصِفُ بهِ المخلوقُ؟ إنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ مِثْلُهُ فهذا هو التشبيهُ، وأَنْتُمْ تَفِرُّونَ من ذلكَ، وإنْ قُلْتُمْ: بَلْ فِعْلُ اللهُ يَلِيقُ بهِ وفِعْلُ المخلوقِ يَلِيقُ بهِ، فهكذا يَجِبُ أنْ تَقُولُوا هذا القولَ في سائرِ الصفاتِ، فَصِفَاتُ اللهِ ثابتةٌ لهُ، وهي على ما يُنَاسِبُ ذاتَهُ المُقَدَّسَةَ، وصفاتُ المخلوقِ ثابِتَةٌ لهُ، وهي على ما يُنَاسِبُ ذاتَهُ.


  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 01:51 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي

الأصْلُ الثاني
القولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ

قولُه: ( وهذا يَتَبَيَّنُ بالأصْلِ الثاني, وهو أن يُقالَ: القولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ، فإنَّ اللهَ ليس كَمِثْلِهِ شيءٌ، لا في ذاتِه, ولا في صِفاتِه، ولا في أفعالِه، فإذا كان له ذاتٌ حقيقةً لا تُمَاثِلُ الذواتِ، فالذاتُ مُتَّصِفَةٌ بصفاتٍ حقيقةً, لا تُمَاثِلُ صفاتِ سائرِ الذواتِ ) .

التوضيحُ

معنى هذا الأصْلِ أنَّ ما يَجِبُ اعتقادُه في الذاتِ يَجِبُ اعتقادُه في الصِّفَاتِ؛ فكما أننا نُثْبِتُ ذاتًا لائِقَةً باللهِ عَزَّ وَجَلَّ فكذلك نُثْبِتُ صفاتٍ لائِقَةً باللهِ تعالى، قالَ صاحِبُ الكِفايةِ:

" وثانِيَ الأصْلَيْنِ قُلْ والقولُ فِي = صفاتِه كالقولِ في الذاتِ يَفِي "

وقالَ ناظِمُ مُخْتَصَرِ خليلٍ:

" وما نقولُ في صِفاتِ قُدْسِه = فرْعُ الذي نقولُه في نفسِه "

وقد تَوافَرَت أقوالُ الأَئِمَّةِ في تأصيلِ هذا الأصْلِ قبلَ شيخِ الإسلامِ فكان شيخُ الإسلامِ خَيْرَ خَلَفٍ لأولئك السلَفِ، فمِن هذه الأقوالِ ما يَلِي:
قالَ الإمامُ أبو الحَسَنِ الأشعرِيُّ: " وأَجْمَعُوا على أنَّ صِفَتَه عَزَّ وَجَلَّ لا تُشْبِهُ صفاتِ الْمُحْدَثِينَ، كما أنَّ نَفْسَه لا تُشْبِهُ أَنْفُسَ المخلوقينَ، فالقولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ .
وقالَ الإمامُ السِّجْزِيُّ: ومع ذلك فلازِمٌ لهم في إثباتِ الذاتِ مِثلَ ما يُلْزِمُون أصحابَنا في الصِّفَاتِ .
قالَ الخطيبُ البَغداديُّ: " والأصْلُ في هذا أنَّ الكلامَ في الصِّفَاتِ فَرْعٌ عن الكلامِ في الذاتِ ويُحْتَذَى في ذلك حَذْوَه ومِثالَه، فإذا كان معلومًا أنَّ إثباتَ الْبَارِي سبحانَه وتعالى إثباتُ وجودٍ, لا إثباتُ كَيْفِيَّةٍ, فكذلك إثباتُ صفاتِه إنما هو إثباتُ وُجودٍ, لا إثباتُ تحديدٍ وتكييفٍ " .
وقالَ الإمامُ أبو القاسمِ التَّيْمِيُّ: وإثباتُ الذاتِ وُجودٌ, لا إثباتُ كَيْفِيَّةٍ، فكذلك إثباتُ الصِّفَاتِ ثم قالَ: وعلى هذا مَضَى السلَفُ كلُّهم " .
إلى غيرِ ذلك فهذا مِمَّا اجْتَمَعَ عليه سلَفُ الأمَّةِ وعلماؤُنا الأَئِمَّةُ.
- والكلامُ على هذه الفِقرةِ في مسائلَ:-

الأُولَى: مَن يُرَدُّ عليهم بهذا الأصْلِ: يُرَدُّ على جميعِ طوائفِ المُبْتَدِعةِ؛ لأنَّ الجميعَ يُثْبِتُ الذاتَ الإِلَهِيَّةَ، فيَشْمَلُ المُعَطِّلَةَ كما أنه يَشْمَلُ الْمُمَثِّلَةَ الخائضينَ في الكَيْفِيَّةِ .

ثانيًا: العَلاَقَة بينَ الأصْلَيْنِ: هما مُتقارِبان ومَن يُرَدُّ عليهم بالأوَّلِ يُرَدُّ عليهم بالثاني, إلا أنَّ هذا الأصْلَ أَعَمُّ؛ لأنه يَشْمَلُ الرَّدَّ على المُشَبِّهَةِ، فبَدَأَ بالأصْلِ الأوَّلِ لِيُقَرِّرَ مَبْدَأَ الإثباتِ، ثم بَيَّنَ هنا أنَّ الإثباتَ لا يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ, كما أنَّ إثباتَ الذاتِ لا يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ، فقُطْبُ رَحَى هذه الأصولِ والقواعدِ هو ما سَبَقَ من الإثباتِ بلا تمثيلٍ والتنزيهِ بلا تعطيلٍ .

ثالثًا: معنى الذاتِ: أصْلُها في اللغةِ: ذاتُ: مُؤَنَّثُ ذُو بمعنى صاحِبٍ وصاحِبَةٍ، ثم اسْتُعْمِلَتْ ذاتُ الشيءِ بمعنى حقيقتِه وعينِه، ومنه قولُ ابنِ عبَّاسٍ: تَفَكَّرُوا في كلِّ شيءٍ, ولا تَتَفَكَّرُوا في ذاتِ اللهِ. وقالَ التَّيْمِيُّ في الْحُجَّةِ: " فصلٌ في بيانِ ذِكْرِ الذاتِ: وقالَ قومٌ من أَهْلِ العلْمِ: ذاتُ اللهِ حقيقتُه، واخْتُلِفَ في دخولِ أل " عليها على قَوْلَيْنِ:

الأوَّلُ: أنها تَدْخُلُ عليها وهي عَربيَّةٌ, و هو قولُ جماعةٍ من السلَفِ .

الثاني: أنها لا تَدْخُلُ عليها, بل هي مِمَّا شاعَ عندَ المتأخِّرِينَ فهي لفظٌ مُوَلَّدٌ, وهو قولُ الْمُحَقِّقِينَ, واختارَه شيخُ الإسلامِ.
والصوابُ أنها تأتي في اللغةِ مُضَافَةً, وشواهِدُه من الكتابِ والسُّنَّةِ واللغةِ كثيرةٌ, ومنها ما يَلِي:
من الْقُرْآنِ: قولُه تعالى { وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
ومن السُّنَّةِ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ إِلَّا ثَلاَثَ كِذْبَاتٍ؛ اثْنَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ )
ومن اللغةِ: أبياتُ خُبَيْبٍ الأنصارِيِّ في مَقْتَلِه، فإنه قالَ:

ولست أُبَالِي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا = على أيِّ شِقٍّ كانَ في اللهِ مَصْرَعِي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإن يَشَأْ = يُبَارِكْ على أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

الرَّدُّ على مَن سأَل عن الكَيْفِيَّةِ

قولُه: ( فإذا قالَ السائلُ: كيف اسْتَوَى على العَرْشِ؟ قِيلَ له: كما قالَ ربيعةُ ومالِكٌ وغيرُهما رَضِيَ اللهُ عنهما: " الاستواءُ مَعلومٌ، والكيْفُ مَجهولٌ، والإيمانُ به وَاجِبٌ، والسؤالُ عن الكَيْفِيَّةِ بِدْعَةٌ؛ لأنه سؤالٌ عَمَّا لا يَعْلَمُه البَشَرُ, ولا يُمْكِنُهُمُ الإجابةُ عنه . وكذلك إذا قالَ: كيفَ يَنْزِلُ رَبُّنا إلى السماءِ الدُّنْيَا؟ قِيلَ له: كيف هو؟ فإذا قالَ: لا أَعْلَمُ كَيفيَّتَه، قِيلَ له: ونحن لا نَعْلَمُ كيف نُزولُه؛ إذ العلْمُ بكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ العلْمَ بكَيْفِيَّةِ الموصوفِ . وهو فرْعٌ له وتَابِعٌ له، فكيف تُطَالِبُنِي بالعلْمِ بكَيْفِيَّةِ سَمْعِه وبَصَرِه وتَكْليمِه واستوائِه ونزولِه، وأنت لا تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذاتِه؟ وإذا كُنْتَ تُقِرُّ بأنَّ له حقيقةً ثابتةً في نَفْسِ الأمْرِ مُسْتَوْجِبَةً لصفاتِ الكَمَالِ لا يُماثِلُها شيءٌ، فسَمْعُه وبَصَرُه وكلامُه ونزولُه واستواؤُه، ثابتٌ في نفْسِ الأمْرِ، وهو مُتَّصِفٌ بصفاتِ الكمالِ التي لا يُشابِهُهُ فيها سَمْعُ المخلوقينَ وبَصَرُهم وكلاُمهم ونزولُهم
واستواؤُهم ) .


التوضيحُ

إذا سألَ السائلُ عن كَيْفِيَّةِ استواءِ اللهِ تعالى فيُجابُ عليه بجوابَيْنِ أَثَرِيٍّ وعَقْلِيٍّ:

أَوَّلاً: الجوابُ الأَثَرِيُّ:
قولُ الإمامِ ربيعةَ ومالكٍ وغيرِهما: " الاستواءُ مَعلومٌ، والكيفُ مَجهولٌ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بِدْعَةٌ " فالاستواءُ مَعلومُ المعنى، وقد فَسَّرَه أَئِمَّةُ التابعينَ كما في البخاريِّ عن مُجاهِدٍ أنَّ اسْتَوَى بمعنى عَلاَ، وعن أبي العَالِيَةِ بمعنى ارْتَفَعَ، والكيفُ مَجهولٌ لقولِه تعالى: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } والإيمانُ بالاستواءِ واجبٌ، والسؤالُ عن كيفيَّتِه بِدْعَةٌ؛ لأنه سؤالٌ عما لا يَعْلَمُه البشَرُ, ولا يُمْكِنُهُمُ الإجابةُ عنه، وهذا بابٌ مُطَّرِدٌ في جميعِ الصِّفَاتِ الثابتةِ لربِّ البَرِيَّاتِ، وعلى هذا مَضَى السلَفُ, وأقوالُهم مُتَوَاتِرَةٌ, ومنها:
قولُ الإمامِ أبي حنيفةَ في النُّزُولِ: " يَنْزِلُ بلا كيفٍ " فأَثْبَتَ الصِّفَةَ ونَفَى العلْمَ بالكَيْفِيَّةِ .
قولُ الإمامِ الشافعيِّ: " ما صَحَّ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَه فلا يُقالُ فيه لِمَ, ولا كَيْفَ" .
قولُ الإمامِ ابنِ المبارَكِ " يَنْزِلُ بلا كيفٍ " .
ومِثْلُه قولُ الإمامِ إسحاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ, وقد سُئِلَ عن النُّزُولِ: " بلا كيفٍ " .
قولُ الإمامِ ابنِ خُزَيْمَةَ: " فنحن قائلون مُصَدِّقُون بما في هذه الأخبارِ من ذِكْرِ النزولِ غيرُ مُتَكَلِّفِينَ القولَ بصِفَتِه أو بصِفَةِ الكَيْفِيَّةِ؛ إذ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَصِفْ لنا كَيْفِيَّةَ النزولِ " .
قولُ الإمامِ الإسماعيليِّ: " وأنه عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إلى السماءِ الدنيا على ما صَحَّ به الخبَرُ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا اعتقادِ كَيْفِيَّةٍ " .
قولُ الإمامِ الصابونيِّ: " فمَجِيئُه وإتيانُه ونزولُه على حِسابِ ما يَلِيقُ بصِفاتِه من غيرِ تشبيهٍ وكيفٍ " .
وقالَ السَّرَخْسِيُّ: " وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أَثْبَتُوا الأصْلَ المعلومَ بالنصِّ - أي الصِّفَاتِ الثابتةَ - وتَوَقَّفُوا فيما هو المُتَشَابِهُ, وهو الكَيْفِيَّةُ، ولم يَجَوِّزُوا الاشتغالَ في طَلَبِ ذلك " .
وهذه الأجوبةُ الأثريَّةُ متوافِقَةٌ مع الأدِلَّةِ النقليَّةِ كقولِه تعالى: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} .

ثانيًا: الجوابُ العَقْليُّ:

يُقالُ للسائلِ: كيفَ هو, أي: كيفَ ذاتُه جَلَّ وَعَلاَ؟ فإذا قالَ: لا أَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذاتِه، قِيلَ له: ونحن لا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نزولِه، فإنَّ العلْمَ بكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ العلْمَ بكَيْفِيَّةِ الذاتِ الموصوفةِ، فالصِّفَةُ فَرْعٌ عن الموصوفِ، فكيفَ تُطَالِبُنَا بالعلْمِ بكَيْفِيَّةِ سَمْعِهِ ونزولِه واستوائِه, وأَنْتَ لا تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِه .

فإذا كنتَ تُقِرُّ بأنَّ له ذاتًا حقيقيَّةً ثابتةً مُسْتَوْجِبَةً لصفاتِ الكمالِ لا يُمَاثِلُها شيءٌ، فسَمْعُه وبَصَرُه ونزولُه واستواؤُه ثابتٌ متَّصِفٌ بالكمالِ, لا يُشَابِهُهُ شيءٌ من صِفاتِ المخلوقينَ .
والرَّدُّ العَقْليُّ هو تَطبيقٌ لهذا الأصْلِ كما هو وَاضِحٌ .

استطرادٌ: رجوعٌ لمناقَشَةِ مَن يُثْبِتُ بعضَ الصِّفَاتِ دونَ بعضٍ:

قولُه: ( وهذا الكلامُ لازِمٌ لهم في العَقْلِيَّاتِ، وفي تأويلِ السَّمْعِيَّاتِ، فإنَّ مَن أَثْبَتَ شيئًا ونَفَى شيئًا بالعَقْلِ، إذا أُلْزِمَ فيما نَفَاه من الصِّفَاتِ التي جاءَ بها الكتابُ والسُّنَّةُ نظيرَ ما يَلْزَمُه فيما أَثْبَتَه، ولو طُولِبَ بالفَرْقِ بينَ المحذورِ في هذا وهذا لم يَجِدْ بينَهما فَرْقًا، ولهذا لا يُوجَدُ لنُفَاةِ بعضِ الصِّفَاتِ دونَ بعضٍ - الذين يُوجِبُون فيما نَفَوْهُ، إمَّا التفويضَ وإمَّا التأويلَ المخالِفَ لِمُقْتَضَى اللفظِ - قانونٌ مستقيمٌ .

فإذا قِيلَ لهم: لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هذا وأَقْرَرْتُم هذا، والسؤالُ فيهما واحدٌ؟ لم يكنْ لهم جوابٌ صحيحٌ، فهذا تَناقُضُهم في النَّفْيِ، وكذا تَناقُضُهم في الإثباتِ، فإنَّ مَن تأوَّلَ النصوصَ على معنًى من المَعَاني التي يُثْبِتُها، فإنهم إذا صَرَفُوا النصَّ عن المعنى الذي هو مُقْتَضَاه إلى معنًى آخَرَ: لَزِمَهُمْ في المعنى المصروفِ إليه ما كان يَلْزَمُهم في المعنى المصروفِ عنه . فإذا قالَ قائلٌ: تأويلُ مَحَبَّتِه ورضاه وغَضَبِه وسَخَطِه: هو إرادتهُ للثوابِ والعِقابِ، كان ما يَلْزَمُه في الإرادةِ نظيرَ ما يَلْزَمُه في الْحُبِّ والْمَقْتِ والرضا والسَّخَطِ، ولو فُسِّرَ ذلك بمفعولاتِه، وهو ما يَخْلُقُه من الثوابِ والعِقابِ فإنه يَلْزَمُه في ذلك نظيرُ ما فَرَّ منه، فإنَّ الفِعْلَ المعقولَ لا بُدَّ أن يَقومَ أَوَّلاً بالفاعِلِ، والثوابُ والعقابُ المفعولُ إنما يكونُ على فِعْلِ ما يُحِبُّه ويَرْضَاه ويَسْخَطُه ويَبْغَضُه الْمُثيبُ المعاقِبُ. فَهُمْ إن أَثْبَتوا الفعْلَ على مِثْلِ الوجهِ المعقولِ في الشاهِدِ للعَبْدِ مَثَّلُوا، وإن أَثْبَتُوه على خِلافِ ذلك فكذلك سائرُ الصِّفَاتِ ) .

التوضيحُ

رَجَعَ شيخُ الإسلامِ مَرَّةً أُخْرَى لإلزامِ الأشاعرةِ الذين يُثْبِتُون بعضَ الصِّفَاتِ دونَ بعضٍ .
وهذا استطرادٌ فقد انْتَهَى من ذِكْرِ الأصْلَيْنِ فأَرَادَ أن يَخْتِمَ به, فيَقولُ: إنَّ التسوِيَةَ بينَ جميعِ الصِّفَاتِ مع اعتقادِ عَدَمِ التمثيلِ لازِمٌ لهم عَقْلاً ونَقْلاً، فإنه يَلْزَمُهم فيما نَفَوْهُ نظيرَ ما يَلْزَمُهم فيما أَثْبَتُوه كما سَبَقَ في مِثالِ الغَضَبِ والإرادةِ، وإذا طُولِبَ بالفَرْقِ لم يَجِدْ فَرْقًا، ولهذا لا يُوجَدُ لهؤلاءِ قانونٌ مستقيمٌ فهم متَناقِضُون في النَّفْيِ والإثباتِ .
فإذا قِيلَ لهم: لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هذا وأَقْرَرْتُم هذا؟ لم يكنْ لهم جوابٌ صحيحٌ, فهذا تَناقُضُهم في النَّفْيِ .

وتَناقُضُهم في الإثباتِ عندَما يُؤَوِّلُونَ ظاهِرَ النصِّ إلى معنًى آخَرَ فإنه يَلْزَمُه في المعنى الآخَرِ الْمُثْبَتِ ما كان يَلْزَمُهم في المعنى الظاهِرِ الْمُؤَوَّلِ, والواقِعُ أنَّ هذا التَناقُضَ في النَّفْيِ والإثباتِ مُتَلاَزِمٌ؛ لأنه إذا تَأَوَّلَ نَصًّا أَثْبَتَ مَعْنًى باطِلاً, وإذا أَثْبَتَ معنًى باطِلاً نَفَى معنًى صحيحًا . والأمْثِلَةُ على ذلك .

تأويلُهم للمَحَبَّةِ والرِّضَا بإرادةِ الثوابِ، والغضَبِ والسَّخَطِ بإرادةِ العِقابِ لَزِمَهُمْ في المعنى الآخَرِ, وهو الإرادةُ, ما يَلْزَمُهم في المعنى الأوَّلِ وهو الْحُبُّ والْمَقْتُ والرِّضا والسَّخَطُ.
وإن تَأَوَّلَ تلك الصِّفَاتِ بمخلوقاتِه فيقولُ: هذه الصِّفَاتُ عبارةٌ عَمَّا يَخْلُقُه من الثوابِ والعِقابِ، فيُجابُ عليه بِجَوَابِيْنِ:

الأوَّلُ: أنَّ الفِعْلَ المعقولَ, أي: الذي يَعْقِلُه العُقَلاءُ, لا بُدَّ أن يقومَ أَوَّلاً بالفاعِلِ؛ فالثوابُ فِعْلٌ يَفْعَلُه اللهُ في مخلوقاتِه فلا بُدَّ أن يُوصَفَ الفاعِلُ بالإثابةِ؛ لأنه فاعِلٌ للثوابِ فهو مُثيبٌ، وكذلك العِقابُ فحينئذٍ أَثْبَتُّمْ للهِ الفِعْلَ، والعَبْدُ يُوصَفُ بالفعْلِ, وهذا نظيرُ ما فَرَرْتُمْ منه، فإنَّ الإثابةَ والمعاقَبَةَ أَفعالٌ يَتَّصِفُ بها المخلوقُ فإن أَثْبَتُّمُوها على الوجهِ الذي يَتِّصِفُ به المخلوقُ وَقَعْتُمْ في التشبيهِ، وإن أَثْبَتُّمُوها كما يَلِيقُ باللهِ فكذلك جميعُ الصِّفَاتِ .

الثاني: أنَّ الثوابَ والعِقابَ المفعولَ إنما يكونُ على ما يُحِبُّهُ ويَرْضَاه الْمُثيبُ ويَسْخَطُه ويَبْغَضُه الْمُعَاقِبُ، فلَزِمَ من إثباتِ الثوابِ والعِقابِ إثباتُ تلك الصِّفَاتِ .

- ملحوظةٌ:
ذَكَرَ شَيْخُ الإسلامِ أنَّ للأشاعرةِ في الصِّفَاتِ مَسْلَكَيْنِ:

الأوَّلُ: التأوُّلُ: وقد سَبَقَ وهو صَرْفُ اللفظِ عن الاحتمالِ الراجِحِ إلى الاحتمالِ المرحوحِ لغيرِ دليلٍ، كقولِهم في قولِه تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } أي: بقُدْرَتِي .

الثاني: التفويضُ: وهو إمرارُ النصوصِ على ظاهِرِها من غيرِ اعتقادِ مَعْنًى لها، ففي الْمِثالِ السابقِ يقولون: " اليدُ " لفظٌ لا يُعْلَمُ معناه, بل هو بِمَنْزِلَةِ الحروفِ الْمُقَطَّعَةِ في الْقُرْآنِ .
وكِلاَ الْمَسْلَكَيْنِ يَرْجِعانِ إلى التعطيلِ؛ لأنَّ في الْمَسْلَكَيْنِ نَفْيًا للمعاني الصحيحةِ.
لذلك يقولُ اللقانيُّ صاحبُ جَوْهَرَةِ توحيدِهم:

(40- وكلُّ نصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا = أوِّلْهُ أو فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيها )

فما التفويضُ إلا أُحْبُولةٌ شيْطَانِيَّةٌ تَعَانَقَتْ مع التأويلِ لتعطيلِ صفاتِ العَلِيِّ الجليلِ .

خُلاصَةُ ما في الأصْلَيْنِ الشريفينِ

الأصْلُ الأوَّلُ: القولُ في بعضِ الصِّفَاتِ كالقولِ في بعضٍ " .
يُرَدُّ بهذا الأصْلِ على الأَشَاعِرَةِ والمُعْتَزِلةِ والجَهْمِيَّةِ وأَتْبَاعِهم .
كلُّ مَن نَفَى الصِّفَاتِ فِرارًا من محذورٍ فإنه يَلْزَمُه نظيرُ ما فَرَّ منه .

الأصْلُ الثاني: القولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ .
مَضَى السلَفُ على إثباتِ المعنى ونَفْيِ الكيفِ .
للأَشَاعِرَةِ مَسْلَكَانِ في الصِّفَاتِ: التأويلُ والتفويضُ .


المناقَشَةُ
وَضِّح المقصودَ بالأصْلِ الأوَّلِ: " القولُ في بعضِ الصِّفَاتِ كالقولِ في بعضٍ "؟
على مَنْ يُرَدُّ بهذا الأصْلِ؟
عَرِّفِ الأَشَاعِرَةَ ومَذْهَبَهم في الصِّفَاتِ والرَّدَّ عليهم؟
إذا احْتَجَّ الأَشَاعِرَةُ بدَلالةِ العَقْلِ على ما يُثْبِتُونه, فكيفَ تَرُدُّ عليهم؟
ما معنى العِلَّةِ الغائيَّةِ والعِلَّةِ الفاعليَّةِ؟
ما مَذْهَبُ الجَهْمِيَّةِ وشُبَهتُهم؟ وكيف يُجابُ عنهم؟
ما الاعتراضُ المشهورُ للباطنيَّةِ, وما الجوابُ عليه باختصارٍ؟
تَكَلَّمْ عن شُبْهَةِ التَرْكِيبِ من حيث معناها، والقائلون بها، والرَّدُّ عليهم؟
وَضِّح المقصودَ بالأصْلِ الثاني: " القولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ؟
اذكُرْ أقوالَ الأَئِمَّةِ الْمُؤَيِّدَةَ لهذا الأصْلِ؟
تَكَلَّمْ عن معنى الذاتِ مع ذِكْرِ الْخِلافِ في أصلِها؟
ما الرَّدُّ على مَن سألَ عن كَيْفِيَّةِ الصِّفَاتِ؟
كيف تُجِيبُ عن الْأَشْعَرِيِّ إن قالَ بأنَّ صفاتِ الْمَحَبَّةِ والغَضَبِ عبارةٌ عما يَخْلُقُه اللهُ من الثوابِ والعِقابِ؟
اذْكُر الْمَسْلَكَيْنِ اللذيْنِ بَنَى عليهما الأَشَاعِرَةُ مُعْتَقَدَهم.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
القول, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:55 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir