الأصْلُ الثاني
القولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ
قولُه: ( وهذا يَتَبَيَّنُ بالأصْلِ الثاني, وهو أن يُقالَ: القولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ، فإنَّ اللهَ ليس كَمِثْلِهِ شيءٌ، لا في ذاتِه, ولا في صِفاتِه، ولا في أفعالِه، فإذا كان له ذاتٌ حقيقةً لا تُمَاثِلُ الذواتِ، فالذاتُ مُتَّصِفَةٌ بصفاتٍ حقيقةً, لا تُمَاثِلُ صفاتِ سائرِ الذواتِ ) .
التوضيحُ
معنى هذا الأصْلِ أنَّ ما يَجِبُ اعتقادُه في الذاتِ يَجِبُ اعتقادُه في الصِّفَاتِ؛ فكما أننا نُثْبِتُ ذاتًا لائِقَةً باللهِ عَزَّ وَجَلَّ فكذلك نُثْبِتُ صفاتٍ لائِقَةً باللهِ تعالى، قالَ صاحِبُ الكِفايةِ:
" وثانِيَ الأصْلَيْنِ قُلْ والقولُ فِي = صفاتِه كالقولِ في الذاتِ يَفِي "
وقالَ ناظِمُ مُخْتَصَرِ خليلٍ:
" وما نقولُ في صِفاتِ قُدْسِه = فرْعُ الذي نقولُه في نفسِه "
وقد تَوافَرَت أقوالُ الأَئِمَّةِ في تأصيلِ هذا الأصْلِ قبلَ شيخِ الإسلامِ فكان شيخُ الإسلامِ خَيْرَ خَلَفٍ لأولئك السلَفِ، فمِن هذه الأقوالِ ما يَلِي:
قالَ الإمامُ أبو الحَسَنِ الأشعرِيُّ: " وأَجْمَعُوا على أنَّ صِفَتَه عَزَّ وَجَلَّ لا تُشْبِهُ صفاتِ الْمُحْدَثِينَ، كما أنَّ نَفْسَه لا تُشْبِهُ أَنْفُسَ المخلوقينَ، فالقولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ .
وقالَ الإمامُ السِّجْزِيُّ: ومع ذلك فلازِمٌ لهم في إثباتِ الذاتِ مِثلَ ما يُلْزِمُون أصحابَنا في الصِّفَاتِ .
قالَ الخطيبُ البَغداديُّ: " والأصْلُ في هذا أنَّ الكلامَ في الصِّفَاتِ فَرْعٌ عن الكلامِ في الذاتِ ويُحْتَذَى في ذلك حَذْوَه ومِثالَه، فإذا كان معلومًا أنَّ إثباتَ الْبَارِي سبحانَه وتعالى إثباتُ وجودٍ, لا إثباتُ كَيْفِيَّةٍ, فكذلك إثباتُ صفاتِه إنما هو إثباتُ وُجودٍ, لا إثباتُ تحديدٍ وتكييفٍ " .
وقالَ الإمامُ أبو القاسمِ التَّيْمِيُّ: وإثباتُ الذاتِ وُجودٌ, لا إثباتُ كَيْفِيَّةٍ، فكذلك إثباتُ الصِّفَاتِ ثم قالَ: وعلى هذا مَضَى السلَفُ كلُّهم " .
إلى غيرِ ذلك فهذا مِمَّا اجْتَمَعَ عليه سلَفُ الأمَّةِ وعلماؤُنا الأَئِمَّةُ.
- والكلامُ على هذه الفِقرةِ في مسائلَ:-
الأُولَى: مَن يُرَدُّ عليهم بهذا الأصْلِ: يُرَدُّ على جميعِ طوائفِ المُبْتَدِعةِ؛ لأنَّ الجميعَ يُثْبِتُ الذاتَ الإِلَهِيَّةَ، فيَشْمَلُ المُعَطِّلَةَ كما أنه يَشْمَلُ الْمُمَثِّلَةَ الخائضينَ في الكَيْفِيَّةِ .
ثانيًا: العَلاَقَة بينَ الأصْلَيْنِ: هما مُتقارِبان ومَن يُرَدُّ عليهم بالأوَّلِ يُرَدُّ عليهم بالثاني, إلا أنَّ هذا الأصْلَ أَعَمُّ؛ لأنه يَشْمَلُ الرَّدَّ على المُشَبِّهَةِ، فبَدَأَ بالأصْلِ الأوَّلِ لِيُقَرِّرَ مَبْدَأَ الإثباتِ، ثم بَيَّنَ هنا أنَّ الإثباتَ لا يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ, كما أنَّ إثباتَ الذاتِ لا يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ، فقُطْبُ رَحَى هذه الأصولِ والقواعدِ هو ما سَبَقَ من الإثباتِ بلا تمثيلٍ والتنزيهِ بلا تعطيلٍ .
ثالثًا: معنى الذاتِ: أصْلُها في اللغةِ: ذاتُ: مُؤَنَّثُ ذُو بمعنى صاحِبٍ وصاحِبَةٍ، ثم اسْتُعْمِلَتْ ذاتُ الشيءِ بمعنى حقيقتِه وعينِه، ومنه قولُ ابنِ عبَّاسٍ: تَفَكَّرُوا في كلِّ شيءٍ, ولا تَتَفَكَّرُوا في ذاتِ اللهِ. وقالَ التَّيْمِيُّ في الْحُجَّةِ: " فصلٌ في بيانِ ذِكْرِ الذاتِ: وقالَ قومٌ من أَهْلِ العلْمِ: ذاتُ اللهِ حقيقتُه، واخْتُلِفَ في دخولِ أل " عليها على قَوْلَيْنِ:
الأوَّلُ: أنها تَدْخُلُ عليها وهي عَربيَّةٌ, و هو قولُ جماعةٍ من السلَفِ .
الثاني: أنها لا تَدْخُلُ عليها, بل هي مِمَّا شاعَ عندَ المتأخِّرِينَ فهي لفظٌ مُوَلَّدٌ, وهو قولُ الْمُحَقِّقِينَ, واختارَه شيخُ الإسلامِ.
والصوابُ أنها تأتي في اللغةِ مُضَافَةً, وشواهِدُه من الكتابِ والسُّنَّةِ واللغةِ كثيرةٌ, ومنها ما يَلِي:
من الْقُرْآنِ: قولُه تعالى { وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
ومن السُّنَّةِ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ إِلَّا ثَلاَثَ كِذْبَاتٍ؛ اثْنَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ )
ومن اللغةِ: أبياتُ خُبَيْبٍ الأنصارِيِّ في مَقْتَلِه، فإنه قالَ:
ولست أُبَالِي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا = على أيِّ شِقٍّ كانَ في اللهِ مَصْرَعِي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإن يَشَأْ = يُبَارِكْ على أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
الرَّدُّ على مَن سأَل عن الكَيْفِيَّةِ
قولُه: ( فإذا قالَ السائلُ: كيف اسْتَوَى على العَرْشِ؟ قِيلَ له: كما قالَ ربيعةُ ومالِكٌ وغيرُهما رَضِيَ اللهُ عنهما: " الاستواءُ مَعلومٌ، والكيْفُ مَجهولٌ، والإيمانُ به وَاجِبٌ، والسؤالُ عن الكَيْفِيَّةِ بِدْعَةٌ؛ لأنه سؤالٌ عَمَّا لا يَعْلَمُه البَشَرُ, ولا يُمْكِنُهُمُ الإجابةُ عنه . وكذلك إذا قالَ: كيفَ يَنْزِلُ رَبُّنا إلى السماءِ الدُّنْيَا؟ قِيلَ له: كيف هو؟ فإذا قالَ: لا أَعْلَمُ كَيفيَّتَه، قِيلَ له: ونحن لا نَعْلَمُ كيف نُزولُه؛ إذ العلْمُ بكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ العلْمَ بكَيْفِيَّةِ الموصوفِ . وهو فرْعٌ له وتَابِعٌ له، فكيف تُطَالِبُنِي بالعلْمِ بكَيْفِيَّةِ سَمْعِه وبَصَرِه وتَكْليمِه واستوائِه ونزولِه، وأنت لا تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذاتِه؟ وإذا كُنْتَ تُقِرُّ بأنَّ له حقيقةً ثابتةً في نَفْسِ الأمْرِ مُسْتَوْجِبَةً لصفاتِ الكَمَالِ لا يُماثِلُها شيءٌ، فسَمْعُه وبَصَرُه وكلامُه ونزولُه واستواؤُه، ثابتٌ في نفْسِ الأمْرِ، وهو مُتَّصِفٌ بصفاتِ الكمالِ التي لا يُشابِهُهُ فيها سَمْعُ المخلوقينَ وبَصَرُهم وكلاُمهم ونزولُهم
واستواؤُهم ) .
التوضيحُ
إذا سألَ السائلُ عن كَيْفِيَّةِ استواءِ اللهِ تعالى فيُجابُ عليه بجوابَيْنِ أَثَرِيٍّ وعَقْلِيٍّ:
أَوَّلاً: الجوابُ الأَثَرِيُّ:
قولُ الإمامِ ربيعةَ ومالكٍ وغيرِهما: " الاستواءُ مَعلومٌ، والكيفُ مَجهولٌ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بِدْعَةٌ " فالاستواءُ مَعلومُ المعنى، وقد فَسَّرَه أَئِمَّةُ التابعينَ كما في البخاريِّ عن مُجاهِدٍ أنَّ اسْتَوَى بمعنى عَلاَ، وعن أبي العَالِيَةِ بمعنى ارْتَفَعَ، والكيفُ مَجهولٌ لقولِه تعالى: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } والإيمانُ بالاستواءِ واجبٌ، والسؤالُ عن كيفيَّتِه بِدْعَةٌ؛ لأنه سؤالٌ عما لا يَعْلَمُه البشَرُ, ولا يُمْكِنُهُمُ الإجابةُ عنه، وهذا بابٌ مُطَّرِدٌ في جميعِ الصِّفَاتِ الثابتةِ لربِّ البَرِيَّاتِ، وعلى هذا مَضَى السلَفُ, وأقوالُهم مُتَوَاتِرَةٌ, ومنها:
قولُ الإمامِ أبي حنيفةَ في النُّزُولِ: " يَنْزِلُ بلا كيفٍ " فأَثْبَتَ الصِّفَةَ ونَفَى العلْمَ بالكَيْفِيَّةِ .
قولُ الإمامِ الشافعيِّ: " ما صَحَّ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَه فلا يُقالُ فيه لِمَ, ولا كَيْفَ" .
قولُ الإمامِ ابنِ المبارَكِ " يَنْزِلُ بلا كيفٍ " .
ومِثْلُه قولُ الإمامِ إسحاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ, وقد سُئِلَ عن النُّزُولِ: " بلا كيفٍ " .
قولُ الإمامِ ابنِ خُزَيْمَةَ: " فنحن قائلون مُصَدِّقُون بما في هذه الأخبارِ من ذِكْرِ النزولِ غيرُ مُتَكَلِّفِينَ القولَ بصِفَتِه أو بصِفَةِ الكَيْفِيَّةِ؛ إذ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَصِفْ لنا كَيْفِيَّةَ النزولِ " .
قولُ الإمامِ الإسماعيليِّ: " وأنه عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إلى السماءِ الدنيا على ما صَحَّ به الخبَرُ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا اعتقادِ كَيْفِيَّةٍ " .
قولُ الإمامِ الصابونيِّ: " فمَجِيئُه وإتيانُه ونزولُه على حِسابِ ما يَلِيقُ بصِفاتِه من غيرِ تشبيهٍ وكيفٍ " .
وقالَ السَّرَخْسِيُّ: " وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أَثْبَتُوا الأصْلَ المعلومَ بالنصِّ - أي الصِّفَاتِ الثابتةَ - وتَوَقَّفُوا فيما هو المُتَشَابِهُ, وهو الكَيْفِيَّةُ، ولم يَجَوِّزُوا الاشتغالَ في طَلَبِ ذلك " .
وهذه الأجوبةُ الأثريَّةُ متوافِقَةٌ مع الأدِلَّةِ النقليَّةِ كقولِه تعالى: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} .
ثانيًا: الجوابُ العَقْليُّ:
يُقالُ للسائلِ: كيفَ هو, أي: كيفَ ذاتُه جَلَّ وَعَلاَ؟ فإذا قالَ: لا أَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذاتِه، قِيلَ له: ونحن لا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نزولِه، فإنَّ العلْمَ بكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ العلْمَ بكَيْفِيَّةِ الذاتِ الموصوفةِ، فالصِّفَةُ فَرْعٌ عن الموصوفِ، فكيفَ تُطَالِبُنَا بالعلْمِ بكَيْفِيَّةِ سَمْعِهِ ونزولِه واستوائِه, وأَنْتَ لا تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِه .
فإذا كنتَ تُقِرُّ بأنَّ له ذاتًا حقيقيَّةً ثابتةً مُسْتَوْجِبَةً لصفاتِ الكمالِ لا يُمَاثِلُها شيءٌ، فسَمْعُه وبَصَرُه ونزولُه واستواؤُه ثابتٌ متَّصِفٌ بالكمالِ, لا يُشَابِهُهُ شيءٌ من صِفاتِ المخلوقينَ .
والرَّدُّ العَقْليُّ هو تَطبيقٌ لهذا الأصْلِ كما هو وَاضِحٌ .
استطرادٌ: رجوعٌ لمناقَشَةِ مَن يُثْبِتُ بعضَ الصِّفَاتِ دونَ بعضٍ:
قولُه: ( وهذا الكلامُ لازِمٌ لهم في العَقْلِيَّاتِ، وفي تأويلِ السَّمْعِيَّاتِ، فإنَّ مَن أَثْبَتَ شيئًا ونَفَى شيئًا بالعَقْلِ، إذا أُلْزِمَ فيما نَفَاه من الصِّفَاتِ التي جاءَ بها الكتابُ والسُّنَّةُ نظيرَ ما يَلْزَمُه فيما أَثْبَتَه، ولو طُولِبَ بالفَرْقِ بينَ المحذورِ في هذا وهذا لم يَجِدْ بينَهما فَرْقًا، ولهذا لا يُوجَدُ لنُفَاةِ بعضِ الصِّفَاتِ دونَ بعضٍ - الذين يُوجِبُون فيما نَفَوْهُ، إمَّا التفويضَ وإمَّا التأويلَ المخالِفَ لِمُقْتَضَى اللفظِ - قانونٌ مستقيمٌ .
فإذا قِيلَ لهم: لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هذا وأَقْرَرْتُم هذا، والسؤالُ فيهما واحدٌ؟ لم يكنْ لهم جوابٌ صحيحٌ، فهذا تَناقُضُهم في النَّفْيِ، وكذا تَناقُضُهم في الإثباتِ، فإنَّ مَن تأوَّلَ النصوصَ على معنًى من المَعَاني التي يُثْبِتُها، فإنهم إذا صَرَفُوا النصَّ عن المعنى الذي هو مُقْتَضَاه إلى معنًى آخَرَ: لَزِمَهُمْ في المعنى المصروفِ إليه ما كان يَلْزَمُهم في المعنى المصروفِ عنه . فإذا قالَ قائلٌ: تأويلُ مَحَبَّتِه ورضاه وغَضَبِه وسَخَطِه: هو إرادتهُ للثوابِ والعِقابِ، كان ما يَلْزَمُه في الإرادةِ نظيرَ ما يَلْزَمُه في الْحُبِّ والْمَقْتِ والرضا والسَّخَطِ، ولو فُسِّرَ ذلك بمفعولاتِه، وهو ما يَخْلُقُه من الثوابِ والعِقابِ فإنه يَلْزَمُه في ذلك نظيرُ ما فَرَّ منه، فإنَّ الفِعْلَ المعقولَ لا بُدَّ أن يَقومَ أَوَّلاً بالفاعِلِ، والثوابُ والعقابُ المفعولُ إنما يكونُ على فِعْلِ ما يُحِبُّه ويَرْضَاه ويَسْخَطُه ويَبْغَضُه الْمُثيبُ المعاقِبُ. فَهُمْ إن أَثْبَتوا الفعْلَ على مِثْلِ الوجهِ المعقولِ في الشاهِدِ للعَبْدِ مَثَّلُوا، وإن أَثْبَتُوه على خِلافِ ذلك فكذلك سائرُ الصِّفَاتِ ) .
التوضيحُ
رَجَعَ شيخُ الإسلامِ مَرَّةً أُخْرَى لإلزامِ الأشاعرةِ الذين يُثْبِتُون بعضَ الصِّفَاتِ دونَ بعضٍ .
وهذا استطرادٌ فقد انْتَهَى من ذِكْرِ الأصْلَيْنِ فأَرَادَ أن يَخْتِمَ به, فيَقولُ: إنَّ التسوِيَةَ بينَ جميعِ الصِّفَاتِ مع اعتقادِ عَدَمِ التمثيلِ لازِمٌ لهم عَقْلاً ونَقْلاً، فإنه يَلْزَمُهم فيما نَفَوْهُ نظيرَ ما يَلْزَمُهم فيما أَثْبَتُوه كما سَبَقَ في مِثالِ الغَضَبِ والإرادةِ، وإذا طُولِبَ بالفَرْقِ لم يَجِدْ فَرْقًا، ولهذا لا يُوجَدُ لهؤلاءِ قانونٌ مستقيمٌ فهم متَناقِضُون في النَّفْيِ والإثباتِ .
فإذا قِيلَ لهم: لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هذا وأَقْرَرْتُم هذا؟ لم يكنْ لهم جوابٌ صحيحٌ, فهذا تَناقُضُهم في النَّفْيِ .
وتَناقُضُهم في الإثباتِ عندَما يُؤَوِّلُونَ ظاهِرَ النصِّ إلى معنًى آخَرَ فإنه يَلْزَمُه في المعنى الآخَرِ الْمُثْبَتِ ما كان يَلْزَمُهم في المعنى الظاهِرِ الْمُؤَوَّلِ, والواقِعُ أنَّ هذا التَناقُضَ في النَّفْيِ والإثباتِ مُتَلاَزِمٌ؛ لأنه إذا تَأَوَّلَ نَصًّا أَثْبَتَ مَعْنًى باطِلاً, وإذا أَثْبَتَ معنًى باطِلاً نَفَى معنًى صحيحًا . والأمْثِلَةُ على ذلك .
تأويلُهم للمَحَبَّةِ والرِّضَا بإرادةِ الثوابِ، والغضَبِ والسَّخَطِ بإرادةِ العِقابِ لَزِمَهُمْ في المعنى الآخَرِ, وهو الإرادةُ, ما يَلْزَمُهم في المعنى الأوَّلِ وهو الْحُبُّ والْمَقْتُ والرِّضا والسَّخَطُ.
وإن تَأَوَّلَ تلك الصِّفَاتِ بمخلوقاتِه فيقولُ: هذه الصِّفَاتُ عبارةٌ عَمَّا يَخْلُقُه من الثوابِ والعِقابِ، فيُجابُ عليه بِجَوَابِيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ الفِعْلَ المعقولَ, أي: الذي يَعْقِلُه العُقَلاءُ, لا بُدَّ أن يقومَ أَوَّلاً بالفاعِلِ؛ فالثوابُ فِعْلٌ يَفْعَلُه اللهُ في مخلوقاتِه فلا بُدَّ أن يُوصَفَ الفاعِلُ بالإثابةِ؛ لأنه فاعِلٌ للثوابِ فهو مُثيبٌ، وكذلك العِقابُ فحينئذٍ أَثْبَتُّمْ للهِ الفِعْلَ، والعَبْدُ يُوصَفُ بالفعْلِ, وهذا نظيرُ ما فَرَرْتُمْ منه، فإنَّ الإثابةَ والمعاقَبَةَ أَفعالٌ يَتَّصِفُ بها المخلوقُ فإن أَثْبَتُّمُوها على الوجهِ الذي يَتِّصِفُ به المخلوقُ وَقَعْتُمْ في التشبيهِ، وإن أَثْبَتُّمُوها كما يَلِيقُ باللهِ فكذلك جميعُ الصِّفَاتِ .
الثاني: أنَّ الثوابَ والعِقابَ المفعولَ إنما يكونُ على ما يُحِبُّهُ ويَرْضَاه الْمُثيبُ ويَسْخَطُه ويَبْغَضُه الْمُعَاقِبُ، فلَزِمَ من إثباتِ الثوابِ والعِقابِ إثباتُ تلك الصِّفَاتِ .
- ملحوظةٌ:
ذَكَرَ شَيْخُ الإسلامِ أنَّ للأشاعرةِ في الصِّفَاتِ مَسْلَكَيْنِ:
الأوَّلُ: التأوُّلُ: وقد سَبَقَ وهو صَرْفُ اللفظِ عن الاحتمالِ الراجِحِ إلى الاحتمالِ المرحوحِ لغيرِ دليلٍ، كقولِهم في قولِه تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } أي: بقُدْرَتِي .
الثاني: التفويضُ: وهو إمرارُ النصوصِ على ظاهِرِها من غيرِ اعتقادِ مَعْنًى لها، ففي الْمِثالِ السابقِ يقولون: " اليدُ " لفظٌ لا يُعْلَمُ معناه, بل هو بِمَنْزِلَةِ الحروفِ الْمُقَطَّعَةِ في الْقُرْآنِ .
وكِلاَ الْمَسْلَكَيْنِ يَرْجِعانِ إلى التعطيلِ؛ لأنَّ في الْمَسْلَكَيْنِ نَفْيًا للمعاني الصحيحةِ.
لذلك يقولُ اللقانيُّ صاحبُ جَوْهَرَةِ توحيدِهم:
(40- وكلُّ نصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا = أوِّلْهُ أو فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيها )
فما التفويضُ إلا أُحْبُولةٌ شيْطَانِيَّةٌ تَعَانَقَتْ مع التأويلِ لتعطيلِ صفاتِ العَلِيِّ الجليلِ .
خُلاصَةُ ما في الأصْلَيْنِ الشريفينِ
الأصْلُ الأوَّلُ: القولُ في بعضِ الصِّفَاتِ كالقولِ في بعضٍ " .
يُرَدُّ بهذا الأصْلِ على الأَشَاعِرَةِ والمُعْتَزِلةِ والجَهْمِيَّةِ وأَتْبَاعِهم .
كلُّ مَن نَفَى الصِّفَاتِ فِرارًا من محذورٍ فإنه يَلْزَمُه نظيرُ ما فَرَّ منه .
الأصْلُ الثاني: القولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ .
مَضَى السلَفُ على إثباتِ المعنى ونَفْيِ الكيفِ .
للأَشَاعِرَةِ مَسْلَكَانِ في الصِّفَاتِ: التأويلُ والتفويضُ .
المناقَشَةُ
وَضِّح المقصودَ بالأصْلِ الأوَّلِ: " القولُ في بعضِ الصِّفَاتِ كالقولِ في بعضٍ "؟
على مَنْ يُرَدُّ بهذا الأصْلِ؟
عَرِّفِ الأَشَاعِرَةَ ومَذْهَبَهم في الصِّفَاتِ والرَّدَّ عليهم؟
إذا احْتَجَّ الأَشَاعِرَةُ بدَلالةِ العَقْلِ على ما يُثْبِتُونه, فكيفَ تَرُدُّ عليهم؟
ما معنى العِلَّةِ الغائيَّةِ والعِلَّةِ الفاعليَّةِ؟
ما مَذْهَبُ الجَهْمِيَّةِ وشُبَهتُهم؟ وكيف يُجابُ عنهم؟
ما الاعتراضُ المشهورُ للباطنيَّةِ, وما الجوابُ عليه باختصارٍ؟
تَكَلَّمْ عن شُبْهَةِ التَرْكِيبِ من حيث معناها، والقائلون بها، والرَّدُّ عليهم؟
وَضِّح المقصودَ بالأصْلِ الثاني: " القولُ في الصِّفَاتِ كالقولِ في الذاتِ؟
اذكُرْ أقوالَ الأَئِمَّةِ الْمُؤَيِّدَةَ لهذا الأصْلِ؟
تَكَلَّمْ عن معنى الذاتِ مع ذِكْرِ الْخِلافِ في أصلِها؟
ما الرَّدُّ على مَن سألَ عن كَيْفِيَّةِ الصِّفَاتِ؟
كيف تُجِيبُ عن الْأَشْعَرِيِّ إن قالَ بأنَّ صفاتِ الْمَحَبَّةِ والغَضَبِ عبارةٌ عما يَخْلُقُه اللهُ من الثوابِ والعِقابِ؟
اذْكُر الْمَسْلَكَيْنِ اللذيْنِ بَنَى عليهما الأَشَاعِرَةُ مُعْتَقَدَهم.