دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 01:58 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي القول في بعض الصفات كالقول في بعض

وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِأَصْلَيْنِ شَرِيفَيْنِ، وَبِمَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - وَبِخَاتِمَةٍ جَامِعَةٍ.
فـَصـــــلٌ
فَأَمَّا الْأَصْلاَنِ:
فَأَحَدُهُمَا - أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ.
فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُقِرُّ بِأَنَّ اللَّهَ حَيٌّ بِحَيَاةٍ، عَلِيمٌ بِعِلْمٍ، قَدِيرٌ بِقُدْرَةٍ، سَمِيعٌ بِسَمْعٍ، بَصِيرٌ بِبَصَرٍ، مُتَكَلِّمٌ بِكَلاَمٍ، مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ. وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّه حَقِيقَةً، وَيُنَازِعُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَكَرَاهِيَتِهِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَجَازًا، وَيُفَسِّرُهُ إِمَّا بِالْإِرَادَةِ، وَإِمَّا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ النِّعَمِ وَالْعُقُوبَاتِ.
قِيلَ لَهُ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا نَفَيْتَه وَبَيْنَ مَا أَثْبَتْهُ، بَلِ الْقَوْلُ فِي أَحَدِهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْآخَرِ، فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ إِرَادَتَهُ مِثْلُ إِرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَكَذَلِكَ مَحَبَّتُه وَرِضَاهُ وَغَضَبُه، وَهَذَا هُوَ التَّمْثِيلُ، وَإِنْ قُلْتَ: لَهُ إِرَادَةٌ تَلِيقُ بِهِ، كَمَا أَنَّ لِلْمَخْلُوقِ إِرَادَةً تَلِيقُ بِهِ قِيلَ لَك: وَكَذَلِكَ لَهُ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ، وَلَهُ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ.
وَإِنْ قَالَ: الْغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الانْتِقَامِ.
قِيلَ لَهُ: وَالْإِرَادَةُ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، فَإِنْ قُلْتَ: هَذِهِ إِرَادَةُ الْمَخْلُوقِ، قِيلَ لَك: وَهَذَا غَضَبُ الْمَخْلُوقِ.
وَكَذَلِكَ يُلْزَمُ بِالْقَوْلِ فِي كَلاَمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، إِنْ نَفَى عَنْهُ الغَضَبَ وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ، فَهَذَا مُنْتَفٍ عَنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلاَمِ وَجَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ لاَ حَقِيقَةَ لِهَذَا إِلاَّ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِينَ فَيَجِبُ نَفْيُهُ، عَنْهُ قِيلَ لَهُ: وَهَكَذَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلاَمُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ.
فَهَذَا الْمَفْرِقُ بَيْنَ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضٍ، يُقَالُ لَهُ فِيمَا نَفَاهُ كَمَا يَقُولُهُ هُوَ لِمُنَازِعِهِ فِيمَا أَثْبَتَهُ، فَإِذَا قَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: لَيْسَ لَهُ إِرَادَةٌ وَلاَ كَلاَمٌ قَائِمٌ بِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لاَ تَقُومُ إِلاَّ بِالْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّصِفُ بِهَا الْقَدِيمُ، وَلاَ تَكُونُ كَصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ. فَهَكَذَا يَقُولُ لَهُ الْمُثْبِتُونَ لِسَائِرِ الصِّفَاتِ مِنَ المَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالَ: تِلْكَ الصِّفَاتُ أَثْبَتَهَا بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَادِثَ دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَالتَّخْصِيصَ دَلَّ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِحْكَامَ دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَيَاةِ، وَالْحَيُّ لاَ يَخْلُو عَنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلاَمِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ.
قَالَ لَهُ سَائِرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ: لَك جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لاَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ، فَهَبْ أَنَّ مَا سَلَكْتَهُ مِنَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لاَ يُثْبِتُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يَنْفِيه، وَلَيْسَ لَك أَنْ تَنْفِيَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ؛ لِأَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، كَمَا عَلَى الْمُثْبِتِ. وَالسَّمْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ وَلاَ سَمْعِيٌّ، فَيَجِبُ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيلُ السَّالِمُ عَنِ المُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ.
الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُ إِثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَظِيرِ مَا أَثْبَتَّ بِهِ تِلْكَ مِنَ العَقْلِيَّاتِ، فَيُقَالُ: نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ، كَدَلاَلَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَإِكْرَامُ الطَّائِعِينَ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، وَعِقَابُ الْكُفَّارِ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِهِمْ، كَمَا قَدْ ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ وَالْخَبَرِ مِنْ إِكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ وَعِقَابِ أَعْدَائِهِ، وَالْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ فِي مَفْعُولاَتِهِ وَمَأْمُورَاتِهِ - وَهِيَ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَفْعُولاَتُه وَمَأْمُورَاتُهُ مِنَ العَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ - تَدُلُّ عَلَى حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ كَمَا يَدُلُّ التَّخْصِيصُ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَأَوْلَى، لِقُوَّةِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ، مِنَ النِّعَمِ وَالْحِكَمِ أَعْظَمَ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلاَلَةِ عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُنَكِرُ الصِّفَاتِ، وَيُقِرُّ بِالْأَسْمَاءِ كَالْمُعْتَزِلِيِّ، الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ.
قِيلَ لَهُ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَبَيْنَ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّك إِنْ قُلْتَ: إِثْبَاتُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا؛ لِأَنَّا لاَ نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مُتَّصِفًا بِالصِّفَاتِ إِلاَّ مَا هُوَ جِسْمٌ. قِيلَ لَك: وَلاَ تَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مَا هُوَ مُسَمًّى بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إِلاَّ مَا هُوَ جِسْمٌ، فَإِنْ نَفَيْتَ مَا نَفَيْتَ لِكَوْنِكَ لَمْ تَجِدْهُ فِي الشَّاهِدِ إِلاَّ لِجِسْمٍ فَانْفِ الْأَسْمَاءَ، بَلْ وَكُلَّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّك لاَ تَجِدُهُ فِي الشَّاهِدِ إِلاَّ لِجِسْمٍ.
فَكُلُّ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ، يَحْتَجُّ بِهِ نَافِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَمَا كَانَ جَوَابًا لِذَلِكَ كَانَ جَوَابًا لِمُثْبِتي الصِّفَاتِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنَ الغُلاَةِ، نُفاةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَقَالَ: لاَ أَقُولُ هُوَ مَوْجُودٌ وَلاَ حَيٌّ وَلاَ عَلِيمٌ وَلاَ قَدِيرٌ، بَلْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِمَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ هِيَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ بِالْمَوْجُودِ الْحَيِّ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ.
قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلاَ حَيٍّ وَلاَ عَلِيمٍ وَلاَ قَدِيرٍ، كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمَعْدُومَاتِ، وَذَلِكَ أَقْبَحُ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْمَوْجُودَاتِ.
فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ.
قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُكَ التَّشْبِيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ مِنَ المُمْتَنِعَاتِ: فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، أَوْ لاَ مَوْجُودًا وَلاَ مَعْدُومًا، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ بِاجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، أَوْ يُوصَفَ بِاجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَنَفْيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَنَفْيِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا يَمْتَنِعُ فِي النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يَكُونُ قَابِلًا لَهُمَا، وَهَذَانِ يَتَقَابَلاَنِ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلِكَةُ، لاَ تُقَابِلُ السَّلْبَ والْإِيجابَ، فَإِنَّ الْجِدَارَ لاَ يُقَالُ لَهُ: أَعْمَى وَلاَ بَصِيرٌ، وَلاَ حَيٌّ وَلاَ مَيِّتٌ، إِذْ لَيْسَ بِقَابِلٍ لَهُمَا.
قِيلَ لَك: أوَّلًا: هَذَا لاَ يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِِ، فَإِنَّهُمَا مُتَقَابِلاَنِ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ، بِاتِّفَاقِ الْعُقَلاَءِ، فَيَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، فَهَذَا اصْطِلاَحٌ اصْطَلَحَتْ عَلَيْهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ، وَالِاصْطِلاَحَاتُ اللَّفْظِيَّةُ لَيْسَتْ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) فَسَمَّى الْجَمَادَ مَيِّتًا وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهمْ.
وَقِيلَ لَك، ثَانِيًا: فَمَا لاَ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْبَصَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ المُتَقَابِلاَتِ أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذَلِكَ، فَالْأَعْمَى الَّذِي يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْبَصَرِ أَكْمَلُ مِنَ الجَمَادِ الَّذِي لاَ يَقْبَلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا. فَأَنْتَ فَرَرْتَ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْحَيَوَانَاتِ الْقَابِلَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَوَصَفْتَهُ بِصِفَاتِ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لاَ تَقْبَلُ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَمَا لاَ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا مِنَ القَابِلِ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، بَلْ وَمِن اجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَنَفْيِهِمَا جَمِيعًا، فَمَا نَفَيْتَ عَنْهُ قَبُولَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ كَانَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا نَفَيْتَ عَنْهُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا فِي صَرَائِحِ الْعُقُولِ فَذَلِكَ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا، فَجَعَلْتَ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الَّذِي لاَ يَقْبَلُ الْعَدَمَ هُوَ أَعْظَمَ الْمُمْتَنِعَاتِ. وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ.
وَهَؤُلاَءِ الْبَاطِنِيَّةُ مِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِرَفْعِ النَّقِيضَيْنِ: الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. وَرَفْعُهُمَا كَجَمْعِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لاَ أُثْبِتُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَامْتِنَاعُه عَنْ إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لاَ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَجَهْلِ الْجَاهِلِ، وَسُكُوتِ السَّاكِتِ، الَّذِي لاَ يُعَبِّرُ عَنِ الحَقَائِقِ.
وَإِذَا كَانَ مَا لاَ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَلاَ الْعَدَمَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُهُ لَهُمَا - مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ - فَمَا يُقَدَّرُ لاَ يَقْبَلُ الْحَيَاةَ وَلاَ الْمَوْتَ، وَلاَ الْعِلْمَ وَلاَ الْجَهْلَ، وَلاَ الْقُدْرَةَ وَلاَ الْعَجْزَ، وَلاَ الْكَلاَمَ وَلاَ الْخَرَسَ، وَلاَ الْعَمَى وَلاَ الْبَصَرَ، وَلاَ السَّمْعَ وَلاَ الصَّمَمَ، أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ مِمَّا يُقَدَّرُ قَابِلًا لَهُمَا مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ. وَحِينَئِذٍ فَنَفْيُهُمَا مَعَ كَوْنِهِ قَابِلًا لَهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْوُجُودِ وَالْمُمْكِنِ، وَمَا جَازَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ قَابِلًا، وَجَبَ لَهُ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا جَازَ الْقَبُولُ وَجَبَ، وَإِذَا جَازَ وُجُودُ الْمَقْبُولِ وَجَبَ.
وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبُيِّنَ وُجُوبُ اتِّصَافِه بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لاَ نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ.
وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: اتِّفَاقُ الْمُسَمَّيَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لَيْسَ هُوَ التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ، الَّذِي نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ: السَّمْعِيَّاتُ، وَالْعَقْلِيَّاتُ، وَإِنَّمَا نَفَتْ مَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاكَهَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَالِقُ، مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِهِ أَوْ جَوَازِهِ أَو امْتِنَاعِهِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْرَكَهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ، وَلاَ يُشْرِكَهُ مَخْلُوقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَأَمَّا مَا نَفَيْتَه فَهُوَ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَتَسْمِيَتُك ذَلِكَ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا تَمْوِيهٌ عَلَى الْجُهَّالِ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَعْنًى سَمَّاهُ مُسَمٍّ بِهَذَا الِاسْمِ يَجِبُ نَفْيُهُ. وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَكَانَ كُلُّ مُبْطِلٍ يُسَمِّي الْحَقَّ بِأَسْمَاءٍ يَنْفِرُ عَنْهَا بَعْضُ النَّاسِ، لِيُكَذِّبَ النَّاسُ بِالْحَقِّ الْمَعْلُومِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ.
وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَفْسَدَتِ الْمَلاَحِدَةُ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ النَّاسِ عُقُولَهُمْ وَدِينَهُمْ، حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ إِلَى أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْجَهَالَةِ، وَأَبْلَغِ الْغَيِّ وَالضَّلاَلَةِ.
وَإِنْ قَالَ نُفاةُ الصِّفَاتِ: إِثْبَاتُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ، وَهَذَا تَرْكِيبٌ مُمْتَنِعٌ.
قِيلَ: وَإِذَا قُلْتُمْ: هُوَ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ، وَعَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ، وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ، وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ، أَفَلَيَس الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا، فَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَغَايِرَةٌ فِي الْعَقْلِ وَهَذَا تَرْكِيبٌ عِنْدَكُمْ، وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَهُ وَتُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا تَوْحِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ هَذَا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا.
قِيلَ لَهُمْ: وَاتِّصَافُ الذَّاتِ بِالصِّفَاتِ اللاَّزِمَةِ لَهَا تَوْحِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ هُوَ تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا.
وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ المَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ عَالِمًا هُوَ مَعْنَى كَوْنِه قَادِرًا، وَلاَ نَفْسُ ذَاتِهِ هُوَ نَفْسُ كَوْنِهِ عالِمًا قَادِرًا، فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى، وَأَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ سَفْسَطَةً، ثُمَّ إِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنَّهُ إِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا، فَيَكُونُ الْوُجُودُ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ لاَ بِالنَّوْعِ.
وَحِينَئِذٍ، فَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْمُمْكِنِِ هُوَ وُجُودُ الْوَاجِبِ، كَانَ وُجُودُ كُلِّ مَخْلُوقٍ - يُعْدَمُ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَيُوجَدُ بَعْدَ عَدَمِهِ - هُوَ نَفْسَ وُجُودِ الْحَقِّ الْقَدِيمِ الدَّائِمِ الْبَاقِي، الَّذِي لاَ يَقْبَلُ الْعَدَمَ.
وَإِذَا قُدِّرَ هَذَا، كَانَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ مَوْصُوفًا بِكُلِّ تَشْبِيهٍ وَتَجْسِيمٍ، وَكُلِّ نَقْصٍ وَكُلِّ عَيْبٍ، كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ أَهْلُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، الَّذِينَ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ، وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ أَقْوَالُ نُفاةِ الصِّفَاتِ بَاطِلَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَهَذَا بَابٌ مُطَّرِدٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النُّفاةِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ، لاَ يَنْفِي شَيْئًا - قَرَارًا مِمَّا هُوَ مَحْذُورٌ - إِلاَّ وَقَدْ أَثْبَتَ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ نَظِيرَ مَا فَرَّ مِنْهُ، فَلاَ بُدَّ لَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ مَوْجُودًا وَاجِبًا قَدِيمًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلاَ يَكُونُ فِيهَا مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَكُلِّ مَا نُثْبِتُهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ تَتَوَاطَأُ فِيهِ الْمُسَمَّيَاتُ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَمَا فُهِمَ الْخِطَابُ، وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ مَا اخْتُصَّ اللَّهُ بِهِ، وَامْتَازَ عَنْ خَلْقِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَوْ يَدُورُ فِي الْخَيَالِ.


  #2  
قديم 6 ذو الحجة 1429هـ/4-12-2008م, 09:35 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

فأما الأصْلانِ:
فأحدُهُمَا: أنْ يُقالَ لمنْ يُثبِتُ بعضَ الصِّفاتِ دونَ بعضٍ:
القولُ في بعضِ الصِّفاتِ كالقولِ في بعضٍ".
أيْ أنَّ مَنْ أَثبَتَ شيئاً ممَّا أَثبَتَهُ اللهُ لنفسِهِ مِنَ الصِّفاتِ أُلْزِمَ بإثْبَاتِ الباقِي، ومنْ نَفَى شيئاً منْهُ أُلْزِمَ بنفيِ ما أثبَتَه وإلا كانَ متناقِضاً.
مثالُ ذلكَ: إذَا كانَ المخاطَبُ يُثبِتُ للهِ تعالى حقيقةَ الإِرادةِ، ويَنفي حقيقةَ الغضَبِ ويُفَسِّرُهُ: إما بإرادةِ الانتقامِ، وإما بالانتقامِ نفسِهِ.
فيُقالُ لهُ: لا فرْقَ بينَ ما أثبتَّهُ منْ حقيقةِ الغضَبِ، فإنْ كانَ إثباتُ حقيقةِ الغضبِ يَستلزِمُ التَّمثيلَ، فإثباتُ حقيقةِ الإِرادةِ يَستلزِمُهُ أيضاً.
وإنْ كانَ إثباتُ حقيقةِ الإِرادةِ لاَ يَستلزِمُهُ، فإثباتُ الغضبِ لاَ يَستلزِمُهُ أيضاً، لأنَّ القولَ في أحدِهِمَا كالقولِ في الآخَرِ، وعلى هذا يَلْزَمُكَ إثباتُ الجميعِ، أو نفيُ الجميعِ.
فإنْ قالَ: الإِرادةُ الَّتي أثْبَتُّهَا لا تَستلزِمُ التَّمثيلَ، لأنَّني أَعْنِي بهَا إرادةً تَلِيقُ باللهِ عزَّ وجلَّ لا تُماثِلُ إرادةَ المخلوقِ.
قيلَ لهُ: فأَثْبِتْ للهِ غَضَباً يَليقُ بهِ ولاَ يُماثِلُ غَضَبَ المخلوقِ.
فإنْ قالَ: الغضبُ غَلَيَانُ دمِ القلبِ لطَلَبِ الانتقامِ وهذَا لاَ يَليقُ باللهِ تعالى.
قيلَ له: والإرادةُ مَيْلُ النفْسِ إلي جَلْبِ منفعةٍ أو دفْعِ مَضرَّةٍ وهذا لا يَليقُ باللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي.
فإنْ قالَ: هذهِ إرادةُ المخلوقِ، وأمَّا إرادةُ اللهِ فتَليقُ بِهِ.
قيلَ لَهُ: والغضبُ بالمعنى الَّذي قلتَ غضبُ المخلوقِ، وأما غضَبُ اللهِ فيَليقُ بهِ، وهكذا القولُ في جميع الصِّفاتِ الَّتي نفاهَا يُقالُ لهُ فيهَا مَا يقولُهُ هُوَ فيمَا أَثبَتَهُ.
فإنْ قالَ: أُثْبِتُ ما أُثْبِتُهُ مِنَ الصِّفاتِ بدَلالةِ العَقْلِ عليْهِ.
أَجَبْنَا عنْهُ بثلاثةِ أجوبةٍ سَبقَ ذِكرُها آخِرَ الرَّدِّ على الطَّائِفةِ الأُولى.


  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 12:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح مقاصد المصطلحات العلمية للشيخ: محمد بن عبد الرحمن الخميس


(18) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(وإِنْ قُلْتَ: الغضبُ غليانُ دمِ القلبِ لِطَلَبِ الانتقامِ.
فَيُقَالُ لَهُ: الإرادةُ مَيْلُ النفسِ إلى جَلْبِ منفعةٍ أو دَفْعِ مَضَرَّةٍ.
فإِنْ قُلْتَ: هذهِ إرادةُ المخلوقِ.
قيلَ لكَ: وهذا غضبُ المخلوقِ)

الشرحُ:
أَقُولُ: هذانِ نَقْضَانِ وإلزامانِ من جانبِ شَيْخِ الْإِسْلاَمِ لِلرَّدِّ على هؤلاءِ الجَهْمِيَّةِ المُعَطِّلَةِ الذينَ يُعَطِّلُونَ بعضَ الصفاتِ بِشُبْهَةِ التشبيهِ دونَ بعضٍ، فَيُثْبِتُونَ للهِ الإرادةَ. ولكنْ يَنْفُونَ عنهُ الغضبَ بِشُبْهَةِ التشبيهِ؛ لأَنَّ الغضبَ عندَهُم غليانُ دمِ القلبِ بِطَلَبِ الانتقامِ، واللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عن الدمِ والقلبِ، فإِذا ثَبَتَ للهِ تَعَالَى "الغضبُ" صارَ مُشَابِهًا لِخَلْقِهِ.

هذهِ كانتْ شُبْهَةَ التشبيهِ، فَعَارَضَهُم شَيْخُ الْإِسْلاَمِ وقَالَ لَهُم: قَوْلُكُم هذا مُتَنَاقِضٌ مُتَهَافِتٌ مُضْطَرِبٌ؛ لأَنَّكُمْ نَفَيْتُم "الغضبَ" لِحُجَّةِ التشبيهِ فَهَلاَّ نَفَيْتُم عنهُ "الإرادةَ" مع أنَّ الإرادةَ ميلُ النفسِ إلى جَلْبِ المنفعةِ ودَفْعِ المَضَرَّةِ، واللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عن ميلِ النفسِ عندَكُم، وكذا عن جَلْبِ المنفعةِ ودَفْعِ المضرةِ؛ لأَنَّهُ غَنِيٌّ غَيْرُ مُحْتَاجٍ، هذه كانتْ معارضةً أُولَى، والمعارضةُ الثانيةُ: هيَ:

أَنَّهُ إِنْ قَالُوا في الجوابِ: إِنَّ هذهِ إرادةُ المخلوقِ لا إرادةُ الخالقِ، فَيُقَالُ لَهُم: هذا غضبُ المخلوقِ دونَ غضبِ الخالقِ، فلا تَشْبِيهَ البَتَّةَ.
إذًا لا بُدَّ من إثباتِ الصفاتِ كُلِّهَا, غَضَبًا كانتْ أو إرادةً أو غَيْرَهَا.

(19) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(عدمُ الدليلِ المُعَيَّنِ لا يَسْتَلْزِمُ عدمَ المدلولِ المُعَيَّنِ)

الشرحُ:
مَعْنَاهُ: أنَّ المدلولَ (الدعوى) أو (المطلوبَ) قد تَكُونُ لَهُ أدلَّةٌ كثيرةٌ.
فإذا انْتَفَى دليلٌ واحدٌ لا يَسْتَلْزِمُ ذلكَ انتفاءَ ذلكَ المدلولِ؛ لأَنَّ ذلكَ المدلولَ ثابِتٌ بأدلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ ذلكَ الدليلِ.
فانتفاءُ الدليلِ المُعَيَّنِ الخاصِّ لا يَسْتَلْزِمُ انتفاءَ المدلولِ،
مثالُ ذلكَ: أنَّ الشمسَ ثابتةٌ بأدلَّةٍ كثيرةٍ، منها الحِسُّ، ومنها النورُ، ومنها الحرارةُ، فإذا انْتَفَى دليلُ الحِسِّ في الأَعْمَى مَثَلًا لا يَسْتَلْزِمُ انتفاءَ الشمسِ؛
لأَنَّ الشمسَ ثابتةٌ بدليلِ النورِ وبدليلِ الحرارةِ أَيْضًا.

(20) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فإِنْ قُلْتَ: إِنَّما يَمْتَنِعُ نَفْيُ النقيضَيْنِ عَمَّا يَكُونُ قابِلًا لَهُمَا، وهذانِ يتقابلانِ تقابُلَ العدمِ والمَلَكَةِ لا تَقَابُلَ السلبِ والإيجابِ..
فإِنَّ الجدارَ لا يُقَالُ لَهُ: أَعْمَى ولا بصيرٌ ولا حيٌّ ولا مَيِّتٌ.. )

الشرحُ:
أَقُولُ: هذا الكلامُ يَحْتَاجُ إلى ذِكْرِ عِدَّةٍ مِن المصطلحاتِ المَنْطِقِيَّةِ.
فأَقُولُ: النسبةُ بينَ الشيئَيْنِ قد تكونُ نسبةَ التخالُفِ، فهما مُتَخَالِفَانِ.
والمُتَخَالِفَانِ إِنْ كانَ أحدُهُمَا وُجُودِيًّا والآخَرُ عَدَمِيًّا.

والمتخالفانِ إِنْ كانَ أَحَدُهُمَا وُجُودِيًّا والآخرُ عَدَمِيًّا، فهما نقيضانِ، نحوَ: الإِنسانُ والْلاَ إِنسانٌ والنقيضانِ لا يَجْتَمِعَانِ ولا يَرْتَفِعَانِ.
وإِنَّ كانَ كلاهُمَا وُجُودِيًّا ولا يُمْكِنُ أنْ يَجْتَمِعَا، ولكنْ يجوزُ ارْتِفَاعُهُمَا نحوَ: الإِنسانُ والحجرُ.
فالإِنسانُ والحجرُ لا يَجْتَمِعَانِ في مَحَلٍّ واحدٍ،
فلا يُقَالُ: هذا الشَّيْءُ إِنسانٌ وحجرٌ، ولكنْ يجوزُ ارتِفَاعُهُمَا.
فيُقَالُ: هذا الشَّيْءُ لا حَجَرٌ ولا إِنسانٌ؛ لأَنَّهُ كتابٌ.
وإِنْ كانَ تَعَقُّلُ أَحَدِهِمَا مَوْقُوفًا بِتَعَقُّلِ الآخَرِ فهما مُتَضَائِفَانِ, نَحْوَ: الأبُ وَالابنُ.
فَزَيْدٌ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ أبًا وابنًا في جهةٍ واحدةٍ، ولكنْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أبًا لشخصٍ, وابنًا لشخصٍ آخَرَ، ولكنْ لا يُتَصَوَّرُ الأبُ بدونِ الابنِ، ولا الابنُ بدونِ الأبِ.

وإِنْ كانَ أَحَدُهُمَا وُجُودِيًّا، والآخرُ عَدَمِيًّا، ولكنْ مَحَلُّ العَدَمِيِّ قابلٌ للوُجُودِيِّ. فَهُمَا عَدَمٌ ومَلَكَةٌ.
نحوَ العَمَى والبَصَر.
فالعَمَى: عدمُ البصرِ عَمَّا مِن شأْنِهِ أنْ يَكُونَ بَصِيرًا.

وإذا عَلِمْتَ هذا فاعْلَمْ أنَّ مِن الجَهْمِيَّةِ مَن قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ، ولا موجودٌ ولا معدومٌ، فَيَنْفِي عَنْهُ النفْيَ والإثباتَ، فَرَدَّ عليهم شَيْخُ الْإِسْلاَمِ بأنَّ هذا رَفْعٌ للنَّقِيضَيْنِ، وهذا باطلٌ بإجماعِ العقلاءِ.

فقَالَ هؤلاءِ الجَهْمِيَّةُ: إِنَّ هذا ليسَ من قَبِيلِ رَفْعِ النَّقِيضَيْنِ، بل هذا من قَبِيلِ العدمِ والملكةِ، ويجوزُ في العدمِ والملكةِ أنْ يَرْتَفِعَا فيُقَالُ: هذا الجدارُ لا أَعْمَى ولا بَصِيرٌ؛ لأَنَّ المَحَلَّ إذا لمْ يَكُنْ قَابِلًا يَجُوزُ حينئذٍ أنْ تَنْفِيَ عنهُ العدمَ والملكةَ.

فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلاَمِ بأنَّ الوجودَ والعدمَ ليسَ من قبيلِ العدمِ والملكةِ، بلْ هُمَا من قبيلِ الإيجابِ والسلبِ، أي: هُمَا من قبيلِ المُتَنَاقِضَيْنِ، ولا يَجُوزُ رَفْعُ المُتَنَاقِضَيْنِ كما لا يَجُوزُ اجتماعُهُمَا، هذا أَوَّلُ جوابٍ، وهو يَتَعَلَّقُ بالوجودِ والعدمِ.

والجوابُ الثاني: أنَّ الحياةَ والموتَ والعلمَ والجهلَ وإِنْ كَانَا من قبيلِ العدمِ والملكةِ عندَكُم، ولكنْ هذا اصطلاحٌ خاصٌّ بِكُمْ لا نُسَلِّمُ بهِ، فإِنَّ هذا اصطلاحٌ يُصَادِمُ الشرعَ والعقلَ واللغةَ:

أمَّا الشرعُ فقدْ أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى على الجمادِ أَنَّهُ مَيِّتٌ، فقَالَ تَعَالَى: { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } فَسَمَّى الجمادَ مَيِّتًا.
وهكذا أَهْلُ اللغةِ يُسَمُّونَ الجمادَ مَيِّتًا، والعقلُ يَحْكُمُ أنَّ الشيءَ إذ لم يَكُنْ حَيًّا فَهُوَ مَيِّتٌ.
والجوابُ الثالثُ: أَنَّنَا لو سَلَّمْنَا اصطلاحَكُم، نَقُولُ لَكُم: إِنَّ المُتَّصِفَ بالحياةِ والبصرِ والعلمِ أَفْضَلُ مِمَّنْ لا يَتَّصِفُ بها، فكيفَ تَنْفُونَ عن اللَّهِ تَعَالَى الحياةَ والبصرَ والعلمَ، وَتَصِفُونَ المخلوقَ بهذهِ الصفاتِ الكماليَّةِ.
فقدْ جَعَلْتُم المخلوقَ أَفْضَلَ مِن الخالقِ، وهذا غايةُ الشَّناعةِ في التشبيهِ.

(21) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(وهؤلاءِ الباطِنِيَّةُ منهم مَن يُصَرِّحُ بِرَفْعِ النَّقِيضَيْنِ؛ الوجودِ والعدمِ، ورَفْعُهُمَا كَجَمْعِهِمَا)

الشرحُ:
أَقُولُ: مَعْنَاهُ أنَّ طائفةً من الباطنيَّةِ تَزْعُمُ أنَّ اللَّهَ لا موجودٌ ولا معدومٌ, فَيَرْفَعُونَ الوجودَ والعدمَ.
ولا شَكَّ أنَّ نَفْيَ الوجودِ والعدمِ عن اللَّهِ تَعَالَى كَجَمْعِهِمَا، كَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعْدُومٌ وموجودٌ وكلاهُمَا مِن أوضحِ الأَبَاطِيلِ.

(22) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(ومَن يَقُولُ: لا أُثْبِتُ واحِدًا مِنْهُمَا) إلى آخِرِهِ.

الشرحُ:
مَعْنَاهُ أنَّ هذا الباطنيَّ الجَهْمِيَّ المُعَطِّلَ الغَالِيَ يَزْعُمُ أنَّ نَفْيَ العلمِ عن اللَّهِ لا يَسْتَلْزِمُ كونَ اللَّهِ جاهِلًا.
لأَنَّ الامتناعَ عن إثباتِ شَيْءٍ لا يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ ضِدِّهِ في ذلكَ الشَّيْءِ في نفسِ الأمرِ؛ لأَنَّ جَهْلَ الجاهلِ وسكوتَ الساكتِ لا يُعَبِّرُ عن الحقائقِ.

فالجوابُ أنَّ ما يَقْبَلُ الحياةَ والموتَ، والعلمَ والجهلَ أَكْمَلُ حَالًا مِمَّا لا يَقْبَلُ الحياةَ ولا الموتَ، ولا العلمَ ولا الجهلَ، فإِنْ نَفَيْتَ عن اللَّهِ تَعَالَى الحياةَ والعلمَ مَثَلًا – فقدْ شَبَّهْتَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لا يَقْبَلُ الحياةَ ولا العلمَ.
ومَا لا يَقْبَلُ الحياةَ ولا العلمَ أَقْرَبُ إلى الامتناعِ مِمَّا يَقْبَلُ تلكَ الصفاتِ.
فصارَ هذا المُعَطِّلُ أَعْظَمَ مُشَبِّهٍ،؛ لأَنَّهُ قد شَبَّهَ اللَّهَ تَعَالَى بالمَعْدُومَاتِ والمُمْتَنِعَاتِ.
ولهذا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلاَمِ في الرَّدِّ عليهِم في ص19:
(وإذا كانَ مَا لاَ يَقْبَلُ الوجودَ ولا العَدَمَ – ]فَهُوَ[ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُهُ لَهُمَا... ).

(23) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(وإِنْ قَالَ نُفَاةُ الصفاتِ: إثباتُ العلمِ والقدرةِ والإرادةِ مُسْتَلْزِمٌ تَعَدُّدَ الصفاتِ، وهذا تَرْكِيبٌ مُمْتَنِعٌ)

الشرحُ:
أَقُولُ: حاصلُ هذا الكلامِ: أنَّ مِن شُبُهَاتِ الجَهْمِيَّةِ أنَّهُم يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لو ثَبَتَ للهِ صفاتٌ متعددةٌ كالعلمِ والبصرِ والحياةِ والكلامِ مَثَلًا، يَسْتَلْزِمُ ذلكَ تَرْكِيبًا في اللَّهِ تَعَالَى، واللَّهُ مُنَزَّهٌ عن التركيبِ.

فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلاَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ عن هذهِ الشُّبْهَةِ لقولِهِ:
إِنَّكُم أَيُّهَا الجَهْمِيَّةُ الباطنِيَّةُ قَدْ قُلْتُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى موجودٌ واجبٌ، وعقلٌ وعاقلٌ ومَعْقُولٌ، ومعشوقٌ، ولذيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ، أَلَيْسَتْ هذهِ صفاتٍ مُتَعَدِّدَةً؟!
أَلَيْسَ هذا تَرْكِيبًا في اللَّهِ تَعَالَى؟!
فَمَا بَالُكُمْ تُسَمُّونَ تَرْكِيبَكُمْ تَوْحِيدًا وَتُسَمُّونَ تَوْحِيدَنَا تَرْكِيبًا وَتَشْبِيهًا؟!


  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 12:51 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


والإشارةُ في قولِهِ (وَيَتَبَيَّنُ هذا) رَاجِعَةٌ إلى بيانِ أنَّ اللهَ تعالى مُتَّصِفٌ ومُسَمًّى بما لهُ من الأسماءِ والصفاتِ، وأنَّهُ سبحانَهُ مُنَزَّهٌ عن مُمَاثَلَةِ المخلوقاتِ خِلاَفاً لِمَنْ نَفَى فَعَطَّلَ، أو أَثْبَتَ فَشَبَّهَ ومَثَّلَ، فهذهِ المقدمةُ وما ذَكَرَ فيها يُوَضِّحُهُ ويُقَرِّرُهُ ما سَيَأْتِي في الأصلَيْنِ الجَلِيلَيْنِ، والمَثَلَيْنِ الوَاضِحَيْنِ – وللهِ المَثَلُ الأَكْمَلُ – وَيَتَّضِحُ ذلكَ أيضاً (بالخاتمةِ الجامعةِ) التي ذَكَرَ المُؤَلِّفُ فيها سَبْعَ قواعدَ جَلِيلَةٍ، وَبِاخْتِتَامِهِ للقواعدِ السَّبْعِ يَنْتَهِي الكَلاَمُ فِي (بابِ الأسماءِ والصِّفَاتِ)؛ حَيْثُ يَبْتَدِئُ كَلاَمَهُ في الأصلِ الثَّانِي, وهوَ تَوْحِيدُ (الشَّرْعِ والقَدَرِ).

الأصـــلُ الأوَّلُ

قولُهُ:
فأمَّا الأصلانِ: فأَحَدُهُمَا أنْ يُقَالَ: (القولُ في بعضِ الصفاتِ كالقولِ في بعضٍ) فإنْ كانَ المُخَاطَبُ مِمَّنْ يقولُ بأنَّ اللهَ حيٌّ بحياةٍ، عليمٌ بِعِلْمٍ، قديرٌ بِقُدْرَةٍ، سميعٌ بِسَمْعٍ، بصِيرٌ بِبَصَرٍ، مُتَكَلِّمٌ بِكَلاَمٍ، مُرِيدٌ بإرادةٍ، وَيَجْعَلُ ذلكَ كلَّهُ حقيقةً، وَيُنَازِعُ في مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وغَضَبِهِ وكَرَاهَتِهِ، فيجعلُ ذلكَ مَجَازاً، ويُفَسِّرُهُ إمَّا بالإرادةِ، وإمَّا ببعضِ المخلُوقَاتِ؛ مِن النِّعَمِ والعُقُوبَاتِ، فَيُقَالُ لهُ: لا فَرْقَ بينَ ما نَفَيْتَهُ، وبينَ ما أَثْبَتَّهُ، بل القولُ في أَحَدِهِمَا كالقولِ في الآخَرِ، فإنْ قُلْتَ: إنَّ إرادتَهُ مثلُ إرادةِ المخلوقِينَ، فكذلكَ مَحَبَّتُهُ وَرَضِاهُ وَغَضَبُهُ، وهذا هو التمثيلُ، وإنْ قُلْتَ: إنَّ لهُ إرادةً تَلِيقُ بهِ، كما أنَّ للمخلوقِ إرادةً تَلِيقُ بهِ، قيلَ لَكَ: وكذلكَ لهُ محبةٌ تَلِيقُ بهِ، وللمخلوقِ محبةٌ تَلِيقُ بهِ، ولهُ رِضًا وغَضَبٌ يَلِيقُ بهِ، وللمخلوقِ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بهِ،وإنْ قُلْتَ: الغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ القلبِ لِطَلَبِ الانتقامِ، فَيُقَالُ لكَ: والإرادةُ مَيْلُ النفسِ إلى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أو دَفْعِ مَضَرَّةٍ، فإنْ قُلْتَ: هذهِ إرادةُ المخلوقِ قِيلَ لكَ: وهذا غَضَبُ المخلوقِ.

وكذلكَ يَلْزَمُ بالقولِ في كلامِهِ وسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ إنْ نَفَى عَنْهُ الغَضَبَ، وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هو مِن خَصَائِصِ المَخْلُوقِينَ؛ فهذا مُنْتَفٍ عن السمعِ والبصرِ والكلامِ وجميعِ الصفاتِ، وإنْ قالَ: إنَّهُ لا حَقِيقَةَ لهذا إلاَّ ما يَخْتَصُّ بالمخلوقِينَ؛ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عنهُ قِيلَ لهُ: وهكذا السمعُ، والبصرُ، والكلامُ، والعلمُ، والقُدْرَةُ)

الشرحُ:
هذا شُرُوعٌ في تفصيلِ ما أَجْمَلَهُ المُؤَلِّفُ في المُقَدِّمَةِ، وقولُهُ: (أحدُهُمَا أنْ يُقَالَ: القولُ في بعضِ الصفاتِ كالقولِ في البعضِ الآخَرِ) يعني: أوَّلَ الأصلينِ الشَّرِيفَيْنِ المُتَضَمِّنَيْنِ إيضاحَ القاعدةِ الماضِيَةِ، هو أنَّ الكلامَ في بابِ الصفاتِ واحدٌ، ومَن يُحَاوِلْ إثباتَ البعضِ ونَفْيَ الآخَرِ يَقَعْ في التناقضِ والاضطرابِ لا مَحَالَةَ.

وقولُهُ: (فإنْ كانَ المُخَاطَبُ مِمَّنْ يَقُولُ بأنَّ اللهَ حَيٌّ) إلخ: يَعْنِي إذا كانَ البَحْثُ والمناقشَةُ مع المُنْتَسِبِ للأشعريِّ فإنَّهُ هو الذي يُثْبِتُ هذه الصفاتِ السَّبْعَ، ويُنَازِعُ في بَقِيَّةِ الصفاتِ، ويَجْعَلُ نِسْبَتَهَا إلى اللهِ على سبيلِ المجازِ، ويَسْلُكُ في ذلكَ أَحَدَ طَرِيقَيْنِ إمَّا تأويلُ الصفةِ بصفةٍ أُخْرَى – كَتَفْسِيرِهِ المَحَبَّةَ بالإرادةِ – وإمَّا تَفْسِيرُ الصفةِ ببعضِ المخلوقاتِ مِن النِّعَمِ والعُقُوبَاتِ، مثلَ تَفْسِيرِهِ اليدَ بالنِّعْمَةِ، وتَفْسِيرِ الغَضَبِ بالعقوبةِ، فإنَّهُ يُقَالُ لهُ حينئذٍ: لاَ فَرْقَ بينَ الصفةِ التي تُثْبِتُهَا والصفةِ التي تَنْفِيهَا مِن حيثُ لزومُ المَحْذُورِ وَعَدَمُ لُزُومِهِ، فدلالةُ النصوصِ على أنَّ لهُ مَحَبَّةً ورَحْمَةً، وغَضَباً ورِضَاً، وفَرَحاً وضَحِكاً، ووَجْهاً وَيَدَيْنِ، كدلالةِ النصوصِ على الصفاتِ السَّبْعِ، فَلِمَ نَفَيْتَ حقيقةَ رَحْمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وفَرَحِه وَضَحِكِهِ وَأَوَّلْتَهَا بصفةِ الإرادةِ؟ فإنْ قُلْتَ: إنَّ إثباتَ الإرادةِ لا يَلْزَمُ منهُ تَشْبِيهٌ وتَجْسِيمٌ، وإثباتَ حقائقِ هذهِ الصفاتِ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ والتجسيمَ؛ فإنَّهَا لا تُعْقَلُ إلاَّ فِي الأجسامِ؛ فإنَّ الرحمةَ رِقَّةٌ تَعْتَرِي طبيعةَ الحيوانِ، والمَحَبَّةَ مَيْلُ النفسِ لِجَلْبِ ما يَنْفَعُهَا، والغَضَبَ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لِوُرُودِ ما يَرِدُ عليهِ، قيلَ لكَ: وكذلكَ الإرادةُ هِيَ مَيْلُ النفسِ إلى جَلْبِ ما يَنْفَعُهَا وَدَفْعِ ما يَضُرُّهَا، وكذلكَ جميعُ ما أَثْبَتَّهُ مِن الصفاتِ إنَّمَا هي أعراضٌ قائمةٌ بالأجسامِ في الشاهدِ؛ فإنَّ العِلْمَ انْطِبَاعُ صورةِ المعلومِ في نَفْسِ العالمِ،أو صِفَةٌ عَرَضِيَّةٌ قائِمَةٌ بهِ، وكذلكَ َالسَّمْعُ، والبَصَرُ، والحياةُ، أعراضٌ قائِمَةٌ بالموصوفِ، فكيفَ لَزِمَ التشبيهُ والتجسيمُ مِن إثباتِ تلكَ الصفاتِ، ولم يَلْزَمْ مِن إثباتِ هذهِ، فإنْ قُلْتَ: أنَا أُثْبِتُهَا على وَجْهٍ لا يُمَاثِلُ صفاتِ المخلوقِينَ؛ قيلَ لكَ: هكذا القولُ في سائرِ الصفاتِ، تُثْبَتُ للهِ كما أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ على وجهٍ لا يُمَاثِلُ فيها صفاتِ المخلوقِينَ، فإنْ قُلْتَ: هذا لا يُعْقَلُ إلاَّ مِن جنسِ ما يُثْبَتُ للمخلوقينَ؛ قِيلَ لكَ: فكيفَ عَقَلْتَ سَمْعاً وبَصَراً وحياةً وإرادةً لَيْسَتْ مِن جنسِ صفاتِ المخلوقينَ؟

وقولُهُ: (وكذلكَ يَلْزَمُ القولُ في كلامِهِ وسَمْعِهِ، وبَصَرِهِ، وعِلْمِهِ، وقُدْرَتِهِ) إلخ.
المعنى لَمَّا مَثَّلَ المُؤَلِّفُ بالإرادةِ والغضبِ، وأنَّ الأشعريَّ إنْ أَثْبَتَ الإرادةَ على ما يَلِيقُ باللهِ لَزِمَهُ ذلكَ في سائرِ الصفاتِ، وإنْ مَثَّلَهَا بإرادةِ المخلوقِ صارَ مُشَبِّهاً، وأَنَّهُ إذا فَسَّرَ الغضبَ بما هو مِن خصائصِ المخلوقِ بَيَّنْتُ لهُ الإرادةَ التي هِيَ مِن خصائصِ المخلوقِ.
فإذَا قالَ: هذهِ إرادةُ المخلوقِ.
قيلَ لهُ: والغضبُ الذى ذَكَرْتَ هو غَضَبُ المخلوقِ.
أقولُ: لَمَّا ذَكَر المُؤَلِّفُ هذا المثالَ الذي - هوَ عِبَارَةٌ عن مناقشةٍ يُفْحِمُ فيها صاحبُ السُّنَّةِ خَصْمَهُ مِن الأشعريةِ - قالَ: وهكذا يَلْزَمُ الكلامُ في السمعِ والبصرِ، إذا نَفَى الأشعريُّ المحبَّةَ والرِّضَا والرحمةَ، وغيرَ ذلكَ من الصفاتِ، وفَسَّرَ ذلك بما يُنَاسِبُ المخلوقِينَ؛ قيلَ لهُ: وهذا المَحْذُورُ أيضاً يُقَالُ بالنسبةِ للسمعِ والبصرِ ونحوِ ذلكَ في الصفاتِ التي تُثْبَتُ.
وإذا قالَ: لا حقيقةَ للمحبَّةِ والغضبِ، ونحوِ ذلكَ إلاَّ مِن جنسِ ما يَخْتَصُّ بالمخلوقينَ.
قِيلَ لهُ: ولا حقيقةَ للسمعِ والبصرِ إلاَّ مِن جنسِ ما يُثْبَتُ للمخلوقينَ، إذ البابُ واحِدٌ.

قولُهُ:
(فهذا المُفَرِّقُ بينَ بعضِ الصفاتِ وبعضٍ، يقالُ لهُ فيما نَفَاهُ كما يَقُولُهُ هو لِمُنَازِعِهِ فيما أَثْبَتَهُ، فإذا قالَ المُعْتَزِلِيُّ: ليسَ لهُ إرادةٌ، ولا كلامٌ قائمٌ بِهِ؛ لأنَّ هذه الصفاتِ لا تَقُومُ إلاَّ بالمخلوقاتِ، فإنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ أَنَّ هذهِ الصفاتِ يَتَّصِفُ بها القديمُ، ولا تَكُونُ كصفاتِ المُحْدَثَاتِ، فهكذا يقولُ لهُ المُثْبِتونَ لسائرِ الصفاتِ مِن المَحَبَّةِ والرِّضَا ونحوِ ذلكَ).

الشرحُ:
يعني أنَّهُ يُقَالُ للأَشْعَرِيِّ مِثْلَمَا يَقُولُ هو للمُعْتَزِلِيِّ، حينما يقولُ لهُ: إثباتُ الصفاتِ السَّبْعِ مُسْتَلْزِمٌ للتشبيهِ؛ فإنَّ الأَشْعَرِيَّ يُبَيِّنُ ويُوَضِّحُ لِخَصْمِهِ المُعْتَزِلِيِّ قائلاً: هذهِ الصفاتُ يَتَّصِفُ بها الرَّبُّ, ولا يَقْتَضِي إِثْبَاتُهَا لهُ تمثيلاً بالمخلوقاتِ، فإذا قالَ الأَشْعَرِيُّ هذا الجوابَ للمُعْتَزِلِيِّ قالَ لهُ أهلُ السُّنَّةِ: جوابُكَ على المُعْتَزِلِيِّ هو جوابُنَا عليكَ بالنسبةِ لسائرِ الصفاتِ.

قولُهُ:
(فإنْ قالَ: تلكَ الصفاتُ أَثْبَتُّهَا بالعقلِ؛ لأنَّ الفِعْلَ الحادِثَ دَلَّ على القدرةِ، والتخصيصَ دَلَّ على الإرادةِ,والإِحْكَامَ دَلَّ على العلمِ، وهذهِ الصفاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ للحياةِ، والحَيُّ لا يَخْلُو عن السمعِ، والبصرِ، والكلامِ أو ضِدِّ ذلكَ.

قالَ لهُ سائِرُ أهلِ الإثباتِ: لكَ جوابانِ:
أَحَدُهُمَا: أنْ يُقَالَ: عَدَمُ الدليلِ المُعَيَّنِ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ المَدْلُولِ المُعَيَّنِ، فَهَبْ أنَّ ما سَلَكْتَ مِن الدليلِ العَقْلِيِّ لا يُثْبِتُ ذلكَ، فإنَّهُ لا يَنْفِيهِ، والنافِي لاَ بُدَّ أنْ يأتِيَ بدليلٍ كالمُثْبِتِ سواءً بسواءٍ، وليسَ لكَ أنْ تَنْفِيَهُ بغيرِ دليلٍ؛ لأنَّ النافِيَ عليهِ الدليلُ كَمَا على المُثْبِتِ، والسَّمْعُ قد دَلَّ عليهِ، ولمْ يُعَارِضْ ذلك مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ ولا سَمْعِيٌّ، فَيَجِبُ إِثْبَاتُ ما أَثْبَتَهُ الدليلُ السالمُ عن المُعَارِضِ المُقَاوِمِ.

الثاني: أنْ يُقَالَ:يُمْكِنُ إثباتُ هذهِ الصفاتِ بِنَظِيرِ ما أُثْبِتَ بهِ تلكَ من العقلياتِ، فيقالُ: نَفْعُ العبادِ بالإحسانِ إليهم يَدُلُّ على الرحمةِ، كدلالةِ التخصيصِ على المشيئةِ، وإكرامُ الطائعِينَ يَدُلُّ على مَحَبَّتِهِم، وعقابُ الكافرينَ يَدُلُّ على بُغْضِهِم، كَمَا قد ثَبَتَ بالمشاهدةِ والخَبَرِ مِن إكرامِ أوليائِهِ، وعقابِ أعدائِهِ.
والغاياتُ المحمودةُ في مَفْعُولاَتِهِ وَمَأْمُورَاتِهِ - وهي ما تَنْتَهِي إليهِ مَفْعُولاَتُهُ ومَأْمُورَاتُهُ مِن العواقبِ الحميدةِ – تَدُلُّ على حِكْمَتِهِ البالغةِ، كما يَدُلُّ التخصيصُ على المَشِيئَةِ، وَأَوْلَى لِقُوَّةِ العِلَّةِ الغَائِيَّةِ، ولهذا كانَ ما في القرآنِ مِن بيانِ ما في مخلوقاتِهِ مِن النِّعَمِ والحِكَمِ أَعْظَمَ مِمَّا فِي القرآنِ من بيانِ ما فيها من الدلالةِ على مَحْضِ المَشِيئَةِ.

الشرحُ:
يعني إذا قالَ: إنِّي أَثْبَتُّ السبْعَ؛ لدلالةِ العقلِ عليها وأمَّا بَقِيَّةُ الصفاتِ فلا أُثْبِتُهَا لِعَدَمِ دلالةِ العقلِ عليها، أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ، وفيما بينَ ذلكَ ذَكَرَ المُؤَلِّفُ وَجْهَ استدلالِ الأَشْعَرِيِّ على إثباتِ هذهِ الصفاتِ بالعقلِ، فقالَ: لأنَّ الفِعْلَ الحادثَ دَلَّ على القدرةِ، والتخصيصَ دَلَّ على المشيئةِ، والإحكامَ دَلَّ على العلمِ؛ فإنَّ الفعلَ المُحْكَمَ، والخَلْقَ والرِّزْقَ، وإنزالَ المَطَرِ، وإنباتَ النباتِ، وتخصيصَ بعضِ الناسِ بالاصطفاءِ أو الكراماتِ، وكَوْنَ الأحكامِ في غايةِ السدادِ والمُلاَءَمَةِ للأحوالِ، كلَّ ذلكَ يَدُلُّ على إثباتِ هذهِ الصفاتِ للهِ، وهذهِ الصفاتُ لا يَتَّصِفُ بها إلاَّ مَن كانَ حَيًّا، والحيُّ لا يَخْلُو عن أن يكونَ سميعاً، بصيراً، مُتَكَلِّماً، أو يكونَ أَصَمَّ، أَعْمَى، أَبْكَمَ، والسمعُ والبصرُ والكلامُ أوصافُ كمالٍ، وَضِدُّهَا أوصافُ نَقْصٍ، واللهُ تعالى لهُ الوصفُ الأكملُ، فهو مُتَّصِفٌ بها، هذا وجهُ الاستدلالِ على الصفات ِالسَّبْعِ بالعقلِ.

والجوابانِ هما:
أولاً: أن يُقَالَ لِمَنْ زَعَمَ عَدَمَ دلالةِ العقلِ على ما عَدَا الصفاتِ السَّبْعَ: افْرِضْ أنَّ العقلَ لم يَدُلَّ عليها؛ فإنَّ عَدَمَ دلالتِهِ عليها ليسَ معناهُ أنَّهَا غيرُ موجودةٍ؛ إذْ قد دَلَّ عليها دليلٌ آخَرُ وهوَ السمعُ، والسمعُ دليلٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، بل الطِّمَأْنِينَةُ إليهِ في هذا البابِ أعظمُ مِن الطِّمَأْنِينَةِ إلى مُجَرَّدِ العقلِ، فما الذي يُسَوِّغُ لكَ نَفْيَ مدلولِهِ؟ وقولُهُ: (والنافِي عليهِ الدليلُ كَمَا على المُثْبِتِ)، معناهُ أنَّ النافيَ عليهِ إقامةُ الدليلِ على الانتفاءِ؛ كما أنَّ المُثْبِتَ للشيءِ عليهِ إقامةُ الدليلِ على إثباتِهِ.

وثانياً: يقالُ لهُ: بقيةُ الصفاتِ ثابتةٌ بالعقلِ، كمَا أنَّ الصفاتِ السَّبْعَ ثابتةٌ بهِ، فالإِنْعَامُ، والإحسانُ وكَشْفُ الضُّرِّ، وتفريجُ الكُرُبَاتِ، دَالٌّ على الرحمةِ؛ كدلالةِ التخصيصِ على الإرادةِ. والتخصيصُ بالكرامةِ والاصطفاءِ والاختيارِ دالٌّ على المحبَّةِ كدلالةِ ما ذَكَرْتَ على الإرادةِ، والإهانةُ والطَّرْدُ والإبعادُ والحرمانُ دَالٌّ على المَقْتِ والبُغْضِ كدلالةِ ضِدِّهِ على الرِّضَا والحُبِّ، والعقوبةُ والبَطْشُ، والانتقامُ دالٌّ على الغضبِ، كدلالةِ ضِدِّهِ على الرضا.

وإذا قُدِّرَ اثنانِ: أَحَدُهُمَا يُحِبُّ نُعُوتَ الكمالِ ويَفْرَحُ بها ويَرْضَاهَا، والآخرُ لا فَرْقَ عندَهُ بينَ صفاتِ الكمالِ وصفاتِ النقْصِ، فلا يُحِبُّ هذا ولا هذا، ولا يَرْضَى هذا ولا هذا، ولا يَفْرَحُ بهذا ولا بهذا، كان الأوَّلُ أَكْمَلَ مِن الثاني، ومعلومٌ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى يُحِبُّ المُحْسِنِينَ والمُتَّقِينَ، والمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عن الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ، وهذهِ كلُّهَا صفاتُ كمالٍ، وكذلكَ إذا قُدِّرَ اثنانِ: أَحَدُهُمَا يَبْغَضُ المُتَّصِفَ بِضِدِّ الكمالِ كالظلمِ، والجهلِ، والكذبِ، ويَغْضَبُ على مَن يفعلُ ذلكَ، والآخرُ لا فَرْقَ عندَهُ بينَ الجاهلِ الكاذبِ والظالمِ، وبينَ العالمِ الصادقِ والعادلِ؛ كانَ الأوَّلُ أَكْمَلَ.

وأيضاً فنحنُ نَعْلَمُ بالاضطرارِ، أنَّهُ إذا فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَرْحَمُ غَيْرَهُ،فَيَجْلُبُ لهُ المَنْفَعَةَ، وَيَدْفَعُ عنهُ المَضَرَّةَ، والآخرُ قد اسْتَوَى عِنْدَهُ هذا وهذا، فليسَ عندَهُ ما يَقْتَضِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ, وَلاَ دَفْعَ مَضَرَّةٍ كانَ الأوَّلُ أَكْمَلَ.

وقولُهُ: (والغاياتُ المحمودةُ في مفعولاتِهِ ومأموراتِهِ - وهي ما تَنْتَهِي إليهِ مفعولاتُهُ ومأموراتُهُ مِن العواقبِ الحميدةِ - تَدُلُّ على حِكْمَتِهِ البالغةِ) إلخ.
الغاياتُ المحمودةُ مبتدأٌ خَبَرُهُ قولُهُ: تَدُلُّ على حكمتِهِ البالغةِ وما بينَ المبتدأِ والخبرِ جملةٌ مُعْتَرِضَةٌ مُفَسِّرَةٌ للغاياتِ، فقولُ المُؤَلِّفِ: (وهيَ ما تَنْتَهِي إليهِ مفعولاتُهُ ومأموراتُهُ من العواقبِ الحميدةِ) تَوْضِيحٌ لمعنى الغاياتِ المحمودةِ.
فالخلاصةُ أنَّ العواقبَ الحميدةَ في أفعالِ اللهِ وأوامرِهِ تَدُلُّ على صفةِ الحكمةِ كدلالةِ التخصيصِ على الإرادةِ، فالمَشِيئَةُ بمعنى الإرادةِ الكونيَّةِ.

وقولُهُ: (لقوةِ العِلَّةِ الغائِيَّةِ) معناهُ: أنَّ دلالةَ العواقبِ الحميدةِ في أفعالِ اللهِ وأوامرِهِ على الحكمةِ أقوى من دلالةِ تخصيصِ بعضِ العِبَادِ دونَ بعضٍ على صفةِ الإرادةِ، ثم بَيَّنَ المُؤَلِّفُ وَجْهَ ذلكَ، فقالَ: (ولهذا كانَ ما في القرآنِ من بيانِ ما فى مخلوقاتِهِ من النِّعَمِ والحِكَمِ أَعْظَمَ مِمَّا في القرآنِ من بيانِ ما فيها من الدلالةِ على مَحْضِ المَشِيئَةِ) المعنى: ومِن أَجْلِ أنَّ دلالةَ العواقبِ الحميدةِ على الحكمةِ أَقْوَى من دلالةِ التخصيصِ على المشيئَةِ نَجِدُ أنَّ اللهَ سبحانَهُ ذَكَرَ في القرآنِ ما في مخلوقاتِهِ من النِّعَمِ والحِكَمِ أكثرَ مِمَّا ذَكَرَ أنَّهُ شاءَهَا وخَلَقَهَا فمَثَلاً قولُهُ تعالى: َالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعْلَمُونَ وقولُهُ تعالى: {هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتُغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَوَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، هذهِ الآياتُ التي يَذْكُرُ اللهُ فيها أنَّهُ أَنْعَمَ على عبادِهِ بما خَلَقَ لهم، وبيانُهُ لِلْحِكْمَةِ في خَلْقِهِ الأشياءَ أَكْثَرُ مِن ذِكْرِهِ أنَّهُ كَوَّنَ الأشياءَ وَخَلَقَهَا بِمَشِيئَتِهِ، كقولِهِ تعالى: ِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وَنَحْوِهَا مِن الآياتِ, فهذهِ الأدلَّةُ العقليَّةُ التي دَلَّتْ على هذهِ الصفاتِ هي نظيرُ الأدلَّةِ العقليَّةِ التي دَلَّتْ على الصفاتِ السَّبْعِ، فَتَبَيَّنَ أنَّهُ لاَ بُدَّ للأَشْعَرِيَّةِ مِن واحدٍ من أَمْرَيْنِ، إمَّا النَّفْيُ والتعطيلُ, وإمَّا أنْ يَصِفُوا اللهَ بِمَا وَصَفَ بهِ نفسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِه رسولُهُ، ويَتَّبِعُوا في ذلكَ سبيلَ السَّلَفِ، الذينَ هم أَعْلَمُ الأُمَّةِ بهذا الشَّأْنِ نَفْياً وَإِثْبَاتاً وَأَشَدُّ تَعْظِيماً وَتَنْزِيهًا له عَمَّا لا يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ، وكانَ البابُ عندَهُم واحداً.

واعْلَمْ أنَّ إثباتَ الصفاتِ السَّبْعِ فَقَطْ خلافُ قولِ السَّلَفِ وخلافُ قولِ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ فالناسُ كانوا طائفتَيْنِ؛ سَلَفِيَّةً وجَهْمِيَّةً، فَحَدَثَت الطائفةُ السَّبْعِيَّةُ، واشْتَقَّتْ قولاً بينَ قولَيْنِ، فلا للسَّلَفِ اتَّبَعُوا, ولا مع الجَهْمِيَّةِ بَقُوا، والأشعريُّ منسوبٌ إلى أبى الحسنِ عليِّ بنِ إسماعيلَ بنِ أبي بِشْرٍ، إِسْحَاقَ بنِ سَلْمَانَ بنِ إسماعيلَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ موسى بنِ بلالِ بنِ أبي بُرْدَةَ، عامرِ بنِ أبى موسى الأَشْعَرِيِّ صاحبِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهو صاحبُ الأصولِ، والقائمُ بِنُصْرَةِ مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ، وإليهِ تُنْسَبُ الطائفةُ الأشعريَّةُ، ومولدُهُ سنةَ سَبْعِينَ، وقيلَ: سِتِّينَ ومِائَتَيْنِ بالبَصْرَةِ، وتُوُفِّيَ بعدَ نَيِّفٍ وثلاثينَ وثلاثِمَائَةٍ، وقيلَ: سنةَ أَرْبَعٍ وعشرينَ وثلاثِمائَةٍ، والأَشْعَرِيُّ بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الشينِ المُعْجَمَةِ وفتحِ العينِ المُهْمَلَةِ, وبعدَها راءٌ نسبةً إلى أَشْعَرَ، واسمُهُ نَبْتُ بنُ أَدَدِ بنِ زيدِ بنِ يَشْجُبَ، وإنَّمَا قيلَ لهُ أَشْعَرُ؛ لأنَّ أمَّهُ وَلَدَتْهُ والشَّعْرُ على يَدَيْهِ، هكذا قالَهُ السَّمْعَانِيُّ.

وكان أبو الحسنِ الأَشْعَرِيُّ أَوَّلاً مُعْتَزِلِيٍّا، ثم تابَ مِن القولِ بِخَلْقِ القرآنِ في المسجدِ الجامعِ بالبصرةِ، يومَ الجمعةِ رَقِي كُرْسِيًّا، وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَن عَرَفَنِي فقد عَرَفَنِي، ومَن لم يَعْرِفْنِي فَأَنَا أُعَرِّفُهُ بِنَفْسِي، أَنَا فلانُ بنُ فلانٍ, كُنْتُ أقولُ بِخَلْقِ القرآنِ, وإنَّ اللهَ لا تَرَاهُ الأبصارُ, وأَنَا تَائِبٌ، مُقْلِعٌ، مُعْتَقِدٌ للرَّدِّ على المُعْتَزِلَةِ، مُخْرِجٌ لِفَضَائِحِهِموَمَعَائِبِهم، وهو صاحبُ الكُتُبِ في الرَّدِّ على المَلاَحِدَةِ وغيرِهِم من المُعْتَزِلَةِ والرَّافِضَةِ والجَهْمِيَّةِ والخوارجِ وسائرِ أصنافِ المُبْتَدِعِينَ, والتي منها: المُوجِزُ والمقالاتُ، والإبانةُ، وقد صَرَّحَ في كُتُبِهِ الأخيرةِ بِرُجُوعِهِ عن مذهبِ نُفَاةِ الصفاتِ، وأنَّهُ مُعْتَقِدٌ لمذهبِ السلفِ, وهو إثباتُ الأسماءِ والصفاتِ، دونَ تفريقٍ بينَ صفةٍ وأُخْرَى.

قولُهُ:
وإنْ كانَ المُخَاطَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ الصفاتِ ويُقِرُّ بالأسماءِ، كالمُعْتَزِلِيِّ الذي يقولُ: إنَّهُ حَيٌّ عليمٌ قديمٌ، ويُنْكِرُ أنْ يَتَّصِفَ بِالحياةِ والعلمِ والقدرةِ، قيلَ لهُ: لا فَرْقَ بينَ إثباتِ الأسماءِ، وإثباتِ الصفاتِ، فإنَّكَ إنْ قُلْتَ: إثباتُ الحياةِ والعلمِ والقدرةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهاً أو تَجْسِيمًا؛ لأنَّا لا نَجِدُ مُتَّصِفاً بالصفاتِ إلاَّ ما هو جِسْمٌ، قيلَ لكَ: ولا نَجِدُ في الشاهِدِ ما هو مُسَمًّى حَيًّا عليمًا قديرًا إلاَّ ما هو جِسْمٌ، فإنْ نَفَيْتَ ما نَفَيْتَ؛ لكونِكَ لم تَجِدْهُ في الشاهدِ إلاَّ للجسمِ فَانْفِ الأسماءَ، بلْ وكُلَّ شيءٍ؛ لأنَّكَ لا تَجِدُهُ في الشاهدِ إلا للجسمِ، فكلُّ ما يَحْتَجُّ به مَن نَفَى الصِّفَاتِ يَحْتَجُّ بهِ نَافِي الأسماءِ الحُسنى، فَمَا كانَ جوابًا لذلكَ كانَ جواباً لِمُثْبِتِي الصفاتِ.

الشرحُ:
يعني: يُقَالُ للمعتزليِّ - إذا كانَ الخطابُ مَعَهُ فإنَّهُ هو الذي يُقِرُّ بالأسماءِ وَيَنْفِي الصفاتِ - يُقَالُ لهُ: إذا قالَ: إنَّ الصفاتِ لا تَقُومُ إلاَّ بِجِسْمٍ.رَدُّنَا عليكَ هو أنْ نقولَ لكَ:والأسماءُ التي يُسَمَّى بها المخلوقُ لا تَقُومُ في المُشَاهَدِ إلا بجسمٍ, وأنتَ تُثْبِتُ للهِ الأسماءَ, فَيَلْزَمُكَ التشبيهُ، وحينئذٍ فما كانَ جواباً عن ثبوتِ الأسماءِ، كانَ جواباً لأهلِ الإثباتِ عن إثباتِ الصفاتِ.

والمقصودُ أنَّهُ يُقَالُ للمعتزلةِ: قولُكُم مَنْقُوضٌ بإثباتِ الأسماءِ الحُسْنَى؛ فإنَّكُم تقولونَ: إنَّ اللهَ يُسَمَّى حَيًّا عليماً قديراً، وإذا أَمْكَنَ إثباتُ حَيٍّ عليمٍ قديرٍ وليسَ بِجِسْمٍ أَمْكَنَ أنْ يكونَ لهُ حياةٌ وعِلْمٌ وقُدْرَةٌ وليس بجسمٍ، وإنْ لم يُمْكِنْ ذلكَ، فما كانَ جوابُكُم عن إثباتِ الأسماءِ كانَ جوابَنَا عن إثباتِ الصفاتِ، ويُقَالُ لهم أيضاً:ما تَعْنُونَ بالجسمِ؟ أَتَعْنُونَ بهِ ما كانَ مُرَكَّباً مِن الجواهرِ المُفْرَدَةِ، أو مِن المادَّةِ والصورةِ؟ أمْ تَعْنُونَ بهِ ما يُمْكِنُ الإشارةُ إليهِ، أو ما كانَ قائماً بنفسِهِ، أو ما هو موجودٌ؟ فإنْ عَنَيْتُم الأوَّلَ، لم نُسَلِّمْ أنَّ هذه الصفاتِ لا تَقُومُ إلا بِجِسْمٍ – بهذا التفسيرِ - وإنْ عَنَيْتُمْ بهِ الثانيَ، لم نُسَلِّمْ بِامْتِنَاعِ اللازِمِ؛ فإنَّ الربَّ تعالى موجودٌ، قائمٌ بنفسِهِ, مشارٌ إليهِ، كما جاءَ ذلكَ مُصَرَّحاً بهِ في الأحاديثِ الصحيحَةِ.

قولُهُ:
وإنْ كانَ المخاطَبُ مِن الغلاةِ نُفَاةِ الأسماءِ والصفاتِ، وقالَ: لا أَقُولُ: هو موجودٌ، ولا حَيٌّ، ولا عليمٌ، ولا قديرٌ، بلْ هذهِ الأسماءُ لمخلوقاتِهِ؛ إذْ هي مجازٌ؛ لأنَّ إثباتَ ذلكَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجودِ الحيِّ العليمِ.
قيلَ لهُ: وكذلكَ إذا قُلْتَ: ليسَ بموجودٍ ولا حَيٍّ، ولا عليمٍ، ولا قديرٍ، كان ذلكَ تَشْبِيهًا بالمَعْدُوماتِ، وذلكَ أَقْبَحُ مِن التشبيهِ بالموجوداتِ.




الشرحُ:
الكلامُ الآنَ مع الجَهْمِيَّةِ، وهمُ غُلاَةٌ بالنسبةِ للأشاعرةِ والمُعْتَزِلَةِ؛ حيثُ نَفَى كلٌّ منهما البعضَ دُونَ البعضِ، ونَفَتِ الجَهْمِيَّةُ الأسماءَ والصفاتِ مَعًا.
فيُقَالُ لهم:

أوَّلًا: يَسْتَحِيلُ مع كمالِعِلْمِ المُتَكَلِّمِ وَفَصَاحَتِهِ وبيانِهِ وَنُصْحِهِ أنْ يُرِيدَ بِكَلاَمِهِ خَلافَ حقيقتِهِ وظاهرِهِ، وأنَّ الحقَّ في أقوالِ النُّفَاةِ المُعَطِّلِينَ وأنَّ تَأْوِيلاَتِهِم هي المُرَادَةُ مِن هذه النصوصِ، فإنَّ المُتَكَلِّمَ بهذهِ النصوصِ إمَّا أنْ يكونَ عالِماً أنَّ الحقَّ في تأويلاتِ النُّفَاةِ المُعَطِّلِينَ، أو لا يَعْلَمُ ذلكَ، فإنْ لم يَعْلَمْ ذلكَ كانَ ذلكَ قَدْحاً في عِلْمِهِ، وإنْ كانَ عالِماً أنَّ الحقَّ فيها فلا يَخْلُو إمَّا أنْ يكونَ قادِراً على التعبيرِ بعباراتِهِم التي هي تَنْزِيهُ اللهِ بِزَعْمِهِم عن التشبيهِ والتمثيلِ والتجسيمِ، وأنَّهُ لا يَعْرِفُ اللهَ مَن لم يُنَزِّه اللهَ بها، أو لا يكونَ قادراً على تلكَ العباراتِ، فإنْ لم يَكُنْ قادراً على التعبيرِ بذلكَ، لَزِمَ القدْحُ في فصاحتِهِ، وهذا مِمَّا يَعْلَمُ بُطْلانَهُ بالضرورةِ أولياؤُهُ وأعداؤُهُ، ومُوَافِقُوهُ، ومُخَالِفُوهُ، فإنَّ مُخَالِفِيهِ لم يَشُكُّوا أنَّهُ أَفْصَحُ الخلقِ وأَقْدَرُهُم على حُسْنِ التعبيرِ بِمَا يُطَابِقُ المعنى, ويُخَلِّصُهُ من اللُّبْسِ والإشكالِ.

وإنْ كانَ قادراً على ذلكَ ولم يَتَكَلَّمْ بهِ، وتَكَلَّمَ دائماً بخلافِهِ؛ كانَ ذلك قَدْحاً في نُصْحِهِ، وقد وَصَفَ اللهُ رُسُلَهُ بأنَّهُم أَنْصَحُ الخلقِ لِأُمَمِهِم، فَمَعَ النُّصْحِ والبيانِ والمعرفةِ التامَّةِ، كيفَ يكونُ مَذْهَبُ النُّفَاةِ المُعَطِّلَةِ أصحابِ التحريفِ هو الصوابَ، وقولُ أهلِ الإثباتِ أَتْبَاعِ القرآنِ والسُّنَّةِ باطلًا! وقد سَبَقَت الإشارةُ إلى ذلكَ عندَ قَوْلِ المُؤَلِّفِ إلى أمثالِ هذه الأياتِ والأحاديثِ.

ويُقَالُ لهم ثانياً: إنَّكُم بِنَفْيِكُم هذهِ الصفاتِ تُشَبِّهُونَ اللهَ بالمعدومِ، فقد فَرَرْتُم مِمَّا هو تشبيهٌ على زَعْمِكُم، ولكنْ وَقَعْتُم في شَرٍّ منه؛ فإنَّ التشبيهَ بالمعدومِ أَفْظَعُ مِن التشبيهِ بالموجودِ.

قولُهُ:
فإنْ قالَ: أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ والإثباتَ، قِيلَ لهُ؛ فَيَلْزَمُكَ التشبيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فيهِ النقيضانِ مِن المُمْتَنِعَاتِ؛ فإنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يكونَ الشيءُ موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، أو يُوصَفَ ذلكَ باجتماعِ الوجودِ والعدمِ، أو الحياةِ والموتِ، أوالعلمِ والجهلِ، أو يُوصَفَ بِنَفْيِ الوجودِ والعَدَمِ، ونَفْيِ الحياةِ والموتِ، ونَفْيِ العلمِ والجهلِ. فإنْ قُلْتَ: إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يكونُ قابلاً لهما، وهذانِ يَتَقَابَلاَنِ تَقَابُلَ العَدَمِ والمَلَكَةِ، لا تقابُلَ السَّلْبِ والإيجابِ؛ فإنَّ الجدارَ لا يُقَالُ له: أَعْمَى، ولا بَصِيرٌ، ولا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ؛ إذْ ليس بقابلٍ لهما. قيلَ لكَ:

أوَّلاً: هذا لا يَصِحُّ في الوجودِ والعدمِ، فإنَّهُمَا مُتَقَابِلاَنِ تَقَابُلَ السلبِ والإيجابِ باتِّفَاقِ العُقَلاَءِ، فَيَلْزَمُ مِن رَفْعِ أحدِهِمَا ثُبُوتُ الآخَرِ. وأمَّا مَا ذَكَرْتَهُ من الحياةِ والموتِ، والعلمِ والجهلِ؛ فهذا اصطلاحٌ اصْطَلَحَتْ عليهِ المُتَفَلْسِفَةُ المَشَّاؤُونَ، والاصطلاحاتُ اللفظيَّةُ ليستْ دليلاً على الحقائقِ العقليَّةِ، وقد قالَ اللهُ تعالى:{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }، فَسَمَّى الجَمَادَمَيِّتًا، وهذا مشهورٌ في لُغَةِ العربِ وغيرِهم، وقيلَ ذلكَ ثانياً؛ فَمَا لا يَقْبَلُ الاتصافَ بالحياةِ والموتِ والعَمَى والبصرِ ونحوِ ذلكَ مِن المُتَقَابِلاَتِ أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذلكَ، فالأَعْمَى الذي يَقْبَلُ الاتصافَ بالبصرِ أَكْمَلُ مِن الجمادِ الذي لا يَقْبَلُ واحداً منهما، فَأَنْتَ فَرَرْتَ من تشبيهِهِ بالحيواناتِ القابلَةِ لصفاتِ الكمالِ، وَوَصَفْتَهُ بصفاتِ الجماداتِ التي لا تَقْبَلُ ذلكَ.

وأيضاً فما لا يَقْبَلُ الوجودَ والعدمَ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا مِن القابلِ للوجودِ والعدمِ بلْ ومِن اجتماعِ الوجودِ والعدمِ، ونَفْيِهِما جميعاً، فما نَفَيْتَ عنهُ قَبُولَ الوجودِ والعدمِ كان أَعْظَمَ امتناعاً مِمَّا نَفَيْتَ عنهُ الوجودَ والعدمَ، وإذا كانَ هذا مُمْتَنِعاً في صرائحِ العقولِ فذاكَ أَعْظَمُ امْتِنَاعاً فَجَعَلْتَ الوجودَ الواجبَ الذي لا يَقْبَلُ العدمَ هو أَعْظَمَ المُمْتَنِعَاتِ، وهذا غايةُ التَّنَاقُضِ والفسادِ.

الشرحُ:
يعني إذا قالَ الغالي: أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ والإثباتَ، فلا يَلْزَمُنِي التشبيهُ بالموجوداتِ والمعدوماتِ، قيلَ لهُ: فَيَلْزَمُكَ حينئذٍ التشبيهُ بالمُمْتَنِعَاتِ؛ فإنَّ مَن ليسَ بموجودٍ ولا معدومٍ، ولا حَيٍّ ولا مَيِّتٍ، ولا عالمٍ ولا جاهلٍ، مُمْتَنِعُ الوجودِ، وكما يَمْتَنِعُ وَصْفُ الشيءِ بالعلمِ والجهلِ بمسألةٍ مُعَيَّنَةٍ، والحياةِ والموتِ الحَقِيقِيَّيْنِ، والوجودِ والعدمِ؛ يَمْتَنِعُ كذلكَ سَلْبُ هذهِ المُتَقَابِلاَتِ فإنَّهُمَا نقيضانِ يلزمُ مِن ثبوتِ أَحَدِهِما ارتفاعُ الآخَرِ، وإذا قالَ هذا الغالي: لا يَلْزَمُ التشبيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فيهِ النقيضانِ مِن المُمْتَنِعَاتِ, إلاَّ إذا نَفَيْتَهُمَا عن مَحَلٍّ قابلٍ لهما، قيلَ لهُ: فَمَا لاَ يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بالحياةِ والموتِ، والعلمِ والجهلِ، ونحوِ ذلكَ من المُتَقَابِلاَتِ أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذلكَ، فالأَعْمَى الفاقِدُ لصفةِ البصرِ أَكْمَلُ مِن الجمادِ؛ لأنَّهُ وإنْ كانَ فاقِداً للبصرِ فهو قابلٌ للاتصافِ بهِ، بخلافِ الجمادِ فإنَّهُ ليسَ مِن شَأْنِهِ الاتصافُ بالبصرِ أو العَمَى، فأنتَ فَرَرْتَ مِن تشبيهِهِ بالحيواناتِ القابلةِ لصفاتِ الكمالِ، وَوَصَفْتَهُ بصفاتِ الجماداتِ التي لا تَقْبَلُ الاتصافَ بالكمالِ أو النَّقْصِ. وقيلَ لهُ ثانياً: بالنِّسْبَةِ لِنَفْيِ الوجودِ والعَدَمِ قولُكُ: لا يَقْبَلُ الوجودَ والعدمَ تشبيهٌ للهِ بأعظمِ المُمْتَنِعَاتِ؛ فإنَّ مَن يُنْفَى عنهُ الوُجودُ والعدمُمُمْتَنِعٌ، ومَن يُنْفَى عنهُ قَبُولُ الوجودِ والعَدَمِ أَعْظَمُ امْتِنَاعاً منهُ، وكذلكَ مَن يُوصَفُ بالوجودِ والعدمِ معاً مُمْتَنِعٌ أيضاً، ومَن يُنْفَي عنهُ قَبُولَ الوجودِ والعدمِ أَعْظَمُ امْتِنَاعاً منهُ؛ فقد فَرَرْتَ مِن تشبيهِهِ بالمُمْتَنِعِ الأسْهَلِ امْتِنَاعاً، وَوَقَعْتَ في تشبيهِهِ بالأشدِّ امْتِنَاعاً، وهو معنى قولِ المُؤَلِّفِ: (وإذا كانَ هذا مُمْتَنِعاً في صرائحِ العقولِ فذاكَ أَعْظَمُ امْتِنَاعاً).

وأمَّا قولُكُ: وهذانِ يَتَقَابَلاَنِ تَقَابُلَ العَدَمِ والمَلَكَةِ, لا تَقَابُلَ السَّلْبِ والإيجابِ فَجَوَابُنَا عليهِ أنْ نقولَ:
أولاً: هذا لا يَصِحُّ بالنسبةِ للوجودِ والعدمِ، فإنَّ التقابلَ بينَهُما تَقَابُلُ نَقِيضَيْنِ باتفاقِ العقلاءِ، فَيَلْزَمُ مِن ثبوتِ أَحَدِهِمَا انتفاءُ الآخَرِ.

وثانياً: قولُكُ: وَما لا يَقْبَلُ الحياةَ والموتَ، والعلمَ والجهلَ والعَمَى والبصرَ - كالجدارِ لا يُوصَفُ بذلكَ - جَوَابُنَا على هذهِ الدَّعْوَى أنْ نقولَ: هذه الدَّعْوَى غيرُ صحيحةٍ، فَفِي لُغَةِ العربِ وَصْفُ الجمادِ بالحياةِ والموتِ ونحوِ ذلكَ، وإنْ لم يَكُن الجمادُ على زَعْمِكَ قابلاً؛ قالَ اللهُ تعالى: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}.
ومِن جُمْلَةِ مَعْبُودَاتِهِم الأصنامُ، وفيها الجمادُ، والعربُ تقولُ: (اشْتَرِ المَوَتَانِ، ولا تَشْتَرِ الحيوانَ).
وَسَيَأْتِي لهذا المبحثِ مزيدُ بيانٍ في موضعِهِ، وإنَّمَا قولُكَ: إنَّ ما لا يَقْبَلُ الاتصافَ بهذهِ الأوصافِ لا يُوصَفُ بها؛ مُجَرَّدُ اصطلاحٍ لَفْظِيٍّ اصْطَلَحَتْ عليهِ الفلاسفةُ المَشَّاؤُونَ، والاصطلاحاتُ اللفظيَّةُ ليستْ دليلاً على الحقائقِ العقليَّةِ، فلا يُمْكِنُ إِطْرَاحُ ما هو مُدْرَكٌ معروفٌ بالعقلِ, واعتبارُ ما هو مُجَرَّدُ اصطلاحٍ لَفْظِيٍّ.
والفلاسفةُ المَشَّاؤُونَ هم أَتْبَاعُ أَرِسْطُو، وهو المَقْدُونِيُّ مِن أَهْلِ مَقْدُونَةَ مِن بلادِ الرُّومِ مِن تلاميذِ (أَفْلاَطُونَ) وكانَ مولدُهُ سَنَةَ ثلاثِمائَةٍ وأربعٍ وثمانينَ قبلَ الميلادِ، وتُوُفِّيَ سنةَ ثلاثِمائةٍ واثنتَيْنِ وعشرِينَ قبلَ الميلادِ، عن ثلاثٍ وسِتِّينَ سَنَةً.
وكانَ يُعَلِّمُ الحكمةَ، وهو مِاشٍ تحتَ الرِّوَاقِ المُظَلَّلِ لهُ مِن حَرِّ الشمسِ، فَسُمِّيَ تلاميذُهُ المشَّائِينَ، فَتَسْمِيَةُ أَتْبَاعِهِ بالمشَّائِينِ إِنَّمَا هو أَخْذٌ من عادتِهِ؛ إذْ كانَ يُلْقِي عليهم الدرسَ وهو يَمْشِي وهم يَسِيرُونَ حولَهُ، ويُسَمَّوْنَ أيضاً الرِّوَاقِيَّةَ نسبةً إلى الرِّواقِ الذي كان يَتَمَشَّى في ظِلِّهِ, وهو يُلْقِي الدَّرُوسَ.

والمُتَقَابِلاَنِ بالعدمِ والمَلَكَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا وُجُودِيٌّ، والآخَرُ عَدَمِيٌّ؛ فالوجودِيُّ هو الصفةُ الثبوتِيَّةُ التي تَقُومُ بِمَنْ مِن شأنِهِ الاتصافُ بِهَا كالبصرِ، والعلمِ؛ والعَدَمِيُّ هو فُقْدَانُ تلكَ الصفَةِ كالعَمَى والجَهْلِ؛ فإنَّ العَمَى عَدَمُ البَصَرِ عَمَّا مِن شَأْنِهِ قَبُولُ البَصَرِ، والجَهْلَ فُقْدَانُ العلمِ عَمَّا مِن شأنِهِ قَبُولُ العلمِ، فالوُجُودِيُّ هو المَلَكَةُ، والعَدَمِيُّ فُقْدَانُهَا، والمتقابلانِ بالإيجابِ والسَّلْبِ هما أَمْرَانِ يَلْزَمُ مِن ثبوتِ أَحَدِهِمَا انتفاءُ الآخرِ، فالإيجابُ مَعْنَاهُ الإثباتُ، والسلبُ معناهُ النَّفْيُ.

وقولُهُ: (فَجَعَلْتَ الوجودَ الواجبَ الذي لا يَقْبَلُ العدمَ هو أَعْظَمَ المُمْتَنِعَاتِ، وهذا غايةُ التَّنَاقُضِ والفسادِ) معناهُ: أنَّ هذا الغاليَ بِنَفْيِهِ عن اللهِ قَبُولَ الاتصافِ بالوجودِ والعدمِ، وقبولَ الاتصافِ بسائرِ الصفاتِ، قد شَبَّهَهُ بأعظمِ المُمْتَنِعَاتِ في حينَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وَاجِبُ الوجودِ؛ الذي لا يَجُوزُ عليهِ حدوثٌ ولا عدمٌ، وهذا يُبَيِّنُ مَدَى فسادِ مقالةِ هؤلاءِ الغُلاَةِ، ويُوَضِّحُ تَهَافُتَ شُبَهِهِم التي زَعَمُوا بِهَا أنَّهُم يُنَزِّهُونَ اللهَ عن التَّشْبِيهِ.
فَمَقَالَتُهُم فاسدةٌ، وَشُبَهُهُم مُتَضَارِبَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ مَنْقُوضَةٌ بِصَرِيحِ المَِعْقُولِ وصحيحِ المَنْقُولِ.

قولُهُ:
(وهؤلاءُ الباطنيَّةُ: منهم مَن يُصَرِّحُ بِرَفْعِ النقيضَيْنِ؛الوجودِ والعَدَمِ، وَرَفْعُهُمَا كَجَمْعِهِمَا، ومنهم مَن يقولُ: لا أُثْبِتُ واحدًا مِنْهُمَا، فامْتِنَاعُهُ عن إثباتِ أحدِهِما في نفسِ الأمْرِ لا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ واحدٍ منهما في نفسِ الأمرِ؛ وإنَّمَا هو كَجَهْلِ الجاهلِ، وسُكُوتِ الساكِتِ الذي لا يُعَبِّرُ عن الحقائقِ، وإذا كانَ ما لا يَقْبَلُ الوجودَ ولا العدمَ أَعْظَمَ امْتِنَاعاً مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُهُ لَهُمَا مع نَفْيِهِمَا عنهُ، فما يُقَدَّرُ لا يَقْبَلُ الحياةَ ولا الموتَ، ولا العلمَ ولا الجهلَ، ولا القدرةَ ولا العجزَ، ولا الكلامَ ولا الخَرَسَ، ولا العَمَى ولا البَصَرَ، ولا السَّمْعَ ولا الصَّمَمَ؛ أَقْرَبُ إلى المعدومِ والمُمْتَنِعِ مِمَّا يُقَدَّرُ قابلًا لهما مع نَفْيِهِما عنهُ. وحينئذٍ فَنَفْيُهُمَا مع كونِهِ قَابِلًا لَهُمَا أَقْرَبُ إلى الوجودِ والمُمْكِنِ، وما جَازَ لواجبِ الوجودِ قابلاً وَجَبَ لَهُ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ صِفَاتِهِ على غيرِهِ، فإذا جازَ القَبُولُ وَجَبَ، وإذا جازَ وجودُ القَبُولِ وَجَبَ، وقد بُسِطَ هذا في موضعٍ آخَرَ، وبُيِّنَ وُجُوبُ اتِّصَافِهِ بصفاتِ الكمالِ التي لا نَقْصَ فيها بِوَجْهٍ من الوجوهِ.

قولُهُ:
وقيلَ لهُ أيضاً: اتِّفَاقُ المُسَمَّيَيْنِ في بعضِ الأسماءِ والصفاتِ ليسَ هو التشبيهَ والتمثيلَ؛ الذي نَفَتْهُ الأدلَّةُ السمْعِيَّاتُ والعَقْلِيَّاتُ، وإنَّمَا نَفَتْ ما يَسْتَلْزِمُ اشتراكَهُمَا فِيمَا يَخْتَصُّ بهِ الخالقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِهِ أو جوازِهِ أو امتناعِهِ؛ فلا يَجُوزُ أنْ يَشْرَكَهُ فيهِ مخلوقٌ، ولا يَشْرَكُهُ مَخْلُوقٌ في شيءٍ من خصائصِهِ سبحانَهُ وتعالى.


الشرحُ:
يعني أنَّ الغالِيَ الذي يَنْفِي الصفاتِ أو يَنْفِي قَبُولَهَا عن اللهِ يُقَالُ لهُ: اتِّفَاقُ المُسَمَّيَاتِ في الاسمِ والمعنى العامِّ لا يُوجِبُ تَمَاثُلَ المُسَمَّيَيْنِ، فنحن إذا قُلْنَا: إنَّ اللهَ موجودٌ حَيٌّ عليمٌ سميعٌ بصيرٌ مُتَكَلِّمٌ، وَقُلْنَا: إنَّ المخلوقَ موجودٌ حَيٌّ عالمٌ سميعٌ بصيرٌ مُتَكَلِّمٌ، لم يَكُنْ ذلكَ تشبيهاً، بل اللهُ موجودٌ لم يَزَلْ حَيًّا قديماً، قَيُّوماً، عالِماً سميعاً بصيراً، ولا يَجُوزُ أنْ يُوصَفَ بأَضْدَادِ هذهِ الصفاتِ والموجودُ مِنَّا إِنَّمَا وُجِدَ عن عَدَمٍ وَحُيِيَ بِمَعْنًى، ثم يَصِيرُ مَيِّتًا بزوالِ ذلكَ المعنى، وعَلِمَ بعدَ أنْ لم يَعْلَمْ، وقد يَنْسَى ما عَلِمَ، وسَمِعَ وأَبْصَرَ، وتَكَلَّمَ بِجَوَارِحَ قد تَلْحَقُهَا الآفاتُ، فلم يَكُنْ فيمَا أُطْلِقَ للخلقِ تَشْبِيهٌ بِمَا أُطْلِقَ للخالقِ – سبحانَهُ وتعالى – وإن اتَّفَقَتْ مُسَمَّيَاتُ هذهِ الصفاتِ عندَ الإطلاقِ، فالرَّبُّ - سبحانَهُ وتعالى - مُسْتَحِقٌّ للكمالِ مُخْتَصٌّ بهِ على وجهٍ لا يُمَاثِلُهُ فيهِ شيءٌ، فليسَ لهُ سَمِيٌّ ولا كُفْؤٌ, سَوَاءٌ كانَ الكمالُ مِمَّا لا يُثْبَتُ منهُ شيءٌ للمخلوقِ، كَرُبُوبِيَّةِ العبادِ والغِنَى والمُطْلَقِ ونحوِ ذلكَ؛ أو كانَ مِمَّا يُثْبَتُ منهُ نوعٌ للمخلوقِ، فالذي يُثْبَتُ للخالقِ منهُ نوعٌ هو أَعْظَمُ مِمَّا يُثْبَتُ مِن ذلكَ للمخلوقِ، والتَّفَاوُتُ الذي بَيْنَهُمَا أَعْظَمُ من التَّفَاوُتِ الذي بَيْنَ أَدْنَى المخلوقاتِ وأعلاهَا.

فالأسماءُ والصفاتُ نوعانِ: نوعٌ يَخْتَصُّ بهِ الرَّبُّ مثلَ الِإلَهِ، وَرَبِّ العالمينَ ونحوَ ذلكَ، فهذا لا يُثْبَتُ للعبدِ بِحَالٍ، ومِن هنا ضَلَّ المشركونَ الذينَ جَعَلُوا للهِ أَنْدَاداً.
والثاني: ما يُوصَفُ بهِ العبدُ في الجملةِ كالحَيِّ والعالِمِ والقادرِ, فهذا لا يَجُوزُ أنْ يُثْبَتَ للعبدِ مِثْلَمَا يُثْبَتُ للربِّ أصلاً؛ فإنَّهُ لو ثُبِتَ له ما ثُبِتَ لهُ لَلَزِمَ أنْ يَجُوزَ على أَحَدِهِمَا ما يَجُوزُ على الآخَرِ، ويَجِبَ لهُ ما يَجِبُ لهُ، ويَمْتَنِعَ عليهِ ما يَمْتَنِعُ عليهِ، ومثالُ ما يَمْتَنِعُ على الربِّ: اتِّخَاذُ الوَلَدِ، والصاحِبَةِ، والشَّرِيكِ، والوَلِيِّ مِن الذُّلِّ، فإنَّ نَفْيَ هذا مِن خصائصِ الرُّبُوبِيَّةِ، وكذلكَ السِّنَةُ، والنَّوْمُ، واللُّغُوبُ، والنِّسْيَانُ، والعَجْزُ، والموتُ، والظُّلْمُ، وغيرُ ذلكَ مِمَّا هو مُسْتَحِيلٌ عليهِ مُمْتَنِعٌ في حَقِّهِ، ولَكِنَّهُ وَاقِعٌ في العِبَادِ؛ فهذا القِسْمُ مُمْكِنٌ واقعٌ بالنسبةِ للعبادِ، ومُسْتَحِيلٌ في حَقِّ اللهِ, ومِمَّا يَجِبُ لهُ كَوْنُهُ رَبَّ العالمينَ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرًا، وبِكُلِّ شيءٍ عليمًا، ومِمَّا يَجُوزُ عليهِ كَوْنُهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيَرْزُقُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ.

قولُهُ:
وأمَّا ما نَفَيْتَهُ فهو ثابتٌ بالشرْعِ والعقلِ، وتَسْمِيَتُكَ ذلكَ تشبيهاً وتجسيماً تَمْوِيهٌ على الجُهَّالِ، الذينَ يَظُنُّونَ أنَّ كلَّ مَعْنًى سَمَّاهُ مُسَمًّى بهذا الاسمِ يَجِبُ نَفْيُهُ، ولو سَاغَ هذا لكانَ كلُّ مُبْطِلٍ يُسَمِّي الحقَّ بأسماءٍ يَنْفُرُ عنها بعضُ الناسِ؛ لِيُكَذِّبُ الناسُ بالحقِّ المعلومِ بالسمعِ والعقلِ، وبهذهِ الطريقةِ أَفْسَدَت المَلاَحِدَةُ على طوائفِ الناسِ، عَقْلَهُم ودِينَهُم، حتَّى أَخْرَجُوهُم إلى أَعْظَمِ الكُفْرِ والجَهَالَةِ وأَبْلَغِ الغَيِّ والضلالَةِ.

الشرحُ:
يعني: يُقَالُ للنُّفَاةِ: تَسْمِيَتُكُمْ إِثْبَاتَ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ تَشْبِيهاً وَتَجْسِيماً وَتَلْقِيبُكُم مَن يُثْبِتُ ذلك بِالْمُشَبِّهِ وَالمُجَسِّمِ لا يُغَيِّرُ مِن الواقعِ شيئاً، ولا يُغَيِّرُ من وِجْهَةِ أهلِ البَصِيرَةِ والمعرفةِ باللهِ، فالتوحيدُ لا يكونُ شِرْكاً، وَوَصْفُ اللهِ بأوصافِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ لا يكونُ تشبيهاً، وإنَّمَا التَّشْبِيهُ هو ما يَقُولُهُ النُّفَاةُ المُعَطِّلَةُ الذين سَمَّوْا تَعْطِيلَهُم وإلحادَهُم وَنَفْيَهُم توحيداً؛ وهو غايةُ النقصِ، فقد قَلَبُوا الحقائقَ، وَنَفَوْا حقائقَ أسمائِهِ وصفاتِهِ تحتَ سِتَارِ ألفاظٍ، يَسْمَعُهَا الغرُّ المَخْدُوعُ، فَيَظُنُّهَا تَنْزِيهًا للهِ عن النقائصِ والعيوبِ، وأنَّهُم يُعَظِّمُونَ اللهَ ويُمَجِّدُونَهُ، ويَكْشِفُ الناقِدُ البصيرُ ما تَحْتَ هذهِ الألفاظِ؛ فَيَرَى تَحْتَهَا الإلحادَ، وتكذيبَ الرُّسُلِ، وتعطيلَ الربِّ - سبحانَهُ وتعالى - عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِن كمالٍ، ومِن هذهِ الألفاظِ قولُهُم: نَحْنُ نُنَزِّهُ اللهَ عن الأعْرَاضِ والأغْرَاضِ وَالأَبْعَاضِ، وَنُنَزِّهُهُ عن الحدودِ والجِهَاتِ، وعن حُلُولِ الحوادثِ.

وتَنْزِيهُهُم للهِ عن الأعراضِ هو جَحْدُ صِفَاتِهِ – كَسَمْعِهِ وبَصَرِهِ وحَيَاتِهِ وعِلْمِهِ وَكَلاَمِهِ وَإِرَادَتِهِ – فإنَّ هذهِ أعراضٌ على زَعْمِهِم لا تَقُومُ إلا بِجِسْمٍ، فلو كانَ مُتَّصِفاً بها لكانَ جِسْماً؛ وكانتْ أَعْرَاضاً لهُ، وهو مُنَزَّهٌ عن الأعراضِ.

وأمَّا الأَغْرَاضُ فهي الغايةُ والحِكْمَةُ؛ التي لِأَجْلِهَا يَخْلُقُ، ويَفْعَلُ، ويَأْمُرُ، وَيَنْهَى، وَيُثِيبُ، وَيُعَاقِبُ، وهي الغاياتُ المحمودةُ المطلوبةُ لهُ مِن أَمْرِهِ، ونَهْيِهِ، وفِعْلِهِ، فَيُسَمُّونَهَا أغراضاً وعِلَلًا يُنَزِّهُونَهُ عنها.

وأمَّا تَنْزِيهُهُم للهِ عن الأَبْعَاضِ فَمُرَادُهُم أنَّهُ ليسَ لهُ وَجْهٌ ولا يَدَانِ، ولا يُمْسِكُ السمواتِ على إِصْبَعٍ، والأَرَضِينَ على إِصْبَعٍ، والشَّجَرَ على إِصْبَعٍ، والماءَ على إِصْبَعٍ، فإنَّ ذلكَ كُلَّهُ أَبْعَاضٌ، واللهُ مُنَزَّهُ عن الأبعاضِ.

وأمَّا الحدودُ والجهاتُ: فَمُرَادُهُم بِتَنْزِيهِهِ عنها أنَّهُ ليسَ فوقَ السمواتِ رَبٌّ، ولا على العرشِ إِلَهٌ، ولا يُشَارُ إليهِ بالأصابعِ إلى فوقٍ، كما أَشَارَ إليهِ أَعْلَمُ الخَلْقِ بِهِ، ولا يَنْزِلُ منهُ شيءٌ، ولا يَصْعَدُ إليهِ شيءٌ، ولا تَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إليهِ، ولا رَفَعَ المسيحَ إليهِ، ولا عُرِجَ برسولِ اللهِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهِ، إذا لو كانَ كذلكَ لَلَزِمَ إثباتُ الحدودِ والجهاتِ لهُ، وهو مُنَزَّهٌ عن ذلكَ.

وأمَّا تَنْزِيهُهُم للهِ عن حلولِ الحوادثِ، فَمُرَادُهُم بذلكَ أنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ بقدرتِهِ ومشيئتِهِ، ولا يَنْزِلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا، ولا يَأْتِي يومَ القيامةِ، ولا يُحِبُّ، ولا يُرِيدُ شيئاً بعدَ أنْ لم يَكُنْ مُرِيداً لهُ، فلا يقولُ لهُ: كُنْ حَقِيقَةً، ولا اسْتَوَى على عَرْشِهِ بعدَ أنْ لم يَكُنْ مُسْتَوِياً، ولا يَغْضَبُ يومَ القيامةِ غَضَباً لم يَغْضَبْ قبلَهُ مثلَهُ, ولن يَغْضَبَ بعدَهُ مثلَهُ، ولا يُنَادِي عبادَهُ يومَ القيامةِ بعدَ أنْ لمْ يَكُنْ مُنَادِيًا لهم، ولا يقولُ لِلْمُصَلِّي إذا قالَ(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): حَمِدَنِي عَبْدِي، فإنَّ هذهِ كُلَّهَا حوادثُ، وهوَ مُنَزَّهٌ عن حلولِ الحوادثِ.

ونحنُ لا نَنْفِي أوصافَ الرَّبِّ ونُعُوتَ جلالِهِ؛ لِأَجْلِ تَسْمِيَتِهِم لها بهذهِ الأسماءِ، كَمَا أَنَّنَا لا نَسُبُّ الصحابةَ لأجلِ تسميةِ الروافضِ لِمَنْ يُحِبُّهُم ويوالِيهِم نواصبَ، ولا نَنْفِي قَدَرَ الربِّ ونُكَذِّبُ بهِ لأجلِ تسميةِ القَدَريةِ لِمَنْ أَثْبَتَهُ جَبْرِيًّا، ولا نَرُدُّ مَا أَخْبَرَ بهِ الصادقُ عن اللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ لتسميةِ النُّفَاةِ لنا حَشَوِيَّةً، ولا نَجْحَدُ صفاتِ خالقِنَا وعُلُوَّهُ على خَلْقِهِ واستواءَهُ على العرشِ؛ لتسميةِ الفِرْعُونِيَّةِ المُعَطِّلَةِ لِمَنْ أَثْبَتَ ذلكَ مُجَسِّماً مُشَبِّهاً.

فإنْ كانَ تَجْسِيماً ثُبُوتُ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ إِنِّي إِذًا لَمُجَسِّمُ
وَإِنْ كَانَ تَشْبِيهاً ثُبُوتُ صِفَاتِهِ فَمِنْ ذَلِكَ التَّشْبِيهِ لاَ أَتَكَتَّمُ
وَإِنْ كَانَ تَنْزِيهاً جُحُودُ اسْتِوَائِهِ وَأَوْصَافِهِ أَوْ كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ
وَإِنْ كَانَ التَّنْزِيهُ نَزَّهْتُ رَبَّنَا بِتَوْفِيقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ

قالَ ابنُ القَيِّمِ – رَحْمَةُ اللهِ تعالى عليهِ – بعدَ إنشادِهِ هذهِ الأبياتَ: ورحمةُ اللهِ على الشافعيِّ, حيثُ فَتَحَ للناسِ هذا البابَ بقولِهِ:

يَا رَاكِبًا قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى وَاهْتِفْ بِقَاعِدٍ خِيفِهَا وَالنَّاهِضِ
إنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلاَنِ أَنِّي رَافِضِي
وَهَذَا كُلُّهُ مأخوذٌ من قولِ الشاعرِ الأوَّلِ:
وَعَيَّرَنِى الوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا وَذَلِكَ ذَنْبٌ لَسْتُ مِنْهُ أَتُوبُ

فَنَفْيُهُم للصفاتِ بهذهِ الألقابِ المُنْكَرَةِ خَطَأٌ في اللفظِ والمعنى، وجِنَايَةٌ على ألفاظِ الوَحْيِ أمَّا الخطأُ اللَّفْظِيُّ فَتَسْمِيَتُهُم هذهِ الصفاتِ تَرْكِيباً وَتَجْسِيماً وَتَشْبِيهاً، فَكَذَبُوا على القرآنِ، وعلى الرسولِ، وعلى اللغةِ، وَوَضَعُوا للصفاتِ أَلْفَاظاً، منهم بَدَأَتْ وإليهم تَعُودُ.

وأمَّا خَطَؤُهُم في المعنى فَنَفْيُهُم وتَعْطِيلُهُم لصفاتِ كمالِهِ بواسطةِ هذهِ التسميةِ والألقابِ، فَنَفَوُا المعنى الحَقَّ، وسَمَّوهُ بالاسمِ المُنْكَرِ، وكانوا في ذلكَ بمنزلةِ مَن سَمِعَ أنَّ العسلَ شِفَاءٌ ولم يَرَهُ؛ فَسَأَلَ عنهُ فَقِيلَ لهُ: مائِعٌ رَقِيقٌ أَصْفَرُ, يُشْبِهُ العَذِرَةَ تَتَقَيَّؤُهُ الزَّنَابِيرُ, فَمَنْ لمْ يَعْرِف العسلَ يَنْفِرْ عنهُ بهذا التعريفِ، ومَن عَرَفَهُ وذَاقَهُ لم يَزِدْهُ هذا التعريفُ عندَهُ إلا مَحَبَّةً لهُ، وَرَغْبَةً فيهِ، وللهِ دَرُّ القائلِ:

تَقُولُ هذا جَنَاءُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ وَإِنْ تَشَأْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا وَالْحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِيرِ

وقولُهُ: (وبهذهِ الطريقةِ أَفْسَدَت المَلاَحِدَةُ على طوائِفِ الناسِ عَقْلَهُم ودِينَهُم حتى أَخْرَجُوهُم إلى أَعْظَمِ الكُفْرِ والجَهَالَةِ وأَبْلَغِ الْغَيِّ والضَّلاَلَةِ) يعني: وَبِسَبَبِ تَسْمِيَةِ الحقِّ الثابتِ بأسماءٍ مُنْكَرَةٍ وتَلْقِيبِ أصحابِ العِلْمِ الإلَهِيِّ وأهلِ الدِّيَانَةِ والصلاحِ بالألقابِ الشَّنِيعَةِ، أَفْسَدَت المَلاَحِدَةُ فِطَرَ الناسِ ولَوَّثَتْ عُقُولَهُم؛ فإنَّ أَشَدَّ مَا سَلَكَت المَلاَحِدَةُ في التَّنْفِيرِ عن الحقِّ سوءُ التعبيرِ عنهُ، وضَرْبُ الأمثالِ القبيحةِ لهُ، والتعبيرُ عن تلكَ المعانِي التي لا أَحْسَنَ منها بألفاظٍ مُنْكَرَةٍ؛ أَلْقَوْهَا في مسامعِ المُغْتَرِّينَ المَخْدُوعِينَ، فَوَصَلَتْ إلى قلوبِهم. وأَكْثَرُ العقولِ يَقْبَلُ القولَ بعبارةٍ, وَيَرُدُّهُ بعبارةٍ أُخْرَى، ومثلَ هذا ما يَسْتَعْمِلُهُ الفُسَّاقُ والمَلاَحِدَةُ في زمانِنَا مِن الألفاظِ البَذِيئَةِ التي يُطْلِقُونَهَا علىالفُضَلاَءِ وأهلِ الديانةِ كقولِهِم: مُتَحَجِّرُونَ، وجَامِدُونَ، ورَجْعِيُّونَ، وَمُتَأَخِّرُونَ, بَيْنَمَا يَنْعَتُونَ أَشْبَاهَهُمْ بالتَّقَدُّمِيِّينَ، والمُتَنَوِّرِينَ، والرَّاقِينَ، فهي إذاً شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِن أَخْزَمَ في قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ.

وفي قولِهِ ( أَعْظَمِ الكُفْرِ والجَهَالَةِ وَأَبْلَغِ الغَيِّ وَالضَّلاَلَةِ) إِضَافَةُ الصِّفَةِ إلى المَوْصُوفِ.

قولُهُ:
وإنْ قالَ نُفَاةُ الصفاتِ: إثباتُ العلمِ والقُدْرَةِ والإرادةِ مُسْتَلْزِمٌ تَعَدُّدَ الصفاتِ، وهذا تركيبٌ مُمْتَنِعٌ.
قِيلَ: وإذا قُلْتُمْ: هو مَوْجُودٌ وَاجِبٌ، وعَقْلٌ وعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ؛ أَفَلَيْسَ المفهومُ مِن هذا هو المفهومَ مِن هذا؟ فهذهِ مَعَانٍ متعددةٌ مُتَغَايِرَةٌ في العقلِ، وهذا تركيبٌ عندَكم، وأنْتُم تُثْبِتُونَهُ, وتُسَمُّونَهُ توحيداً.
فإنْ قالوا: هذا توحيدٌ في الحقيقةِ، وليس هذا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعاً.
قِيلَ لهم: واتِّصَافُ الذاتِ بالصفاتِ اللازمَةِ لها توحيدٌ في الحقيقةِ؛ وليسَ هو تَرْكِيباً مُمْتَنِعاً.

الشرحُ:
يعني: إذا قالَ نُفَاةُ الصفاتِ، مِن غُلاَةِ الفلاسفةِ والجَهْمِيَّةِ: إثباتُ الصفاتِ للهِ يستلزمُ التركيبَ, وهذا تشبيهٌ للخالقِ بالمخلوقِ؛ لأنَّ هذه صفاتٌ مُتَغَايِرَةٌ متعددةٌ فَيَلْزَمُ أنْ يكونَ المُتَّصِفُ بها مُرَكَّباً منها، قِيلَ لهم:

أولاً: أَنْتُم تُثْبِتُونَ صفاتٍ متغايرةً متعددةً، كَوَصْفِكُم اللهَ بالوجودِ والوجوبِ، وقَوْلِكُم عنهُ سبحانَهُ: إنَّهُ عَقْلٌ وعاقلٌ ومعقولٌ، فالمفهومُ مِن هذهِ الصفاتِ التي أَثْبَتُّمُوهَا مثلُ المفهومِ مِن الصفاتِ التي وَصَفَ بها نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بها رسولُهُ، وَوَصَفَهُ بها المؤمنونَ: كالاستواءِ والعلمِ والقدرةِ والمحبةِ والغضبِ والرضا، المفهومُ مِن الجميعِ واحدٌ، مِن حيثُ إنَّ كلَّ صفةٍ مغايرةٌ للأخرى، ومِن حيثُ التَّعَدُّدُ فَلِمَ نَفَيْتُمْ هذهِ الصفاتِ, وأَثْبَتُّمْ تلكَ الصفاتِ؟

فإذا قالوا: الذي أَثْبَتْنَاهُ إنَّمَا هو في الحقيقةِ توحيدٌ, وليس تركيباً، قيلَ لَهُم: والذي أَثْبَتْنَاهُ - لأنَّ اللهَ أَثْبَتَهُ لنفسِهِ وأَثْبَتَهُ لهُ رسولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هو في الحقيقةِ توحيدٌ, وليسَ مُسْتَلْزِماً للتركيبِ، ويُقَالُ لهم:

ثانياً: أَتَعْنُونَ بالمُرَكَّبِ الذي كانَ مُفْتَرِقاً فاجْتَمَعَ؟ أَوْ رَكَّبَهُ مُرَكِّبٌ فَجَمَعَ أَجْزَاءَهُ؟ أو مَا أَمْكَنَ تَأْلِيفُهُ أو تَبْعِيضُهُ وَانْفِصَالُ بَعْضِهِ عن بعضٍ ونحوَ ذلكِ؟ فإنْ أَرَدْتُمْ بِالمُرَكَّبِ المَعَانِيَ المُتَقَدِّمَةَ، فهذا مُنْتَفٍ عن اللهِ قَطْعاً، وهو كَذِبٌ وَبُهْتٌ عَلَى اللهِ وعلى الشرعِ وعلى العَقْلِ، فاللهُ سبحانَهُ خالقُ الفردِ والمُرَكَّبِ، الذي يَجْمَعُ المُتَفَرِّقَ، ويُفَرِّقُ المُجْتَمِعَ، وَيُؤَلِّفُ بينَ الأشياءِ،فَيُرَكِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ.

فالحاصلُ أنَّهُ يُقَالُ لهم: قد وَصَفْتُمُوهُ بصفاتٍ يَتَمَيَّزُ بعضُها عن بعضٍ،فَهَلْ كانَ هَذَا عِنْدَكُمْ تَرْكِيباً؟ وقدْ دَلَّ الوَحْيُ وَالعَقْلُ وَالفِطْرَةُ على ثُبُوتِ ما نَفَيْتُمْ أَفَنَنْفِيهِ لِمُجَرَّدِ تَسْمِيَتِكُم الباطلةِ؟

والعقلُ كما دَلَّ على إلهٍ واحدٍ، وربٍّ واحدٍ، لا شَرِيكَ لهُ، ولا شَبِيهَ لهُ, لم يَدُلَّ على أنَّ الربَّ الواحدَ لا اسْمَ لهُ، ولا صفةَ، ولا وجهَ، ولا يَدَيْنِ، ولا هو فوقَ خَلْقِهِ، ولا يَصْعَدُ إليهِ شَيْءٌ، ولا يَنْزِلُ منهُ شَيْءٌ، فَدَعْوَى ذلكَ على العقلِ كَذِبٌ صريحٌ عليهِ، كما هو كَذِبٌ صريحٌ على الوَحْيِ, وقولُهُم: (إنَّمَا هو توحيدٌ) كَذِبٌ وافْتِرَاءٌ؛ بلْ إثباتُ ما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ هو التوحيدُ، وضِدُّهُ الشِّرْكُ، فهم يُسَمُّونَ نَفْيَ الصفاتِ توحيداً، وكذلكَ المعتزلةُ يُسَمُّونَ ذلك توحيداً، وهم ابْتَدَعُوا هذا التعطيلَ، وَجَعَلُوا اسمَ التوحيدِ واقِعًا على غيرِ ما هو واقِعٌ عليهِ في دِينِ المُسْلِمِينَ، فإنَّ التوحيدَ الذي بَعَثَ اللهُ بهِ رُسُلَهُ، وأَنْزَلَ بهِ كُتُبَهُ، هو أنْ يُعْبَدَ اللهُ لا يُشْرَكُ بهِ شيءٌ, ولا يُجْعَلُ لهُ نِدٌّ, كما قالَ تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورةَ.

ومِن تمامِ التوحيدِ: أنْ يُوصَفَ اللهُ تعالى بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ، وبما وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ، وَيُصَانَ ذلكَ عن التحريفِ والتعطيلِ، والتكييفِ والتمثيلِ، كما قالَ تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} السورةَ.

و (عَقْلٌ): مَصْدَرُ عَقَلَ، و (عاقِلٌ) اسمُ فاعلٍ، و (مَعْقُولٌ) اسمُ مفعولٍ، فالتمييزُ بينَ مُسَمَّى المصدرِ، ومُسَمَّى اسمِ الفاعلِ، واسمِ المفعولِ، والتفريقُ بينَ هذهِ الأمورِ مُسْتَقِرٌّ في كُلِّ الفِطَرِ والعُقُولِ السليمةِ، ولُغَاتِ الأُمَمِ، أمَّا هؤلاء الفلاسفةُ، فَمَعْنَى كَوْنِهِ عَقْلًا عِنْدَهُم أنَّهُ مُجَرَّدٌ عن المادةِ، مُنَزَّهٌ عن اللَّوَازِمِ المادِيَّةِ، ومعنَى كَوْنِهِ عاقلاً هو أنَّهُ مجردٌ لذاتِهِ، ومعنى كَوْنِهِ معقولاً هو أنَّهُ غيرُ محجوبٍ عن ذاتِهِ بذاتِهِ ولا بغيرِهِ، وسيأتِي الشرحُ الصحيحُ للعقلِ في الكلامِ على القاعدةِ الأُولَى إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

قولُهُ:
(وذلكَ أنَّهُ مِن المعلومِ في صريحِ العقولِ أنَّهُ ليسَ معنى كَوْنِ الشيءِ عالماً هو معنى كَوْنِهِ قادراً، ولا نَفْسَ ذاتِهِ هو نفسُ كونِهِ عالِمًا قادِراً، فمنْ جَوَّزَ أنْ تكونَ هذهِ الصفةُ هي الموصوفَ فهو مِن أعظمِ الناسِ سَفْسَطَةً، ثم إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ؛ فإنَّهُ إنْ جَوَّزَ ذلكَ جازَ أنْ يكونَ وجودُ هذا هو وجودَ هذا، فيكونُ الوجودُ واحداً بالعينِ لا بالنوعِ، وحينئذٍ فإذا كانَ وجودُ المُمْكِنِ هو وجودَ الواجبِ كانَ وجودُ كلِّ مخلوقٍ يُعْدَمُ بعدَ وجودِهِ، ويُوجَدُ بعدَ عدمِهِ هو نفسَ وجودِ الحقِّ، القديمِ، الدائمِ، الباقي، الذي لا يَقْبَلُ العَدَمَ، وإذا قُدِّرَ هذا كانَ الوجودُ الواجبُ مَوْصُوفًا بكلِّ تَشْبِيهٍ وتجسيمٍ وكلِّ نَقْصٍ وكل عَيْبٍ، كما يُصَرِّحُ بذلكَ أهلُ وِحْدَةِ الوجودِ، الذين طَرَدُوا هذا الأصلَ الفاسدَ، وحينئذٍ فتكونُ أقوالُ نُفَاةِ الصفاتِ باطلةً على كلِّ تقديرٍ ).

قولُهُ:
وهذا بابٌ مُطَّرِدٌ، فإنَّ كلَّ واحدٍ من النُّفَاةِ لِمَا أَخْبَرَ بهِ الرَّسُولُ مِن الصفاتِ، لا يَنْفِي شيئاً فِرَاراً مِمَّا هو محذورٌ إلاَّ وَقَدْ أَثْبَتَ ما يَلْزَمُهُ فيهِ نظيرَ ما فَرَّ منهُ، فلابُدَّ في آخِرِ الأمرِ مِن أنْ يُثْبِتَ مَوْجُوداً واجِباً قديماً، مُتَّصِفاً بصفاتٍ تُمَيِّزُهُ عن غيرِهِ، ولا يكونُ فيها مُمَاثِلاً لِخَلْقِهِ، فَيُقَالُ لهُ: هكذا القولُ في جميعِ الصفاتِ، وكلُّ ما تُثْبِتُهُ مِن الأسماءِ والصفاتِ، فَلاَ بُدَّ أنْ يَدُلَّ على قَدْرٍ تَتَوَاطَأُ فيهِ المُسَمَّيَاتُ، ولَوْلاَ ذلكَ لَمَا فُهِمَ الخِطَابُ؛ ولَكِنْ نَعْلَمُ أنَّ ما اخْتَصَّ اللهُ بهِ، وامْتَازَ عن خَلْقِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطُرُ بالبالِ أو يَدُورُ في الخيالِ.

الشرحُ:
يعني كما يُقَالُ لهؤلاءِ الفلاسفةِ: إنَّكُم نَفَيْتُم الصفاتِ فِرَاراً مِن التركيبِ اللازمِ مِن التَّعَدُّدِ، وقد لَزِمَكُم مثلُ ما فَرَرْتُم منهُ حيثُ تُثْبِتُونَ أَنْتُم صفاتٍ متعددةً مُتَبَايِنَةً يُقَالُ أيضاً لكلِّ مَن نَفَى شيئاً مِمَّا أَثْبَتَهُ اللهُ ورسولُهُ، فالبابُ واحدٌ، والقاعدةُ مُطَّرِدَةٌ، فَمَثَلًا إذا قالَ الأشعريُّ: الرِّضَا والغَضَبُ والفَرَحُ والمَحَبَّةُ ونحوَ ذلكَ هو مِن صفاتِ الأجسامِ. فإنَّهُ يُقَالُ لهُ: كذلكَ الإرادةُ، والسمعُ والبصرُ، والعلمُ، والقدرةُ، مِن صفاتِ الأجسامِ، فإنَّهُ كَمَا لا نَعْقِلُ في الشاهدِ ما يَنْزِلُ وَيَسْتَوِي ويَغْضَبُ ويَرْضَى إلاَّ جِسْماً، لم نَعْقِلْ ما يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، ويُرِيدُ، ويَعْلَمُ، وَيَقْدِرُ، إلاَّ جِسْماً، فإذا قالَ: سَمْعُهُ ليس كَسَمْعِنَا،وَبَصَرُهُ ليس كَبَصَرِنَا، وإِرَادَتُهُ ليستْ كَإِرَادَتِنَا، وكذلكَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ. قيلَ لهُ: وَرِضَاهُ ليس كَرِضَانَا، وَغَضَبُهُ ليس كَغَضَبِنَا، وَفَرَحُهُ ليس كَفَرَحِنَا. ونُزُولُهُ ليسَ كَنُزُولِنَا، فإذا قالَ: لا يُعْقَلُ في الشاهدِ غَضَبٌ إلاَّ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لِطَلَبِ الانتقامِ. قيلَ لهُ: وَلاَ يُعْقَلُ في الشاهدِ إرادةٌ إلا مَيْلُ القلبِ إلى جَلْبِ ما يَحْتَاجُ إليهِ ويَنْفَعُهُ وَيَفْتَقِرُ فيهِ إلى ما سِوَاهُ،وَدَفْعُ ما يَضُرُّهُ، واللهُ سبحانَهُ كما أَخْبَرَ عن نَفْسِهِ المُقَدَّسَةِ في حديثِهِ الِإلَهِيِّ: َا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي)، فَهُوَ مُنَزَّهٌ عن الإرادةِ التي لا تُعْقَلُ في الشاهدِ إلا هكذا، وكذلكَ السمعُ لا يُعْقَلُ في الشاهدِ إلا وُصُولُ صوتٍ في الصِّمَاخِ، وذلكَ لا يكونُ إلاَّ في أَجْوَفَ، واللهُ سبحانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ، مُنَزَّهٌ عن ذلكَ.

والمعتزلةُ نَفَوا الصفاتِ فِرَاراً مِن التشبيهِ بالمخلوقاتِ, فَيُقَالُ لَهُم: أَنْتُم تُثْبِتُونَ الأسماءَ للهِ فَتُسَمُّونَهُ حَيًّا عَلِيماً قديرًا, وهذهِ الأسماءُ يُسَمَّى بها المخلوقُ، فَيَلْزَمُ مِن ذلكَ التشبيهُ، فقد فَرَرْتُم مِن أمرٍ، وَنَفَيْتُمْ مِن أَجْلِهِ الصفاتِ، ولكنَّ المحذورَ لازِمٌ لكم فيما تُثْبِتُونَ من الأسماءِ، فإنَّهُ كما يُسَمَّى بها الخلقُ يُسَمَّى بها أيضاً المخلوقُ، فَكَمَا سَمَّى نفسَهُ عَلِيمًا، سَمَّى المخلوقَ عليماً، وسَمَّى نفسَهُ سميعاً بصيراً، وسَمَّى المخلوقَ سميعاً بصيراً، إلى غيرِ ذلكَ. ويُقَالُ للجَهْمِيَّةِ: المخلوقُ يُوصَفُ بالخلقِ كما في قولِهِ سبحانَهُ: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي}.

وَيُوصَفُ بالفِعْلِ كما في قولِهِ: َلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، وَقَوْلِهِ: {صُنْعَ اللهَ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} واللهُ سبحانَهُ يُوصَفُ بالخلقِ كما في قولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وَيُوصَفُ بِالفِعْلِ كَمَا فِي قولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الجَهْمِيَّةُ تُثْبِتُونَ كَوْنَ اللهِ خالقاً فاعلاً، فَهَلْ فِعْلُهُ وَخَلْقُهُ سُبْحَانَهُ مِثْلَ المَخْلُوقِ؟ إنْ قُلْتُمْ هذا فهذا هو التشبيهُ وأنتم تَفِرُّونَ منهُ, وإنْ قُلْتُمْ: بَلْ فِعْلُ اللهِ وَخَلْقُهُ على ما يَلِيقُ بهِ، وفِعْلُ المخلوقِ وخَلْقُهُ على ما يُنَاسِبُهُ، فَيَجِبُ أنْ تَقُولُوا هذا في سائرِ الصفاتِ، فالحاصلُ أنَّ هؤلاءِ النفاةَ جَمِيعاً لم يَسْتَفِيدُوا مِن نَفْيِهِم إلاَّ تَعْطِيلَ حقائقِ النصوصِ، وإنَّهُم لم يَتَخَلَّصُوا مِمَّا ظَنُّوهُ مَحْذُوراً، بلْ هوَ لازِمٌ لهم فيما فَرُّوا إليهِ، بل قد يُثْبِتُونَ ما هو أعظمُ مَحْذُوراً، كحالِ الذينَ تَأَوَّلُوا نصوصَ العُلُوِّ والفَوْقِيَّةِ والاستواءِ فِرَاراً مِن التَّحَيُّزِ والحَصْرِ, ثم قالوا: هو في كلِّ مكانٍ بِذَاتِهِ، فَنَزَّهُوهُ عن استوائِهِ ومُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ، وَجَعَلُوهُ في أجوافِ البيوتِ والآبارِ والأوانِي والأماكنِ التي يُرْغَبُ عن ذِكْرِهَا، فَجَعَلُوا نِسْبَتَهُ إلى العرشِ كَنِسْبَتِهِ إلى أَخَسِّ مكانٍ، فتعالى اللهُ عن قولِهِم عُلُوًّا كبيراً.

وقولُهُ: (فلا بُدَّ في آخِرِ الأمرِ مِن أنْ يُثْبِتَ مَوْجُوداً وَاجِباً قَدِيماً مُتَّصِفاً بصفاتٍ تُمَيِّزُهُ عن غَيْرِهِ ) إلخ.
معناهُ أنَّ هؤلاءِ الذين يَنْفُونَ شيئًا فِرَاراً مِن مَحْذُورٍ، لاَ بُدَّ وأنْ يُثْبِتُوا شيئاً يَمْتَازُ بهِ الخالقُ عن المخلوقِ، كَكَوْنِهِ سبحانَهُ موجوداً قائماً بِنَفْسِهِ، وأنَّ وُجُودَهُ لا يُمَاثِلُ وُجُودَ خَلْقِهِ، وأنَّ قِيَامَهُ بنفْسِهِ لا يُمَاثِلُ قيامَ المخلوقِينَ بِأَنْفُسِهِم، فإنَّهُ سبحانَهُ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ، والخلقُ مُفْتَقِرُونَ إليهِ، فإذا أَثْبَتَ المُعَطِّلُ هذهِ الصفاتِ للهِ قِيل‌َ لهُ: فَيَجِبُ أنْ تَقُولَ هذا في سائرِ الصفاتِ، فالبابُ واحدٌ، وَمَهْمَا أَثْبَتَّ مِن وَصْفٍ للهِ فَلاَبُدَّ أنْ يَدُلَّ على قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، بَحَيْثُ يَتَّفِقَانِ فيهِ عندَ الإطلاقِ فإنَّكَ لاَ بُدَّ أنْ تُثْبِتَ للهِ وَصْفًا كَكَوْنِهِ شيئاً موجوداً، فالشيءُ الموجودُ يَتَّصِفُ بهِ كُلٌّ مِن الخالقِ والمخلوقِ، وَلَوْلاَ أَنَّنَا نَفْهَمُ قَدْرًا مُشْتَرَكاً بينَ الخالقِ والمخلوقِ في مُسَمَّى الشيءِ والوجودِ ونحوِ ذلكَ لَمَا فَهِمْنَا مَا خَاطَبَنَا اللهُ بهِ، فإنَّ الشيءَ ضِدُّ لا شَيْءَ, والوجودَ ضِدُّ العَدَمِ، كَمَا أنَّ القُدْرَةَ ضِدُّ العَجْزِ، والعِلْمَ ضِدُّ الجَهْلِ، وهكذا سائرُ الصفاتِ، لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أنَّ ما يُضَافُإلى المَخْلُوقِ مِن الأوصافِ هو على ما يُنَاسِبُ ذَاتَهُ وَيَلِيقُ بهِ، وما يُضَافُ إلى اللهِ مِن حقائقِ أسمائِهِ وَنُعُوتِ جَلاَلِهِ هو أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطُرُ ببالِ إنسانٍ أو يَدُورُ في خُلْدِهِ، فاللهُ أَعْلَى وأَعْظَمُ مِن أنْ يَتَصَوَّرَ عَظَمَتَهُ مُتَصَوِّرٌ، كَمَا قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)، وقولُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامِ: َسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَو اسْتَأْثَرْتَ بهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ) الحديثَ.


  #5  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 12:56 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


وتَتَبَيَّنُ صِحَّةُ هذهِ القاعدةِ، وصِحَّةُ ما تَقَرَّرَ سابقًا، ببيانِ أَصْلَيْنِ شريفينِ، ومَثَلينِ مَضروبينِ، وخاتِمَةٍ جامِعَةٍ تَشْتَمِلُ على سَبْعِ قواعدَ نافعةٍ . واللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فالأصْلُ الأوَّلُ: القولُ في بعضِ الصِّفاتِ كالقولِ في بعضٍ .
والأصْلُ الثاني: القولُ في الصفاتِ كالقولِ في الذاتِ .
والْمَثَلُ الأوَّلُ: الْجَنَّةُ .
والْمَثَلُ الثاني: الرُّوحُ .
ثمَّ القواعدُ السبْعُ، وسيأتي تفصيلُها بإذنِ اللَّهِ تعالى .

الْخُلاصَةُ والمناقَشَةُ

خُلاصَةُ مُقَدِّمَةِ الأصْلِ الأوَّلِ

1- القاعدةُ الأصيلةُ في الصِّفاتِ هيَ أنْ يُوصَفَ اللَّهُ بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ نَفْيًا وإثباتًا .
2- طريقةُ السلَفِ في الصفاتِ الإثباتُ بلا تَمثيلٍ، والتَّنْزِيهُ بلا تَعطيلٍ .
3- يكونُ الإلحادُ في أسماءِ اللَّهِ وصِفاتِه وآياتِه الشرعيَّةِ وآياتِه الكَوْنِيَّةِ .
4- جَاءَت النصوصُ بالإثباتِ الْمُفَصَّلِ، والنَّفْيِ الْمُجْمَلِ، في بابِ الصِّفاتِ .
5- كلُّ مَنْ خَالَفَ طريقةَ السلَفِ فهوَ من الزَّائِغِينَ المخالِفينَ لِمَا جاءَ بهِ الرُّسُلُ، ومنهم:

1- الباطنيَّةُ: ومَذْهَبُهُم سلْبُ النَّقِيضَيْنِ عن اللَّهِ؛ لأنَّهُم يَزْعُمُونَ أنَّ الإثباتَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجوداتِ، والنفيَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالمعدوماتِ، فوَقَعُوا في التشبيهِ بالْمُمْتَنِعَاتِ .
2- الفلاسِفةُ: ومَذْهَبُهُمْ وَصْفُ اللَّهِ بالسُّلُوبِ والإضافاتِ، وجَعْلُه الوجودَ الْمُطْلَقَ بشَرْطِ الإطلاقِ .
3- الْمُعْتَزِلَةُ وأتْبَاعُهُمْ: ومَذْهَبُهُم نَفْيُ الصفاتِ معَ إثباتِهم لأسماءٍ مُجَرَّدَةٍ .
6- لا يَلْزَمُ مِن الاتِّفاقِ في الأسماءِ الاتِّفاقُ في الْمُسَمَّيَاتِ .

المناقَشَةُ

1- اذْكُر القاعدةَ العامَّةَ في بابِ الصِّفاتِ، ( معَ ذِكْرِ آثارِ السلَفِ في ذلكَ ) .
2- ما هيَ خصائصُ طريقةِ السلَفِ؟
3- ما هيَ أُصولُ السلَفِ في الإثباتِ والنفيِ؟
4- اذكُرْ بعضَ الزائِغِينَ في هذا البابِ معَ التعريفِ بهم وبِمَذَاهِبِهم .
5- ما الْمُرادُ بما يَلِي: التكييفُ – التمثيلُ - التعطيلُ – التحريفُ – الإلحادُ؟
6- عَرِّف الْمُصطلحاتِ التاليةِ: واجبُ الوجودِ، الْمُمْكِنُ، المعدومُ، الْمُمْتَنِعُ، النقيضانِ، الضِّدَّانِ، الْمُتَضَايِفَانِ، الْمَلَكَةُ والْعَدَمُ .
7- اذكُرْ مَذْهَبَ الباطنيَّةِ في الصفاتِ، وشُبْهَتَهُمْ، والرَّدَّ عليهم .
8- اذْكُرْ مَذْهَبَ الفَلاسِفَةِ في الصفاتِ، وشُبْهَتَهُمْ، والرَّدَّ عليهم .
9- اذكُرْ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةَ، وشُبْهَتَهُمْ، والرَّدَّ عليهم .
10- كيفَ تَرُدُّ على هذهِ الفِرَقِ رَدًّا إِجْمَالِيًّا؟
11- ما المقصودُ بالقديمِ؟ وهلْ هوَ منْ أسماءِ اللَّهِ؟ وَضِّحْ ذلكَ .
12- لماذا سُمِّيَ أَهْلُ الكلامِ بهذا الاسمِ؟
الكلامُ على الأصلَيْنِ الشريفَيْنِ

الأصْلُ الأوَّلُ
القولُ في بعضِ الصِّفاتِ كالقولِ في بعضٍ

قولُه: ( فصلٌ
فأمَّا الأصلانِ، فأحَدُهما أنْ يُقالَ: القولُ في بعضِ الصِّفاتِ كالقولِ في بعضٍ ) .

التوضيحُ

معني هذا الأصْلِ أنَّ ما يَجِبُ اعتقادُه في بعضِ الصفاتِ يَجِبُ في البعضِ الآخَرِ، فإنْ وَجَبَ إثباتُ بعضِها وَجَبَ إثباتُ البَعْضِ الآخَرِ، ومَنْ نَفَى بَعْضَها لَزِمَه نَفْيُ ما سِوَاهَا، ومَنْ زَعَمَ أنَّ بعضَها يَسْتَلْزِمُ تَشْبيهًا كانَ الكُلُّ كذلكَ. قالَ الإمامُ أبو عُثمانَ الصَّابُونِيُّ ناقلاً عَقِيدَةَ السلَفِ أصحابِ الحديثِ: " وكذلكَ يقولونَ في جميعِ الصِّفاتِ التي نَزَلَ بذِكْرِها القرآنُ، وَوَرَدَتْ بها الأخبارُ الصِّحاحُ ".
وقالَ الإمامُ ابنُ جَريرٍ: فإنْ قالَ لنا قائلٌ: فما الصوابُ من القَوْلِ في معاني هذهِ الصِّفاتِ .... قيلَ: الصوابُ منْ هذا القَوْلِ عِنْدَنا أنْ نُثْبِتَ حقائقَها على ما نَعْرِفُ منْ جِهَةِ الإثباتِ ونَفْيِ التشبيهِ. قال ناظِمُ مُخْتَصَرِ خليلٍ:

" البابُ في الجميعِ واحدٌ فلا تَكُنْ مُعَطِّلاً ولا مُمَثِّلا "

وقالَ الناظِمُ:

" القولُ في بعضِ الصِّفاتِ مِثْلُالقولِ في بعضٍ فهذا أَصْلُ "

وهذا الأصْلُ مَبْنِيٌّ على القاعدةِ العَقْلِيَّةِ السابقةِ، وهيَ ( وجوبُ التسويةِ بينَ الْمُتَمَاثلاتِ ) .
وسَيَرُدُّ بهذا الأصْلِ على الطوائفِ السابقةِ، وبالأخَصِّ الأشاعرةِ والمعتزِلَةِ والْجَهْمِيَّةِ .

أوَّلاً: مُناقَشَةُ الْأَشاعِرَةِ

قولُه: ( فإنْ كانَ المخاطَبُ مِمَّنْ يقولُ: بأنَّ اللَّهَ حَيٌّ بحياةٍ، عليمٌ بعِلْمٍ، قديرٌ بقُدْرَةٍ، سميعٌ بسمْعٍ، بصيرٌ ببَصَرٍ، مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ، مُرِيدٌ بإرادةٍ، ويَجْعَلُ ذلكَ كُلَّه حقيقةً، ويُنازِعُ في مَحَبَّتِه ورِضَاهُ، وغَضَبِه وكراهِيَتِه، فيَجْعَلُ ذلكَ مَجازًا، ويُفَسِّرُه إمَّا بالإرادةِ، وإمَّا ببعضِ المخلوقاتِ من النِّعَمِ والعُقوباتِ . فيُقالُ لهُ: لا فَرْقَ بينَ ما نَفَيْتَهُ وبينَ ما أَثْبَتَّهُ، بل القولُ في أحَدِهما كالقولِ في الآخَرِ، فإنْ قُلْتَ: إنَّ إرادتَهُ مِثْلُ إرادةِ المخلوقينَ، فكذلكَ مَحَبَّتُه ورِضاهُ وغَضَبُه، وهذا هوَ التمثيلُ. وإنْ قُلْتَ: إنَّ لهُ إرادةً تَلِيقُ بهِ، كما أنَّ للمخلوقِ إرادةً تليقُ بهِ، قيلَ لكَ: وكذلكَ لهُ مَحَبَّةٌ تَليقُ بهِ، وللمخلوقِ مَحَبَّةٌ تَليقُ بهِ، ولهُ رِضًا وغَضَبٌ يَلِيقُ بهِ، وللمخلوقِ رِضًا وغَضَبٌ يَلِيقُ بهِ. وإنْ قُلْتَ: الغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لطَلَبِ الانتقامِ، فيُقالُ لكَ: والإرادةُ مَيْلُ النفْسِ إلى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ . فإنْ قُلْتَ: هذهِ إرادةُ الْمَخلوقِ، قيلَ لكَ: وهذا غَضَبُ المخلوقِ ) .

التوضيحُ

لم يُسَمِّ شيخُ الإسلامِ الأشاعِرَةَ باسمِهم، وإنَّما ذَكَرَ مَذْهَبَهُم ليَشْمَلَ الرَّدُّ كلَّ مَنْ وَافَقَهُم، كالْمَاتَرِيدِيَّةِ وغيرِهم. والكلامُ على هذهِ الفِقرةِ منْ خلالِ النِّقَاطِ التاليةِ:

أوَّلاً: التعريفُ بالأشاعرةِ: هم الْمَنسوبونَ إلى الإمامِ أبي الْحَسَنِ الْأَشعريِّ، وهوَ عليُّ بنُ إسماعيلَ بنِ أبي بِشْرٍ، يَنْتَهِي نَسَبُه إلى الصحابيِّ الجليلِ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ . وكان أبو الحسَنِ مُعْتَزِليًّا، ثمَّ أَعْلَنَ رُجوعَه وتَوْبَتَه، وسَلَكَ طريقَةَ عبدِ اللَّهِ بنِ سعيدِ بنِ كِلابٍ، ونَسَجَ على قوانينِه في الصِّفاتِ والقدَرِ. ثمَّ انْتَقَلَ إلى مُتابَعَةِ الإمامِ أَحْمَدَ وأهْلِ الحديثِ ونَصَرَ مَذْهَبَ السلَفِ كما في كُتُبِه الثلاثةِ: ( الإبانةُ، مقالاتُ الإسلاميِّينَ، رسالةٌ إلى أَهْلَ الثَّغْرِ)، وقدْ نَقَلْتُ عنْ هذهِ الكُتُبِ في أثناءِ هذا الشرْحِ. وتُوُفِّيَ سنةَ 324هـ . والأشاعرةُ الْمُنتسبونَ إليه يُتَابِعُونَه في مرحلتِه الثانيةِ؛ لذلكَ يُقالُ: الأشاعرةُ الكِلاَبِيَّةُ، ولهمْ أصولٌ خالَفُوا فيها السلَفَ في مختلِفِ أبوابِ الاعتقادِ .

ثانيًا: مَذْهَبُهُم في الصِّفاتِ:

1- يُقِرُّونَ بالأسماءِ معَ سَبْعِ صِفاتٍ: ( الحياةُ، والقُدْرَةُ، والعلْمُ، والكلامُ، والإرادةُ، والسمْعُ، والبَصَرُ ).
2- ويَجْعَلُونَ هذهِ الصفاتِ حقيقيَّةً وليستْ مَجَازِيَّةً .
3- يُنَازِعُونَ في غيرِها، كالْمَحَبَّةِ والغَضَبِ.
4- فيَجعلونَ هذهِ الصفاتِ مَجَازًا، ويُفَسِّرُونَها بأحَدِ تفسيرينِ:
1- الإرادةُ: فيقولونَ: الْمَحَبَّةُ هيَ إرادةُ الثوابِ، والغَضَبُ إرادةُ الانتقامِ، وهكذا .
2- الإنعامُ والعُقوبةُ: فيقولونَ: الْمَحَبَّةُ هيَ الإنعامُ، والغَضَبُ هوَ العُقوبةُ .

مَلحوظةٌ:
الأشاعرةُ يُثْبِتُونَ الصِّفاتِ السبْعَ على وَجْهِ الحقيقةِ، حتَّى صفةُ الكلامِ، لكنَّهم يُنازِعُونَ في المعنى الحقيقيِّ للكلامِ، فيَزْعُمُونَ أنَّ حقيقةَ الكلامِ هيَ المعنى النفسيُّ، وهذا إطلاقُه الحقيقيُّ عندَهم وليسَ مَجَازِيًّا. أمَّا السلَفُ وأئمَّةُ اللغةِ فالكلامُ عندَهم هوَ الْحَرْفُ والصوْتُ. وأَدَلَّةُ ذلكَ من الكتابِ والسُّنَّةِ واللغةِ والعقْلِ والعُرْفِ أكثَرُ منْ أنْ تُحْصَى، واللَّهُ أَعْلَمُ .

ثالثًا: الرَّدُّ على مَذْهَبِ الأشاعرةِ في الصِّفاتِ:

يُقالُ لهم: لا فَرْقَ بينَ ما نَفَيْتَهُ من الرحمةِ والغَضَبِ والمحَبَّةِ وغيرِها، وبينَ ما أَثْبَتَّهُ من الإرادةِ والكلامِ ..... فإنَّ القوْلَ في أحدِهما كالقولِ في الآخَرِ، ويَلْزَمُكَ أحَدُ ثلاثةِ لوازِمَ:

1- أنْ تقولَ: إنَّ إرادتَهُ مِثْلُ إرادةِ المخلوقِ، فكذا الْمَحَبَّةُ وغيرُها، فتَقَعُ في التمثيلِ .
2- أنْ تَنْفِيَ الجميعَ؛ فِرارًا من الوقوعِ في التمثيلِ، فتَقَعَ في التعطيلِ.
3- أنْ تقولَ فيما تُثْبِتُه من الإرادةِ والكلامِ: إنَّها ثابتةٌ كما تَلِيقُ بهِ، كما أنَّ للمخلوقِ إرادةً تَلِيقُ بهِ، وحينئذٍ يَلْزَمُكَ هذا في الْمَحَبَّةِ والغضَبِ، فتقولُ: لهُ مَحَبَّةٌ كما تَلِيقُ بهِ، كما للمخلوقِ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بهِ، وهكذا.

( جوابُ الْأَشْعَرِيِّ ): فإنْ قالَ: الغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لطَلَبِ الانتقامِ، وهذا لا يَلِيقُ باللَّهِ.

( رَدُّ أَهْلِ السُّنَّةِ ): قيلَ لهُ: وكذلكَ الإرادةُ التي تُثْبِتُهَا: مَيْلُ النفْسِ إلى جَلْبِ مَنفعةٍ أوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وهذا لا يَلِيقُ باللَّهِ، فانْفِهِما جميعًا أوْ أَثْبِتْهُما جميعًا .
( جوابُ الْأَشْعَرِيِّ ): هذهِ الإرادةُ التي ذَكَرْتَها هيَ إرادةُ المخلوقِ، أمَّا إرادةُ اللَّهِ فكما تَليقُ بهِ .

( رَدُّ أهْلِ السنَّةِ ): قيلَ لهُ: وهذا الغَضَبُ الذي ذَكَرْتَهُ إنَّما هوَ غَضَبُ المخلوقِ لا غَضَبَ اللَّهِ اللائقَ بهِ .
ثمَّ إنَّ هذا التفسيرَ ليسَ لحقيقةِ الغَضَبِ، وإنَّما هوَ أَثَرٌ منْ آثارِ الغَضَبِ .

متابَعَةُ إلزامِ الأشاعرةِ

قولُه: ( وكذلكَ يَلْزَمُ القولُ في كلامِه وسَمْعِه وبَصَرِه وعِلْمِه وقُدْرَتِه، إنْ نَفَى عنهُ الغَضَبَ والمحَبَّةَ والرِّضَا، ونحوَ ذلكَ مِمَّا هوَ منْ خصائصِ المخلوقينَ، فهذا مُنْتَفٍ عن السمْعِ والبَصَرِ والكلامِ وجميعِ الصِّفاتِ. وإنْ قالَ: إنَّهُ لا حقيقةَ لهذا إلَّا ما يَخْتَصُّ بالمخلوقينَ، فيَجِبُ نفيُه عنهُ، قيلَ لهُ: وهكذا السَّمْعُ والبَصَرُ والكلامُ والعِلْمُ والقُدرَةُ .
فهذا الْمُفَرِّقُ بينَ بعضِ الصِّفاتِ وبعضٍ، يُقالُ لهُ فيما نَفَاهُ، كما يقولُه هوَ لِمُنَازِعِهِ فيما أَثْبَتَهُ .

فإذا قالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: ليسَ لهُ إرادةٌ ولا كلامٌ قائمٌ بهِ؛ لأنَّ هذهِ الصفاتِ لا تقومُ إلَّا بالمخلوقاتِ، فإنَّهُ يُبَيَّنُ للمُعْتَزِلِيِّ أنَّ هذهِ الصفاتِ يَتَّصِفُ بها القديمُ، ولا تكونُ كصفاتِ الْمُحْدَثَاتِ . فهكذا يقولُ لهُ الْمُثْبِتُونَ لسائرِ الصفاتِ من الْمَحَبَّةِ والرِّضَا ونحوَ ذلكَ ) .

التوضيحُ

وبمثْلِ ما سَبَقَ يُلْزَمُ الأشعريُّ إذا قالَ بالكلامِ والسمْعِ والبصَرِ ونَفْيِ الغضَبِ والمحَبَّةِ والرِّضَا، ونحوَ ذلكَ مِمَّا هوَ منْ خصائصِ المخلوقينَ عندَهُ؛ حيثُ يُقالُ لهُ: إنَّ خصائصَ المخلوقينَ مُنْتَفِيَةٌ عن السمْعِ والبصَرِ والكلامِ وجميعِ الصِّفاتِ إذا أُضِيفَتْ إلى اللَّهِ؛ لأنَّها تُصْبِحُ لائقةً بهِ .

( اعْتِرَاضُ الْأَشْعَرِيِّ ): إنْ قالَ: لا حقيقةَ لهذهِ الصِّفاتِ إلَّا ما يَخْتَصُّ بالمخلوقينَ، فلا حقيقةَ للغَضَبِ إلَّا غَلَيَانُ الدَّمِ.

( رَدُّ أَهْلِ السُّنَّةِ ): وهكذا قُلْ في السَّمْعِ والبصَرِ والكلامِ وغيرِها؛ فإنَّنا لا نَرَى سَمْعًا إلَّا بآلَةٍ، ولا نَرَى بَصَرًا إلَّا بانعكاساتٍ ضَوْئِيَّةٍ وحَدَقَاتٍ بَصَرِيَّةٍ وغيرِها .

فهذا الْمُفَرِّقُ بينَ الصِّفاتِ يُقالُ لهُ فيما نَفَاهُ كما يَقولُ هوَ لِمُنَازِعِه في الصفاتِ السبْعِ، أيْ: يُرَدُّ عليهِ بنَفْسِ الرُّدودِ التي يَرُدُّ بها على الْمُعْتَزِلِيِّ .

مِثالُ ذلكَ: إذا قالَ الْمُعْتَزِلِيُّ وهوَ يَنْفِي جميعَ الصفاتِ: ليسَ لهُ إرادةٌ ولا كلامٌ قائمٌ بهِ؛ لأنَّ هذهِ الصفاتِ لا تَقومُ إلَّا بالأجسامِ، فيَلْزَمُ التشبيهُ .
- فيَرُدُّ عليهِ الْأَشْعَرِيُّ: بأنَّ القديمَ يَتَّصِفُ بهذه الصِّفاتِ، ولا تكونُ كخصائصِ الْمُحْدَثَاتِ.
- فيَرُدُّ أهلُ السنَّةِ على الْأَشْعَرِيِّ بعينِ رَدِّه على الْمُعْتَزِلِيِّ فيُقالُ: فهكذا يَقولُ الْمُثْبِتُونَ في سائِرِ الصِّفاتِ من الْمَحَبَّةِ والرِّضَا والغَضَبِ والرَّحْمَةِ وغيرِ ذلكَ. فيُلْزَمُ الْأَشْعَرِيُّ بعَيْنِ ما أَلْزَمَ بهِ الْمُعْتَزِلِيَّ.

احتجاجُ الْأَشَاعِرَةِ بدَلالةِ العَقْلِ على هذهِ الصِّفاتِ

والجوابُ عنْهُ

أوَّلاً: حُجَّةُ الأشعريِّ في إثباتِه للصِّفَاتِ السبْعِ:
قولُه: ( فإنْ قالَ: تلكَ الصِّفاتُ أُثْبِتُها بالعَقْلِ؛ لأنَّ الفِعْلَ الحادِثَ دَلَّ على القُدْرَةِ، والتخصيصَ دَلَّ على الإرادةِ، والإحكامَ دَلَّ على الْعِلْمِ، وهذهِ الصِّفاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ للحياةِ، والحيُّ لا يَخْلُو عن السمْعِ والبصَرِ والكلامِ أوْ ضِدِّ ذلكَ ).

التوضيحُ

احْتَجَّ الأشاعِرَةُ في إثباتِهم للصِّفاتِ السبْعِ بأنَّ العَقْلَ قدْ أَثْبَتَ هذهِ الصفاتِ ودَلَّ عليها كما يَلِي:

1) الْقُدْرَةُ: دَلَّ عليها الفِعْلُ الحادِثُ: الفعْلُ هنا مَصْدَرٌ بمعنى المفعولِ، والمقصودُ وجودُ المخلوقاتِ.

2) الإرادةُ: دَلَّ عليها التخصيصُ: أيْ تَمَيُّزُ كلِّ شيءٍ بِمَيْزَةٍ تَخُصُّه منْ صِفةٍ أوْ وقتٍ أوْ مكانٍ دليلٌ على إرادةِ اللَّهِ لذلكَ .

3) العلْمُ: دَلَّ عليهِ الإحكامُ والإتقانُ في المخلوقاتِ، فهذا لا يكونُ إلَّا بكمَالِ العِلْمِ .

4) الحياةُ: لأنَّ الْقُدْرَةَ والإرادةَ والعلْمَ لا تَقومُ إلَّا بالْحَيِّ؛ فهيَ مُسْتَلْزِمَةٌ للحياةِ .

5) 6) 7) السمْعُ والبَصَرُ والكلامُ: لأنَّ الحيَّ لا يَخْلُو من السمْعِ والبصَرِ والكلامِ أوْ ضِدِّها من الصَّمَمِ والْعَمَى والْخَرَصِ . وهذهِ الأضْدَادُ نقائِصُ يَتَنَزَّهُ اللَّهُ عنها، فَوَجَبَ إثباتُ الكمالِ له.
وبهذهِ الدَّلالاتِ العَقْلِيَّةِ أَثْبَتَ الأشَاعِرَةُ تلكَ الصِّفاتِ .

ثانيًا: جوابُ أَهْلِ السُّنَّةِ منْ وَجْهَيْنِ:
قولُه: ( قالَ لهُ سائرُ أَهْلِ الإثباتِ: لكَ جوابانِ:
أحدُهما أنْ يُقالَ: عَدَمُ الدليلِ الْمُعَيَّنِ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ المدلولِ الْمُعَيَّنِ، فهَبْ أنَّ ما سَلَكْتَهُ من الدليلِ الَعَقْلِيِّ لا يُثْبِتُ ذلكَ، فإنَّهُ لا يَنْفِيهِ، وليسَ لكَ أنْ تَنْفِيَهُ بغيرِ دليلٍ؛ لأنَّ النَّافِيَ عليهِ الدليلُ كما على الْمُثْبِتِ، والسمْعُ قدْ دَلَّ عليهِ، ولم يُعَارِضْ ذلكَ مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ ولا سَمْعِيٌّ، فيَجِبُ إثباتُ ما أَثْبَتَهُ الدليلُ السالِمُ عن الْمُعَارِضِ المقاوِمِ ) .

التوضيحُ

أَجابَ أهْلُ السُّنَّةِ عنْ ذلكَ بجوابَيْنِ شافِيَيْنِ: ذُكِرَ هنا الجوابُ الأوَّلُ، وهوَ كما يَلِي:

( الجوابُ الأوَّلُ: على فَرْضِ التسليمِ )
أيْ: على فَرْضِ التسليمِ بأنَّ العَقْلَ دَلَّ على هذهِ السبْعِ، ولم يَدُلَّ على غيرِها من الصِّفاتِ . ومَضمونُ هذا الْجَوابِ منْ ثلاثِ مُقَدِّمَاتٍ ونتيجةٍ:

1- الْمُقَدِّمَةُ الأُولَى: أنَّ عَدَمَ الدليلِ الْمُعَيَّنِ، وهوَ هنا العَقْلُ، لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدلولِ الْمُعَيَّنِ، وهوَ هنا بَقِيَّةُ الصِّفاتِ . فلوْ قَدَّرْنَا أنَّ العَقْلَ لا يَدُلُّ على بَقِيَّةِ الصِّفاتِ، لكنَّهُ لا يَنْفِيها؛ لعَدَمِ مُصَادَمَتِها للعَقْلِ .

2- الْمُقَدِّمَةُ الثانيةُ: وما دامَ أنَّ العَقْلَ لا يَنْفِيها فلا يَجوزُ نَفْيُها بلا دَليلٍ؛ لأنَّ النافيَ عليهِ الدليلُ على نَفْيِه، كما أنَّ الْمُثْبِتَ عليهِ الدليلُ، كما قالَ تعالى: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى }. فهنا نَفَوْا دُخولَ الْجَنَّةِ لغيرِهم، فطالَبَهم اللَّهُ بالدَّليلِ في قولِه: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }، وهذا بِناءٌ على تحقيقِ شيخِ الإسلامِ لهذه المسألةِ .

3-الْمُقَدِّمَةُ الثالثةُ: أنَّ السمْعَ قدْ دَلَّ على بَقِيَّةِ الصِّفاتِ كما سَبَقَ سَرْدُ الآياتِ فيها، وهذا السمْعُ لم يُعَارِضْهُ صريحُ العقْلِ كما قُلْنَا، ولم يُعَارِضْهُ دليلٌ من النَّقْلِ أيضًا.

فالنتيجةُ: أنَّهُ يَجِبُ إثباتُ الدليلِ السالِمِ من الْمُعَارِضِ الْمُقاوِمِ لهُ، وهوَ هنا دليلُ النَّقْلِ؛ فإنَّهُ سَلِمَ منْ أيِّ مُعَارِضٍ، فالأصْلُ بقاؤُهُ، وهذا هوَ المطلوبُ .

الجوابُ الثاني على فَرْضِ الْمَنْعِ:

قولُه: ( والثاني: أنْ يُقالَ: يُمْكِنُ إثباتُ هذهِ الصِّفاتِ بنظيرِ ما أُثْبِتَ بهِ تلكَ من العَقْلِيَّاتِ، فيُقالُ: نَفْعُ العِبادِ بالإحسانِ إليهم يَدُلُّ على الرحمةِ، كدَلالةِ التخصيصِ على المشيئةِ . وإكرامُ الطائعينَ يَدُلُّ على مَحَبَّتِهِم، وعِقابُ الكافرينَ يَدُلُّ على بُغْضِهم، كما قدْ ثَبَتَ بالْمُشاهَدَةِ والخبَرِ منْ إكرامِ أوليائِه، وعِقابِ أعدائِه. والغاياتُ المحمودةُ في مفعولاتِه ومأموراتِه، وهيَ ما تَنْتَهِي إليهِ مفعولاتُه ومأموراتُه من العَواقِبِ الْحَميدةِ، تَدُلُّ على حِكْمَتِهِ البالِغَةِ، كما يَدُلُّ التخصيصُ على المشيئةِ وأَوْلَى؛ لقُوَّةِ العِلَّةِ الغائِيَّةِ . ولهذا كانَ ما في القرآنِ منْ بيانِ ما في مخلوقاتِه من النِّعَمِ والْحِكَمِ أعَظْمَ مِمَّا في القرآنِ منْ بيانِ ما فيها من الدَّلالةِ على مَحْضِ المشيئةِ ) .

التوضيحُ

هذا الجوابُ مَبْنِيٌّ على مَنْعِ قولِهم بأنَّ العَقْلَ لا يَدُلُّ على غيرِ تلكَ الصِّفاتِ السبْعِ، بلْ نَستطيعُ أنْ نُدَلِّلَ على باقي الصِّفاتِ بنظيرِ ما دَلَّلْتُمْ بهِ على تلكَ الصِّفاتِ من العَقْلِيَّاتِ، فنقولُ:
1- الرحمةُ: يَدُلُّ عليها نَفْعُ العِبادِ بالإحسانِ إليهم، كدَلالةِ التخصيصِ على المشيئةِ عندَكُم.
2- الْمَحَبَّةُ: يَدُلُّ عليها إكرامُ الطائعينَ في الدنيا والآخرةِ.
3- البُغْضُ: يَدُلُّ عليهِ عِقابُ الكافرينَ عاجِلاً وآجِلاً.
وهذا الإكرامُ والعِقابُ ثابتٌ في الواقِعِ وثابتٌ بالشَّرْعِ كما قالَ شيخُ الإسلامِ: { قدْ ثَبَتَ بالْمُشَاهَدَةِ والْخَبَرِ } .
4- الحكْمَةُ: يَدُلُّ عليها الغاياتُ المحمودةُ في مَفعولاتِه ومأموراتِه، أيْ: في مخلوقاتِه وشَرَائِعِه، وقولُه: ( الغاياتُ المحمودةُ ) وَضَّحَها بقولِه: ( وهيَ ما تَنْتَهِي إليه مفعولاتُه ومأموراتُه من العَوَاقِبِ الْحَميدةِ ) .
ودَلالةُ العَوَاقِبِ الْحَميدةِ على الْحِكْمَةِ التي يُنَازِعُ فيها الأشاعرةُ كدَلالةِ التخصيصِ على الإرادةِ، بلْ هيَ أَوْلَى. وسببُ كونِها أَوْلَى ( قُوَّةُ الْعِلَّةِ الغَائِيَّةِ ). وتوضيحُها كما يَلِي: إنَّ الْعِلَّةَ نوعانِ:

1- عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ: وهيَ سببُ وُجودِ الشيءِ، فيُقالُ عِلَّةُ وجودِ الْخَلْقِ قُدْرَةُ اللَّهِ، فهيَ التي فَعَلَت الشيءَ .

2- عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ: وهيَ الغايةُ منْ وُجودِ الشيءِ، فيُقالُ: عِلَّةُ وجودِ الْخَلْق عِبادةُ اللَّهِ تعالى .
والعِلَّةُ الغَائِيَّةُ هيَ الأكثَرُ في القرآنِ، وتكونُ مُقْتَرِنَةً باللامِ، وهيَ لامُ التعليلِ التي يُنْكِرُها نُفاةُ الْحِكْمَةِ، وهيَ الأَقْوَى؛ لأنَّها منْ أَجْلِها حَصَلَ الفِعْلُ. فلذلكَ كانتْ دَلالةُ الغَاياتِ المحمودةِ على الْحِكْمَةِ أَقْوَى منْ دَلالةِ التخصيصِ على الْمَشيئةِ؛ لأنَّ الحكمَةَ عِلَّةٌ غائيَّةٌ، والْمَشيئةَ عِلَّةٌ فاعليَّةٌ، وهيَ الأكثَرُ في القرآنِ . فبيانُ الحِكَمِ منْ خَلْقِه في القرآنِ أكْثَرُ منْ بيانِ مشيئتِه على إيجادِها .

- ومِنْ أَمْثِلَةِ الْحِكَمِ قولُه تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}،
وقولُه: { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا }، وقولُه: { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا }، وقولُه: { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }، وغيرُها . ومِنْ ذِكْرِ المشيئةِ
قولُه: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فالأوَّلُ أَكْثَرُ كما هوَ وَاضِحٌ .


ثانيًا: مُناقَشَةُ الْمُعْتَزِلَةِ

قولُه: ( وإنْ كانَ المخاطَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ الصِّفاتِ، ويُقِرُّ بالأسماءِ، كالْمُعْتَزِلِيِّ الذي يقولُ: إنَّهُ حَيٌّ عليمٌ قديرٌ، ويُنْكِرُ أنْ يَتَّصِفَ بالحياةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ .
قيلَ لهُ: لا فَرْقَ بينَ إثباتِ الأسماءِ وإثباتِ الصِّفاتِ . فإنَّكَ إنْ قُلْتَ: إثباتُ الحياةِ والعلْمِ والقُدْرَةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهًا أوْ تَجْسِيمًا؛ لأنَّا لا نَجِدُ في الشاهِدِ مُتَّصِفًا بالصِّفاتِ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ، قيلَ لكَ: ولا نَجِدُ في الشاهِدِ ما هوَ مُسَمَّى حَيٍّ عَلِيمٍ قَدِيرٍ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ . فإنْ نَفَيْتَ ما نَفَيْتَ؛ لكونِكَ لم تَجِدْهُ في الشاهِدِ إلَّا للجسْمِ، فانْفِ الأسماءَ، بلْ وكلَّ شيءٍ؛ لأنَّكَ لا تَجِدُهُ في الشاهِدِ إلَّا للجِسْمِ . فكلُّ ما يَحْتَجُّ بهِ مَنْ نَفَى الصفاتِ يَحْتَجُّ بهِ نافي الأسماءِ الْحُسنى، فما كانَ جوابًا لذلكَ كانَ جوابًا لِمُثْبِتِي الصِّفاتِ ) .

التوضيحُ

سَبَقَ الكلامُ عن الْمُعْتَزِلَةِ ومَذْهَبِهِم وأُصولِهم، وأنَّهُم يُثْبِتُونَ الأسماءَ دونَ الصِّفاتِ، فيُقالُ لهم: لا فَرْقَ بينَ إثباتِ الأسماءِ وإثباتِ الصِّفاتِ .

( شُبْهَةُ الْمُعْتَزِلِيِّ ): إثباتُ الصِّفاتِ، كالحياةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، تَقْتَضِي تشبيهًا وتَجسيمًا؛ لأنَّنَا لا نَجِدُ في الشاهِدِ، أيْ: في الموجوداتِ، مُتَّصِفًا بالصِّفاتِ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ .

( جوابُ أَهْلِ السُّنَّةِ ): إنَّنا لا نَجِدُ أيضًا في الشاهِدِ ما هوَ مُسَمًّى بالحيِّ أو العليمِ أو القديرِ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ، وحينئذٍ يَلْزَمُكَ ثلاثةُ لَوَازِمَ:

1- نَفْيُ الأسماءِ والصِّفاتِ جميعًا؛ لأنَّكَ لا تَجِدُ مَوْصُوفًا أوْ مُسَمًّى بأسماءٍ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ . بلْ ويَلْزَمُكَ نَفْيُ كلِّ شيءٍ، كالوجودِ والقيامِ بالنفْسِ؛ لأنَّكَ لا تَجِدُ قائمًا بنفسِه إلَّا ما هوَ جِسْمٌ.

2- إثباتُ الجميعِ معَ اعتقادِ التشبيهِ بالأجسامِ، وهذا باطِلٌ أيضًا عندَنا وعندَكَ، بلْ هوَ العُمْدَةُ عندَكَ في نَفْيِ الصِّفاتِ .

3- إثباتُ الجميعِ دونَ تشبيهٍ على ما يَلِيقُ باللَّهِ تعالى، وهوَ الْحَقُّ الخالِي عن التَّنَاقُضِ .

لذلكَ قالَ الطَّبَرِيُّ في رَدِّهِ عليهِم: " فإنْ كانَ الْمُقِرُّ عندَهم بأنَّهُ مُقِرٌّ بإثباتِه ووُجودِه، فكذلكَ الْمُقِرُّ بأنَّهُ عالِمٌ مُقِرٌّ بإثباتِ عِلْمٍ لهُ ... وسائرِ صِفاتِه ... وكذلكَ القولُ في القُدْرَةِ والكلامِ والإرادةِ" .
- فكلُّ ما يَحْتَجُّ بهِ مَنْ نَفَى الصِّفاتِ، وهم الْمُعْتَزِلَةُ، يَحْتَجُّ بهِ نافِي الأسماءِ الْحُسْنَى، كالْجَهْمِيَّةِ وغيرِهم، فما كانَ جوابًا للمُعْتَزِلَةِ على إثباتِ الأسماءِ للجَهْمِيَّةِ كانَ جوابَنا على الْمُعْتَزِلَةِ في إثباتِ الصِّفاتِ الإلَهِيَّةِ .

ثالثًا: مُناقَشَةُ الْجَهْمِيَّةِ ومَنْ وَافَقَهُمْ
( وهمْ على ثلاثِ فِرَقٍ: الْجَهْمِيَّةُ الغُلاةُ، وغُلاةُ الغُلاةِ من الباطنيَّةِ، والفَلاسِفَةِ ).



(أ) الْجَهْمِيَّةُ الغُلاةُ:
قولُه: ( وإنْ كانَ المخاطَبُ من الغُلاةِ نُفَاةِ الأسماءِ والصِّفاتِ، وقالَ: لا أَقولُ: هوَ موجودٌ، ولا حَيٌّ، ولا عَلِيمٌ، ولا قَديرٌ، بلْ هذهِ الأسماءُ لمخلوقاتِه، إذ هيَ مَجازٌ؛ لأنَّ إثباتَ ذلكَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجودِ الحيِّ العليمِ .
قيلَ لهُ: كذلكَ إذا قُلْتَ: ليسَ بِمَوْجودٍ، ولا حَيٍّ، ولا عليمٍ، ولا قديرٍ، كانَ ذلكَ تَشْبِيهًا بالمعدوماتِ، وذلكَ أَقْبَحُ من التشبيهِ بالمَوْجوداتِ )

التوضيحُ

كلامُه الآنَ عن الْجَهْمِيَّةِ، وقدْ سَبَقَ الكلامُ عنهمْ ووَصَفُهُمْ بالغُلاةِ لنَفْيِهِم الأسماءَ والصِّفاتِ، فقالَ:
أوَّلاً: إنْ قالَ الْجَهْمِيُّ: لا أقولُ: موجودٌ، ولا حَيٌّ، ولا عليمٌ، ولا قديرٌ، بلْ هذهِ أسماءٌ لمخلوقاتِه، أوْ هيَ مُجَرَّدُ مَجَازاتٍ لا حقيقةَ لها.
ثانيًا: شُبْهَتُه في ذلكَ أنَّ الإثباتَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجوداتِ الْحَيَّةِ العَلِيمَةِ القديرةِ.
ثالثًا: الجوابُ على شُبْهَتِهِمْ منْ وَجْهَيْنِ:

الوجهُ الأوَّلُ: على فَرْضِ التسليمِ بأَنَّ الإثباتَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجوداتِ، فكذلكَ النفيُ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالْمَعدوماتِ، وذلكَ أَقْبَحُ من التشبيهِ بالموجوداتِ .

الوجهُ الثاني: على فَرْضِ الْمَنْعِ، ولمْ يَذْكُرْهُ شيخُ الإسلامِ هنا، ولكنَّهُ مفهومٌ منْ خلالِ الرسالةِ سابقًا ولاحِقًا، وهوَ أنَّ إثباتَ الأسماءِ والصِّفاتِ لا يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ، وغايةُ ما يَحْصُلُ هوَ إثباتُ القَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الكلِّيِّ عندَ الإطلاقِ؛ ولذا فإنَّ التشبيهَ الذي نَفَتْهُ الأدلَّةُ النقليَّةُ والعقليَّةُ ليسَ هوَ الاتِّفاقَ في الْمُسَمَّيَاتِ، وإنَّما نَفَتْ ما يَسْتَلْزِمُ اشتراكَ الخالقِ والمخلوقِ فيما يَخْتَصُّ بهِ الخالِقُ منْ صِفاتِ الكمالِ .

قالَ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: " وأَنَّ وَصْفَهُ بذلكَ لا يُوجِبُ تَشبيهَهُ لِمَنْ وُصِفَ منْ خَلْقِه بذلكَ منْ قِبَلِ أنَّ الشيئينِ لا يُشَبَّهَانِ بغيرِهما ولا باتِّفاقِ أسمائِهما، وإنَّما يُشَبَّهَانِ بأنفسِهما . فلمَّا كانتْ نفْسُ الباري تعالى غيرَ مُشَبَّهَةٍ بشَيْءٍ من العالَمِ .. لمْ يكُنْ وَصْفُه بأنَّهُ حيٌّ وقادرٌ وعالِمٌ يُوجِبُ تَشَبُّهَه بِمَنْ وَصَفْنَاهُ بذلكَ مِنَّا .. "، إلى آخِرِ كلامِه .

(ب) غُلاةُ الغُلاةِ من الباطنيَّةِ:
قولُه: ( فإنْ قالَ: أنا أَنْفِي النَّفْيَ والإثباتَ، قيلَ لهُ: فيَلْزَمُكَ التشبيهُ بما اجْتَمَعَ فيهِ النقيضانِ من الْمُمْتَنِعَاتِ؛ فإنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يكونَ الشيءُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، أوْ لاَ مَوجودًا ولا مَعدومًا، ويَمْتَنِعُ أنْ يُوصَفَ باجتماعِ الوجودِ والعَدَمِ، أو الحياةِ والموتِ، أو العِلْمِ والجهْلِ، أوْ يُوصَفَ بنَفْيِ الوجودِ والعَدَمِ، ونَفْيِ الحياةِ والموتِ، ونَفْيِ العلْمِ والجَهْلِ .


فإنْ قُلْتَ: إنَّما يَمْتَنِعُ نَفْيُ النقيضينِ عمَّا يكونُ قابلاً لهما، وهذانِ يَتقابلانِ تَقَابُلَ العَدَمِ والْمَلَكَةِ، لا تَقَابُلَ السلْبِ والإيجابِ، فإنَّ الْجِدارَ لا يُقالُ لهُ: أَعْمَى ولا بَصيرٌ، ولا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ؛ إذْ ليسَ بقَابِلٍ لهما ) .

التوضيحُ

سَبَقَ بيانُ مَذْهَبِ الباطنيَّةِ، وهوَ أنَّهُم يَنْفُونَ عن اللَّهِ النفيَ والإثباتَ، فيقولونَ: (لا موجودَ، ولا مَعْدُومَ). وشُبْهَتُهُمْ أنَّ الإثباتَ تَشْبِيهٌ بالموجوداتِ، والنفيَ تشبيهٌ بالمعدوماتِ .

( مناقَشَةُ الباطنيَّةِ ): يُقالُ لهُ: يَلْزَمُكَ بنَفْيِكَ للنَّفْيِ والإثباتِ التشبيهُ بما اجْتَمَعَ فيهِ النقيضانِ، ومِثْلُه ارتفاعُ النقيضينِ . وقدْ سَبَقَ أنَّهُ من الْمُمْتَنِعَاتِ، فيَمْتَنِعُ أنْ يكونَ الشيءُ لا مَوجودًا ولا مَعدومًا، ولا عالِمًا ولا جاهلاً، ولا حيًّا ولا ميِّتًا، كما يَمْتَنِعُ أنْ يَجْتَمِعَ فيهِ الوجودُ والعَدَمُ، والحياةُ والموتُ، والعلْمُ والجهْلُ، ففَرَرْتَ من التشبيهِ بالموجوداتِ أو المعدوماتِ، ووَقَعْتَ في التشبيهِ بالْمُمْتَنِعَاتِ، وهوَ أَشْنَعُ صُوَرِ التعطيلِ .

( اعتراضُ الباطنيَّةِ ): هذا اعتراضُهم الْمَشهورُ، وهوَ مَبْنِيٌّ على مُقَدِّمَاتٍ ثلاثٍ ونتيجةٍ:
الأُولَى: أنَّ نَفْيَ النقيضينِ إنَّما يَمْتَنِعُ عمَّا يكونُ قابِلاً للنقيضينِ .
الثانيةُ: أنَّ هذهِ الْمُتَقابلاتِ هيَ منْ قَبيلِ تَقَابُلِ الْمَلَكَةِ والعَدَمِ، أيْ: قدْ يَرتفعانِ عن الْمَحَلِّ الذي لا يَقْبَلُهُما .
الثالثةُ: أنَّ اللَّهَ تعالى ليسَ بقابِلٍ لهذه الْمُتَقَابِلاَتِ أَصْلاً .
والنتيجةُ عِنْدَهم أنَّ اللَّهَ تعالى لا يَمْتَنِعُ عليهِ رَفْعُ النقيضينِ؛ لأنَّهُ ليسَ بقابِلٍ لهما أَصْلاً. وهذا الاعتراضُ ذَكَرَهُ شيخُ الإسلامِ هنا، وسَيَذْكُرُه مرَّتَيْنِ ويُفَصِّلُ الرَّدَّ عليهِ في القاعدةِ السابعةِ .

الجوابُ على الاعتراضِ منْ ثلاثةِ وجوهٍ

الوجهُ الأوَّلُ: على فَرْضِ الْمَنْعِ:
قولُه: ( قيلَ لكَ أوَّلاً: هذا لا يَصِحُّ في الوجودِ والعَدَمِ؛ فإنَّهما مُتقابِلانِ تَقَابُلَ السلْبِ والإيجابِ باتِّفاقِ العُقلاءِ، فيَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ أَحَدِهما ثُبوتُ الآخَرِ . وأمَّا ما ذَكَرْتَهُ من الحياةِ والموتِ والعِلْمِ والجَهْلِ، فهذا اصطلاحٌ اصْطَلَحَتْ عليهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ. والاصطلاحاتُ اللفظيَّةُ ليستْ دَلِيلاً على الحقائقِ العَقْلِيَّةِ، وقدْ قالَ اللَّهُ تعالى: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }، فسَمَّى الجمادَ مَيِّتًا، وهذا مَشهورٌ في لُغةِ العرَبِ وغيرِهم ) .

التوضيحُ

إنَّ هذا الكلامَ، وهوَ أنَّ هذهِ الْمُتقابِلاتِ منْ قَبيلِ الْمَلَكَةِ والعَدَمِ، على نَوْعَيْنِ:
1- الوجودُ والعَدَمُ: وهذا لا يَصِحُّ كونُهما من الْمَلَكَةِ والْعَدَمِ؛ لأنَّهُما منْ قَبيلِ السلْبِ والإيجابِ، أي: النقيضينِ، عندَ عامَّةِ العُقلاءِ، فيَلْزَمُ منْ رَفْعِ أحدِهما ثبوتُ الآخَرِ، ويَستحيلُ جَمْعُهما أوْ رَفْعُهما معًا، فلا بُدَّ أنْ يكونَ الشيءُ إِمَّا موجودًا وإمَّا مَعدومًا لا ثالثَ لهما، وهذا مِمَّا لا يَخْتَلِفُ فيهِ العُقلاءُ .
2- أمَّا الحياةُ والموتُ والعِلْمُ والجهْلُ، فتَسْمِيَتُهَا بالْمَلَكَةِ والعَدَمِ، ومَنْعُ اتِّصافِ الجماداتِ بها إنَّما هوَ اصْطِلاحٌ للفَلاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ، وهم أَتْبَاعُ أَرِسْطُو، وَسُمُّوا بذلكَ لأنَّهُ كانَ يُلْقِي الدروسَ وهوَ يَتَمَشَّى والتلاميذُ يَسيرونَ منْ حولِه. وهذا الاصطلاحُ مَرْدُودٌ لوجوهٍ، منها:

أوَّلاً: أنَّهُ معلومٌ عَقْلاً ما ليسَ بحيٍّ فهوَ مَيِّتٌ، وما ليسَ بعالِمٍ فهوَ جاهِلٌ، والاصطلاحاتُ لا تَدُلُّ على نَفْيِ الحقائقِ العقليَّةِ الثابتةِ .

ثانيًا: أنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْجَماداتِ بالموتِ، كما في قولِه تعالى: { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } .

ثالثًا: أنَّ تَسميةَ الْجَماداتِ بالأمواتِ مشهورٌ في لُغةِ العَرَبِ، كتسميتِهم الأرضَ الجرداءَ بالْمَيْتَةِ، ويُقالُ: إحياءُ الْمَواتِ، وغيرُه كثيرٌ .

الوجهُ الثاني: على فَرْضِ التسليمِ:
قولُه: ( وقيلَ لكَ ثانيًا: فما لا يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالحياةِ والموتِ، والْعَمَى والبصَرِ، ونحوَ ذلكَ من الْمُتقابِلاتِ، أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذلكَ. فالْأَعْمَى الذي يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالبَصَرِ أَكْمَلُ من الْجَمادِ الذي لا يَقْبَلُ واحدًا منهما، فأنْتَ فَرَرْتَ منْ تشبيهِه بالحيواناتِ القابِلَةِ لصِفاتِ الكَمالِ، ووَصَفْتَهُ بصِفاتِ الْجَماداتِ التي لا تَقْبَلُ ذلكَ .

وأيضًا: فما لا يَقْبَلُ الوُجودَ والعَدَمَ أعْظَمُ امْتِنَاعًا من القَابِلِ للوجودِ والعَدَمِ، بلْ ومِن اجتماعِ الوجودِ والعَدَمِ ونَفْيِهما جميعًا، فما نَفَيْتَ عنهُ قَبولَ الوجودِ والعَدَمِ كانَ أعْظَمَ امتناعًا مِمَّا نَفَيْتَ عنه الوجودَ والعَدَمَ، وإذا كانَ هذا مُمْتَنِعًا في صرائحِ العقولِ كانَ هذا أَعْظَمَ امتناعًا، فجَعَلْتَ الوجودَ الذي لا يَقْبَلُ العَدَمَ هوَ أعْظَمَ الْمُمْتَنِعَاتِ، وهذا غايةُ التناقُضِ والفَسَادِ ) .

التوضيحُ

لوْ سَلَّمْنَا بأنَّ اللَّهَ تعالى لا يَقْبَلُ هذهِ الْمُتقابِلاتِ، وأنَّها كتَقَابُلِ الْمَلَكَةِ والعَدَمِ في حَقِّه، فيُقالُ:

1- إنَّ ما لا يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالحياةِ والموتِ والعَمَى والبَصَرِ وغيرِها، أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذلكَ . فالأعمى الذي يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالبَصَرِ أكْمَلُ من الْجَمادِ الذي لا يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالعمى ولا بالبَصَرِ، فأنْتَ فَرَرْتَ منْ تَشْبِيهِه بالأحياءِ القابِلَةِ لصِفاتِ الكمالِ فوَصَفْتَهُ بالجماداتِ غيرِ القَابِلَةِ لها .

2- وأيضًا، فإنَّ ما لا يَقْبَلُ الوجودَ والعَدَمَ أعْظَمُ امتناعًا مِمَّا يَقْبَلُهُما، بلْ ما لا يَقْبَلُهما أَعْظَمُ امتناعًا مِمَّا يَقْبَلُ اجتماعَهما أو ارتفاعَهما . فإذا كانَ اجتماعُهما وارتفاعُهما مُمْتَنِعًا في صرائحِ العُقولِ، فعَدَمُ قَبولِه لهما أَعْظَمُ امتناعًا . فبقَوْلِكَ هذا جَعَلْتَ الواجبَ الذي لا يَقْبَلُ أيَّ عَدَمٍ هوَ أَعْظَمَ الْممْتَنِعَاتِ، وهذا غايةُ التناقُضِ والفَسَادِ .
وقدْ سَبَقَ ترتيبُ الأشياءِ حَسَبَ الوجودِ والعَدَمِ كما يلي:

1- واجبُ الوجودِ . 2- مُمْكِنُ الوجودِ . 3- الْمَعْدُومُ الْمُمْكِنُ . 4- الْمَعْدُومُ الْمُمْتَنِعُ .
- والْمُمْتَنِعُ ثلاثةُ أقسامٍ أَعْظَمُها: 1) الْمُمْتَنِعُ لعَدَمِ قَبولِه النقيضينِ . 2) ثمَّ الْمُمْتَنِعُ لجمْعِ النقيضينِ . 3) ثمَّ الْمُمْتَنِعُ لرَفْعِهِمَا .

اسْتِطْرَادٌ في بيانِ أقسامِ الباطنيَّةِ

قولُه: ( وهؤلاءِ الباطنيَّةُ منهمْ مَنْ يُصَرِّحُ برَفْعِ النقيضينِ؛ الوجودُ والعَدَمُ، ورَفْعُهما كجَمْعِهما . ومنهمْ مَنْ يَقولُ: لا أُثْبِتُ واحدًا منهما. وامتناعُه عنْ إثباتِ أحدِهما في نَفْسِ الأمْرِ لا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ واحدٍ منهما في نَفْسِ الأمْرِ، وإنَّما هوَ كَجَهْلِ الجاهِلِ، وسكوتِ الساكِتِ، الذي لا يُعَبِّرُ عن الْحَقَائِقِ ) .

التوضيحُ

اسْتَطْرَدَ شيخُ الإسلامِ هنا في بيانِ قِسْمَيْنِ للبَاطِنيَّةِ، معَ أنَّهُ لمْ تَكْتَمِلْ وُجوهُ الرَّدِّ، فقالَ:
الباطنيَّةُ قِسمانِ:
1) مَنْ يُصَرِّحُ برَفْعِ النقيضينِ، وهمْ مَنْ سَبَقَ الرَّدُّ عليهم .
2) مَنْ يَمْتَنِعُ عن الإثباتِ .

والرَّدُّ عليهِ: أنَّ امتناعَهُ عن الإثباتِ لا يَمْنَعُ تحقُّقَ أحدِهما في الحقيقةِ، وإنَّما امتناعُه، كجَهْلِ الجاهِلِ وسكوتِ الساكِتِ، لا يُعَبِّرُ عن الحقائقِ نَفْيًا ولا إثباتًا . قالَ شيخُ الإسلامِ في شرْحِ حديثِ النُّزُولِ: " فامتناعُكَ منْ إثباتِ أَحَدِ النقيضينِ لا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ النقيضينِ في نفسِ الأمْرِ؛ فإنَّ النقيضينِ لا يُمْكِنُ رَفْعُهُما، بلْ في نفْسِ الأمْرِ لا بُدَّ أنْ يكونَ الشيءُ إمَّا موجودًا وإمَّا أنْ لا يكونَ، وليسَ بينَ النفْيِ والإثباتِ واسطةٌ أَصْلاً ... فإعراضُ الإنسانِ عنْ رُؤْيَةِ الشمْسِ والقَمَرِ والكواكبِ والسماءِ لا يَدْفَعُ وجودَها، ولا يَرْفَعُ ثبوتَ أَحَدِ النقيضينِ". وهذا كلامٌ نَفِيسٌ يَدُلُّ على وَحدةِ الْمَنهَجِ في مُصَنَّفَاتِ شيخِ الإسلامِ رَحِمَه اللَّهُ .

النُّقْطَةُ الثالثةُ في الوجْهِ الثانِي من الجوابِ
3- قولُه: ( وإذا كانَ ما لا يَقْبَلُ الوجودَ ولا العَدَمَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبولُه لهما معَ نفْيِهما عنهُ، فما يُقَدَّرُ لا يَقْبَلُ الحياةَ ولا الموتَ، ولا العِلْمَ ولا الْجَهْلَ، ولا القُدرَةَ ولا العَجْزَ، ولا الكلامَ ولا الْخَرَسَ، ولا العَمَى ولا البَصَرَ، ولا السَّمْعَ ولا الصَّمَمَ، أقربُ إلى المعدومِ والْمُمْتَنِعِ مِمَّا يُقَدَّرُ قَابِلاً لهما معَ نَفْيِهما عنهُ. وحينئذٍ فَنَفْيُهُما معَ كونِه قَابِلاً لهما أَقْرَبُ إلى الوجودِ والْمُمْكِنِ، وما جازَ لواجِبِ الوجودِ قابلاً، وَجَبَ لهُ لِعَدَمِ توقُّفِ صِفاتِه على غيرِه . فإذا جَازَ القَبولُ وَجَبَ، وإذا جازَ الْمَقبولُ وَجَبَ . وقدْ بَسَطَ هذا في مَوْضِعٍ آخَرَ، وبَيَّنَ وُجوبَ اتِّصافِه بصِفاتِ الكَمالِ التي لا نَقْصَ فيها بوَجْهٍ من الوُجوهِ ) .

التوضيحُ

هذه العِبارةُ تُعْتَبَرُ النُّقطَةَ الثانيةَ في الوجْهِ الثاني من الجوابِ، وحاصِلُها: سَبَقَ أنَّ ما لا يَقْبَلُ النقيضينِ أَعْظَمُ امتناعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُه لهما معَ نَفْيِهِما عنهُ، معَ أنَّ كِلاَ الأمرينِ مُحَالٌ، لكنَّ عَدَمَ قَبولِه للنقيضينِ أَشَدُّ امتناعًا منْ قَبولِه لهما معَ نَفْيِهما عنْهُ، وعَكْسُ ذلكَ أنَّ نفيَهما عنهُ معَ تقديرِه قَابِلاً لهما أَقْرَبُ إلى الإمكانِ، وما كانَ مَقبولاً للَّهِ تعالى فإنَّهُ يُصْبِحُ واجبًا في حَقِّه، فكلُّ ما جَازَ في حَقِّه وكان كَمالاً فإنَّهُ يَجِبُ اتِّصافُه بهِ . وهذهِ قاعدةٌ عَقْلِيَّةٌ بَرْهَنَ لها شيخُ الإسلامِ بتَوَسُّعٍ أكثَرَ في رسالتِه الأَكْمَلِيَّةِ؛ حيثُ قالَ: "وإذا ثَبَتَ إمكانُ ذلكَ لهُ، فما جَازَ لهُ من الكَمالِ الْمُمْكِنِ الوجودِ فإنَّهُ واجبٌ لهُ لا يَتَوَقَّفُ على غيرِه، فإنَّهُ لوْ تَوَقَّفَ على غيرِه لم يكُنْ موجودًا لهُ إلَّا بذلكَ الغَيْرِ، وذلكَ الغيرُ إنْ كانَ مَخْلوقًا لَزِمَ الدَّوْرَ... فإذا كلُّ كمالٍ جازَ في حَقِّه فيكونُ وَاجِبًا لهُ .

الوجهُ الثالثُ:
قولُه: ( وقيلَ لهُ أيضًا: اتِّفاقُ الْمُسَمَّيَيْنِ في بعضِ الأسماءِ والصِّفاتِ ليسَ هوَ التشبيهَ والتمثيلَ الذي نَفَتْهُ الأدِلَّةُ؛ السَّمْعِيَّاتُ والعَقْلِيَّاتُ، وإنَّما نَفَتْ ما يَسْتَلْزِمُ اشتراكَهما فيما يَخْتَصُّ بهِ الخالِقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بوجوبِه أوْ جَوازِه أو امتناعِه، فلا يَجوزُ أنْ يَشْرَكَهُ فيهِ مخلوقٌ . ولا يَشْرَكُه مخلوقٌ في شيءٍ منْ خصائصِه سبحانَهُ وتعالى . وأمَّا ما نَفَيْتَهُ فهوَ ثابتٌ بالشرْعِ والعقْلِ، وتَسْمِيَتُكَ ذلكَ تشبيهًا وتجسيمًا تَمْوِيهٌ على الْجُهَّالِ الذينَ يَظُنُّونَ أنَّ كلَّ معنًى سَمَّاهُ مُسَمٍّ بهذا الاسْمِ يَجِبُ نفيُه، ولوْ ساغَ هذا لكانَ كلُّ مُبْطِلٍ يُسَمِّي الحقَّ بأسماءٍ يَنْفِرُ عنها بَعْضُ الناسِ؛ لِيُكَذِّبَ الناسُ بالحقِّ المعلومِ بالسمْعِ والعقْلِ . وبهذهِ الطريقةِ أَفْسَدَت الْمَلاحِدَةُ على طوائفِ الناسِ عَقْلَهُم ودِينَهم، حتَّى أَخْرَجُوهم إلى أَعْظَمِ الكُفْرِ والْجَهَالَةِ، وأَبْلَغِ الغِيِّ والضَّلاَلَةِ ) .

التوضيحُ

قدْ سَبَقَ هذا الوجْهُ، وهوَ باختصارٍ: إنَّ اتِّفاقَ الشيئينِ في بعضِ الأسماءِ والصِّفاتِ ليسَ هوَ التشبيهَ والتمثيلَ الذي نَفَتْهُ الأدِلَّةُ النقليَّةُ والعقليَّةُ، وإنَّما التشبيهُ الْمَنْفِيُّ هوَ الذي يَستلزِمُ اشتراكَ المخلوقِ فيما يَخْتَصُّ بهِ الخالِقُ، فما يَجِبُ على اللَّهِ يَخْتَلِفُ عمَّا يَجِبُ على المخلوقِ، كذلكَ ما يَمْتَنِعُ على اللَّهِ يَخْتَلِفُ عما يَمْتَنِعُ على المخلوقِ، وهكذا الجوازُ . فهذه الخصائصُ لا يُمْكِنُ أنْ تَشترِكَ بينَ الخالقِ والمخلوقِ . ويُوَضِّحُها الْجَدْوَلُ التالي:



في حقِّ المخلوقِ
في حقِّ اللَّهِ
الصفاتُ
صِفاتُ النقْصِ، كالافتقارِ إلى الغِذاءِ، والضَّعْفِ العامِّ، كما قالَ شيخُ الإسلامِ:
" الفَقْرُ لي وصْفُ ذاتٍ لازمٌ أَبَدًا
كما الْغِنَى وَصْفٌ لهُ ذَاتِي ".
صِفاتُ الكَمالِ، كالعِلْمِ والحياةِ والغِنَى والقُدْرَةِ وغيرِها.
الواجبةُ
صِفاتُ الكَمالِ، كالعِلْمِ والسمْعِ والبصَرِ، فهيَ مُمْكِنَةٌ للمخلوقِ، وليستْ وَاجبةً .
خَلْقُ العالَمِ والإنسانِ وغيرِها، فهيَ مِمَّا يَفْعَلُه اللَّهُ بمشيئتِه.
الجائزةُ
صِفاتُ الكَمَالِ الخاصَّةُ باللَّهِ تعالى، فهيَ مُمْتَنِعَةٌ على المخلوقينَ .
صِفاتُ النَّقْصِ، كالْمَرَضِ والنوْمِ والْمُمَاثَلَةِ للمخلوقينَ
الْمُمْتَنِعَةُ

(هنا جدول يحتاج للتنسيق)
وأمَّا ما نَفاهُ هؤلاءِ فهوَ ثَابِتٌ لهُ تعالى، وإنَّما سَمَّوْهُ تَشبيهًا وتَجسيمًا؛ ليُمَوِّهُوا على الْعَوَامِّ، ويُنَفِّرُوا الْجُهَّالَ عنْ إثباتِ صِفاتِ الكَمالِ، وبهذا أَفْسَدُوا على الناسِ دِينَهم. وهذهِ طريقةُ أهْلِ البِدَعِ، فإنَّهُم يُلَقِّبُونَ أهْلَ السُّنَّةِ ومعتقداتِهم بألقابٍ شنيعةٍ؛ ليُنَفِّرُوا الناسَ عن الحقِّ، كرَمْيِ الْجَهْمِيَّةِ لهمْ بالتشبيهِ، وإطلاقِ الرافِضَةِ لهم أنَّهُم نَواصِبُ، والْمُرْجِئَةِ بأنَّهُم شَكَّاكَةٌ، والقَدَرِيَّةِ بأنَّهُم جَبْرِيَّةٌ . قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: " وسَمِعْتُ أبي يقولُ: وعَلامَةُ أهْلِ البِدَعِ الوَقِيعَةُ في أهْلِ الأثَرِ، وعَلامَةُ الزنادِقَةِ تسميتُهم أهْلَ السُّنَّةِ حَشْوِيَّةً، يُريدونَ إبطالَ الآثارِ، وعَلامَةُ الْجَهْمِيَّةِ تَسميتُهم أهْلَ السُّنَّةِ مُشَبِّهَةً، وعلامَةُ القَدَرِيَّةِ تَسميتُهُمْ أَهْلَ السنَّةِ مُجَبِّرَةً، وعَلامَةُ الْمُرْجِئِيَّةِ تَسْمِيَتُهُم أهْلَ السنَّةِ مخالِفَةً ونَقْصَانِيَّةً، وعَلامَةُ الرافِضَةِ تَسْمِيَتُهُمْ أهْلَ السنَّةِ نَاصِبَةً . ولا يَلْحَقُ أهلَ السنَّةِ إلَّا اسمٌ واحدٌ، ويَسْتَحِيلُ أنْ تَجْمَعَهُمْ هذهِ الأسماءُ " .
بلْ لقدْ أَخَذَ هذا الزمانُ نَصيبَه منْ هذهِ الافتراءاتِ، فأَهْلُ البِدَعِ يُلَقِّبُونَ أهلَ التوحيدِ والسُّنَّةِ بالوَهَّابِيَّةِ وغيرِ ذلكَ مِمَّا هوَ معلومٌ، واللَّهُ الْمُستعانُ .


(جـ) الرَّدُّ على الفَلاسِفَةِ وأتْبَاعِهم في شُبْهَةِ التركيبِ:
قولُه: ( وإن قالَ نُفَاةُ الصِّفَاتِ: إثباتُ العلْمِ والقُدْرَةِ والإرادةِ مُسْتَلْزِمٌ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ, وهذا تركيبٌ مُمْتَنِعٌ .
قِيلَ: وإذا قُلْتُمْ: هو موجودٌ واجبٌ وعَقْلٌ وعاقِلٌ ومعقولٌ، أَفَلَيْسَ المفهومُ من هذا هو المفهومَ من هذا؟ فهذه معانٍ مُتَعَدِّدةٌ متَغَايِرَةٌ في العقْلِ, وهذا تَرْكِيبٌ عندَكم، وأنتم تُثْبِتُونَه, وتُسَمُّونَه تَوْحِيدًا .
فإن قالوا: هذا توحيدٌ في الحقيقةِ، وليس هذا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا .
قِيلَ لهم: واتِّصَافُ الذاتِ بالصِّفَاتِ اللازِمةِ لها توحيدٌ في الحقيقةِ، وليس هذا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا ) .

التوضيحُ

أَوَّلاً:- من شُبَهِ الفَلاسِفَةِ - ومَن تَبِعَهُمْ من المُعْتَزِلةِ وغيرِهم من نُفَاةِ الصِّفَاتِ: أنَّ إثباتَ العلْمِ والقُدْرَةِ والإرادةِ وغيرِها يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ، وهذا تَرْكِيبٌ مُمْتَنِعٌ؛ لأنها صِفاتٌ مُتَغَايِرةٌ, فيَلْزَمُ أن يكونَ الموصوفُ بها مُرَكَّبًا منها، وفي هذا تشبيهٌ بالمخلوقِ, فلذلك فَهُمْ يقولون: إنَّ جميعَ الصِّفَاتِ بمعنًى واحدٍ, وهي عينُ ذاتِه, وليست شيئًا زَائِدًا .

قالَ الغزاليُّ في حكايةِ قولِ الفَلاسِفَةِ: " التَّرْكِيبُ بالصِّفَاتِ بتقديرِ العلْمِ والقُدْرَةِ والإرادةِ فإنَّ هذه الصِّفَاتِ إن كانت واجبةَ الوجودِ كان وُجوبُ الوجودِ مُشْتَرَكًا بينَ الذاتِ وبينَ هذه الصِّفَاتِ، ولَزِمَتْ كَثْرَةٌ في واجبِ الوجودِ وانْتَفَتْ الوَحدةُ " وقالَ التَّفْتَازَانيُّ في حكايةِ قولِ المُعْتَزِلةِ: لو كان موصوفًا بصفاتٍ قائمةٍ بذاتِه لكانت حقيقةُ الإلهيَّةِ مُرَكَّبَةً من تلك الذاتِ والصِّفَاتِ " .

ثانيًا:- الرَّدُّ عليهم من ثلاثةِ وُجوهٍ ذَكَرَ هنا الوجهَ الأوَّلَ وتفصيلُه ما يَلِي:

الوجهُ الأوَّلُ على فَرْضِ التسليمِ ( وهو رَدٌّ على الفَلاسِفَةِ ):
أي: على فَرْضِ التسليمِ بأنه تَرْكِيبٌ فأنتم أيضًا تقولون في اللهِ: هو موجودٌ واجبٌ وعقْلٌ وعاقِلٌ ومعقولٌ وعاشِقٌ ومعشوقٌ ولذيذٌ ومُلْتَذٌّ ولَذَّةٌ، وهذه المعاني مُتَعَدِّدَةٌ مُتَغَايِرةُ المعنى, وأنتم تُثْبِتُونَها، فهو تَرْكِيبٌ كذلك على مَذْهَبِكم وأنتم تُسَمُّونَه تَوحيدًا، وهذا غايةُ الاضْطِرابِ .
وهذه المعاني مع كونِها دَليلاً عليهم لم يَرِدْ بها النصُّ, وفيها ما يَتَنَزَّهُ عنه تعالى من النَّقْصِ .
فالعَقْلُ: مأخوذٌ من الْمَنْعِ؛ لأنه يَضْبِطُ النفسَ لِمَا فيها من الْقُصُورِ، وهذا لا يَلِيقُ باللهِ تعالى .
والعِشْقُ: هو الْحُبُّ الْمُفْرِطُ المتعلِّقُ بالشهْوَةِ وهذا باطِلٌ يَتَنَزَّهُ اللهُ عنه .
واللَّذَّةُ: لم تَرِدْ بها النصوصُ الشرعيَّةُ، فجميعُ هذه المعاني باطِلَةٌ، وإن تَعَسَّفُوا في تفسيرِها .

( اعتراضٌ ): إن قالوا: هذه الإطلاقاتُ توحيدٌ, وليست تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا .

( الجوابُ ): إنَّ اتِّصَافَ الذاتِ بالصِّفَاتِ اللازِمةِ لها توحيدٌ كذلك, وليس بتَرْكِيبٍ مُمْتَنِعٍ, بل هي أَوْلَى لدّلالَةِ النقْلِ عليها ومُوَافَقَةِ العقْلِ لها .

الوجهُ الثاني: على فَرْضِ الْمَنْعِ:
قولُه: ( وذلك أنه من الْمَعلومِ بصريحِ المعقولِ أنه ليس معنى كونِ الشيءِ عالِمًا هو معنى كونِه قَادِرًا، ولا نفْسُ ذاتِه هو نفْسَ كونِه عالِمًا قادرًا، فمَن جَوَّزَ أن تكونَ هذه الصِّفَةُ الأُخرى وأن تكونَ الصِّفَةُ هي الموصوفَ فهو من أَعْظَمِ الناسِ سَفْسَطَةً، ثم إنه مُتناقِضٌ فإنه إن جَوَّزَ ذلك جازَ أن يكونَ وجودُ هذا هو وجودَ هذا, فيكونُ الوُجودُ واحدًا بالعينِ لا بالنوعِ، وحينئذٍ فإذا كان وجودُ الْمُمْكِنِ هو وجودَ الواجِبِ كان وجودُ كلِّ مخلوقٍ - يُعْدَمُ بعدَ وجودِه ويُوجَدُ بعدَ عَدَمِه – هو نفسَ وجودِ الحَقِّ القديمِ الدائمِ الباقي الذي لا يَقْبَلُ العَدَمَ . وإذا قُدِّرَ هذا كان الوجودُ الواجبُ مَوصوفًا بكلِّ تشبيهٍ وتَجسيمٍ وكلِّ نقْصٍ وكلِّ عَيْبٍ كما يُصَرِّحُ بذلك أهلُ وَحْدَةِ الوجودِ الذين طَرَدُوا هذا الأصْلَ الفاسِدَ، وحينئذٍ فتكونُ أقوالُ نُفَاةِ الصِّفَاتِ باطِلَةً على كلِّ تقديرٍ ) .

التوضيحُ

هذا الجوابُ مَبْنِيٌّ على مَنْعِ قولِهم: إنَّ جميعَ الصِّفَاتِ بمعنًى واحدٍ، وأنها هي عينُ ذاتِه لا شيئًا زائدًا، ويكونُ الْمَنْعُ بالإبطالِ من ثلاثةِ وجوهٍ:
أنه من المعلومِ بصريحِ العَقْلِ الاختلافُ بينَ كونِ الشيءِ عالِمًا وبينَ كونِه قادرًا، وبينَ نفسِ الذاتِ ومعاني الصِّفَاتِ، فإنَّ كونَ الموصوفِ عالِمًا قادرًا زائدًا على مُجَرَّدِ الذاتِ. فمَن جَوَّزَ أن تكونَ هذه الصِّفَةُ هي الأخرى أو هذه الصِّفَةُ هي الموصوفَ فهو من أَعْظَمِ الناسِ سَفْسَطَةً وتَمْوِيهًا ومُكَابَرَةً لصريحِ المعقولِ وصحيحِ المنقولِ .

ثم في قولِهم هذا تَناقُضٌ واضحٌ ووَجْهُهُ: أنه إن لم يكنْ للواجِبِ, وهو اللهُ تعالى, صِفاتٌ تُمَيِّزُه عن غيرِه لم يكن واجبًا؛ لأنَّ الشيءَ الْمُجَرَّدَ عن جميعِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعُ الوجودِ فلا يكونُ واجبًا ضرورةً، وهؤلاءِ إنما نَفَوا التَّرْكِيبَ؛ لأنه يَسْتَلْزِمُ عندَهم نَفْيَ الوجوبِ فوَقَعُوا- بنَفْيِ التَّرْكِيبِ- في نَفْيِ الوجوبِ الذي فَرُّوا منه فوَقَعُوا في التناقُضِ الواضِحِ الفاضِحِ .

ثم إن جَوَّزْنَا أن تكونَ الصِّفَةُ هي عينَ الذاتِ جازَ أن يكونَ وُجودُ هذا هو وجودَ هذا؛ لأنَّ صِبْغَةَ الخلْقِ والإحداثِ تُصْبِحُ هي عينَ الخالِقِ فيكونُ المخلوقُ هو الخالِقَ، وهذا يَقْتَضِي أنَّ الوجودَ واحدٌ بالعينِ، أي: مُتَّحِدٌ بينَ الخالقِ ومخلوقاتِه, وليس مُشْتَمِلاً على أفرادٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وهذا مَدْخَلُ أهلِ وَحْدَةِ الوجودِ, وهم الذين لا يُثْبِتُون وُجودًا مُتَنَوِّعًا, بل عندَهم وجودٌ واحدٌ, والخالِقُ هو المخلوقُ, تعالى اللهُ عن قولِهم .
وعليه يكونُ وجودُ الْمُمْكِنِ المخلوقِ هو عينَ وجودِ الواجِبِ الذي لا يَقْبَلُ العَدَمَ، وهذا القولُ هو الذي يُفْضِي إليه زَعْمُهُمْ بأنَّ الصِّفَاتِ عينُ الذاتِ, واللهُ أعْلَمُ .

الوجهُ الثالثُ:- الاستفصالُ:
وهذا جوابٌ لم يَأْتِ به شيخُ الإسلامِ في هذه الرسالةِ مع أنه كَرَّرَه في مواضِعَ من كُتُبِه، وكان يَنْبَغِي أن يكونَ من أوَّلِ أوْجُهِ الرَّدِّ، وإنما أَخّضرْتُه لعَدَمِ وجودِه في الرسالةِ، وخُلاصَةُ هذا الوجهِ الاسْتِفْصَالُ .

فإنَّ لفْظَ التَرْكِيبِ أَصْبَحَ من الألفاظِ المجمَلَةِ التي عارَضَ به الْمُبْتَدِعَةُ النصوصَ، وقد بَيَّنَ شيخُ الإسلامِ حُكْمَ الألفاظِ المُجْمَلةِ بقولِه: " والمقصودُ هنا أنَّ الأئمَّةَ الكِبارَ كانوا يَمْنَعُونَ من إطلاقِ الألفاظِ المُبْتَدَعَةِ المُجْمَلةِ لِمَا فيها من لَبْسِ الحقِّ بالباطِلِ مع ما تُوقِعُهُ في الاشتباهِ والاختلافِ والفِتنةِ .
وقالَ: " فمَن لم يَسْتَفْصِلْ عنها الْمُتَكَلِّمَ بها .. كما كان السلَفُ والأَئِمَّةُ يَفْعَلُون صارَ متَناقِضًا أو مُبْتَدِعًا من حيث لا يَشْعُرُ " وسيأتي تفصيلُ ذلك في القاعدةِ الثانيةِ بإذنِ اللهِ .

فيُقالُ في التَرْكِيبِ إنَّ له معانِيَ منها:-
المُرَكَّبُ: ما كان مُتَفَرِّقًا فرَكَّبَه غيرُه، وهذا لا يَجُوزُ وَصْفُ اللهِ به، بل ولم يَعْتَقِدْهُ أحَدٌ من طوائفِ الأمَّةِ .
المُرَكَّبُ: ما له أَبْعَاضٌ مختلِفةٌ، ويَقْبَلُ التفريقَ والانفصالَ, واللهُ تعالى مُقَدَّسٌ عن ذلك .
المُرَكَّبُ: ما يَقْبَلُ الانقسامَ والتفريقَ وإن كان بَسِيطًا غيرَ مُرَكَّبٍ من أعضاءٍ كالماءِ، واللهُ مُنَزَّهٌ عنه أيضًا .

فهذه المَعَاني لا نَخْتَلِفُ في نفيِها مع الْمُتَفَلْسِفَةِ والمُعْتَزِلةِ، ولكنَّهم لا يَعْنُونَ بنفيِهم للتَرْكِيبِ ما سَبَقَ، بل لكلٍّ منهم اصطلاحاتٌ خَاصَّةٌ في لفظِ التَّرْكِيبِ أَوْجَبُوا نَفْيَها, وزَعَمُوا أنَّ التوحيدَ لا يَتِمُّ إلا بنفيِها، قالَ شيخُ الإسلامِ: " وهؤلاءِ أَحْدَثُوا اصطلاحًا لهم في لفظِ التَرْكِيبِ لم يَسْبِقْهُم إليه أحَدٌ من أهْلِ اللغةِ ولا من طوائفِ أهْلِ العلْمِ, ومنها:
أنَّ التَرْكِيبَ هو ما تَرَكَّبَ من الذاتِ والصِّفَاتِ كَمُسَمَّى الحيِّ والعالِمِ والقادِرِ، وهذا إن سَلَّمْنَا أنه تَرْكِيبٌ فنَفْيُه باطِلٌ كما سَبَقَ في الوجْهِ الثاني .

نتيجةُ الأصْلِ الأوَّلِ: وهو أنَّ القولَ في بعضِ الصِّفَاتِ كالقولِ في بعضٍ .
قولُه: ( وهذا بابٌ مُطَّرِدٌ؛ فإنَّ كلَّ واحدٍ من النُّفَاةِ لِمَا أَخْبَرَ به الرسولُ من الصِّفَاتِ لا يَنْفِي شيئًا فِرارًا مِمَّا هو مَحذورٌ إلا وقد أَثْبَتَ ما يَلْزَمُه فيه نظيرُ ما فَرَّ منه، فلا بُدَّ في آخِرِ الأمْرِ من أنْ يُثْبِتَ موجودًا واجِبًا قديمًا، مُتَّصِفًا بصفاتٍ تُمَيِّزُه عن غيرِه, ولا يكونُ فيها مُمَاثِلاً لِخَلْقِهِ .

فيُقالُ له: هكذا القولُ في جميعِ الصِّفَاتِ، وكلُّ ما تُثْبِتُه من الأسماءِ والصِّفَاتِ فلا بُدَّ أن يَدُلَّ على قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ تَتَوَاطَأُ فيه المُسَمَّياتُ، ولولا ذلك لَمَا فُهِمَ الْخِطَابُ، ولكنَّا نَعْلَمُ أنَّ ما اخْتَصَّ اللهُ به وامتازَ عن خَلْقِه أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ بالبالِ أو يَدورُ في الخيالِ ) .





التوضيحُ

كلُّ مَن نَفَى الصِّفَاتِ الواردةَ في الوحيِ فِرارًا من مَحذورٍ فإنه يَلْزَمُه نظيرُ ما فَرَّ منه, فلا بُدَّ في آخِرِ الأمْرِ أن يُثْبِتَ موجودًا واجبًا بنفسِه مُتَّصِفًا بصفاتٍ تُمَيِّزُه عن غيرِه، وإلا فكيف يَحْصُلُ التمييزُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، والخالقِ والمعدومِ، وهذه الصِّفَاتُ لا تكونُ مماثِلَةً لِخَلْقِه, فيَجِبُ طَرْدُ هذا البابِ في جميع الأسماءِ والصِّفَاتِ، ولا بُدَّ أن تَتَّفِقَ هذه الأسماءُ والصِّفَاتُ في قَدْرٍ مشترَكٍ, وهو المعنى الْكُلِّيُّ الذي تَتَوَاطَأُ فيه المُسَمَّياتُ، ولْيُعْلَمْ أنَّ فائدةَ هذا القَدْرِ الْمُشْتَرَكِ هي فَهْمُ الْخِطَابِ.

ولكن مع هذا الاتِّفاق في اللفظِ و المعنى العامِّ فإننا نَقْطَعُ بأنَّ ما اخْتَصَّ به الخالِقُ جَلَّ وَعَلاَ أعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ بالبالِ أو يَدورُ في الخيالِ، كما سيأتي في مِثالِ الْجَنَّةِ .
وهذا الذي قِيلَ لازِمٌ لجميعِ الطوائفِ لو تَفَكَّرُوا فيه بالعقولِ وتَدَبَّرُوا ما وَرَدَ فيه من المنقولِ .
ويَزِيدُه اتِّضَاحًا ما سَيُقَرِّرُه شيخُ الإسلامِ في الأصْلِ الثاني .


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
القول, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:58 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir